رواية رحلة الآثام فردوس وعوض من الفصل الاول للاخير بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام فردوس وعوض من الفصل الاول للاخير بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام فردوس وعوض من الفصل الاول للاخير هى رواية من كتابة منال سالم رواية رحلة الآثام فردوس وعوض من الفصل الاول للاخير صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية رحلة الآثام فردوس وعوض من الفصل الاول للاخير حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية رحلة الآثام فردوس وعوض من الفصل الاول للاخير
رواية رحلة الآثام فردوس وعوض بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام فردوس وعوض من الفصل الاول للاخير

(نقطة البداية)
زفرت بتأففٍ وأصوات الهمهمات المتداخلة تحاصرها من كل جانب، فحال ذلك دون حصولها على القدر الكافي من التركيز لإتمام عملها العالق. شملت من حولها بنظرة منزعجة، قبل أن تزفر من جديد واليأس مستبد بها. لم يكن هناك أدنى بد من محاولة الاندماج مع ما يحيط بها، لذا سدت "نهاد" أذنها اليسرى بيدها، وواصلت تبديل الشرائح الصغيرة بعد تدوين ملحوظاتٍ صغيرة مقتضبة.
مضت عليها بضعة دقائق وهي على نفس الحال، قبل أن ترفع نظراتها المدققة عن الميكروسكوب الموضوع على المنضدة المعدنية أمامها، بمجرد أن سمعت وقع أقدامٍ تقترب منها، عندئذ نهضت واقفة من على كرسيها الخشبي، وتحركت من موضعها تجاه رفيقتها التي قد عادت لتوها من الخارج. رمقتها بنظرة ضيقة تعكس انزعاجها قبل أن تستطرد معاتبة:
-كل ده يا "تهاني"؟ إنتي اتأخرتي جدًا.
تأملت البلاط الأبيض الباهت المغلف لجدران المعمل، وما يعلوه من سقفٍ تشقق معظم طلائه باشمئزازٍ، ثم أخبرتها:
-ما الدنيا زحمة، والإجراءات صعبة، يدوب عقبال ما خلصت.
جذبتها من ذراعها نحو منضدة عملها، وسألتها بصوتٍ خافت نسبيًا:
-برضوه مصممة على اللي في دماغك؟
لم تبدُ "تهاني" مكترثة بمن حولها وهي تؤكد عليها:
-أه طبعًا، المستقبل عمره ما هيكون هنا، بين الأربع حيطان دول.
ظلت "نهاد" على حيطتها وهي تسألها باستنكارٍ محسوسٍ في نبرتها:
-ليه بتقولي كده؟ بالعكس مع الوقت هيتحسن الوضع، وفرصتك آ...
قاطعتها قبل أن تتم جملتها هاتفة في تحفزٍ:
-فرصتي هتضيع مني لو معملتش كده.
تقلصت المسافة ما بين حاجبي رفيقتها وهي تسألها مستفهمة:
-وإنتي تضمني منين إنك تنجحي برا؟
غامت ملامح وجه "تهاني" بشكلٍ ملحوظ، وانعكس الضيق على نظراتها إليها، حاولت صديقتها تلطيف ما نطق به لسانها بترديدها:
-أنا مش قصدي أزعلك، بس احنا فاهمين كويس اللي هيحصل، إنتي بطلوع الروح اسمك اتحط وسط اللي رايحين البعثة.
رفعت "تهاني" يدها لتسوي ما نفر من مقدمة شعرها المعقود كذيل حصانٍ، وعلقت في استياءٍ ظاهر على صوتها:
-أيوه، بس في الآخر عرفت أجيب حقي.
استغلت "نهاد" تلك النقطة لتوضح لها بمنطقيةٍ:
-تفتكري هما هيسبوكي لما تنفذي اللي في دماغك؟
قبل أن تفكر في الرد أجابت عنها:
-ماظنش يا "تهاني".
احتفظت الأخيرة بصمتها، بينما رفيقتها ما تزال تخبرها بجديةٍ:
-أنا من رأيي تعيدي التفكير تاني، إنتي مش ناقصة مشاكل ولا وجع قلب.
ردت عليها بعنادٍ:
-مش هايقدروا يعملولي حاجة.
خفضت "نهاد" من نبرتها عندما تحدثت:
-أنا وإنتي فاهمين كويس إنك واخدة البعثة حجة عشان تهربي برا البلد، وتشوفي مستقبلك، بس صعب تعملي ده لوحدك في بلد غريبة مالكيش فيها لا ضهر ولا سند، هتتعاملي هناك إزاي؟
أخبرتها عن ثقة عجيبة:
-ماتستقليش بيا، أنا قادرة أصرف أموري.
لم تستطع إثنائها عن رأيها، فلجأت لوسيلة أخرى، ربما تجدي نفعًا معها، حانت منها التفافة سريعة للخلف برأسها، سلطت فيها ناظريها على أحدهم، ثم عاودت التحديق في وجه رفيقتها، وأخبرتها بنبرة ذات مغزى:
-طب ودكتور "أمين"؟
تلقائيًا تحولت أنظار "تهاني" نحو ذلك الشاب الجالس بالخلف، والمشغول بإجراء بعض التجارب، ابتسم في عفوية بمجرد أن رأى نظراتها متجهة إليه؛ لكنها لم تبادله سوى الوجوم والتجهم، بتكاسلٍ وتأفف تساءلت وهي تشيح بوجهها بعيدًا:
-ماله؟
برزت ابتسامتها الماكرة على شفتيها وهي توضح لها بغموضٍ قليل:
-إنتي فاهمة كويس، هو عينه عليكي من زمان، ونفسه تديله فرصة.
نقرت بأصابعها على سطح المنضدة، قبل أن تسألها بملامح اكتسبت جدية صريحة:
-وبعدين؟
جاء ردها مباشرًا:
-أكيد هيطلب إيدك، وتتجوزوا.
سحبت "تهاني" نفسًا عميقًا، ثم لفظته على مهلٍ، وتكلمت في صوتٍ جاد رغم هدوئه:
-بصي يا "نهاد" خلينا نتكلم بالعقل، مرتبي على مرتبه عمرهم ما هيخلونا نعيش عيشة مرتاحة.
اندهشت من عقلانيتها الزائدة عن الحد، وعقبت:
-بس هو بيحبك، وبيقدرك.
أتى تعليقها صادمًا لها:
-ويعمل إيه الحب وسط الفقر؟!!
افترت شفتاها عن دهشة مستهجنة، فما كان من "تهاني" إلا أن أوضحت لها بمرارة استشعرتها في صوتها شبه المختنق:
-إنتي ماتعرفيش أنا عايشة إزاي، وحاربت أد إيه عشان أوصل للمكانة دي، وسط ناس جهلة، مش همهم إلا إن الواحدة يداس عليها، وتبقى مالهاش قيمة...
بالكاد حاولت الحفاظ على ثبات صوتها وهي تكمل:
-ومش مستعدية أقضي اللي جاي من عمري وأنا بعافر.
نكست رأسها في أسفٍ، وردت:
-مش عارفة أقولك إيه؟
بقليلٍ من الكبرياء الجريح خاطبتها وهي ترمش بعينيها بسرعةٍ لتطرد ما علق من دموع في أهدابها:
-أدعيلي أخلص أوام وأسافر.
................................................
كومة أخرى من الثياب الجافة انضمت لسابقتها على الطاولة المستديرة، قبل أن تنحني لتفرد السجادة المثنية بعد انتهائها من تجفيف الأرضية بالمبتلة بخرقةٍ قديمة. استقامت "فردوس" واقفة وهي تمسح بظهر كفها العرق المُتَصبب على جبينها، أحست بالإنهاك يتفشى في أطرافها، فمنذ أن طلع النهار وهي تعمل بكد واجتهاد لتنظيف المنزل وإعداده لاستقبال الضيوف القادمين مع غروب الشمس. كم رجت لو تكبدت هذا العناء لأجل نفسها! حينها فقط لم تكن لتشعر سوى بالسعادة والفرحة العارمة؛ لكن يبدو أن الحظ قد خاصمها ليتركها تعاني من تعليم محدود، وجمال منقوص. استفاقت من شرودها اللحظي لتستدير ناظرة إلى والدتها عندما سألتها وهي تعقد طرفي منديل رأسها:
-أختك جت يا "دوسة"؟
لفظت دفعة من الهواء من رئتيها قبل أن تجاوبها:
-لسه يامه.
سألتها مرة ثانية وهي تدنو منها:
-طيب وضبتي الصالة، وغيرتي كِسوة الكنب؟
هزت رأسها عندما أجابتها موضحة ما أنجزته:
-أه يامه، ومسحت البَسطة، وخليتها زي الفل.
استحسنت "عقيلة" ما بذلته ابنتها من جهدٍ فأثنت عليها بابتسامةٍ راضية:
-تسلمي يا ضنايا...
ثم ربتت على كتفها قائلة:
-نتعبلك نهار فرحتنا بيكي.
هتفت من فورها في رجاءٍ كبير:
-يا رب أمين...
ما لبث أن غلف صوتها لمحة من التشاؤم وهي تختتم جملتها:
-ولو إنه مش باين.
أكدت عليها أمها مبتسمة:
-يا بت ماتستعجليش، بكرة نصيبك يدق الباب عليكي.
ردت بلا اقتناعٍ:
-إن شاء الله.
تأملت "عقيلة" بعينيها الزرقاوين نظرات الحزن التي ملأت حدقتيها، فابنتها كانت قليلة الحظ فيما يخص شئون الخطبة والزواج، على عكس شقيقتها التي لا يكف الجميع عن طلب التقدم إليها. فالأولى كانت تملك من مفاتيح الجمال مقدرًا محدودًا، وكأن الشقاء قد ترك بصمته على وجهها، والثانية دلالها وتدللها أعطاها الأفضلية عنها في كل شيء. تجاوزتها لتقوم بطي الثياب المتكومة وهي تأمرها:
-ماتنسيش تطلعي طقم الشربات الجديد وتغسليه كويس.
ردت عليها "فردوس" وهي تحمل دلو الماء والخرقة:
-مش ناسية.
امتلأت نفسها بقدرٍ من الكمدِ وهي تسير عائدة للداخل، آملة أن يأتي اليوم الذي تشهد فيه ابتهاجها بقدوم أحدهم خصيصًا لأجلها.
...............................................
احتشد الحضور في هذه القاعة الفسيحة، كل مجموعة مُلتفة حول مائدة بعينها، وغالبية نظراتهم المهتمة ترتكز على الضيف الذي يطرح أهم نقاط محاضرته الطبية. في مؤخرة القاعة، وبعيدًا عن الصخب والضوضاء، جلس منفردًا يفرغ الماء البارد في كأسه، ابتسم في إعجابٍ وقد التقطت نظراته رفيقه وهو يسير متفاخرًا متباهيًا، يصافح البعض، ويلوح بيده للبعض الآخر، متجاهلًا المحاضر الذي يكد للفت الأنظار والحوز على كامل الانتباه، بدا وكأنه امتلك زمام السلطة هنا، ولما لا؟ فهو من أكثر الحاضرين نفوذًا وقوة.
توقف "ممدوح" عن مطالعته حينما انضم إليه جالسًا بجواره، اعتلى زاوية فمه ابتسامة صغيرة وهو يستطرد:
-أنا متخيلتش إنك هتحضر المؤتمر النهاردة بعد سهراية إمبارح.
ضحك "مهاب" عاليًا قبل أن يتكلم من بين ضحكاته الرنانة:
-وأفوت التكريم؟ تعرف عني كده؟
انتظر حينًا إلى أن خَبت ضحكته، وأخبره بشيءٍ من الحقد:
-لأ طبعًا، "مهاب الجندي" دايمًا موجود تحت الأضواء.
بزهوٍ يليق به قال:
-بالظبط.
شكَّل "ممدوح" بإصبعه دوائرًا متتالية على سطح الطاولة وهو يضيف:
-طول عمرك محظوظ، سواء في العلم أو في الحب.
رمقه "مهاب" بهذه النظرة المتفاخرة قبل أن يعلق بثقة:
-الطب مافيهوش حظ، في إنك نابغة، وفاهم بتعمل إيه أو لأ.
هز رأسه متفهمًا، ليرد بعدها مبتسمًا ابتسامة باردة:
-مظبوط، ونابغة مع عيلة ليها وزنها يعملوا أسطورة.
مط فمه في إعجاب، وأخبره بانتشاءٍ:
-برافو .. وصف يليق بيا.
تجاوز عن لمحة الغرور الظاهرة في صوته، وأراح ظهره للخلف سائلًا:
-قولي مسافر إمتى؟
أجاب رفيقه بعد أن فرقع بإصبعيه ليستدعي أحد الندلاء:
-طيارتي بالليل.
أومأ "ممدوح" برأسه مرددًا:
-كويس.
أعطى "مهاب" للنادل أوامره، ثم وجه سؤاله للجالس بجواره:
-هتحصلني؟
مط فمه دون أن ينطق بشيء، فتساءل:
سأله بإلحاحٍ طفيف:
-لسه بتفكر ولا إيه؟ احنا خلاص اتكلمنا في الموضوع ده.
علق مُبديًا أسبابه:
-إنت عارف الظروف عندي ماتسمحش بتكاليف وأعباء جديد، يدوب أرجع القاهرة وأركز هناك.
مد "مهاب" يده ليربت على جانب ذراعه، وأكد له بلمحةٍ من الغرور:
-ماتقلقش طول ما أنا موجود.
ما كان من رفيقه إلا أن ابتسم بفتورٍ، فشدد مرة ثانية عليه:
-بتكلم بجد يا "ممدوح"، أنا عاوزك معايا...
تطلع إليه بحاجبين معقودين، فتابع "مهاب" كلامه إليه واضعًا هذه البسمة الواثقة على محياه:
-وهظبطك في منصب محترم ينقلك في حتة تانية خالص.
فكر "ممدوح" مليًا فيما قاله، وعلق ساخرًا:
-طبعًا واسطة عيلة الجندي تفتح أي باب مقفول سواء برا أو جوا.
ضحك "مهاب" على ما اعتبرها طرفة، وقال:
-ما هي دي المصالح العُليا.
..............................................
بالنسبة لها مر الوقت بطيئًا محملًا بالمشاق والتعب، فما إن تنتهي من إنجاز شيء حتى تنتقل لآخر، وهي بالكاد تحاول البحث عن قليل من الراحة وسط كم المهام التي ألقيت فوق كتفيها. ارتمت "فردوس" على الأريكة الملاصقة لفراشها وهي تدعك بكفيها ركبتيها المتألمتين، تأملت الشقوق التي انتشرت بباطن كفيها وهي تفكر في وضع قدرًا من مادة (الفازلين) الطبية لتحصل على ملمس ناعم يغطي على خشونة جلدها، حولت نظرها نحو والدتها التي تساءلت في صوتٍ شبه قلق، وعيناها تنظران بإمعان للطريق من نافذة الشباك المواربة:
-هي الساعة يجيلها كام دلوقتي؟
اتجهت "فردوس" ببصرها نحو ساعة الحائط، وقالت بعد لحظةٍ من الصمت:
-داخلة على تلاتة.
ابتعدت "عقيلة" عن النافذة، وضربت كفها بالآخر قبل أن تضعهما أعلى صدرها لتردد في انزعاجٍ:
-كده أختك اتأخرت، أنا قولتلها ماتروحش الشغل النهاردة، بردك هي ركبت دماغها ونزلت، والجماعة قالوا هايجوا بعد المغرب.
راحت "فردوس" تدلك كفها بيدها وهي تخبرها:
-ما إنتي عارفها يامه، اللي بتصمم عليه بتعمله.
زمت شفتيها مغمغمة في يأسٍ:
-طول عمرها عنادية.
سمعت كلتاهما صوت المفتاح وهو يدور في قفل الباب، أعقبه بلحظاتٍ غلقه، لتردد بعدها "فردوس" في حماسٍ وهي تنهض من موضع جلوسها:
-الحمدلله أهي جت.
سرعان ما انتقلت نحو الخارج لتخاطب شقيقتها في تلهفٍ:
-يالا يا "تهاني"، روحي غيري هدومك أوام كده واتوضبي.
بعد زفيرٍ مهموم عقبت في نوعٍ من العتاب:
-مافيش سلام عليكم الأول.
ردت عليها بنفس اللهجة المتوهجة حماسًا:
-وعليكم السلام، مافيش وقت، عاوزين نلحق.
رمقتها بنظرة حادة قبل أن تقول ببرودٍ غريب:
-الدنيا مش هتطير.
اندهشت "فردوس" من حالة الجفاء المسيطرة عليها، وهتفت تخبرها:
-إنتي مش واخدة بالك إنك جاية متأخر، ويدوب عقبال ما تجهزي وآ...
قاطعها قائلة بما صدمها:
-وأنا مش عاوزة أقابل حد.
شهقت مرددة بعينين ذاهلتين:
-إيه الكلام ده؟
أجابتها مؤكدة بثباتٍ عجيب:
-زي ما سمعتي، أنا أصلًا مش موافقة على الخطوبة دي.
خرجت والدتها لتلقاها عند عتبة الغرفة، وهتفت في استهجانٍ أشد، ويدها تلطم على صدرها:
-يادي الكسوف! بعد ما إدينا للناس كلمة؟!!
بأسلوبٍ يشوبه العنجهية تكلمت:
-إنتي اللي اتفقتي معاهم مش أنا يامه...
ثم التوى ثغرها بنوعٍ من التهكم وهي تتابع:
-وبعدين ده "شفيق" النقاش، مش حد من الأكابر يعني.
صاحت بها "عقيلة" بصوتٍ حانق، ووجهها قد اشتعل غضبًا:
-نقاش، ميكانيكي، إنتي عاوزة تصغري أمك قصادهم؟
بنفس الطريقة المتعجرفة ردت:
-أنا من الأول قولت مش موافقة، ومحدش راضي يسمعني.
اغتاظت والدتها من برودها المستفز، فتقدمت ناحيتها لتلكزها في كتفها وهي تنهرها:
-ما تعيشي عيشة أهلك، وكفاية أنعرة كدابة!
تأوهت "تهاني" من الألم، ونظرت إلى أمها بضيقٍ قبل أن تهدر منفعلة:
-هو إيه الحلو في إني أتجوز "شفيق" النقاش؟
ظلت ملامح والدتها تسود، وهي تزيد من هجومها المشبع بعبارات الإهانة:
-إنتي مش شايفة بنتك دكتورة تحاليل أد الدنيا، يعني أقل حد أخده لازم يكون نفس مستوايا التعليمي، مش واحد جاهل، ريحته جاز وتِنر.
أتى رد "فردوس" ساذجًا إلى حدٍ ما:
-ما هو بيستحمى.
اشتاطت شقيقتها من سطحية تفكيرها، وردت بصلابةٍ:
-الله يكرمك بلاش إنتي تتكلمي.
خاطبتها في دهشةٍ:
-هو أنا قولت حاجة غلط؟ ما هو راجل ملو هدومه، وكل بنات الحتة تتمناه.
لم تعلق "عقيلة" بشيء على حوارهما، فواصلت "تهاني" الصياح الحاد ملوحة بذراعها في الهواء:
-إنتو عاوزيني أقضي اللي جاي من حياتي أكح تراب؟!!!
أمسكت بها والدتها من ذراعها تضغط عليه بقبضتها وهي تسألها في نبرة لائمة:
-أختك معاها حق، ماله "شفيق" النقاش؟ مش بيشتغل وبيكسب بالحلال؟
نفضت يدها عنها وهي تجيبها:
-أيوه، بس مش من مقامي ولا ينفعني من الأساس، أنا مش زي "فردوس".
قالت جملتها الأخيرة ونظراتها مسلطة على شقيقتها التي غرق وجهها في الحزن، ابتلعت غصة مريرة في حلقها، وسألتها بعتابٍ:
-قصدك إني قليلة يا "تهاني"؟ إكمني مكملتش تعليم وماليش في العلام زيك، ومخي على أده.
وكأنها لم توجه إليها إهانة متعمدة، تجاوزت عنها "تهاني" وتكلمت بنبرة معاندة للغاية:
-كل واحد عارف مصلحته إزاي، وأنا مش هضيع مستقبلي عشان نقاش متخلف!!
إساءة تلو أخرى جعلت صدور الجميع تحتقن وتفيض ضيقًا، مرة أخرى أمسكت "عقيلة" برسغ ابنتها جذبتها منه بقسوةٍ، وأخبرتها بلهجة حازمة:
-بصي يا بت بطني، إنتي مش هاتيجي على آخر الزمن وتطلعيني قليلة قصاد الناس، إنتي هتقابليهم والجزمة فوق رقبتك، سامعة؟
شعرت بيدها تعتصرها بقوةٍ، فضمت شفتيها مانعة نفسها من الصراخ آلمًا، ووالدتها لا تزال تشدد عليها بتهديدٍ صريح:
-وإن كنتي فاكرة إنك كبرتي على التربية تبقي غلطانة! أنا لسه بصحتي وأقدر أعدل المعوج فيكي يا "تهاني".
ثم دفعتها للأمام هاتفة في حدةٍ:
-ويالا انجزي في يومك ده.
تجمدت "تهاني" في مكانها، تناظر أمها بعينين مشتعلتين، وبشرتها كذلك تشع وهجًا غاضبًا، أسرعت إليها "فردوس" لتضمها من كتفيها، وسحبتها نحو الداخل وهي تحاول تهوين ما لاقته من تعنيفٍ مختلط بالإهانة:
-تعالي ياختي متزعليش.
...........................................
كالقطار الجامح الخارج عن قضبانه، اندفعت "تهاني" نحو غرفتها، ثم نزعت بلوزتها عنها، وكورتها في عصبية، لتقوم بإلقائها أرضًا وهي تبرطم بعبارات ساخطة ناقمة تعبر عن حنقها. تبعتها "فردوس" وانحنت تلم ما بعثرته من ثياب، ثم وضعتهم على الأريكة لتعاود التحديق في وجه شقيقتها وهي تستطرد سائلة إياها بانفعالٍ:
-شايفة اللي أمك بتعمله معايا؟
زمت "فردوس" شفتيها، وغمغمت في يأسٍ:
-يا ريت كان عندي نص حظك، ولا حتى يتقدملي أي حد، كنت هوافق على طول.
انتشلت "تهاني" قميصها المنزلي من على المشجب لترتديه، وردت عليها بغطرسةٍ:
-ده الفرق اللي بيني وبينك، إنتي باصة دايمًا تحت رجلك، وملهوفة على أي حد والسلام، إن شاء الله يكون جربوع!!
بالكاد ابتلعت غصة مريرة اجتاحت حلقها، وردت بكبرياءٍ جريح:
-مش أحسن ما أبص لفوق ويطلع في الآخر نقبي على شونة.
التوى ثغرها ببسمة تهكمية، وأضافت وهي تمشط شعرها في عجالةٍ:
-هيفضل تفكيرك على أده يا "فردوس"، عمرك ما هتفهميني.
اتجهت شقيقتها نحو الدولاب، فتحت ضلفته، وتأملت المحدود من الأثواب المعلقة فيه، انتقت اثنين كانا إلى حدٍ ما مقبولان الشكل، ثم سألتها في اهتمامٍ مناقض لما افترض أن تشعر به من ضيق:
-ها مقولتيش، هتلبسي أنهو فستان؟
نظرت لها "تهاني" في ذهول مستنكر، فارغة لفاهها قليلًا قبل أن تجيبها بغير مبالاة:
-مش فارقة، طالما هو مرفوض من الأساس!
..................................................
في الموعد المتفق عليه، بعد آذان المغرب بوقتٍ قصير، كان الضيوف يحتلون الأرائك في الصالة المتواضعة بالمنزل، وأمامهم أكواب الشربات، وأطباق الحلوى منزلية الصنع. بدت "عقيلة" في أوج ابتهاجها وهي تطرح طرف حجابها الأبيض الجديد على كتفها، التفتت ناظرة إلى والدة العريس بنظرات مشرقة متفائلة، رسمت هذه الابتسامة المسرورة على محياها، واستطردت متكلمة:
-والله البيت نور بوجودكم فيه النهاردة.
بادر "شفيق" بالرد مبتسمًا ابتسامة عريضة:
-تسلمي يا ست الناس، ده احنا اللي زدنا شرفنا بقعدتنا معاكو.
دعت له في لطافةٍ:
-كلك ذوقك يا ابني.
تساءلت والدته في نوعٍ من الحيرة:
-أومال فين أبلة الدكتورة؟
أطلقت "عقيلة" ضحكة صغيرة، قبل أن تتبعها موضحة:
-بتحط أحمر وأخضر، ما إنتو عارفين، البنات تحب تبقى على سِنجة عشرة.
شاركها الضحك، وعلق في انتشاءٍ مختلط بالحماس:
-هي تستاهل تتدلع.
ردت عليه "عقيلة" برضا معكوس على ملامحها:
-يخليك يا ابني، ابن أصول طول عمرك، ولسانك زي الشهد.
تأهب في جلسته، وأكمل بنفس النهج المتحمس:
-وأنا مش هحوش عنها حاجة، كافة طلباتها مُجابة إن شاء الله.
استحسنت ما يبديه من جدية لإثبات حُسن نواياه، فعقبت:
-أد القول يا "شفيق"، عن إذنكم بس لحظة، إنتو مش غرب...
ثم استدارت محدقة في ابنتها قائلة بابتسامة شبه متكلفة:
-تعالي يا "دوسة" معايا.
نهضت في التو من موضع جلوسها، وتبعت والدتها مرددة في انصياعٍ واضح:
-حاضر يامه.
تحركت "فردوس" خلفها إلى وقفت بجوار والدتها بعيدًا عن الضيوف قليلًا، فأخبرتها الأخيرة بتعابيرٍ مزعوجة، وقد حل الضيق كذلك على نظراتها:
-استعجلي أختك، مايصحش اللي هي عملاه ده.
هزت رأسها متمتمة وهي تسرع الخطى:
-طيب.
ظلت "عقيلة" باقية في مكانها للحظة، إلى أن اختفت عن أنظارها، فعاودت أدراجها للصالة، وواصلت الحديث الودود مع ضيوفها، ريثما تنضم إليهم ابنتها المتدللة.
......................................
هرولت "فردوس" لداخل الحجرة، لتجد شقيقتها تجلس باسترخاء على السرير، وكأن شأن من بالخارج لا يعنيها كليًا، تأملتها مدهوشة لهنيهةٍ، لتقوم بعدها بالاقتراب منها، وتهتف في إنكار عجيب:
-الناس أعدين برا مستنينك، وإنتي مريحة كده؟!!
رمقتها بنظرة فاترة، باردة، لا تلقي بالًا لصوتها القلق، بقيت على استرخائها الهادئ و"فردوس" لا تزال تصيح بها في توترٍ متصاعد:
-يا "تهاني" أنا بكلمك، بقولك العريس برا هو وأهله...
سألتها بإيماءة من رأسها:
-وإيه يعني؟
أجابت على سؤالها بآخر مغلف بالدهشة:
-مش هتطلعي تقابليهم؟
وسدت ذراعها خلف رأسها المستريحة على الوسادة، وجاوبتها بعد تنهيدة متململة:
-أنا قولتلكم رأيي من بدري، أنا مش موافقة على العك ده.
لطمت "فردوس" على صدرها، وشهقت صائحة:
-أمك هتروح فيها لو ماطلعتيش دلوقتي.
استلقت "تهاني" على جانبها، وقالت بعدم اكتراثٍ مستفز:
-وأنا مش هعمل حاجة غصب عني.
خاطبتها بلين الكلام علها تقتنع وتتخلى عن عنادها الأحمق:
-محدش بيغصبك على حاجة، بس الناس في بيتنا، ودي وحشة في حقنا، هنتفضح.
جاء ردها على نفس القدر من عدم المبالاة:
-مش فارق معايا.
كشحوب الموتى بدا وجه "فردوس" هكذا بعدما أدلت بدلوها في هذه المسألة الحرجة، لذا دون تفكيرٍ انحنت عليها ترجوها بنبرة متوسلة للغاية:
-يا "تهاني" الله يرضى عليكي، اطلعي اقعدي شوية لحد ما يمشوا، وبعد كده يحلها ألف حلال.
ضجرت "تهاني" من إلحاحها السقيم، وصاحت بصبرٍ نافذ وهي ترفع رأسها عن الوسادة:
-أوف، ماشي، بس ماتزعلوش من اللي هيحصل بعد كده!
...........................................
بعد عشر دقائق من التلكؤ والمماطلة، خرجت "تهاني" أخيرًا من الغرفة وهي بالكاد تبتسم، لم تضع في وجهها إلا قدرًا معقولًا من مساحيق التجميل، ولم تترك شعرها منسابًا، بل جمعته كعكة، واكتفت بارتداء أحد أثواب عملها الرسمية. ترفعت في الرد على ضيوف والدتها، ومنحتهم المقتضب من الكلام بعدما جلست مجاورة لعريسها المرتقب، تطالعه بنظراتٍ دونية، غير راضية. ظنت "عقيلة" أن الزيارة ستمضي على ما يرام إلى أن وجهت ابنتها سؤالها لـ "شفيق" بتحفزٍ غامض:
-وإنت جايب الشقة بتاعتك فين بقى؟
تلجلج وهو يخبرها بشكلٍ ملحوظ:
-احنا في الأول هنسكن في أوضة هنا آ...
صدمها بردها الهادم لكل أحلامها المبنية على عيشة الرغد والرفاهية، لهذا قاطعته فجأة بنبرة حادة جعلت الجميع يتوقعون الأسوأ:
-أوضة!!
انتابه المزيد من التوتر، فابتلع ريقه، ولعق شفتيه سريعًا قبل أن يخبرها بصوتٍ ما زال مذبدبًا من رهبته:
-ما أنا ماسك مقاولة في عمارة جديدة، وصاحب العمارة واعدني هاخد شقة لما العمارة تتشطب.
كتفت ساعديها أمام صدرها، ووضعت ساقًا فوق الأخرى وهي تسأله بصيغة تهكمية:
-والمفروض أنا أسكن فين لحد ما تخلصها؟
أخرج "شفيق" منديلًا قماشيًا من جيب بنطاله، جفف به عرقه المتجمع عند جبينه، وأجاب وهو يرفرف بجفنيه:
-ما أنا بقول هناخد حاجة محندقة كده لحد ما ربنا يعدلها.
سددت له "تهاني" هذه النظرة المخيفة، فما كان منه إلا أن اقترح بنزقٍ:
-ولو عاوزة نسكن مع أمي فهي معندهاش مانع...
ثم التفت تجاه والدته يستأذنها:
-مش كده يامه؟
أومأت برأسها وهي تؤكد له:
-وماله، البيت واسع، ويساع من الحبايب ألف.
أتى تعقيب "تهاني" جافيًا قاسيًا، وهي تحدج كليهما بنظرات نارية متعالية:
-أنا ما بسكنش مع حد!!!
سرعان ما تراجع "شفيق" عن اقتراحه، وقال متمسكًا بأمله المعقود عليها في الظفر بها كزوجة مناسبة:
-يبقى نشوف حاجة على أدنا، وده وضع مؤقت زي ما قولت.
انتقلت "تهاني" لسؤالها التالي بوجهٍ مشدود:
-وافرض الوضع ماتعدلش معاك؟ هتتصرف إزاي؟
ألقى نظرة سريعة تجاه والدته، وعاود التطلع إليها وهو يجاوبها:
-الحمدلله أنا راجل كسيب والقرش بيجري في إيدي.
هنا جاء تعليقها متعاليًا، وبه شيء من الإهانة إليه:
-بس إنت شايف إنك مناسب ليا؟
أحس بانتقاص قدره من كلامها الموحي، وسألها مباشرة ليتأكد من ظنونه:
-مش فاهم عدم اللامؤاخذة!
أوضحت له ببساطة:
-يعني أنا دكتورة وشغالة في الجامعة، وإنت...
ثم أعطته هذه النظرة الاحتقارية قبل أن تختتم جملتها:
-نقاش!
عندئذ تكفلت والدته بالرد عليها بعصبية ظاهرة في صوتها:
-الراجل مايعبوش إلا جيبه.
التفتت تنظر إليها بغرورٍ وهي تكلمها:
-ده بمفهوم زمان، لكن دلوقتي الوضع اتغير، في معايير تانية لاختيار الزوج...
ثم حولت ناظريها نحو "شفيق" متابعة:
-وأظنك ماتقدرش توصلها.
هبت والدته واقفة وهي توجه عتابها لصاحبة البيت:
-هو احنا جايين نتهزق هنا؟ ما تقولي حاجة يا ست "عقيلة".
نهضت هي الأخرى بدورها، وصاحت في ابنتها:
-جرى إيه يا "تهاني"؟ بالراحة شوية! مش كده.
ببطءٍ مغيظ قامت "تهاني" من مقعدها لترد ببرود جعل الجميع يستشيط غضبًا:
-أنا بحط النقط على الحروف، وأظن ده من حقي، زي ما هو اتفرج ونقى واختار العروسة المناسبة ليه، أنا كمان من حقي أشوف العريس اللي يليق بيا.
خرجت والدة العريس عن طور هدوئها لتهدر في ابنها بحنقٍ مبرر:
-قولتلك من الأول دي شايفة نفسها وماتنفعكش.
وجه نظرة نارية نحو "تهاني" قبل أن يومئ برأسه هاتفًا وهو يهم بالرحيل:
-الظاهر كان معاكي حق، بينا يامه.
ضربت "عقيلة" كفها بالآخر وهي تردد بتحسرٍ بائن على كامل ملامحها:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هاقول إيه بس.
ما إن خرج "شفيق" من المنزل حتى صفق الباب خلفه بقوةٍ لترتج أركان المنزل، لامتها "فردوس" في التو بعبوسٍ متجهم:
-عاجبك كده؟
جلست بأريحية في مكانها، وعلقت باسمة بزهوٍ:
-الباب اللي يودي.
كادت مقلتاها تبرزان وهي تزيد من عتابها لتشعرها بفداحة خطئها:
-ده عريس لقطة، صعب يتعوض!!
قوست شفتيها مغمغمة في هدوءٍ بارد:
-اتجوزيه إنتي.
بحزنٍ بدأ يحتل تعابيرها جلست "فردوس" على الأريكة، وقالت بألمٍ:
-يا ريته كان جاي عشاني، بس كل اللي بيجي هنا البيت عايزك.
تطلعت شقيقتها ناحيتها في استعلاءٍ قبل أن تخبرها:
-وأنا مش هرضى بأقل من اللي أستحقه!
رمقتها "فردوس" بنظرة يائسة ما لبث أن تحولت للقهر حين أتمت جملتها:
-الرخيص ما يرضاش إلا بالرخيص.
حاولت لملمة ما تبعثر من كرامتها، فنهضت من مجلسها وردت بنبرة جريحة:
-خليكي إنتي بصة كده للعلالي لحد ما تقعي على جدور رقبتك تتكسر، وساعتها مش هتلاقي غير الرخيص يداويكي.
تركتها بمفردها وابتعدت وهي تذرف الدموع الحارقة من عينيها، تأملتها والدتها بنظرة متعاطفة قبل أن تتجه إلى ابنتها الناقمة، وقفت قبالتها، وشملتها بنظرة غاضبة لتستطرد بعدها:
-أنا مش عارفة أقولك إيه على الفضايح دي؟!!
حافظت "تهاني" على ثبات بسمتها الصغيرة حين ردت وهي تقوم واقفة:
-ولا فضايح ولا حاجة، ده عرض وطلب، وطلبه مرفوض!
لوحت "عقيلة" بيدها في الهواء مكملة بنفس الصوت الغاضب:
-أنا غلبت معاكي، ومعنتش هتحشرلك في حاجة.
ردت عليها بهدوءٍ:
-يا ريت، وعمومًا هي كلها فترة صغيرة وأسيب لكم الدنيا وأمشي.
تفاجأت بعزمها على السفر بعيدًا، فاحتدت نظراتها إليها وهي تسألها:
-كمان؟ إنتي برضوه مصممة على كده؟
أجابت مؤكدة بتصميمٍ أظهر عدم تراجعها مطلقًا:
-ده مستقبلي ومش هضيعه!
بدأت أنفاس "عقيلة" تضطرب، وسألتها في انفعالٍ مستنكر:
-تقومي تتغربي لوحدك في بلد الله أعلم هيحصلك فيها إيه وإنتي مش معاكي حد؟!!
بعجرفةٍ ما زالت تسود فيها ردت:
-أنا مش صغيرة، وعارفة كويس مصلحتي فين ومع مين...
ثم ركزت بصرها عليها لتتابع دون أن يرف لها طرف:
-ومش هسمح لحد يمنعني أو يقف في طريق أحلامي.
بدا ما تفصح عنه كالنكبات التي تُحدث المزيد من التصدعات في علاقتها الأمومية بها، وكأن الفجوة بينهما تزداد اتساعًا. تنهدت بعمقٍ، وسألتها في صوتٍ شبه لائم:
-هتبعدي عن أمك؟
لم تعلق بشيء مما أوغر صدرها وجعله يمتلأ بالكمد والألم، نظرت لها شزرًا ورددت وهي تغادر من أمامها:
-يا ألف خسارة عليكي، روحي الله يهديكي لحالك.
رغم شعور الضيق الذي اجتاحها لحظتها، إلا أنها تغلبت على مشاعر الضعف هذه، وهتفت مع نفسها بإصرارٍ معاند:
-بكرة يعرفوا قيمتك.
..........................................................
وهل في الهروب كل الحلول؟ أم أنها البداية للابتعاد وإن عنى ذلك السقوط في جحيم المجهول؟ لم تظن أن الوقت سيمضي بها سريعًا، لتصل إلى لحظتها المنشودة، حيث أصبحت تتواجد في صالة المغادرة بالمطار، استعدادًا لإكمال باقي الإجراءات الخاصة بسفرها للخارج. وقفت "تهاني" إلى جوارها رفيقتها تتفقد الأوراق التي بحوزتها لتتأكد من عدم نسيانها لشيء، ألقت بعدئذ نظرة سريعة على الحقيبة الجديدة –والتي قد ابتاعتها لتضع فيها ثيابها الجيدة لتمنحها مظهرًا مهندمًا بعدما تخلصت من القديم وغير الملائم- وتممت على غلق السحاب بها.
استقامت وافقة، وزفرت دفعة من الهواء وهي تبتسم بنشوة عارمة، عادت لتنظر ملء عينيها لرفيقتها، وخاطبتها في سعادة أكبر:
-ياه، أنا مش مصدقة إن اللحظة دي جت.
منحتها "نهاد" نظرة داعمة، فأكمل حديثها المتحمس إليها وداخلها يقفز طربًا:
-كنت قربت أفقد الأمل، معقول الحلم بقى حقيقة؟
أشارت بيدها مؤكدة:
-بصي حواليكي، إنتي النهاردة هنا في المطار، وكلها شوية وتبقي برا البلد خالص.
استنشقت الهواء بعمقٍ، وردت:
-مظبوط.
تلفتت "نهاد" حولها بنظراتٍ حائرة، قبل أن تثبت عينيها عليها لتسألها:
-بس هو محدش جه معاكي يودعك؟
وقتئذ ارتبكت "تهاني" قليلًا، وحمحمت مرددة بإيجازٍ غامض:
-لأ...
نظرت إليها بتعجبٍ أكبر يشوبه الاستفهام، لذا حفظًا لماء الوجه رسمت بسمة زائفة على محياها، وتكلمت:
-أنا أصلًا مابحبش لحظات الوداع دي، وصممت أجي لوحدي.
هزت رأسها بتفهمٍ بالرغم من عدم اقتناعها بتبريرها الواهي، مالت ناحيتها تحتضنها وهي توصيها:
-خدي بالك من نفسك يا "تهاني"، وابعتيلي أول بأول عشان أطمن عليكي.
تراجعت عنها قائلة:
-حاضر.
ثم مدت يدها لتمسك بحامل الحقيبة، وأضافت:
-الوقت أزف، يدوب ألحق أخلص الإجراءات قبل ما أطلع الطيارة.
ربتت على ذراعها هاتفة وهي تهز رأسها خفيفًا:
-ماشي يا حبيبتي، أشوف وشك بخير.
لوحت لها "تهاني" بيدها، لتتابع المسير نحو البوابة الزجاجية، وعيناها تتحرقان شوقًا لما اعتبرته مستقبلها المشرق، أخذت تردد في طيات نفسها وهي تنخرط بين جموع المسافرين المتجمعين عند أماكن مراجعة الأوراق:
-الحياة أكيد هتضحكلك، إنتي تستحقي ده، كفاية فقر بقى وضنك ............................................ !!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(إنها الصدفة)
التجول بغير هدى في مكانٍ ممتلئ بمئات الأشخاص الغرباء عنها جعلها تشعر بقدرٍ من الرهبة يتسلل إليها. قاومت ما اعتراها من قلقٍ وتوتر وتابعت مشيها المتأني نحو طابور مراجعة الأوراق، ناولها الموظف جواز سفرها بعد وضع الختم عليه، فانتقلت إلى الصالة الداخلية، وبحثت عن مكانٍ تجلس به ريثما تسمع النداء الخاص بالصعود على الطائرة. لم تكن ذات صلة جيدة مع باقي أفراد بعثتها، بالكاد تربطها بهم مجرد عبارات عابرة، ورسمية، لهذا وجدت صعوبة في الانخراط معهم، انتقت عيناها بقعتها المنشودة بعيدًا عن الصخب المحيط بها، لهذا أسرعت الخطى تجاهها، واستقرت جالسة بمفردها وهي تحرر زفيرًا طويلًا من رئتيها.
راحت "تهاني" تنظر إلى من حولها بشيءٍ من الخوف الممزوج بالحزن، كم تمنت أن تجد عائلتها إلى جوارها تشد من أزرها في لحظات الفراق العصيبة! لكن ما تذكره قبل خروجها من المنزل، شجارها مع والدتها، ونظرات القهر في عيني شقيقتها. ألقت وراء ظهرها هذه المشاعر المحبطة، ونفضت عن تفكيرها ما يعيق أحلامها، وراحت تخاطب نفسها:
-بكرة يعرفوا إن كان معايا حق.
لفظت الهواء بعمقٍ من صدرها وهي تلمح ظل أحدهم يحل عليها، قبل أن تجده يستقر بجوارها، نظرت بطرف عينها لهذا الغريب الذي أفسد عليها عزلتها، لم يلقِ لها بالًا، وانشغل بمطالعة ما بحوزته من مجلة ما. رفعت يدها نحو جانب رأسها تسوي شعرها، وركزت بصرها على الجواز الموجود بيدها. ظل الصمت مخيمًا بينهما إلى أن أحست برغبة غريزية ملحة تدعوها لشرب الماء، حينئذ تلفتت حولها، وتكلمت بصوت شبه خافت؛ لكنه كان مسموعًا له:
-مافيش حد بيبيع مياه هنا؟
وجدت شريكها في المقعد يمد يده بزجاجة بلاستيكية مغلقة ناحيتها مرددًا:
-اتفضلي.
تفاجأت من تصرفه، واعتذرت في حرجٍ:
-لا شكرًا، مافيش داعي...
ثم نهضت من موضعها متابعة بلهجةٍ اتخذت طابعًا رسميًا:
-أنا هشوف في أي مكان هنا.
أصر عليها بلباقةٍ رافعًا يده للأعلى بالزجاجة، وهذه الابتسامة الصغيرة تزين صفحة وجهه:
-دي زيادة معايا، ومقفولة.
أوشكت على الاعتراض؛ لكنه أبدى تصميمًا فاقها عنادًا:
-مش هاقبل بالرفض، دي حاجة بسيطة.
أمام ما اعتبرته ذوقه اللطيف استسلمت، خاصة أن مظهره المهندم والرسمي أوحى برقيه وعدم انتمائه لطبقة عامة الشعب الكادحة، فأمثاله من الأثرياء لن يحاولوا استمالة إحداهن بواحدة من الطرق الرخيصة. قبلتها منه قائلة بوداعةٍ، وقد ارتخت تعابيرها المشدودة نوعًا ما:
-شكرًا على ذوقك.
عاودت الجلوس، وراحت ترتشف من المياه المعدنية القليل، نظرت ناحيته مرة أخرى عندما سألها:
-أول مرة تسافري؟
أجابت بحذر:
-أيوه.
لاحقها بسؤاله التالي، بطريقةٍ أوحت برغبته في التودد إليها:
-فسحة ولا شغل؟
حاولت الحفاظ على جديتها وهي تجيب مقتضبة:
-بعثة!
مط فمه معلقًا في إعجابٍ:
-بعثة! واضح إنك من المتفوقين.
تنحنحت هاتفة في تهكمٍ طفيف:
-بيقولوا.
ترك المجلة من يده، ووضعها جانبًا، ثم سألها باهتمامٍ:
-خريجة إيه؟
تنهدت قبل أن تجاوبه:
-علوم.
استدارت بجسدها نصف استدارة، وسألته في تحفزٍ يشوبه الضيق:
-حضرتك سألتني كتير، وأنا معرفش حاجة عنك.
على عكسها تمامًا، كان مسترخيًا لأبعد الحدود، وكأنه اعتاد على محاولات الصد والرد من النساء؛ لكنه كان لا يستسلم أبدًا، فله طريقته الاحترافية في جذبهن إليه للظفر بما يريد. انتصب في جلسته، ووضع ساقًا فوق الأخرى، ثم خاطبها بعتابٍ خفيف:
-أكيد ده مش شكل حد ناوي شر، دي أسئلة عادية، بنكسر بيها الملل، فأرجو إن ده مايكونش مضايقك.
ردت بقدرٍ من الحيطة:
-مقصدش، بس مش متعودة أتكلم مع حد مش عارفاه.
هز رأسه متفهمًا حين عقب عليها:
-معاكي حق، الحرص واجب برضوه...
بقيت نظرات "تهاني" مرتكزة عليه، لا تعرف ما الذي كان يستحثها لمواصلة الحوار معه، رأت كيف زادت ملامحه ارتخاءً حين سألها بمكرٍ:
-بس الأهم إني معرفش لحد دلوقتي اسمك، ممكن أعرفه ولا في مانع؟
رغم القلق الذي يمور بداخلها تجاهه، إلا أنها بعد لحظة من التردد قالت:
-أنا دكتورة "تهاني".
تعمدت إضافة هذا اللقب لتشعره بأهميتها؛ لكنها وجدت ابتسامته اللبقة تتسع قليلًا، سرعان ما تعلقت نظراتها بيده الممدودة لمصافحتها عندما تكلم وهو يطالعها باهتمامٍ:
-تشرفنا يا هانم...
اندهشت منه، وبادلته المصافحة، فأكمل جملته وهو يمنحها نظرة ذات مغزى:
-وأنا الدكتور "ممدوح".
تلقائيًا وجدت نفسها تُبدل من أسلوبها المتجافي في التعامل لآخر لطيف مرح، على أمل أن ينتهي هذا الحوار العابر بشيءٍ من المنفعة المستقبلية، فقلما التقت بأحدٍ ممن ينتمون لفئة الأثرياء المنعمين بكافة سبل الراحة والسعادة.
.........................................
كانت شديدة الحرص في عدم الحديث عن أمورها الشخصية، فانتقت من الكلام ما جعل غالبيته يدور عن طبيعة عملها، والمعاناة التي تتلقاها لتحصل على التقدير الملائم، خاصة بعدما استثير فضولها بأحاديث "ممدوح" المشوقة عن جولاته وصولاته بالداخل والخارج، فباتت شبه متأكدة من ملء جيوبه بما يفيض ليفعل ذلك، لهذا أخفت عنه ما اعتبرته فقرها المعيب، وبؤسها المنفر، فكيف تخبره بأنواع البشر الذين تعيش معهم وهو ينضحون بكل ما هو تعيس. انجذبت كليًا إلى أسلوبه المشوق في سرد خبراته العلمية، وما حاز عليه من جوائز وشهادات تقدير في فترات وجيزة، وما زاد من إعجابها به أنه أخبرها بتخصصه في نفس مجالها، مع فارق انتمائه لجامعة أخرى غير التي تخرجت منها.
للحظةٍ شردت بخيالها بعيدًا، كأنما حلقت فيما بعد الأفق، حيث وجدت فيه الطموح والوسيلة لتحقيق أحلامها العالقة. شتت صدفة لقائهما صوت النداء الداخلي، فنهضت تودعه وهي تمد يدها لمصافحته:
-فرصة سعيدة د. "ممدوح"، أتمنى نتقابل تاني.
بدلًا من مصافحتها، رفع يدها برقةٍ إلى فمه ليقبلها بنعومة قائلًا:
-أنا حقيقي محظوظ إنتي اتقابلت معاكي.
خفق قلبها لملاطفته التي لم تعهدها مُطلقًا، وأحست بشيءٍ ناوش مشاعرها وهي تستشعر حُر أنفاسه على جلدها، رمشت بعينيها غير مصدقة تصرفه، فتابع مشددًا بنبرته المهتمة:
-خدي بالك من نفسك يا دكتورة "تهاني".
قالت بصوتٍ مضطرب وهي تجاهد للحفاظ على ثبات بسمتها المرتبكة:
-وحضرتك كمان.
لامها في ودٍ:
-بلاش حضرتك دي، كده بتحسسيني إني كبير في السن.
استعادت يدها من بين أصابعه، وردت نافية في توترٍ:
-لأ خالص.
تصنع الضحك، فحاولت التغطية على حرجها بقولها:
-وشكرًا مرة تانية على المياه.
اكتفى بالابتسام لها، فتلبكت أمام نظراته المليئة بشيء كانت تتوق إليه، تنحنحت متابعة وهي تشير بيدها:
-يدوب ألحق اتحرك.
أشار لها بيده قبل أن يخفيها في جيب سروال بدلته البنية:
-اتفضلي.
تحركت بتباطؤٍ، والتفتت لأكثر من مرة لتلوح له وهي تبتسم كالبلهاء، كان لا يزال واقفًا في موضعه، يمنحها نفس القدر من الابتسام والاهتمام، بالكاد أبعدت نظراتها عنه قبل أن تختفي وسط جموع المتجهين إلى بوابة الصعود على متن الطائرة، وهي ترجو أن يجمعها القدر به مرة أخرى.
.......................................
ساعدتها المضيفة على بلوغ مقعدها المحجوز مسبقًا بمؤخرة الطائرة، فابتسمت لها مجاملة، ووضعت حقيبتها الصغيرة بالدرج العلوي، قبل أن تجلس وتشد حزام الأمان حول خصرها. كانت ممتنة لكونها ملاصقة للنافذة الصغيرة، حيث ستتمكن من رؤية السماء والسحب حين تحلق الطائرة عاليًا، نظرت جانبًا عندما سمعت جلبة قريبة منها، اشرأبت بعنقها محاولة متابعة ما يدور؛ لكن فضولها تبدد وقد أشارت المضيفة لشابة غريبة عنها لتستقر بجوارها.
سرعان ما شملتها "تهاني" بنظرة فاحصة مدققة لهيئتها شبه الفوضوية، ثيابها كانت عادية، بل أقل بكثير من مقياس التناسق والملائمة الذي تضعه كمعيارٍ في رأسها، لم تكن مثلها محجبة، ومع هذا لم تبدِ اهتمامًا بتصفيف شعرها، بل عقدته جديلة طويلة، وكأنها طالبة بالمرحلة الإعدادية، ينقصها فقط الأنشوطة البيضاء والثوب الرمادي. تطلعت الشابة غريبة الأطوار إليها بنظرات مشرقة مفعمة بالحياة، واستطردت تسألها بلا مقدماتٍ استهلالية:
-مش إنتي دكتورة "تهاني"؟
استغربت لمعرفتها السابقة بها، وردت في دهشة حائرة:
-أيوه.
ظلت ابتسامتها المتسعة كالبُلهاء تملأ كامل وجهها، ورفعت يدها لتصافحها مُعرفة بنفسها:
-أنا دكتورة "ابتهال"، من قسم الحشرات، ومعاكي في البعثة.
يا للحظ العاثر، من بين كل البشر، تصبح هذه السمجة رفيقتها؟ كيف ستتحمل المكوث معها طوال الأيام، بل الأسابيع القادمة ريثما توفق أوضاعها وتستقل بذاتها؟ إنها الجحيم بعينه! بالكاد لامست يدها الممدودة إليها، وبنوعٍ من الترفع أيضًا همهمت:
-أها، أهلًا بيكي.
أضافت "ابتهال" بحماسٍ:
-أنا كنت دايمًا بشوفك في الكلية، وفرحت أوي إنك معانا في البعثة، ده الواحد أصلًا مش مصدق إنه بقى على الطيارة...
ثم خفضت من نبرتها، لتبدو وكأنها تهمس في أذنها عندما أكملت جملتها:
-يعني كان صعب يطلعونا وسط الوسايط، ما إنتي فاهمة بقى.
لم تنبس "تهاني" بكلمة، بل شعرت بالضجر والانزعاج من وجودها، وأظهرت ذلك على قسماتها، لعل وعسى تفطن هذه الثرثارة إلى استيائها؛ لكنها واصلت الحديث بلا توقفٍ، وسألتها:
-أكيد وشي مألوف بالنسبالك؟
تعاملت معها بجفاءٍ، فجاء ردها:
-لأ، ماظنش.
وكأنها لم تفقه للأسلوب المتعالي الذي تتخذه معها، فاستأنفت الكلام بأريحية تامة، كما لو كانت تربطها صلة وثيقة بها:
-احنا برضوه قسمنا كان منعزل عن الباقيين، بس أنا اللي عاملة زي الدودة، عمالة أور هنا وهناك عشان أعرف كل حاجة، فتلاقيني كده ليا لي كلام مع غالبية الناس، وبيعرفوني على طول، ما هو أنا أصلي عِشرية، مش بالساهل حد ينساني كده.
كانت كالصداع الذي يفتك بالرأس، لم تستطع الخلاص منها بسهولة، سحبت شهيقًا عميقًا تثبط به الضيق الذي راح يتصاعد بداخلها، ولفظته وهي توجز في مشاركتها بالكلام:
-تمام.
تفاجأت بها تلكزها في جانب ذراعها، كما لو كانت رفيقة حميمية لها، احتدت نظراتها، وسددت لها نظرة محذرة، فوجدتها تدعي الضحك لتخبرها بعدها في سماجة غير مستساغة لها:
-احتمال يحطونا في أوضة واحدة في السكن، يعني باعتبار إن مافيش غيرنا بنات.
وقتئذ حلت تكشيرة مستاءة على تقاسيمها، وقالت بعبوس منفعل:
-ادعي نوصل بالسلامة الأول، وبعد كده نشوف اللي هيحصل.
كانت هادئة إلى أقصى الحدود، فرددت بتنهيدة بطيئة:
-يا رب، بصي أنا بحاول ألهي تفكيري بالرغي معاكي شوية، يعني بدل ما التوتر يمسك فيا.
أغمضت "تهاني" عينيها في يأسٍ، إسكاتها كان مستحيلًا، وضعت يدها أعلى جبينها، وصوت هذه المزعجة يخاطبها:
-تعرفي يا دكتورة "تهاني"، ولا أقولك نخلي البُساط أحمدي بينا، فأنا أقولك "تهاني" كده بس، وإنتي تقوليلي "ابتهال".
أطلقت بعد ذلك ضحكة مجلجلة، لتضيف:
-معلش أنا رغاية حبتين زيادة وآ...
نفد صبرها على الأخير، فانتفضت تصيح بها:
-أنا دماغي مصدعة، ممكن نهدى حبة.
أومأت برأسها مغمغمة:
-ماشي.
صمتت لثانيتين قبل أن تعاود الكلام:
-طب قدامنا أد إيه عقبال ما نوصل؟
نفخت "تهاني" في سأم، وأخبرتها في صيغة متسائلة:
-مكتوب في التذكرة، ماشوفتيهاش ولا إيه؟
أجابت عليها بابتسامة عريضة:
-لأ، أصلي متوترة زيادة عن اللزوم...
أولتها جانب وجهها، وهي تبرطم بسخطٍ، بينما ظلت "ابتهال" تُحادثها بلا أدنى شعور بالملل:
-عارفة بقية البعثة كلها قاعدة قدام، المفروض كنا نبقى معاهم، بس ملاقوش أماكن كفاية، فـ...
سلطت "تهاني" كامل نظراتها على ما تطل عليه نافذتها الصغيرة، وهذا الصوت المحتقن بداخلها يردد في نقمٍ:
-هو أنا كنت ناقصة واحدة زيها؟!!
...............................................
مضت ساعات مكوثها بالطائرة بطيئة للغاية، لم تسلم خلالها من لسان "ابتهال" الثرثار، فقد كانت تملك طاقة كلامية لا تنضب أبدًا، وعلى قدر طاقة تحملها حاولت "تهاني" تجاهلها، وتعاملت معها بجفاء ورسمية بحتة، لكنها لم تفهم بالتلميحات المبطنة ولا بالإشارات المعلنة، حيث واصلت تحريك فاهها لتحكي في أي شيء وكل شيء. ما إن انتهت كلتاهما من إجراءات الوصول حتى أسرعت "تهاني" في خطاها لتبتعد عنها؛ لكنها كانت كظلها، لحقت بها، ولم تتركها تغيب عن نظرها لثانية.
بمجرد أن اقتربتا من باب الخروج من صالة المطار، لفحة من الهواء الساخن لطمت وجنة "ابتهال"، فراحت تشتكي وهي تحرك يدها كالمروحة لعلها تحصل على نسمة مُرطبة:
-ياني على الجو، ده ولا جهنم...
نظرت لها "تهاني" شزرًا، هي مثلها تشعر بسخونة الجو، وتوقعت اختلاف المناخ هنا، ومع ذلك لم تشتكِ. أضافت هذه المزعجة بعد زمة سريعة لشفتيها:
-وربنا احنا بلدنا نعمة، الهوا فيها يرد الروح، وينعش القلب.
كالعادة لاذت بالصمت الإجباري معها، وتابعت سيرها نحو المخرج، فسألتها "ابتهال" مستفهمة:
-هما قالوا هنركب إيه عشان نروح السكن؟
نفخت بصوتٍ مسموع قبل أن تجيبها:
-في أكيد أتوبيس هيوصلنا، مش هنمشيها يعني!
انتبهت "ابتهال" لأحدهم على وجه الخصوص وهو يقف أعلى الرصيف الخارجي للمطار، فصرخت بفرحةٍ، وكأنها رأت نجمًا سنمائيًا:
-بصي هناك، ده دكتور "عبد الحافظ"، هو المسئول عننا هنا، الحمدلله إني شوفته.
اندهشت لمبالغتها، وظلت تحدق بها وهي تأمرها:
-تعالي نروحله، أكيد هو مستنينا.
لم تكتفِ بذلك، بل صرخت عاليًا غير مبالية بلفت الأنظار إليهما:
-يا دكتور "عبد الحافظ"، يا دكتور!
نظر إليها الرجل الخمسيني الوقور باهتمامٍ، بدا على ملامحه عدم الاندهاش لرؤياها، وتقدم ناحيتها مُرحبًا بها:
-حمدلله على السلامة يا دكتورة "ابتهال"...
اتجه بنظراته نحو "تهاني"، وأكمل:
-أنا مستنيكم من بدري.
لم يحد بناظريه عنها وهو يسألها ليتأكد:
-دكتورة "تهاني"؟ مظبوط؟
هزت برأسها قائلة:
-أيوه.
مد يده لمصافحتها وهو يعرف بنفسه:
-أنا الدكتور "عبد الحافظ"، المسئول هنا.
رسمت ابتسامة صغيرة مهذبة على محياها مبادلة إياه التحية:
-اتشرفت بحضرتك.
تساءلت "ابتهال" مستوضحة وهي تدور برأسها حولها، كأنما تفتش عن أحدهم:
-أومال باقي الزملاء فين؟ سبقونا ولا إيه؟
أشار نحو حافلة متوسطة الحجم قبل أن يخبرها:
-موجودين في الأتوبيس.
عندئذ مالت بجسدها نحو "تهاني" لتهمس في أذنها بتذمرٍ:
-شكلنا آخر ناس خلصوهم، باين الكوسة هتشتغل من أولها.
كزت على شفتيها في حنق مزعوجٍ منها، أشاحت بوجهها بعيدًا، ولفظت زفيرًا طويلًا وهي تردد بلا صوت:
-ارحمني يا رب.
.......................................
عن عمدٍ تعمدت أن تسد أذنيها عنها حين جلستا متجاورتين في الحافلة الصغيرة، علها تيأس منها وتصمت. التهت "تهاني" بالتحديق في الطريق وطافت ببصرها عبر زجاج النافذة على المعالم الصحراوية المحيطة بها، كانت الطبيعة البيئية لهذه المنطقة تختلف عما اعتادت رؤيته في نهار عملها الروتيني من زحام واختناقٍ مروري، فالسماء كانت باهتة، والغبار انتشر كالسحاب فجعل الرؤية ضبابية في أماكن، ومتوسطة في أماكن أخرى. تسلل إليها وهي تحاول اللحاق بكل ما تراه لتحفظه الشعور بالرهبة والارتياب، وأدت ما انتابها من أحاسيس خائفة متسلحة بطموحها غير المحدود.
تباطأت سرعة الحافلة عند منطقة سكنية معينة، فأمعنت "تهاني" النظر بتدقيق لتعرف تفاصيل المكان جيدًا، فمن المفترض أن تقطن هنا. من الخارج بدت البناية نظيفة، حديثة الطلاء، جيدة التصميم؛ لكن حين صعدت للأعلى، وتحديدًا للطابق الثالث، حيث يقع بيتهما المستأجر، انتظرتها مفاجأة غير سارة، فما إن وضعت المفتاح في قفل الباب ووطأت للداخل، صدمتها رائحة الهواء العطن، فجعل صدرها ينقبض، أحست بشيء غير مريح يناوشها، أنارت الإضاءة فحلت مفاجأة أخرى أكثر صدمة عليها، تجولت ببصرها على ما يوجد بها، فرأت كيف يبدو الأثاث قديمًا ومستهلكًا من كثرة الاستعمال، تتناثر الكراكيب بعشوائية عند الأركان، ناهيك عن حاجة أرضيتها للتنظيف الشديد. لم تكن مثلما توقعت أبدًا! راحت تردد بذهولٍ، وعيناها تبرقان بشدة:
-معقولة، دكاترة محترمين زينا يقعدوا في مكان زي كده؟
جعلتها الصدمة تتجمد في مكانها للحظات، وقد توقف عقلها عن التفكير، في حين انبهرت "ابتهال" بالصالة المتسعة، وبدأت تتجول بحماسٍ في محيطها وهي تخبرها:
-أما أوضة شرحة وبرحة بصحيح.
ألجم تعليقها الغريب لسانها لوهلة؛ لكن اندلع الغضب بها فصرخت مستنكرة:
-إنتي بتقولي إيه؟
استغربت "ابتهال" من تشددها، وعقدت حاجبيها في اندهاش وهي تزيد من صياحها الغاضب:
-ده عاملة زي علبة الكبريت!
ردت ببرود استفزها:
-هو احنا لينا أكل ولا بحلقة؟ ده احنا مش هندفع مليم، يوووه، نسيت، هي العملة هنا يجيلها بكام؟
سئمت من تساهلها، ومن شخصها المغيظ، فهدرت فيها بانفعالٍ:
-أنا ماقبلش بحاجة أقل من اللي استحقه.
انهت جملتها واندفعت نحو الخارج، فتبعتها "ابتهال" مذهولة وهي تسألها:
-رايحة فين يا "تهاني"؟
حاولت إيقافها عنوة، فلكزتها "تهاني" بعصبيةٍ في ذراعها وهي تصرخ بها:
-حاسبي من طريقي.
تقدمت عنها في خطواتها، ثم وقفت قبالتها، وسألتها بتخوفٍ:
-من أولها هتعملي مشاكل كده؟ هيقولوا عننا إيه؟
دفعتها بقسوة لتزيحها من أمامها وصوت صراخها يسبقها:
-ابعدي عن خلقتي السعادي، أنا روحي في مناخيري.
تأوهت من الوكزة القوية، وتغاضت عن شعورها بالألم اللحظي، وهتفت تتوسلها:
-استهدي بالله بس، وآ...
قاطعتها "تهاني" قبل أن تستأنف وصلة تذللها المستفزة صائحة بإصرارٍ، ووجهها يشتعل بحمرته الحانقة:
-إنتي عاوزة تقعدي في أوضة الفران دي يبقى براحتك، لكن أنا لأ!!!
.........................................
التنازل لمرة يعني بدء المسير في رحلة المشقة، لم تقبل "تهاني" بما لا تستحق، وأصرت على تمسكها بما ترغب، إلى أن ظفرت في الأخير بمبتغاها، وحصلت على ما يليق بها. انخطفت أنفاس "ابتهال" وبَهَرت عيناها بوميض لامع وهي تتجول بداخل السكن الآخر الذي تم توفيره لهما للسكن فيه، قفزت كالصغار على الأريكة الجلدية، وجلجلت نبرتها قائلة بنبرة مديح:
-وربنا كان معاكي حق تعملي الشبورة بتاعتك دي، المكان أحسن بكتير، فرق السماء من الأرض...
ركزت بصرها على رفيقتها وتابعت:
-أنا بعد كده هاخدك معايا في أي حاجة.
لم تنطق "تهاني" بكلمة، اكتفت بالاستمتاع بشعور النشوة الذي تغلغل فيها، وجعلها تبدو كبطلة خارقة رغم أنها لم تفعل الكثير. تظاهرت بعدم الاكتراث، ووضعت هذا القناع الجليدي على ملامحها، ثم أمسك بمقبض الحقيبة، وسحبتها نحو الغرفة التي اختارتها لتكون خاصة بها، فتساءلت "ابتهال" في تحيرٍ:
-إنتي رايحة فين؟ مش هتقعدي معايا شوية؟
حانت منها نصف التفافة ناحيتها لتعلق برسميةٍ:
-داخلة أوضتي، ولو سمحتي يا ريت ما يكونش في إزعاج، أنا عاوزة أرتاح.
زينت "ابتهال" وجهها ببسمتها المتسعة وردت وهي تشير إليها:
-حقك طبعًا...
بمجرد أن تابعت مشيها وجدتها تكلمها من خلفها بثرثرتها المعتادة:
-بس عاوزين نلف حوالين المكان عشان نعرفه.
تجاهلتها عن قصدٍ، لتلج إلى غرفتها صافقة الباب ورائها بعنفٍ، مما جعل "ابتهال" تنتفض في مكانها. رفعت حاجبها للأعلى ورددت بتجهمٍ طفيف:
-هي مالها كده؟
سرعان ما تبدد الضيق من على قسماتها لتتابع محدثة نفسها بابتسامة أشد اتساعًا وهي تجلس باسترخاءٍ على الأريكة:
-يا سلام على الأعدة الملوكي اللي هنا!
...............................................
أراحت مرفقيها على حافة النافذة، واستندت بذقنها عليهما معًا، لتتطلع بشرودٍ حزين إلى المارة السائرين في الشارع، بدت من بعيد كما لو كانت غارقة في دوامة من الهموم والأثقال، وحين أتت "فردوس" وجلست إلى جوارها لم تشعر بوجودها، بقيت في انفصالها الواجم عن الواقع لمزيد من الوقت. وضعت ابنتها يدها على كتفها لتنبهها إليها وهي تتساءل باهتمامٍ:
-مالك يامه؟ سرحانة في إيه؟
أجابت دون أن تنظر تجاهها:
-قلبي متوغوش على أختك، مكانش لازم نسيبها تسافر نهائي.
مطت "فردوس" فمها قليلًا في غير تأثرٍ، ثم غمغمت معقبة وهي تداعب بأناملها جديلة شعرها التي طرحتها على كتفها:
-ما إنتي عارفة دماغها الحجر، مهما عملنا مكوناش هنمنعها عن اللي هي عاوزاه.
تنهدت "عقيلة" مليًا سائلة نفسها بصوتٍ مسموعٍ أيضًا لابنتها:
-يا ترى عاملة إيه دلوقتي يا كبدي؟
بنفس الهدوء الواثق أخبرتها:
-هي ناصحة وهتعرف تتصرف.
المزيد من العبوس القلق حل على تجاعيد وجهها وهي تردد:
-يا خوفي من الغربة تغيرها، ولا تعمل فيها حاجة.
لاحت بسمة هازئة على زاوية فمها قبل أن تعلق:
-متقلقيش عليها، دي تفوت في الحديد.
غريزتها الأمومية جعلت مشاعرها المرهفة تتضاعف خوفًا عليها، فهمهمت بلا صوتٍ، وهذه النظرة الحزينة تطل من حدقتيها:
-أنصح منها والشيطان غواهم!
.............................................
بهدوءٍ شديد، انحنت تلتقط آخر قطع ثيابها لتنتهي من ستر جسدها المكشوف، ألقت نظرة سريعة على سيدها النائم على الفراش، قبل أن تسير على أطراف أصابعها، وتقترب من مرآة التسريحة، وقفت الخادمة قبالتها تسوي بيدها خصلات شعرها النافرة، لتضع بعدئذ حجاب رأسها، وهذه الابتسامة الراضية تتراقص على شفتيها، فرب عملها يجيد منحها ما تريد من سعادة وسرور، وإن كانت هذه المشاعر تدوم لحظيًا؛ لكنها في المقابل تتمتع ماديًا ومعنويًا.
نظرة أخرى دارت بها على معصميها المكدومين، ففركتهما تباعًا، ثم سحبت الكريم المرطب لتدلك به ما بقي من آثار علاقتها الجامحة به. تنهدت بعمقٍ وهي تقاوم ما يعتريها من مشاعر أخذت تتأجج بداخلها، فقلما استطاعت مقاومة سحره وتأثيره في استدراجها نحو دوامة أهوائه العاصفة. تأكدت من ضبط هيئتها لئلا تثير الريبة وهي تتسلل خارجة من منزله في هذه الساعة المبكرة. تحركت بحرصٍ نحو جانبه من السرير، مالت عليه لتقبله من جبينه، ثم سألته في صوت ناعم رقيق:
-سي "مهاب"، عايز حاجة تانية مني قبل ما أمشي.
بصوتٍ شبه ناعس أجاب، ودون أن يفتح عينيه:
-لأ.
سألته في نفس الصوت الحنون الخافت:
-طب تحب أفضل كمان شوية؟ أشوف مزاجك وطلباتك؟
حينئذ التفت بجسده ناحيتها، ومد يده ليمسح على وجنتها برقةٍ قبل أن يرفض بلباقةٍ:
-خليها وقت تاني، عشان تلحقي ترجعي.
لاحت ابتسامتها المتدللة على وجهها، وقالت وهي تعتدل واقفة:
-ماشي يا سيدي وسيد الناس.
لوح لها بيده قبل أن يعاود الاستلقاء على جانبه وهو يقول بتثاؤبٍ:
-سلام يا حلوة.
تحركت الخادمة خارج الغرفة تجاه باب البيت، وهناك انتعلت حذائها القديم، وهذا الصوت يردد في رأسها:
-المرة الجاية هابقى أطلب منه جزمة جديدة، مش خسارة فيا.
أمسكت بالمقبض وأدارته لتفتح الباب؛ لكنها تجمدت في مكانها مصعوقة عندما رأت شقيقه يقف عند العتبة يُطالعها بنظراتٍ احتقارية مشمئزة، كان الأخير يعرفها تمام المعرفة، فهي إحدى خادمات القصر، ممن عملن لمدة قصيرة، قبل أن يتركن العمل دون تبرير، واليوم عُرف السبب، فهي متواجدة هنا في هذا المنزل المعزول، للقيام بمهامٍ أخرى لا تتضمن أي معايير أخلاقية فيها. نكست الخادمة رأسها في خزي خجل، وخرجت من البيت قائلة بصوتٍ مهتز:
-اتفضل يا بيه.
ظلت تعابيره المتأففة معكوسة على محياه، حدجها بنظرة نارية وهي تتجاوزه لتمر قبل أن يهينها بكلماتٍ كانت كالخنجر في صدرها، ابتلعتها مضطرة وهي تهبط على الدرج مجرجرة كرامتها المهانة ورائها. صفق "سامي" الباب بعنفٍ، وهو لا يزال يردد بعصبيةٍ:
-حاجة تقرف.
مسح الصالة غير المرتبة بنظرة بطيئة تظهر نفوره الشديد، فهذا البيت أو ما يُطلق عليه "وكر الملذات" هو المكان الدائم لإقامة شقيقه كلما عاد من سفره، ورغم تعدد نزواته الطائشة إلا أنه ظل الابن المفضل لدى أبيه، تجول على مهلٍ مخاطبًا نفسه، وسِحنته قد انقلبت على الأخير عندما رأى بقايا الطعام متروكة على المائدة، بجوار زجاجة للخمر وأكواب متسخة:
-طبعًا ده المتوقع منك يا "مهاب"، سايب بيت العيلة، وقاعد ليل نهار هنا، عشان تشوف مزاجك مع الأشكال (...) دي!
بخطواتِ متعصبة سار ناحية غرفته الموجودة في نهاية الرواق، ظلت تعابيره متجهمة وهو يناديه عاليًا بما احتوى على إهانة ضمنية:
-اصحى يا دكتور يا محترم!
دون أن يبدو مُباليًا بوجوده، سحب "مهاب" الوسادة من أسفل رأسه، ووضعها عليها ليقلل من وتيرة الصوت المرتفع الذي يُفسد عليه نومه. حاول "سامي" انتزاعها من أعلاه لائمًا إياه بحدة:
-عامل البيت كرخانة، ونايم ولا على بالك؟!!
استلقى "مهاب" على ظهره، وطالعه بنصف عينٍ قبل أن يكلمه ببرود:
-ليه الزعيق بس يا "سامي"؟ ماينفعش تتكلم من غير دوشة؟
استشاط غضبًا من رعونته، وردوده المستفزة، فعنفه:
-إزاي سامح لنفسك تغرق في القرف ده؟
أزاح شقيقه الغطاء عن جسده شبه العاري، وخفض قدميه قائلًا وهو يفرك وجهه:
-إنت جاي تديني محاضرة في الأخلاق على الصبح؟
احتفظ "سامي" بطريقته المحتدة في التعامل معه عندما أخبره:
-لازم أعمل كده، طالما إنت مخلي اسم العيلة في الوحل.
وضع "مهاب" ابتسامة عابثة على ثغره، كان واثقًا أن مدلولها سيصل إليه دون الحاجة للإيضاح، وأضاف بمكرٍ مغيظ وهو ينهض واقفًا:
-لأ، اطمن .. كل اللي بيخرج من عندي بيكون مبسوط.
فارق الطول والتأثير بينهما كان ملحوظًا، فالغلبة كانت لـ "مهاب" وإن كان "سامي" الأكبر سنًا؛ لكن الأول امتاز بسمات السيطرة، والتسلط، والقدرة على إقناع الآخرين بسلاسة، لذا بلا عناءٍ سقط الأخير في فخ استفزازه، اشتعل وجهه بحمرته الحانقة، ليتبع ذلك لومًا شديدًا منه ومصحوبًا بالتهديد المتواري:
-ولو بابا عرف؟ تفتكر هيسكت عن المسخرة دي؟
تمطى شقيقه بذراعيه لينفض الكسل عنه، ثم قال:
-"فؤاد" باشا مشغول بمشاريعه واستثماراته، مش هيركز مع التفاهات دي.
أسلوبه المستهتر وغير المبالي بتبعات رعونته جعله أكثر تحفزًا ضده، فهدده صراحةً عله يرتدع:
-إنت عارف كويس إنه لو شم خبر مش هيرحمك.
قست تعابير "مهاب" بشكلٍ مخيف، ونظر له قائلًا بتحدٍ:
-وإنت عاوز تقوله؟ اتفضل، أنا مش حايشك!!
حاول أن يظهر اهتمامًا زائفًا بشأنه، فادعى:
-أنا عاوز مصلحتك يا "مهاب".
من زاويته منحه هذه النظرة المخيفة، ليرفع بعدها يده ويضعها على كتفه ضاغطًا عليه قليلًا بقوة قبل أن يهتف:
-اطمن، أنا سايبلك كل حاجة ومسافر، متقلقش من ناحيتي.
بلع ريقه، وقال:
-إنت فاهم غلط.
فهم طبيعة شخصيته المراوغة لم يكن بالأمر العسير عليه، بدا كالكتاب المفتوح قبالته، يستطيع مطالعة أسطره مهما حاول ادعاء الغموض أو الطيبة. لم يزح "مهاب" يده من على كتفه، بل أبقى أصابعه تضغط عليه بخشونة مؤكدًا بهدوءٍ يدب الخوف في النفس:
-لأ، أنا فاهمك صح، إنت عاوز تفضل طول عمرك ابن "فؤاد" باشا المفضل، اللي ماشي تحت طوعه، وأنا هسيبلك الساحة ومش هحرمك من ده.
اختبأ "سامي" وراء عصبية مصطنعة، وصاح ملوحًا بذراعه بعدما ابتعد عنه شقيقه الأصغر:
-خليك كده مش عارف مصلحتك فين.
لم ينظر تجاهه، ومشى بتؤدة ناحية الحمام، وصوته يصيح به:
-لو خلصت محاضرتك ماتنساش تقفل الباب وراك.
بالكاد كظم "سامي" غضبه، وسحب شهيقًا عميق يخنق به الغضب المندلع في أعماقه، فغيرته منه لا تزال كما هي، مشتعلة ومتزايدة. طرد الهواء على هيئة زفير بطيء، وردد بما بدا شبيهًا بالوعيد:
-استحمل يا "سامي"، كلها كام يوم ويمشي، وساعتها هتبقى إنت الوريث المنتظر لإمبراطورية "الجندي"
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(موعدٌ، فلقاء، فـ ...)
رغم تفاوت أعمارهم إلا أن القاعة الدراسية امتلأت بعشرات منهم، فجميعهم قد جاءوا وافدين من مختلف الدول لتلقي محاضراتهم بنهمٍ واهتمام، كما راحوا يعملون كالنحل في خليته لتدوين كل ما يُملى عليهم من معلومات قيمة ومفيدة لئلا يفوتهم أي مستجد طرأ على الساحة العلمية. بعد ساعات متصلة من التركيز والمتابعة، حصل الجميع على وقت للاستراحة، وإعادة شحن طاقاتهم المستهلكة. تجولت "ابتهال" بصحبة "تهاني" في أروقة المكان لتفقده، لاحظت كلتاهما كيف امتاز الحرم الجامعي بالعراقة والفخامة، فغمرهما شعوري الانبهار والفخر، فقد كان من النادر الظفر بفرصة كتلك.
تناثر الطلبة بين الأروقة، وعند القاعات المخصصة للدراسة، غالبيتهم كانوا من الشباب الذكور، قلما رأوا شابات يافعات بينهم، اِربد وجه "ابتهال" بنضارة متحمسة، ومالت على رفيقتها تهمس لها بعينين لامعتين تحويان لهفة طامعة وهي تتأمل حلقة الشباب القريبة منهما:
-شايفة الدكاترة اللي هناك دول؟
رمت "تهاني" نظرة عابرة على هذه المجموعة التي مرت من جوارها، ولم تعقب بشيء، بينما بقيت أنظار رفيقتها معلقة بمن في هذه المجموعة من شباب منهمك في النقاش. أطلقت ضحكة خافتة، وأضافت مازحة:
-المفروض الواحد يطلع من البعثة دي بعريس محترم من دول.
توقفت "تهاني" عن المشي وهذا التعبير المتجهم مرسوم على وجهها، رمقتها بنظرة حادة قبل أن تسألها بلومٍ:
-هو إنتي جاية تدرسي ولا تنقي عريس؟
أخفت شفتيها المبتسمتين خلف ظهر كفها، وصرحت لها بخفوتٍ:
-بيني وبينك، أنا عاوزة أشوف عريس لقطة هنا، ما هو التعليم موجود هيروح مننا فين.
غمغمت في تأفف:
-فعلًا، كل واحد ودماغه.
تساءلت "ابتهال" وهي تضبط ياقتي بلوزتها الوردية:
-هو إنتي معايا المحاضرة الجاية؟
زفرت الأولى الهواء بصوتٍ مسموع، وكأنها تزيح حملًا ثقيلًا عنها، قبل أن تجيبها بهذه الابتسامة العريضة:
-الحمدلله لأ.
عبست الأخيرة قائلة بضيقٍ:
-يا خسارة، أه لو كنا نفس التخصص، مكوناش فرقنا بعض للحظة.
برقت عينا "تهاني" لحظيًا، ورددت بين جنبات نفسها وهي تسرع في خطاها لتبتعد عنها:
-دي كانت تبقى مصيبة تانية.
لم تنكر أن شعور النفور نشأ بداخلها تجاهها منذ اللحظة الأولى، لم تستسغ صداقتها، ولم تحبذ توددها اللزج إليها، بالكاد حاولت التأقلم مع وجودها المفروض عليها، إلى أن يحين الوقت وتنفصل كليًا عنها.
..................................................
بتوقيرٍ واضح في تصرفه معه، انحنى ناحيته ليسحب برويةٍ الملف من أسفل يده بعد الانتهاء من توقيعه، ثم وضع آخر ليقوم بمراجعته بتدقيقٍ قبل أن يذيله في النهاية بتوقيعه. استقام "سامي" واقفًا، وتأكد من إعطاء والده كل الملفات المطلوبة قبل أن يدير في رأسه عندما سأله:
-أخوك سافر خلاص؟
أجابه بحذرٍ وهو يستدير حول المكتب ليجلس في المقعد المقابل له:
-أيوه، أنا وصلته بنفسي للمطار.
لم يكن "سامي" قد استراح بعد في جلسته على المقعد حين مد والده يده برزمة من الأوراق ناحيته وصوته الآمر يردد:
-عايز الملفات دي تتراجع، وتجيلي تاني النهاردة.
سأله مستغربًا وهو يأخذها منه:
-ليه؟ فيها حاجة مش مظبوطة؟
بدا وجهه جليديًا، ونبرته خشنة وهو يخاطبه بحزمٍ:
-نفذ اللي قولتلك عليه من غير نقاش.
كان يعلم أنه يهدد علنًا لمرة واحدة، وفي الأخرى تجده قد نفذ ما هدد به، بجهدٍ جهيد أخفى ضيقه من تسلطه، ليقول بخنوعٍ:
-حاضر.
نهض بعدئذ من موضعه استعدادًا لمغادرة غرفته؛ لكن صوته الأجش استوقفه قبيل الباب متسائلًا:
-عملت إيه في الأرض اللي طلبت منك تخلص ورقها؟
تجمدت أصابعه على المقبض للحظة جعلت الارتباك القلق يتناوب عليه، ازدرد ريقه، وجاوبه وهو يدير رأسه ببطءٍ لينظر إليه:
-معدتش فاضل غير التراخيص.
أخبره في صوتٍ جاف صارم:
-عاوز أسمع إنك بدأت بُنى فيها...
أومأ برأسه مبديًا طاعته له؛ لكن ما لبث أن ارتسم الخوف على تقاسيمه وهو يتم جمله بتهديدٍ آخر صريح:
-أي تقصير هحاسبك إنت!!!
مرة ثانية بلع ريقًا غير موجود في جوفه، وقال بتلبكٍ:
-على طول يا بابا.
طرقة حانقة على السطح الزجاجي جعلته يتصلب في مكانه توجسًا، أتبعها صياح والده المحتج:
-طالما احنا في الشغل تقولي "فؤاد" باشا، كام مرة هنبه عليك بده؟
اهتزت شفتاه وهو يقول:
-حاضر يا "فؤاد" باشا.
في التو خرج من الغرفة وهو يتمنى ألا يكون والده قد لاحظ ارتباكه، فالأخير من النوع المرتاب المشكك الذي لا يترك شيئًا دون التدقيق فيه أو مراجعته، فماذا ستكون عاقبته إن علم بما حاز عليه من ربح خفي جراء قطعة الأرض التي ابتاعها وأوهمه بغلاء سعرها؟!!
..................................................
اعتصرت الخرقة بعدما انتشلتها من الدلو تمهيدًا لمسح أرضية المطبخ، ليصبح المكان نظيفًا، لا تتراكم به البقايا أو المخلفات عند الأركان وأسفل الموقد العتيق. حملت بعدئذ الدلو، واتجهت به إلى الحمام لتفرغ ما فيه من ماءٍ متسخ في البالوعة، ثم أعادته إلى موضع تخزينه، وسارت ناحية المطبخ لتعطي نظرة أخيرة على وعاء الطهي، استنشقت بعمقٍ الرائحة الطيبة للملفوف الشهي، وأغلقت النار تاركة الغطاء غير محكمٍ عليه. انتبهت إلى صوت أمها المنادي من الخارج:
-يا "فردوس"!
تحركت بتؤدة نحو عتبة المطبخ، وهتفت ترد:
-أيوه يامه.
سألتها من بعيد بنفس النبرة العالية:
-المحشي خلص؟
أجابتها من موضع وقوفها:
-أنا طفيت النار عليه، وسيباه يتهوى.
أمرتها بما أصابها بقليلٍ من الحيرة الممزوجة بالدهشة:
-جهزي طبق كده وصاية لخالتك "أفكار".
لم ترهق عقلها بالتفكير، اكتفت بحك جانب عنقها قائلة بلا نقاش:
-من عينيا، دقيقتين ويكون جاهز.
انشغلت في ملء الصحن وإعداده بقطع الملفوف اللذيذة، لكنها تخشبت في مكانها للحظة عندما تابعت والدتها تعليماتها إليها:
-عاوزاكي تلبسي حاجة كويسة كده من دولاب أختك.
استدارت نصف التفاتة برأسها تجاهها، وسألتها بملامح حائرة، ونظرة مستفهمة:
-ليه؟
أجابت بغموضٍ زاد من حيرتها:
-هتعرفي بعدين.
كعادتها لم تتجادل معها أو حتى تسعى لتقصي حقائق الأمور، قالت في انصياعٍ معتادٍ منها:
-ماشي يامه.
.......................................
ملَّت من كثرة ساعات الدراسة، وقلة أوقات الراحة، فأصابها الصداع، وجعل رأسها يطن كما لو كانت هناك نحلة نشيطة تسكنه، لا تكل من العمل المتواصل. بغير استئذانٍ تأبطت ذراع "تهاني"، وسارت متثاقلة الخطى في الرواق، تستند عليها بأريحية تامة، وكأن بينهما صداقة ممتدة لسنوات، بدت غير منتبهة للضجر الظاهر على وجه رفيقتها، وراحت تشكو إليها بإرهاقٍ واضح:
-ياني على وجع الدماغ، ده كله لوك لوك كده من صباحية ربنا، إيه مابيفصلوش.
انزعجت الأخيرة مما اعتبرته لزاجتها المنفرة، وانتشلت مرفقها من تحت يدها بصعوبة، لتسرع في خطواتها، وكأنها تفر منها، فحاولت الأولى اللحاق بها وهي تسألها:
-إنتي رايحة فين كده؟
أجابت مندفعة نحو الأمام، ودون أن تلتفت إليها:
-هشوف مكان التدريب.
انقلبت سحنتها هاتفة في تأفف وقد تمكنت من بلوغها:
-يا خسارة، كان نفسي نكون سوا.
حانت من "تهاني" نظرة جانبية من طرف عينها قبل أن تُسمعها:
-الحمدلله.
استغربت من كلامها، وسألتها بحاجبين معقودين:
-الحمدلله على إيه؟
المماطلة أو المراوغة معها لن يأتي بجدواه أبدًا، عليها أن تكون مباشرة وواضحة، إذ ربما تعي في نهاية الأمر أن صداقتهما ليست كما تظن دائمة مستديمة، وإنما فرضت عليها بحكم الواقع، ولهذا عليها أن تضع الحدود في علاقتهما معًا. توقفت "تهاني" عن السير لتستدير ناحيتها، وبدأت تكلمها بتعابيرٍ جادة:
-"ابتهال" يا حبيبتي، أنا عاوزاكي تعتمدي على نفسك، ماتفضليش لازقة كده في الناس عشان ما يزهقوش منك.
علقت مستنكرة حديثها:
-وهو في حد يقدر يستغنى عن هزاري وفرفشتي؟
-إنتي واحدة ناضجة، والمفروض تكوني مستقلة.
-احنا في غربة، ولازم نكون إيد واحدة.
هناك فرق بين التعاون مع الآخرين، وبين ملازمتهم كظلهم ليل نهار، غير تاركين أي متنفس لهم، أدركت "تهاني" أن محاولة إفهامها طبيعة مشكلتها لن يكون بالأمر اليسير، فأثرت الذهاب، وهتفت مشيرة بيدها نحو الفراغ:
-الظاهر العربية اللي مستنياني جت، سلام.
سألتها من خلفها بشكلٍ آلي، غير مانحة نفسها الفرصة لسماع أي جوابٍ:
-طب هترجعي إمتى؟ وهناكل سوا ولا هتتأخري؟ والغسيل هنعمل في إيه؟ ده احنا المفروض نشوف نقصدنا إيه من الطلبات ونجيبه؟
تجاهلتها كليًا، وزادت من سرعة خطواتها، فنادتها عاليًا:
-يا "تهاني"! ردي عليا! طب المحاضرات الـ ....
سدت أذنيها عنها، رافضة الإنصات لما تردده من بعيد، إلى أن خرجت من البوابة الرئيسية، حينئذ تنفست الصعداء، وهتفت مبرطمة بصوتٍ خفيض، كأنما تخاطب نفسها:
-يا ساتر يا رب، بجد إنسانة تخنق، وتخليك تخرج عن شعورك.
................................................
إدراكها بأن قطار العنوسة يهدد فرص زواجها جعلت همومها تزداد يومًا بعد يوم، خاصة أن ابنتها افتقرت لمسحة من الجمال الجذاب الذي يسلب عقول الرجال، ويجعلهم يتلهفون شوقًا على الارتباط بها، ومع ذلك امتلكت سماتٍ أخرى محمودة في الزوجة، من كونها مدبرة جيدة، تجيد الطهي والتنظيف، ولينة سهلة التشكيل طوع بنان من يملك زمام أمرها؛ لهذا لجأت للمتعارف عليه من الطرق التقليدية، لعل وعسى تجد الزوج المناسب لها في الأخير، وإن كان فقيرًا معدمًا، لن تمانع مطلقًا، أو تضع العقبات لتزويجها، ستفعل المستحيل لتراها مستقرة مع أحدهم.
اصطحبت "عقيلة" ابنتها معها لزيارة شقيقتها القاطنة على مسافة قريبة من مسكنها، فاستقبلتهما الأخيرة بترحاب حار وودود جعل اللقاء بها ممتعًا. جلست الشقيقتان متجاورتان على مصطبة قديمة مجاورة للشرفة، تضحكان في ألفة ومحبة، عاتبت "أفكار" شقيقتها الصغرى بنظرة حانية وهي تشير إلى ما أحضرته معها مما لذ وطاب:
-مكانش ليه لازمة التعب ده، هو أنا غريبة.
أبدت اعتذارها منها بلطافةٍ وهي تربت على فخذها برفقٍ:
-ده أنا مقصرة معاكي ياختي، أديلي زمن ما شوفتكيش.
ثم أعطت ابنتها أمرًا واضحًا:
-قومي علقي على الشاي يا "دوسة".
مسحت الأخيرة على جانبي الثوب الذي ترتديه لتفرده وهي تنهض، وقالت مبتسمة:
-حاضر يامه.
استطاعت الانفراد بشقيقتها بعد أن صرفتها، لئلا تساورها الشكوك وهي تستفيض في الحديث معها. استهلت "عقيلة" كلامها متسائلة بشكل روتيني:
-وإنتي إزاي صحتك دلوقتي؟
أجابت باسمة في رضا:
-في نعمة والحمدلله.
كان التعليق التالي منها مصحوبًا ببسمة مماثلة:
-يستاهل الحمد.
تولت "أفكار" دفة الحديث مجددًا، فمال ناحية شقيقتها تسألها باهتمامٍ:
-مافيش جديد عن بنتك "تهاني"؟
هزت رأسها نافية وهي تجيبها:
-لا لسه، أدينا مستنين منها مكالمة ولا جواب تطمنا بيه على أحوالها.
عاتبتها وهي مقطبة الجبين:
-مكانش لازم تسبيها يا "أم تهاني"، السفر للبنات مش حلو...
ثم خفضت من نبرتها خاتمة جملها بتحذيرٍ أصاب قلبها بارتجافة متوجسة:
-وإنتي أدرى الناس باللي بيحصل ولو غاب الرقيب.
ردت برجاءٍ:
-إن شاءالله ما يحصلش حاجة، أنا اللي مطمني إن العِلم واكل دماغها.
أخفت "عقيلة" قلقها الذي انبثق بداخلها لتنظر إلى ابنتها عندما عادت وهي تحمل صينية بها أكواب الشاي، تكملت الأخيرة باسمة وهي تناول الكوب الزجاجي لخالتها:
-الشاي أهوو يا خالتي...
ثم أعطت والدتها خاصتها، وتابعت مشيرة بيدها الأخرى الطليقة كأنما تشرح لها:
-وابور الجاز عاوز يتصلح، مرضاش يولع خالص.
ارتسم العبوس على وجه "أفكار" وهي تفسر لها سبب عطله:
-ده بقاله يومين على الحال ده، عاوزة أشوف حد يبص عليه، ده إيدي ورجلي هنا، لأحسن مبقدرش أقف على البوتجاز كتير.
من تلقاء نفسها اقترحت "عقيلة":
-نوديه عند "أبو منسي"، هو أجدع واحد يسلك بوابير الجاز.
استحسنت شقيقتها الفكرة، وعاودت النظر إلى "فردوس" عندما وجهت أمها إليها الحديث بصيغة شبه آمرة:
-ابقي جهزيه يا "دوسة" ناخده معانا واحنا نازلين.
أبدت طاعتها المعتادة عندما ردت:
-حاضر يامه.
دعت لها خالتها وهي تبتسم لها:
-نتعبلك كده نهار فرحتنا بيكي يا غالية.
تورد وجهها من الخجل، وقالت وهي تجلس في الخلف على الكرسي الخشبي:
-تسلميلي يا خالتي.
تسامر بعد ذلك ثلاثتهن في مواضيع شتى، دارت غالبيتها حول مشاكل الجيران وأهالي المنطقة، أخرجهن من التفاصيل المتشعبة صوت قرع الجرس، وقتئذ انتصبت "أفكار" في جلستها، فقد سعت بجهدٍ جهيد للتحايل على الظروف المعاندة من أجل خلق فرصة مناسبة لابنة شقيقتها، فإذ ربما يحدث المراد، وتلقى القبول من أحد الأغراب. في التو فردت كتفيها قائلة بلهجة ودية لكنها آمرة:
-قومي شوفي مين على الباب يا "دوسة".
امتثلت لطلبها قائلة وهي تنهض من موضعها:
-حاضر يا خالتي.
استدارت ولم تلحظ النظرات المعقودة على آمال كبيرة تجاهها وهي تتعلق بظهرها أثناء ذهابها بعيدًا عنهما، سارت "فردوس" بتعجلٍ نحو الباب لتفتحه، فتفاجأت بوجود أحدهم يسد عليها الفراغ، له طول فاره، وبشرة وجه سمراء، وشعر قصير فاحم مموج، يرتدي قميصًا مخططًا يجمع بين درجات اللون الأزرق، على بنطالٍ من الجينز. انفرجت شفتاها عن دهشة متعجبة، سرعان ما تنبهت لكونها قد أطالت التحديق فيه عندما بادر مُلقيًا التحية:
-سلام عليكم.
أطرقت رأسها حرجًا وهي ترد:
-وعليكم السلام.
سألها متحاشيًا النظر تجاهها:
-الحاجة "أفكار" موجودة؟
لم تتمكن من الإجابة عليه، حيث أسمعته خالتها صوتها وهي تخبره من الداخل:
-تعالى يا "بدري" أنا هنا.
عندئذ تنحت للجانب لتسمح له بالمرور، فرأته ممسكًا بحقيبة معدنية في يده. خفض "بدري" من صوته مرددًا:
-يا رب يا ساتر.
تقدم ناحية صاحبة البيت التي أتت إليه هاتفًا بنوعٍ من الاحترام:
-إزيك يا حاجة؟
قالت وهي تقترب منه بتعابيرٍ بشوشة:
-في نعمة والحمدلله، مواعيدك مظبوطة يا "بدري".
ضحك معلقًا بعدها في مرحٍ:
-إنتي عارفاني مقدرش أتأخر عليكي.
ربتت على جانب ذراعه تشكره:
-تعيش يا ابني.
سأله مستفسرًا وهو يرفع يده الحرة ليضعها على مؤخرة عنقه كلزمةٍ تلقائية:
-إيه المشكلة؟
أخبرته بقليلٍ من التجهم:
-الحنفية عمالة تنقط، ومش عارفة إن كانت عاوزة جلدة جديدة ولا آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها بعد أن استنبط طبيعة مشكلتها:
-أنا هشوفهالك.
تهللت أساريرها للأمر، وقالت بنظرة غامضة مخاطبة ابنة شقيقتها:
-روحي معاه يا "فردوس"...
قفزت الأخيرة في مكانها مشدوهة للطلب غير المتوقع منها، فبرقت عيناها تجاهها، وظلت على حالتها المصدومة وهي تتابع أوامرها لها:
-وخليكي على إيده لحد ما يخلص، ماتسبيهوش، وشوفي طلباته، لأحسن ركبي شادة عليا، ومش قادرة أقف على حيلي.
لعقت شفتيها الجافتين، ورددت في صوتٍ مهتز:
-حاضر يا خالتي.
سارت في إثره بخطواتٍ متعثرة، تدل على ارتباكها، فلم تختلِ مطلقًا بأحد الغرباء عنها دون وجود أمها إلى جوارها؛ لكن بداخلها استشعرت ترتيبًا خفيًا يتم من أجلها، ويا ليته يأتي بنتيجة مرجوة!
غابت "عقيلة" عن المشهد متعمدة لئلا تسبب الحرج لابنتها، لكنها استرقت السمع من موضعها، رفعت كفيها للسماء، وراح لسانها يدعو في رجاءٍ شديد:
-ربنا يجعل في وشك القبول المرادي.
انضمت إليها شقيقتها وهي تختم دعائها، فقالت هي الأخرى:
-يا رب ياختي.
عمَّ الوجوم على ملامح "عقيلة" فاستطردت في نبرة مهمومة:
-البت دي بختها قليل أوي، وخايفة أموت وأفوتها كده لوحدها، لا سند ولا ضهر.
من فورها ردت "أفكار" بنظرة معاتبة:
-بعد الشر عليكي، متقوليش كده، حسك بالدنيا يا حبيبتي، وبعدين كل شيء قسمة ونصيب، ووقت ما يجي نصيبها محدش هيحوشه.
تنهدت مليًا وببطءٍ قبل أن تضيف، والأمل يبزغ في أعماقها:
-يسمع منك ربنا.
................................................
لم يحدث جلبةً وهو يعمل في صمتٍ لتبديل قلب الصنبور غير الصالح بآخر جديد، انهمك في أداء ما جاء لأجله بتركيزٍ شديد، كأنه جراح يجري عملية جراحية دقيقة، تتطلب كافة طاقته وقدراته، ومع ذلك انتهزت الفرصة لتراقبه بغير حرجٍ، وتتأمله عن قربٍ، الآن تفقه ذهنها لسبب إصرار والدتها على ارتداء أحد أثواب شقيقتها، وكانت ممتنة لذلك، وإلا لبدا مظهرها أقرب للخادمات عن الشابات اليافعات. مسدت "فردوس" على جانبيها بخفةٍ لتفرد ما تجعد من القماش، ثم رفعت يدها للأعلى لتمسح سريعًا على مقدمة رأسها لتتأكد من تسوية شعرها. فتشت بنظراتها سريعًا عن شيء لامع يشبه المرآة، لتلقي نظرة خاطفة على وجهها. انتفضت مرة واحدة عندما تكلم فجأة دون استهلالٍ:
-أنا كده ظبطت الحنفية، وكله بقى تمام.
وكأن لسانها قد علق بداخل جوفها، فاستغرقها الأمر لحظات حتى ترد عليه بابتسامة مشوبة بالخجل:
-تسلم .. تعبناك معانا.
جمع عدته المتناثرة هنا وهناك في صندوقه المعدني، فسألته، وقد تسرب الخجل إلى دمائها، فاندفع مسببًا توردًا خفيفًا في وجنتيها:
-تحب أعملك شاي؟
أجاب بلا تردد وفي التو:
-يا ريت.
سألته مبتسمة وهي ترمش بعينيها:
-كام معلقة سكر؟
قال وهو يستقيم واقفًا:
-تلاتة.
لوهلةٍ شعرت بنظراته تطوف عليها، كأنما تفحصها، وتتفرس فيها، فزاد خجلها وشعورها بالارتباك، إنها مرتها الأولى التي تتعرض فيها لمثل هذه النوعية من النظرات القريبة المهتمة، إحساسها كأنثى مرغوبة جعلها تشعر بالنشوة والسرور، فقلما وجدت من أحدهم ذاك الاهتمام، بسبب استحواذ شقيقتها على كل الانتباه والإعجاب. تضاعفت ربكتها مع قدوم خالتها لتتساءل في مكرٍ:
-إيه الأخبار يا ولاد؟
بلهفةٍ عجيبة أجابت "فردوس"، وقد ملأ الإشراق قسماتها:
-الأسطى "بدري" صلح الحنفية خلاص.
أطلقت "أفكار" ضحكة مرحة قبل أن تمتدحه:
-طول عمره أسطى أد الدنيا.
هتف مجاملًا وهو يسير تجاهها:
-كتر خيرك يا حاجة.
أشارت له بالتحرك وهي تخاطبه:
-تعالى اقعد معانا حلة، أهوو تستريح شوية وتاخد نفسك.
حمحم معترضًا في تهذيبٍ:
-أنا معملتش حاجة تستاهل.
أصرت عليه بتصميمٍ أكبر:
-ودي تيجي، ده إنت في بيتي.
علق باسمًا وهو يسير معها:
-مش هكسرلك كلمة يا حاجة.
توقفت "أفكار" عن المسير لتستدير من جديد نحو ابنة شقيقتها تأمرها:
-وإنتي يا "دوسة" صُبي الشاي وحصلينا.
قالت بوجه متورد بشدة وهي ترمش بعينيها في استحياءٍ:
-حاضر يا خالتي.
أحست "فردوس" بدبيب قلبها المتحمس يتسارع، لم تتخيل أن تنتابها مثل هذه الأحاسيس المتعاظمة لمجرد رؤية أحدهم يُظهر اهتمامًا زائدًا بها، ربما بدا عاديًا للآخرين؛ لكنه معها كان مختلفًا! وضعت كلتا يديها على وجنتيها تتحسس السخونة المنبعثة فيهما، دارت حول نفسها كأنما ترقص فرحًا، ورفعت بصرها للسماء مرددة:
-اجعله بالخير يا رب.
تنهدت مليًا، وأغمضت عينيها محاولة إعادة هذه اللحظات القليلة في ذاكرتها لتنتشي مجددًا، ويا ليت حلمها الوردي يكتمل!
..................................................
ما إن انتهت من إعداد الشاي الساخن وتقديمه للضيف مع بعض الحلوى الشهية، حتى لحقت "فردوس" بوالدتها التي انتظرتها بجوار باب البيت تمهيدًا لذهابهما، فلا داعي لبقائهما بعد انقضاء الموعد المدبر، وكذلك تجنبًا للمزيد من الحرج والتوتر الخجل، ومع ذلك لم تغفل عن اختطاف نظرة أخيرة قبل انصرافها، لتجعل ذكراها ملازمة لها لبعض الوقت. تركت "عقيلة" الساحة لشقيقتها لتكمل ما بقي عالقًا، فاستطردت تتساءل مباشرة بعدما اقتصرت الجلسة عليهما فقط:
-ها عجبتك؟ قول ما تتكسفش، رأيك إيه فيها؟
بترددٍ محسوس في صوته، ومعكوس على ملامحه ونظراته حاول "بدري" المناص من هذا الموقف المراوغ قائلًا:
-أصلي مابفكرش في الجواز دلوقتي.
من فورها سألته وقد قاربت ما بين حاجبيها:
-وحد قالك قوم اتجوز بكرة؟!
همَّ بالاعتراض، لكنها بادرت بإيقافه بإشارة من كف يدها، فالتزم الصمت، حينئذ استرسلت بمكرٍ ناعم لإقناعه:
-بس مافيش مانع تخطب واحدة بنت حلال من أصل طيب، مش طمعانة في حاجة غير حيطة تداريها، وراجل ياخد باله منها.
رفع يده على جانب رأسه ليَهرشه معقبًا:
-مش عارف والله يا حاجة!
استخدمت نفس الأسلوب المحنك في التأثير عليه بترديدها:
-مش عشانها بنت أختي بكلمك عليها، مع إن المثل بيقول أخطب لبنتك وماتخطبش لابنك، بس البت زي العجينة الطرية، تشكلها زي ما إنت عاوز، مش بتاعة مشاكل.
فرقع أنامله مبديًا ردًا محايدًا:
-اللي فيه الخير يعمله ربنا.
أمعنت النظر في وجهه مُضيفة في لطافة وأُلفة وهي تقرب طبق الحلوى منه:
-فكر كده، ورد عليا، وصدقني مش هتندم.
ثم ابتسمت بمحبةٍ، ولم تزد حرفًا، تاركة الفرصة له للتفكير بجدية أكبر في شأن الارتباط بها، مع وعدٍ بردٍ قريب على عرضها، إما بالقبول أو الرفض!
..........................................
لم تعتد بعد على هذا القدر من الإجهاد المتواصل لفترات طويلة، بالإضافة لمحاولتها المضنية للتأقلم مع اختلاف المناخ، وتغيير نمط تناولها للطعام الجيد الذي يعود عليها بفائدة، سرعان ما أحست "تهاني" بالإعياء يجتاحها، ورغم هذا قاومت الاستسلام له، وتابعت انتظام جدول دراستها الذي يلحق به ساعات تدريبها، إلا أن التعب تمكن منها في الأخير. بالكاد كانت تمشي باعتدالٍ وهي تهبط الدرجات لتتجه نحو موقف السيارات، حيث تتواجد العربة المخصصة لإعادتها إلى مكان سكنها.
توقفت لأكثر من مرة واشتدت قبضتها على الدرابزين المعدني المؤدي في نهايته للباحة الخلفية، أدركت أنها لن تستطيع الصمود ما لم تتوجه إلى عيادة الطوارئ الملحقة بالمشفى للاطمئنان على صحتها، سحبت نفسًا عميقًا، واستدارت لتعاود الصعود للأعلى، لم تنتبه في خطواتها لمن اصطدمت به في كتفه وهو يهبط عكسها. اعتذرت منه في التو دون أن ترفع رأسها وتنظر ناحيته:
-أسفة.
جاءها صوتًا رجوليًا متسائلًا بلهجةٍ مصرية:
-إنتي كويسة؟
أجابت باقتضابٍ:
-يعني.
سألها ليتأكد من هويتها الجنسية:
-هو إنتي مصرية؟
نظرت إلى من بدا وكأنه يحقق معها بنظراتٍ مشوشة، وأجابت بزفيرٍ ثقيل أظهر مدى إعيائها:
-أيوه.
وجدت ابتسامة صغيرة تزحف على ثغره وهو يعقب:
-صدفة عجيبة...
باعدت ناظريها عنه لتتأوه بصوت خفيض، فسألها مهتمًا:
-تحبي أساعدك؟
رفضت بلباقة:
-شكرًا، أنا رايحة ناحية الطوارئ.
أصر على الذهاب معها، فوقف إلى جوارها قائلًا:
-طب اسمحيلي أفرض نفسي عليكي وأوصلك بنفسي.
تمسكت برفضها وهي تدير رأسها ناحيته:
-مافيش داعي.
أكملت صعودها؛ لكن الدوار الذي عصف برأسها جعل توازنها يختل، فبادر بإسنادها من ذراعها وهو يحذرها بخوفٍ غير مصطنع:
-خدي بالك.
بدت متحرجة من تصرفها الأخرق، وقالت بصوتٍ خافت:
-أسفة.
رد بصدر رحبٍ متعمدًا التأثير عليها للاستجابة لمطلبه:
-المرض مافيش فيه اعتذار...
ثم مد ذراعه لتستند عليه خلال مشيها، واستطرد بلطافةٍ:
-اتفضلي يا آ...
سألها بعد صمتٍ لحظي:
-ما اتشرفتش باسمك يا فندم؟
وضعت بسمة ناعمة على محياها حين جاوبته:
-أنا الدكتورة "تهاني".
بادلها الابتسام مُعرفًا بنفسه في نبرة تشع ثقة، تلك التي تجبر مستمعيه على تقدير مكانته في الحال دون التحقق منه:
-وأنا د. "مهاب الجندي"، رئيس قسم الجراحة العامة هنا ........................... !!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(الفرحة المرتقبة)
توالت عليها الأيام بطيئة، مستنزفة للأعصاب، ومرهقة للتفكير، فالرد لم يأتِ بعد من ناحية خالتها، مما جعلها فريسة سهلة للهواجس والشكوك، فتنهشها بعمقٍ وتزيد من إحساسها بالخوف والقلق. مرة ثانية، أثناء تواجدها بالمطبخ لمساعدة والدتها في إعداد الطعام، عاد الشرود ليهاجمها، فراحت تقلب الحساء بلا تركيزٍ إلى أن انتبهت لصوت تذمر أمها، فأفصحت لها "فردوس" عما يُحيرها ويملأ صدرها الملتاع متسائلة بقلقٍ:
-تفتكري يامه هعجبه؟
ضجرت "عقيلة" من هذه الأسئلة المستهلكة، فهي لا تكف أبدًا عن الإلحاح وسماع نفس الرد الرتيب، لذا أخبرتها بعد زفيرٍ ثقيل يشوبه الملل:
-ربنا وحده أعلم، بس أدينا بندعي يجعل في وشك القبول، ويراضيكي.
هذا الكلام المطمئن يبث نوعًا من الراحة داخلها، وإن كان مبهمًا، عائمًا، متكررًا، وغير مضمونٍ. لاحت على شفتيها ابتسامة حالمة وهي تسترسل بأريحية معها، كأنما تحادث رفيقة مقربة لها، لا والدتها المتحفظة:
-يـــاه، أما جدع يخطف العين بصحيح، طول بعرض، وعليه طلة إنما إيه!
نهرتها والدتها عن التمادي في الأمر هاتفة بحدةٍ:
-يا بت اختشي! عيب كده!
لوت ثغرها مغمغمة بتبرمٍ:
-يوه يامه، إن مكونتش أفضفض معاكي في الكلام، هفضفض مع مين؟
سرعان ما لانت معها، وقالت وهي تضع ابتسامة حزينة على محياها:
-يا رب يا بنتي يفرح قلبك ويسعدك، إنتي ياما صبرتي واستحملتي.
هزت رأسها معقبة:
-أه والله، راضية بنصيبي وبدعي ربنا إنه يعجله.
طلبت منها أمها وهي تشير بيدها نحو الرف الخشبي المعلق أسفل دولاب المطبخ:
-ناوليني الملح من عندك.
أحضرته إليها قائلة:
-أهوو يامه.
تابع والدتها الحديث إليها، فأضافت:
-عاوزين نجيب ورقة فلفل لأحسن الشوية اللي فاضلين عندي خلصوا.
أكملت عليها مستعيدة في ذهنها ما أمرتها بإحضاره سابقًا من محل البقالة الكائن بالمنطقة:
-ماشي، مع الطحينة، وصابون الغسيل.
-وإزازة خل.
-طيب.
استمرت كلتاهما في العمل بداخل المطبخ إلى أن تحدثت "فردوس" من جديد:
-تعرفي يامه لو كانت "تهاني" هنا مكانتش وافقت على اللي حصل عند خالتي...
سلطت كامل نظراتها على أمها وهي تتم جملتها:
-كان زمانها عقدت الدنيا.
جاء رد "عقيلة" مهمومًا إلى حدٍ ما:
-ربنا يهديها لحالها.
لم تعرِ مشاعر والدتها المزعوجة لغيابها المؤثر فيها اهتمامًا، وواصلت القول:
-هي أصلها باصة في العلالي، عاوزة حد ابن ذوات.
رمقتها "عقيلة" بهذه النظرة الصارمة قبل
-مسيرها ترجع لعقلها، ادعيلها ربنا يرجعها لينا بالسلامة.
تجاهلت ما قالته، وسألتها بوجه متلهف:
-أومال احنا هنعرف الرد إمتى من خالتي؟
عاتبتها في صبرٍ نافد:
-تاني؟!!
مدت يديها لتمسك بها من ذراعها، كما لو كانت تتعلق به، وألحت عليها بتوسلٍ:
-عشان خاطري يامه، ما تجربي تسألي كده خالتي.
سحبت ذراعها من أسفل قبضتيها قائلة بجمودٍ:
-يا خبر بفلوس، بكرة يبقى ببلاش.
أطلقت زفرة طويلة من رئتيها محملة بكل الرجاوات والآمال لتردد بعدها:
-هون يا رب، وقرب البعيد.
...................................................
استفاقت بعد برهةٍ من حالة الوهن التي سيطرت عليها، لتصبح أكثر وعيًا، واتزانًا، وقدرة على السير بمفردها. ابتسمت "تهاني" في خجلٍ وهي ترى مدى الاهتمام والرعاية من قبل ذلك الطبيب الوسيم الذي لم يتردد للحظة في تقديم يد العون لها، عاملها كأنها شخصية استثنائية وغير عادية، على عكس ما توقعت أو دار بمخيلتها من معاملة روتينية فاترة. لن تنكر أن التوقير والاحترام الزائدين من جميع من قابلهما في طريقهما إلى أن استقرت بهذه الغرفة الجيدة أشعرتها بأهميته الكبيرة هنا وبمدى هيمنته، ورغم أنها لم تعرف بعد عنه شيئًا سوى اسمه وطبيعة مهنته بداخل المشفى، إلا أن هذا القدر غير الكافي من المعلومات جعلها في حالة من الفضول لمعرفة المزيد عنه، قاومت رغبتها تلك ريثما تجد الفرصة المناسبة لتقصي أمره دون إثارة الريبة، فالوقت أمامها متاح ووافر.
مرة أخرى اختلست النظرات ناحيته أثناء انشغاله بتدوين شيء ما على اللوح المعدني المعلق على طرف فراشها، أمعنت التدقيق والتفرس في ملامحه، وقسماته، وهيئته البدنية، ومظهره الخارجي الأنيق، كأنما تريد أن تحفر معالمه في ذاكرته، لدهشتها! وجدت فيه هالة غريبة تستحث دواخلها على الانجذاب إليه والإعجاب بشخصه الغامض، فشابٍ مثله وصل إلى هذا المركز الرفيع في هذا المشفى المميز يعني ببساطة أنه ليس بشخصٍ عادي، بل شخصية هامة ذات نفوذٍ وتأثير. رفع "مهاب" رأسه فجأة لينظر ناحيتها، فأمسك بها وهي تتأمله مليًا، مما دفعها لخفض ناظريها في حرجٍ كبير. ابتسم قليلًا، وسألها:
-حاسة إنك أحسن؟
شعرت باندفاع الدماء الفائرة إلى وجنتيها لتبث فيهما سخونة كاشفة لأمرها، قامت "تهاني" بتجلية أحبال صوتها لترد برعشة خفيفة ما زالت ناجمة عن شعورها بالحرج:
-أيوه .. الحمد لله.
أوصاها وهو يستقيم واقفًا ليثبت كل نظره عليها:
-حاولي تاخدي بالك من نفسك أكتر من كده، محدش هينفعك لو وقعتي تاني، وأكيد مش أنا اللي هفهمك الكلام ده يا دكتورة.
رمشت بعينيها قائلة، وهذه البسمة الخجلى تنير قسماتها:
-معاك حق.
تقدم تجاه جانبها من الفراش، فتوترت، وراحت تفرك أناملها معًا في ربكةٍ لا يمكن التشكيك فيها. من خبرته المحنكة في عالم النساء أدرك منذ الوهلة الأولى، ومن طريقة تطلعها إليه، أنها شخصية سهلة المنال، طموحة لِما لا تملك، وتفتقر لتجارب عاطفية قوية وذات بصمة في حياتها، فنجح ببساطة في فرض حضوره وتأثيره الطاغي عليها بأقل مجهود يُذكر، حقًا كانت له طريقته ومهاراته المتفردة في سلب عقول النساء –خاصة الساذجات منهن- وهذا ما استثار نزعة الغرور لديه، لذا تعمد إطالة مدة انشغاله في الكتابة، تاركًا لها كل الوقت لتُملي عينيها منه، مستمتعًا بأول خطواته نحو مطاردة طريدة جديدة سهل الإيقاع بها في حبال آسره. وقف قبالتها وخاطبها وهو ينظر من علوه في عينيها مباشرة، وبطريقة ساحرة شعرت بها تتخللها وتنفذ إليها بسهولة، وتزيد من حالة الاضطراب بها:
-حمدلله على سلامتك.
لم تستطع مجاراته في النظر إليه، وقالت متحاشية تحديقه الذي طال بها:
-شكرًا ليك يا د. "مهاب"، تعبتك معايا، ده غير إني عطلتك وآ...
قاطعها هاتفًا وهو يدس يده في جيب معطفه الطبي:
-ده واجبي، أكون جمب المريض في أي وقت.
اكتفت بمنحه ابتسامة صغيرة ناعمة بعد أن تشجعت لتنظر إليه، فاستغل الفرصة وسألها بمكرٍ:
-بس إزاي إنتي شغالة هنا ومصادفش إني أشوفك ولا مرة؟
لم يكن سؤاله مجرد فضول عابر، سيمضي بعد ذهابها في التو، بل بدا اهتمامًا صريحًا بشأنها لا لَبس فيه، ظلت أنظاره باقية عليها وهو يسألها:
-يعني تخصصك إيه؟
ابتلعت ريقها وأجابته بصوتٍ كان أقرب للهمس:
-أنا مش خريجة طب بشري.
نظر لها صامتًا، فتابعتٍ موضحة:
-أنا اتخرجت من علوم، وجاية هنا تبع البعثة المصرية، تقدر حضرتك تقول دراسة وتدريب.
مط فمه في إعجابٍ قبل أن يتكلم:
-برافو، هما هنا مش بياخدوا غير الأكفأ.
أحست بتناقص توترها مع أسلوبه السلس المرن في التحاور معها، ناهيك عن مزجه بشيءٍ من الودية والغزل المستتر، مما استحث مشاعر الأنثى القابعة بداخلها لتنفض الغبار عنها وتتيقظ، خاصة حين استأنف في وداعةٍ:
-وأنا حظي حلو إني شوفت طالبة نجيبة زيك.
قالت وهي ترفرف بأهداب جفنيها:
-شكرًا على ذوق حضرتك.
اشتم رائحة شوقها لسماع ما يزيد من شعورها بالإطراء، فصار على النفس النهج قائلًا:
-دي مش مجاملة، المستشفى هنا مابيقبلش يشغل فيه إلا المَهرة وبس.
بقيت محدقة في وجهه وهو لا يزال يخاطبها:
-وأظنها فرصة حلوة ليكي عشان تثبتي نفسك.
علقت بتلقائية:
-أنا بعمل اللي عليا.
انتفضت بجسدها كليًا حين مد ذراعه فجــأة نحوها، ليزيح بيده هذه الشعرة الملتصقة بجبينها هامسًا:
-كده أحلى.
توترت، وارتكبت، وتملكها القلق، رفعت يدها المرتعشة لتسوي مقدمة رأسها، وسألته:
-هو مسموح إني أخرج؟
أجاب في الحال:
-أيوه.
هزت رأسها بخفةٍ، ثم أزاحت الغطاء الأبيض عنها لتخفض ساقيها، باحثة عن حذائها لترتديه، كم شعرت بالخجل حين رأت كيف يبدو مظهره في قدميها وضيعًا، رخيصًا، لا يليق بها! بلعت غصة مريرة في حلقها، والتفتت للجانب عندما سألها "مهاب" مهتمًا:
-قوليلي، في حد موجود يوصلك؟
نهضت واقفة وهي تجيبه:
-أنا هشوف مواصلة ترجعني السكن.
ثم تقدمت نحو الباب بعدما علقت حقيبتها على كتفها؛ لكن "مهاب" في التو تحرك صوبها ليعترض طريقها ويستوقفها بجسده قائلًا بصيغةٍ شبه آمرة، ويده مرفوعة قليلًا في الهواء:
-أنا هوصلك في طريقي.
تمسكت برفضها قائلة:
-لا مايصحش، كفاية إني عطلت حضرتك وضيعت وقتك.
أطلت من عينيه لمعة ماكرة أتبعها قوله المليء بالإصرار:
-أنا مصمم.
اعترضت بحرجٍ:
-بس آ...
وضع هذه الابتسامة المرسومة بعناية على زاوية فمه قبل أن يقاطعها بهدوءٍ لكنه يضم الحزم:
-مش هاقبل بالرفض!
انصاعت صاغرة له، وأطرقت رأسها حياءً، رغم أنها في أعماقها كانت تبتهج سعادة، لكونها –كأنثى- أصبحت ذات تأثيرٍ، وإن كان ما زال محدودًا، على صنف أمثاله من الرجال.
...............................................
تعمدت أن تسير على مهلٍ لتستطيل مدة مشيهما معًا، فتتمكن من الحديث معه أكثر، وتستعلم منه عما لا تعرفه بعد. توقفت بجوار سيارته، فراحت تتأملها بعينين منبهرتين، فقد ابتاع الطراز الأحدث من هذا النوع، شتت نظراتها عنها عندما تكلم أحدهم بصوتٍ مرتفع ولافت من مسافة قريبة منهما:
-لا مش ممكن، الدنيا فعلًا زي ما بيقولوا صغيرة.
استدارت لتنظر تجاه صاحب الصوت المألوف، فرأت "ممدوح" قبالتها، يمد يده لمصافحتها وهو يسألها باسمًا:
-إزيك يا دكتورة "تهاني"؟
توترت للحظةٍ، واختطفت نظرة سريعة تجاه "مهاب" قبل أن ترد وهي تمد يدها تجاهه:
-أهلًا بحضرتك يا دكتور "ممدوح".
حلَّ القليل من الوجوم المشوب بالضيق على قسمات وجه "مهاب"، وتساءل باستغرابٍ:
-إيه ده؟ هو إنتو تعرفوا بعض؟
ضحك مستمتعًا قبل أن يخبره بتلميحٍ لئيم، كان متأكدًا أنه سيثير نزعته التملكية:
-طبعًا دكتورة بالرقة دي صعب تتنسى.
رمشت بعينيها مرددة ببسمة مجاملة:
-شكرًا لذوقك...
غام وجه "مهاب"، وبدا وكأنه غير راضٍ عما قيل، فتوجست خيفة من إنهاء معرفته بها قبل أن تتوطد جيدًا، لكونه يظن أنها على علاقة بغيره، لذا حاولت تفسير الموقف من تلقاء نفسها بقولها الموضح:
-هو احنا فعلًا اتقابلنا صدفة في المطار، لما كنت جاية على هنا.
مال "ممدوح" ناحيتها قليلًا ليضيق عينيه معقبًا في عبثيةٍ غير مريحة:
-وأنا شكلي هحب الصدف اللي دايمًا بتجمعنا ببعض.
صراع البقاء للأقوى لاح بينهما، خاصة فيما يخص تأثيرهما على الصنف الناعم، فأضاف "مهاب" هو الآخر مبتسمًا ابتسامة لا معنى لها:
-نسيت أقولك يا دكتورة "تهاني"، "ممدوح" ده صاحبي من زمان، عِشرة عمر.
تحرك الأخير من موضعه، ليقف مجاورًا لـ "مهاب"، ضم كتفيه بذراعه، وتبسم قائلًا:
-طبعًا، احنا يعتبر أكتر من الإخوات، ما بنفرقش بعض إلا قليل أوي، وكل حاجة تقريبًا بنعملها سوا.
أزاح "مهاب" ذراعه عنه، وأعاد ضبط سترته، وياقة قميصه، ليستأنف "ممدوح" كلامه الموجه إلى "تهاني" متسائلًا في فضولٍ محير:
-بس إيه لم الشامي على المغربي؟ يعني آخر مكان كنت أتوقع أشوفك فيه هنا.
استفاضت مجيبة:
-أنا تدريبي هنا في المستشفى، ود. "مهاب" شافني تعبانة شوية فساعدني.
سدد "ممدوح" نظرة موحية، ذات بُعد مفهوم، لرفيقه وهو يعقب:
-طول عمره بيحب عمل الخير، وما يتأخرش عنه ... أبدًا!!
لا يعرف إن كان يقصد بكلماته تلك مدحًا أم ذمًا أم سخريةً مبطنة؛ لكن "مهاب" تجاوز عنها ليقول في شيءٍ من الرسمية:
-بينا يا دكتورة عشان أوصلك ترتاحي.
في التو اعترض "ممدوح" طريقهما ليستوقفهما قائلًا بعبوسٍ مصطنع:
-إيه ده؟ هتمشي كده من غير ما نقوم معاها بواجب الضيافة؟ إنت عاوزها تقول علينا يا "مهاب" بخلا؟
تفاجأت "تهاني" من اقتراحه، لم تكن مستعدة للذهاب بهذه الهيئة، لذا حاولت الاعتذار مرددة بحرجٍ:
-لا مافيش داعي خالص، أنا آ...
رفع سبابته أمام وجهها مقاطعًا إياها بإصرارٍ رغم لطافة نبرته:
-مش هاقبل بالرفض، ده حتى زي ما بيقولوا عندنا في مصر يبقى بينا عيش وملح.
ثم خاطب "مهاب" مبتسمًا:
-عيب نكسف ضيفتنا.
نفخ في سأمٍ، وسأله:
-هتودينا فين يا "ممدوح"؟ بما إنك الخبير هنا!
أجابه بعد صمتٍ خفيف:
-في مطعم تحفة فاتح قريب من هنا، الكل بيشكر فيه، إيه رأيكم نجربه؟
مط فمه قليلًا، وعلق في شيءٍ من التحدي:
-معنديش مانع، بس الحساب عندك.
دون تفكيرٍ قبل بالعرض مردفًا، ونظراته كلها صوب ضيفتهما:
-وماله.. إكرامًا للدكتورة "تهاني".
.................................................
انحنت تنظر بعينين متأففتين لرفوف الثلاجة الفارغة، ثم مدت يدها لتمسك بعلبة بلاستيكية، انتزعت غطائها واشتمت ما بداخلها، فأصيبت بالاشمئزاز، وانقلبت معدتها شاعرة بالغثيان، استقامت "ابتهال" واقفة بعدما أغلقت الباب، لتمشي بالعلبة تجاه سلة القمامة، أفرغت محتوياتها بداخلها، ثم اتجهت نحو الحوض لتغسلها وهي تُحادث نفسها بعفوية:
-عاوزين نشوفلنا أي بقالة قريبة مننا، أنا عارفة بيسموها إيه..
وضعت العلبة جانبًا بعد تنظيفها، وهي لا تزال تتكلم بصوتٍ مسموع:
-المهم نجيب منها حاجات تنفع تتاكل بدل ما الواحد بيفضل على لحم بطنه كده بالساعات.
جففت كلتا يديها في جانبي قميص البيت الذي ترتديه، وقالت بإيماءة خفيفة من رأسها:
-المفروض الحساب يكون بالنص، ما أنا مش هاكل لواحدي، هي أكيد هتجوع زيي.
اختمرت الفكرة برأسها، وتحمست لتنفيذها قائلة بتصميمٍ:
-لما ترجع أبقى أكلمها.
سارت نحو الشرفة، نظرت من خلف الزجاج بعدما أزاحت الستارة قليلًا، وتساءلت في تحيرٍ:
-بس هي اتأخرت ولا أنا اللي جوع مخليني أحس إن الوقت طويل؟!!
.................................................
كانت مأخوذة ومبهورة بكل ما يحدث معها في مباراة جذبها لاتخاذ جانب أحد الطرفين، لم تنكر أنها شعرت بالانتشاء لرؤية كليهما يتباريان عليها رغم معرفتها المحدودة بهما، نحت شكوكها جانبًا، متجاوزة عن الطريقة المراوغة والمثيرة التي يتخذاها معها، والتي تحفز شعور الاسترابة بداخلها، إلا أنها منحت التبرير المنطقي لنفسها بأن مثلهما لا يقارنان بمن عرفت سابقًا من ذوي التطلعات المحدودة والقدرات المادية المعدومة، هما أكثر تباهيًا وغطرسة، وهذا ما أثار اهتمامها بهما. لم تكن لتقبل بحياة الشقاء والعوز، مما دعم –بقوة- اختيارها المستقبلي في حصر المنافسة بينهما.
عادت إلى الطاولة الجالس عليها ثلاثتهم بعد أن ضبطت هيئتها بحمام المطعم، لتجدهما في انتظارها، وقائمة الطعام موضوعة أمام موضع جلوسها. نهض "مهاب" ليسحب المقعد قليلًا حتى تجلس، فابتسمت لطريقته المهذبة في التعامل معها كسيدةٍ راقية، أمسكت بالقائمة بيدين ترتعشان قليلًا، خاصة حينما وقعت نظراتها على الأسعار؛ شتت تركيزها اللحظي صوت "ممدوح" حين خاطبها:
-اطلبي اللي عاوزاه يا دكتورة...
هزت رأسها مواقفة وهي تزين وجهها ببسمة لطيفة، فتابع بمكرٍ، وهو يختطف نظرة سريعة نحو "مهاب"، كأنما يتعمد إغاظته:
-ولو حابة نصيحتي جربي الطبق ده، هيعجبك جدًا.
ثم أشار بإصبعه نحو أحد الأصناف، فقالت وهي تغلق القائمة:
-طالما ده رأي حضرتك، فأنا واثقة فيه.
كان "مهاب" يصغي إليهما بملامحٍ فاترة، كاشفًا حيلة رفيقه المفهومة لاستدراجه نحو المنافسة عليها، فكلاهما يتشاركان في سمة غير طيبة، الإيقاع بالنساء واللعب على مشاعرهن المرهفة لجرهن نحو شباك العشق الآثم. أغلق قائمة الطعام، واضعًا إياها جانبًا، وعلق باسمًا:
-"ممدوح" في الأكل ما يتوصاش، عارف إيه الصنف المناسب، اللي يعجبك وياخد العقل.
بادله الابتسام قائلًا بلهجةٍ فهم مضمونها:
-خبرة بقى.
إكثار الحديث بهذه الطريقة أمامها قد يجعلها ترتاب، وتتخذ حذرهما من كليهما، لذا غير "مهاب" من مجرى الحوار، وسألها في اهتمامٍ:
-قوليلي أخبار الدراسة إيه؟
ردت بإيجازٍ:
-ماشية الحمدلله.
انتصب بكتفيه مؤكدًا عليها:
-لو محتاجة مساعدة أو توصية فأنا موجود، معارفي هنا كتير.
علق عليه "ممدوح" فيما بدا وكأنه حسدًا:
-طبعًا، نفوذ وسُلطة، وكل حاجة.
سأله مستفهمًا بمزاحٍ:
-دي غيرة ولا حقد؟
لم يخفِ عليه نواياه عندما أفصح:
-الاتنين.
ضحك "مهاب" عاليًا فاندهشت "تهاني" من ردة فعله، توقعت أن يغضب، أن يظهر انزعاجه؛ لكنه كان هادئًا للغاية، سجالهما التنافسي ليس معتادًا عليها في هذه الأوساط، فتساءلت وعلامات الحيرة تغطي ملامحها:
-هو إنتو على طول كده؟ زي...
ترددت قبل أن تختتم جملتها بحرجٍ:
-ناقر ونقير.
شرح لها "مهاب" ببساطةٍ وهو يميل بجسده ناحيتها:
-ما أنا قولتلك احنا عِشرة عمر، اتربينا وكبرنا سوا.
قالت وهي تخفض بصرها متحرجة من اقترابه اللافت:
-ربنا يديم الصداقة دي بينكم.
مرة ثانية، وعند هذا القرب، سألها "مهاب" في صوتٍ جاد، ونظراته المهتمة تحتويها:
-مرتاحة في السكن؟ ولا تحبي نكلملك حد يغيرلك المكان؟
شعرت وكأن الحظ يبتسم لها، يفتح ذراعيه لاستقبالها، فمن النادر أن يتودد أحد الأثرياء لفتاة فقيرة شبه معدمة، لا تملك من متع الدنيا سوى حظًا في التعليم، وقدرًا معقولًا من الجمال، بالكاد حافظت على تحمسها، وحمحمت مرددة بحرجٍ:
-لأ، كله تمام.
أكد لها بنفس النبرة:
-مش كلام صدقيني، أنا كلمتي مسموعة هنا.
أحس "ممدوح" أن كفة المنافسة تميل لصالح خصمه، فصاح منهيًا ما بينهما من حوار جانبي:
-بيتهيألي ننادي على الجرسون عشان جوعنا.
اعتدل "مهاب" في جلسته، وقال مسترخيًا:
-وماله .. اطلب لنا على ذوقك يا "ممدوح".
أراح ظهره للخلف مثله، وأخبره بهذه الابتسامة اللئيمة:
-أكيد .. وأنا ذوقي دايمًا مميز ومختلف.
........................................................
خشيت أن تهوي من سماء أحلامها الوردية على أرض الحياة الواقعية، فيُكسر قلبها، ويتحطم ما نشأ بداخلها. ظلت تكتم ما يضرم في صدرها من مشاعر متلهفة، وأحاسيسٍ متصارعة، داعية الله سرًا أن يحدث المراد، وتلقى القبول. ما إن جاءتها البشرى حتى أطلقت العنان لحنجرتها لتزغرد بلا توقف، وكما لم تفعل من قبل. حذرتها "عقيلة" من الإسراف في التعبير عن فرحتها بقولها الجاد:
-يا بت استني لما الموضوع يكمل، داري على شمعتك.
كل ما فات وانقضى من عمرها قبل هذه اللحظة الفارقة لم تحزن عليه، فقد غلبت عليها فرحتها، وأنستها ما مرت به من شعور جارح بالنفور والإهمال، لذا باحت لها بلا ترددٍ:
-يامه مش قادرة أمسك نفسي، ده أنا الفرحة مش سيعاني.
مرة ثانية شددت عليها بخوفٍ:
-بدل ما تتحسدي.
تفهمت مقصدها وقالت على مضضٍ:
-ربنا يستر ويكملها على خير.
ومضة خافت صدحت في عقلها لتذكرها بلقائها العفوي معه، فتخيلت نفسها إلى جواره، كزوجته المخلصة، يُلاطفها، ويتودد إليها، ويملأ أذنيها بمعسول الكلمات ليستطيب قلبها، لم تشعر بابتسامتها وهي تتشكل بوضوح على محياها، ولم تبددها كذلك، تركتها تزيد من الإشراقة التي أنارت وجهها، وجعلتها تبدو أصغر من عمرها، أتفعل الفرحة بالمحب ذلك؟ أتبدل حاله من شيء لآخر؟ قفزت في مكانها تطلب من أمها بحماسٍ:
-أنا عاوزة أنزل أشتري قماش جديد من عند بتاع المانيفاتورة، عشان أفصله فستان عند الخياطة، بس يكون حاجة كده ألاجة وآخر منجهة.
هزت رأسها معقبة عليها:
-ماشي، دي أمرها سهل، السوق فيه كام تاجر معروفين ببضاعتهم الحلوة.
أحست بنفسها تملك سمة من سمات الأنثى المثالية، فبدت مهتمة للغاية بالظهور في مظهر الكمال والجمال، أشارت بإصبعها متابعة:
-وهشوف جزمة حلوة من بتوع "تهاني" ألبسها، بس يا ريت تيجي مقاسي.
اقترحت عليها أمها بجدية:
-لو واسعة نحطلها فرشة.
وافقتها الرأي، وقالت وهي تحاول تجسيد ما تتخيله بحركات عشوائية بكلتا يديها:
-أيوه، وكمان عايزة أعمل شعري، وأفرده زي ما الممثلات بيعملوا.
ضحكت "عقيلة" من طريقتها الطريفة في الوصف، بينما استمرت "فردوس" بالتحليق في خيالاتها الفسيحة كاتساع الفضاء بترديدها المتفاخر:
-أنا مش هستخسر في نفسي حاجة نهائي، ده يوم مايتعوضش.
زمت شفتيها هاتفة:
-وماله ..
ارتفع صوت إحداهن من المنور الخارجي مناديًا بعجالةِ:
-يا "دوسة! يا "دوسة"!
انزعجت "عقيلة" من هذا الصخب، وتساءلت في تبرمٍ:
-ياختي مين بينادي كده؟!
اشرأبت ابنتها بعنقها لتنظر من فتحة الشباك الموجودة في المطبخ، رأت جارتهما بالأسفل تلوح لها بيدها، فأشارت لها لتكف عن النداء، ثم خاطبت أمها دون أن تنظر تجاهها:
-دي "إجلال" يامه.
على مضضٍ طلبت منها والدتها وهي تجر المقعد القصير لتجلس عليه بعدما راحت عظام ساقيها تئن من كثرة الوقوف:
-شوفيها عاوزة إيه.
-طيب.
قالت كلمتها الموجزة وهي تفتح الشباك سائلة إياها بصوتٍ حائر:
-خير يا "إجلال"؟ بتنادي كده ليه؟
أجابت بإشارة من يدها:
-ليكم جواب مع البوسطجي عند البقال.
استغربت مما قالت، ورددت بحاجبين معقودين:
-جواب!
هنا هبَّ "عقيلة" واقفة، وخرج من جوفها صيحة مليئة بالشوق:
-يبقى أكيد من أختك...
غلبتها لهفتها إليها، فصاحت تأمر ابنتها بحدةٍ:
-انزلي أوام هاتيه قبل الراجل ما يمشي.
تركت ما تفعله، وقالت بوجهٍ مال للوجوم:
-على طول يامه.
تبعتها "عقيلة" بخطواتٍ شبه بطيئة، وهي تُحادث نفسها في عتابٍ خافت:
-أخيرًا افتكرت إن ليها أم تسأل عليها.
.................................................
صارت شاردة، واجمة، ترسم التعاسة علامتها على وجهها الحزين وهي تستحضر في ذاكرتها الأوقات الأخيرة التي جمعتها بابنتها قبل أن تقرر الرحيل والسفر وراء الأحلام المستحيلة. مسحت "عقيلة" دمعة نافرة من طرفها، وسحبت نفسًا عميقًا لتطفئ به لهيب شوقها إليها، أثناء استماعها لما كتبته "تهاني" في مكتوبها الورقي إليها، حررت أنفاسها المختنقة، لتتساءل من جديد:
-يعني صحتها كويسة؟
أخبرتها "فردوس" وهي تطوف بعينيها على الأسطر في تعجلٍ:
-أيوه يامه، ما أنا قولتلك إنها كاتبة إنها بخير، وأعدة في مكان حلو.
جاهدت لإخفاء عِظمة لوعة اشتياقها؛ لكنها لم تستطع، فمشاعرها الأمومية طغت عليها، سألتها بصوتٍ شبه مختنق:
-هتنزل إمتى؟
انتظرت لهنيهة قبل أن تجيب:
-مش كاتبة.
لاحقتها بفيض أسئلتها تباعًا:
-طب بتاكل كويس؟ ونومتها مرتاحة فيها ولا لأ؟ وفي حد بيساعدها إن احتاجت حاجة، ولا سايبنها كده؟ وشغلها ودراستها؟
ردت باقتضابٍ:
-كله تمام يامه.
سئمت من إيجازها، فهتفت بها بضيقٍ:
-يا بت اقريلي المكتوب تاني بالراحة خليني أفهم بدل ما أنا باخد الكلام منك بالقطارة.
أخبرتها بصوتٍ محتج:
-تاني يامه؟ طب ما أنا بجاوب على اللي بتسأليني عليه.
نفخت عاليًا، وأمرتها بنبرة اخشوشنت نسبيًا:
-اقري بس، ده هيتعبك في إيه؟!!
حكت جبينها وقالت مستسلمة:
-ماشي، اسمعي يامه.
انتهت من إعادة قراءة ما جاء في رسالتها، لتتضرع بعدها "عقيلة" بقلبٍ واجل، ولسانٍ لاهج:
-ربنا يردك بالسلامة يا "تهاني".
ظلت "فردوس" تتطلع إليها بغير اهتمام، ربما كانت تفتقد وجودها؛ لكنها في نفس الآن تذكر كيف تصبح مهمشة في حضورها، كأنها غير مرئية من الجميع، إحساسها بأنها أصبحت مطلوبة ومرغوبة عزز في نفسها مشاعر الغيرة والتنافس. ودَّت فقط أن تختفي عن المشهد، وألا تعود ريثما يتم زواجها، فمن الأفضل أن تحصل على أي لقبٍ غير أن يقال عنها المرأة العانس! أحضرتها من تفكيرها المشحون نبرة والدتها المتسائلة:
-هي مش حاطة رقم تليفون نطلبها عليه من السنترال؟
قلبت المظروف على جانبيه قبل أن يأتيها جوابها حاسمًا:
-لأ، مش مكتوب.
ساد التجهم على تعابير أمها وقالت بصوتٍ مال للانكسار:
-جايز تكلمنا من نفسها.
بفتورٍ غير مبال أخبرتها وهي تطوي الرسالة بمغلفها معًا:
-أيوه.
على حسب فهمها لطبيعة شخصية شقيقتها، كانت متأكدة أنها لن تفعل ذلك إلا أن انتقص عليها شيء، حينها فقط ستكلف نفسها العناء وتخاطب أمها لتطلب المساعدة، والأخيرة لن تفكر مرتين لإعطائها ما تريد، فهي المفضلة دومًا لديها، أما هي فتأتي في المرتبة الثانية في كل شيء!
........................................
-اتأخرتي ليه؟ ده أنا مستنياكي من بدري.
صاحت "ابتهال" بهذه العبارة وهي تقف عند عتبة باب المسكن لاستقبال شريكتها، كأنما تقوم بدور ولي أمرها، خاصة بعدما رأتها تترجل من هذه السيارة الفارهة، وأحدهم يخاطبها بألفة غريبة. لم تكن لتترك الأمر يمضي هكذا دون أن تشبع توقها لمعرفة أدق التفاصيل؛ لكنها لم تنطق بشيء، مبدية بوجهها ضيقًا واضحًا لملاحقتها السمجة. تجاهلتها "تهاني" عن قصدٍ، وولجت للداخل نازعة عنها حذاء قدميها، فتبعتها الأولى تتأملها بفضولٍ وهي تهتف من ورائها:
-يا "تهاني" أنا بكلمك، إيه اللي آخرك برا؟
نبرتها الحادة أزعجتها للغاية، فقالت بوجومٍ:
-بطلي دوشة، عاوزة أرتاح.
ثم استلقت على الأريكة في استرخاء، وراحت تتنهد مليًا، بعدما حلت شعرها، وتركته ينساب بتحررٍ على كتفها، شردت مبتسمة، محاولة فصل عقلها عن الواقع الحالي، لتسبح في لقاء الأحلام الذي كانت جزءًا منه قبل قليل، لفت خصلة من شعرها حول إصبعها، وراحت تعبث بها في نفس الملامح المستكينة الناعمة، ونظرات "ابتهال" الفضولية تشملها، إلى أن استحثها تطفلها السمج على اقتحام خصوصيتها والإلحاح عليها بأسئلتها:
-إنتي شكلك مبسوط وآخر روقان، أومال مين اللي وصلك ده؟ حد نعرفه؟
نظرت لها باستعلاءٍ قبل أن ترد في صيغة متسائلة:
-وإنتي هتعرفي ولاد ناس منين؟
شعرت بقدرٍ من الضيق لإهانتها المتوارية، وردت عليها كطلقة سهم مصوبة في صدر أحدهم:
-هو أنا جاية من الشارع، ده أنا تخصص حشرات، والأولى عن دفعتي، والكل ما بيصدق يشوفني عشان يكلمني، وآ...
قاطعتها رافعة يدها لها لتكف عن الثرثرة الفارغة:
-خلاص مش عاوزة أسمع حاجة.
زفرت بتكاسلٍ، ونهضت من مكانها متجهة إلى الحمام، ومع ذلك لم تتركها "ابتهال" لحالها، تبعتها كظلها وهي تسترسل:
-لأ بس العربية فخمة الصراحة، تجيلها بكام دي؟
كعادتها حين لا تتوقف عن الكلام تسد "تهاني" أذنيها عنها، وتقوم بما تفعله في صمتٍ تام، حيث فرغت من غسل وجهها وكفيها، وخرجت من الحمام معها منشفتها، لتذهب إلى غرفتها، وصوتها اللحوح يلاحقها، أبقت على برودها معها، واستمرت تُوضِّب ثيابها، وتجمع ما يحتاج للغسيل جانبًا، لتعلمها في النهاية:
-اعملي حسابك أنا مش رايحة معاكي بكرة.
تقطب جبين "ابتهال" باستغرابٍ آخذٍ في التزايد، وسألتها وهي تبدو مندهشة بشدة:
-ليه؟ أدوكي أجازة؟
ظهر الغرور على محياها حين أجابتها:
-لأ، في عربية مخصوص هتوديني وتجيبني من المستشفى.
شهقت في ذهولٍ قبل أن تهلل:
-إيه ده! عربية مخصوص؟ سيدي على الدلع كله.
ثم التصقت بها كالبق طالبة منها بسخافةٍ:
-طب ما تاخدي أختك حبيبتك معاكي، بدل العطلة والدوخة اللي ببقى عليها كل يوم، وفي الآخر الواحد يروح مأريف، ويرجع مفرهد.
نظرت لها بنفورٍ، قبل أن تدفعها بعيدًا عنها، لتزيح الغطاء عن جانب الفراش، أشارت لها بيدها قائلة وهي تستعد للتمدد عليه:
-أنا عاوزة أنام، ممكن تطلعي برا.
بقيت مجاورة لها، تسألها بتحيرٍ:
-مش هنجيب أكل؟ ده أنا واقعة من الجوع.
تثاءبت وهي ترد:
-اطلبي إنتي لواحدك.
رفضت "ابتهال" الذهاب قبل أن تخبرها كذلك بما فكرت فيه باكر:
-طب بقولك إيه في حاجات كتير ناقصة عاوزة أشتريها هتنفعنا، وآ...
قاطعتها بعدم اهتمامٍ:
-بعدين، أنا مش فايقة، اقفلي الباب وراكي.
بالكاد انزاحت من غرفتها لتغمغم في صوتٍ مسموع، ومصحوبٍ تنهيدة طامعة:
-اوعدنا يا رب بمعارف تقال زي اللي بتعرفهم "تهاني" يا رب.
رفعت الأخيرة رأسها عن الوسادة لتتطلع إلى أثرها بعدما غادرت غرفتها، ساد على وجهها تكشيرة نافرة منها وهي تنهض سريعًا لتغلق الباب في التو، قبل أن تفكر في العودة وتزيد من إزعاجها بأسلوبها غير المستلذ. استندت بيدها على الإطار الخشبي وابتسامة ناعمة تشق طريقها إلى شفتيها مع تذكرها لمدى الراحة التي كانت عليها وهي بصحبة ذلك الجراح، كان لطيفًا معها للغاية، ودودًا لدرجة أبهرتها، وجعلتها تتمنى أن تكون وثيقة الصلة به؛ لكن نغص عليها صفو لحظاتها المميزة النظرات الغريبة المتبادلة مع رفيقه، ورغم ذلك لن تنكر أنها انجذبت إلى أسلوبه المثير في تحفيز من حوله، احتارت، وتحيرت، وتخربطت أفكارها، فلم تجهد عقلها بالمزيد من التفكير التحليلي، واكتفت بالاستمتاع بما عاشته كأميرة مدللة لهذا اليوم، عادت إلى سريرها تتبختر في مشيتها وهي تدندن بخفوتٍ، وآمالها العظيمة قد طارت محلقة في الأفق البعيد:
-بكرة يا دُنيا، نلف الدُنيا .......................................... !!
..................................................
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(مكرُ الثعالب)
تراصت المقاعد الخشبية المستأجرة بمحاذاة الحيز الشاغر في صالة المنزل بعدما تم إزاحة معظم الأثاث، ليكون ملائمًا لاستقبال الضيوف في هذه الليلة المميزة. كما تولى أحدهم تعليق الزينات والأنوار البراقة، وأضاف آخر حاملًا من الورد وضعه بين الأريكتين المخصصتين لجلوس العروسين في منتصف الحضور. أشرفت "عقيلة" على غالبية من تطوع للمساعدة في إنجاز ما ينقص، وتولت بنفسها تجهيز قوالب الحلوى، وتحضير الشربات والعصائر الطازجة، في حين قامت شقيقتها "أفكار" بتقطيع الفواكه، وحشو الشطائر بقطع الجبن واللحم لتوزيعها على المدعوين، بينما جلست "فردوس" بداخل الغرفة لتقوم جارتها "إجلال" بمعاونتها في تزيين وجهها بمساحيق التجميل.
توافد المدعوون بعد صلاة العشاء تباعًا، وقامت إحداهن برفع صوت المذياع على أغاني الأفراح الطربية، مع إطلاقها لعدة زغاريد مبتهجة، كنوعٍ من الاستعداد لاستقبال عائلة العريس، فقد كانت والدته في المقدمة، واضعة ابتسامة متكلفة على محياها، بدت وكأنها غير راضية عن هذه الخطبة، استقبلتها "عقيلة" بترحيبٍ حار، وأجلستها على الأريكة المجاورة للعروسين، ثم صافحت العريس، وشقيقه الأكبر، وأشارت لإحدى الفتيات بإبلاغ العروس بوصول خطيبها. تعالت أصوات الزغاريد الفرحة المصحوبة ببعض التصفيقات، ليتزاحم الحضور بعد بضعة دقائق انتظارًا لخروج العروس من الداخل.
تحرك "شفيق" من مكانه ليجلس مجاورًا للعريس، مال عليه، وهمس له بشيءٍ من الغل:
-ملاقتش إلا دي يا "بدري"؟
ضغط على شفتيه للحظةٍ، ثم أخبره بعد زفرة سريعة:
-على أد ظروفي.
خاطبه بحقدٍ يملأ صدره:
-يا ابني إنت تستاهل أحسن من كده، دي أختها صعب، وعملت فيا اللي ما اتعمل، وفي الآخر طردتنا.
بناءً على تعامله الشخصي معها، وحديث خالتها "أفكار" عن طبيعتها المسالمة، كان مدركًا إلى حدٍ كبير للفارق بين كلتيهما، لذا رد مدافعًا عنها:
-"فردوس" غيرها.
أصر على رأيه هاتفًا بتصميمٍ:
-الدم واحد، اسمع مني...
لم يبدُ "بدري" مقتنعًا بما يفوه، فلجأ إلى إخباره بنوعٍ من الذم:
-ده غير إن شكلها مش أد كده، في ألف واحدة أحلى منها بكتير.
ظل مطرقًا رأسه وهو يرد:
-أهوو النصيب.
انتقل الشقيق الأكبر من موضعه ليجلس في الجهة المقابلة لشقيقه، وتساءل باسمًا:
-بتكلموا عن مين كده؟
حذره "شفيق" بقدرٍ من التهكم:
-أخوك اللي عملنا فيها شيخ هيوعظنا دلوقت.
تكلم "عوض الله" منتقدًا وصفه المسيء إليه:
-هو عشان بقول كلمة الحق أبقى وحش؟
طالعه "شفيق" بنظراتٍ ناقمة قبل أن يعلق عليه بتحيزٍ:
-يا سيدي بدل ما تركز معانا شوفلك شغلانة عدلة تاكل منها عيش بدل لفك اللي على الفاضي.
للحظةٍ سكت "عوض الله" متحفظًا على كلامه، فقد ارتضى بالعمل نهارًا في وظيفة بسيطة كساعٍ بين المكاتب بالمنطقة الأزهرية، بالإضافة لقيامه بإنهاء الناقص من الأوراق الرسمية لمن يعجز عن إنجازها في مقابلٍ زهيد، أما ليلًا فكان يلازم المقرئين خلال إحيائهم الليالي الدينية إما في مناسبات عامة أو في سرادقات العزاء، ليختتم يومه بالذهاب إلى المسجد لسؤال إمامه عما ينقص من أعمال ليؤديها هو برضا وحبور. لما طال صمته ظن "شفيق" أنه أصاب هدفه، فتمادى في التقليل من شأنه ليرد عليه أخيرًا بتريثٍ:
-أنا بخدم عباد الله، وطالما ربنا سخرني أقضي مصالح الناس ليه أتبطر على النعمة.
سخر منه بلمحةٍ هازئة:
-يعني إنت عاوز تقنعني إن اللي إنت بتعمله ده بالكام مليم دول اسمه شغل؟
رد مبتسمًا وهو يرفع كفيه للسماء:
-فضل ونعمة من ربنا.
سأله بتطفلٍ شبه سمج:
-طب ما سبقتش أخوك الصغير واتجوزت ليه؟!!
سادت في ملامحه لمحاتٍ من التوتر، فهو لم يستطع الإقدام على هذه الخطوة حتى الآن لضيق ذات اليد، ولإنفاقه كامل ما يجنيه على علاج والدته المكلف دون أن يكلف شقيقه الذي يصغره بستة أعوام عناء هذه الأمور، فاكتفى بتحمل الأعباء وحده، ودون شكوى. نظر إليه، وقال بعد تنهيدةٍ خافتة:
-لسه ربنا مأذنش.
تدخل "بدري" متحدثًا كنوعٍ من التلطيف وهو يربت على ذراع شقيقه:
-سيبك منه يا "عوض"، بكرة ربنا يرزقك ببنت الحلال اللي تستاهلك.
ثم التفت ناظرًا إلى "شفيق" ووبخه:
-إنت جاي تتطلع عقدك علينا يا جدع إنت؟
دمدم في حنقٍ لم يخبت نهائيًا:
-يا عم أنا معبي وشايل من العيلة دي، ولولا معزتك عندي قسمًا بالله ما كنت عتبت البيت ده!!
قاطع ثرثرتهما حضور "عقيلة" وهي تحمل في يدها صينية نحاسية اللون مملوءة بكؤوس متشابهة الشكل، انحنت قليلًا تجاه "بدري"، وقالت بوديةٍ حانية:
-اتفضل يا عريس الشربات.
التقط الكأس الزجاجي، وهتف مجاملًا:
-كتر خيرك يا حماتي، من يد ما نعدمها.
نهض "عوض" قائمًا، وأصر على أخذ الصينية منها بتهذيبٍ:
-عنك إنتي يا حاجة، مايصحش تلفي واحنا موجودين.
تحرجت من ذوقه الواضح، وناولته إياها وهي تخبره:
-تسلم وتعيش يا ابني.
هز رأسه مبتسمًا، وسار بين المدعوين يوزع الكؤوس المملوءة بهذا السائل الأحمر وهو يتلقى عبارات التهنئة والمباركة منهم.
................................................
قفزت من على مقعد المرآة لأكثر من مرة لتنظر إلى وجهها الذي صار أكثر نعومة وجاذبية بعدما تم إضفاء مساحيق التجميل عليه، لتصبح شبه مستعدة للخروج ومقابلة خطيبها وعائلته. لم ترغب "فردوس" في الإفراط في وضع أحمر الشفاه، واكتفت بما زين بشرتها، لتقوم بقرص خديها لإعطائهما المزيد من الحمرة الدافئة. تأملت انعكاسها، وتساءلت بتهلفٍ:
-إيه رأيك؟
أصدقتها "إجلال" القول:
-زي القمر ياختي...
ثم قبلتها من أعلى رأسها وتابعت:
-مبروك يا "دوسة"، وربنا يتمملك على خير.
شكرتها بامتنانٍ، ووجهها يزداد إشراقة بابتسامتها المتسعة:
-تسلمي يا "إجلال"، عقبال ليلتك يا حبيبتي.
استحثها على التعجيل قائلة بمرحٍ:
-مش معقول هنسيب العريس يستنى.
هزت رأسها تؤيدها، ونهضت واقفة لتشد طرفي ثوبها لينساب على خصرها بأريحية، شهقت فجأة مصدومة حينما انحنت عليها "إجلال" لتقرصها من ركبتيها، فسألتها مدهوشة وهي ترمقها بهذه النظرة:
-بتعملي إيه؟
أجابتها ضاحكة ببشاشةٍ:
-جايز أحصلك في جمعتك.
حملقت فيها بمحبةٍ وهي ترد:
-يا رب يا حبيبتي، نبقى في ليلة واحدة.
احتضنتها "إجلال" في سعادةٍ، لتتراجع بعدها عنها، لتفسح لها المجال لتمر، وتتجه إلى باب الغرفة. تفشى الاضطراب في وجدان "فردوس"، وراحت تردد بلا صوتٍ في توجسٍ طفيف:
-يا رب اجعل في وشي القبول.
..................................................
ما إن أطلت العروس بهيئتها البهية، حتى اتجهت كافة الأنظار إليها، لتنطلق بعدها الزغاريد، والأصوات المهللة كتعبيرٍ عن فرحة الحاضرين بقدومها. مرقت "فردوس" بين جموع المهنئين بخجلٍ وارتباك، اختطفت نظرات سريعة نحو خطيبها الذي نهض واقفًا ليستقبلها، فرأته بقامته الطويلة، وملامحه التي تنضح بالرجولة، لحظتها شعرت وكأنها لا ترى سواه، ابتسمت له في دلالٍ مطعم بالحياء، وأخفضت رأسها خجلًا حين جلست مجاورة إياه. تسارعت دقات قلبها في تلهفٍ فرح، ثم شبكت يديها معًا ووضعتهما في حجرها، محاولة التغلب على ارتباكها الظاهر للجميع، نظرت إلى جانبها حين خاطبتها والدتها وهي تحتضنها بنظراتها الحانية:
-زي القمر ياخواتي.
ابتسمت على استحياءٍ، بينما أطلقت خالتها زغرودة عالية، أتبعها قولها المهلل:
-النبي حارسك وصاينك.
قامت والدة العريس بتمرير علبة الشبكة على الحاضرين ليتأملوا ما ابتاعه ابنها لعروسه، فقد اشترى لها سوارًا من الذهب عيار 21، خاتمًا، ودبلة. استحسنوا حُسن اختيارهما، فتكلمت والدة "بدري" طالبة منه بعد أن فرغ الجميع من رؤية العلبة:
-قوم يا عريس لبس عروستك شبكتها.
استقام واقفًا، وتناول من العلبة قطعة بعد أخرى ليضعها في يد عروسه، ومن خلفه تصدح الأصوات المبتهجة، صاحت "أفكار" في الحضور من النساء بعد أن وضعت "فردوس" الدبلة في يد خطيبها:
-ما تزعرطوا يا حبايب، خلوا الفرحة تعم.
تقدم بعدئذ "عوض" لتهنئة شقيقه، واكتفى بالابتسام المهذب لـ "فردوس" قبل أن يعود ليجلس بجوار "شفيق"، وجده على حالته الناقمة، فمازحه قائلًا:
-اشرب شرباتك يا "شفيق"، ده حتى الليلة مفترجة.
نظر له شزرًا، وهبَّ واقفًا ليرد بوجومٍ:
-أنا قايم.
ثم برطم بعباراتٍ غير مفهومة تعبر عن سخطه قبل مغادرته المنزل، ضرب "عوض" كفه بالآخر متمتمًا بصوتٍ خافت للغاية:
-ربنا يهديك لحالك.
عاد ليتابع ما يدور بالخطبة وهو يدعو الله في سريرته أن تنتهي الليلة على خير، بل ويتم ذلك الأمر دون عقباتٍ، لينعم شقيقه بالهناء والسعادة مع زوجة طيبة يستحقها، تكون له في النهاية نِعم السُكنى.
....................................................
بهدوءٍ حذر سحب من أسفل يده الورقة بعد أن زيَّلها بتوقيعه، ليطالع بتركيزٍ دقيق ما كُتب على الورقة الأخرى، ظل "فؤاد" على هذه الوضعية الساكنة لعدة دقائق ريثما فرغ من مراجعة الملف بأكمله دون أن ينبس بكلمة، أعطاه لابنه الواقف خلفه، ثم نظر إليه من طرف عينه متسائلًا:
-مافيش أخبار عن "مهاب"؟
أجاب بهزة رأسه:
-لأ.
سأله مستفهمًا وهو يطوي نظارته الطبية بعد أن نزعها من على أنفه:
-إنت بتكلمه؟
تنحنح قبل أن يجيبه:
-لما بسأل عليه بيقولولي إنه يا في عمليات، يا إما بيحضر مؤتمر.
بدت علامات الضيق جلية على قسماته، لوى ثغره معبرًا عن انزعاجه:
-أنا مش فاهم هيفضل مقضيها سفر وغربة لحد إمتى!!
تجرأ "سامي" ليقول بتأدبٍ ماكر:
-لو تسمح لي أقترح حاجة يا بابا.
أعطاه الأذن ليتكلم بأمره المقتضب:
-قول.
عبث برابطة عنقه، وأخبره:
-إيه رأيك نجوزه؟ ده هيخليه يستقر، وآ...
لم يستسغ ما فاه به فقاطعه بازدراءٍ:
-مش كنت فلحت إنت الأول!!
استاء من الاستخفاف به وتحقير مطلبه، فرد بشيءٍ من الهجوم:
-ما حضرتك رفضت البنت اللي كنت عاوزها.
صاح به بصرامةٍ جعلته ينتفض:
-ودي أشكال تجيبهالي؟!!
ثم طرق بيده على سطح مكتبه يسأله في نبرة مليئة بالاتهام:
-إيه أصلها وفصلها؟
لاذ بالصمت عاجزًا عن تبرير اختياره، فوالده من هذا النوع المتعنت من البشر، الذي لا يمنحك الفرصة للاختيار، هو ينتقي الأفضل فقط، ولا بديل عنه، ليكون مجاورًا له، كما أنه لا يؤمن بالمشاعر، أو بما يعرف بميل القلب وهواه. مرة ثانية انتفض "سامي" مذعورًا ووالده ما زال يوبخه بصوته الخشن المرتفع وهو يطرق بيده على المكتب:
-واحدة اتعرفت عليها في حفلة خلاص بقت مناسبة...
رفع إصبعه أمام وجهه متابعًا حديثه الصارم إليه:
-لازم اللي تناسب عيلة "الجندي" يكون معروف هي مين.
هز رأسه مبديًا طاعته الكاملة له وهو يرد:
-حاضر.
لوح له بيده لينصرف دون أن ينبس بكلمةٍ، فانسحب مغادرًا غرفة مكتبه وهو ينفث دخانًا من أذنيه، غمغم بلا صوتٍ، وغليل صدره قد أخذ في التصاعد:
-طبعًا لو كان ده "مهاب" مكونتش كلمته ربع كلمة...
كز على أسنانه في غيظٍ، ووجهه قد تلون بحمرة الغضب:
-مسيرك تعرف قيمتي يا "فؤاد" بيه!
.......................................
بعد عدة أيامٍ، حيث كانت الشمس ساطعة في سماءٍ بلا سحب، والنهار شبه رطب، تنعكس آثاره على الوجوه السائرة والكادحة، تجاوزت كلتاهما إشارة المرور بعدما انتهتا من التجول في محال السوق الشعبي القريب، لتتجها بعدئذ إلى عدة محالٍ مصفوفة على ناصية الطريق، حيث تقوم بعرض منتجاتها المخفضة في الواجهات الزجاجية من أجل جذب الزبائن. لم تترك "فردوس" محلًا إلا ودلفت إليه لتتفقد الأحدث، وتبتاع المناسب. حملت معظم الحقائب والأكياس عن والدتها، واستطردت تخاطبها برنة حماس ظاهرة في صوتها:
-احنا كده كملنا الفوط والملايات، عاوزين نشوف الحاجات الشفتشي بقى يامه، خليني أدلع سي "بدري".
نهرتها والدتها بنظرة صارمة من عينيها قبل نبرتها:
-يا بت اتلمي، بلاش مياصة.
اعترضت بتذمرٍ وهي تواصل مشيها المتمهل:
-الله! مش هابقى مراته، ومن حقي أبقى ست الحسن في عينيه.
أصابت ابنتها في قولها، لذا هزت "عقيلة" رأسها قليلًا، وعلقت بشيءٍ من التفهم:
-لما أقبض الجمعية آخر الشهر ده هننزل ننقي ونشتري.
بنفس الصوت المتحمس أضافت "فردوس" مرة أخرى:
-وأوضة النوم سي "بدري" قالي هيستلمها الأسبوع الجاي.
على ملامح وجه والدتها ظهر الضيق، فعبرت لها عن مخاوفها بصوتٍ شبه مهموم:
-ربنا يكملها على خير، ولو إني مش مستريحة لأقعدتك مع أمه.
سألتها باسترابةٍ:
-ليه بس؟ دي شكلها طيبة أوي، وتتحط على الجرح تطيب.
لم تحبذ "عقيلة" أن تظل ابنتها على هذا القدر من السذاجة والحُمق، ولم ترغب أيضًا في إثقال صدرها بالهموم والقلق دون داعٍ، لهذا طرحت عنها تفكيرها السوداوي، وهمهمت في خفوتٍ:
-ربنا يخيب ظني.
بعد برهةٍ وصلت الاثنتان إلى منطقتهما الشعبية، قبل أن يتجاوزا رصيف دكان البقال، صاح صاحبه مناديًا بصوتٍ مرتفع:
-يا ست "أم تهاني"، تعالي أوام، ليكي مكالمة من برا.
توقفت عن المسير وقد اتسعت عيناها في صدمةٍ لحظية، لتردد بعدئذ في لوعةٍ:
-أكيد "تهاني"!
عاودت أدراجها صائحة في ابنتها وهي تهرول باشتياقٍ:
-مدي أوام يا "فردوس".
تركت "عقيلة" الأكياس عند قدميها، وأمسكت بالسماعة لتضعها على أذنها، ما إن سمعت صوت ابنتها يأتي من الطرف الآخر حتى لاحقتها بأسئلتها اللهفى المشتاقة إليها:
-أيوه يا "تهاني"، إزيك يا ضنايا؟ عاملة إيه يا حبيبتي؟ إنتي كويسة؟ ردي عليا وطمنيني.
أخبرتها في هدوءٍ:
-أنا بخير الحمدلله..
تنفست والدتها الصعداء، فأكملت "تهاني" كلامها:
-أخباركم إنتو إيه؟
في التو أجابتها وهي تحتضن السماعة بيديها، كأنما تضم صغيرتها:
-احنا كويسين...
بالكاد منعت نفسها من ذرف العبرات وهي تعاتبها في حنوٍ أموميٍ صادق:
-بقى ينفع تغيبي المدة دي كلها من غير ما تسألي على أمك؟ جالك قلب يا "تهاني"؟
أتى ردها عاديًا للغاية:
-مشغولة في الدراسة والمعمل.
ومع ذلك ارتضت والدتها بالقليل المحدود منها، وأعطتها وافر محبتها بقولها المليء بالتوصيات:
-خدي بالك من صحتك، وكلي كويس، واتغطي يا "تهاني"، عشان عضمك يا ضنايا.
تكلمت بإيجازٍ:
-حاضر.
كانت ابنتها على وشك إنهاء المكالمة لكنها هتفت تخبرها بتنهيدة متحمسة:
-بالحق، "فردوس" أختك اتخطبت.
صمتت للحظةٍ، وقالت في فتورٍ:
-مبروك.
صاحت بها "عقيلة" وهي تنقل السماعة من يدها ليد ابنتها:
-خدي باركيلها بنفسك.
أمسكت "فردوس" بسماعة الهاتف، ابتسمت تعابيرها بشكلٍ تلقائي حين استطردت مرددة:
-ألو، أيوه ياختي، وحشاني يا حبيبتي.
توقعت أن ترد بمودةٍ؛ لكنها فاجأتها عندما خاطبتها بتهكمٍ ساخرٍ للغاية:
-اتخطبتي بقى لمين عشان أقولك مبروك، متقوليش، أنا عارفة، أكيد يا فران يا ميكانيكي، ده إن مكانش آ...
انقلبت سِحنتها بشدة، فما زالت شقيقتها تسير على نفس النهج من الاحتقار، والتقليل من شأنها، لتُشعرها بأنها غير كاملة مثلها، تفتقر لأدنى مقومات الجمال الموجودة في الأنثى، بصعوبةٍ كتمت حنقها منها، وهتفت مقاطعة إياها وهي تضع ابتسامة مزيفة على محياها:
-الله يبارك فيكي، أنا مش سمعاكي، الصوت بيقطع.
ثم أغلقت السماعة في وجهها لتدعي بعبوسٍ:
-الخط قطع يامه.
اكفهر وجه "عقيلة" وقالت باستياءٍ:
-يا خسارة، ملحقناش نتكلم مع أختك.
انحنت "فردوس" لتحمل الأكياس والحقائب، لتقول بغير مبالاة وقد بدأت بالتحرك خارج دكان البقالة:
-تبقى تطلبنا تاني بقى لما تفضى.
.............................................
بعض المشاعر لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، خاصة حينما تتعلق بتقدير الذات، والإعلاء من شأنها، هذه النزعة الغرورية التي تمتلكها كانت تتأثر بسوء اختيارات من حولها من أهلها، ومهما حاولت التغاضي عن تصرفاتهم غير المقبولة تعود مشاعر الضيق والنفور لتستبد بها. بتعابيرٍ تبدو منزعجة، ونظرات حانقة خرجت "تهاني" من مركز الاتصالات القريب من مقر عملها، لتسير عائدة إليه في خطواتٍ شبه متعجلة. لم تخف حدة الضيق من على تقاسيمها وهي لا تزال تُحادث نفسها:
-غبية! مش عاملة لنفسها قيمة خالص.
ولجت لداخل استقبال المشفى، واتجهت صاعدة على سلم الدرج وهي تتكلم بتبرمٍ ناقم:
-والله لو جالها شحات لهتوافق، هو أنا مش عارفاها.
أمسكت بالدرابزين، وتابعت حديث نفسها بتأففٍ أكبر:
-وطبعًا أنا مش محتاجة أخمن هتعيش فين ولا مع مين.
سارت في الرواق متجهة إلى الغرفة الخاصة بالمتدربين وهي تقول بازدراء:
-هي ماتستهلش إلا كده، تدفن نفسها بالحيا، عكرت مزاجي على الصبح.
مسحت على مقدمة شعرها لتسوي ما نفر من خصلاتها، ثم ضيقت ناظريها حين رأت باقة ضخمة من الورد الأحمر تحتل مكتبها، تحسست البتلات الزاهية بنعومةٍ وتساءلت في إعجابٍ واضح:
-الله، لمين الورد ده؟
أجابت عليها إحدى المتواجدات معها بالحجرة بابتسامة ماكرة:
-ليكي.
قطبت جبينها مندهشة قبل أن ترد:
-معقولة؟ ليا أنا؟
تساءلت بصوتٍ شبه مسموع وهي تفتش عن ورقةٍ تدل على هوية مُرسله:
-وده من مين يا ترى؟
وجدت ضالتها بالأسفل، فأمسكت بالورقة الصغيرة بإصبعيها، رفعتها إلى مستوى بصرها لتقرأ بلا صوتٍ ما كُتب فيها:
-صباحٌ مشرق بلون الحياة معكِ.
دهشة أكبر سيطرت عليها حين قرأت اسم صاحبها، فهزت شفتيها هامسة:
-"ممدوح"!
تبدلت تعبيراتها المتجهمة، وصارت أكثر ارتخاءً وسرورًا. أطلقت تنهيدة بطيئة من صدرها، لتهمهم في حبورٍ، وقد تألقت في عينيها نظرة متحمسة:
-ده ذوق خالص.
أحست "تهاني" بالانتشاء، والرضا عن حالها وهي تستشعر مدى لهفة الاثنين عليها، وتحديدًا ذوي السلطة والمال والكلمة المسموعة. زاد غرورها بداخلها، وإحساسها المنتشي عندما التفتت بتمهلٍ لتجد "مهاب" واقفًا على عتبة الغرفة، صدمها رؤيته، وتداركت نفسها لتتطلع إليه باستغرابٍ، فدنا منها مُلقيًا عليها التحية:
-صباح الخير.
تقدمت ناحيته بثباتٍ، وقالت وهي تضم باقة الورد إلى صدرها عن عمدٍ لتثير اهتمامه:
-صباح النور يا د. "مهاب".
حدث ما دبرت له لحظتها، فسألها، وعيناه تطوفان بفضولٍ على ما معها:
-أخبارك إيه؟
أجابته بابتسامةٍ رقيقة:
-الحمدلله.
استطرد مشيرًا بنظراته للباقة الملفتة:
-شيك أوي الورد ده.
دار في خلدها أن تستغل الأمر لصالحها، أن تشعره بالغيرة، تستفز مشاعره الذكورية تجاه منافس آخر يحاول كسب ودها، ربما قد يحسن ذلك من فرصتها مع أحدهما، وإن كانت كفة الميزان ترجح ميلها لجهة "مهاب"، ورغم هذا أبقت الأمر في وضع المساومة حتى اللحظة الأخيرة. حافظت على نقاء بسمتها، وقالت بدلالٍ خبيث، وهي تسبل عينيها:
-من دكتور "ممدوح".
مط فمه للحظةٍ، وعلق بفتورٍ:
-حلو.
تابعت قائلة بمكرِ الثعالب:
-الصراحة ذوقه جميل.
هز رأسه مرددًا:
-معاكي حق.
مجددًا قربت الباقة من أنفها لتشتم رائحة الورود، واختلست النظرات إليه، فلمحت على وجهه المسترخي القليل من الانزعاج، فابتسمت في زهوٍ وقد نجحت خطتها الساذجة، لاحظت كذلك نظرته العابرة من فوق كتفها لمن تتواجد معها بالحجرة، قبل أن يحيد ببصره عنها مستأذنًا بصوتٍ شبه منخفض:
-ممكن نتكلم برا شوية؟
أسندت الباقة على مكتبها وهي ترد:
-أكيد طبعًا.
تحركت بخفةٍ للخارج لتلحق به، لكن دقات قلبها المتحمس راحت تدق في سرعةٍ، وجدته ينتظرها على مسافة عدة أمتار، فأشار لها بيده لتأتي إليه، وبعدها استأنفا المشي معًا في الردهة، توقف فجأة ليسألها وهو ينظر في عينيها:
-إيه رأيك لو سافرتي معايا المؤتمر اللي جاي؟
باغتها بعرضه المغري، فزوت ما بين حاجبيها مرددة في استغرابٍ مصدوم:
-مؤتمر؟!!!
أخبرها موضحًا، وكأنه يستحثها على عدم الرفض:
-أيوه، دي فرصة تكتسبي خبرة، وتعرفي الجديد في عالم الطب والبحث العلمي.
انعكس التردد على تعابيرها، وأفصحت عنه عندما تعللت باعتذارٍ لبق:
-مش هاينفع، أنا عندي محاضرات وآ...
قاطعها بإصرارٍ، وهو يرمقها بنظرة واثقة مملوءة بالغموض المثير:
-متقلقيش، أنا هظبطلك كل حاجة، إنتي معاكي "مهاب الجندي".
عضت على شفتها السفلى في خجلٍ مصطنع، وأطرقت رأسها قليلًا لتبدو وكأنها تستحي منه، فألح عليها بصوته الهادئ:
-أنا حقيقي نفسي تكوني معايا المرادي.
كانت على وشك النطق بشيء لكنه عارضها بقدرٍ من التحكم:
-مش مسموحلك ترفضي.
استلذت طريقته المسيطرة في محاولة جذبها إليه، وردت مبتسمة:
-حاضر.
نظر في ساعة يده، وأخبرها:
-عندي دلوقتي عملية، نتقابل بعدين عشان نتكلم في التفاصيل.
دون أن تخبت ابتسامتها قالت:
-ماشي.
شيعته بنظراتها اللامعة، ولوحت له بيدها وهو ينصرف مبتعدًا عنها، لترتكن بعدئذ بظهرها للحائط وهي تخاطب نفسها في صوتٍ مهموس حالم للغاية:
-شكل الدنيا ضحكتلك يا "تهاني".
مرة أخرى حررت تنهيدة عميقة من صدرها لتردد في نبرة متمنية:
-بكرة تقولي للفقر والقحط مع السلامة.
همَّت بالعودة إلى حجرتها؛ لكن استوقفتها واحدة لم تتوقع أبدًا ظهورها هنا، اتسعت عيناها مذهولة وهي تحرك شفتيها لتنطق:
-"ابتهال"!
وضعت الأخيرة ابتسامة عريضة على وجهها، قد تصل من الأذن للأخرى، وسألتها وهي تهز رأسها للجانبين في مرحٍ غريب:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟
في التو تجهمت ملامحها، واختفت الإشراقة الناعمة من على محياها، كانت متيقنة أنها لن تتركها لحالها، حتمًا ستغرقها بالأسئلة المتطفلة لتستعلم عما لا يخصها بفضولٍ مثير للحنق، سرعان ما تابعت السير بتعجلٍ، وهي متلفحة بالصمت. لحقتها "ابتهال" شبه راكضة وهي تصيح مسترسلة في الكلام:
-أنا خلصت بدري قولت أفوت عليكي أشوف بتعملي إيه!
ثم لكزتها في جانب ذراعها وهي تردد بلؤمٍ:
-أومال مين الشاب الحليوة ده؟
توقفت "تهاني" مرة واحدة بعد جملتها الموحية، وحدجتها بنظرة قاسية، محتجة على تصرفها الغليظ المتدخل في شئونها، زفرت الهواء بعمقٍ قبل أن تجيب على سؤالها بآخر مراوغ، وبصوتها لمحة استنكار:
-شاب مين؟
راحت تصف مظهره الجسماني مستخدمة يديها في التوضيح:
-أبو شعر مسبسب، واللي طوله جايب السقف، وكتافه عريضة، ده أنا حتى معرفتش أشوفك منه.
نفخت عاليًا، وأجابتها وقد فهمت من تقصد بكلامها المتواري:
-ده الدكتور "مهاب"، رئيس قسم الجراحة.
التمعت عيناها بقدرٍ من الحسد، ومالت عليها لتقول بغمزةٍ خاطفة:
-يا وعدي، مسئول القسم بذات نفسه.
ثم اعتدلت في وقفتها، وصفقت بيديها في غبطةٍ وهي تخبرها:
-بيضالك في القفص يا "توتو"!
دفعتها من كتفها لتمر وهي تغمغم في صبرٍ شبه نافد:
-استغفر الله العظيم، بلاش نبر الله يكرمك، ده مجرد زميل، هتألفي حوار من غير ما يكون في حاجة أصلًا!
ضحكت من خلفها، وقالت بسماجةٍ:
-هي بتبدأ بكده.
أطبقت على جفنيها للحظةٍ، قبل أن تهمس في حنقٍ مزعوج:
-خلصني يا رب منها.
لازمتها "ابتهال" معظم الوقت محاولة اكتشاف ما تفعله في هذا المشفى الضخم، بالإضافة لفرض نفسها على الآخرين، وكأنها تعتقد بذلك أنها ذات قدرة فائقة على صنع الصداقات من العدم، رغم تحفظ المعظم في التعامل معها.
..............................................
على عكس ما تخيلت، صار كل شيء سلسًا، منظمًا، وبدون أدنى متاعب، لتجد نفسها بعد عدة أيامٍ تستقل الطائرة إلى جوار "مهاب الجندي"، تلبيةً لدعوته المميزة لحضور هذا المؤتمر الطبي المقام في إحدى الدول الأوربية. كانت هذه زيارتها الأولى لبلدٍ كهذا، فتحمست كثيرًا، ولم تبخل على نفسها للاستمتاع بأيامها هناك. لم ترغب في الظهور بمظهرٍ متدنٍ أمامه، فاحتارت وتحيرت فيما تأخذ من ثياب، بالكاد اشترت من نفقاتها ما وجدته ملائمًا بعد جولة في المحال التجارية، وفي نفس الوقت يبث الدفء لجسدها. تململت في جلستها، والتفتت ناظرة إليه عندما سألها في اهتمامٍ:
-مبسوطة؟
هزت رأسها مرددة في الحال:
-أكيد.
سألها مرة أخرى باسمًا:
-أول مرة ليكي صح؟
أجابته بإيماءة خفيفة:
-أيوه.
في جُرأة مدروسة، امتدت يده ليضعها فوق كفها المبسوط على مسند الأريكة، ارتجفت من لمسته المفاجأة على جلدها، ورفعت نظرها لتحدق فيه بفمٍ شبه مفتوح، فحافظ على ثبات بسمته المنمقة وهو يخاطبها:
-ومش هتكون الأخيرة طالما إنتي معايا.
لم تعرف بماذا تعلق، فكل ما يفعله من توددٍ مقنع يوحي بانجذابه إليها، اكتفت بالابتسام خجل، ثم قامت بسحب يدها من أسفله في تحرجٍ، لتحدق في النافذة البيضاوية المجاورة لها، وهي تشعر بتدافع دقات قلبها. التصقت بشفتيها ابتسامة سعيدة للغاية لم تنجح في إخفائها، وكيف لها أن تواري عن فرحة تشعر في أعماقها أنها باتت وشيكة الحدوث؟
...........................................
لفحتها برودة غير عادية عندما وطأت قدماها خارج المطار، فضمت ياقتي معطفها الأسود، ونظرت إلى السماء، فكانت ملبدة بالغيوم الرمادية، انكمشت على نفسها محاولة مقاومة إحساس البرد الذي تغلل إلى أطرافها، وتفشى في جسدها كسرعة البرق. أحست "تهاني" بيدٍ تتلمس ظهرها فانتفضت بقلقٍ، ونظرت جانبها، لتجد "مهاب" يخاطبها:
-العربية واقفة هناك.
نظرت إلى حيث أشار بعينه، فرأت سيارة ليموزين سوداء اللون، تربض بمحاذاة الرصيف، يقف أمام بابها الخلفي أحدهم، وكأنه في انتظارهما. تركته يقودها إليها وهي تسير بتعجلٍ محاولة تصديق أنها حقًا ستركب واحدة كتلك. استقرت بالمقعد الخلفي إلى جواره، وشعرت بشيء من الدفء يتسلل إليها، غاصت بالمقعد، وتركت شعور الانتشاء يلفها، ثم ألقت نظرة متألمة لما يطوف عليه بصرها عبر النافذة، حقًا بَهَر نظرها كل ما تُعايشه من فخامة ورقي، حتى في الاستقبال والمعاملة، شعرت وكأنها ملكة متوجة، والخدم يتراصون عند قدميها لتنفيذ كل ما ترغب فيه دون نقاشٍ، كم ودت أن تدوم هذه اللحظات إلى الأبد فلا تفيق من حلم الراحة والتدلل مُطلقًا!
آنئذ طاف ببالها لمحاتٍ مقتضبة لواقعها البائس في الحارة الشعبية، وما بها من مظاهر بؤسٍ، وفقرٍ مدقع، بالكاد نفدت بجلدها، وطفت على سطح ذلك المستنقع قبل أن تفر منه بأعجوبةٍ، آه لو لم تعاند وتتشبث بقرارها بالسفر، لربما كانت الآن تجلس عند قدمي ذلك النقاش تدعكهما بالماء والملح! ابتسمت في سخرية مريرة، قبل أن تترك ما يزعجها جانبًا، وتركز كل اهتمامها على ما تنعم به حاليًا. أحضرها "مهاب" من شرودها الصامت بكلامه المرتب وهو يرتشف من كأس المشروب الملاصق لجانبه من السيارة:
-احنا هنروح افتتاحية المؤتمر الأول، وبعد كده هنطلع على الفندق نرتاح شوية.
تفاجأت بإقباله على شرب الخمر، ووارت ذلك الشعور بالضيق خلف ابتسامة لبقة مرسومة بعنايةٍ، هزت رأسها بتفهمٍ، فأكمل باسمًا، وكأنه يقطع وعدًا لها:
-بس بعد كده هخدك في جولة بالبلد هنا، ممكن تقولي فسحة على مزاجك.
بدت سعيدة بهذا الاقتراح، وتكلمت في رعشة خفيفة:
-أنا متخيلتش إن المكان ساقع كده.
أخبرها وهو يميل ناحيتها بعدما ترك كأسه في موضعه:
-أوروبا معروفة بجوها البارد.
ثم أمسك بكفها ليحتضنه بين راحتيه، نظرت له مدهوشة، وقد صدمها بما يفعل، لم يحرر يدها رغم محاولتها استعادتها، وأطبق عليها بين أصابعه في قوةٍ طفيفة، ليدلك بشرتها برفقٍ وفي حركة دائرية خفيفة، قبل أن يرمقها بهذه النظرة القريبة وهو يهمس لها بإيحاءٍ خطير:
-إنتي بس محتاجة تدفي شوية، وأنا عارف حل ده إزاي.
طالعته عن كثب مستشعرة الحرارة المنبعثة من جسده حينما صار قريبًا منها، إحساسها كأنثى لا يكذب، هو يشعر بالميل تجاهها، يرغب فيها بتحرقٍ واضح، يطمح في نيل لحظة مميزة معها، قد تكون جامحة، وتفوق ما تتصوره في مخيلتها من حب عذري، كانت شفتاه ترتجفان، تئنان بلا صوت، لطمت أنفاسه خدها القريب منه، كان ما يحيط بها ينذرها لاتخاذ حذرها، لذا قبل أن تفقد زمام السيطرة على الأمور –خاصة مع تأثير الخمر عليه- سحبت يدها قائلة برسميةٍ مقنعة وهي تبتعد عنه:
-ميرسي يا د. "مهاب"، حضرتك إنسان قبل ما تكون دكتور.
أرادت تذكيره بما هو عليه بالنسبة لها ليستفيق من دوامة الخيالات التي استحوذت عليه جراء ما تجرع، لدهشتها لم يتحرك، وظل مائلًا تجاهها ليخبرها بمكرٍ:
-بس معاكي بكون حد تاني خالص، مختلف عن اللي اتعودت عليه.
كلامه المعسول، وما على هذه الشاكلة من تنهيدات مفعمة بالأشواق والأمنيات، اخترق وجدانها، وأسكرها بلا شربٍ، فرجت بشدة أن يحدث المراد، وتتخذ علاقتهما –إن كانت جادة حقًا- شكلًا رسميًا. تحفظت في الرد عليه وهي تضع يدها على ياقة معطفها:
-أنا مش واخدة عليك وإنت شارب يا دكتور "مهاب".
ضحك باستمتاعٍ قبل أن يوضح لها:
-ده ماسموش شرب، ده ( Drink ) خفيف كده، يعني عشان ندفي جسمنا، وبعدين النظام هنا مختلف.
احتجت على تبريره قائلة بشيءٍ من الهجوم:
-أظنه مايناسبنيش.
حافظ على بسمته المتسلية وهو يخبرها:
-لأنك بس مش متعودة.
زادت من نقدها الحاد له وهي ترد عليه:
-المفروض حضرتك دكتور مهم، رئيس قسم الجراحة، ومحتاج تكون مركز، إزاي هتقدر تقوم بعملية وإنت يعني.. مش في وعيك؟!!
أدار دفة الحديث المهاجم له، ووجهها إلى شيءٍ مغاير، أراد به أن يصيب هدفه في مقتلٍ دون عناءٍ، فسألها بجديةٍ لا تخلو من الابتسام:
-إنتي خايفة عليا؟
تحرجت نسبيًا من نظراته وطريقة سؤاله، فتنحنحت قبل أن ترد:
-حاجة زي كده!
ليزيد من حبك حبائله الماكرة عليها، أوهمها أنه يخشى من إغضابها، فضغط على زر فتح النافذة الملاصقة له، لتبصره وهو يمسك بالكأس ليُلقي به، ومن ورائه زجاجة الخمر، انفرجت شفتاها في دهشةٍ أكبر، فأغلق النافذة، واستطرد قائلًا بهذه النبرة العذبة، وعيناه لا تحيدان على تأمل وجهها:
-أنا حقيقي محظوظ إن بقى في حياتي واحدة زيك تهتم بيا، عادة محدش بيقولي لأ، أو حتى بيفكر يعارضني.
عاد شعورها بالنشوة يغمرها من رأسها لأخمص قدميها، انطلت عليه خدعته، وظنت أنها ذات تأثيرٍ قوي عليه، فقالت بثقةٍ مغترة:
-ده لأنهم مش أنا.
قال مؤكدًا لها بنظرة عميقة:
-إنتي فعلًا مختلفة.
تباطأت سرعة السيارة، فالتفتت لناحيتها لتمعن النظر خارج النافذة، رأت إحدى واجهات الفنادق العريقة تحجب السماء عنها، فتساءلت باهتمامٍ:
-هو احنا وصلنا؟
قال وهو يستعد للنزول من السيارة:
-أيوه، يالا بينا.
تبعته بعينيها المتشوقتين وهو يترجل قبلها، ليقوم أحدهم باستقباله في حفاوةٍ وكأن نجمًا لامعًا قد جاء في زيارة رسمية إلى هنا. ليسرع بعدئذ أحد العاملين بهذا الفندق لفتح بابها حتى تهبط هي الأخرى، تضاعف شعورها المستمتع بما يقدمه الحظ لها في غفلة من الزمن، تعهدت لنفسها بعزيمةٍ وهي تنتصب بكتفيها في كبرياءٍ ورفعة، ونظراتها تصبو إلى ما هو أبعد:
-بكرة أخليه يتغير، ويعمل اللي أنا عاوزاه ........................... !!
...............................
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(الاشتياق المُر)
فرغ المصلون من أداء صلاة العصر، ليجتمعوا بعدئذ في الخلفية، على شكل حلقاتٍ دائرية ليحيطوا بأحدهم، وعلى وجوههم ابتسامات سعيدة ومبتهجة، فاليوم هو موعد عقد قران "بدري" على من اختارها لتكون شريكته في الحياة. تأنق الأخير في ثيابٍ جديدة، تمثلت في سروال من القماش ذي اللون الرمادي، ومن فوقه وضع قميصًا أبيض اللون. جلس القرفصاء بجوار المأذون، ومن خلفه جثا "عوض" على ركبتيه، واستند بيده على كتفه ليدعمه، قبل أن يستطرد متحدثًا:
-ربنا يجعلها جوازة الهنا عليك.
رد باسمًا:
-يا رب.
بدأت المراسم بعد قراءة الفاتحة والابتهال للمولى عز وجل، بينما انتظرت النساء في المصلى الخاص بالسيدات يترقبن بحماسٍ وتلهف إتمام العقد على خير. كانت "فردوس" قد ارتدت عباءتها الزرقاء الجديدة، وجلست متربعة وسط المهنئات، وعلى ثغرها ابتسامة مسرورة وعريضة. تغاضت عن النظرات غير المريحة من والدة عريسها، وحادت ببصرها عنها، لتركز في الأرابسك الخشبي الفاصل بين جزء الرجال ومصلى السيدات، محاولة رؤية ما يحدث عبر الفتحات الصغيرة الضيقة. التفتت ناظرة إلى أمها عندما مالت عليها لتخاطبها في أذنها بشيءٍ من الحزن:
-مش كنا عرفنا أختك؟
تأملتها بنظراتٍ شبه مغتاظة، وردت بلا أدنى ذرة تعاطف:
-هي يعني كانت اتصلت ولا سألت من ساعة آخر مرة؟!!
أصرت "عقيلة" على إيجاد المبررات لجفاء ابنتها المتواصل، فقالت:
-أهوو كنا بعتنا ليها جواب على الأقل، بدل ما تبقى آخر من يعلم بجوازك.
راحت تذم شفتيها في غير رضا، ثم تكلمت في فتورٍ، ولمحة من العبوس قد أخذت تزحف على وجهها:
-صدقيني يامه، احنا مش فارقين معاها، ولا حتى جايين في دماغها أصلًا.
تنهيدة عميقة تحررت من صدر والدتها قبل أن ترفع بصرها للسماء وهي تناجي المولى بخفوتٍ:
-ربنا يردك يا بنتي بالسلامة.
حادت "فردوس" ببصرها عن أمها، وتطلعت إلى خشب الأرابسك لتردد بسخطٍ في غير صوتٍ:
-اللي زي "تهاني" مصدق إنه نفذ بجلده من هنا، تقوليلي تفتكرنا!!
نفضت عن عقلها التفكير في شأنها، وتابعت وهي تشرأب بعنقها محاولة رؤية ما يدور:
-خليني أنا في حالي ومالي.
..................................................
ما إن ولجت لداخل استقبال الفندق الفخم، حتى انبهرت نظراتها بما أبصرته في البهو الفسيح، وراحت تستكشف بعينين فضوليتين ما يحيط بها من لوحات إبداعية، وتصاميم مميزة، وديكورات زاخرة، كل ما حولها أشار إلى الرقي والثراء الفاحش. سارت "تهاني" على بلاط أملس ويلمع كالزجاج، فخشيت أن يخدشه كعب حذائها، لذا كانت تتحرس كثيرًل في مشيها، وتحاول أن تبدو خفيفة الخطى، رأت كيف يتعامل كل من يقابل "مهاب" بوقارٍ وتقدير، وكأنه أحد أهم النزلاء هنا، وضعت على وجهها ابتسامة صغيرة ناعمة، ونظرت إليه بنظرة حالمة، كم تمنت حقًا أن تظل هكذا ملتصقة به، فتعامل كالملكات دومًا!
اصطحبهما أحد العاملين بالفندق عبر الردهة إلى القاعة المُقام بها المؤتمر، وهناك رأت ما فاق مخيلتها من تجهيزات عالية، منصة كبيرة في المقدمة، مزدانة بمفرش أبيض اللون، بالإضافة لطاولات مستديرة وضع فوقها باقات ورد بيضاء اللون بداخل مزهريات زجاجية رفيعة، كما رص على الأسطح الأطباق الفارغة عند رأس كل مقعد، والكؤوس وأطباق المقبلات. لحظتها جال ببالها ما اعتادت على حضوره من مؤتمرات عادية، في قاعات خانقة، تعج بأشخاصٍ غرباء غير مهتمين بمظهرهم الخارجي، وهم إما ما بين مدخنٍ وبين متعرق، فكانت لا تطيق البقاء أو الانتظار لأكثر من نصف ساعة، كانت المقارنة غير عادلة بالمرة، فشتان الفارق بين المكانين.
أحست بيد "مهاب" تتلمس ظهرها من جديد، فنظرت إليه وهي ترفرف بجفنيها لتجده يشير لها بعينيه ليتجها إلى حيث الطاولة المخصصة لهما، كانت في المقدمة تقريبًا، وقبل أن تجلس سحب المقعد في لطافةٍ، لتشكره بتهذيبٍ وتستقر عليه. أجلت أحبال صوتها، واستطردت في تحمسٍ وهي تتجول بعينيها على الحضور المتناثر هنا وهناك:
-أنا أول مرة أحضر حاجة بالشكل ده!
رمقها بنظرة طويلة تحوي شيئًا غامضًا وهو يخبرها مؤكدًا من جديد عليها:
-ومش هتكون الأخيرة.
حاولت ألا تبدو متلهفة لمشاركته حياة الترف، وتساءلت عن طبيعة الأجواء، فاستفاض موضحًا:
-الفاعليات هنا مفيدة، وفي مجلات علمية ونشرات بتصدر عن أحدث حاجة موجودة دلوقتي في تخصصات الطب المختلفة.
في استحسانٍ مهتم هزت رأسها معلقة:
-كويس جدًا.
اقترب أحد الندلاء من الطاولة، حاملًا في يده زجاجة من الشمبانيا الفاخرة، قام بنزع غطائها وأفرغ القليل في كأس "مهاب"، بينما أشارت له "تهاني" بالتوقف قبل أن يقترب من كأسها، ليضعها بعدئذ في دلوٍ معدني صغير، تساءل في وقارٍ:
-سيدي، هل أحضر لكما شيئًا آخرًا؟
حرك "مهاب" رأسه بالنفي، فانصرف منتقلًا لطاولة أخرى ليقوم بخدمتها، في حين تهيأت "تهاني" لاستئناف الحديث معه؛ لكن جاءت إحدى السيدات إليهما وهي تتساءل في صوتٍ مرتفع مفعم بالحرارة:
-د. "مهاب"؟ أهذا أنت؟
افترت شفتاها عن دهشة مستنكرة، فالمرأة كانت ترتدي ثوبًا قصيرًا للغاية من اللون الأسود، ذي حملات رفيعة على الكتفين، أما ظهره فكان مكشوفًا حتى خصرها، بالكاد يصلح للارتداء في غرفة النوم حينما ترغب الزوجة في جعل زوجها يمضي ليلة لا تُنسى! انعكس الحنق على تعبيراتها، وتجهمت نظراتها وهي ترى "مهاب" ينهض لاستقبالها قائلًا بحفاوةٍ:
-لا أصدق عيناي! الجميلة "ديبرا"!
احتضنته "ديبرا" في ضمة حميمية للغاية، قبل أن تتراجع عنه، دون أن تزيح كفيها من على كتفيه، مالت مجددًا ناحيته، لتطبع على جانبي وجهه قبلات صنفتها "تهاني" بالساخنة، راقبتها في غيظٍ شبه مكبوت وهي تخاطبه في حبورٍ:
-يا لحظي السعيد الذي جعلني ألقاك اليوم.
جاء رده على نفس الدرجة من التقارب الودي الشديد:
-وأنا مثلك.
اضطرت "تهاني" أن تتحاشى النظر إليهما لئلا تزداد ضيقًا جراء ما يحدث، فنظرت إلى ما سواهما، بينما تطلعت إليه "ديبرا" بنظرة تعبر عن الرغبة قبل أن تفصح عن ذلك علنًا:
-كم اشتقت لك!
حمحم مرددًا بعد نحنحة سريعة مصحوبة بنظرة خاطفة تجاه "تهاني":
-أشكرك.
سألته في نبرة مهتمة وهي تضع يدها على رابطة عنقه لتضبطها:
-هل ستبقى جميع أيام المؤتمر أم أنك ستحضر الافتتاح فقط؟
قال بعد صمتٍ لحظي:
-لا أعلم بالضبط.
مالت عليه لتقبله في وجنته وهي تقول بصوتٍ كان أقرب للهمس:
-حسنًا رؤيتك كافية لي، وأرجو أن أراك مرة أخرى.
أحس بلهيب الشوق يندفع مع نبرتها، فعقب بهدوءٍ، وعيناه تمنحاها وعدًا صامتًا بإمكانية حدوث ما ترجوه:
-بالطبع عزيزتي "ديبرا".

استأذنت بالذهاب بعدما تذكرت أن تلقي التحية على "تهاني" كنوعٍ من اللباقة المصطنعة، كانت الأخيرة في أوج ضيقها، كزت على شفتيها محاولة كبت ما ينتابها من مشاعر ربما يمكن تصنيفها بالغيرة النسائية؛ لكنها لم تعترف بهذا لنفسها، وضعتها في خانقة الانزعاج من التجاهل والمعاملة ببرودٍ، بالكاد ألصقت بثغرها بسمة متكلفة، واستطردت تتحدث عندما عاود الجلوس مجاورًا لها:
-لطيفة أوي.
راح يخبرها بأريحية، رغم ملاحظته لأمارات التجهم المنتشرة في وجهها:
-"ديبرا" زميلة قديمة ليا، أعرفها بقالي كتير جدًا، بجد كانت مفاجأة حلوة إني أشوفها من تاني
قالت كنوعٍ من المجاملة الزائفة:
-ده واضح...
ثم سألته في نبرة شبه تحقيقية:
-بس شكل طريقتكم سوا بتقول إنكم قريبين من بعض! صح ولا أنا غلطانة في تخميني؟
أفهمها ببساطةٍ ممزوجة بالاستفزاز:
-الناس هنا أساليبهم مختلفة في التعبير عن مشاعرهم، ممكن احنا بطباعنا الشرقية نبقى متحفظين على شكل الطريقة المتجاوزة شوية، بس هما بيعتبروا أسلوبنا لو مش زيهم نوع من الرجعية والتخلف، فمتستغربيش لما تلاقيهم بيتعاملوا بودية زيادة.
حدجته بنظرة نارية وهي تهمهم بدون صوتٍ في جنبات نفسها المغتاظة:
-هي دي ودية؟ دي ناقص تنام معاك!!
استرخى أكثر في جلوسه، وقال:
-المهم أنا في النهاية تبقى علاقتي كويسة بالكل.
تظاهرت بالابتسام وهي ترد:
-تمام، مافيش مشكلة.
ثم أولته ظهرها، وادعت انتباهها الكامل لمن صعد على المنصة، فقالت بملامحٍ جادة للغاية:
-شكل المؤتمر هيبدأ، خلينا نركز فيه أحسن.
أمسك بكأس مشروبه ليرتشف منه القليل معلقًا:
-اللي يريحك.
.....................................................
وقف كلاهما أمام باب المسجد الأمامي يستقبلان المباركات بابتهاجٍ وابتسام، كان النصيب الأكبر في التهنئة لـ "فردوس"، فالنساء أحطن بها من كل جانب لمشاركتها فرحتها، وراحت الزغاريد تصدح في الأرجاء قبل أن يقوم أحدهم بتوزيع الشربات على المتواجدين. تقدم "عوض" لتهنئة العروس قائلًا برأسٍ خفيض:
-ألف مبروك، وعقبال الليلة الكبيرة.
ردت بتعابيرٍ تعبر عن فرحة حقيقية:
-كتر خيرك، وربنا يرزقك إنت كمان بواحدة كويسة.
هز رأسه بإيماءةٍ خفيفة، وتحرك مبتعدًا لتجيء "أفكار" وتقف أمامها وهي تزغرد عاليًا، أخذتها في حضنها قبل أن تنهال عليها بوابلٍ من القبلات المتكررة على كل وجنةٍ وهي تخبرها:
-وربنا يومك كان خفيف وحلو.
هتفت مبتسمة بسعادة لا يمكن إنكارها:
-تسلميلي يا خالتي.
ربتت على جانب ذراعها واستحثتها:
-شدي حيلك بقى وشوفي اللي ناقص، عاوزين جوازتك تتم على طول.
أطرقت رأسها في حياءٍ خجل، وردت:
-وقت ما سي "بدري" يقول.
ما إن سمع الأخير اسمه يردد حتى دنا منهما متسائلًا في مزاحٍ:
-خير بتجيبوا في سيرتي ولا إيه؟
بلا ترددٍ أخبرته "أفكار" في رنة حماسة تغلف نبرتها:
-عاوزين نشوفكم ياخويا على فرشة واحدة قريب.
تبسم معقبًا:
-إن شاءالله يا خالة.
أطلقت ضحكة مرحة قبل أن تميل بوجهها ناحيته لتهمس له في عبثيةٍ، وكأنها تحفز فيه مشاعره كرجلٍ للظفر بليالٍ مِلاح مع عروسه:
-اتجدعن ولِم مراتك في حضنك، عشان تدوق طعم السعادة اللي بجد.
تحرج من تجرؤها، وقال وهو يخفض رأسه:
-ربنا ييسر.
رفعت إصبعها أمام وجهه هاتفة بما يشبه التحذير اللطيف:
-كبيركم شهر يا ابني، معنداش حد يطول عن كده في كتب الكتاب.
تدخلت والدة العريس قائلة بجديةٍ وهي تقوس فمها في شيءٍ من التبرم:
-هو هيروح منها فين يعني؟ ما هي اتكتبت على اسمه خلاص!
ردت عليها "أفكار" بتعبيرات بشوشة، غير مكترثة بتجهمها:
-ربنا يصلح حالهم سوا ويبعد عنهم أي شر.
نظرت لها بتأففٍ قبل أن توجه كلامها لابنها صائحة بتذمرٍ:
-مش كفاية واقفة يا ابني في الطل؟ أنا رجلي مابقتش شيلاني.
هز رأسه هاتفًا:
-حاضر يامه.
ثم أشار لزوجته لتتحرك معه مُردفًا:
-بينا يا "فردوس".
قبل أن تعلق الأخيرة ذراعها في ساعد زوجها، لكزتها والدته دافعة إياها للخلف، وهدرت في احتجاجٍ ناقم:
-ياختي متسربعة على إيه؟ اسندني أنا يا "بدري"، بقولك مش قادرة أقف على حيلي.
نظرت لها "فردوس" مذهولة، وبشفتين منفرجتين، فلم تعبأ بها حماتها، ووكزتها مرة أخرى لتبعدها عن محيطها قائلة بنوعٍ من الإهانة، وبصوتٍ مرتفع ولافت للأنظار أيضًا:
-حاسبي شوية مايتبقيش لازقة زي البق كده!!!
تجمدت في مكانها مصدومة مما حدث بشكلٍ فج تسبب في إحراجها أمام الحاضرين، خاصة وقد بدأت الهمهمات تصدر من حولها، حينها أقبلت عليها خالتها لتحاوطها من كتفيها، ضمتها إلى صدرها، واستحثتها على السير معها قائلة في أذنها:
-تعالي يا "دوسة"، متزعليش نفسك...
سرعان ما ترقرقت الدموع في عينيها تأثرًا بهذه الحدية الغريبة، فحاولت خالتها تهوين الأمر بإخبارها في صوتٍ خفيض، وقد تأبطت ذراعها:
-هي بس عاوزة تعمل عليكي شغل الحماوات عشان تضايقك، بس ولا يهمك، إنتي ليكي في الآخر إنه ينام في حضنك.
تعلقت أنظار "فردوس" بظهر زوجها، ورأت كيف يشارك والدته الضحك والهِزَار، وكأنه تناسى أمر إحزانها تمامًا، مما جعل صدرها يوغر بالضيق والهم. شدت "أفكار" من قبضتها على ذراعها المتعلقة به، وواصلت كلامها المحفز إليها:
-اضحكي، وافرسيها يا بت، ماتخليهاش تغلبك بعمايلها المفقوسة دي.
سحبت "فردوس" نفسًا عميقًا لتثبط به نوبة البكاء الوشيكة التي تهدد بمهاجمتها، وردت بصوتٍ مختنق:
-طيب.
تصنعت الضحك رغم الحزن الذي يعبئ صدرها، وراحت ترفع من صوتها بالتدريج لتغطي على ألمها المعنوي، قاصدة أن تلفت انتباه والدة زوجها بالتحديد، لتشعرها بأنها لم تحقق غرضها بمضايقتها، معتقدة بذلك أنها نالت انتقامها من فظاظتها غير المقبولة!
.....................................................
فاقت كامل توقعاته حين اعتقد أنها مجرد امرأة عادية، لا تفرق عن غيرها في شيء، بل على العكس أُغريت سريعًا ببريق امتلاك المال ووهج تأثيره الخطير على النفس؛ لكن اليوم تفاجأ بها كواحدةٍ أخرى لأول مرة يعرفها، فخلال فاعليات المؤتمر، راحت تناقش برزانة وثقة ما يتم تداوله بإسهابٍ، لتصبح محط الأنظار من الجميع، حتى أنها دفعت المحاضر الرئيسي لتقديم شكرٍ خاص لها كتعبيرٍ عن تقديره الشخصي لحماسها المتقد. استدارت "تهاني" ناظرة إلى "مهاب" بقدرٍ من الغرور، فبادلها نظرة إعجاب صريحة قبل أن يخبرها مبتسمًا:
-إنتي الصراحة أبهرتيني بذكائك.
اكتفت بالابتسام في زهوٍ، فأشار لها بيده لتسير معه خارج القاعة وهو يستأنف حديثه إليها:
-خسارة إن واحدة زيك مش متقدرة في بلدنا.
زفرت الهواء سريعًا لترد بعدها على مضضٍ، متذكرة كيف كان يُحط من شأنها في أغلب الأوقات إرضاءً لأشخاصٍ بعينهم:
-عشان كده كان نفسي أسافر وأثبت نفسي في مكان يستحقني.
كتمت شهقة خافتة قبل أن تنفلت من بين شفتيها عندما امتدت ذراعه لتحاوطها من خصرها، أحست بنبضها يتسارع، وبخفقات متلاحقة في صدرها، نظرت إليه عن قربٍ وهو يشملها بعينيه العميقتين مؤكدًا لها بهذا الإيحاء الموتر لها:
-متقلقيش، كل أحلامك معايا هتتحقق.
لطمت بشرتها سخونة أنفاسه وهو يكمل بهمسٍ خطير:
-أنا موجود عشانك.
تجاوزه معها بعد تناوله هذا القدر من الخمر يزيد من تلبكها وخوفها في آن واحد، لن تنكر أنها تنجذب إليه، وتستأنس بأحاديثه وخبراته العريضة في المجال الطبي؛ لكنها في نفس الوقت تخشى تهوره في لحظة طيش غابرة، وهذا ما لا تحبذه، فقد يدفعه غياب وعيه تحت تأثير المواد المُسكرة لحصر تفكيره في شيءٍ بعينه، قد يودي بها للهلاك الحتمي، لذا لا إراديًا انطلقت شارات الإنذار في عقلها لتحثها على الانتباه وتوخي كامل الحذر معه، حاولت أن تنسل من ضمته غير الكاملة، تاركة بينهما مسافة معينة، فسألها وهو يقترب مجددًا منها:
-مش جعانة؟
ردت بترددٍ وهي تضم أصابع يدها معًا مكونة قبضة صغيرة؛ كأنما تحاول بها إخفاء توترها:
-يعني .. شوية.
استخدم ذراعه ليشير نحو المخرج الجانبي وهو يخاطبها:
-طب تعالي.
تعقد جبينها للحظة حين تساءلت مستغربة:
-هو احنا مش رايحين مطعم الفندق ده؟
قال نافيًا، وابتسامة عذبة تشكلت على فاهه:
-لأ، في مكان تاني هوديكي عنده.
سارت معه إلى الخارج، فلفحها الهواء البارد بقسوةٍ، أسرعت بضم ياقتي معطفها معًا لتدفئ عنقها، وتحركت على الرصيف المرصوف بالحجارة نحو جراج السيارات لاستقلال تلك التي جاءا فيها؛ لكنها تعثرت في مشيتها، وكادت تنكفئ على وجهها عندما علق كعب حذائها فجأة في إحدى الفجوات الصغيرة، فصرخت بغتةً وقد حافظت على اتزان جسدها وحالت دون سقوطه:
-آه!
استدار "مهاب" كليًا تجاهها، وسألها في توجسٍ وهو يمد يده لإسنادها:
-إنتي كويسة؟
اعتدلت في وقفتها، وخفضت ذراعها، ثم ردت وهي تحاول تحرير كعب حذائها العالق دون أن تنحني:
-أيوه.
انقلبت تعبيراتها للضيق الحرج حينما رأت ما حل بحذائها، انحنت لتلتقط الجزء المفصول والعالق بالفجوة الصغيرة، لتقول في خجلٍ:
-ده الكعب اتكسر، أنا أسفة جدًا.
اندهش من اعتذارها الغريب معقبًا:
-الموضوع مش مستاهل، عادي بتحصل.
طأطأت رأسها في حرجٍ متزايد، وقالت وهي تنزع الحذاء عن قدمها:
-أنا مكسوفة من حضرتك جدًا.
اضطرت "تهاني" أن تثني ساقها بعدما لسعت البرودة القارصة باطن قدمها، وأضافت وهي تشير ناحية مدخل الفندق:
-أنا هرجع الفندق تاني، وأحاول أشوف حل للمشكلة دي، حضرتك تقدر تروح المطعم اللي إنت عاوزه، متعطلش نفسك عشاني.
اعترض عليها بصوتٍ وملامح هادئة:
-إنتي هتفضلي معايا، دي مشكلة بسيطة، وحلها موجود.
طالعته باستغرابٍ حائر، فسألها بغموضٍ وهو يفرد ذراعيه لها:
-تسمحيلي؟
ظلت على نظرتها المتحيرة، فوجدته يدنو منها، قبل أن ينحني ليحملها بين ذراعيه في خفةٍ، لتشهق مصدومة من تصرفه المفاجئ لها، سرعان ما تدفقت الدماء الحارة في شرايينها لتغزو وجهها، مؤكدة على شعورها بالحرج والذهول. في التو استنكرت ما فعلته، وحاولت حثه على إفلاتها:
-مايصحش يا د. "مهاب"، الناس تقول علينا إيه؟!!
أخبرها بجرأةٍ صادمة لها، وبما جعل قلبها يقصف كذلك:
-أنا لو بوستك حتى محدش ليه الحق يعترض!
هتفت محتجة بارتباكٍ عظيم، وقد استندت بكفيها على صدره:
-لأ أرجوك.
منحها هذه الابتسامة الماكرة وهو يخاطبها:
-متقلقيش، مش هعمل حاجة غصب عنك، إنتي غير أي واحدة.
لاذت بالصمت، وتجنبت النظر إلى عينيه نهائيًا وهو يسير حاملًا إياها تجاه السيارة؛ لكنها لن تنكر أنها استمتعت رغم توترها بهذا الشعور الجارف لكل ما هو عقلاني!
.........................................
بابتسامةٍ صغيرة وملامحٍ وديعة وقفت على عتبة الحمام تنتظر انتهائه من غسل يديه لتعطيه المنشفة القطنية النظيفة ليجففهما بها بعدما تناول الطعام في بيتها تلبية لدعوة أمها حينما انقضى عقد القران. سحبها "بدري" من يدها بخشونةٍ، ونشف كفيه ليعيدها إليها دون أن ينبس بكلمة شكرٍ حتى، ثم تجاوزها في عبوسٍ باعث على الاسترابة ليعود إلى الصالة، لحقت به "فردوس" والحيرة تسبقها، ازدردت ريقها، وجلست إلى جواره واضعة أمامه كوب الشاي الساخن، اعتدلت في جلستها متسائلة بتوجسٍ قلق وهي تناظره من موضعها:
-مالك يا سي "بدري"؟ من ساعة ما أعدنا على السفرة وإنت وشك مقلوب؟
أجابها بصيغة تساؤلية مليئة بالاتهام:
-عجبك المرقعة اللي إنتي كنتي فيها دي؟
بهتت تعابيرها خوفًا من غضبته الظاهرة، وراحت تعتصر ذهنها لتتذكر كيف ومتى أحرجته وتسببت في مضايقته، حينما عجزت سألته بصوتٍ شبه مرتعش:
-مرقعة إيه لا سمح الله؟
أجابها بنفس الصوت اللائم وشبه المنفعل رغم خفوته:
-الضحك والكركرة اللي كانوا في الشارع قصاد الناس، خلاص فِشتك عايمة على الآخر!
تذكرت ما اقترحته عليها خالتها لرد الصاع صاعين لحماتها اللئيمة حين أفسدت عليها فرحتها، وكيف انتهى بها المطاف الآن في وضع الاتهام لا التودد والتدليل. حاولت التبرير له، فأفهمته بتلعثمٍ:
-دي خالتي.. كانت قالتلي إن آ...
لم يمهلها الفرصة للتوضيح، وقاطعها بصوتٍ حاسم، وملامح صارمة:
-بصي يا بنت الناس لا خالتي قالت ولا خالتك عادت، أنا مش جاي أتجوز عشان أجيب لنفسي وجع الدماغ...
انقبض قلبها توجسًا، وأحست بطعم المرارة يملأ حلقها، فتابع على نفس النهج القاسي:
-أنا عاوز اللي تريحني، مش ناقص هم وقرف.
في التو أبدت ندمها قائلة دون تفكيرٍ:
-حقك عليا.
سكت ولم يقل شيئًا، فاستأنفت بحذرٍ وهي تقاوم زحف الدموع إلى مقلتيها:
-بس إنت برضوه زعلتني لما سبتني وروحت مع أمك، وكأني مش مراتك!!
هتف في صوتٍ محموم:
-هو احنا لحقنا؟!!
برقت عيناها ارتياعًا، وراح الفزع يتولاها من كل جانب، كأن هناك هجومًا ضاريًا على أعصابها دفعة واحدة، عندما صاح في عتابٍ حانق:
-ما إنتي شوفتي بنفسك إنها مش قادرة تقف، عاوزاني أعمل إيه وهي ست كبيرة؟ أقف اتفرج عليها لحد ما تقع من طولها؟
انحشر صوتها وهي ترد بنبرة مهتزة:
-لأ، بس آ...
مرة ثانية قاطعها رافعًا يده أمام وجهها ليهددها:
-من غير بسبسة، اللي حصل حصل خلاص، من هنا ورايح تاخدي بالك من تصرفاتك، سامعة؟ وإلا هتلاقي الرد مايعجبكيش!!
أذعنت أمام تحذيره القوي، وردت في طاعة تامة:
-ماشي كلامك يا سي "بدري".
تحول نظرها عنه، وراحت تلوم نفسها بشدة لأنها انساقت وراء خالتها، ولم تضع في الحسبان أنها بذلك تُحزن زوجها. ودت لو عاد بها الزمن للوراء واكتفت بالسير صامتة، لربما آنئذ نالت رضائه، وكلمة حنونة منه!
...........................................
كانت تشعر بنوعٍ من الغنج والدلال وهي تنتقي بين ماركات الأحذية ما يناسب مقاس قدميها، بدت وكأنها في عالم من سحر الموضة المشوق، لحظات لا تعوض عاشت كل ثانية فيها بنشوة عارمة، دارت حول نفسها وهي لا تصدق حقًا أنها ترتاد أحد أهم متاجر بيع الأحذية. بعد حينٍ من التجارب، وجدت واحدة ملائمة لها رغم تحيرها في حسم اختياراتها، فكل ما وقعت عليه عينيها كان رائعًا للغاية. تجولت في تبخترٍ أمام ناظري "مهاب" وهو جالسٌ على الأريكة، ثم رفعت قدمها قليلًا عن الأرضية لتبرز شكل الحذاء في قدمها وهي تهتف بابتسامةٍ لهفى:
-تحفة أوي، ومريحة جدًا.
قال وهو يبادلها الابتسام الهادئ:
-المهم إنها عجبتك.
بعدئذ أشار للعاملة في المتجر لتأتي له بالفاتورة، فاستجابت له في التو. انتظرت "تهاني" ذهابها، وتقدمت ناحيته، ثم جلست على حافة الأريكة الوثيرة، وراحت تتحسس ملمس الجلد الثمين بيدها، لترفع نظرها إليه مضيفة بقليلٍ من الحرج:
-بصراحة دي أول مرة ألبس حاجة زي كده في حياتي...
للحظةٍ تحسرت على حياتها البائسة التي جعلتها محرومة تقريبًا من رفاهية الدنيا ومتعها المغرية، قامت واقفة، وتابعت وهي تتطلع إليه بتعبيرٍ واجم، لتقنعه بأنها غير راضية عن هذا الموقف المخجل بتاتًا:
-بس أكيد غالية، وصعب إني آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها قائلًا وقد فهم ما ترمي إليه:
-ماتغلاش عليكي.
حفظًا لماء الوجه، حاولت أن تقول بعزة نفس:
-أنا هرد لحضرتك تمنها.
نهض قائمًا، ودنا منها مرددًا في عتابٍ رقيق:
-عيب الكلام ده يا دكتورة، دي هدية بسيطة مني ليكي، وهي مش من مقامك أصلًا.
أصرت على رأيها هاتفة:
-بس كده كتير، وآ..
مجددًا قام بمقاطعة كلامها مؤكدًا لها بنبرة موحية:
-وإيه يعني؟ دي مش هتكون آخر مرة أهاديكي بحاجة.
نظرت له بامتنانٍ رغم القلق الذي ما زال يراود عقلها، جمَّلت وجهها بابتسامة خجلة؛ لكنها لاحظت تحول نظراته عنها، وأتبعها ذلك قوله المريب:
-لحظة واحدة!
تحرك مبتعدًا عنها نحو موضعٍ ما خلفها، فالتفتت تتابعه بتحيرٍ، وجدته يسحب واحدًا من الإيشاربات المزركشة من على حاملٍ معدني بعد تدقيقٍ سريع، استدار عائدًا إليها ثم فرده في الهواء بين يديه، ليديره حول عنقها، ثم طوقها به، فاقشعر بدنها من الملمس الناعم للقماش على جلدها، أحست كذلك بأصابعه وهي تداعبها خلسة، شدها منه ليجذبها ناحيته ويقربها إليه، انساقت كالمغيبة تجاهه، حتى اضطرت أن تريح مرفقيها على صدره، مستشعرة نبض قلبه أسفل يديها، رمشت بعينيها وهي تنظر إليه مباشرة، فعقد طرفي الإيشارب معًا وهو يخبرها بصوتٍ أقرب للهمس:
-ده كمان هيبقى شكله تحفة عليكي.
لم يرخِ يديه بعدما ربطه، بل استمر في جذبه الرقيق لعنقها جاعلًا وجهها أسيرًا له، رأت كيف ترتعش شفتيه بالرغبة وهو يتغزل بها في هسهسة حارة:
-إنتي جميلة أوي.
كاد ينجح في إغوائها لتقبله؛ لكنها صدت محاولاته في اللحظة الأخيرة بإبعاد وجهها، ودفعه برفقٍ من صدره وهي تخاطبه في لهجة اتخذت شكلًا رسميًا رغم خفوتها:
-د. "مهاب"! من فضلك!
ظل متسمرًا في مكانه وهي تبتعد مسافة عدة خطوات، كأنها تنأى بنفسها من تأثيره الطاغي، لتتساءل وهي تلتقط حقيبتها لتعلقها على كتفها:
-هو المطعم قريب من هنا؟
دس يده في جيب بنطاله، وأجاب:
-أيوه.
أبقت على ابتسامتها الرقيقة وهي تسأله:
-طب مش هنروح ولا إيه؟
أشار لها بيده الأخرى الطليقة لتخرج قائلًا:
-اتفضلي.
هزت رأسها مرددة بإيجازٍ دون أن تخبت بسمتها:
-شكرًا.
......................................
ما زالت لمعة الانبهار تحتل نظراتها كلما زارت مكانًا جديدًا، أو استمتعت بشيءٍ لم تجربه سابقًا. تذوقت "تهاني" أشهى أنواع الطعام، واستطابت ما تناولته من وجبة مميزة بهذا المطعم الراقي، لم تشعر بالوقت يمضي وهي بصحبة مُضيفها، بل إنها استأنست كثيرًا بوجوده، وشعرت بتناغم غير طبيعي معه، ورغم تحفظها الواضح على معاقرته للشراب، إلا أنها لم تظهر اعتراضًا متحيزًا ضده، على الأقل ريثما تتوطد علاقتهما بشكلٍ أقوى، أو أن تتخذ طابعًا رسميًا، وإلا لضاعت جهودها سدى.
أمام ردهة باب غرفتها بالفندق وقفت تصافحه وهي تبدي عُرفانها بما قدمه لها طوال اليوم:
-ميرسي على اليوم الظريف ده، أنا مكونتش متخيلة إني هستمتع كده.
بلطافةٍ موحية ما زال باقيًا عليها قال وهو يحتضن كفها براحتيه:
-ده بس لأنك موجودة معايا...
حاولت استعادة يدها وسحبها من بين قبضتيه؛ لكنه رفض تركها، وتابع بتنهيدة ثقيلة مغلفة برغبة متأججة:
-ونفسي تفضلي كده.
تقدم منها، فتراجعت بشكلٍ تلقائي للخلف، إلى أن حاصرها بين جسده والباب الخشبي، فاضطربت، وتلبكت، وتوترت للغاية من محاولته المكشوفة للتودد إليها بشكلٍ حميمي، قاومته قدر استطاعتها، وهتفت تناديه بشيءٍ من الذعر:
-دكتور "مهاب"!
لامس بشفتيه جلد عنقها، فلفحتها حرارة أنفاسه، انتصبت شعيرات جسدها، وراحت الوخزات الموترة تضرب كل كيانها، تضاعفت رجفتها حين همس لها بشوقٍ آخذٍ في التعاظم:
-مش قادر أمنع نفسي!
توسلته بارتعاشٍ:
-أرجوك...
تجاوزت عن ندائها المستجدي لعقلانيته شبه المغيبة، اضطرت أن تلجأ للجفاء معه، لئلا تندم لاحقًا على تراخيها، لذا جاء في باقي جملتها قدرًا من التهديد عندما تابعت:
-إنت كده هتخليني أندم إني وافقت أجي معاك.
أبعد رأسه عنها ونظر إليها بغموضٍ مريب دون أن ينطق بكلمة، ومع ذلك تمسكت بصمودها، وإن كان مهددًا للخروج من جنة دُنياه الثرية بكل ما تشتهيه النفس، دفعت للخلف قائلة بصوتٍ جامد:
-تصبح على خير.
تراجع مسافة متر ملوحًا لها بيده قبل أن يرد بهدوءٍ غريب:
-وإنتي من أهله!
لم تنظر تجاهه، وأسرعت بفتح الباب لتدلف إلى الداخل، وهي بالكاد تحاول السيطرة على رعشة أطرافها، أوصدته مستندة بظهرها عليه محاولة استعادة انضباط حالها المتخبط، حذرت نفسها بصوت العقل:
-اجمدي كده يا "تهاني"، لو خدك للسكة دي هتبقي خسرتي كل حاجة قبل ما تملكيها من الأساس!
سحبت نفسًا عميقًا لتعيد الهدوء إلى أوصالها، ثم تابعت مع نفسها، وكأنها تعطيها تحذيرًا شديد اللهجة:
-هو بيلعب بالنار، بس إنتي اللي هتتحرقي بيها لو ضعفتي، خليه يتعلق بيكي الأول، ده المهم، وده اللي هيوصلك لدنيا العز اللي بتحلمي بيها.
لم يطرأ على بالها العشق أو حتى اشتهاء متعته الشقية، إلا حينما أصبحت تحت وطأة ضغوطات حميميته المخيفة، راحت تكرر على مسامعها نفس العبارات المحذرة لتردع ما يناوش مشاعرها كأنثى من تقارب وتجاذب، قبل أن يتفاقم الأمر وتعجز عن كبح جموحه، ففي الحب تُعمى الأبصار عن رؤية العيوب، كما يُحجب المنطق ويُسلب من أذكى العقول.
......................................
-لم أتوقع أن تأتي الليلة!
قالت "ديبرا" بهذه العبارة المندهشة وهي تستقبل في غرفتها بالفندق ضيفها المشتعل برغباته، والمدفوع بجوعه العاطفي بعدما لعبت الخمر برأسه، وجعلته يصل إلى ذروة اتقاد حواسه. اندفع إلى الداخل وهو يقبض عليها من منبت ذراعها بيده، بعدما صفق الباب بقدمه، قادها للأمام في لهفةٍ متزايدة لتحاول مجاراته وهو ينهال عليها بقبلاتٍ نهمة ومتعطشة للمزيد. طرحها على الفراش بعدما استل ثوبها القصير، لتصبح كقطعة حلوى شهية جاهزة لأكلها، تمدد فوقها مدمدمًا بلهاثٍ متلاحق:
-أرغب بكِ بشدة.
تعجبت من ثورة مشاعره الحسية وفورانها بهذه الطريقة الغريبة، وخاطبته بميوعةٍ وهي تحتضن وجهه بيديها:
-تريث قليلًا، عزيزي، ما زال أمامنا الليل بأسره.
-لا أستطيع.
ردد "مهاب" هذه الجملة المقتضبة، وهو ينتزع رابطة عنقه، ليمسك بعدها بمعصميها، قيدها منهما، قبل أن ينحني مجددًا على شفتيها ناهلًا منهما قدر ما يستطيع من حلوها، شعر بها تقاومه وهو يعيث فيما تملك من مقوماتها المغرية، فرفع نظره إليه ليجدها تحتج في تذمرٍ متدلل:
-أنت تؤلمني!
اعتلى وجهه هذه الابتسامة الخطيرة الواثقة، لتتوهج بعدها عينيه بوميضٍ مستثار وهو يسألها ليتأكد:
-ألا تفتقدين تقاربنا؟
أطلقت ضحكة ماجنة، وتقلبت على جانبها لتبدو أكثر إغواءً وهي تخبره بعد لحظةٍ من الصمت:
-ممم، حسنًا، أنا أعطيك الأفضلية عن "ممدوح" في إيقاظ مشاعر الحب بي.
على حين غرة تحول لقطعة من الجليد بعد إفسادها للحظة التجلي هذه بعقد تلك المقارنة السقيمة بينهما، لتذكره بأن رفيقه كان ولا يزال يناطحه فيما يجيد فعله مع النساء بتفردٍ ومجون، وكأنه مفسد متعته الاستثنائية التي ينتشي بها، فَقَدَ فجأة روح الشغف والاشتياق لتمضية لحظات عاصفة، جنونية، وغير منضبطة بشروط معها. نظرت له "ديبرا" باندهاشٍ وهي تتساءل بوجهٍ يضم علامات الحيرة:
-لماذا توقفت؟
حل وثاق يديها قائلًا بجفاءٍ مريب قبل أن يستقيم واقفًا:
-لم أعد أريد.
استنكرت للغاية عزوفه الغريب عنها، وسحبت الغطاء لتلف به ما برز من مفاتن جسدها، ثم نهضت من رقدتها تسأله وهو يسير متباعدًا عنها:
-ما الذي حدث؟ فيما أخطأت عزيزي "مهاب"؟
وقف أمام المرآة يهندم ثيابه التي تبعثرت، ثم وضع رابطة عنقه حول ياقة قميصه، شعر بها تضمه من الخلف، كمحاولة غير مؤثرة منها لإعادته لوتيرة اللهفة مجددًا. مرغت وجهها في ظهره متسائلة في صوت ناعم:
-ألست أنا من تهوى الجموح معها؟
أطبق على شفتيه رافضًا قول أي شيء، نبذها بنظراتٍ قاسية جعلتها تستهجن هذه المعاملة الجافة منه، لوح لها بيده كنوعٍ من التوديع لها، فصاحت من ورائه تناديه بضيقٍ:
-"مهاب"، انتظر.
خرج من غرفتها سائرًا بتعصبٍ متجاهلًا ندائها المتكرر من ورائه، ليستحوذ على تفكيره فكرة واحدة فقط، ولا غيرها لتنفيذها مهما تكلف الأمر، الفوز بلا منازعٍ في اصطياد الضحية الجديدة .
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(القناع)
الصباح كان مختلفًا بالنسبة لها رغم ما امتلأ به ليلها من تفكير مجهد، أفرطت على غير عادتها في تأنقها، وارتدت زيًا رسميًا من قطعتين، بدا أشبه بما ترتديه مضيفات الطيران، من سترة وتّنورة، باللون البترولي، كانت ياقة السترة تلامس منبت رقبتها، فأخفت عنقها البارز بالإيشارب المزركش الذي تلقته كهديةٍ بالأمس القريب، تأكدت من جعل العقدة عند جانب عنقها الأيمن، ثم مسدت بيدها على جانبي التنورة لتفرد قماشها فيصل إلى ركبتيها، اعتدلت بعدئذ واقفة، ومشطت شعرها قبل أن تعقصه في كعكة مشدودة. مرة أخرى ألقت نظرة متأملة لهيئتها النهائية في تسريحة المرآة، لتمسك بأحمر الشفاه وتضيف مسحة رقيقة على ثغرها، لم تنسَ كذلك إفراطها في نثر العطر الأنثوي على كامل ثيابها، لتتحرك بعدها تجاه الفراش، جلست على طرفه، وانحنت واضعة الحذاء الجديد في قدميها، أغمضت عينيها للحظة لتتنعم بإحساس الراحة وهو يغلف كيانها.
ابتسمت في رضا عن حالها، ثم نهضت ساحبة معها المعطف الأسود، لم تقم بارتدائه على الفور، بل طرحته على ذراعها لتتأكد أولًا من رؤية "مهاب" لها في هذا المظهر الأنيق قبل أن تتوارى خلف الداكن من الثياب، بلغت المصعد، وهبطت به للاستقبال. عندئذ تعمدت التبختر في مشيتها؛ لكنها في نفس الآن رفعت رأسها للأعلى في إباءٍ وزهو. أبقت على ملامحها هادئة حينما أبصرته ينهض من على الأريكة للترحيب بها رغم الاضطراب الذي عصف بوجدانه دفعة واحدة، بالكاد ضبطت حالها، وتشبثت بجمودها الزائف لتبدي انزعاجًا مصطنعًا ومنتقدًا لسلوكه المتجاوز معها بالأمس. وقفت قبالته، وابتسمت ابتسامة صغيرة متكلفة وهو يستطرد:
-صباح الخير دكتورة "تهاني".
كما عهدته وجدته يرتدي حِلته الرسمية، ذات اللون الرمادي، ومن فوقها هذا المعطف الأسود الثقيل. هزت رأسها بإيماءة صغيرة وردت في إيجازٍ:
-صباح النور.
باقتضابها المتعمد في الحديث أرادت إشعاره بالذنب، وبإثبات اختلافها عن الأخريات اللاتي قد يبدين ردة فعل مناقضة لها، أو حتى متساهلة، لعلها تنجح في التأثير عليه بشكلٍ غير مباشر، حين يجدها تعامله بجفاءٍ ورسمية، فلا يظن أن ما حدث يمكن تكراره ببساطةٍ، ودون ردة فعل رافضة. كان يضع يده في جيب بنطاله وهو يخاطبها برنة هدوءٍ مسيطرة على صوته:
-في البداية أنا عاوز أعتذرلك عن سخافة إمبارح.
تأهبت حواسها لما أبداه من اعتذارٍ مفاجئ، لم تضع في الحسبان أن يظهر ندمه بهذا الشكل السريع، فقد ظنت أنه سيتغاضى عما حدث ويواريه بالحديث عن أشياءٍ أخرى جانبية. نظرت له بعينين مدهوشتين وهو يسترسل بتعابيرٍ منزعجة، وبنبرة نادمة ومؤكدة:
-للأسف، أنا عديت حدود الأدب معاكي، وده شيء مضايقني جدًا، ومخليني مش راضي عن نفسي نهائي.
ظلت على دهشتها الغريبة لعدة ثوانٍ، لا تصدق ما حدث للتو، بينما أطرق "مهاب" رأسه قليلًا ليبدو مقنعًا قبل أن يضيف بصوتٍ تحول للنعومة:
-إنتي إنسانة غالية، عاملة زي الياقوت النادر، صعب الواحد مايتأثرش بيكي.
سقط القناع الواهي الذي اختبأت خلفه، وطفا على وجهها التخبط والارتباك، امتدت يده لتمسك بكفها، رفعه إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليه، ثم نظر إليها وهو محني قليلًا، ليردد مرة ثانية وهو يرسم هذه الابتسامة الصغيرة الماكرة:
-بكرر اعتذاري ليكي يا دكتورة، وأتمنى من قلبي إنك تقبليه.
أرخى أصابعه عن كفها فاستعادته، وقالت بتلبكٍ حرج:
-ولا يهمك.
تنحى للجانب وأشار بيده نحو المخرج قائلًا بتهذيبٍ أشعرها بالأهمية:
-اتفضلي يا دكتورة، العربية منتظرانا.
تنحنحت في صوتٍ خفيض قبل أن ترد وهي تسير بتمهلٍ:
-شكرًا.
طلب منها في صوتٍ هادئ لا يخلو من الجدية الآمة عندما اقترب من الواجهة الزجاجية لاستقبال الفندق:
-الجو برد، فيا ريت تلبسي البالطو بتاعك.
تذكرت أنها وضعته على ذراعها، فأومأت برأسها قائلة وهي تهم بارتدائه:
-حاضر.
تغلغل فيها هذا الشعور المنعش بالسعادة والارتياح، فإن كانت محاولة واحدة عادية لصده استحثته على إبداء الندم الفوري، فماذا إن تمنعت قليلًا عليه؟!
............................................
استقرت في المقعد الخلفي إلى جواره في نفس السيارة التي نقلتهما بالأمس إلى مكان المؤتمر؛ لكن هذه المرة كان منهمكًا في مطالعة الكثير من الأوراق والملفات، للدرجة التي جعلته يلتزم الصمت طوال الطريق، مما أشعرها بشيءٍ من الضيق لتجاهله لها، فقد ظنت أنه سيحاول التودد إليها بأسلوب وديع ومهذب لكسب رضائها، ومع ذلك صدمها بردة الفعل المتحفظة تلك، وكأنه غريب كليًا عنها، كان مستغرقًا في عمله للحد الذي أصابها بالتحير، مما دفعها لإعادة التفكير فيما قررته قبل وقتٍ سابق، فقد لا يصلح ذلك التكتيك معه. نفخت بصوتٍ شبه مسموعٍ له دون أن تدري، فرفع رأسه عن الأوراق، وقال باسمًا:
-أنا أسف إني مشغول عنك...
تحرجت من كشف أمرها، ووضعت ابتسامة مهزوزة على شفتيها وهي يستمر في توضيحه:
-بس دي تقارير لأحدث الجراحات الحرجة اللي تمت الشهر اللي فات، وأنا لازم أشوفها.
ردت مجاملة:
-عادي، مش مشكلة.
اقترح عليها وهو يمد يده بواحدة من الملفات:
-تحبي تبصي عليهم معايا؟
ترددت للحظةٍ؛ لكنها لم ترفض عرضه، وقالت بابتسامة اتسعت قليلًا:
-لو مش هيضايقك!
أصر عليها بحبورٍ:
-بالعكس.. اتفضلي.
تناولت الملف منه، وراحت تطالعه بعينين فضوليتين، شتت نظراتها عن قراءة الأسطر الأولى عندما خاطبها:
-لو في حاجة مش واضحة قوليلي، وأنا أشرحهالك.
عادت دفقة من النشاط تنتشر في أوصالها وهي ترد بحماسٍ:
-ماشي.
استغلت المسافة المتبقية في ادعاء محاولتها الاستفهام عن بعض النقاط غير المفهومة ليظل الحديث ممتدًا وموصولًا بينهما لآخر وقت، إلى أن تباطأت سرعة السيارة، واحتل الفندق الفضاء المجاور لنافذتها، فأشار بإصبعه تجاهه متكلمًا:
-احنا تقريبًا وصلنا.
استدارت برأسها لتنظر إلى حيث أشار، وقالت وهي تلملم الأوراق المتبعثرة معًا:
-تمام.
لن تنكر أن ما أمضته من لحظاتٍ معدودة وهي تشاركه الرأي وتتناقش معه باستخدام العقل والحجة والمنطق جعلها تزداد رغبة ورجاءً في تعميق صلتها به، فتتجاوز حدود المهنية، لتصل إلى ما هو أكثر من ذلك، تأرجحت مشاعرها ما بين اللهفة والتمني، فتنهدت مليًا وهي تستعد للنزول، وجدته في انتظارها يبتسم بعنايةٍ وجدية، لم يمد ذراعه لتتأبط فيه كما تخيلت لهنيهة، بل أشار لها لتسير إلى جواره، وكأنه عاد لوضع هذا الحاجز الوهمي الفاصل بينهما.
..........................................
لم يجلسا على نفس المائدة السابقة المخصصة لهما في المنتصف، بل انتقل كلاهما للجلوس في المقدمة، على مسافة قريبة من المنصة الرئيسية، وهذا ما استغربته "تهاني"، فقد توقعت ألا يكونا محط الأنظار؛ لكن ربما يكون هناك ما لا تعلمه، دفعت المقعد للأمام بعدما سحبه لها "مهاب" لتجلس عليه في تصرف مهذب معتاد منه. ابتسمت تشكره، وأخذت تطوف ببصرها على الحاضرين، كان التواجد كثيفًا عن يوم الأمس، توقفت عن تأمل ما حولها عندما انتبهت للصوت الأنثوي المألوف وهو يتساءل:
-عزيزي "مهاب"، كيف حالك اليوم؟
زرت عينيها في ضيقٍ محسوس وقد رأت "ديبرا" تقف أمام "مهاب" بقوامها الممشوق، وثوبها الأخضر الفاتن الذي يبرز أكثر مما يواري، لا إراديًا تحسست معطفها الأسود الذي يغطي على ما بذلته من جهدٍ لتلفت أنظاره، أصابتها موجة قوية من اليأس والإحباط وهي تراه يقف لتحيتها قائلًا بشيء من الجدية:
-أنا بخير سيدة "ديبرا"!
اندهشت "ديبرا"، مثلما استغربت "تهاني"، لهذه المعاملة الرسمية، وقررت بصوتٍ شبه هازئ:
-سيدة؟!
أكد على مقصد كلامه المفهوم بإيماءةٍ واضحة من رأسه، وللغرابة أكثر لم يمد يده لمصافحته، أو حتى تقبيلها في وجنتها كما فعل في المرة الأولى، بدا جافًا للغاية، صلفًا، وغير متهاون، الحميمية التي كان عليها بالأمس تلاشت كليًا، وكأنها لم تكن من الأساس. ارتسمت علامات الاستياء على وجه "ديبرا"، وراحت تعاتبه بصوتٍ مزعوج:
-لما هذه الرسمية في التعامل معي؟ ألم نكن بالأمس آ...
قاطعها رافعًا يده أمام وجهها:
-اعتذر منك...
ثم حول ناظريه تجاه "تهاني"، وتابع متعمدًا:
-صديقتي المقربة منزعجة من وجودك.
في التو تلاحقت دقات قلب الأخيرة في صدمة جلية مما فاه به، ظلت تحملق فيه بعينين متسعتين، لا تصدق ما سمعته، أفاقت من دهشتها العظيمة على نبرة "ديبرا" المستنكرة وهي تتساءل في استهجانٍ بائن:
-أهذه صديقتك؟
ألصق بثغره هذه الابتسامة الساحرة والمنمقة وهو يؤكد لها، دون أن يبعد نظراته الدافئة عن "تهاني":
-نعم.
تحرجت "ديبرا" من وجودها غير المرغوب فيه، واستأذن بالذهاب، وأمارات الخيبة تظهر على تقاسيمها:
-اسمح لي، فرصة طيبة عزيزتي.
لم تخبت الدهشة من على وجه "تهاني" رغم انصراف هذه المرأة، وظل نظرها معلقًا بـ "مهاب" وهو يخاطبها مبديًا اعتذاره، وقد عاد إلى الجلوس:
-أنا أسف إني اضطريت أقول الكلام ده، بس مكونتش هخلص بصراحة منها.
شعرت وكأنها لا تجد المناسب من الكلام لتعبر به عن رأيها فيما قال، فالمفاجأة ما زالت مسيطرة عليها؛ لكنه تابع موضحًا لها:
-يعني أنا مش بحب النوع ده من فرض العلاقات، هي مش قادرة تفهم إننا مجرد زملاء، عاوزة الموضوع يتخطى ده بكتير.
تطلعت إليه بمزيدٍ من التحير والاندهاش، فواصل تعقيبه:
-جايز الحياة هنا مفتوحة، وكل حاجة متاحة، بس أنا برضوه راجل شرقي، وعندي ثوابت.
استندت برأسها على راحة يدها، ولم ترف بطرفيها، فرأى هذه النظرة الحائرة التي تملأ عينيها، لذا سألها مبتسمًا في لطافةٍ:
-بتبصيلي كده ليه؟
تداركت ما كانت عليه من تحديقٍ غريب، وقالت بتلبكٍ خفيف وهي تعتدل في جلستها:
-بصراحة اللي يشوفك إمبارح مايشوفكش النهاردة.
قال بشيءٍ من الضيق:
-اللي حصل كان لحظة طيش، وأنا ندمان عليها جدًا.
كانت على وشك التعليق؛ لكنه انتفض واقفًا ليخبرها وهو يشير برأسه تجاه المنصة:
-أنا عندي مناقشة فوق، هستأذنك.
مرة أخرى تفاجأت به يعتلي المنصة كأحد محاضري اليوم، فافتر ثغرها عن ذهولٍ، تركها على حالتها تلك، وهو متأكدٌ أن نظراتها ستظل باقية عليه ولن تفارقه لمدة طويلة. شعرت "تهاني" بدفقة جديدة من الحماس المتقد تنعش وجدانها، فرددت مع نفسها في غير تصديق، وقد أشرقت ملامحها، وبرقت نظراتها سرورًا:
-للدرجادي أنا أثرت فيه؟
تساءلت في صدرٍ شبه ناهج وهي تضع يدها على الإيشارب المطوق لعنقها لتلمسه في ترفقٍ:
-بقى عاوز يتغير عشاني؟!
نفذ إلى قلبها ذلك الشعور اللذيذ الذي ينقلها في طرفة عين إلى عالم الأحلام والأمنيات، تنهدت على مهلٍ، ضمت شفتيها معًا مانعة نفسها بصعوبة من التعبير عن فرحتها، وقالت بعدما أطبقت على جفنيها للحظةٍ:
-التقل صنعة برضوه!
.........................................
سرعان ما أسرتها طريقته المرتبة والمحكمة في فرض سيطرته على الآخرين، خاصة حينما احتدم الجدال بشأن نقطة معينة، كان ثابتًا، راسخًا كالجبل، لم يتوتر، ولم يبدُ قلقًا، بل على العكس استطاع أن يظهر قدرته على إقناع الحاضرين بصحة رأيه، فاستحوذ ببراعةٍ على إعجابهم قبل اهتمامهم. انتشت "تهاني" وهي تصغي إلى "مهاب" وهو يدلي بدلوه في كل شيء، وكأنه القائد المتزعم، سرحت في تأمله، وشردت مع نبرته في بُعدٍ موازٍ، حتى بدت غير مهتمة سوى بما يفعله فقط، كم دارت في رأسها الخيالات الوردية بشأن مستقبل باهر يجمعها به، فقط إن تطورت علاقتهما إلى ما هو أعمق! تنبهت من دوامة تحليقها الخيالي عندما ألقى كلمته الختامية، فطرحت عن رأسها هذه الأفكار الواهمة، ونهضت من مقعدها لتتجه إلى المنصة، حيث يقف وسط مجموعة من الأطباء يتشاور معهم في بعض الجزئيات. سمعت أحدهم يثني عليه من بين ضحكاته:
-نحن محظوظون بك دكتور "مهاب"، لقد كان النقاش غنيًا وممتعًا للغاية.
قال، وقد اتسعت بسمته:
-أشكرك سيدي.
مد آخر يده لمصافحته وهو يوصيه:
-نرجو ألا تحرمنا من هذه المحاضرات مجددًا.
أخبره مؤكدًا بثقة يشوبها لمحة من الغرور:
-لا تقلق، ستجدني في كل محفلٍ طبي.
ارتبكت، وتشعب في بشرتها حمرة خفيفة عندما تحولت كافة الأنظار إليها فجأة عندما خاطبها أحد الواقفين بنبرة مهتمة:
-وأنتِ كذلك دكتورة، نتمنى رؤيتك مرة أخرى.
عندئذ تحرك "مهاب" ليقف مجاورًا لها، وليضعها كذلك في المقدمة لتتمكن من الحديث إليهم، فابتسمت في خجلٍ، وردت وهي تنتقل بناظريها إليه، لتحدق فيه وحده:
-بالتأكيد.
تكلم مجددًا ذلك الطبيب وهو يوزع نظراته بين الاثنين، ومشيرًا بسبابته:
-لنتقابل في تجمع الغد، سأنتظركما.
وقتئذ رد عليه "مهاب" بهدوءٍ:
-حسنًا.
مرت عدة دقائق إلى أن خفَّ الحشد، وانشغل المعظم عنهما، حينئذ انفردت "تهاني" به، وسألته بفضولٍ ممزوجٍ بالحيرة:
-هو في إيه بكرة؟
أجابها وهو يشير لها بيده لتتحرك بعيدًا عن الصخب:
-عاملين زي جولة في البلد، بحيث الضيوف يشوفوا أهم معالمها!
نبرته أوحت لها بعدم اكتراثه، فتفرست في وجهه مليًا، وهي تستطرد متسائلة لتتأكد مما تشك فيه:
-شكلك بيقول إنك مش حابب تخرج؟
جاء رده مائعًا وموجزًا في نفس الآن:
-يعني.
تعجبت من ذلك، وسألته:
-في سبب معين؟
هز رأسه بالإيجاب دون أن يفوه بشيء، وكأنه يقصد بهذا استثارة نزعة الحيرة بداخلها، وحدث ما رتب له، فازداد الفضول بداخلها، ولم تمانع من الإفصاح عما تريد الوصول إليه، لذا تساءلت برقةٍ وتهذيب، وقد أصبحا كلاهما خارج قاعة المؤتمر:
-ممكن أعرف إيه هو؟
اتخذت ملامحه طابعًا جديًا غريبًا، وتوقف عن السير ليوضح لها بمكرٍ مدروس:
-بعيد إني مش عاوز أشوف "ديبرا"، بس ممكن تلاقي بعض الحاجات اللي ماتعجبكيش، وأنا مش حابب ده.
لحظتها أحست بالنشوة والابتهاج لتجنبه فعل ما يزعجها بأي طريقة، وكأن لها تأثير ساحر يعجز إلى حدٍ ما عن مقاومته، تمسكت بهذا الاعتقاد. لاحت ابتسامة ناعمة على محياها وهي تخبره:
-طالما إنت مش هتروح فأنا زيك.
أومأ برأسه ليكملا سيرهما، فتحركت معه، وهزت كتفيه متابعة كلامها:
-أنا أصلًا ماليش في الجو ده.
مشى إلى جوارها قائلًا بصوته الهادئ:
-أنا عارف...
حين التفتت تنظر إليه، أكمل بنبرة موحية، في التو تسربت إلى النابض بين ضلوعها، فراح يخفق بقوةٍ:
-وحابب تفضلي كده.
تسترت وراء قناع الابتسام الخجل لتخفي هذه اللهفة الفرحة المتفشية فيها، لو لم تكن قد سمعت ما قاله، لظنت أنها في حلمٍ جميل ستفيق منه بعد حين؛ لكنها يقظة، وما يردده واقع ملموس، يكاد يتحقق إن استمر على هذا المنوال.
.......................................
لم يكن من هواة الجلوس على المقاهي الشعبية؛ لكن شقيقه أرسل إليه ليأتي إليه في ذاك المكان الرابض بالقرب من محل عمله. انتظره "عوض" في تبرمٍ متذمر، فلم يرغب في إضاعة الوقت سدى، دون أن ينهي ما هو مكلف به من أعمالٍ. هبَّ واقفًا من موضع جلوسه عندما لمح "بدري" قادمًا من مسافة قريبة، اتجه ناحيته وهو منزعجٍ بدرجة كبيرة لتأخره، ناداه ملوحًا بيده، ومع ذلك لم يرد، ظل منشغلًا بالتحديق في مغلفٍ أصفر اللون ممسك به بيده. لم يره، واستمر ملهيًا مع نفسه، بلغه فسمعه يردد بما يشبه التهليل رغم خفوت صوته، وكأن برأسه حوارًا لا ينقطع:
-يا فرج الله، أنا مش مصدق.
استوقفه بالإمساك به من ذراعه، وصاح به وهو يهزه قليلًا:
-في إيه يا "بدري"؟ جايبني ومعطلني من الصبح ليه؟
نقل شقيقه الأصغر نظره إليه، وردد في تلهفٍ آخذٍ في التضاعف، وابتسامة عريضة تكاد تصل لأذنيه تبرز على ملامحه:
-افرح ياخويا، أنا الحمدلله استلمت تأشيرة السفر للعراق، فحلفت لتكون أول واحد تعرف.
فاجأه بذاك الأمر الذي انتواه سابقًا ومضى عليه وقت ليس بقليل حتى ظنوا جميعًا أنه لن يحدث، حدق فيه مدهوشًا للحظاتٍ، ثم قطب جبينه، وسأله مستنكرًا، وبعض الضيق يكسو وجهه:
-إنت بتكلم جد؟ برضوه عملتها؟!!
أكد عليه وهو يرفع كذلك المغلف نصب عينيه:
-ده ربنا اللي أراد.
تطلع "عوض" إلى ما في يده بحاجبين معقودين، بينما استمر شقيقه في الاسترسال ليُعلمه وهو عاقد العزم على تنفيذ ما طمح فيه بشدة بماضٍ ليس ببعيد عنهما:
-ده أنا حتى كنت نسيت الحكاية دي من ساعة ما وصيت الزبون إياه إنه يشوفلي سكة لبرا، وزي ما إنت عارف لا كان في حس ولا خبر منه، بس طلع أصيل، وحطني على أول الطريق.
بدا شقيقه الأكبر غير راضٍ عن حماسه الظاهر للإقدام على هذه الخطوة الفارقة، وسأله في عبوسٍ:
-وإنت يعني لازمًا تسافر؟ ما تفضك من الحكاية دي.
أصر على قراره هاتفًا بعنادٍ وأصابعه تزداد تشبثًا على المغلف:
-لأ مش هيحصل، دي فرصة أجرب حظي في حتة جديدة أجيب بيها قرش زيادة بدل العيشة الصعب اللي بقينا فيها.
سكت، وحك جبينه للحظةٍ، ثم تشجع ليسأله باهتمامٍ تخالطه الحيرة:
-طب ومراتك؟ ناوي تعمل معاها إيه؟
امتقعت تعابيره، وصار متجهمًا للغاية، ففهم نواياه دون الحاجة للبوح بها، ومع ذلك بادر بالقول عنه، كأنما يسمعه ما يدور في رأسه:
-شكلك مش عامل حسابك عليها تبقى معاك، صح كلامي؟
لوى ثغره ليتكلم في حدة طفيفة:
-هاخدها أبهدلها معايا؟ أنا محتاج أظبط وضعي الأول، وبعد كده أشوف هاخدها إزاي!
كان رده منطقيًا، مقنعًا، وليس محلًا للنقاش، بحث عن شيء آخر ليقوله، لعل وعسى يثنيه عن رأيه؛ لكنه لم يجد، لذا ثبت عينيه عليه قائلًا في استسلام:
-ربنا يصلح حالك.
شكره لدعمه الظاهري، وهتف بتحمسٍ أكبر:
-هروح أفرح أمي وأبشرها.
كان يعلم أنه لا يحق له التدخل في شأنه، ومع ذلك نصحه في نوعٍ من اللين:
-وماله، بس ماتنساش مراتك، هي ليها حق عليك.
تحولت نظراته بعيدًا عنه وقال بغير مبالاة وقد همَّ بالسير:
-ربنا يسهل!
شيعه "عوض" بنظرة آسفة، قبل أن يردد في يقينٍ كبير:
-شكلك هتظلمها معاك يا أخويا.
...........................................................
خُيل إليها أنها أصبحت تملك كنوز الأرض الثمينة، بعدما أطلعها ابنها على الأنباء السارة. ابتهجت أساريرها، وأضاءت عيناها بكل معاني الفرحة والسرور، ورغم أنها لا تعرف القراءة أو الكتابة إلا أنها ظلت تتحسس الأوراق بأطراف أصابعها، وكأنها تستشعر نشوة الظفر بهذه الأختام الرسمية. ضاقت حدقتاها فجأة، وراحت تشدد مجددًا على ابنها وهي تعيد وضع الأوراق في المغلف الأصفر:
-اسمع كلامي، متقولش لحد إلا على آخر وقت، إنت ممكن تتحسد فيها، والعين وحشة.
هز رأسه في طاعةٍ، وسألها:
-طب و"فردوس"؟
أبدت تعبيرًا ناقمًا ومشمئزًا من سيرتها، فحذرته بلهجةٍ صارمة:
-دي بالذات قبلها بيومين، ده كفاية خالتها وأرها!
لم يعارض ما تمليه عليه؛ لكنه تكلم في صيغة متسائلة، كما لو كان يستفهم منها:
-بس جوازي منها كده هأجله؟!!
ردت بامتعاضٍ، ونظرة ساخطة تطل من عينيها:
-مافيهاش حاجة لما تستنى كام شهر، هي متسربعة على إيه؟
فرك مؤخرة عنقه في تحيرٍ معكوسٍ على وجهه، فمالت عليه والدته تخبره بهذه الابتسامة المتسعة:
-ركز إنت في باب الرزق اللي ربنا فتحهولك ده، وسيبك من أي حاجة تانية.
قال صاغرًا دون تفكيرٍ:
-حاضر يامه.
استحسنت قدرتها على استمالة رأسه ودفعه لتنفيذ ما ترغب فيه بلا مجهودٍ، وراحت تستحثه على السعي وراء أحلامه بتلهفٍ يفوقه، غير مبالية إطلاقًا بمن دونه.
........................................
العودة إلى أرض الواقع بعد لحظاتٍ من تذوق نعيم الجنة كان محبطًا لها، تمنت "تهاني" لو استمرت فاعليات هذا المؤتمر لأيامٍ أكثر، ورغم الأسلوب الجاد الذي بات عليه "مهاب" في التعامل، إلا أنها لم تمانع البقاء بقربه؛ لكن لكل شيءٍ نهاية. أوصلها إلى مسكنها، وودعها بابتسامة صغيرة، فتركته وصعدت وهي منهكة من كم المجهود الذي بذلته طوال الساعات الماضية.
كالعلقة التي تلتصق بظهر فريستها لتمتص منها الدماء بشراهةٍ، لاحقتها "ابتهال" بإلحاحٍ مغيظ منذ اللحظة التي ولجت بها إلى الداخل، أخذت تفحصها من رأسها لأخمص قدميها بتدقيقٍ عجيب لتتأمل هذا التغيير الملحوظ الذي صارت عليه، سألتها بسماجةٍ وهي تمسح بيدها على ثوبها البنفسجي الجديد، والذي كانت ترتديه حين استقلت الطائرة مع "مهاب" عائدة إلى هنا:
-إيش إيش، إيه الحاجات الحلوة دي؟
تجاهلتها كالعادة، وتركتها تثرثر، فسمعتها تقول من خلفها وهي تضع حقيبتها أرضًا بجوار فراشها:
-ده احنا اتغيرنا ولبسنا اللي على الحبل وزيادة.
ضغطت على شفتيها في تأفف، ما لبث أن انقلب لاستهجانٍ وهي تندفع في الكلام لتسألها بتطفلٍ مستفز:
-والدكتور الحليوة قالك كلام من إياه؟
حينئذ صاحت بها بصبرٍ نافد على الأخير، وبنبرة محتدة:
-"ابتهال"، أنا راجعة من السفر تعبانة، ممكن تسبيني أرتاح؟
لم تعبأ بصراخها، ولا بضيقها الظاهر، بل أصرت على البقاء لصيقة بها، فأخبرتها بلزاجةٍ لا تُطاق:
-ده أنا هطق من الأعدة لوحدي ليل نهار، وربنا ده إنتي كنتي واخدة بحسي.
فما كان من "تهاني" إلا أن فقدت هدوئها، واندفعت تجاهها في عصبيةٍ، لتقوم بدفعها دفعًا إلى خارج الغرفة وهي تهتف بحمئةٍ:
-أنا مش ناقصة صداع.
ما إن أخرجتها حتى صفقت الباب في وجهها، ووصدته بالمفتاح لتضمن عدم اقتحامها للغرفة مجددًا، ومع ذلك سمعتها تصيح من الخارج ببرود مستثيرٍ للأعصاب:
-براحتك، أنا هعذرك بس عشانك تعبانة، ولسه راجعة، بس اعملي حسابك مش هسيبك إلا لما أعرف كل حاجة بتفاصيل التفاصيل.
نفخت "تهاني" في سأمٍ شديد، ورددت وهي تسير عائدة إلى فراشها:
-هو في كده؟ بني آدمة رهيبة!!!!
كان إرهاق السفر متمكنًا من بدنها، فلم تستغرق وقتًا في الانخراط في سباتٍ عميق، تسلل فيها شخصه إلى أحلامها الطامعة بحياة هانئة مليئة بالراحة والثراء، الثراء الفاحش!
...........................................
أطلقت تنهيدة ارتياحٍ كبيرة عندما نجحت في الإفلات من قبضة هذه السقيمة المتطفلة، قبل أن تعترض طريقها نهارًا، وتحاصرها بأسئلتها التحقيقية المزعجة. انطلقت إلى المشفى بسيارة أرسلها إليها "مهاب" لتقلها، رافضة حضور أي من محاضرات اليوم دون أن تلقاه أولًا، وكأن رؤيته قد باتت إدمانًا لها.
بلغت سعادتها عنان السماء عندما وجدته في انتظارها بمكتبها، ألقت عليه التحية، وأبدت سعادة غير عادية لمقابلته؛ لكنه تعامل معها بجمودٍ غريب، واستطرد متحدثًا بشيءٍ من الجدية الباعثة على القلق والريبة:
-أنا مش هطول كتير...
سألته بتوجسٍ، وقد اختفت النضارة من على بشرتها:
-خير في حاجة؟
أبقى عينيه عليها ثابتة وهو يجيبها بهدوءٍ:
-أنا كنت جاي أبلغك إني هرجع مصر كام يوم.
انقبض صدرها، وتوتر قلبها، فسألته باضطرابٍ متصاعد:
-ليه؟ في حاجة حصلت؟
صمت للحظةٍ، ونكس رأسه في حزنٍ قبل أن يجاوبها:
-والدي تعبان شوية، ولازم أسافر أطمن عليه بنفسي.
في التو قالت كنوعٍ من الدعم المعنوي له:
-ألف سلامة، إن شاءالله ماتكونش حاجة خطيرة.
عقب بغموضٍ مقتضب:
-هيبان.
حاولت استطالة الحديث معه بعدما رأت كيف استبد به الهم:
-متقلقش يا دكتور "مهاب"، ومن فضلك طمني أول بأول.
هز رأسه بإيماءةٍ صغيرة، وأردف مودعًا إياها دون قول المزيد
-أكيد، أشوفك على خير.
أحست بغصة مريرة تعلق في حلقها، فراحت تردد بصعوبةٍ، وهذا الشعور الخانق يزداد ضغطًا على صدرها:
-مع السلامة.
انقلبت سحنتها، وتعكر مزاجها لرحيله، وكأن قناع الثبات التي كانت تختفي خلفه قد سقط عن وجهها، شعرت مع ذهابه بفراغ كبير يحتلها، بوجود شيء موحش يجثم على روحها، حتى أنها استنكرت ما أصابها لمجرد التفكير في تأثير غيابه عليها. لم تقوَ ساقاها على حملها، فارتعشت وهي تسير عائدة إلى مكتبها لترتمي على المقعد وهي شاحبة الملامح متسائلة في صوتٍ يعبر عن تكدرها:
-أنا إيه اللي حسا بيه ده؟!!
..........................................
بذلت جهدًا كبيرًا لتركز في استذكار ما فاتها من محاضراتٍ، ومع هذا عجزت عن قراءة سطر واحد من الورقة المطروحة أمام عينيها لساعاتٍ، كان بالها مشغولًا، تفكيرها مشوشًا، فاكتفت بالنظر إلى ما لا تراه بين السطور لتختبئ خلف ستار الصمت والهدوء الزائفين، لعل وعسى عقلها يكف عن السؤال عنه، فقد مر ما يقرب من أسبوعٍ وهو غائب عنها، لا تعرف عنه أي شيء، حاولت التوصل إلى أي معلومة تُفيدها بشأن مرض والده؛ لكنها لم تصل لشيء، كل الطرق مسدودة. رفعت رأسها فجأة وحولتها تجاه الباب عندما تكلم أحدهم بلهجةٍ مرحة مثيرة للانتباه:
-أنا أكيد حظي حلو عشان ألاقي هنا.
استغربت "تهاني" لقدوم "ممدوح" إلى هنا، ونهضت قائمة لترحب به بوديةٍ متكلفة:
-اتفضل يا دكتور.
لم يكن بحاجة إلى أي دعوة ليجلس، فقد تقدم من تلقاء نفسه تجاه مكتبها، واستقر على المقعد الشاغر أمامها، نظر إليها ملء عينيه متسائلًا في اهتمامٍ وابتسام:
-إيه الأخبار معاكي؟ وراكي شغل ولا حاجة؟
أجابت نافية:
-لأ، كنت بذاكر شوية اللي فاتني.
هز رأسه في تفهمٍ ليتابع بنظراتٍ قوية مدققة مسلطة عليها:
-مالك يا دكتورة؟ حاسك زعلانة من حاجة...
وقبل أن تفكر في الإحجام عن الرد استأذنها بلباقةٍ ترفع عنه الحرج:
-تسمحيلي أعرف، ده لو مكانش يضايقك أو فيه تدخل مني!
كانت بحاجةٍ للتنفيس عما يجيش في صدرها من كبتٍ وضيق، فتكلمت على مهلٍ، كما لو كانت تستخلص الكلمات بصعوبة لتعبر عن حالها:
-لأ، بالعكس..
سكتت لهنيهة في ترددٍ قلق، سرعان ما تغلبت عليه لتستأنف حديثها إليه، وكأنها تحاول الاستئناس بالتحاور معه:
-أنا أصلي قلقانة شوية على والد دكتور "مهاب"، كان قالي إنه تعبان، وهو سافر يطمن عليه.
راقبها "ممدوح" بلا تعقيبٍ، لكن نظراته تبدلت لشيءٍ آخر غامض، بينما اندفعت زفرة طويلة من جوفها وهي تكمل:
-ولحد دلوقتي مش عارفة حاجة عنه.
مرة ثانية سألته وهي ترى ذلك التعبير المبهم الذي استحوذ على كامل ملامحه:
-هو كلمك؟
اختصر جوابه قائلًا:
-لسه...
انتابتها الهواجس، فاضطربت قسماتها، وتوترت نظراتها، لذا أخبرها مشيرًا بيده ليثبط من المشاعر السلبية التي استحوذت عليها:
-اطمني، لو كان في خبر وحش كنا عرفناه، الحاجات دي مابتستخباش.
أراحها رأيه قليلًا، فحركت رأسها بهزة خفيفة وهي تغمغم:
-ربنا يعديها على خير...
أغلقت دفتر الأوراق المفتوح أمامها، ونهضت قائلة في إحباطٍ يمتزج بالحزن:
-أنا مش قادرة أركز أكتر من كده.
قام بدوره، وخاطبها بتفهمٍ:
-مافيش داعي ترهقي نفسك.
دست ما لديها في حقيبتها المتسعة تأهبًا لانصرافها؛ لكنه اعترض طريقها مقترحًا بحماسٍ:
-تعرفي إنتي محتاجة تغيري جو، تشوفي حاجة جديدة تجدد نشاطك.
كانت فاقدة للشغف، فعلقت حقيبتها على كتفها، وتمتمت بغير اهتمامٍ:
-ماليش مزاج أعمل حاجة.
ألح عليها بتصميمٍ، جاعلًا الرفض مسألة غير قابلة للتفاوض:
-سبيلي نفسك وأنا هخليكي في حالة تانية خالص، ومش هاقبل بأعذار نهائي.
تحرجت من رفض دعوته، وقالت:
-مش هاينفع، أنا آ...
قاطعها بإصرارٍ أكبر:
-كده هزعل، أرجوكي يا دكتورة، أنا غرضي أسعدك.
للحظة فكرت في كلامه، فقد احتاجت للهروب من دوامة القلق التي تعتصرها، أبدت موافقتها قائلة وهي توسم شفتيها ببسمة رقيقة:
-طيب.
تظاهر بالسعادة العارمة لقبولها، لكن في دواخله غير المرئية لها كان يحترق كمدًا، فقد أصبح مدركًا أن المنافسة بينهما بدأت لتوها، وخصمه راح يشرع في تنفيذ مخطط استدراج ضحيته الجديدة لشباكه، باللجوء لنفس الحيل القديمة المستهلكة؛ الاختفاء المريب، والغياب الطويل، وتــعذيـــب الوجدان بإحساسي الفراق والهجر المرير، لتصير بعدئذ لقمة يسيرة سهلة المضغ، فترفع رايات الاستسلام دون أدنى مقاومة، بعدما استنزفتها مشاعرها المرهفة. قال بتحدٍ متحفز لنفسه، وفي عينيه تصدح هذه النظرة الماكرة:
-هنشوف هتسرى في الآخر على مين
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(اللعبة الحــقيرة)
صحراء من الصمت المرير عاشت فيها بغيابه المفاجئ عنها، حاولت التغلب على ما يعتريها من مشاعر اللهفة والضيق بإلهاء نفسها بالانشغال بهذه الفسحة المفاجئة، على أمل أن يستريح عقلها ولو لبرهةٍ من التفكير في شأنه. ظنت "تهاني" أن رفيق جولتها سيصحبها إلى أحد المطاعم الجديدة، لكونه خبير في هذا الشأن؛ لكنه وعلى غير توقع إلى البلدة المجاورة، ليصل كلاهما إليها بعد ساعتين من القيادة المتواصلة والمصحوبة بحديث أحادي الجانب عن مواضيعٍ شتى، كانت في غالبيتها تنصت فقط إليه. صف السيارة خارج الميناء التابع لهذه البلدة، وسألته بحاجبين معقودين:
-هو احنا بنعمل إيه هنا؟
أخبرها بغموضٍ، ووجهه تداعبه ابتسامة شقية:
-هتعرفي دلوقتي.. اتفضلي.
ثم أشار لها بيده لتتحرك، فتبعته صامتة، إلى أن وجدته يقوم بالحديث مع أحدهم من أجل استئجار أحد تلك اليخوت الصغيرة لتستقلها في جولة بحرية، أسعدتها المفاجأة السارة، وصعدت إليه بمساعدته. رغم اندهاشها من حسن اختياره إلا أنها استحسنته للغاية. ابتسمت تشكره في نعومة وهي تجلس مجاورة لحافة اليخت، ثم استطردت معترفة له:
-أنا عمري ما ركبت مركب في حياتي، دي أول مرة، وفي يخت، بجد كتير عليا.
صحح لها "ممدوح" ما فاهت به بطريقة ماكرة ومراوغة لاستدراجها إلى طرفه في هذه المنافسة القائمة:
-ليه متقوليش إنه حظي الحلو خلاني أشاركك التجربة الجميلة دي.
أحست بشيءٍ من الحرج، وردت وهي تشيح بوجهها لتحدق في صفحة المياه المتموجة بهدوءٍ:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، كلك ذوق.
شعرت به يتحرك مبتعدًا، ليغيب عن أنظارها، فسحبت شهيقًا عميقًا ملأت بهوائه النقي رئتيها المعبأتين بالهم، ظلت مستغرقة في تحديقها الهائم إلى أن عاد مجددًا وفي يده كأسًا مملوءة بمشروبٍ ما، ناولها إياه وقد تبسم قائلًا:
-اتفضلي.
تحفزت في جلستها، وسألته بترددٍ دون أن تمد يدها لتأخذه:
-إيه ده؟
تطلع إليها بغرابةٍ، فتابعت رافضة قبل أن ينطق موضحًا أي شيء لها، وعيناها تنظران إلى الألوان الممتزجة معًا:
-معلش، أنا مش بشرب.
ضحك في لطافةٍ، وتكلم من بين ضحكاته الصغيرة مدهوشًا:
-ده عصير فواكه، كوكتيل، إنتي فكرتيه حاجة تانية؟
زاد شعورها بالخجل، وردت معللة وهي ترمش بعينيها بعدما أخذت الكأس منه:
-أسفة، أصل افتكرت دكتور "مهاب" لما عزم عليا بشمبانيا.
تعمد وضع هذا الطابع الجدي على ملامحه وهو يسألها بنوعٍ من الترقب:
-وعملتي إيه؟
في التو أخبرته بلا تفكيرٍ:
-رفضت طبعًا.
جلس مجاورًا لها، وأردف في إيجازٍ:
-كويس...
أحست من طريقته المقتضبة أنه ما زال يريد إضافة المزيد، وصدق حدسها عندما استأنف مسترسلًا بغموضٍ محير:
-أصله متعود يعمل دايمًا كده مع اللي يعرفهم...
من موضعه نظر إليها عن قربٍ، فرأى كيف تغيرت ملامحها، وغلفتها سحابة من الغمام، وإن ظلت هادئة، لا تعلق بكلمة. ابتسم وأكمل بنبرة موحية:
-وخصوصًا الجنس الناعم، ما هو معجباته كتير بقى.
شعرت بدمائها تحنقنٍ، بقدرٍ من الغليل يسري في عروقها، ويحتل كل ذرة في كيانها، ليجعلها على أهبة الاستعداد للانتفاض والثورة ضد ما تسمعه، تضاعف ذلك الشعور الحانق بقوله المستفيض:
-وهو الصراحة مايتسابش، ألف مين تتمنى ترتبط بواحد زيه، مركز، وسلطة، ومال، وعيلة.
امتلأ جوفها بذاك المذاق المرير، فقربت الكأس من فمها لترتشف منه القليل؛ لكنه كان كالعلقم السقيم، و"ممدوح" لا يزال يخبرها بما زعزع أمنياتها:
-بس هو مش بتاع جواز، أخره يقضي يومين حلوين مع بنت جميلة، شوية ويزهق، ويرجع يدور على غيرها، ومش فارق معاه إن كانت مشاعرها هتتأذى ولا لأ.
خفضت الكأس ويدها ترتعش، حاولت النظر إلى الأفق الأزرق الممتد على مرمى بصرها، وصوته يتخلل إلى أذنها ليخبرها بما أجج بداخلها مشاعر الضيق، والحنق، والغيظ:
-هو معذور، اتعود ياخد اللي عاوزه، طالما حط ده في دماغه، وبيقدم كل المغريات عشان يضمن إنها متفلتش من إيده.
أحست بتورية خفية في ختام جملته، ربما كانت هي المقصودة بهذا، فالتفتت تنظر إليه وهي تحتج على مقصده بانفعالٍ ملحوظ:
-وأنا مالي، هو حر في تصرفاته، أنا مش هحاسبه...
ازدادت أصابعها إطباقًا على الكأس وهي تواصل الحديث بعصبية بائنة رغم خفوت صوتها:
-وعلاقتي بيه في إطار إننا زملاء وبس.
ثبتت "تهاني" نظراتها عليه، وأنهت كلامها قائلة بحسمٍ غاضب:
-مش أكتر من كده.
ثم تركت الكأس من يدها المتشنجة دون أن تنتبه جيدًا لموضع إسناده، فتركته في الفراغ، فسقط في التو، وانسكب محتواه على السطح الخشبي، هبت واقفة، وأبدت انزعاجًا كبيرًا من تصرفها الأخرق، وكادت تنطق بشيء لتعتذر عن حمقها؛ لكن "ممدوح" تدخل قائلًا وقد قام واقفًا:
-حصل خير، ما تشغليش بالك.
عاودت الجلوس وهي تطلق أنفاسًا بطيئة مختنقة بضيقها من بين شفتيها المشدودتين، لتتابعه بعدئذ وهو يتحرك من حولها ليحضر أحدهم لينظف الفوضى التي أحدثتها. أصبح كل شيء كما كان عليه قبل قليل، فاستطرد "ممدوح" مخاطبًا إياها بتحذيرٍ مباشر وهو مسلط نظره عليها:
-أنا عاوزك بس تاخدي بالك، ماتتخدعيش بالكلام الحلو.
صاحت به بحدةٍ:
-أنا مش عبيطة يا دكتور.
امتص غضبها بحنكةٍ، وعلق مرددًا بهدوئه الواضح، كما لو كان يمدحها بغزلٍ مستتر:
-مش قصدي أي إهانة في كلامي، بالعكس إنتي إنسانة ذكية، وأنا واثق من قدرتك على الاختيار الصح.
استقبلت مغزى عباراتها بتحفزٍ، وكتفت ساعديها أمام صدرها، لترد بوجه منقلب:
-ممكن نرجع، أنا حاسة إني تعبانة.
قابل هجومها الظاهر بنفس الأسلوب المسالم، وقال متفهمًا:
-حاضر.
تركها بمفردها، وذهب بعيدًا لتشعر بكتفيها يسقطان من يأسها المحبط، زحفت الدموع إلى عينيها رغم مقاومتها لهذا الشعور المخزي، فخاطبت نفسها وهي تخنق غصة مؤلمة تحك حلقها:
-يعني أنا زيي زي غيري، مجرد لعبة في إيده؟
اختفى ما ظنت أنه كان جميلًا بوجوده، لتحل هذه التخيلات القبيحة رأسها، وتشحن تفكيرها ضده. من مكان وقفه بالخلفية، راقبها "ممدوح" مستمتعًا بما أحرزه من تقدم ماكر في إفساد خطة رفيقه، فما أمتع المنافسة على شيء يجيد كلاهما الاقتتال عليه!
..............................................
بنوعٍ من الحسد وقفت تتأمل لبضعة دقائق عبر زجاج الشرفة شريكتها في السكن وهي تحادث أحدهم بعدما ترجلت من هذه السيارة الغريبة، أمعنت النظر في طرازها الحديث واللافت للنظر، كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتادت إيصالها بشكلٍ يومي إلى هنا، وكذلك عن الأخرى التي يستقلها هذا الجراح المشهور. الاحتياج والعوز ونقص الشعور بالرغبة لدى الآخرين عزز لديها مشاعر النقم الساخط ناحيتها، ظل هذه المشاعر الخبيثة تتغلل فيها رويدًا رويدًا إلى أن باتت تحقد عليها بشدة، مصمصت "ابتهال" شفتيها في تذمرٍ، وأرخت أصابعها عن الستارة لتنسدل على الزجاج مرددة لنفسها:
-الواحد المفروض يتعلم منك السهوكة اللي على حق.
شردت نظراتها في الفراغ، ودمدمت بنبرة مغتاظة:
-شكلك ناوية تطلعي من البعثة الفقر دي بعريس ووظيفة.
تنهدت مليًا لتضيف بعدها بقنوطٍ:
-يا سلام لو عندي نص حظها.
ثم سارت تجاه الباب استعدادًا لاستقبالها، ما إن أطلت عليها حتى اندفعت تجاهها تسألها بغيرة ظاهرة في صوتها:
-إيه يا سيدي الدلع ده كله؟ مافيش يوم وتاني يعدي عليكي إلا لما ألاقي حد يوصلك، لأ وعندهم عربيات عجب العجاب!
هذا ما كان ينقصها حقًا، واحدة مثلها كالكائن الطفيلي تعد عليها أنفاسها، وتراقبها في كل شاردة وواردة، ألا يكفيها شعور الاختناق المستبد بها لتأتي وتجهز عليها بكلامها المسموم؟ لذا هدرت "تهاني" صارخة فيها دون مقدماتٍ لعلها تكف عن ترصدها بهذه الطريقة الفجة:
-"ابتهال"، ملكيش دعوة باللي بعمله، وأحسنلك متركزيش معايا.
في التو تراجعت عن طريقتها السخيفة معها مبدية دهشة مستنكرة لحدتها، ومع ذلك كلمتها بحذرٍ:
-إنتي متعصبة عليا كده ليه بس؟
ما لبث أن تابعت بتلميحٍ مبطن لم تستسغه:
-ده أنا حتى نفسي أتعلم منك أبقى ناصحة زيك كده.
أطبقت "تهاني" على شفتيها محاولة ضبط أعصابها؛ لكنها تأهبت مجددًا عندما نطقت الأخيرة بغير احترازٍ لتستفزها:
-بس أرجع وأقول اللف الكتير مش حلو، ارسيلك على واحد.
انفلتت منها صيحة أخرى مغلفة بالهجوم، وهي تلوح بيدها لها:
-ملكيش فيه، ومش من حقك تتدخلي في حياتي، ولا تملي عليا اختياراتي، أنا حرة، اللي أشوفه مناسب هعمله غصب عنك وعن أي حد، سامعة؟
كعاصفةٍ رعدية هادرة تحركت من أمامها لتتجه إلى غرفتها صافقة الباب بعنف خلفها، فانتفض جسد "ابتهال" في ذعرٍ مشوبٍ بالاندهاش، حكت بعدئذ فروة رأسها متسائلة بتحيرٍ غريب:
-هي مالها دي؟
ثم هزت كتفيها في عدم اكتراثٍ، وسارت تجاه المطبخ وهي تحادث نفسها:
-أما أروح أشوف في إيه في التلاجة أكله، بدل ما عصافير بطني عمالة تزقزق!
.................................................
اضطرب نومها، ووجدت صعوبة في استدعائه، فظلت غالبية ساعات الليل يقظة العقل والمشاعر. طغى عليها إحساسها بأنها ضحية الاستغلال والخداع، خاصة مع تكرار كلمات "ممدوح" الأخيرة لها في عقلها، ليشعرها ذلك بمدى الحقارة والوضاعة التي كانت عليها حينما تساهلت في التعامل مع رفيقه "مهاب" خلال رحلتهما المزعومة إلى المؤتمر الطبي، معتقدة في نفسها –بسذاجة- أنها ذات تأثير قوي عليه؛ لكنه كان يستغلها لصالح أهوائه، وللظفر بلحظة ماجنة معها كانت فيها بطلتها الحمقاء، ومع زاد الطين بلة أيضًا سخافات "ابتهال"، فجعل شعورها بالاختناق يتضاعف، حتى كاد يطبق على أنفاسها. مسحت الدموع المتأثرة من عينيها، ورددت تلوم نفسها بصوتٍ محمومٍ خافت:
-يعني أنا مجرد رقم في القايمة بتاعته؟
اختنق صدرها أكثر، وغصت بالمزيد من البكاء، فتركت عبراتها تنساب على وجنتيها، لم تطق هذه الفكرة مُطلقًا، كيف لها أن تنخدع بحماقةٍ لما حاول إغوائها به وهي من المفترض أن تكون الفتاة الذكية ذات التفكير المتعقل؟ تبللت وسادتها عندما تقلبت على جانبها، لتتساءل بحرقةٍ:
-دي بقت قيمتي عنده؟ واحدة رخيصة من الشارع!!!
كفكفت دمعها المسال، وقالت في نبرة عازمة محاولة بها لملمة ما تبعثر من كرامتها المهدورة عبثًا:
-أنا مش هسمح ليه أو لغيره إنهم يضحكوا عليا من تاني.
سحبت الغطاء ووضعته أعلى رأسها وهي تؤكد مرة أخرى لنفسها رغم إحساس المهانة الذي عشش في قلبها:
-أهوو درس اتعلمت منه!!
...................................................
بجسدٍ مشدود، وكتفان منتصبان، وقف "سامي" خلف مقعد أبيه بمسافة خطوةٍ، ينتظر في صمتٍ تام انتهائه من مراجعة الملفات الموضوعة على مكتبه، قبل أن يزيل كل واحدة منها على حدا بتوقيعه. للحظة ناوش عقله أمنية واحدة مُلحة، لا يكف عن التفكير فيها أبدًا، أن يصبح وريث ذاك العرش، الوحيد المتحكم في إمبراطورية "الجندي"، ما لبث أن تبخرت أحلامه، حينما أعلنت السكرتيرة عن وصول شقيقه الأصغر وتواجده بالخارج، تصلب في وقفته، وراحت حواسه تتأهب في تحيزٍ مناهض له. أصبحت ملامحه تميل للامتعاض الشديد، ونظراته للحدة حينما ولج إلى الداخل وفي يده حقيبة جلدية سوداء اللون، تحدث الأخير مهللًا بحماسٍ رغم أسلوبه المهذب:
-"فؤاد" باشا! والدي العزيز.
ألقى والده قلمه الحبري من بين أصابعه، ونظر إليه هذه النظرة المعنفة قبل أن يلومه:
-لسه فاكر إن ليك عيلة؟
لاذ "مهاب" بالصمت، وسار على مهلٍ قاصدًا مكتب أبيه الضخم، بينما استغل "سامي" الفرصة ليوبخه هو الآخر، كما لو كان يوغر بذلك صدر والده ويحفزه ضده، فيتخذ موقفًا مناوئًا ومعاديًا له، فهتف به في تجهمٍ ساخط:
-ده مصدق طبعًا إنه يسافر برا عشان يبقى على راحته، مافيش رقيب عليه، ولا حسيب!!
تحولت أنظار "مهاب" إليه، رمقه بنظرة نارية، قبل أن يرد بهدوءٍ تشوبه سمة العنجهية:
-أنا مش مستني رقيب يقولي أعمل إيه ومعملش إيه يا "سامي".
تابع تقدمه تجاه المكتب إلى أن أصبح في مواجهة شقيقه، لم يبعد ناظريه عنه، وتابع بغرورٍ يليق به:
-أنا "مهاب الجندي"، وعارف يعني إيه إني أكون ابن "فؤاد" باشا "الجندي"!!
انحنى قليلًا واضعًا الحقيبة على الطاولة القصيرة التي تنتصف ما بين المقعدين، وأكمل في رنة هادئة:
-وعشان أخيب ظنك، أنا مش مقضيها فسح، وتضييع وقت زي ما إنت فاكر.
فتح قفلها ليتمكن من إخراج عدة ملفاتٍ بها، استقام واقفًا، ثم خاطب والده بتوقيرٍ:
-اتفضل يا باشا.
زرَّ "فؤاد" عينيه متعجبًا وهو يأخذ منه الملفات:
-إيه دول؟
أجابه باسمًا في ثقة كاملة:
-ده ورق توكيل حصري بتوريد الخامات اللي محتاجينها من برا بأقل من السعر الحالي بحوالي التلت.
بفمٍ مفتوح، وملامح مبهوتة، حملق "سامي" في شقيقه مصدومًا، حيث برزت عيناه في محجريهما وهو يكاد لا يصدق ما يتفوه به. زاد تأثير الصدمة على قسماته عندما تابع توضيحه المتباهي:
-وده عقد شراكة مع مؤسسة (...) لتصدير إنتاجنا ليهم بضعف سعر السنة اللي فاتت.
تطلع "فؤاد" إلى كل ملفٍ باهتمامٍ ممزوجٍ بالإعجاب، وانعكس ذلك على تعبير وجهه الساكن، بينما استمر "مهاب" في تعزيز ذلك الشعور لديه بإخباره:
-أما ده بقى...
لم يتركه والده يكمل جملته لنهايته، حيث قاطعه ملتفًا برأسه نحو ابنه يخاطبه بنوعٍ من المقارنة:
-شايف أخوك، يا ريت تتعمل منه.
ازدرد ريقه بصعوبة، وقال واضعًا بسمة مهزوزة حاول عبرها إخفاء حنقه المغتاظ منه:
-أكيد يا بابا.
استمرت النقاشات حول الإنجازات التي جاء بها "مهاب" من خارج البلاد لعدة دقائق قبل أن يغير "سامي" الحوار لموضوعٍ آخرٍ بقوله النزق:
-كويس إنه موجود عشان نفاتحه في موضوع الجواز.
رفع بصره إليه متسائلًا في دهشة مستهجنة:
-جواز!!
حينئذ تكلم "فؤاد" موضحًا:
-أيوه، أخوك شايف عروسة مناسبة ليك، فيها كل المواصفات المطلوبة.
سكت لهنيهة، لينطق بتريثٍ جعل من حوله يصاب بالصدمة، وعيناه مرتكزتان على وجه شقيقه:
-معلش يا "سامي"، أنا مضطر أرفض العرض بتاعك.
استشاط الأخير غضبًا مما اعتبره تمرده غير المقبول، وهاجمه في الحال:
-إنت عارف دي تبقى بنت مين؟!!
ثم حدجه بنظرة احتقارية مملوءة بحقده العميق تجاهه قبل أن يتم جملته:
-هي لولا إنها عاوزاك مكونتش تحلم تتجوزها.
رد عليه ببرودٍ تام، قاصدًا إهانته كذلك:
-ده لأن طموحك على أده.. زي مخك.
لم يتحمل ازدرائه بهذه الوقاحة، فصاح به بنبرة مرتفعة وهو يرفع إصبعه في وجهه مهددًا:
-اتكلم عدل معايا!!
تجاهله عن عمدٍ، واستدار مخاطبًا أبيه:
-اسمحلي يا بابا أفهمك وجهة نظري.
كان لا يزال "فؤاد" على هدوئه الحذر، فأردف وهو يسترخي في مقعده الوثير:
-أنا سامعك.
عدَّل "مهاب" من وضعية جلوسه، وأصبح أكثر انتصابًا بظهره وهو يستفيض شارحًا:
-أنا معروف عني برا إني دكتور ناجح، من عيلة كبيرة، ليها سمعة زي البرلنت، مش أي حد يقدر يناسبهم، فطبيعي أكون محط أنظار بنات كتير، وخصوصًا لو كانوا بنات الأمراء وأصحاب السلطة.
حانت منه نظرة جانبية نحو شقيقه الحانق قبل أن يعود للتحديق في وجه والده متابعًا بنبرة مؤكدة:
-وأظن دول مش أي حد، أنا بس بدور على واحدة فيهم تقدر تدي لعيلتنا، مش تاخد مننا.
ظهرت أمارات التفكير على وجه والده، فأضاف "مهاب" أيضًا، وقد لاحت على ثغره ابتسامة متغطرسة:
-فاعذرني يا "فؤاد" باشا لو كنت مأخر الجواز ده.
منحه والده نظرة غامضة، ومع ذلك استمر يقول بنفس اللهجة الثابتة والواثقة:
-أنا راجل عملي، وببص لقدام.
ظن "سامي" أن والده سيثور عليه، سيؤنبه، وربما يهدده بحرمانه من مزايا الانتساب لعائلة "الجندي" جراء معارضته للأمر؛ لكنه صعق كليًا عندما عنفه محولًا الدفة ضده، ليصبح في موضع تقصير:
-شايف دماغ أخوك، يا ريت تتعلم منه.
عندئذ نهض "مهاب" واقفًا، ألقى ببسمة متشفية ناحية شقيقة، ليعاود التطلع إلى أبيه متسائلًا:
-تؤمر بحاجة تانية يا باشا؟
أجابه بالنفي المشروط:
-لأ، بس مستنيك على العشا.
هز رأسه في طاعة وهو يخبره:
-طبعًا، ليا لي الشرف.
مرة ثانية سلط نظره على شقيقه، ليرمقه بهذه النظرة الشامتة، ثم ودعه:
-سلام يا "سامي"!
بالكاد كبح الأخير نيران غضبه المستعرة بداخله، وتوعده في قرارة نفسه وهو يكز على أسنانه، ويكور قبضة يده المتشنجة:
-ليك يوم يا "مهاب" ............

قد يعجبك ايضا
منذ عام
رواية عاشق ظالم (ظلمها عشقا) الفصل الحادي عشر11 بقلم ايمي...
منذ عام
رواية عاشق ظالم (ظلمها عشقا) الفصل الثاني عشر12 بقلم ايمي...
منذ عام
رواية عاشق ظالم (ظلمها عشقا) الفصل الثالث عشر13 بقلم ايمي...
(اللعبة الوضيعة)
هدأت خواطرها المزعوجة إلى حدٍ كبير بمرور عدة أيام، فكان إنهاك نفسها ما بين الدراسة والتدريب كفيلًا بإعطاء عقلها هدنة مؤقتة لعدم التفكير فيما يؤرقها، أو حتى في تقريع نفسها، فعادت إلى ممارسة نمط حياتها الروتيني بالتدريج. كانت "تهاني" على وشك المغادرة عندما خاطبها أحدهم من خلفها:
-كويس إني لاقيتك.
استدارت ناظرة إلى صاحب الصوت المألوف، فقالت بتعابيرٍ جادة، وبنبرة رسمية للغاية:
-خير يا دكتور "ممدوح"؟
تقدم ناحيتها وهو يحمل في يده عددًا من الكتب الضخمة:
-أنا عديت عليكي كذا مرة، بس مكونتيش موجودة.
بررت له بنفس الطريقة المتحفظة:
-أيوه، كان عندي آ...
لم يمهلها الفرصة للشرح، حيث قاطعها قائلًا، وعلى وجهه هذه الابتسامة الصافية:
-مش مشكلة، اتفضلي.
نظرت إلى ما يحمله باندهاشٍ متحير، ثم سألته:
-إيه دول؟
تحرك متجاوزًا إياها ليتجه نحو مكتبها، وضعهم بحذرٍ على سطحه، ونظر إليها موضحًا بهذا الوجه المبتسم:
-بصي يا ستي دي مراجع، وكتب متخصصة، هتساعدك في دراستك.
تبعته عائدة إلى مكتبها، ثم راحت تتفقد كل كتابٍ على حدا، وقالت في تعبيرٍ ذاهل وهي تجول بعينيها المتشوقتين بين أغلفتهم:
-دول إصدار حديث!!
أكد لها أيضًا بنظرة مهتمة:
-أيوه، ومحدود، مش مع أي حد.
تناقص التجهم من على محياها لتبرز ابتسامة صغيرة على شفتيها حين كلمته:
-أنا مش عارفة أقول لحضرتك إيه، أنا هحافظ عليهم زي عينيا.
رد بما يشبه النصيحة وهو يشير لها بسبابته:
-المهم تستفيدي منهم.
بلا تفكيرٍ أخبرته:
-أكيد، دول كنوز.
عرض عليها في لباقةٍ وقد تأهب للخروج:
-تعالي أوصلك في طريقي.
ترددت للحظةٍ، متذكرة كيف استغلت "ابتهال" الفرصة لتفسير الموقف على هواها، وبما يسيء إليها، لذا درئًا للمفاسد هتفت حاسمة الأمر بتعابيرٍ اكتسبت طابعًا جديًا مناقضًا لما كانت عليه قبل هنيهة:
-مافيش داعي تتعب نفسك، في عربية بتوصلني.
رأى كيف تغيرت ملامحها للرسمية، فاعتقد أن فسحتهما الأخيرة قد أصابت الهدف من ورائها، وأفسدت ما نما بينها وبين "مهاب" من ود وتقارب، لذا تعمد اللعب على نفس الوتيرة المحاذرة معها، وقال بعد نحنحة سريعة:
-مش حابب أكون بضغط عليكي، بس لو ده يريحك، فأنا معنديش مانع.
استحسنت تفهمه لموقفها، فاستطردت ممتنة:
-شكرًا على الكتب والمراجع.
لم تخبت ابتسامته المهذبة المرسومة على ثغره، وأردف وهو يهم بالخروج:
-دي حاجة بسيطة، عن إذنك يا دكتورة.
شيعته بنظراتها المتشككة إلى أن اختفى عنها، لتعاود المكوث بمفردها في غرفتها وهي شبه حائرة في شأنه. تساءلت بصوتٍ خفيض كأنما تفكر فيما يراود عقلها من أفكار متصارعة:
-يا ترى ده عاوز مني إيه؟!
................................................
كان الوقت أوان العشاء تقريبًا حينما شعرت بالإرهاق، وبالنوم يزحف إلى جفنيها، لتشعر بثقل رأسها، وتبدأ في التثاؤب. فها هي عطلة أسبوع أخرى تمضيها بين الكتب والمراجع والملخصات، موهمة نفسها بأنها بذلك تقوم بتعويض ما فاتها، لتحقق نتائج طيبة في دراستها. ظنت "تهاني" أن ليلتها ستمضي على خير حينما استعدت لتأوي إلى الفراش؛ لكن كعادتها اقتحمت عليها "ابتهال" الغرفة لتفسد عليها سلامها النفسي بسؤالها المتعجب وهي تقضم قطعة من الخيار:
-إنتي هتنامي دلوقتي؟
ردت باقتضابٍ وهي تستلقي على الفراش بعدما أزاحت الغطاء:
-أيوه.
اقتربت من جانب سريرها، وسألتها وهي تلوك ما قضمته في فمها:
-مش هنسهر شوية مع بعض؟
جاوبتها بصوتٍ متكاسل:
-لأ.
جلست "ابتهال" على حافة الفراش، مجاورة لها، تتأملها مليًا بنظراتٍ طويلة غريبة، فقد جال بخاطرها بعد تفكير عميق أن تستفيد مثلها من صحبة الأثرياء، وتنال ما يخدمها وينقلها لمستوى آخر من الرفاهية والعلم، خاصة مع افتقارها لهذا النوع من علية القوم في قسمها التخصصي. لذا تعمدت أن تواصل الثرثرة بلا توقفٍ وهي تتناول ما تبقى من الخيار:
-ده إنتي حتى ما بترضيش تخرجي معايا!
نفخت في صوتٍ مسموع، ودمدمت بتأفف:
-مش فاضية.
لكزتها "ابتهال" في ساقها متسائلة في سخافةٍ، وشعورها بالغيرة الممزوجة بالفضول يتفشى فيها:
-بقولك إيه؟ أومال الدكتور إياه الحليوة مافيش أخبار عنه؟
لم تحبذ "تهاني" التطرق إلى سيرة "مهاب" نهائيًا، خاصة مع هذه المتطفلة المزعجة، يكفيها أنها استطاعت تجاوز ما عانته بصعوبة، لذا أولتها ظهرها مهمهمة في وجومٍ مقتضب:
-معرفش.
ألحت عليها في استنكارٍ سمج، رافضة تمرير الأمر دون التحري أكثر عن تفاصيله:
-معقولة؟ ده إنتي المفروض تمسكي فيه بإيدك وسنانك...
بجهدٍ عظيم حاولت "تهاني" سد أذنيها عما تتفوه به؛ لكن "ابتهال" تابعت مضايقتها باستفاضتها النزقة:
-تعرفي، أنا سألت عنه زمايلي، وقالولي إنه حاجة أبهة، في العليوي خالص، وأبوه باشا من بشوات زمان.
مرة ثانية وكزتها بخفةٍ في ساقها لتثير انتباهها وهي لا تزال تثرثر:
-ده إنتي تبقى أمك دعيالك لو ده حصل.
ضجرت، وفاض بها الكيل من سخافاتها الزائدة، فانتفضت من رقدتها، لتعتدل ناظرة إليها، حدجتها بنظرة نارية وهي تنهرها:
-مش عاوزة أسمع حاجة عنه خالص، فيا ريت تسكتي!!
لم يشبع ذلك فضولها الجائع لمعرفة أصل الموضوع وتفاصيله، فتساءلت بوقاحةٍ:
-ليه بس؟
هدرت بها بانفعالٍ مبرر وهي تدفعها بيدها لتجبرها على النهوض من جوارها:
-مايخصكيش!
بنفس الطريقة السخيفة المنفرة تابعت أسئلتها لها وهي ترمقها بنظرة ماكرة:
-إنتو اتخانقتوا ولا إيه؟
فقدت آخر ذرات تحملها، انتفضت ناهضة بتعصبٍ من على الفراش، وهي تصرخ بها:
-هو إنتي عاوزة تعملي حوار من غير حاجة؟
ثم أمسكت برسغها لتشدها بقسوةٍ فتجبرها على النهوض وصوتها لا يزال صارخًا:
-كفاية بقى، حلي عن دماغي، وقومي من هنا.
تحركت "ابتهال" مبتعدة عنها وهي تزم شفتيها مرددة بغير رضا:
-براحتك .. إنتي الخسرانة!
لكنها توقفت عند عتبة الغرفة مستطردة بسماجةٍ:
-صحيح، التلاجة معدتش فيها أكل كفاية، عاوزة فلوس أشتري بيها اللي ناقص.
اشتد بها غيظها منها، فعجزت عن تحمل المزيد منها، لذا انفجرت مفرغة فيها كامل عصبيتها المكبوتة:
-يعني أنا طول اليوم برا، ولما برجع بنام على طول، تقريبًا مابفتحش التلاجة دي خالص، وإنتي كل يوم والتاني هاتي فلوس؟ هو في إيه؟!!!
ردت ببرودٍ استفزها أكثر:
-مش احنا شركا؟
أخبرتها صراحةٍ وهي تضرب كفها بالآخر:
-لأ، خلاص، كل واحد في سكة.
قطبت جبينها متسائلة بتوجسٍ حائر:
-يعني إيه؟
رغم أنها لم تضع ذلك القرار في الحسبان قبل وقت سابق، إلا أنها شعرت بحتمية تنفيذ الأمر إراحةً لنفسها من ملاحقتها الخانقة لها، فأكدت لها ما سمعته بعزمٍ شديد:
-أنا من بكرة هدور على مكان أكون فيه لواحدي وبراحتي.
انصدمت من قرارها المباغت، واحتجت متسائلة في استهجانٍ:
-ليه كده يا "تهاني"؟ أنا زعلتك في إيه بس؟
لم تراوغ أو تجمل كلامها عندما أجابتها:
-ببساطة كده مش مرتاحة معاكي.
المزاح كان مستبعدًا في هذا الشأن، رأت "ابتهال" في عينيها تصميمًا عجيبًا على فعل ما انتوته بشكلٍ قطعي، مما هدد مخططاتها التي ترسمها لمشاركتها جزءًا من الترف الذي تحياه بمفردها، فاستعطفتها بدموعٍ زائفة:
-هو عشاني بس عِشرية حبتين؟ ده احنا المفروض نكون سند لبعض.
أجهشت بالبكاء المصحوب بنحيبٍ مرتفع وهي تلومها:
-حرام عليكي، كده تكسري بخاطري، ولا عشان بقيتي مسنودة من رجالة غريبة عننا!!
جملتها الأخيرة احتوت على تلميحٍ فجٍ غير مقبول أبدًا، انطلقت "تهاني" صوبها مدفوعة بحنقها، وراحت تدفعها دفعًا للخارج وهي تصيح بها:
-امشي من هنا، اطلعي برا.
ثأرًا لكرامتها ردت عليها "ابتهال" تتوعدها وقد توقفت عن ذرف الدموع فجأة، لتبدي لها نوايا غير طيبة تجاهها:
-ماشي، وأنا هقول الناس على اللي بتعمليه يا محترمة!
هدرت في ذهولٍ كبير:
-أنا بعمل إيه؟
ألقت عليها تهمتها بفجاجةٍ حتى تعاود التفكير مجددًا:
-كل يوم مع راجل شكل، والله أعلم بتعملوا إيه سوا.
انقطعت أنفاس "تهاني" في صدمةٍ جلية، بينما "ابتهال" تزيد في إرعابها بكلامها المهدد:
-تخيلي بقى لو أنا حطيت شوية بهارات على اللي بشوفه.
لتؤكد على تحذيرها الخطير استرسلت تنذرها بجديةٍ:
-والكل هيصدقني، لأني معنديش اللي أداريه ولا حتى أخاف إنه يضيع مني.
حينئذ قصف قلبها بقوةٍ من تهديدها الفارغ الذي لن يأتي عليها إلا بكل ما هو غير محمودٍ، فبرقت نظراتها، وأحست بدمائها تهرب من عروقها، ومع ذلك تحدتها قائلة بتشنجٍ:
-طب جربي تعملي كده وهايبقى آخر يوم ليكي هنا يا "ابتهال"!
وضعت يدها أعلى منتصف خصرها، ثم ساومتها بخبثٍ، وهذا الهدوء مستبد بها:
-وليه نعادي بعض من الأساس؟ خلينا زي ما احنا، وأنا يدوب هاخد حتة من التورتة اللي إنتي غرقانة فيها، ويا دار ما دخلك شر.
وقبل أن تفكر في رفض عرضتها رفعت يدها أمام وجهها، وأخبرتها بابتسامتها الظافرة:
-خدي راحتك، وماتستعجليش في الرد.
تركتها "ابتهال" على حالتها المصدومة، وغادرت، لتقوم "تهاني" بغلق الباب وهي ترتعش كليًا، ظلت تعبيراتها مصعوقة، وعيناها مذهولة. بالكاد تمكنت من التماسك وهي تسير شبه زاحفة بخطواتها نحو الفراش. أخذت تردد مع نفسها في توجسٍ شديد:
-دي لو عملت كده أبقى أنا ضعت على الفاضي!!!
..............................................
التنازل يبدأ بمرة تتنحى فيها المبادئ جانبًا، ثم يستمر ذلك في الحدوث تباعًا، كحبات العقد حينما تنفرط من رباطها، وتتناثر في كل اتجاه، ليتحول في الأخير لأمرٍ إلزامي على صاحبه! جاء "بدري" لزيارة زوجته في بيتها بعد تحديد ميعادٍ مسبق، جلسا معًا بالصالة، وبمفردهما، فتوهمت الأخيرة أنه أتى بالبشارة، ليسعدها بأخبارٍ سارة تخص إعلان موعد زفافهما؛ لكنه صدمها بمسألة سفره للخارج، فوجمت، وجفل قلبها. ابتلعت "فردوس" ريقها بصعوبةٍ، وسألته بتعابيرٍ شاردة، ونبرة مهتزة:
-طب وجوازنا؟
أجابها ببرودٍ تام:
-مافيهاش حاجة لما يتأجل شوية.
زحفت الدموع إلى مقلتيها، حتى بدا وجهه مشوشًا في عينيها، تجاهل ما تشعر به، وزفر معللًا لها رغبته:
-مش أحسن ما يبقى حالنا على أده، ده أنا هشتغل عشان أجيبلنا بيت يبقى بتاعنا لواحدنا.
حين رفرفت بجفنيها انسكبت عبراتها على صدغيها، لتبكي في صمتٍ مقهور، ورغم هذا لم يبدُ "بدري" متأثرًا بحزنها الجلي؛ لكنه حاول أن يظهر تعاطفًا غير موجود فيه، فربت على ذراعها في رفقٍ، وتابع:
-الحكاية مش هتطول، ده كام شهر بالكتير، ولو ما اتوفقتش هرجع تاني.
تفرس فيها بناظريه، وأدرك حينها أنه منذ اللحظة الأولى لم يشعر بالانجذاب إليها، حاول إرغام نفسه على تقبلها، وأكمل ما ظن أنه مناسب لشخص مثله لا يملك إلا القليل، فارتضى بها شريكة في حياته لن تشتكي فقره، ولن تطمع في تحقيق ما يفوق قدراته، ومع ذلك ظل هذا النفور سائدًا، لكن ما لبث أن ازداد تعمقًا به حينما لاحت هذه الفرصة الذهبية في الأفق، فكيف له أن يضيع ما أوشك على الظفر به مقابل التمسك بها؟ حضر من تأملاته الشاردة، لينعكس ضيقه على تقاسيم وجهه عندما خاطبته "فردوس" بحزنٍ:
-طب ما تاخدني معاك، واهوو ناخد بحس بعض.
هتف منتقدًا ما رددته بحدةٍ:
-شيفاني يعني غاوي غربة وبهدلة؟
انتفض بدنها من صراخه رغم خفوت نبرته، فتنفس من بين أسنانه ببطءٍ ليضبط حاله، لم يرغب في إثارة المتاعب دون داعٍ، حك طرف ذقنه، وهمهم بنبرة لانت قليلًا:
-لما أرتب أموري، غير كده مش هاقبل على نفسي أبهدلك في بلاد غريبة يا بنت الناس.
داهمها الحزن أكثر، فخشي أن تنوح ويتضاعف بكائها، فتأتي والدتها لمحاسبته، لذا أضاف ملطفًا، ولو كان كذبًا:
-أنا مستغناش عنك.
استسلمت مصدقة عذب كلامه، وقالت بصوتٍ مهموم:
-هاقول إيه غير أمري لله.
انتفخ صدره في ارتياحٍ بعدما أتم مهمته بنجاحٍ، ليعلق باسمًا في حبورٍ:
-تعيشي يا بنت الأصول.
ثم مال ناحيتها هامسًا لها قبل أن يهم بالنهوض:
-فهمي أمك بقى على الحكاية، وأنا هعدي عليكي تاني.
قام واقفًا، وودعها في الحال:
-سلام.
اصطحبته إلى الباب وهي تمسح بقايا دموعها براحة يدها، لتستدير دفعة واحدة فور أن أغلقت الباب لتنظر إلى والدتها التي بادرت بسؤالها:
-في إيه يا "فردوس"؟ قالبة سحنتك ليه؟!!
..................................................
مع انحدار الشمس نحو المغيب، كان كلاهما يقفان عند الجراج الملحق بالمشفى، أمام سيارته، في انتظار وصول العربة التي تقل "تهاني" إلى مسكنها، فالأخيرة قد أصرت على إعادة ما استعارته من كتب ومراجع إليه، لتنهي بذلك السبب الذي يدفعها لمقابلته. لاحظ "ممدوح" سرحانها غالبية الوقت، بالإضافة إلى قلة كلامها خلال محاولته استطالة الحديث، فاستطرد مستفهمًا منها:
-إنتي مش معايا النهاردة، في حاجة مضايقاكي؟
تنبهت من شرودها المحفوف بما يزعجها ويقلقها من نوايا "ابتهال" غير المعلومة لها، لكنها حتمًا لن تشارك مخاوفها معه. تصنعت الابتسام، وردت:
-لأ، عادي، شكرًا مرة تانية على الكتب، أنا ممنونة ليك.
وضع يده في جيب بنطاله، وعقب باسمًا:
-العفو، ولو احتاجتي أي حاجة أوعي تترددي تطلبيها مني.
قالت كنوعٍ من المجاملة:
-حاضر.
أملت أن تصل العربة في أي لحظة لتعفي نفسها من هذا الحرج، ومن إيجاد أي مبررات لتفسير موقفها الحذر معه، اندفعت ناظرة إليه بنظرة ضيقة عندما تكلم مرة أخرى في صوتٍ هادئ لكنه جاد:
-المهم، أنا كنت عاوز أبلغك بسفري.
سرت خفقة غريبة في قلبها، لأن ذكره لمسألة السفر أنعش ذاكرتها بما بذلت كل الجهد لنسيانه، سألته بوجه مصدوم:
-إنت هتسافر؟
أطلق زفرة بطيئة من جوفه، وعقب بلهجةٍ شبه منزعجة:
-إن كان عليا مش حابب، بس مضطر أرجع.
أبقت عينيها عليه، فأكمل بلؤمٍ مدروس:
-أنا لازم أطمن على الباشا "فؤاد".
ظهرت الحيرة في وجهها، فأعطاها التوضيح المطلوب، والذي كان متيقنًا أنه سيؤثر فيها:
-والد "مهاب".
أحست بغصة قاسية تحز في قلبها، قاومت انعكاس تأثيرها عليها، وحافظت على جمود ملامحها، إلا أن نظراتها نطقت بما لم يبح به لسانها. ابتسم في مكرٍ، وأردف:
-وهبعتله سلامك طبعًا.
تحرجت من نظرته الفاحصة لها، وقالت وهي تهرب من تحديقه المحاصر لها:
-شكرًا، المهم يبقى كويس.
زفر "ممدوح" الهواء عاليًا، ليضيف بعدها:
-أنا مش عارف هيعدي عليا الكام يوم دول إزاي؟
التفتت تنظر إليه في شيء من الاستنكار؛ لكنه أبدى أسفه النادم في التو:
-أعذري جراءتي شوية، بس أنا خدت على إني أشوفك كل يوم ولو لدقايق.
لعقت شفتيها، وهتفت مشيرة بيدها للأمام نحو حافلة صغيرة قادمة من على بعدٍ:
-عربيتي جت.
ودعها ويده ممدودة لمصافحتها:
-خدي بالك من نفسك.
مدت ذراعها إليه بقليلٍ من التردد، فأمسك بكفها بأطراف أصابعه، ثم رفعه إلى فمه ليقبله، ارتجفت من تصرفه المبالغ فيه، فلم يكترث، وسألها وهو مسبل عينيه تجاهها:
-في حاجة حابة أجيبهالك معايا وأنا جاي؟
سحبت كفها هاتفة بارتباكٍ:
-لا شكرًا.
همت بالابتعاد عنه؛ لكنه مجددًا اعترض طريقها ليعترف بنزقٍ زاد من ربكتها:
-هتوحشيني.
حذرته بنظرة مدهوشة:
-دكتور "ممدوح".
تراجع خطوة للخلف، وقال مطرقًا لرأسه:
-أنا أسف...
ما لبث أن ثبت نظره عليها ليتابع بتخطيطٍ مدروس:
-بس اتعودت أعبر عن اللي بحسه بصراحة للناس الغاليين عندي.
حافظ على تبسُّمه العذب وهو ينصرف تجاه سيارته:
-أشوفك على خير يا دكتورة.
لم تنطق بشيء، وأخذت تراقبه وهو يغادر المكان ليهاجمها هذا الشعور الغريب بالحيرة والتخبط، تساءلت مع نفسها في اضطرابٍ:
-هو بيعمل كده ليه معايا؟!!
.............................................
كان أول ما فعله عندما عاد إلى أرض الوطن، هو الالتقاء برفيق الدرب، وصديق السوء، فكانا على موعدٍ مع فتاتين من محترفات الإغواء، في منزله الخاص بمغامراته الجامحة، ليمضوا جميعًا سهرة مميزة، بها من المغريات ما يلهب الحواس، ويشعل الرغبات. قصَّ "مهاب" ما حاكه ببراعة ليجعل كفة الميزان ترجح لصالحه أثناء مواجهته مع أبيه في مقر عمله، فنال بلا عناءِ رضائه، وأوقع شقيقه الأرعن في مكره، فأصبح الأخير هو المقصر والملام بدلًا من تمجيده. كركر "ممدوح" ضاحكًا، وارتشف من كأس شرابه المسكر، ليردد بعدها في إعجابٍ كبير:
-يا ابن الإيه، ده إنت شيطان!
تركزت عينا "مهاب" على الفتاة اللعوب التي راحت تتمايل بدلالٍ كبير وغنج مثير في ثوبها القصير، لتقوم بإغرائه أثناء رقصها على مقربة منه، استرخى أكثر في جلسته، وخاطبه وهو يلتهم صاحبة القوام الفاتن، بنظراتٍ تزداد طمعًا لنهشها:
-عشان ما يلعبش على النغمة دي كتير، جملتين حلوين، دخلت بيهم على الباشا الكبير، على طول صدق واقتنع.
حين تمايلت بليونةٍ في محيطه، مد ذراعه بغتة تجاهها، ثم جذبها بقوةٍ من رسغها لتسقط في حجره، شهقت الفتاة متأثرة بخشونته القاسية، فكتم صوتها بقبلة عنيفة مطالبة بالمزيد، ليحيط بعدئذ جسدها بذراعيه، أصبحت كليًا أسيرته، ولم تظهر أدنى مقاومة له، تركته ينهل عدد لا بأس به من القبلات النهمة على أي موضع تطاله شفتاه. راقب "ممدوح" ما يفعله بنظراتٍ حادة، وعلق متهكمًا، وقد أخذت كؤوس الخمر تلعب برأسه:
-وإنت سيد مين يلعب بالكلام! أستـــــاذ!!
توقف "مهاب" عن تقبيل الفتاة حينما رأى الأخرى تنتظره عند الردهة، وهي شبه مستعدة لممارسة طقوس العشق الآثم معه، كانت وقفتها مائعة، واستثارتها حاضرة، فرمقته بنظرة تواقة متعطشة لفيض قوته، طرح الأولى عنه بجفاءٍ وكأنها نكرة، لتسقط عند قدميه متأوهة من الألم المباغت الذي ضرب جسدها، ليتحول صوت أنينها لضحكة مجلجلة، وقدم "مهاب" تداعب بطنها المكشوف، نظر لها بغير مبالاة، وقال وهو يتخطاها:
-خدها، أنا زهقت منها.
نهض "ممدوح" بتكاسلٍ من موضعه، لم يتمكن من الوقوف باستقامة، فقرر التمدد بجوار الفتاة على البساط، صاح هاتفًا بترحابٍ غريب وهو يزحف تجاهها:
-هدية ماترجعش يا صاحبي!
شدها إليه، فأصبحت لصيقة به، ثم رفع جسده ليعتليها، وأتونٍ متقد من الحرارة ينضح من كل خلية فيه، لم تقاومه هو الآخر، بل فتحت ذراعيها مستقبلة دفقات القوة بتلهفٍ وكأنها لأول مرة تختبر مشاعر اللهفة. أقبل عليها ظافرًا بمتعةٍ عابثة معها، إلى أن انطفأت جذوة الرغبة، وارتوى من نهرها الجامح. نبذها بعدما فرغ منها، وكأنها قطعة خردة لا قيمة لها، لينهض عائدًا إلى الأريكة، ملقيًا بثقل جسده المنهك عليها، مد يده تجاه الطاولة ساحبًا من علبة سجائره واحدة ليشعلها، وراح يطرد دخانها ببطءٍ.
بعد برهةٍ انضم إليه "مهاب"، وجلس في مواجهته وفي يده زجاجة الخمر، سكب البعض في كأسه، وسأله إن كان يرغب في مشاركته الشرب، فقبل في التو، ليشعل هو الآخر بعد ذلك سيجارة جديدة. نفث دخانها دفعة واحدة مستمتعًا بمذاق التبغ المخلوط بالخمر في حلقه، ركز بصره على "ممدوح" عندما سأله بلا تمهيد:
-ناوي على إيه مع الصيدة الجديدة؟!
لم يفهم مراده، فرد عليه متسائلًا:
-قصدك مين؟
بادله نظرة غامضة، محملة بالكثير قبل أن يجيبه بكلمة واحدة:
-"تهاني"!
قهقه ضاحكًا في استهزاءٍ، ليردد من بين ضحكاته ساخرًا:
-أنا فكرتك بتكلم عن حد مهم..
هدأت نوبة ضحكه، فتابع موضحًا بفتور:
-عمومًا هي مش في دماغي.
جاء تعقيب "ممدوح" معاتبًا:
-وده ينفع؟ تسيب الساحة ليا كده ألعب فيها لواحدي؟
نفض "مهاب" رماد سيجارته المحترق بهزة صغيرة من إصبعيه، وعلق بلا اهتمامٍ:
-خد راحتك، صحيح هي وردة حلوة، وعاوزة تتقطف، بس شعبي، على قديمه، بتاعة جواز وعيال، وده ماليش فيه.
اعتدل "ممدوح" في جلسته هاتفًا بتحفزٍ طفيف:
-ومين جاب سيرة الجواز؟ تلاقيك خايف لأقطفها قبلك!!
أخبره بغطرسة واثقة:
-إنت عارفني مافيش واحدة تستعصى عليا مهما كانت فين!!
ثم مط فمه قليلًا، وأضاف بغرور معروف به:
-و"تهاني" مش هتاخد في إيدي غلوة!
لم يبدُ "ممدوح" مقتنعًا بهالة السيطرة التي يحاول إبهاره بها، فاستخف به، مما جعله يزداد تحمسًا لخوض هذه المغامرة، فهتف يُعلمه بما قرره في التو:
-تراهني، هخليها تسلملي نفسها برضاها ومزاجها؟!!
تطلع إليه بهذه النظرة المستهترة، وعلق عليه بلهجةٍ شبه مقللة من شأنه:
-أيوه، بكلامك الحلو، وكاسك اللي يدوخ، أسلوبك معروف، وأنا حافظه كويس.
تحداه "مهاب" قائلًا بصوتٍ غامض ومثير:
-لأ، هغير التكنيك خالص، وهتشوف.
عندئذ تقوست زاوية فم رفيقه، والتصقت بها ابتسامة لئيمة، مطعمة بالتحدي، ليستطرد معلنًا قبوله الدخول في ذلك النوع من المراهنة الخطيرة:
-مستنيك تبهرني ..
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(القرار)
غلبتها قلة الحيلة أمام تطفل هذه السمجة، فلم تجد بديلًا سوى الانتقال من السكن الحالي، والبحث عن آخر يتوافق مع وضعها المادي والنفسي. الاختيارات المتاحة لديها كانت محدودة للغاية، فوقع الخيار في النهاية -بعد بحث استمر لمدة أسبوعين- على مسكن أكبر في المساحة، يضم ثلاثة غرف، تشترك كل اثنتين في غرفة، فيما عدا واحدة ظلت شاغرة. وقفت "تهاني" أمام باب الغرفة الأخيرة تتأملها بنظراتٍ مزعجة، لو لم تكن مضطرة لما ارتضت بذلك بديلًا، حافظت على جمود ملامحها بعدما ألقت نظرة متأملة على الغرفة التي تضم سريرين منفردين، وخزانتين مستقلتين، بالإضافة إلى طاولة مستديرة، ومقعدين خشبيين، ومرآة تسريحة ملتصقة بالحائط. حادت ببصرها عن النظر إلى محتوياتها، والتفتت مخاطبة في هدوء شبه رسمي السيدة المسئولة عن تسكين المغتربات هنا:
-مناسبة، هاخدها.
ردت السيدة عليها بتشجيعٍ:
-إن شاءالله تتبسطي فيها، البنات هنا كلهم محترمين ومجتهدين، وشغالين في وظايف حلوة، اللي مدرسة، واللي ممرضة وآ...
قاطعتها قبل أن تنهي جملتها قائلة بجمودٍ:
-أنا بحب الخصوصية، فأتمنى محدش يشاركني في الأوضة بعد ما دفعت الدبل فيها.
هزت رأسها في تفهمٍ، وقالت:
-اطمني...
ثم مدت إليها يدها بالمفتاح قائلة ببسمة متسعة:
-دي نسختك أهي.
أخذته منها وهي تقول بإيجازٍ:
-شكرًا.
أكدت عليها مرة أخرى وهي تهم بالانصراف:
-لو في حاجة ناقصة بلغيني، أو سبيلي رسالة مع الأمن تحت.
-طيب.
قالت كلمتها وهي تسير معها إلى باب المسكن حيث كانت تتواجد إحدى القاطنات بالاستقبال الصغير. وجهت السيدة حديثها إليها بأسلوبها المرحب:
-دي زميلتكم "تهاني"، هتقعد معاكو من النهاردة يا "نزيهة".
حولت "نزيهة" ناظريها تجاهها للحظةٍ دون أن تبدو مهتمة فعليًا بها، ثم ابتسمت بتكلفٍ قبل أن تتابع تقليم أظافرها، لتنصرف السيدة بعدئذ تاركة الاثنتين بمفردها. لم تحاول "تهاني" صنع أي صداقة ودية مع هذه الشابة الغريبة عنها، حملت حقيبتها، واتجهت إلى غرفتها، لتغلق الباب عليها وهي تردد بصوتٍ خفيض:
-كده أحسن.
أدركت مدى صعوبة الوضع الذي أصبحت عليه حين تساهلت مع الغرباء، كل شيء قد بات مهددًا، وربما تخسر ما تحاول فعله قبل أن تتمه من الأساس، لذا كان القرار الصائب من وجهة نظرها الهروب مما يعرقل تحقيق نجاحها.
..........................................
تأكدت من إحكام غلق البَرْطمان جيدًا بعدما عبأته بصنيع يدها المميز من الحلاوة السوداء، لتضمن عدم تسرب محتوياته حينما تنقله، ثم لفته بكيس بلاستيكي صغير، وعقدته من الأعلى، قبل أن تضعه في آخر لتتمكن ابنتها من حمله بمفرده. مرة أخرى ألقت "عقيلة" نظرة مدققة على الحقيبة القماشية التي وضبتها لتتفقد ما ملأتها به، فقد أحضرت خصيصًا زبدة فلاحي، وقطع من الجبن، وبعض المخبوزات المنزلية، لترسلها مع ابنتها في زيارتها لحماتها. نضح قلب "فردوس" بالبهجة وهي تتحمس لملاقاة والدة زوجها، فإذ برؤياها تشبع توقها للتواصل معه، فمنذ أن سافر لم يرسل إليها ولم لمرة واحدة. أصغت بانتباه لتعليماتها وهي تحذرها بإشارة من إصبعها:
-تمشي على مهلك، وخدي بالك من الحلاوة.
أومأت برأسها هاتفة في طاعة:
-حاضر يامه.
شددت عليها مجددًا، وبنفس اللهجة الصارمة:
-وما تطوليش عندها، يا بخت من زار وخف.
جاء ردها على نفس اللهجة المطيعة:
-ماشي.
تأهبت "فردوس" لتتحرك بعدما حملت كل شيء؛ لكن أمها استوقفتها آمرة إياها:
-وريني نفسك.
أنزلت الحقيبة القماشية من يدها، والتفتت تحملق فيها بوجه باسم وهي تسألها:
-حلو كده يامه؟
بعد لحظة من الصمت المدقق، أخبرتها بملامحٍ جادة:
-خفي اللي على خدك ده شوية.
اعترضت بشيء من الإلحاح:
-ما حلو يامه، خليه عليا.
حذرتها بغير تساهلٍ:
-عاوزة حماتك تقول عنك مصدقتي جوزك يسافر واتسابتي؟
قصف قلبها توجسًا مما فاهت به، وقالت بلا جدالٍ:
-معاكي حق.
استخدمت كم بلوزتها لتمسح ذلك التورد عن بشرتها، ولعقت بلسانها شفتيها لتزيح آثار أحمر الشفاه الباهت من عليهما، ثم سألتها:
-كده أحسن؟
أجابتها في حبورٍ:
-أيوه.. ربنا يصلح حالك ويراضيكي.
مرة ثانية انحنت لتحمل الحقيبة القماشية في يد، وكيس الحلاوة السوداء في اليد الأخرى، وسارت نحو الباب، فلحقت بها والدتها لتعاونها على فتحه وهي لا تزال توصيها:
-امشي على مهلك، وما تتأخريش.
قالت مبتسمة في سعادة:
-حاضر يامه.
ظلت تتابعها بعينيها وهي تهبط درجات السلم، ودعائها لها يصدح:
-ربنا يسلم طريقك.
خبت نبرة "عقيلة" إلى حدٍ كبير وهي تنسحب عائدة إلى بيتها:
-ويهديلك العاصي.
قصدت بجملتها الأخيرة حماة ابنتها المتسلطة، فالأخيرة لا تكف عن مضايقتها بمعاملتها المتجافية رغم أن "فردوس" لم تبدِ أي سوء لها، ومع ذلك أثرت ألا تثير المتاعب من لا شيء، واكتفت بتجنب المواجهة معها قدر المستطاع.
................................................
رقص قلبها فرحًا وهي تلج إلى مدخل العمارة ذات الأربعة طوابق حيث تقطن بها حماتها، صعدت بتمهلٍ حريص على درجات السلم إلى أن بلغت الطابق الأخير، تحمست للغاية لمقابلتها، اعتقدت أنها ستفرح برؤيتها، وتستقبلها بما يليق من ترحاب وحرارة؛ لكن ما حدث كان على عكس ما توهمته، بدت فاترة، باردة، متعالية، ومنزعجة من وجودها. نظرت لها شزرًا، وأشارت لها لتدخل بعدما أمعنت النظر فيما أحضرت معها، أولتها ظهرها قائلة بسحنة مقلوبة:
-مكانش لازمًا تيجي شايلة ومحملة، البيت مليان ومعدنيش حاجة ناقصة.
شعرت بالحرج الشديد من أسلوبها اللاذع، ومع ذلك ردت بأدبٍ:
-ده من بعد خيرك يا حماتي.
حينما استقرت في موضعها فردت ذراعها لتشير نحو الجانب وهي تأمرها:
-حطيهم جوا في المطبخ.
ظلت محافظة على نقاء بسمتها وهي ترد صاغرة:
-عينيا.
عندما ولجت إلى داخل المطبخ تفاجأت من كم الأطباق المرصوصة بالحوض، وكذلك الأواني غير النظيفة المتكومة بجوار الموقد، ففكرت في إبهارها ونيل استحسانها بتقديم العون وتنظيف كل شيء. لم تدخر "فردوس" وسعها، وعكفت في التو على إعادة المطبخ لما كان عليه من نظام ونظافة، فشمرت عن ساعديها، والتقطت سلك المواعين الصدئ لتستخدمه في دعك الأواني المعدنية، قبل أن تغسل الأطباق والصحون بإسفنجة شبه بالية متروكة بإهمال فوق الصنبور. استغرقها ذلك حوالي الربع ساعة، فخرجت بعد ذلك منه وهي تجفف يديها في جانبي ثوبها لتخبرها بصوتٍ شبه لاهث:
-أنا روقتلك كل حاجة.
هزت رأسها دون أن تنطق بكلمةِ شكرٍ، وأمرتها:
-طب اقعدي هنا عقبال ما أنشر الغسيل...
ثم وضعت يدها خلف ظهرها متأوهة في ألمٍ:
-ياني يا ضهري.
في التو رفضت نهوضها، وصاحت في تصميمٍ:
-لأ عنك يا حماتي، ارتاحي إنتي.
أسرعت نحو الشرفة حيث تركت حماتها كومة الغسيل الرطبة في طبق بلاستيكي عريض، فقامت بالتقاط كل قطعة على حدا، ونشرتها على الحبل. انهمكت كليًا في أداء كل الأعمال المنزلية المنقوصة، ملقية على عاتقها –بمودةٍ منها- مساعدتها فيما لم ينجز، على أمل أن تحظى في الأخير على كلمة شكرٍ، أو حتى معاملة طيبة جزاء معروفها، وحين فرغت من كل شيء ألصقت بشفتيها هذه الابتسامة اللطيفة وهي تخاطبها:
-كله بقى تمام، والصالة روقتها.
منحتها والدته نظرة طويلة ناقمة، ثم أمرتها وهي تشير برأسها:
-هاتي السبرتاية واعمليلي قهوة مظبوطة.
أحست بالإحباط لعدم تلقيها التقدير اللازم، ورغم ذلك حافظت على ابتسامتها الهادئة وهي ترد في طاعة:
-حاضر.
جلست عند قدميها، ومعها أدوات صنع القهوة، أعدت لها فنجانها كما طلبت، فارتشفته على مهلٍ وهي تسألها في فظاظةٍ، وهي ترمقها من عُلياها بهذه النظرة القاسية:
-ما شيعتيش خبر ليه إنك جاية؟
مجددًا أحست بخيبة الأمل الممزوجة بالحرج تجتاحها، قاومت شعورها بالخذلان، وأجابتها بترددٍ:
-أنا لاقيت نفسي فاضية، فقولت أجي أونسك.
تفاجأت بها تهاجمها لفظيًا، كأنما أجرمت في حقها:
-وحد قالك إني مقطوعة لا سمح الله؟!
اتقاءً لغضبتها الوشيكة، اعتذرت منها دون أن تكون بالفعل مخطئة:
-مش قصدي، بس الدنيا ما بقلهاش طعم من بعد ما سي "بدري" سافر.
ردت عليها بتحفزٍ، وهي تسدد لها لكزة قاسية في جانب كتفها:
-حسه في الدنيا ياختي، ربنا يحفظلي كل عيالي.
زاد إحساسها بالحرج، وهتفت في صوتٍ خافت، ونظرة كسيرة:
-يا رب.
فقدت "فردوس" الرغبة في مشاركتها أي نوع من الحديث، خشيت من إثارة غضبها بلا سبب، فلزمت الصمت وهي تستشعر موجات الحزن المطعمة بالجفاء تموج في داخلها. تنبهت لها عندما خاطبتها في حديةٍ بعد برهةٍ:
-بقولك إيه، أنا رايحة البلد عن قرايبي هفضل هناك فترة، فماتجيش تاني، مش هتلاقي حد في البيت.
في تلقائيةٍ بحتة، سألتها مستفهمة:
-طب هترجعي إمتى؟
صاحت بها بصوتٍ حانق ومنفعل:
-هو تحقيق؟!
انكمشت على نفسها رهبة منها، وهتفت مبررة:
-لأ، أنا بس حابة أطل عليكي كل وقت وتاني.
لوحت لها بيدها عندما علقت بعبوسٍ:
-اطمني، مش محتاجالك.
ما إن أنهت فنجان قهوتها حتى هتفت فيها بما يشبه الطرد:
-يالا على بيتك، أنا دماغي تقيلة وعاوزة أريح حبة.
انصدمت بتصرفها المهين لها، فتأثرت عيناها، ولمعت فيهما العبرات، قامت ناهضة وهي ترد في خجلٍ شديد:
-ماشي يا حماتي...
بالكاد لملمت شتات نفسها المتبعثرة، وهي تحاول بصعوبة ألا تبكي، لتتابع:
-فوتك بعافية.
لم تضف شيئًا، ولم تودعها حماتها، فبلغت عتبة الباب، وانحنت لتنتعل حذائها، همَّت بفتحه، لكنها وجدت "عوض" يسبقها. أطرق الأخير رأسه حرجًا لرؤيتها أمامه، ثم قام بتحيتها في تهذيبٍ:
-السلام عليكم.
بلعت ريقها، وقالت بصوتٍ مال للحزن:
-وعليكم السلام.
استشعر الضيق في نبرتها، فقال محاولًا تخفيف ما ظن أنها قد تعرضت له في غيابه وهو ينظر تجاه والدته الملازمة دومًا لموضع جلوسها:
-يا أهلًا وسهلًا بالناس الغاليين، اتفضلي.
علقت بصوتٍ مرتعش دون أن تنظر ناحيته:
-لأ، أنا.. كنت نازلة.
أصر عليها محتجًا بجديةٍ رغم هدوء نبرته:
-مايصحش تمشي لوحدك، استني أوصلك.
رفضت مجيئه، وقالت وهي تتجه للخارج:
-كتر خيرك، المسافة مش بعيدة.
استوقفها بقوله المعاند:
-ده يبقى عيبة في حقنا...
أشار لها لتنظره بالخارج، واستكمل كلامه:
-استنيني لحظة أعرف الحاجة جوا.
لم تجد بدًا من الرفض أمام تصميمه، فهتفت في استسلامٍ يائس:
-طيب.
أسرع "عوض" متجهًا إلى والدته ليخبرها باهتمامٍ:
-هاروح يا أمي أوصل مرات أخويا لبيتها.
اعترضت عليه بوقاحةٍ، وهذه النظرة الحاقدة تطل من عينيها:
-هي ناقصة رجل؟ ما تسيبها تغور لواحدها.
عاتبها بقوله اللين:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، دي ضيفة في بيتنا، وإكرام الضيف واجب.
زمت شفتيها مرددة بغير اكتراثٍ:
-يا خويا، بلا قرف.
سدد لها نظرة أخرى مليئة باللوم؛ لكنه لم ينطق بشيء، بل اتجه عائدًا إلى "فردوس" التي تنتظره بالخارج، وهو يفكر مليًا في كيفية إرضائها دون أن يشعرها بالحرج.
.............................................
حين أخبرتها جارتها "إجلال" بورود اتصال هاتي من ابنتها المقيمة بالخارج، هرولت "عقيلة" مسرعة إلى محل البقال لتتمكن من الحديث إليها في التو، مكتفية بوضع الحجاب القماشي على رأسها دون أن تفكر للحظة في تضيع الوقت في تبديل قميصها المنزلي الفضفاض. تأبطت ذراعها، كمحاولة منها للاتكاء عليها خلال سيرها المتعجل، وهي تهتف بصوتٍ أقرب للهاث:
-تسلميلي يا "إجلال"، نتعبلك نهار فرحتنا بيكي.
ردت بوديةٍ معتادة منها:
-تسلميلي يا خالتي.
وصلت كلتاهما إلى محل البقال، فالتقطت "إجلال" السماعة السوداء لتناولها إلى "عقيلة" وهي توجه سؤالها لصاحبه:
-الخط لسه مفتوح؟
أجابها وهو يشير برأسه:
-أيوه.
بيدها المرتجفة أمسكت "عقيلة" بالسماعة، وضعتها على أذنها، وصاحت في شوقٍ جارف:
-ألوو، أيوه يا ضنايا.
ردت "تهاني" بكلمة واحدة عنت الكثير:
-ماما.
غلبتها دموعها الأمومية، فطفرت من حدقتيها وهي تخبرها بعتابٍ رقيق:
-وحشني صوتك، يهون عليكي أمك المدة دي كلها متسأليش عليها؟
جاءت نبرتها شبه مهمومة وهي ترد:
-غصب عني، كان عندي شوية مشاكل.
شهقت "عقيلة" مصدومة، ووضعت يدها على صدرها، كأنما تلطم عليه وهي تهتف بجزعٍ:
-وربنا قلبي كان حاسس.
حاولت تهدئتها بقولها:
-ماتقلقيش، كله تمام دلوقتي.
توسلتها بقلبٍ واجل:
-ما تسيبك من الهم ده كله يا "تهاني"، وتعالي وسط أهلك.
لحظة من الصمت حلت قبل أن تقطعها قائلة:
-مش هاينفع، أنا ورايا حلم عاوزة أحققه.
كادت "عقيلة" تعترض عليها لولا أن سمعتها تطلب منها:
-إنتي ادعيلي.
أخبرتها بوجه اكتسب سمات التعاسة:
-وربنا بدعيلك ليل نهار.
غيرت "تهاني" من مسار الحوار فسألتها:
-و"فردوس" عاملة إيه؟ اتجوزت خلاص؟
تنهيدة عميقة طردتها أمها من رئتيها قبل أن تجاوبها:
-كتبنا كتابها، مستنين بس جوزها يبعت ياخدها معاه.
ظهر الاستغراب في صوتها عندما تساءلت:
-ليه؟ هو راح فين؟
أجابتها وهي تمسح بيدها دموعها المسالة على وجنتيها:
-سافر العراق، بيدور على باب رزق جديد.
أتى تعقيبها مهتمًا:
-ماشي، ابقي سلميلي عليها.
ردت عليها والدتها بصوتها المتلهف:
-يوصل يا ضنايا، إنتي خدي بالك من نفسك، وماتغبيش المدة دي كلها عني، طمنيني كل شوية عليكي.
بنبرة شبه عاجلة اختتمت معها المكالمة:
-حاضر، لازم أقفل، مع السلامة.
انقطع الاتصال فجأة، وبقيت السماعة ملتصقة بأذن "عقيلة" لعدة ثوانٍ، ظل لسانها يردد في خفوتٍ، والألم يعتصر قلبها:
-ربنا يهديكي لحالك يا "تهاني".
تساءلت "إجلال" من ورائها في قلقٍ:
-كله تمام يا خالتي؟
أعادت الأخيرة السماعة إلى مكانها، واستدارت تنظر إليها بعينين حزينتين وهي تخبرها:
-اه يا حبيبتي...
أحست بشيءٍ من الإعياء يصيب بدنها، فطلبت برجاءٍ من "إجلال" وهي تمد يدها لتستند على مرفقها:
-رجعيني البيت ينوبك ثواب
في التو عاونتها وهي تقول بمحبةٍ صافية:
-ده إنتي تؤمري.
رمقتها بنظرة امتنانٍ قبل أن تدعو لها:
-ما يؤمرش عليكي عدو.
شردت رغمًا عنها تفكر في حال ابنتها الغائبة عنها، وقلبها لا يزال يستشعر وجود ما يؤرقها، وإن أنكرت وادعت صلاح أمورها، فإحساس الأم لا يخيب .. أبدًا!
................................................
كان هناك متسعٌ من الوقت خلال سيرهما إلى منطقتها السكنية، ففكر "عوض" في استغلاله لإبداء الاعتذار المصحوب بالتبرير لزوجة شقيقه، خاصة مع علمه بطبيعة والدته الحادة حينما تتصرف بفظاظة وقحة مع الغير. وضع دارجته كفاصل ملائم بينهما، تنحنح لأكثر من مرة ليجلي أحبال صوته، حاول أن يبدو مُراعيًا حين استطرد متكلمًا، وقاصدًا الدخول في لُبِ الموضوع مباشرة:
-مش عاوزك تزعلي من أمي، هي خُلقها ضيق شويتين، بس طيبة.
قالت برأس مطأطأ في حزنٍ:
-ربنا يخليهالكم.
حلَّ الصمت بينهما سريعًا، فحاول أن يبدده بقوله غير الاحترازي:
-فيكي الخير إنك جيتي تشوفيها قبل ما تسافر لـ "بدري".
تأهبت حواسها لجملته العابرة، استغرقها الأمر لحظة حتى استوعبت مقصده، فرفعت نظرها إليه، وسألته مذهولة، وكأن أحدهم قد قام بطعنها غدرًا في ظهرها:
-تسافر؟!!
اندهش لردة فعلها، وعلق سائلًا:
-هو إنتي معندكيش خبر ولا إيه؟
رغم المفاجأة الصاعقة التي هبطت على رأسها إلا أنها جاهدت لتخفي تأثيرها عليها، ومع ذلك ردت متلعثمة:
-لأ، آ.. يعني سي "بدري" مقاليش.
ضيق عينيه، وقال:
-اعذريه، تلاقيه ملقاش فرصة يبعتلك جواب، بس هو بيعمل اللي في وسعه عشان يجيبكم.
بلا صوتٍ غمغمت في تهكمٍ مستاء:
-بأمارة ما جاب أمه الأول!!!
لم تسمع معظم ما خاطبها به كمبرراتٍ واهية لشقيقه؛ لكنها انتبهت إلى آخر كلامه وهو يردد:
-وأنا الحمدلله خلصت كل الورق المطلوب، وإنتي أكيد بعدها.
علقت بغير اقتناعٍ:
-ربنا يسهل...
بلغت موضع بنايتها، فتوقفت عن المشي لتطلب منه في رجاءٍ:
-قوله يا سي "عوض" يبعتلي جواب ولا يكلمني يطمني عليه، أنا برضوه مراته وليا لي حق عليه.
رد عليه متفهمًا:
-في دي معاكي حق وهو غلطان، أنا هعرفه أول ما يكلمني.
ابتسمت في امتنانٍ شاكر وهي ترد:
-تسلم وتعيش.
استأذنت بالصعود بعدما وصلت، صعدت إلى الأعلى ورأسها يعج بالكثير من الخواطر والهواجس المتصارعة، لا تدري لأي منهم ستكون الغلبة؛ لكن ما سيطر عليها، واستحوذ على اعتقادها حينئذ هو إحساسها القوي بالغدر والخذلان.
..............................................
منذ أن عادت "عقيلة" إلى المنزل، وهي على حالتها الساهمة تلك، فقدت الشهية لتناول الطعام، ولم تحبذ كذلك مشاهدة التلفاز، أو حتى الاستماع إلى الراديو، ظلت فقط جالسة على المصطبة الخشبية الموجودة في غرفة نومها، تستند بيدها على إطار الشباك الموارب، ناظرة من الفرجة الصغيرة إلى سرابٍ لا يراه سواها، بدت وكأنها قد اعتزلت في غرفتها، جاءت إليها "فردوس" بعدما بدلت ثيابها، سألتها لأكثر من مرة إن كانت تريد شيئًا؛ لكنها كانت تجيب بهزة نافية من رأسها، أتمت ما نقص من أعمال البيت، ثم عادت إليها، وجلست مجاورة لها، تأملتها بتفرسٍ لبعض الوقت، ثم سألتها في اهتمامٍ:
-إنتي بخير يامه؟
اعترفت لها بشيءٍ من الشجن:
-لأ، قلبي متوغوش على أختك، صوتها مريحنيش.
سألتها مدهوشة وقد تحفز في جلستها:
-هي طلبتك النهاردة ولا إيه؟
أجابتها بإيماءة بطيئة من رأسها:
-أيوه، وزادت الهم في قلبي.
التوى ثغرها بنقمٍ، وردت وهي تزيح رباطة شعرها لتمشط خصلاتها بيدها قبل أن تجمعهم معًا:
-يامه "تهاني" جدعة، مايتخافش عليها.
رأت كيف غامت تعبيراتها، وامتزجت بالتعاسة وهي تخبرها:
-بس لواحدها، مافيش حد ينصحها.
سكتت ولم تعلق بشيء، فإحساس والدتها بالألم راح يغمرها، وحينما ينتابها ذلك الشعور الثقيل تكون مهمومة أكثر، ترددت لهنيهة في إعلامها بما جرى في بيت عائلة زوجها، وما عرفته مصادفة من مسألة التوضيب لسفرها بدلًا منها، سرحت في همها لبرهة، سرعان ما عادت منه عندما سألتها "عقيلة" بنوعٍ من الاهتمام:
-أومال عملتي إيه عند حماتك؟ استقبلتك كويس؟
في التو عدَّلت عن رأيها، ولم تخبرها بالمهانة التي تلقتها هناك، أو حتى ما اكتشفته، لم ترغب في إحزانها، ولا التسبب في نشوب الخلاف بينهما على أمرٍ يمكن حله. اختبأت خلف بسمة مصطنعة، وردت بصوتٍ شبه مضطرب:
-آ.. أيوه يامه، قامت بالواجب وزيادة، دي.. فرحت بجيتي أوي.
تفرست في قسماتها بشكٍ ملموس، فأكدت عليها "فردوس" بنفس الابتسامة الزائفة:
-دول بيت كرم.
استغربت من عبارتها تلك، وقالت ساخرة:
-ماشوفتهاش يعني باعتة معاكي حاجة!!!
ادعت كذبًا وقد اهتزت بسمتها:
-ما أنا مرضتش، هو احنا ناقصنا حاجة يامه؟!
لم تبدُ مقنعة كليًا بتبريرها الضعيف، ومع ذلك تجاوزت "عقيلة" عن هذا الأمر لتقول وهي تسدد لها هذه النظرة العميقة:
-خير.. ربنا ييسرلك أمورك وتروحي لجوزك خلينا نطمن عليكي إنتي كمان.
-إن شاءالله.
قالت جملتها تلك وهي تنهض من جوارها لتفر من نظراتها المتشككة قبل أن تكشف كذبها الواهي، ويتطور الوضع لما تخشى حدوثه!
............................................
انقضت الليالي العابثة، وانتهت السهرات الماجنة، وصار الوقت مناسبًا ليعود إلى ممارسة عمله، فكان أول ما فعله بعد غيابٍ دام لشهر ويزيد هو العودة إلى المشفى الخاص لمقابلة "تهاني"، معتقدًا أن اللهفة قد بلغت منها مبلغها، بل وجعلت قلبها المرهف يلتاع ويتحرَّق لرؤياه، ما لم يتوقعه هو عدم تواجده بمكتبها رغم معرفته الأكيدة بالتزامها الدائم بالحضور. حك جبينه في تحيرٍ، ثم وجه سؤاله لإحدى الجالسات بالحجرة في شيء من الرسمية، خاصة ومكتبها مملوء بالكثير من الكتب والملفات:
-هي دكتورة "تهاني" مجاتش النهاردة؟
أجابته بما صدمه كليًا:
-لأ، هي اتنقلت أصلًا!
للحظةٍ تدلى فكه السفلي قليلًا، وردد متسائلًا في نبرة ذاهلة:
-اتنقلت؟ من إمتى ده حصل؟!!
مطت الطبيبة فمها لبعض الوقت، كأنما استغرقت في تفكيرٍ سريع، قبل أن تجيبه:
-بيتهيألي من حوالي 3 أسابيع!
لاحقها بسؤاله التالي وهو يحاول أن يجعل نبرته خلالها تبدو عادية:
-ماتعرفيش السبب؟
هزت كتفيها معقبة بغير اهتمامٍ:
-تدريبها خلص هنا، وراحت مكان تاني.
ازدرد ريقه، وتساءل في حيرة متزايدة:
-طب هي مقالتش فين المكان ده؟
هزت رأسها وهي تجاوبه:
-الصراحة لأ.
ضغط على شفتيه مرددًا بوجومٍ:
-شكرًا.
غادر الحجرة سائرًا في الردهة بغير هدى، كان في قمة تحيره وتخبطه، فانسحابها الغريب أصابه بنوعٍ من الشك والارتياب، انهمك في تفكيره التحليلي للدرجة التي جعلته لا يلاحظ وجود "ممدوح" وهو ينتظره عند الدرج، صاح الأخير مهللًا في زهوٍ:
-ما بتضيعش وقت يا باشا!
أفاق من شروده، ونظر إليه قبل أن يزجره بحدةٍ، وقد أصبحت ملامحه مكفهرة:
-في إيه؟
اندهش لحالته المتعصبة، وفطن لحظتها لكونها مرتبطة بـ "تهاني"، خاصة أنه رآه عائدًا من نفس المكان الذي تمكث به بالمشفى، ظن أنها عاملته بجفاءٍ غير مقبولٍ، فاستثار غيظًا للنيل من غروره، لذا استطرد ساخرًا منه وهو يبتسم:
-هي العصفورة نقرتك ولا إيه؟
رد عليه وهو يوكزه في جانب ذراعه بكتفه ليمر من جواره:
-لأ يا خفيف، دي سابت القفص كله وطارت.
تعلقت نظراته المستغربة به، وسأله وهو يتحرك في إثره:
-قصدك إيه؟
صعد كلاهما على الدرج، و"مهاب" يتكلم في تبرمٍ:
-"تهاني" اتنقلت من هنا.
لم يبدُ "ممدوح" مزعوجًا مما سمع، بل قال مستمتعًا:
-أوبا! ليك حق تضايق!
نظر إليه "مهاب" من طرف عينه مليًا، ثم أخبره في تصميمٍ مليء بالتحدي العنيد:
-ملحوئة، أنا عارف هي أعدة فين، هاروحلها هناك.
فرك رفيقه كفيه معًا، كأنما يبدي بذلك تحمسه، ليظهر بعدئذ تأييده لقراره في تشجيعٍ واضح:
-أهوو ده الشغل اللي على حق، وأنا معاك فيه.
..............................................
أدرك "مهاب" وهو يقود سيارته تجاه منطقتها المقيمة بها، أن لعبة صيد الطريدة الغاشمة اتخذت منعطفًا حساسَا للغاية بعد اختفائها عن محط أنظارهما، فهي ليست مثل باقي التحديات الفارغة، والمعروف نهايتها مسبقًا، بل بدت مستعصية على كليهما إلى حدٍ ما، وهذا ما أضفى على صراعهما نوعًا من التشويق والإثارة، على عكس باقي الساذجات المستسلمات لإغراء المال أو إغواء الحب، لذا إن استسلم في لحظة وتراجع، حتمًا سينقض "ممدوح" عليها ليظفر بالجائزة الكبرى، وهو لم يعتد الخسارة مطلقًا في مواجهته!
تركه ينتظره بسيارته بعدما اتفق معه على ذلك، وصعد بمفرده للبناية التي تسكن بها. قرع الجرس، وانتظر بصبرٍ فارغ فتح الباب له، تأهب في وقفته، وضبط رابطة عنقه متوقعًا أن تستقبله هي؛ لكنه تفاجأ بأخرى غريبة تحدجه بنظرة متجهمة وهي تسأله:
-إنت مين؟
بهت ملامحه قليلًا، وأمعن النظر فيها لهنيهة بتحيرٍ، تراءى إلى ذهنه أنها ربما تكون شريكتها في السكن، فسألها في لباقةٍ، وهو يعاود وضع هذه الابتسامة الرقيقة على ثغره:
-دكتورة "تهاني" موجودة؟
قوست فمها في غرابةٍ قبل أن ترد عليه متسائلة بحاجبٍ مرفوعٍ للأعلى في تعجبٍ:
-"تهاني"؟ مين دي؟
اندهش مجددًا لطريقتها، وأخبرها في جديةٍ:
-دي دكتورة ساكنة هنا.
ردت عليه بعدم مبالاة:
-أنا معرفهاش بصراحة.
سيطر عليه الوجوم مرة ثانية، فاستأنفت كلامها شارحة له:
-بص أنا لسه جاية جديد، ممكن تسأل زميلتي، جايز تعرف.
شعر ببارقة أمل تلوح في الأفق عندما نطقت بهذه العبارة، وطلب منها بتهذيبٍ:
-طب هي موجودة؟
هزت رأسها قائلة:
-أيوه، لحظها أناديها.
تركت الباب مواربًا، وغابت للحظات بالداخل، لتعود إليه شابة أخرى ترتدي ثوبًا منزليًا فضفاضًا ومزركش الألوان، معقود من طرفه، ومربوط من خصره، جعلها تبدو كما لو كانت قد انتهت لتوها من المساعدة في حرث الأرض الزراعية. توقف عن تحديقه المتعجب حينما سألته "ابتهال" في فضولٍ:
-إنت عاوزني يا أستاذ؟
أجاب عليها بصيغة تساؤلية:
-ماتعرفيش دكتورة "تهاني" راحت فين؟
شملته بنظرة غريبة مطولة، كأنما تتحقق بها من شيء ما، ثم تمتمت بلا صوتٍ، وكأنها تحادث نفسها:
-إنت بقى الدكتور الحليوة!!
رمقته بهذه النظرة الثاقبة المغلفة بالغيرة والاستنكار، وهي لا تزال تتحدث في جنبات نفسها:
-والله، برافو عليكي يا "تهاني"، عرفتي تجيبيه على ملا وشه!!
ما لبث أن طفا الشر على صفحة وجهها لتقول في حقدٍ، وبلا صوت:
-بس على مين، وربنا لأفسدهالك!
انتبهت لصوت "مهاب" المتسائل بانزعاجٍ بعدما ضجر من مماطلتها الفارغة:
-إنتي مش سمعاني ولا حاجة؟
ضحكت في سخافة، وأخبرته بالكذب:
-لا مؤاخذة، أصلها عقبالك اتخطبت.
برقت عيناه في ذهولٍ صادم، وردد بغير تصديقٍ:
-أفندم!!
أكدت له بثقةٍ تامة، وهي تصيغ كذبتها بإتقانٍ، لتضمن بشكلٍ تام إفساد أي محاولة للتقارب بينهما من جديد:
-أه، وخطيبها حِمش أوي، مارضاش يسيبها لواحدها عازبة كتير، ده تلاقيه اتجوزها.
كرر في صدمة أكبر، وقد ارتفع حاجباه للأعلى:
-اتجوزت؟
استندت بذراعها على إطار الباب الخشبي، وقالت بلؤمٍ خبيث:
-أومال مفكر هي سابت السكن ليه؟
ثم رفعت يدها الأخرى لتسوي شعرها الفاحم وهي تتابع بمكرٍ:
-عمومًا أنا في الخدمة لو عاوز حاجة، أنا عِشرية وعمري ما أقصر مع الناس اللي بحبهم.
حدجها بنظرة احتقارية قبل أن يوليها ظهره منصرفًا دون أن ينطق بشيءٍ، فانتصبت في وقفتها مستنكرة هذه المعاملة الازدرائية، لتهتف من ورائه في حدةٍ:
-إيه؟ مافيش شكرًا حتى؟!!
ابتعد عن محيطها والصدمة تكاد تأكل رأسه المشحون، استطرد محدثًا نفسه في صوت متسائلٍ ومغتاظ وهو يهبط الدرجات ببطءٍ:
-طب هي عملت كده ليه .....
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(زواج أَمْ... ؟)
كان وجهه واجمًا، متكدرًا، ويظهر عليه الضيق الشديد، لم يستوعب كيف لشابة معدومة الخبرة مثلها أن تنجح في التحايل عليه ومراوغته لمجرد التسلية الفارغة، وهو سيد من يقوم بهذه الأمور اللئيمة ببراعة، وفي النهاية تترك كل شيء وراء ظهرها، وتتزوج بآخر دون أن ينال مبتغاه منها. خرج من المدخل مستاءً للغاية، تنطلق من عينيه نظرات الحنق، وزاد من إحساسه بهذا الشعور الناقم وجود "ممدوح" بالسيارة، حتمًا لن يمرره دون سخرية أو استهزاء، وهذا ما لا يحبذه مُطلقًا، فأحب ما لديه أن يتغذى بداخله شعوري الغرور والسيطرة، لا الانتقاص منهما. ما إن رآه الأخير ظاهرًا في مرمى بصره، حتى فتح الباب وترجل من السيارة ليهتف متسائلًا دون استهلالٍ:
-قابلتها؟
رفض "مهاب" الحديث بشيء، واتجه إلى موضعه خلف عجلة القيادة، فتبعه رفيقه بنظراته الفضولية وهو يعلق باستخفافٍ:
-شكلها ادتك الوش الخشب!
ثم أطلق ضحكة ساخرة منه ليستفزه أكثر قبل أن يتابع بنفس الوتيرة وهو يستقر مجاورًا له:
-وإنت الصراحة مش متعود غير على الحاجات الناعمة والطرية.
لم يطق تحمل سخافاته، فاستطرد بصوتٍ ثقيل وهو يدير المفتاح ليشعل المحرك:
-"تهاني" اتجوزت!
حملق فيه مندهشًا، ليعلق بعدها بنبرته الذاهلة:
-نعم، إنت بتهزر صح؟
رد في وجومٍ وهو يخفض الزجاج الملاصق لجانبه:
-لأ، زميلتها قالتلي كده.
مط "ممدوح" فمه متمتمًا:
-غريبة!
لم يضف "مهاب" أي شيءٍ، وانطلق بالسيارة بعيدًا عن المكان؛ لكن "ممدوح" واصل التعقيب الهازئ من الأمر برمته، فأردف ضاحكًا باستمتاعٍ مغيظ:
-كده احنا الاتنين طلعنا برا اللعبة .. وهي اللي كسبت يا باشا.
نفخ رفيقه بصوتٍ مسموعٍ، وحذره في غير صبرٍ:
-مش عاوز كلام زيادة.
مد "ممدوح" ذراعه، ولكزه في جانب كتفه بخفةٍ، كأنما يمزح معه، واستمر في تعليقه المستفز:
-حقك تزعل، أول مرة تخسر، وقصاد مين، واحدة مالهاش وزن ولا قيمة عند "مهاب الجندي"!
فقد آخر ذرات هدوئه، فالتفت برأسه تجاهه، وزجره في عصبيةٍ:
-كفاية يا "ممدوح"، أنا مش ناقصك.
تراجع الأخير عن مواصلة إغاظته، وقال ملطفًا بابتسامة سخيفة:
-ماشي، تعالى نشوف حتة نغير فيها جو.
دون أن ينظر ناحيته أخبره في لهجةٍ حاسمة:
-أنا هوصلك بيتك وبس.
لم يجادله كثيرًا، فأوجز في الرد وهو يسترخي في المقعد، كما لو كان الأمر يروقه بشدة:
-براحتك.
اختطف بين الحين والآخر نظرة عابرة نحوه غير مبالٍ إن كان يراه رائق المزاج أم لا، فهذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها بنشوة الانتصار عليه في شيء، وإن كان من وجهة نظره المتعجرفة حقيرًا.
..........................................
لعب الشيطان برأسها فوسوس لها بفكرة جنونية، وهي التفتيش في أغراض هذه الوافدة المستجدة، إذ ربما تتمكن من معرفة أي شيء عنها، خاصة مع تحفظها الغريب والذي يثير في نفسها الاسترابة والشك. استغلت "نزيهة" فرصة وجود "تهاني" في الحمام لتستحم، فتسللت إلى غرفتها بعدما تأكدت من عدم متابعة أحدٍ لها، وأخذت تمعن النظر في متعلقاتها الشخصية بوقاحةٍ فجة، وهذه الابتسامة المستهزئة تعلو زاوية شفتيها. لم تقم بإعادة ما أمسكته إلى مكانه، تركته بإهمالٍ وهي تقول:
-بس فالحة تعمل نفسها بنت ذوات، ومافيش منها اتنين، وهي عدمانة!
لفت نظرها الحذاء القيم المتروك أسفل تسريحة المرآة، سارت تجاهه، وانحنت لتلتقطه، رفعته إلى عينيها وتأملته بإعجابٍ وهي تُحادث نفسها:
-دي الحاجة العدلة اللي عندك، تستاهل إن الواحد يشوفها عليه.
جلست على طرف الفراش، وبدأت في تجربة قياسه على قدمها؛ لكنها لم تستطع إدخاله بسبب كبر حجم قدمها. ألقته في عصبيةٍ أرضًا نحو التسريحة وهي تغمغم بتأففٍ:
-إياكش يتقطع!
وجودها لم يعد ضروريًا، لهذا كما دخلت خلسة خرجت دون أن يمسك بها أحد، لتنضم إلى زميلاتها الجالسات في الصالة، وكأنها لم تفعل شيئًا.
في تلك الأثناء، كانت "تهاني" قد انتهت لتوها من الاستحمام وتجفيف شعرها، ورغم أنه ما زال رطبًا إلا أنها فضلت جمعه برابطة رأس حتى لا يصير مهوشًا. تسمرت عند عتبة غرفتها ناظرة بحدقتين متسعتين في ذهول مستهجن عندما رأت الفوضى الموجودة بها، تخطى الأمر حدود المقبول، فاندفعت خارجة من غرفتها بكل عنفوانها نحو الصالة، حيث تجتمع الشابات معًا في جلسة تسامرٍ ودية، جالت بعينين متقدتين عليهن جميعًا، وهي تتساءل في نبرة موحية بالاتهام:
-مين دخل أوضتي؟
اندهشن في حيرةٍ من العصبية الزائدة التي جاءت بها عليهن، وتولت إحداهن مهمة الرد نافية ما قالته في صوتٍ هادئ:
-محدش.
احتدت نبرتها وصرخت فيهن باهتياجٍ:
-لأ، في حد كان جوا الأوضة، وفتش في حاجاتي!
نفت أخرى قيامها بذلك الأمر رافعة يديها في الهواء:
-أنا لسه جاية من برا.
انتفضت "نزيهة" قائمة من مكانها، ولوحت لها بذراعها وهي تهدر باشمئزازٍ:
-أوضة إيه دي يا أم أوضة؟!!!
حولت "تهاني" نظراتها المحتقنة تجاهها، وردت في تعصبٍ مهين:
-المفروض إننا في مكان محترم، مش أعدة في الشارع عشان كل من هب ودب يمد إيده على حاجتي.
انفلتت شهقة مستنكرة من "نزيهة"، وصاحت في تحفزٍ، وهي تتقدم تجاهها، كأنما تريد الهجوم عليها للفتك بها:
-قصدك إن احنا حرامية هنا؟
تدخلت في التو واحدة منهن لتحول بينهما بجسدها وهي تقول بتعقلٍ محاولة لملمة الأمور قبل تفاقمها:
-استني شوية، ماينفعش كده!
قامت أخرى بشد "نزيهة" للخلف لإبعادها عن محيطها، بينما واصلت الأولى كلامها:
بصي يا "تهاني" كلنا هنا زي بعض، مافيش واحدة أحسن من التانية!
لم تعبأ بما أخبرتها به، وهتفت مشيرة بسبابتها في وجه الجميع:
-أنا قولت اللي عندي، ولو اتكررت تاني مش هسكت.
غادرت بعدئذ عائدة إلى غرفتها، لتهدر من ورائها "نزيهة" في حنقٍ مستشيط:
-مفكرة نفسها مين دي؟
حاولت إحدى المتواجدات تهدئتها، فقالت:
-حصل خير يا جماعة، مافيش داعي نكبر الموضوع.
ظلت "نزيهة" على حالتها الحاقدة وهي ترد بتحيزٍ مهين:
-دي عاوزة تعمل لنفسها قيمة، وهي ماتسواش.
سرعان ما حامت الشكوك حولها لكونها الوحيدة الثائرة بلا مبررٍ، فتساءلت واحدة منهن بشكلٍ مباشر وهي تحدجها بهذه النظرة القوية:
-"نزيهة"، إنتي دخلتي أوضتها؟
خبت حمئتها إلى حدٍ كبير، وقالت رغم ذلك بلهجةٍ متحفزة:
-الباب كان مفتوح، ف بصيت من برا بس.
-يعني دخلتي؟
-أنا حبيت أعرف الست الدكتورة اللي شايفة نفسها علينا مخبية إيه من ورانا!
-وده يصح؟ إنتي ترضي حد يعمل معاكي كده، وبدون علمك؟!!
-أنا مخدتش منها حاجة، دي كُحيتي على الآخر، أفقر مننا.
-يا ريت مايحصلش ده تاني، مش ناقصين مشاكل لا معاها ولا مع غيرها.
على مضضٍ شديد ردت وهي تزفر الهواء من بين شفتيها:
-طيب.
........................................
كل ما راود ذهنها أنها مؤامرة حقيرة دُبرت في الخفاء لعرقلة الزواج وتأجيله دون أن يتم مراعاة هذه المسكينة المنتظرة بتلهفٍ إتمامه. على وجه السرعة جاءت "أفكار" لزيارة شقيقتها فور أن علمت بالأخبار الصادمة. استقرت على الأريكة بعد استقبالٍ روتيني من "عقيلة"، وزعت نظراتها الغامضة بين الاثنتين حينما جلستا معها، ثم بصوتها اللاهث، وتعبيراتها الممتعضة أخبرتهما بما جعل القلوب تنبض رهبةً:
-خليكوا كده نايمين على ودانكم ومعندكوش خبر باللي بيحصل!!
تساءلت "عقيلة" في ملامح مستغربة:
-في إيه ياختي؟
نظرت لها بأسفٍ قبل أن تخبرها في تبرمٍ:
-الولية حماة بنتك سافرت العراق، والمحروسة لسه أعدة هنا.
حينئذ لطمت على صدرها في صدمة، ولسانها يردد بتحسرٍ:
-يا نصيبتي!!!
ثم سألتها بقلبٍ ملتاع قد راح يدق في تخوفٍ:
-امتى ده حصل؟!
أجابتها "أفكار" وهي تهز رأسها:
-من كام يوم، ولسه دريانة بده.
لم تبدُ "فردوس" متفاجئة كالبقية بهذا الخبر الصادم، مما استرعى الانتباه، فأدارت والدتها وجهها تجاهها، وسألتها في جزعٍ:
-إنتي كنتي تعرفي يا "فردوس"؟ قالتلك إنها مسافرة؟
ترددت للحظاتٍ، ولم تعرف بماذا تخبرها؛ لكن لا مفر من الحقيقة. تلبكت أكثر، وخاطبتها بصوتٍ شبه مهتز:
-هي بنفسها مقالتليش حاجة يامه، بس ابنها الكبير قال إن سي "بدري" هيبعت ياخدها، وبعد كده أنا.
ضربت خالتها على فخذيها بكفيها، وراحت تولول في حسرةٍ:
-شوفتي خيبة بنتك؟ عارفة وساكتة!!
مجددًا وجهت "عقيلة" سؤالها لابنتها في انفعالٍ طفيف:
-وماجبتيش سيرة ليه؟
انتفضت على صوتها العالي، وردت بنبرة أقرب للبكاء:
-افتكرته كلام وبس.
هنا صاحت خالتها تلومها في ضيقٍ شديد:
-وأهوو حصل!
وضعت "عقيلة" يديها أعلى رأسها، وأخذت تهزها يمينًا ويسارًا وهي تتساءل:
-هنعمل إيه دلوقتي؟
كورت "أفكار" قبضة يدها، وكزت على أسنانها لهنيهة قبل أن تتكلم عاليًا في تحفزٍ:
-لازمًا نكلم أخوه يوصله، ويبعت ياخدك، هو مش حاجزك هنا وراكنك على الرف لحد ما يهفه الشوق ياخدك.
وقتئذ التفتت "عقيلة" ناظرة مرة ثانية لابنتها بنظرة مؤنبة للغالية، ثم عادت لتكلم شقيقتها:
-شيعي لحد يجيب أخوه هنا.
قالت دون تفكيرٍ:
-هيحصل ياختي.
ظلت "فردوس" متجمدة في مكانها كالصنم، تنظر إلى كلتيهما بعجزٍ مشوبٍ بالندم، فلو تحدثت في وقت باكر عما علمته، لربما اختلف الوضع تمامًا.
...........................................
بعد توبيخ لاذع، وإنذارات شديدة اللهجة في منزل عائلة زوجة شقيقه، كان عليه التصرف في الحال، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، خاصة أن موقف شقيقه كان مخزيًا ومحرجًا ولا مبرر منطقي له. انتظر "عوض" على المقعد البلاستيكي المتأرجح بسبب انفلات مساميره، ودار بنظراتٍ شاردة على الوجوه البائسة المحيطة به، ورغم إحساسه بالاختناق والحر، إلا أنه لم يتذمر كالبقية أو يثرثر مع أحدهم ليقضي على بطء مرور الوقت، انتظر دوره بصبرٍ طويل، حتى ناداه عامل السنترال ليذهب إلى واحدٍ من الأكشاك الصغيرة ليتحدث لشقيقه عبر الهاتف في مكالمة دولية مدفوعة الثمن مسبقًا، حاول غلق الباب؛ لكنه كان عالقًا، لذا صاح عاليًا وهو يجاهد لاستراق السمع لصوته وسط الجلبة الصاخبة المنتشرة من حوله:
-أيوه يا "بدري"، عامل إيه ياخويا؟
أتت نبرته مبتهجة للغاية:
-في نعمة والحمدلله.
رد عليه وهو يسد بيده أذنه الأخرى ليتمكن من سماعه:
-يستاهل الحمد، وإزي أمي؟ كويسة؟
أجابه بنبرة مسرورة:
-أيوه، في أحسن حال، وربنا دي صحتها ردت لما جت عندي.
قال "عوض"، كأنما يُعلمه بالحقيقة الواقعة، بنفس الصوت العالي:
-هي طول عمرها متعلقة بيك يا "بدري".
أثر ألا يضيع الوقت هباءً، وسأله في التو باهتمامٍ واضح:
-المهم، إنت ناوي على إيه مع مراتك؟
أحس بتبدل نبرته وهو يجيبه:
-بصراحة كده، أنا مش ناوي أكمل.
صدمه ما أخبره به، فردد مستنكرًا في غير رضا:
-بتقول إيه؟
بدا "بدري" هادئًا للغاية وهو يشرح له مبرراته:
-اسمعني بس، هي مش من تُوبي، ولا نافعة معايا.
لم يقتنع بحججه الواهية، وهاجمه في صوتٍ منفعل:
-هي جزمة بتشوف مقاسها ينفع ولا لأ؟ دي بني آدمة.
كاد أن ينطق بشيء؛ لكن "عوض" واصل مقاطعته:
-وبعدين الناس تقول علينا إيه؟ دي تبقى قلة أصل مننا!!
مرة أخرى صُدم برده غير المراعي أبدًا:
-ولا فارق معايا حد، أنا مصلحتي اللي تهمني وبس.
عنفه شقيقه الأكبر بضيقٍ متزايد:
-اتقي الله يا "بدري"!
تهرب منه بوضوحٍ:
-خلينا نتكلم في ده بعدين، أنا ورايا شغل.
رد عليه بما يشبه التحذير وهو يكظم غضبه:
-ماشي، بس راعي ربنا عشان يكرمك.
هتف بتعجلٍ منهيًا معه مخابرته:
-طيب .. طيب .. سلام ياخويا.
وضع السماعة في موضعها، ودفع الباب المحشور ليخرج من الكشك الضيق ضاربًا كفه بالآخر، يمرق بين المتجمهرين وهو غير مستوعب لما قرره شقيقه دون أدنى مسئولية لعواقب ذلك؛ وكأن حياة الأبرياء لا تعنيه، ظل يردد مع نفسه وبلا وعيٍ:
-ذنبها إيه المخلوقة دي تظلمها معاك؟ ذنبها إيه؟!!
بدا وكأنه أُودع في هم لا ناقة له فيه ولا جمل؛ لكنه عقد العزم على إقناع شقيقه بعدم تطليقها مهما تكلف الأمر.
.......................................................
كعهده حينما يتم دعوته لحضور واحدٍ من المؤتمرات الطبية، يمضي وقت فراغه في أشهر النوادي الليلية، للظفر بمتعة جسدية جامحة، فيشبع بها هذا الشعور النهم بالسيطرة والإخضــاع، ورغم شبقه العطش دومًا لكل ما هو مغري إلا أن هذه المرة كانت مختلفة، فبدا غير مكترثٍ بالتودد إلى إحداهن، أو حتى مواعدة واحدة من النساء العابثات، المتمرسات في فنون العشق ومطارحة الغرام. استغرب "ممدوح" من عزوف رفيقه عن أحب الأشياء إلى قلبه، وتحير في شأنه، ، يبدو أن تأثير صدمة زواج "تهاني" كان عميقًا للدرجة التي جعلته عاجزًا عن تقبل أنه رُفض منها، ونالها غيره، لم يترك لخواطره إرهاق عقله بالتفكير، وانضم إليه في طاولته المنعزلة لينظر إليه بتدقيق وهو يتجرع ما في كأسه دفعة واحدة. خاطبه مستفهمًا ليتأكد من ظنونه وهو يفرغ في كأسه القليل من الخمر:
-شايفك لسه ما رجعتش لمودك الرايق من تاني.
من طرف عينه تطلع "مهاب" إليه، وتساءل في جمود:
-عاوزني أعمل إيه؟
أخبره بتريثٍ، وهو يتلقف بفمه بضعة حبات من المكسرات:
-ما أنا بصراحة مابقتش فاهمك، ليه مكبر الموضوع للدرجادي؟!!
منحه "مهاب" نظرة طويلة من عينيه الحمراوين، وكأن هناك أتون مشتعل فيهما، ضغط عليه رفيقه بسؤاله المتعمد ليعزز من شعوره بالألم:
-إيه؟ الخسارة صعبة عليك؟
ثم ضحك ساخرًا منه ليضيف بعدها باستخفافٍ مغيظ:
-بكرة تتعود.
لم يكن بمقدوره تحمل تلميحاته أو حتى التغاضي عن سخافة عباراته، فهدر به في تشنجٍ:
-قفل على السيرة دي!!
هز "ممدوح" كتفيه غير مبالٍ بالغليل المتأجج بداخله، وراح يغوص في المقعد باسترخاءٍ واضح، ثم رفع ذراعه للأعلى ليفرقع بإصبعيه لإحدى النادلات شبه المتعريات لتأتي إليه وتقوم بخدمته بطريقتها الاحترافية. رفض "مهاب" المكوث معه، انتفض الأول ناهضًا ليقول بوجومٍ حانق:
-أنا قايم.
أظهر رفيقه عدم اهتمامه بمغادرته، ولوح له بيده هاتفًا بصوتٍ شبه مرتفع:
-ماتنساش تكريم بكرة.
لم يرد عليه وانصرف بغضبه الذي يلهب صدره، ليردد "ممدوح" من ورائه في همهمة خافتة، وبشماتةٍ بائنة للغاية:
-ياخي جرب كده مرة تكون مضايق وما تخدش اللي نفسك فيه!
..............................................
جلست القرفصاء أمام طَسْت الغسيل النحاسي تدعك بيديها بياضات الأرائك لتتأكد من تنظيفها جيدًا، قبل أن تلقي بها في الغلاية المجاورة لها، لتضمن الحصول على نَصَاعة أكثر للون الأبيض. أوشكت "فردوس" على الانتهاء من هذه المهمة الشاقة حينما سمعت صوت أمها يناديها من الخارج عاليًا:
-شوفي مين على الباب!
-حاضر يامه.
هتفت بهذه الجملة وقد توقفت عما تفعل، لتنهض من جلستها غير المريحة، تأوهت في صوت خفيض، واستقامت واقفة، ثم جففت كفيها المبتلين بالماء والصابون في جانبي ثوبها المنزلي، قبل أن تشد طرفه المثني للأسفل لتغطي ساقيها المكشوفتين. سارت بتعجلٍ تجاه باب البيت، فتحته، وخرجت منها شهقة متوترة عندما أبصرت رجلًا واقفًا قبالته بزي الشرطة الرسمي. في حركة لا إرادية منها، لطمت على صدرها هاتفة:
-يا ساتر يا رب! خير يا شاويش؟
شملها فرد الشرطة بنظرته الفاحصة موجهًا سؤالًا رسميًا لها:
-ده بيت "فردوس شحاته"؟
دق قلبها بقوة، وراح الخوف يختلج أوصالها كغزو يجتاح ما يعترض طريقه بغتة، بلعت ريقها وردت بوجهٍ راحت الدماء تفر منه في الحال:
-أيوه، دي أنا.
فتح الدفتر الذي أتى به، ودون بقلمه الحبر شيئًا في أحد أوراقه، ثم أمرها بلهجة جافة، ولا تزال رسمية:
-اتفضلي استلمي الإعلان ده، ووقعي هنا.
نظرت إلى الورقة التي يبرزها أمام عينيها متسائلة بتحيرٍ قلق، ودبيب قلبها آخذ في التصاعد:
-إعلان إيه؟
بنظرة سريعة لفحوى مضمون الورقة أجابها، ودون أدنى تعاطف معها:
-طلاق غيابي.
تلقت كلماته الموجزة كالصاعقة على رأسها، فاتسعت عيناها في محجريهما، واستطال وجهها في صدمة متضاعفة، لتلطم بعدئذ على خديها بقسوةٍ وهي تصرخ في قهرٍ عظيم:
-يا نصيبتي!!!!
...............................................
محاولة التغلب على ما يؤرق مضطجعك ليس بالأمر الهين على الإطلاق، فقد يجعل الحصول على قسطٍ وافرٍ من النوم أمرًا مستبعدًا، ناهيك عن إرهاق العقل بالكثير والمزيد من الأفكار التحليلية المهلكة للأعصاب. شعر "مهاب" بالصداع يفتك برأسه منذ لحظة استيقاظه، قاومه قدر المستطاع؛ لكنه تمكن منه، فبحث عن دواء مسكن ليتمكن من التماسك طوال الساعة المتبقية من أول أيام ذلك المؤتمر الكئيب؛ لكنه لم يجد. لم ينكر أن سيلًا من الذكريات المزعجة هاجمه وهو يستحضر كيف أمضى شبيه ذلك بصحبة "تهاني"، متوقعًا أنه يجرها إلى شباكه المحكمة، لتعطيه نفحة من نعيمها الأنثوي، واليوم تعمق بداخله ذاك الشعور المرفوض قطعيًا بالهزيمة، كاد يجن، ويخرج عن طور الرزانة المعروف به في محفل الأطباء. تماسك حتى الرمق الأخير، وتلقى الجائزة التقديرية بملامحٍ جليدية يخفي خلفها البركان الثائر في دواخله. امتدت يده لمصافحة أحد كبار الأطباء، والمسئول عن إقامة هذا المحفل، ليخاطبه في امتنانٍ:
-أشكرك للغاية على هذا التكريم.
بادله الطبيب المصافحة وقال في إعجابٍ:
-أنت مثال رائع للطبيب المثابر.
ضحك بتصنعٍ، وعلق وهو يربت بيده الأخرى على جانب ذراعه:
-أنت تبالغ عزيزي.
استعاد الطبيب يده، وأبدى تفاخره به مرددًا:
-تستحق دومًا الأفضل.
أنهى معه الحوار بلباقةٍ، وانتقل للحديث مع آخر لعدة دقائق. كان "مهاب" على وشك المغادرة تمامًا لولا أن استوقفه هذا الصوت الناعم الذي يعرفه جيدًا، فاتجه دون إعادة تفكير إلى صاحبته ليحييها بوديةٍ غريبة:
-الجميلة "ديبرا"!
التفتت إليه الأخيرة لتنظر إليه بجبين مقطب، ونظرات متشككة. وضعت بشفتيها ابتسامة متكلفة قبل أن تقول برسمية تامة:
-أهلًا بك دكتور "مهاب".
لم تمد يدها لمصافحته، ولم تحاول حتى تقبيله بحرارة في وجنته، كانت متباعدة كليًا عنه، فاستنكر جفائها، وعاتبها بنظرة لعوب:
-لما كل ذلك التحفظ معي؟!
أولته ظهرها فرأى كيف تمتد الفتحة الخلفية لثوبها النبيذي حتى انتفاخ ردفيها، اشتهى تذوق ما وراء ساتر القماش، وأبقى عينيه الجائعتين على منحنيات جسدها المغرية. تأهبت حواسه عندما أجابته بنبرة جافة يشوبها القليل من الاتهام:
-لئلا أزعجك صديقتك، ألم تقل لي ذلك؟ أم أنك تريد إغضابها؟
ثم استدارت مرة واحدة تجاهه لتجد عينيه معلقتين بها، فابتسمت في تشفٍ، وسألته في خبثٍ وقح، كأنما تتعمد إحراجه بشكلٍ يلمح بالإهانة:
-بالمناسبة، أين هي؟ أم أنك أثبت عدم جدارتك معها؟
غلت الدماء في عروقه حنقًا منها، ورغم هذا حافظ على ابتسامته المنمقة وهو يجيبها بهدوءٍ مريب:
-لقد انفصلت عنها!
رفعت حاجبها للأعلى، وهتفت في ذهولٍ:
-لا أصدق! كيف حدث ذلك؟
اشتدت تعابير وجهه، وأخبرها وهو يحاول جاهدًا نفض كل ما يخص "تهاني" من ذكريات:
-لا يهم، كفانا حديثًا عنها، وهيا بنا، لنا لقاء مميز.
اختتم جملته ويده قد وجدت طريقها إلى ظهرها فلامست جلدها الناعم، اقشعر بدنها، وراحت الوخزات المحفزة تضرب كل ذرة في جسدها، شعرت بذراعه تطوق بعدئذ خصرها في قوةٍ محسوسة، كأنما يفرض سطوته عليها بالتدريج. لم تقاومه، وأبدت استعدادها للمرح الجامح معه، تبسمت وسألته بعبثية ظاهرة في نظرتها إليه:
-إلى أين؟
مال على أذنها ليهمس لها بشيءٍ من المكر:
-سأعوضك عن تلك الليلة الكئيبة.
قوست فمها قائلة في تشوقٍ:
-أوه، عزيزي، أنا آ...
قاطعها بإصرارٍ وهو يداعب جانبها بأصابع يده:
-لن أقبل بالرفض!
وضعت يدها على كفه تتحسسه، وقالت في ميوعة صاغرة، كأنما لبت نداء الإغراء الذي أطلقه لها:
-حسنًا، أنا طوعك سيدي.
..................................................
تناوب عليها خليط مكثف من مشاعر الألم والمتعة والرضا والانتشاء في آن واحد وهي ترتشف معه من كأس الحب الآثم، إلى أن جاء دوره لنيل غايته التي يكبحها بصعوبةٍ، بالطبع كانت مستسلمة طواعية له، فلم تحتج إلى أي محايلة منه أو حتى مقاومة لتنفذ أوامره، كانت ملك يديه، يعيث فيها كيفما يشاء، كما أن تأثير المشروبات الكحولية خلال لحظاتهما الخاصة أذهب برجاحة عقلها، فأصبحت خاضعة تمامًا لما يمليه عليها. شعرت "ديبرا" بقبضتي "مهاب" تمسكان بها من معصميها، بعدما استلقت بلا ساترٍ وتمددت على بطنها الصغير، رفعهما للأعلى قليلًا، وقيدهما بخشونةٍ في حامل الفراش، فسألته بنبرة ثقيلة:
-عزيزي، ماذا تفعل؟
أجابها بغموضٍ مخيف:
-سنمرح قليلًا .. كما تعرفين.
وجدت يده تمسك بقدميها، حاولت رفع رأسها، والنظر إليه؛ لكنها لم تتمكن، فإذ به يقيد كل واحدة بحافة الفراش، فأصبحت مكبلة بالكامل، راحت تتلوى كالأفعى في مكانها، جاعلة كل بروز في جسدها يتماوج كأمواج البحر حين يشق القارب طريقه فيه. تكلمت وهي تضحك في ميوعةٍ:
-أنت تبدو بربريًا اليوم.
خاطبها بلهجته العربية ووجهه يكاد يفح نارًا:
-مش أنا اللي واحدة تتريق عليا.
تعذر عليها استيعاب مقصده بهذه اللغة، فرددت في تحيرٍ:
-لا أفهم ما تقول.
كادت تفوه بشيء آخر لكن صوتها تحول لأنين مع هذه الصفعة القوية التي تلقتها بغتة على ردفيها بشيءٍ بدا وكأنه جلد قاسي الملمس، حاولت النظر إليه لترى ما في يده، فوجدته قد استل حزامه ليؤنبها به. تقوست بظهرها، وتساءلت في لهاثٍ مازح:
-أستقوم بتأديب تلميذتك؟
أعطاها أخرى أشد قوة على فخذيها فصرخت من الألم الحقيقي، ليخبرها بعدها بنبرة أقرب للفحيح، وهذه الابتسامة المتلونة تبرز في وجهه:
-بالطبع، سألقنك درسًا لن تنسيه!
لم يترك "مهاب" جزءًا في جسدها -صعودًا وهبوطًا- إلا ووسمه بلسعة كالسوط من حزامه، انتقامًا من سخريتها السابقة، توقف عندما التهب جلدها، وأصبح مكدومًا ببقع لن تختفي آثارها إلا بمرور عدة أيامٍ وباستخدام الملطفات الدوائية. جلس مجاورًا لها على الفراش دون أن يحل قيدها، فرفع وجهها إليه من طرف ذقنها، تأمل اشتعال بشرة وجهها جراء كم الدماء الساخنة المتدفقة التي اجتمعت فيها. توسلته لتركها وفك قيدها، فما كان منه إلا أن مال عليها ليخبرها بهمسٍ:
-لم ننتهِ بعد!
كمم فمها، ليزيد من إذلالها وإهانتها بما ظن أنها الطريقة المناسبة للتعامل مع واحدة مثلها، نالت في البداية متعتها الخاصة، وحاز في النهاية على شعوره بالسيطرة المزعومة بطريقته الملتوية. نهض من الفراش متجهًا لخارج غرفة النوم الملحقة بجناحه الفندقي، سار إلى حيث ينتظره "ممدوح" بالردهة، طالعه بهذه النظرة المتعالية وهو يضع يديه في جيبي بنطاله ليخبره بعجرفةٍ، وكأنه يمنَّ عليه بفضلة خيره:
-مابقتش تلزمني .. خدها.
فجاجة كلماته، ونظراته المهينة لم تمنعه من إظهار هذه البسمة المتسعة على محياه، كاتمًا في صدره إحساسه بالغل الحاقد تجاهه، ببرودٍ محكم قام واقفًا، وشمر عن كميه قائلًا بترحيبٍ شديد:
-أنا جاهز ليها ....
لم يتم جملته عن عمدٍ إلى أن وقف في مواجهته، فتابع عن نبرة موحية وهو يركز عليه بنظرة قوية نافذة:
-أو لغيرها حتى لو طارت من القفص!
تركه "ممدوح" واقفًا في مكانه، واتجه إلى الغرفة، ليهتف "مهاب" من بين شفتيه بصوتٍ خفيض، وأقرب للوعيد:
-اللعبة لسه مخلصتش ........
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(ورقة رسمية)
عقصت حول رأسها رباطة قماشية من اللون الأسود، تماشت مع ما تلفَّحت به من عباءة منزلية مماثلة، وكأنها لبست الحِداد على رحيل أحدهم، ظلت منزوية في غرفتها، تبكي ليل نهار، حتى جفت دموعها، ولم يبقَ لها إلا تجرع الألم. نظرت لها "عقيلة" بإشفاقٍ وهي تقف عند عتبة الباب، ومع ذلك لم تقوَ على مؤازرتها بالطيب من الكلام، فقد كانت مثلها متحسرة على مصابها، والأسوأ من ذلك شعورها بالخزي والعار، لكون ابنتها لن تسلم من الألسن الشامتة أو الشائعات الحاقدة، وإن كانت غير مذنبة على الإطلاق، فما أسهل إلقاء التهم الباطلة على الغير دون تحري صدقها!
اتجهت إلى باب البيت عندما سمعت الدقات عليه، زفرت الهواء الثقيل من رئتيها وهي تفتحه لتنظر إلى شقيقتها التي جاءت لزيارتها. سألتها الأخيرة دون استهلالٍ:
-"دوسة" عاملة إيه؟
أغلقت الباب بعدما ولجت للداخل، وأجابتها بنبرة مهمومة للغاية:
-زي ما هي.
استقرت "أفكار" على الأريكة، وراحت تهز جسدها يمينًا ويسارًا وهي شبه تنوح:
-كبدي عليها، لا لحقت تفرح ولا تتهنى!
شاركتها "عقيلة" نفس الندب مرددة وهي تضرب على فخذيها:
-يا ريتنا ما كنا استعجلنا ولا كتبنا الكتاب!!
ثم ركزت عينيها المنتفختين من كثرة البكاء على شقيقتها الكبرى وتابعت في صوتٍ متألم:
-نابها إيه من الجوازة دي غير إنها بقت متطلقة؟!!!
لم تنبس "أفكار" بكلمة، في حين واصلت الشقيقة الصغرى كلامها، والذي اتخذ طابعًا مهددًا:
-أنا مش هسكت، حق بنتي مش هسيبه!
دون تفكيرٍ وافقتها الرأي، وصاحت تؤيدها بشدة:
-وأنا معاكي.
عاد التحير ليسيطر على قسمات وجه "عقيلة"، وأفصحت عن ذلك بسؤالها:
-بس هنعمل إيه؟
بعد لحظاتٍ من الاستغراق في التفكير أجابتها بتصميمٍ معاند:
-احنا نطب على أخوه، هو لازمًا يتصرف، مش هنسيبه غير لما تاخد كل حقوقها، هي مش سايبة!!
.............................................
ظل شاردًا، صامتًا، غير مكترث بالمشاركة في أي شيء يخص المؤتمر الذي من المفترض أن يكون أحد محاضريه الرئيسيين، انعزل بنفسه عن نفسه وكأنه قد انفصل ذهنيًا عن العالم المحيط به، حتى أنه اختار المكوث بعيدًا عن الصفوف الأمامية ليحظى بنوعٍ من الخصوصية، لعل وعسى يتمكن من فك الأحجية التي حيرته كثيرًا، وجعلته شبه فاقد للتركيز فيما يفعل. كذلك ليلة الأمس الجامحة لم تمنحه ما طمح في الشعور به من الاكتفاء والرضا، بل جعلته يزداد رغبة وتلهفًا في الحصول على هذه الطريدة الهاربة بالتحديد، والإيقاع بها مهما تكلف الأمر، فأنى له أن يقبل بالخسارة هكذا ببساطة؟!
أطفأ "مهاب" عُقب سيجارته في المنفضة قبل أن تنتهي، واستل أخرى من علبته الفضية ليشعلها، سحب دخانها ببطءٍ، ولفظه على مهلٍ، وعيناه توحيان بتفكيره العميق والمستمر. حين انضم إليه "ممدوح"، تجاهله تمامًا، واقتضب في الحديث معه، كأنه غير موجودٍ المرة، إلى أن أنار عقله فجأة بفكرة عجيبة، كان قد غفل عنها، آنئذ تحفز في جلسته بشكلٍ يدعو للحيرة، وراح يجمع متعلقاته الشخصية في تعجلٍ وهو يردد لنفسه مندهشًا:
-إزاي كانت تايهة عني؟!
تطلع إليه "ممدوح" باستغرابٍ، فقبل لحظاتٍ كان يتصرف كالأصنام، لا صوت له ولا حركة، والآن النشاط ينضح من كل طرف فيه، سلط بصره عليه، وخاطبه في جديةٍ طفيفة، محاولًا فهم ما يدور في رأسه:
-حصل إيه؟ إنت مش معايا من بدري، ودلوقتي إيه اللي اتغير؟!!
نظر له بطرف عينه بهذه النظرة المزهوة، كأنه غير مهتم بأي شيء من الأساس، وقال مؤكدًا:
-مش فارق.
تعجب أكثر من طريقته الغامضة، وتضاعف لديه شعوره بالغرابة وهو يراه ينهض من موضع جلوسه استعدادًا لذهابه، لم يتركه لشأنه وسأله مستفهمًا بفضولٍ:
-رايح فين؟
لوح له بذراعه يودعه:
-هكلمك بعدين، سلام.
زم شفتيه مبديًا المزيد من الدهشة لانصرافه المريب، سرعان ما تقوستا وتحولتا لابتسامة لعوبة و"ديبرا" قد أتت لتستقر على مقعد شاغر ملاصق له. سألته وهي تنفض شعرها المسترسل خلف ظهرها:
-إلى أين هو ذاهب؟
مال عليها ليضمها بذراعه إليه في ترفقٍ قائلًا في صوتٍ خفيض؛ لكنه عابث وشقي:
-لا تهتمي به، أنا موجودٌ لأجلك عزيزتي.
تأوهت بألمٍ وهي تخبره بنظرة ماكرة:
-أوه، ما زال جسدي يؤلمني.
خفض يده، واحتضن كفها بين أصابعه، ثم رفعه إلى فمه ليقبله، وهمس لها باشتهاءٍ مثير:
-سأطيب جراحك، أنا خبير بذلك!
-حسنًا.
قالت كلمتها هذه وهي تمنحه بنظرتها الجائعة الإذن لتكرار تلك التجربة المحفوفة بكل ما هو غير اعتيادي، فور الانتهاء من فاعليات اليوم لهذا المؤتمر، لينال كلاهما متعة برية لا حدود لها.
...........................................
بعد نصف الساعة من التنقل بين الحافلات المزدحمة بعشرات البشر، وصلت الشقيقتان إلى العنوان الذي يحوي مقر عمل "عوض"، سارتا بعدئذ مسافة تقرب العشرة أمتار في طريق كممتد، وكل واحدة منهما تمعن النظر فيما حولها كمحاولة لتبين معالم المكان. ابتلعت "عقيلة" ريقها الجاف، وجففت بكم عباءتها العرق المتصبب على جبينها، ثم وجهت سؤالها لشقيقتها في صوتٍ شبه منهك:
-متأكدة إنه شغال هنا؟
أجابتها "أفكار" وهي تومئ برأسها:
-أيوه، ولاد الحلال دلوني على الحتة دي.
هزت شقيقتها رأسها في تفهم، فأضافت الأخيرة مجددًا بجديةٍ تامة، وإصبعها موجه نحو أحد الأبنية:
-هو شغال هناك!
في التو اتجهتا إليه، وولجتا إلى الداخل لتسألا عنه؛ لكنه لم يكن موجودًا، لذا انتظرت الاثنتان لما يقرب من الربع ساعة دون أن يصل بعد. تحدثت "عقيلة" في ضجرٍ وهي تشير بإصبعها نحو بقعة شاغرة:
-خلينا أعدين بقى على الرصيف لحد ما نشوفه.
ردت "أفكار" وهي تطرد الهواء من رئتيها:
-ماشي.
افترشت كلتاهما الأرضية بعد وضع قطعة من الكرتون، وقامتا بمراقبة المارة بنظراتٍ متربصة إلى أن لمحته "أفكار" قادمًا من على بعد، صاحت مهللة وهي تستند على ذراع شقيقتها لتنهض:
-أهوو، جاي بعجلته من هناك.
عاونتها على القيام، لتتبعها في النهوض وهي ترد في تلهفٍ قلق:
-الحقيه أوام.
صرخت "أفكار" عاليًا لتلفت انتباهه:
-يا "عوض"!
الصوت المنادي باسمه جعله يدير رأسه للجانب ليجد حماة شقيقه وشقيقتها تقفان بمحاذاة الرصيف، أدار الدراجة في اتجاههما، وتساءل بابتسامةٍ مهذبة:
-إزيك يا خالة؟ عاملين آ...
قاطعته "عقيلة" قبل أن يتم جملته معنفة إياه بهجومٍ صريح:
-هي دي الأصول اللي اتربيتوا عليها يا "عوض"؟ طب حتى راعوا حق الجيرة!!
حملق فيه متعجبًا، وتساءل في توجسٍ متزايد:
-حصل إيه؟
أضافت "أفكار" هي الأخرى بنفس النبرة المتحاملة:
-أيوه .. أيوه، اعمل نفسك مش عارف.
أسند دراجته على عمود الإنارة، ووقف منتصبًا وهو يستطرد مخاطبًا الاثنتين في قلقٍ عظيم:
-اهدوا بس عليا، وخلوني أفهم في إيه!
رفعت "عقيلة" إصبعها للسماء وصاحت في حرقةٍ:
-حسبي الله ونعم الوكيل في الظالم!
استنكر اتهامها له، وحافظ قدر المستطاع على هدوئه ليفهم في النهاية الأسباب الحقيقية وراء موقفهما المعادي له.
...........................................
بواسطة بعض التوسلات، والرجاوات الشديدة، استطاع اللحاق بدورٍ متقدم في إجراء مكالمة دولية عاجلة بالسنترال. في التو تطرق "عوض" للموضوع مباشرة، وراح يسرد على شقيقه عواقب ما اعتبرها فعلته الخسيسة في حق هذه الشابة المسكينة المغلوبة على أمرها، أخذت الكلمات تخرج من فمه مندفعة، وبقدرٍ من الهجوم لتعنفه بغلظةٍ:
-هو ده اللي اتفقنا عليه؟
أتى رده باردًا، وغير مراعٍ:
-النصيب بقى ياخويا.
استمر في عتابه الشديد له بقوله الحانق والمنفعل:
-حرام عليك يا "بدري"، الناس مابترحمش، وهي ولية لواحدها!
علق عليه بنبرة ساخرة:
-لو عجباك اتجوزها إنت!
زجره في حمئة، وقد تلون وجهه بحمرة الغضب:
-عيب كده مايصحش.
لئلا يطل في التأنيب أخبره شقيقه الأصغر بوضوحٍ:
-من الآخر كده يا "عوض"، "فردوس" دي مكانتش من تنفعني من الأول، وحكايتها خلصت معايا، ولما يبقى في حاجة مهمة كلمني، مع السلامة!
لم ينتظر منه الرد وأنهى المكالمة، ليظل "عوض" مرابطًا في مكانه مستنكرًا جفائه وقسوته، أعاد وضع السماعة في مكانها وهو يهمهم بصدمةٍ وتحسر:
-لا حول ولا قوة إلا بالله! طب أقول للجماعة إيه؟!
.........................................
بطبيعة الحال استغل معارفه، وصلاته القوية بذوي السلطة هنا في الوصول إلى كافة المعلومات التي تخصها دون بذل أي عناءٍ في التحري والبحث عنها، وكانت المفاجأة المدوية، حينما علم أنها لم تتزوج مُطلقًا مثلما أشاعت رفيقتها في السكن، وما قد قيل من قبل هي مجرد أكاذيب واهية لإزاحته عن الطريق لسببٍ غير مفهوم بالنسبة له. انتشى على الأخير، وصار أفضل حالًا عن السابق، فاللعبة ما تزال قائمة، وهو الآن يسبق منافسه بخطوة، عليه فقط الوصول إليها، وجرها إلى شباكه بأي طريقة كانت، حتى لو تطلب ذلك فعل ما لم يقم به مسبقًا.
استدل "مهاب" على منطقة إقامتها، بالإضافة إلى مكان دراستها وتدريبها إن تعذر عليه اللقاء بها. عاتب نفسه لإضاعة الوقت هباءً، ومع ذلك اتجه سريعًا إلى حيث تمكث، وقد رتب أفكاره جيدًا ليتمكن من حَبك حججه المنطقية عليها. دق الباب، وانتظر بتحمسٍ، فاستقبلته "نزيهة" بوجه جامد، ونظرات فضولية قبل تطرح عليها السؤال المعروف مسبقًا:
-إنت مين؟
بدا هادئًا للغاية، رغم الثورة المنتفضة بداخله، وهو يسألها:
-دكتورة "تهاني" موجودة؟!
الإتيان على ذكر هذه السخيفة جعل مزاجها الرائق يتكدر، فكتفت ساعديها أمام صدرها، وردت باقتضابٍ، وقد تحولت غالبية تقاسيم وجهها للعبوس الغريب:
-لأ.
سألها في شيءٍ من الاستفهام:
-قدامها كتير عشان ترجع؟
ردت بوقاحةٍ عجيبة، ونبرتها قد ارتفعت تقريبًا:
-أنا مش السكرتيرة بتاعتها عشان يبقى معايا خط سيرها.
حدجها بنظرة متعالية، شملتها من رأسها لأخمص قدميها، فاغتاظت من تحقيره لها دون أن ينبس بكلمة، ليردد بعدها في ثقةٍ واضحة:
-مش محتاج أعرف منك حاجة، أنا هوصلها.
لم ينتظر كعادته أي شيء لتضيفه، انصرف مبتعدًا عنها، فاغتاظت من فظاظته، وصفقت الباب في عنفٍ خفيف، وهي تغمغم بوجه مقلوب التعابير:
-ده مين ده كمان اللي شايف نفسه علينا!!
..................................................
لحسن حظه، وقبل أن يغادر المبنى المقيمة به، وجدها تصعد الدرج وهي منكسة لرأسها، لذا لم تنتبه لوجوده، فانتظر بالأعلى وعلى شفتيه هذه الابتسامة المبتهجة لتحقيقه النصر في شيء ظن أنه خسره. ما إن رفعت "تهاني" عينيها إليه، حتى تخشبت في مكانها مصدومة بشكلٍ كامل، رأته قبالتها يُطالعها بهذه النظرة الدافئة المتلهفة، تلك التي حلمت بها في ليلها الكئيب، وتمنتها في نهارها المرهق. تلقائيًا أحست بارتفاع وجيب قلبها، بتدفق الدماء المعبأة بالشوق كدفقات متواترة في كل شرايينها، لتغزو كيانها، وتعكس تأثيره عليها، اضطربت أنفاسها، ورفرفت بأهدابها غير مصدقة أنه واقف بالفعل قبالتها. حاولت تجاوزه لتمر؛ لكنه اعترض طريقها بجسده ليستوقفها، امتدت يده لتلامس ذراعها، فانكمشت على نفسها بتوترٍ، لم يتراجع، واقترب منها بوجهه هامسًا لها بصوته العذب الساحر:
-ينفع كده تدوخيني وراكي؟
اقشعر بدنها من طريقته الآسرة في التأثير عليها بقوةٍ، فتابع على نفس الوتيرة:
-هونت عليكي تبعدي عني؟
كانت له قدرة مميزة على توليد المشاعر المرهفة، تلك التي لا تخطر على البال، فيتمكن من خداع ضحيته دون أن يثير في نفسها الشكوك. توسلته بنبرتها، وصوتها بالكاد يسمع:
-دكتور "مهاب"!
حاصرها بلهيب أنفاسه المشتاقة وهو يخبرها باعترافٍ كان متأكدًا من تأثيره الخطير عليها:
-وحشتيني.
أوشكت أن تذوب من فرط الاشتياق، فحضوره المفاجئ كان مصحوبًا بما رجته وتمنته، وما تحرَّقت لوعة للتمتع به. قاومت بصعوبة تلهفها عليه، وسألته في لهجة رسمية أرادت التستر خلفها:
-حضرتك عرفت مكاني إزاي؟
ابتسم وهو يخبرها بغرورٍ يليق به:
-مافيش حاجة صعبة على "مهاب الجندي"!
هذه النبرة الواثقة المليئة بكل ما يوحي بسلطته وقوته جعلتها متأرجحة بين الثبات والانهيار. أحرز "مهاب" تقدمًا معها وهو يزيد من استخدام مرادفاته المميزة:
-أنا مش عارف أعيش من غيرك.
لزمت الصمت؛ لكنه لم ينفع أيضًا وهو يواصل الضغط عليها بكلماته المنتقاة بعناية:
-مش متخيل حياتي بدونك.
للحظةٍ راودتها الخيالات والأحلام الوردية بمستقبلٍ عظيم معه؛ لكن ما لبث أن أفاقت من شرودها اللحظي على حقيقة واقعها المرير المغلف بالمتناقضات، فإن تجاوز عن وضعها المادي، كيف له أن يقبل ببساطةٍ وضعها الاجتماعي إن عرف من أين جاءت، ومن هي عائلتها المتواضعة؟ رنت في أذنيها عبارات "ممدوح" المحذرة بأنها وسيلة للهو والتسلية! فعادت لجمودها، وردت بألمٍ وتحفز وهي تدفعه من صدره لتتخطاه:
-دكتور "مهاب"، أنا ظروفي غيرك خالص، أنا واحدة عادية جدًا، وأقل من العادي، عيلتي بسيطة وآ...
بترت كلامها قبل أن تستكمله عندما امتدت يده لتمسك بها من كفها، شدها إليه، وسألها دون تمهيدٍ، وبجدية تامة:
-تتجوزيني؟!!
هبطت الكلمة على رأسها كالمطرقة، فحدقت فيه بنظرات مذهولة متسعة، قبل أن تردد بلا وعيٍ:
-إيه؟
كرر عليها ما قاله بابتسامة ناعمة، وبلا أدنى شك فيما اعتبرته نواياه الصادقة تجاهها:
-زي ما سمعتي، تتجوزيني؟
ألجمت المفاجأة الصادمة على كافة الأصعدة لسانها، واعترضت في ترددٍ محسوس:
-بس آ...
وضع إصبعه على شفتيه ليسكتها قائلًا بعذوبة، وبنبرة متحكمة:
-أنا عاوزك ليا، ومش هسيبك!
ظلت تتطلع إليه بجسدٍ شبه مرتعش، وشفتان ترتجفان، هي لا تصدق حقًا ما يحدث، إصراره على الزواج بها كان واقعًا، لا حلمًا عابرًا، بدت وكأن حياتها البائسة على وشك التغيير الجذري، فقط إن أبدت موافقتها!
.........................................
صوت قلبها غطى على صوت العقل وحَجَبَ المنطق، فانساقت بلا هوادة وراء مشاعرها الملتاعة، وقبلت بعرضه غير المقيد بشروطٍ بالزواج منه، وكيف لها ألا توافق وقد قدم لها نعيم الدنيا وثرائها على طبقٍ من ذهب؟ اتفق الاثنان على إتمام مراسم زواجهما بالسفارة، لتتمكن من الحصول على ورقة رسمية تضمن لها كافة حقوقها كزوجة لأحد أهم الرجال بالمجتمع. كلَّفت "تهاني" الطبيب المسئول عنها بالبعثة ليكون وكيلها هنا، وجلست في استحياءٍ على الأريكة الجلدية المتسعة في الحجرة الخاصة بمدير مكتب السفير المصري. بدت في زيها الكريمي وشعرها المصفوف بعناية كشخصيةٍ راقية، تنتمي للطبقة المخملية منذ نعومة أظفرها، ولما لا وقد حرص "مهاب" على شراء الأفخم من الثياب لها لتكون لائقة بها؟!
حين اختلست النظر إليه، وجدته يفوقها في تأنقه، فقد ارتدى بدلة رمادية لامعة، ومن أسفلها قميصه الأبيض الأنيق، أما شعره فكان مرتبًا، قصيرًا، وذقنه حليقة، يفوح العطر الأخاذ من جلده، أما في معصمه فقد وضع ساعة يد تنتمي لماركة شهيرة، بإيجازٍ شديد كان وسيمًا للغاية!
بدأت الإجراءات بشكلٍ هادئ، وفي حضور محدود العدد، تضمن المقربين فقط، من بينهم بالطبع كان "ممدوح" الصامت الواجم، فما يراه الآن فاق حد الخيال أو التصور، لقد بلغت المنافسة أشدها ليفعل رفيقه ما استبعد حدوثه من قاموسه غير الأخلاقي؛ لكنه كان متأكدًا في أعماقه أن ذلك الوضع لن يدوم كثيرًا، فالطبع يغلب التطبع، و"مهاب" يميل للاستحواذ والتملك لما يعجز عن بلوغه، فما إن صار في يده، حتى تركه بعد أن يقضي حاجته منه، لذا أقنع نفسه بتعقلٍ أن المواجهة لم تحسم بعد كما يظن، بل إنها بدأت لتوها.
لهنيهة شردت "تهاني" في عائلتها، أحست بشيءٍ يحز في قلبها وهي تجلس هكذا وحيدة، بلا سندٍ أو دعم، ألم يكن يحق لهم معرفة ذلك الخبر السار ومباركة زواجها؟ أليست والدتها تنتظر بفارغ الصبر لحظة كتلك لتفتخر بها؟ ولكن كيف لها أن تنسى الحرب النفسية التي شنتها عليها لإحباطها، وتدمير أحلامها؟ سرعان ما أسكتت صوت ضميرها المؤنب لها بترديدها غير المسموع:
-دي حياتي أنا مش هما.
استحضرت في ذهنها لمحات خاطفة عن مضمون المكالمات الموجزة مع أمها وشقيقتها، كلتاهما كانتا تقرران المصائر دون انتظار حتى إطلاعها، أو حتى الأخذ في الاعتبار برأيها السديد، ظلت تحادث نفسها بلا صوتٍ:
- ما هما بيعملوا كل حاجة من غير ما يقولولي، وأنا دايمًا آخر من يعلم، اشمعنى أنا؟!! طردت هذه الخواطر المؤرقة لها، لتركز بقدرٍ من الأنانية على ما هي مقدمة عليه، مستقبلها هي فقط، ولا أحد غيرها. أحضرها من تأملها الشارد الصوت الرسمي المخاطب لها:
-وقعي هنا يا دكتورة.
للحظةٍ واحدة فقط ترددت؛ لكنها غالبت ما اعتراها بقوةٍ، ومدت يدها لتمسك بالقلم الحبري، نظرت تجاه "مهاب" المتأمل لها بنظرة طامعة في الظفر بكل ما تمنته طوال حياتها، وها قد أوشكت على نيله. ارتخت تعبيراتها المشدودة، وقالت بابتسامة رقيقة مملوءة بالشغف:
-حاضر.
استطرد المأذون متحدثًا من جديد فور أن انتهت من التوقيع:
-الشهود من فضلكم.
من فوره تحرك "ممدوح" للأمام، وقال باسمًا، وبنبرة موحية، وعيناه تتحولان نحو رفيقه ليرمقه بهذه النظرة الغريبة:
-مش محتاج تقول، أنا جاهز.
التقط "مهاب" نظرته ذات المغزى، فبادله بأخرى ظافرة مغترة، قبل أن يشير له ليتابع سيره، ويقوم بالتوقيع على وثيقة الزواج كاظمًا في نفسه الحنق المستعر بداخله. مرة ثانية تحدث المأذون في جدية وهو ينظر للعروسين:
-ألف مبروك، وبالرفاء والبنين.
عاد "ممدوح" إلى رفيقه، احتضنه بتفاخرٍ كأنما يهنئه؛ لكنه همس له في أذنه:
-عرفت تلعبها صح.
ظن أنه يجامل مهاراته الفذة في اصطياد الفرائس السذج، بل ويبدي اعتذارًا ضمنيًا لاستهانته بقدراته الذكية في حياكة الحيل والألاعيب لنيل مبتغاه في النهاية. تراجع عنه "مهاب" قليلًا، وأخبره بنفس الصوت الخفيض مؤكدًا له بعنجهية مفرطة:
-أنا مش أي حد، أنا "مهاب الجندي"، واللي بحطه في دماغي بعمله، وإنت أكتر حد عارف ده كويس.
نظر "ممدوح" من فوق كتفه إلى الضحية الجديدة المتوارية في مظهر العروس الغاشمة، وقال بعدما عاود التحديق إليه:
-في دي معاك حق.
ربت "مهاب" على كتفه لعدة مراتٍ ثم تركه بعدئذ ليتحرك تجاه عروسه التي تنتظره وهو في أوج شعوره بالانتصار، ليسلط "ممدوح" نظراته الحانقة عليهما، كز على أسنانه وهسهس مع نفسه بلا صوتٍ، وبوعيدٍ مغتاظ:
-لسه الحكاية مخلصتش!
..........................................
في نفس ذات السيارة التي استقلتها معه كرفيقة عابرة في رحلة قصيرة للمشاركة في أحد المؤتمرات، كانت اليوم تجلس لصيقة به، تريح رأسها على كتفه، وذراعه تطوقها بقوةٍ، كأنه يأبى تركها، كم أحبت روح التملك هذه فيه، خاصة حينما تكون مخصصة لها وحدها! من موضعها رفعت رأسها قليلًا، وأسبلت عينيها تجاهه مسترسلة في التعبير عما يجيش في صدرها:
-أنا حاسة إني بحلم، وخايفة أفوق من الحلم ده على آ...
بيده الأخرى الطليقة، تلمس طرف ذقنها، ثم وضع إصبعه على شفتيه ليسكتها بلطافةٍ وهو يحدثها:
-ششش، ده دوري دلوقت يا حبيبتي إني أخليكي تشوفي السعادة اللي بجد.
رددت بشكلٍ عفوي، بهمس حار، ودبيب قلبها آخذ في الارتفاع
-دكتور "مهاب"!
عاتبها في رقةٍ:
-احنا بقينا متجوزين، مافيش بينا ألقاب.
اعتدلت في جلستها دون أن تتحرر من ذراعه، وقالت في شيءٍ من الخجل المعتذر:
-معاك حق، أنا لسه مش متعودة.
تباطأت سرعة السيارة بالتدريج إيذانًا بوصولهما إلى وجهتهما المنشودة، فترجل السائق من السيارة ليفتح الباب لـ "مهاب"، بينما أسرع عامل استقبال الفندق الشهير تجاه الباب المواجهة له ليفتحه للسيدة الجالسة بالخلف كنوعٍ من إظهار الاحترام لها. انتظرت "تهاني" زوجها في مكانها دون أن تتعجل بالحركة، وذلك لعدم معرفتها بخططه المستقبلية. مد يده تجاهها، وخلل أصابعه في كفها، لتسعد للغاية بهذا التشابك الحميمي بينهما، سحبها معه للداخل وهو يكلمها مبتسمًا:
-تعالي يا حبيبتي.
لمعت عيناها بوهج الحب، وسألته وهذه الحمرة النضرة تتسرب إلى بشرة وجهها:
-إنت واخدني على فين؟
أجابها وهو يسير معها في البهو الفسيح والأنيق:
-هنقعد هنا يومين في الفندق عقبال ما الورق يجهز عشان نسافر أوروبا نقضي شهر العسل.
تحمست كثيرًا للترف الذي يغدق عليها به منذ اللحظة الأولى، واستشعر "مهاب" تأثير ذلك عليها بقوة، ابتسم في انتشاءٍ، وتابع وهو يميل ناحيتها ليهمس في أذنها بما حفز الحواس وأوقظها:
-أنا هعيشك في الجنة معايا.
ابتسمت في حبورٍ مسرور لما فاه به، سرعان ما تحول للخجل الحرج وهو يخبرها بهذه العبثية المبطنة بكل ما هو شقي ولعوب:
-بس تسمحيلي الأول أدخل جنتك.
.................................................
استأذن بالقدوم للبيت من أجل توضيح الأمور بعد التطورات الأخيرة التي علم بشأنها، اضطر لما يقرب من ثلاثة أسابيع أن يؤجل هذا الأمر؛ لكن لا مفر! كان في موقفٍ لا يُحسد عليه، لا يمتلك من المبررات أو الحجج المقبولة ما يدعم به تصرف شقيقه المشين، الذي ظهر في عينه قبل البقية كشخصٍ حقير، وغير أهلٍ لتحمل المسئولية، على العكس كان مُلامًا لأقصى درجة ويستحق كل الهجوم والازدراء. أطرق "عوض" رأسه، وتقبل الأسلوب الحاد من "عقيلة" وشقيقتها بلا وجه اعتراض. مرة أخرى تحاملت عليه "أفكار"، واحتدته عليه هاتفة بتعصبٍ:
-طب والمفروض نعمل إيه بعد كده؟
لم يجرؤ على النظر ناحيتها، فأكملت بنفس الصوت المنفعل وهي تلوح بيدها في الهواء:
-نسيب الناس تنهش في عرضنا عشان أخوك مطلعش راجل؟!!
حمحم مرددًا بوجه يشوبه الخزي:
-والله ما عارف أقول إيه، "بدري" الغلط راكبه من ساسه لراسه، ومهما قولت مش هقدر أعوضكم عن اللي حصل.
أطلقت فيه "عقيلة" صيحة غضبها فهاجت به:
-ياخويا طالما مش أد الجواز بيربط معاه بنات الناس ليه؟!
ظل صوتها على حدته وهي تتابع بقهر العاجز:
-لأ وفي الآخر يرميها رمية الكلاب! أل هي كانت ناقصة!!
ردت عليها "أفكار" كنوعٍ من المواساة:
-قولي الحمدلله إنه مدخلش عليها، كان زمان المصيبة اتنين.
ما زالت على فجيعتها وهي تخاطبها بحرقةٍ:
-وهي الناس هتسيبنا في حالنا؟ ده ياما هيتقال، وحليني عقبال ما الناس تنسى حكايتها!
حينئذ تحولت أنظار "أفكار" نحو "عوض" قاصدة الكلام وهي ترفع سبابتيها في الهواء:
-منه لله، ربنا يخلص منه، أشوف فيك يوم يا "بدري" يا ابن حواء وآدم!
الشقاق الذي أحدثه شقيقه بتصرفه الأرعن جعله يتخذ قرارًا لم يكن ليظن أنه سيفعله في يومٍ ما، نطق فجأة بنزقٍ، ودون أن يضع في الحسبان تبعات اختياره:
-خلاص يا ست "عقيلة"، الحل عندي!
نظرت إليه بعينين لائمتين، وهتفت وهي تلطم على صدرها:
-ما خلاص اتفضحنا واللي كان كان!
أكد عليهما بغموضٍ مُربك:
-أنا مرضاش بالفضيحة لا ليها ولا ليكم.
سألته "أفكار" بنبرة هازئة، وهذه النظرة الاحتقارية تطل من حدقتيها:
-هتعمل إيه يا "عوض"؟ هتمسك طبلة وطار وتلف على بيت بيت تقولهم أخويا غلطان؟!!
هز رأسه قائلًا باقتضابٍ لا يزال مغلفًا بالغموض:
-لأ...
سكت للحظةٍ بحث خلالها عن الجملة المناسبة التي يفصح بها عن نيته الصادقة، فلم يجد سوى قوله المباشر والصريح، وكامل نظراته مصوبة تجاه "عقيلة":
-أنا هتجوز الست "فردوس" على سنة الله ورسوله .......................... !!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(جانبه المُوحش)
انصرف بعدما أبلغ الاثنتين بما قرره، ليتركهما في تحير وتردد، ظلت الشقيقتان تتداولان فيما بينهما الأمر بجدية تامة، ومن كافة الأبعاد والزوايا، حتى وصلتا بعد نقاش مستفيض إلى رأي مُرِضٍ لإحداهما، فتشبثت به "أفكار"، وأصرت على إعلام "فردوس" به، اتجهت إليها، ومكثت معها في غرفتها، ثم بعد تمهيدٍ حذر أطلعتها عليه؛ لكنها أبت وبشدة الانصياع لرغبتها المناهضة لما كانت تريده هي. تمسكت أكثر بعنادها، وصاحت في تصميم وهي تبكي:
-أنا مش موافقة على الكلام د.
احتجت خالتها على ما اعتبرته تدللها السخيف صائحة بها بصوت غاضب، وهي تلكزها في كتفها بعنفٍ طفيف:
-إنتي اتهبلتي يا بت، دي فرصة يا عبيطة!
تألمت من ضربتها الشرسة، ونظرت لها من بين دموعها الحارقة، ثم أخبرتها بقهرٍ:
-يعني تيجي إزاي؟ بعد ما كنت مرات أخوه، أبقى مراته؟ ده ما يرضيش ربنا.
ردت عليها ببرودٍ مجحف:
-لأ يرضيه، طالما في الحلال يا عين أمك.
هتفت محتجة وسط نهنهات بكائها:
-ده أمه مكانتش طيقاني وأنا مرات "بدري"، هترضى بيا وأنا مرات أخوه الكبير؟
علقت عليها بلا أدنى ذرة إشفاق:
-ما هي سابتلك الجمل بما حمل.
انفطرت في بكاءٍ أكثر إيلامًا، ومع ذلك لم تكترث بها، وواصلت القول بأسلوب أصابها بالنفور أكثر:
-وفيها إيه، ده المثل بيقول تبقى في إيدك، وتقسم لغيرك.
كفكفت دمعها المسال بغزارة بكم قميصها المنزلي، وهتفت في إصرارٍ رافض:
-والله العظيم اللي بيحصل فيا ده حرام.
تعاطفت "عقيلة" إلى حدٍ ما مع حال ابنتها البائس، فقالت بشيء من التردد:
-مالوش لازمة الموضوع ده يا "أفكار"، نفضنا سيرة منه، ده حتى الناس هتقول عننا إيه بس؟!
سلطت نظراتها الجامدة عليها، وقالت بلا تأثر:
-محدش ليه حاجة عندنا، هما كانوا نفعونا لما البت اتطلقت؟
عجزت عن التعليق عليها، فاستمرت في ضغطها القاسي بترديدها المتعمد:
-ده بالعكس طلعوا حوارات وكلام مش مظبوط عن البت.
التلميح بأمر كهذا في جملتها الأخيرة، كان كفيلًا بإشعال جذوة غضب "فردوس"، خاصة أنه نوع من الافتراء الظالم عليها، لذا انتفضت صارخة بما يشبه الثورة رغم بكائها الموجع لتنفي التهمة الباطلة عنها:
-أنا أشرف من الشرف.
حدجتها خالتها بهذه النظرة القاسية قبل أن تقول بنبرة ذات تورية خطيرة:
-ده قصادي أنا وأمك، بس باقي الناس هنا دماغهم رايحة فين؟
ردت عليها بهديرٍ منفعل:
-ولما أتجوزه هيسكتوا؟ ده ما هيصدقوا ينهشوا فيا بزيادة!
قالت ببساطة وهي تشير لها بيدها:
-حلال ربنا محدش يقدر يتكلم فيه.
بعدما كانت تتخذ موقف المشاهد الصامت، تكلمت "عقيلة" أخيرًا، ونطقت بما صدم ابنتها:
-إنتي معاكي حق ياختي، احنا نقفل الباب ده خالص!
شهقت "فردوس" مصعوقة لتأييدها المزعوم لهذا القرار، وصاحت معترضة ببكاءٍ قد راح يتجدد مرة ثانية:
-ده أكبر مني يامه بكتير.
تولت "أفكار" الحديث بدلًا من شقيقتها، وقالت في تفاخرٍ مغيظ:
-وماله، أهوو يبقى عاقل ورزين، مش أحسن من الصغير المطيور.
ثم مصمصت شفتيها وتابعت بنظرة أشد في قساوتها:
-وكويس إنه مدخلش، يعني لا في عِدة ولا غيره.
احترقت "فردوس" أكثر بنيران حنقها، شعرت وكأن الجميع يجور على حقها، وهي وحدها من تكابد لتخليص نفسها، كم رجت لو كانت "تهاني" هنا معها، لربما نجحت في إيقاف طوفان اجتياحهم لحريتها! تنبهت لخالتها مرة أخرى عندما أضافت بتشددٍ:
-بس قابلة لازمًا ناخد حقوقك الأول من أخوه، عشان يعرف إن الحكاية مش سهلة.
كانت تقرر لا تخير وهي تواصل الاسترسال بأريحية ظاهرة
-وعلى رأي المثل اضرب المربوط يخاف السايب، واحنا برضوه بنعززها بطريقتنا.
لم تجادلها "عقيلة" نهائيًا، بل أبدت موافقتها بتصريحها المستسلم:
-الخيرة فيما أختاره الله، احنا نبلغه بموافقتنا.
استحسنت قرارها، وربت على كتفها تمتدحها:
-عين العقل ياختي.
نظرت إليهما "فردوس" بتحسرٍ مكدوم، لم تكن أيًا منهما لتنصفها أبدًا، مهما بكت، ومهما توسلت، انكفأت على وجهها تبكي بمرارة هامسة بصوتٍ خفيض:
-حسبي الله ونعم الوكيل!
............................................
حينما استلقى كلاهما ملتصقين ببعضهما البعض على ذلك الفراش الدافئ، مرغت "تهاني" وجهها في صدر زوجها العاري وهي تشعر بيده الحانية تمسح على ظهرها بنعومةٍ، لتحفز فيها خلاياها الكامنة، فتتحفز من جديد وتغدو مستعدة لغزوه المستباح لأراضيها العميقة. نظرت إليه من موضعها، وسألته في عتابٍ رقيق عندما وجدته يمد يده ليمسك بكأس الخمر ويرتشف منه القليل:
-مش احنا اتفقنا إنك مش هتشرب تاني يا حبيبي؟
رد معللًا بالكذب:
-أنا بس بحتفل عشان إنتي معايا وفي حضني.
ثم داعب بيده الطليقة ردفيها ليُسكرها بأسلوبه الحاذق في ممارسة طرق العشق الجامحة، فتصبح طوع بنانه، ابتسمت في نشوةٍ، وأصرت على رأيها بنفس النبرة المتدللة:
-وأنا مش حابة كده.
قال بهدوءٍ محاولًا إقناعها بالرضوخ لرغباته، وإن كانت لا ترضيها:
-حبيبتي، دي شمبانيا، يعني زي العنب المعتق.
صعد بيده نحو وجهها، لامس بشرتها الساخنة بأطراف أصابعه، ثم تابع:
-وبعدين إنتي المفروض تشربي معايا.
تصنعت العبوس، وقالت بلا تفكيرٍ:
-لأ طبعًا.
سألها في عبثية توحي بشيءٍ خطير:
-مش هتسمعي كلام جوزك؟
هزت كتفيها قائلة في تصميمٍ:
-في دي لأ.
غنجها المائع، والإغواء الظاهر في نظرتها إليه جعل حواسه تتيقظ بقوة، وجسده يشتد، لذا ترك الكأس من يده، ثم طوق خصرها بذراعيه، ليتمكن من الاستدارة بها، وتمديدها على ظهرها، سرعان ما أصبح مُطبقًا عليها بكله، يأسرها بسيطرته الظاهرة، فما كان منها إلا أن تعلقت في عنقه، حينئذ انحنى برأسه عليها، ونال منها قبلة حسية متأججة، مهدت السبيل لاحتلال مواطنها بلا مقاومة، منحته ما يريد، وأعطاها ما يفيض، فتناسا كل شيء إلا أنهما كانا جائعين لذلك الحب النهم.
............................................
بين الأوراق المكدسة، والملفات المطروحة على مكتبه، تطلع "ممدوح" إليهم بنظرات منزعجة، فاقدة للشغف، فقد كان عليه الانتهاء من كل ذلك في فترة وجيزة، نظرًا لإرجائه لهم لأكثر من مرة بسبب مشاغله الخارجية. مد يده ليمسك بفنجان القهوة، ارتشف منه ببطءٍ وهو يسترخي في مقعده، مستدعيًا في خياله لمحات وهمية وجامحة لرفيقه وهو يتنعم بأحضان هذه الفريسة الساذجة. تنهد مليًا، وقال وهو يلوي ثغره بنوعٍ من الغيرة:
-طبعًا زمانك هايص ورايق ومقضيها.
أحس بنار تحرقه من داخله، فلو كان يملك وقتًا أكثر من ذلك لاستطاع استدراجها، وإيقاعها في مصيدته. فجأة راود عقله فكرة تنم عن خبثٍ حاقد، اعتدل في جلسته، واستطرد مبتسمًا بابتسامة شيطانية للغاية:
-يا ترى "فؤاد" باشا لما يعرف هيكون رأيه إيه.
ترك الفنجان من يده، ثم وسد ذراعيه خلف رأسه متابعًا بانتشاءٍ مستمتع:
-أنا ما عليا إلا أسرب الخبر، وأسيب الباقي ليه.
أطلق ضحكة شامتة للغاية قبل أن يضيف:
-تستاهلها يا صاحبي.
...............................................
امتدت أيام الهناء والدلال لما يقرب من الأسبوعين، تمتعت في لحظاتها المميزة معه بكل ما تمنت يومًا الحصول عليه، للحد الذي جعلها تتغاضى كذلك عن نزعة العنف السائدة في علاقتهما الحميمية، معتقدة بذلك أنها تمنحه السعادة القصوى بتذللها إليه. انتهت "تهاني" من تجفيف شعرها المبتل، لكنه كان لا يزال رطبًا، لم تمشطه، وتركته مسترسلًا على ظهرها بعدما لفت جسدها بالمنشفة، خرجت من الحمام قاصدة أن تتجرد مما يسترها أمامه، لتضمن إبقاء نظرته الشهوانية عليها، فلا يمل من صحبتها أبدًا، ويصبح دومًا أسير فُتنتها الساحرة. نظرت إلى انعكاس وجهه الشقي في المرآة، وسألته وهي تضع قطعة القماش الشفافة –ذات اللون الأحمر- على جسدها:
-إنت مزهقتش من الأعدة.
رمقها بهذه النظرة الراغبة، وقال وهو يشير إليها بيده لتقترب منه:
-صعب أخرج من الجنة.
استجابت له، ودنت من الفراش وهي تتمايل في مشيتها، تأملت كيف كانت عيناه متعلقتان بمقوماتها المغرية، فانتشت أكثر، وأصبحت في حالة من السرور الشديد. جلست على حافة السرير، واحتضنت كفه بيدها، ثم رفعته إلى وجنتها ليشعر بالدفء المنبعث من بشرتها، أسبلت عينيها تجاهه، وأخبرته بشوقٍ متزايد:
-حبيبي، إنت إزاي سحرتني كده؟
استخدم قوته الذكورية في جذبها إليه، فسقطت في أحضانه، حينئذ همس لها بتشويقٍ أثار حماسها للغاية:
-إنتي لسه مشوفتيش حاجة يا حبيبتي.
مجددًا أغار بقوة على نقاط حصونها، فاستسلمت لعاصفة عشقه الجارفة، جاعلة إياه يدك أعتى مكامنها بلهفةٍ والتياع.
.......................................
اشتم رائحة النصر دون أن يحققه فعليًا، يكفيه أن وصلت إليه هذه المعلومة الخطيرة عن طريق عدة معارف، ممن تربطهم الصلة به وبشقيقه الأصغر، فأخذ يفكر ويدبر لاستغلالها بالطريقة المثلى، ليصيب هدفه في مقتل، ويظفر في النهاية بكل شيء. مرر "سامي" يده في خصلات شعره المرتبة، وخاطب نفسه وهو ينظر لانعكاس وجهه في زجاج النافذة المطلة على واجهة الشارع:
-والله وجاتلك على الطبطاب.
سحب شهيقًا عميقًا، حبسه للحظات في صدره، ثم طرده على مهلٍ وهو يستأنف حديث نفسه:
-دلوقتي بس تقدر تفرح، وتشوف نفسك.
التصق بعدئذ بفمه ابتسامة خبيثة متلذذة عندما أتم باقي كلامه غير المنطوق:
-شوف هتضحك على الباشا تاني إزاي!
.........................................
لفت ذراعها للخلف، محاولة استطالته قدر استطاعتها لتتمكن من وضع المرهم المرطب على الكدمات التي برزت في ظهرها، وهي تنظر إليها عبر المرآة الموجودة بالحمام، فقد ترك جانبه المُوحش في التعبير عن الحب آثاره عليها. انتظرت "تهاني" لعدة دقائق ريثما يجف المرهم، ثم ارتدت ثوبًا مغريًا من اللون الأزرق، وخرجت وهي تزين وجهها ببسمة ضحوك، معتقدة أن زوجها لا يزال مستغرقًا في نومه؛ لكنها تفاجأت به يقظًا، ويبحث في الدولاب بين ثيابه، اقتربت منه متسائلة باندهاشٍ:
-معقولة، إنت صاحي من بدري؟
دون أن ينظر إليها أمرها:
-يالا .. إجهزي إنتي كمان.
استغربت من قراره، وسألته مستفهمة وهي تحاوطه من ظهره لتحتضنه:
-احنا رايحين فين دلوقت؟
وضع يده على أحد ذراعيها، حل تشابكهما، ثم استدار تجاهها قائلًا بتعابيرٍ هادئة:
-نازلين تحت، هنعوم في البسين شوية، وبعدها نشوف مطعم ناكل فيه، ونطلع نتفسح.
أصابها القلق، وردت في ترددٍ مشوبٍ بالحرج:
-بس أنا مبعرفش أعوم.
داعب طرف ذقنها بيده قبل أن يرفعه للأعلى قليلًا، وقال وهو يغمز لها بطرف عينه:
-أنا معاكي هعلمك كل حاجة يا حبيبتي.
ثم أعطاها قبلة صغيرة على شفتيها جعلتها تبتسم في سعادة، ارتمت على صدره، وضمته بقوةٍ، أحست بنبض قلبه يخترق أذنها، فأغمضت عينيها للحظة مستمتعة بهيامها فيه، تنهدت لتخبره في صوتٍ عاشق:
-ربنا يخليك ليا.
........................................
كانت آتية من ناحية اليمين، تتماشى بخيلاءٍ وثقة، عندما لمحها بثوبها الأبيض الفضفاض، وشعرها المحلول المتطاير، وهو جالس على المقعد الخاص بالمسبح، مخالفتها لأوامره –ربما بغير قصدٍ منها- جعله في حالة من عدم الرضا، بل وأصابته بالضجر. اعتدل في رقدته، وأبقى عينيه المزعوجة عليها إلى أن أصبحت في مرماه، لوح لها بيده لتراه، فابتسمت في خجلٍ وهي تختطف نظرات سريعة على الأجساد شبه العارية المستلقية على المقاعد في محيط المسبح. خطت برشاقةٍ حتى بلغته، عندئذ جلست مقابله على المقعد الشاغر. سألها باستنكارٍ محسوس في نبرته وهو يرفع نظارته الشمسية أعلى رأسه:
-ما لبستيش المايوه ليه؟
تفاجأت بسؤاله بدلًا من مدح جمالها، أحست بجفافٍ يصيب حلقها، فتغلبت على الاضطراب الذي اعتراها، ورفرفت بجفنيها وهي تجيبه في استحياءٍ ما زال موجودًا ضمن ثوابتها:
-أنا متعودتش بصراحة، أتكسف أوي، وهو عريان خالص!
استهجن عزوفها عن تلبية أمره هاتفًا بضيقٍ صريح:
-إنتي مراتي دلوقتي، ومعايا لازم تتعودي على حاجات كتير.
اندهشت لتحامله غير المبرر تجاه موقفها، ورأت ما يؤكد ذلك في عينيه المرتكزتين عليها، أليس من المفترض أن يكون غيورًا على زوجته، لا يسمح لغيره برؤية ما تمتلك من كنوز ثمينة؟ تغاضت عن هذه الذلة لئلا تفسد صفاء أيامها الأولى معه، وأخفت انزعاجها وراء ابتسامة رقيقة، أتبعها قولها الدبلوماسي:
-طب خليها مرة تانية.
بدا وكأن غمامة رمادية هبطت من أعالي السماء على وجهه، انقلبت سحنته على الأخير، ونهض قائلًا وهو يشيح بعينيه بعيدًا عنها:
-براحتك.
زاد شعورها بالغرابة إيذاء موقفه غير المفهوم، فأي رجل شرقي في موضعه كان من المستحيل أن يقبل بذلك، أفاقت من لحظة شرودها الخاطفة على صوته الهاتف وهو يستعد للقفز في مياه المسبح:
-بس هتندمي كتير، المياه تحفة.
تداركت بسمتها التي خبت، وردت عليه وهي تمسك بخصلة من شعرها لتلفها على إصبعها:
-كفاية عندي إنك تكون مبسوط.
راقبته وهو يسبح بمهارة بطول المسبح، إلى أن عاد إليها مجددًا ليكلمها:
-روحي المطعم اشربي أو كلي حاجة لحد ما أخلص، أنا قدامي شوية، ومش عايزك تزهقي.
اعترضت عليه بلطافةٍ:
-مش مشكلة، أنا هستناك.
أصر عليها بوجه لم يكن بممازح:
-"تهاني"، اسمعي
هزت رأسها هاتفة في طاعة تجنبًا لإغضابه دون داعٍ:
-حاضر.
لم يكن الأمر كما ظنت أنه مكترث بها، ويخشى عليها من الشعور بالملل، لقد صرفها فقط ليتمكن من التودد إلى هذه الحسناء الشقراء الجالسة على الطرف الآخر من المسبح، فاشتهى الحديث معها، ووجودها المراقب له لن يمنحه حريته المطلوبة، لذا تخلص منها بذكاءٍ، ليستمتع بوقته دون أن تعد عليه أنفاسه، فكيف له أن يتوقف فجـأة عما اعتاد من روتينٍ شبه أساسي في حياته؟!
........................................
في المساء، وعندما استأذنت "تهاني" للذهاب إل الحمام لتضبط مساحيق تجميلها، بعدما فرغت من تناول العشاء بالمطعم المحلق بالفندق مع زوجها، رأى "مهاب" نفس الحسناء تجلس على طاولة قريبة منه، في التو انتقل إليها، ورحب بها برغبة معكوسة في عينيه، تفاجأ بها تشكو من الألم، وتطرق رأسها قليلًا، فسألها ليتأكد:
-هل أنتِ بخير؟
أجابته وهي تبتسم:
-أشكرك، يبدو أن الدوار قد أصابني، كان يجب ألا أفرط في الشرب.
مد يده ليمسك برسغها في نعومةٍ، وطلب منها بتهذيبٍ:
-أنا طبيب، هل تسمحي لي بفحصك؟
سحبت منه يدها برفقٍ، كنوعٍ من التمنع المرغوب عليه، ومع ذلك ردت عليه بنظرة لعوب فهمها جيدًا:
-أنا بخيرٍ الآن، لكني سأعود إلى غرفتي لأستريح.
نهضت بتكاسلٍ، فترنحت في وقفتها، أسرع ناحيتها ليسندها، وطوقها من خصرها قائلًا بهمسٍ:
-دعيني أساعدك.
التفتت تنظر إليه عن قربٍ وهي تلفح وجهه بأنفاسٍ حارقة:
-أشكرك كثيرًا، كم أنت لطيف!
لعب على الوتر الحساس الذي تساومه به قائلًا عن عمدٍ وهو يضغط بأصابعه على جانبها:
-وأنتِ تمتلكين مفاتيح الجمال.
خرجت منها تأويهة مستمتعة، اعترفت بها في التو:
-يبدو أني محظوظة لرؤيتك.
فهم أن ما تقوم به مجرد مقدمات ممهدة لما هو أخطر، ولم يمانع أبدًا تذوق ما يثير فضوله، لذا في صوت ثقيل مشحون بالرغبة استطرد معلنًا عن تلبيته لدعوتها المفتوحة:
-حتمًا سنتقابل مجددًا.
ردت عليه بمكرٍ استحث غرائزه أكثر:
-إن كنت متفرغًا
كادت عواطفه تشتعل أكثر لولا أن أطلت عليهما "تهاني" بوجهها المتجهم، حدجتهما بنظرة نارية، وصرخت فيهما مسببة بصوتها المرتفع لفت الأنظار:
-مين دي يا "مهاب"؟
انزعج من إحراجه بهذا الشكل المهين، فقال دون أن يترك الحسناء من ذراعه:
-واحدة تعبت وبشوفها.
انتزعتها منه انتزاعًا وهي لا تزال تصيح في تحفزٍ حانق بشدة:
-بتشوفها ولا واخدها بالحضن؟
رد عليه من بين أسنانه المضغوطة، وهو يجول بنظرة غير راضية على من حوله:
-إنت فاهمة غلط.
حاولت الشابة الحسناء الوقوف باستقامةٍ، وحادثت "تهاني" بصوتٍ شبه ثقيل وهي تضع يدها أمام فمها لتمنع نفسها من التجشأ:
-أعتذر، يبدو أن هناك مشكلة ما بينكم.
سلطت عليها "تهاني" نظراتها المحتقنة، ورفعت إصبعها أمام وجهها صارخة فيها بهديرٍ مرتفع:
-نعم، بسببك، اغربي.
استاء "مهاب" للغاية من طريقتها الفوضوية في إثارة المتاعب ولفت الأنظار إليه، فأمسك بها من معصمها ليجذبها منه، ويجرها بعيدًا عن الحضور المتابع لهما وهو ينهرها بصوتٍ جاهد ألا يكون عاليًا:
-بالراحة شوية يا "تهاني"، الناس بتبص علينا.
بقوةٍ متعصبة انتشلت يدها من قبضته، وتسمرت في موضعها بالردهة لتعنفه في غضبٍ مبرر:
-طب اعملي اعتبار، ده أنا مراتك.
تنفس بعمق لئلا يخرج عن طور هدوئه، ثم أخبرها كمحاولة أخيرة للتعامل بحكمة مع الموقف:
-إنتي فاهمة غلط.
اشتاطت أكثر من كذبه المكشوف، واندفعت تجاهه تضربه في صدره بقبضتها وهدير صوتها يرن:
-ده أنا شيفاك بعينيا.
حذرها من التمادي في عصبيتها هاتفًا بصرامة:
-"تهاني"، مابحبش الأسلوب ده!
كادت تنطق بشيء لتعارضه؛ لكنه أخرسها قبل أن تنبس بكلمة صائحًا بصوته الحازم:
-خلاص، اسبقيني على فوق، هنتكلم هناك.
على مضضٍ خطت مبتعدة وهي تبرطم بكلمات حانقة، شيعها بنظرته القاسية إلى أن غابت عن بصره، فاستدار عائدًا إلى الشقراء الحسناء منحنيًا أمامها بعدما التقط كفها ليقبله في أدبٍ، ثم اعتدل واقفًا ليخاطبها:
-أعتذر منك سيدتي.
أبقت يدها أسيرة أصابعه وهي ترد بهزة صغيرة من كتفها:
-لا توجد مشكلة.
انتقى من الكلمات ما شرح لها به تصرف المرأة الجالسة معه مدعيًا:
-صديقتي مهووسة قليلًا، ترتاب حين أبتعد عنها، وأنا لا أرغب في إحزانها.
أظهرت تعاطفًا ماكرًا معه، وأخبرته في رقةٍ لا تزال مطعمة بالإغراء:
-أوه، إذًا علي الحذر منها.
تصنع الضحك، وقال:
-إنها غير مؤذية، فقط تصرخ لحاجتها إلى الحب.
رمقته بهذه النظرة المتسائلة وهي تعلق عليه:
-يبدو أنك خبير في هذه المسائل.
أكد لها بلؤمٍ كان واثقًا أن مغزاه سيصل إليها:
-بالطبع، وإلا لما غضبت لهذه الدرجة!
ما لم يطرأ على بال "مهاب" هو أن تعود زوجته إليه وهو يتغزل بغيرها، برزت مقلتا "تهاني" من محجريهما وهي تراه بأم عينيها يتقارب بحميمية متزايدة من هذه المترنحة، صرخت بلا وعي، وقد ثارت بداخلها مشاعرها الأنثوية:
-يعني إنت بتمشيني عشان تفضى للهانم دي؟
انصدم بوجودها خلفه، فالتف كليًا تجاهها مرة واحدة وهو يردد مذهولًا:
-"تهاني"!
بلا تفكيرٍ انقضت على الحسناء لتبعدها عنه وهي تلعنها بكلماتٍ مهينة، مما أجبر "مهاب" على تقييد معصميها بيديه، وسحبها بما يشبه الدفع الخشن بعيدًا عنها وهو يبدي اعتذارًا شديدًا لما حدث. قاومته وهي تصرخ به:
-سيبني، ده أنا لازم أفرج عليها الدنيا كلها!
استوقفهما أحد موظفين الفندق متسائلًا في توجسٍ:
-ما الأمر سيدي؟
رد نافيًا وهو يفك قيدها ليتمكن من الإمساك بها من رسغها فقط:
-لا شيء.
سحبها خلفه فتبعه الموظف مُردفًا:
-النزلاء يشتكون من الضجيج، سيدي.
توقف عن المشي المنفعل ليرد بوجه جامد التعبيرات، ونظراته تقدح شررًا:
-زوجتي ترفض ترك البار، وأنا أحاول التعامل معها.
تفهم لموقفه، فكم مرت عليه حالات من الإفراط في تناول المواد المسكرة تنتهي بفضائح مخجلة بين النزلاء، ما أسكته حقًا كانت الورقة النقدية المطوية والتي دسها "مهاب" في يده، أتبعها بنظرة موحية ليكف عن ملاحقته، استجاب له، وقال وهو ينحني احترامًا له:
-حسنًا سيدي، أتمنى لكم ليلة سعيدة.
تعامل "مهاب" بخشونةٍ مع زوجته، ودفعها دفعًا للأمام حتى كادت تنكب على وجهها وهو يكز على أسنانه هاتفًا:
-قدامي، وإياكي تتكلمي!
مرة أخرى عصت أمره، وهاجمته بحرقةٍ لها أسبابها القوية:
-المفروض إنك دكتور محترم ومن عيلة، يعني أبسط حاجة تعمل حساب لمراتك، مش مجرد ما أبعد عنك تعيش حياتك ولا كأني موجودة.
سكت ولم يعقب بشيء، فاشتعلت أكثر وانكوت بغيرتها، لذا صرخت به:
-رد عليا.
شدَّ من قبضته على معصمها حتى شعرت به يكاد يدميها، فتألمت من قساوته، ليخبرها بعدئذ بوعيدٍ أصاب بدنها بالرجفة:
-لينا كلام في أوضتنا.
كانت شجاعة للدرجة التي جعلتها تتحدى مخاوفها ووعيده المحسوس بقولها النزق:
-أه طبعًا معندكش اللي تبرر بيه موقفك!!
..........................................
خيل إليها أنه حينما يعود بها إلى غرفتهما سيبدي لها ندمًا شديدًا، ويعتذر لها عما بدر منه من إساءة جارحة لكينونتها؛ لكنه على العكس دفعها بغلظةٍ للأمام حتى طُرحت أرضًا، واصطدمت بعنفٍ بالبلاط القاسي. لهجت أنفاسها، وتهدج صدرها صعودًا وهبوطًا من فرط انفعالها، لم تتوقع أن تظهر طباع السوء لديه بهذه السرعة، أدارت رأسها ناحيته، واستندت على كفيها لترفع جسدها عن الأرض، انفلتت منها صرخة متألمة عندما أمسك بكومة من شعرها وهو يسألها:
-إنتي عارفة إنتي متجوزة مين؟
جذبها منه بخشونةٍ مؤلمة ليجبرها على النهوض، حاولت تخليص شعرها من يده؛ لكنها لم تفلح أمام قوته، أطبق بيده الأخرى على ذقنها، فشعرت بأصابعه تعتصر فكها، تابع تهديده لها بفحيحٍ:
-الفضايح اللي حصلت تحت دي مش هعديها.
رغم موجات الألم الممزوجة بالإهانة التي اجتاحتها إلا أنها ناطحته بردها:
-طبعًا ما إنت دكتور "مهاب الجندي" على سن ورمح، اللي محدش بيقوله لأ.
مرة أخرى دفعها بغتة بكلتا يديه، وبكل قسوة، لتنكفئ أرضًا وهو يخاطبها بغير تساهلٍ:
-طب كويس إنك عارفة إني مش أي حد.
ضرب الألم جسدها، ومع ذلك لم ترتدع أو تكف، عاودت النهوض وصاحت به وهي تلوح بيدها في الهواء:
-بس على الأقل يا دكتور يا فاضل تحترمني، تقدرني، ما تعملش اللي يضايقني.
نظر لها بلا اهتمامٍ، وسألها في تحدٍ مستفز:
-ولو عملت؟
اندفعت تجاهه لتمسك به من ياقتي بدلته، هزته بعنف وصوت صراخها يرن:
-إنت قاصد تعصبني وخلاص؟
أبعد يديها عنه، ودفعها للخلف، كأنما يلفُظها، فاستشاطت أكثر من أسلوبه الاستحقاري، وواصلت صياحها الغاضب؛ كأنما تعطيه إنذارًا أخيرًا:
-شوف يا دكتور، الحياة قبلي كانت حاجة، وبعدي حاجة تانية خالص.
كركر ضاحكًا بصوتٍ مرتفع متعمدًا الاستهزاء بها، ثم أكد لها شعورها بالازدراء بإعلانه غير المكترث:
-مين فهمك كده، بالعكس، أنا زي ما أنا.
قصف قلبها في خوفٍ متعاظم، وسألته وقد خفت حدة نبرتها إلى درجة كبيرة:
-قصدك إيه؟
مط فمه للحظةٍ، ثم دس يديه في جيبي بنطاله، وتجول بتريثٍ أمامها وهو يجيبها بما لم تود سماعه:
-يعني من الآخر اللي بعوزه باخده، واللي بيجي في بالي أعمله بعمله، ومابيفرقش معايا حد.
حاولت لملمة ما جُرح من كبريائها كأنثى، وردت ببقايا كرامة مهدرة:
-وأنا مراتك دلوقتي.
مرة ثانية ضحك ساخرًا من تصريحها المزعوم، ليسألها ببسمة عريضة:
-وإيه يعني؟
بهتت ملامحها بشكلٍ مخيف، فأسلوبه، ونظراته، وحتى نبرته توحي بأنها في مأزقٍ، لم يتركها "مهاب" لشكوكها كثيرًا، بل أفاض في التوضيح لها عن حقيقة نواياه:
-أه، نسيت أقولك، إن دي كانت الطريقة اللي قدامي عشان أجيبك بيها هنا على السرير، وآ...
النظرة الحقيرة المطلة من عينه تجاهها، أشعرتها بوضاعتها، بمدى الغباء الذي كانت عليه، لتصدق في يومٍ أنه تمناها كزوجة ملائمة، لا مجرد وعاء لإفراغ شهوته بها. صرخت به عندما استرسل في وصف مهامها التي أدتها بكفاءة منقطعة النظير كعاهرة محنكة وفقًا لتعليماته:
-إنت ســافل!
تغاضى عن سبها، واعتبره ردة فعل هزيلة لصدمتها، استمتع أكثر بإحراق أعصابها وهو يخبرها:
-بس ماتنكريش إنك اتبسطي.
لم تتحمل طريقته الملتوية لإشعارها بالسوء تجاه حالها، فاض بها الكيل، فانطلقت ناحيته رافعة يدها في الهواء تنوي صفعه وهي تلعنه بغضبٍ جامح:
-حيــــوان!
قبل أن تصل يدها إلى صدغه، كان قابضًا عليها، يعتصرها بقسوةٍ، فتألمت بشدة، نظر لها بعينين تحولتا للإظلام وهو يتوعدها بما جعل داخلها قبل خارجها يرتج من الارتجاف:
-الظاهر إنك محتاجة تعرفي أنا مين كويس ................................... !!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(نهاية الحلم الوردي)
طريق الحب الوعر معه لم يكن قد امتلأ بالندوب والجراح فقط، بل تضمن كسر الروح، تحطيم المشاعر، وفَطر القلوب. لم تشفع توسلاتها، ولم يمنعه بكائها الحارق من التوقف عن ممارسة أساليب خسته اللا آدمية معها، للمرة الأولى تكتشف جانبه المظلم، بل الأكثر إظلامًا على الإطلاق، ما فاق حدود تخيلها. عجزت "تهاني" عن صد هجماته النهمة الآكلة لكل ما هو إنساني بداخلها، استحقرت نفسها، واشمئزت مما عايشته معه. بعد وقتٍ ظنت أنه لن يمضي أبدًا، انتهى "مهاب" من الظفر بليلة جامحة، وحشية، ولا يُمكن نسيانها، نهض قائمًا بعدما ترك زوجته مقيدة إلى عارضة الفراش، وآثار ما بدا أشبه بضربات السياط تلهب كامل جلدها، لم يترك فيها بقعة إلا وجعلها تصرخ من الألم، وكأنه يشبع ذلك النزعة الســـــادية المستحوذة عليه.
فرغ من استحمامه دون أن يكلف نفسه عناء حل قيدها، أبقى عليها على تلك الحالة للإمعان في إذلالها أكثر، تقدم منها وهو يصفف شعره الرطب بيده قائلًا في استمتاع مريض:
-دي مجرد قرصة ودن صغيرة ليكي عشان لو جه في بالي تتعدي حدودك.
حاولت رفعت وجهها المبلل بدموعها لتنظر إليه، فآلم ذلك رقبتها، ومع ذلك صاحت فيه ببكاءٍ مقهورٍ:
-إنت مش بني آدم.
ضحك في تسلية عظيمة، ثم جلس مجاورًا لها، ليمد يده ويمسد على شعرها قائلًا:
-عارف.
نفرت منه بشدةٍ، وجاهدت لتبعد رأسها عن ملمس يده؛ لكنها لم تستطع، انتفضت بذعرٍ عندما خفض يده ليلامس عنقها، كانت عاجزة تمامًا عن منعه من فعل أي شيء يريده، تسلى وانتشى برؤيتها تتلوى بغير مقدرة على صده، ما إن اتلف أعصابها بمداعباته المؤذية لها حتى تكلم هامسًا بالقرب من أذنها، ليزيد من سحق كبريائها:
-أنا رايح عند الحلوة اللي ضايقتك، هجيبهالك هنا.
نجح في إصابة هدفه، فسرت في دمائها دفقات من الغل الحارق، مما جعلها تثور وتزأر في تشنج:
-إنت مجنون! شخص مريض!
انحنى عليها ليقبل كتفها قائلًا بنبرة معاتبة، وهذا العبوس الزائف يملأ محياه:
-كده أزعل منك، بعد الحب اللي اديتهولك؟
أصابها الغثيان والتقزز من تودده إليها، صرخت به رافضة طريقته تمامًا:
-ماتلمسنيش!
سرعان ما سقط قناع البرود من على ملامحه ليعود إلى شراسته هادرًا بها، وقد قبض بيده على فكها ضاغطًا عليه بقسوة:
-مش واحدة زيك هتديني أوامر!
انخرطت في بكاءٍ جديد، أشد حرقة، وأعلى صوتًا، فأرخى أصابعه قليلًا، وشملها بهذه النظرة الغريبة، وكأنه يظهر تعاطفًا غير محسوسٍ لها، ليضيف في هدوء بما استفزها:
-بس تعرفي، شكلك وإنتي متعصبة تحفة ومغري.
حدجته بهذه النظرة المقيتة الكارهة، فاستقبلها بترحاب غريب، وراح يتلمس الندوب الملتهبة التي تركها على ظهرها بأطراف أصابعه في رقةٍ مناقضة لوحشيته وهو يخاطبها:
-يشجع الواحد إنه آ...
زاد من وتيرة إيقاظ هلعها ببتر عبارته، ليجعل الخواطر المخيفة تدور في رأسها، فيتضاعف استمتاعه بمشاهدتها تعاني هكذا، ظل تأثيره طاغيًا، يصيبها بكل ما هو منفر، وهو لا يزال يستنزف طاقاتها بأساليبه الملتوية والمراوغة، إلى أن رن الهاتف الأرضي، حينئذ توقف عن اللعب معها قائلًا في ضيق طفيف:
-حظك، التليفون هيعطلني شوية عنك، بس راجعلك تاني!.
ضم شفتيه ليرسل لها قبلة في الهواء قبل أن ينهض متجهًا إليه، رفع السماعة من موضعها، وألصقها بأذنه متسائلًا بصوتٍ جاد:
-ما الأمر؟
أتاه الرد في صوتٍ متوترٍ:
-سيدي، نعتذر عن إزعاجك في هذا التوقيت، لكن تم استدعائك لعملية جراحة عاجلة في مشفى (...)، والطبيب "بيدرو" أصر على حضورك.
سلط "مهاب" نظراته الغامضة على زوجته، وقال على مضضٍ رغم عدم رضائه:
-حسنًا، سأحضر في الحال.
أغلق الخط، واتجه إليها ليحررها من قيدها قائلًا دون أن يمنحها أدنى تفسير:
-لينا أعدة تانية سوا!
احتضن وجهها الغارق بدموعها براحتيه، أبعد خصلات شعرها الملتصقة به للجانبين، وخاطبها بلهجة لا تمزح:
-نصيحتي ما تزعلنيش تاني، وخلينا حلوين سوا.
ودَّت لو بصقت في وجهه لتشعره بمدى وضاعته واحتقارها الشديد له؛ لكنها كانت تعلم أن ذلك سيزيد الأمر سوءًا، ولن تنال إلا ما يؤلمها فقط، لذا اكتفت بكظم غضبها، وحدجه بهذه النظرة الساخطة، فربت على وجنتها بخفةٍ قبل أن يتركها لحال سبيلها ويمضي بعيدًا عنها مكملًا ارتداء ملابسه. ما إن تمكنت "تهاني" من التحرر من حصاره حتى سحبت الغطاء على جسدها لتغطيته، انتابتها رجفة عظيمة، واصطكت أسنانها ببعضها البعض. همهمت بصوتٍ خافت للغاية وهي تراقبه بعينين مشبعتين بحمرة واضحة ناتجة من شدة حنقها:
-حيوان، قــذر!
غادر "مهاب" وهو يدندن بصافرة خفيضة، فتضاعفت رجفتها أكثر، وراحت تلطم على صدغيها متسائلة في حسرة ووجع:
-أنا إيه اللي عملته في نفسي ده؟!
طاحت أحلامها بمستقبل باهر، وذهبت أدراج الرياح، وتحولت أمانيها إلى هباءٍ منثور. احتل مخيلتها في هذه اللحظة طيفًا باهتًا لوجه والدتها الحزين، تألم قلبها وتمزق لبُعدها عنها، كم رجت لو كانت معها فارتمت في حضنها، لتحس بشعور الأمان المسلوب منها! لكن كيف لها أن تخابرها وتخبرها بما صار معها وهي المذنبة من الأساس؟ ألم تتجاهل حتى الاتصال بها لتُعلمها بما انتوت على فعله؟ أليست هي من أصرت على ذلك الارتباط مهما كانت العواقب طمعًا وراء زهوة المال، ونشوة السلطة؟ كلما تذكرت كيف صدقت أكاذيب هذا المخادع المحنك في اصطياد ضحاياه لعنت سذاجتها وسطحيتها! فواحدة مثلها كان من المفترض أن تنتبه أكثر إليه؛ لكنها سقطت في شباكه كالغبية، وها هي تتجرع الكأس المرير بلا شفقة! ضربت أعلى رأسها بكفيها وهي تردد في ندم:
-طب هاقول لأهلي إيه؟
.............................................
راحت سكرة الحب، وجاءت الصحوة الصادمة، فما ظنت أنها أيام السعادة والهناء انقضت بلا رجعة، وحل محلها التعاسة والشقاء. تسترت "تهاني" بثيابها، ومع ذلك شعرت بأنها مجردة من كل شيء، وكيف لها ألا تشعر بذلك وكرامتها قد دعست وسحقت بين شقي الرحى؟ انتظرت عودته بصبرٍ شبه فارغ، تركها لهواجسها فتنهش منها. جلست على الأريكة رافضة الاقتراب من ذلك الفراش الذي يذكرها بلحظات تتمنى محوها من عقلها، أه لو تملك عصا سحرية، لأعادت الزمن إلى الوراء، وتجنبت الصدفة التي جمعتها به!
جاء "مهاب" متأخرًا، شبه مرهق من تمضية ليلة مشحونة بالعمل، ورغم هذا لم يكن في مزاج متكدر، بل بدا مستمتعًا للغاية، وتضاعف استمتاعه حين رأى زوجته جالسة في موضعها بجمودٍ، وهذه النظرة النارية تنتفض في عينيها. ابتسم في استفزازٍ، وسألها ساخرًا وهو يطوف بناظريه عليها:
-مش معقولة تكوني مستنياني لحد دلوقتي؟
هتفت في تصميم ظاهر بقوة في صوتها وقد قامت وافقة لتواجهه:
-أنا عاوزة أطلق!
بخطواتٍ متمهلة دار حولها، وحدجها بهذه النظرة المستخفة قبل أن يخبرها وهي يجلس مكانها:
-وقت لما أزهق منك.
التفت إليه تصرخ في وجهه بتعصبٍ، دون أن تقترب منه، وأصابعها تشتد وتلتف معًا لتشكل قبضة متشنجة:
-خلي عندك كرامة وطلقني.
نظر لها مليًا، بعينين حادتين كالصقر، لا يظهر فيما سوى البرود تام، داعب طرف ذقنه بإصبعيه، وسألها مستنكرًا بلهجةٍ مالت أيضًا للاستهزاء بها:
-قبل شهر العسل ما يخلص؟ ده حتى عيب!
ازداد صراخها به، كادت تهجم عليه لتفرغ فيه شحنة غضبها المستعرة بداخلها تجاهه؛ لكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة، وكبحت ثورتها، ومع ذلك خرج صوتها محتجًا:
-إنت مصدق كدبك ده؟
وسَّد ذراعيه خلف رأسه وهو يغوص في المقعد أكثر ليقول بجمودٍ، ونظراته مسلطة عليها:
-طالما مبسوط، فمش فارق معايا.
تقدمت ناحيته، حتى أصبح ما يفصلها عنه مسافة خطوة، نظرت له باحتقارٍ كبير، وصاحت في اعتراضٍ ناقم وهي تلوح بيدها في الهواء:
-إنت مش خدت اللي عاوزه مني؟ سيبني لحال سبيلي.
اعتدل في جلسته، ثم أمسك بها بغتة من معصمها، فارتعدت فرائصها وقاومت شده لها، ارتسمت على شفتيه هذه البسمة وهو يخاطبها بتلذذٍ:
-ده احنا لسه في الأول يا حلوة.
ارتفع صوتها وهي تجاهد لانتشال يدها من قبضته المحكمة عليها:
-ابعد إيدك.
عن عمدٍ، وبخشونةٍ كذلك، سحبها بقوةٍ أكبر ليُسقطها في حجره، ثم أحاطها بذراعيه، فعجزت عن الفكاك من قبضتيه المقيدتين لحريتها، ظلت تتلوى بجسدها في عجزٍ يائس، فضحك بتسلية وهو يراها كالفأر الذي وقع في المصيدة، اقترب بفمه نحو منحنى عنقها، وهمس لها بأنفاسٍ شعرت بحرارتها تلفح بشرتها المرتجفة:
-ينفع كده نبوظ ليلتنا واحنا لسه عرسان جداد؟
أظهرت اشمئزازها العارم منه، قاومت تودده الكريه إليها، وحاولت إبعاد وجهها عنه وهي ترد بانفعال:
-أنا مش طيقاك.
تشبث أكثر بها، وقال بفحيحٍ جعل قلبها يهوى في قدميها:
-وأنا عاوزك لسه!
................................................
لم يرغب في القيام بهذا الأمر سرًا ودون علمها، اتبع أسلوب البر معها، وأخبرها بالحسنى عن نيته في الزواج بـ "فردوس" عبر مكالمة دولية طارئة، فما كان من والدته إلا أن اعترضت عليه بشدة، معتبرة إياها زيجة مشؤومة وغير موفقة بالمرة، أبدت رفضها القاطع لإتمام ما يريده ابنها البكري بقولها الصريح:
-يعني أخوك مصدق يخلص منها، وإنت رايح تورط نفسك معاها؟
برر لها إصراره على إكمال هذه الزيجة:
-بصلح اللي عمله.
جاء صوتها كالصراخ وهي ترد عليه:
-هو لحق يعمل حاجة؟ ده كتب كتاب بس!
اختطف نظرة سريعة نحو من هم بالقرب منه معتقدًا أنهم سمعوا ما قالته؛ لكن لم يكن أحد منتبهًا لما يدور بينهما، فالكل مشغول بهمومه وأثقاله. أخبرها بعد زفير سريع:
-أهي اتحسبت جوازة على الغلبانة دي.
أتاه صوتها مهددًا:
-طب قسمًا بالله يا "عوض" لو اتجوزتها لا إنت ابني ولا أعرفك.
رغم الصخب والضوضاء المحيطين به إلا أنه حاول صمَّ أذنيه عما حوله ليركز معها، احتج على تعنتها غير المقبول قائلًا بضيقٍ:
-حرام عليكي يامه، بلاش كده.
أكدت عليه بتصميمها المتزمت:
-هو ده اللي عندي.
ثم أنهت المكالمة دون سماع المزيد منه، فتمتم بغير رضا، وهو يضع السماعة في مكانها، وقد باتت ملامحه متجهمة للغاية:
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
...........................................
أنهكها بمتطلباته النهمة لما يرضيه هو، فلم تتمكن من منعه أو إيقاف جوعه العاطفي، تألمت أكثر، وتأذت، وأصبح ما ظنت أنه الحب العاصف مجرد وصمة عــار تذكرها دومًا بجريمتها في حق نفسها. كانت تبكي في الحمام بلا صوتٍ، رفضت أن تظهر بمظهر الضعف قبالته، فخنوعها يُمتعه، وانكسارها يُسليه. تصلبت يديها على حافة الحوض عندما سمعته من الخارج يأمرها:
-جهزي نفسك عشان هنرجع النهاردة...
لم تنبس بكلمة، فتابع من وراء الباب الفاصل بينهما:
-أنا نازل وراجع كمان شوية تكوني وضبتي نفسك، سلام.
ظلت على صمتها ودموعها الحارقة تنساب بغزارة. سرت بها رجفات متواترة من الخوف فور سماعها لصوت غلق الباب الخارجي، رفعت رأسها ببطءٍ، وتأملت ملامحها الذابلة في المرآة، تذكرت كيف كان وجهها يشرق بالأمل والإصرار قبل أن ترتبط به، إذًا ما الذي حدث لتُعمى بصيرتها عن رؤية قبحه المنفر، أهو حمق الحب الذي دفعها للهاوية؟ أم أنها بسبب أطماعها ألقت بنفسها في بئر الجحيم؟ نكست رأسها في خزيٍ، وتركت العنان لصوت بكائها ليخرج ممزوجًا باعترافها النادم:
-يا ريتني ما وافقت، يا ريتني!
...........................................
حين كان غافيًا بجوارها في الطائرة، تأملت قسماته عن كثبٍ، كيف لها ألا ترى جانبه المريض؟ انزاح الساتر الذي غطى على صوت العقل، وأصبحت ترى حقيقته البشعة بوضوح، بدا في عينيها وكأنه انجذب ناحيتها فقط إشباعًا لغرائزه، لا لتوق مشاعره، أدركت وقتئذ أنها أساءت الاختيار، ويا له من اختيار مميت! قضى عليها في ريعان شبابها، ولم يترأف بها. أبعدت مقلتيها عنه وهما تلمعان بالدموع. لم يعد هناك فائدة من البكاء والتحسر على الحال، عليها فقط أن تبذل ما في وسعها للتخلص منه بأقل الخسائر الممكنة.
لاذت بالصمت غالبية الوقت، وتحركت كإنسان آلي ليوجهها، حتى استقل كلاهما السيارة للعودة إلى منزله، إلى حدٍ كبير فاق ما كانت تتخيله، كانت موقنة أنه ثري؛ لكن ليس بمثل هذه الدرجة، فقد كان بيته المتواضع –كما يسميه- أشبه بفيلا صغيرة، مستأجرة، لها حديقتها الخاصة، ومحاطة بأسوارٍ عالية، مفروشة بالجديد والفاخر من الأثاث، ومملوءة بالكثير من التحف والأنتيكات. أحست بانقباض صدرها وهي تطأ البهو بقدميها، بهجة العروس الفرحة ببيتها كانت مفقودة، هي جاءت إلى هنا تنفيذًا لرغبته، لا عن طواعية منها. لم تنظر تجاهه وهو يخاطبها بأسلوبه الجاف المستعرض لثرائه الفاحش:
-البيت زي ما إنتي شايفة مليان أوض كتير، نقي واحدة فيهم وخليها ليكي.
همَّت بالتحرك بحثًا عن غرفة ملائمة، وبعيدة عنه كل البعد؛ لكنه استوقفها بقوله الفج والموحي بما أشعرها بالاحتقار:
-ووقت لما أعوزك هتيجي عندي.
استنفرت حواسها، واستدارت تحدجه بنظرة عدائية وهي تخبره باسمة باستهجانٍ:
-طب ما تطلقني أسهل، حتى علشان تاخد راحتك في بيتك أكتر، بدل ما أبقى ضيفة تقيلة عليك.
دنا منها قائلًا بتسليةٍ:
-لما يجيلي مزاج!
كادت تتحرك مرة ثانية؛ لكنه أمسك بها من ذراعها ليشدها إليه قائلًا بوقاحةٍ مغلفة بالإهانة:
-إنت دورك هنا ما يزدش عن كونك واحدة بتلبي طلباتي وبس.
نظرت له شزرًا قبل أن تهتف في تحفزٍ:
-قول إنك متجوز خدامة.
احتضن ذقنها بيده، وقال في نبرة معاتبة هازئة منها:
-إنت أرقى من كده يا دكتورة.
أحست بأصابعه تشتد على فكها، كما لو كان يعتصره، ارتجف قلبها عندما همس لها بنبرة ذات مغزى، ونظرة وضيعة تنطلق من عينيه إليها:
-والصراحة، أنا لسه ما شبعتش منك!
كزت على أسنانها مدمدمة بلا صوتٍ:
-حقير.
داعب بإبهامه وجنتها متكلمًا:
-وعشان تعرفي إني مديكي قيمتك، هرجعك تاني معايا المستشفى.
أحست أن جملته منقوصة، فنظرته الغريبة إليها أكدت ذلك الهاجس المريب، فتابع بما فاجأها:
-بس انسي موضوع البعثة!
استطال وجهها في صدمة جلية، وهتفت محتجة على الأخير، وكأنه سلب الشيء الوحيد الخاص بها:
-أنساه إزاي؟ ده مستقبلي!
مجددًا اشتدت قبضته على فكها فتألمت من قساوته، قرب وجهها منه، ونظر إليه بنظرة متملكة نفذت إليها مرددًا بتسلطٍ:
-ما يلزمنيش طالما إنتي معايا.
رغم الألم الذي ينتشر في فكها، خاطبته بخوفٍ:
-إنت كده بتخسرني أهم حاجة اتغربت بسببها.
لم يكن مكترثًا بذلك، وعلق باسمًا:
-قصادي مافيش حاجة تسوى.
حدجته بنظرة نارية مشتعلة على الأخير، ارتخت أصابعه قليلًا عن فكها وهو يستأنف كلامه:
-شرف ليكي إنك تبقي مراتي.
ما لبث أن غلف صوته التهديد وهو يخبرها في أذنها:
-وأحسنلك ما تزعلنيش، بدل ما أخسرك كل حاجة!
طبع قبلة على وجنتها قبل أن يبعد شفتيها ليودعها متبسمًا بابتسامة مغيظة:
-سلام يا .. دكتورة.
كلمته الأخيرة كانت أقرب إلى إهانة عنها إلى تقدير، بصقت خلفه بعدما انصرف، وهسهست بكره آخذٍ في الازدياد:
-ربنا يريحني منك.
الخوف من خسارة ما كابدت لتحقيقه مرة واحدة جعلها تبدو أكثر اضطرابًا وتخبطًا، فكل شيء بات على وشك الضياع ما لم تحسب حسبتها جيدًا.
............................................
لم يعتد طوال حياته على مخالفة مبادئه، ولا حتى على إسكات صوت ضميره اليقظ، مهما اشتدت الصعاب وتعقدت، لأجل إرضاء أهواء الآخرين، دومًا كان يفعل ما يؤمن به، وما في الخير لغيره، لهذا رغم تهديد والدته الصريح رفض الانصياع لرغبتها، وأكمل في الطريق الذي اختاره لنفسه. التزم بالحضور في الموعد المتفق عليه في بيت عائلة "فردوس"، التقى بأمها وخالتها في الصالة، فسألته الأخيرة بتحفزٍ بائن في نبرتها قبل نظرتها إليه:
-نويت على إيه يا "عوض"؟
أجابها بصوتٍ ثابت بعد لحظاتٍ من السكوت:
-كتب الكتاب والدخلة هيكونوا سوا، وهنعمل حاجة على الضيق، وبعدها نطلع على البيت عندي.
تهللت أسارير "أفكار"، وتبادلت مع شقيقتها نظرة سعيدة للغاية، ثم صاحت في حماسٍ، وكأن روحها عادت إلى جسدها:
-على خيرة الله، أهي دي البشاير ولا بلاش.
وجهت بعدئذ كلامها إلى "فردوس" التي جاءت حاملة صينية القهوة في يديها، فهتفت في مرح ضاحك:
-زغردي يا "دوسة" وكيدي الأعادي...
ارتفع صوت ضحكتها على النقيض مع عبوس ابنة شقيقتها، استأنفت بعدئذ جملتها المبتهجة، فاستطرد وهي تشير بيدها:
-ولا أقولك شيلي القهوة دي وبلي الشربات يا حبيبتي.
لم تستجب لها، وأسندت الصينية أمام الضيف، لترد بسحنة مقلوبة:
-مش عاوزة.
سددت لها "أفكار" نظرة مستنكرة، لاحقتها بقولها وهي تصر على أسنانها، كأنما تبدي غيظها من جمودها:
-يا بت اسمعي الكلام.
تدخل "عوض" قائلًا بتهذيبٍ، وهو شبه خافض لنظراته:
-سبيها على راحتها يا حاجة.
أثرت "فردوس" الذهاب؛ لكن منعتها "عقيلة" مضيفة بتعبيرٍ صارم، وهي ترمقها بنظرة آمرة:
-سيبك من اللي في إيدك، واقعدي معانا يا "فردوس".
على مضض استجابت لأمرها، واستقرت على الأريكة المجاورة لأمها، وبعيدًا عن مرمى بصر "عوض"، كأنما بهذا تبدي اعتراضها الضمني على الزواج به. ساد الصمت بين أربعتهم، وكأن مخزونهم من الحديث قد نضب، مما استدعى "أفكار" للتصرف بشيءٍ من المكر، أشارت بنظرة مفهومة لشقيقتها طالبة منها النهوض وهي تستطرد:
-أما نقوم نجهز السفرة...
كانت "فردوس" على وشك الوقوف؛ لكنها أشارت لها لتجلس مخاطبة إياها:
-خليكي إنتي مع عريسك.
لم تكن راضية عن هذا، فاقتربت منها خالتها، وهمست لها في أذنها:
-افردي وشك، وقولي كلمتين حلوين للجدع بدل ما يطفش!
احتدت نظرتها إليها، واكتسى وجهها بأمارات الضيق، ومع ذلك لم تستطع منع نفسها من التعبير عن مكنونات صدرها، انتظرت ابتعاد والدتها مع خالتها، وراحت تكلم "عوض" بنزقٍ:
-إنت واخدني شفقة أنا عارفة.
تفاجأ بما قالته، فنظر ناحيتها، وحاجباه معقودان، أنكر اتهامها في التو:
-لا يا بنت الناس، ده مش طبعي.
سألته مستفهمة بغير تصديقٍ:
-أومال طلبت تتجوزني بعد ما أخوك رماني ليه؟
أتى رده بسيطًا للغاية، ونابعًا من داخله:
-عشان شايف فيكي ست البيت الأصيلة!
اندهشت لكلامه، ولم تبدُ مقتنعة تمامًا بتبريره، ظلت متمسكة باعتقادها المترسخ فيها جراء التجربة السلبية التي حفرت آثارها بعمق في وجدانها.
......................................
على الجانب الآخر، أرهفت "أفكار" السمع محاولة التنصت على "فردوس"، والتقاط ما تخاطب به عريسها من موضع وقوفها في الزاوية، توجس قلبها خيفة من احتمالية إفساد هذه الحمقاء المتهورة للأمر، فهي لم تقبل به في البداية لترتضي به في النهاية. سرعان ما أفصحت عن مخاوفها لشقيقتها، فخاطبتها في نبرة قلقة:
-بقولك إيه، ما تنادي على البت تساعدنا هنا بدل ما تعك الدنيا مع الراجل برا.
نظرت لها بتشككٍ، فأكدت لها حينما أخبرتها:
-بصي عليهم كده وإنتي تعرفي أنا خايفة ليه.
تحركت من مكانها لتنظر إليهما بحذرٍ، رأت كيف تبدو ابنتها متحفزة بشدة، كأنما تتصيد الأخطاء له، شاركتها في توترها، وهتفت توافقها:
-دي بوزها شبرين، ومش طايقة حد!
دون إضاعة الوقت، اتجهت "عقيلة" للخارج واضعة على محياها ابتسامة زائفة، ثم طلبت منها في وداعة غريبة:
-تعالي يا ضنايا رصي الأطباق معايا.
استغربت "فردوس" من عودة والدتها إليها، ومع ذلك قالت في طاعة، كما لو كانت قد وجدت المهرب لها من جلستها غير المستحبة إليها:
-طيب.
...........................................
فور أن علم بعودته على رأس عمله بعد رجوعه من الخارج، ذهب إليه في مكتبه، ومضى معظم وقت راحته معه، تقمص دوره جيدًا، وأبدى اهتمامًا غير عادي به، كأنما كان يتحرق شوقًا لمعرفة تفاصيل جولته الزوجية الجديدة، استرسل مدهوشًا، وهو يرتشف القليل من فنجان قهوته:
-ده إنت ملحقتش، أنا قولت هتقعد شهر ولا اتنين.
قال بغموضٍ محير، وهو يزين وجهه ببسمة ظافرة:
-كفاية كده.
غمز له "ممدوح" بطرف عينه معلقًا في خبثٍ عابث:
-شكل البطة البلدي كانت تستاهل.
ضحك مستمتعًا ليؤكد له ما ظنه مرددًا:
-من الناحية دي، أيوه!
صفق له كنوعٍ من الإثناء على مهاراته في الإيقاع بها، وتابع
-عقبال كل آ.. بطة.
ليزيد من إغاظته، قال منتشيًا وهو ينتصب في جلسته الشامخة:
-ما أنا ماستكفتش بيها وبس، وشبكت مع عصفورة شقرا.
كان "ممدوح" بارعًا للغاية في التغطية على ما يشعر به بقناع الهدوء وعدم المبالاة، رغم يقينه بأنه يتعمد قول ما يستفزه، وما يشعره دائمًا بأنه صاحب الأفضلية والأسبقية في كل شيء، لذا جاراه في استعراضه المتفاخر، ومط فمه في إعجابٍ معقبًا عليه:
-مابتضيعش وقت، أستـــاذ!
..............................................
أدرك بصفاء كامل أن ما تمنى حدوثه على وشك الوقوع الآن، عليه فقط أن يكون مرتب الأفكار، وأكثر إقناعًا وهو يبوح لوالده بما أجرم به شقيقه، ليقصيه من منزلته المفضلة لديه في قلبه، ويعتليها هو بلا أدنى عناء. بمكر الثعالب ودهائهم شرع "سامي" في تنفيذ خطته مسترسلًا في وصف ما نما إليه من معلومات صادمة وضعت العائلة في موقف مشين، وشبه مخزٍ، حقق ما كان يصبو إليه حينما انفجر السيد "فؤاد" هادرًا في تعصبٍ غاضب:
-تبعت تقوله يجي فورًا هنا، يسيب أي حاجة عنده ويرجع.
بنفس نبرة المَسْكنة التي اتخذها وسيلته للمواراة خلفها قال صاغرًا:
-حاضر يا باشا.
تأمل الانفعال الذي أصبح عليه، فأطرق رأسه، وتابع في خبثٍ ليزيد من شحنه ضده:
-أنا مكونتش عاوز أعرفك يا بابا، بس حاجة زي دي مابتستخباش!
استثاره بأقواله اللئيمة، فهدر في تعصبٍ أكبر:
-اتهبل في مخه عشان يجيب حثالة من الشارع يعملها مراته؟!
رد عليه مستنكرًا، وليضمن ملء صدره بالأحقاد ضده:
-وكان عامل نفسه بينصحني وهو قاصد يرمي نفسه في الوحل.
استشاط غضبًا على غضب، وهدر يأمره بغير تهاونٍ:
-مش عاوز أسمع كلمة زيادة، تعمل اللي أمرتك بيه وخلاص.
هز رأيه معقبًا في صوت مطيع، وشيطانه يرقص طربًا بداخله:
-تمام يا "فؤاد" باشا.
.................................................
حسبما تراءى لها بعد استغراق عميق في التفكير، وهي تجلس في منزله أنها لم تتخذ أي احتياطات منذ اللحظة الأولى لتجنب الحمل منه، ومن المفترض أنها تعد العُدة الآن للتخلص منه، انقبض قلبها، وأخذت تلوم نفسها بتعنيفٍ غليظ وهي تضرب مقدمة جبينها:
-أنا إزاي مفكرتش في ده، لازمًا أعمل حسابي.
ارتعشت "تهاني"، ورأت كيف ترتجف أطرافها في خوف غريزي، دارت حول نفسها مرددة في تصميم مشوب بالقلق الشديد:
-بس محتاجة أتأكد الأول.
وضعت يديها المضمومتين إلى صدرها، شعرت بتسارع نبضات قلبها، حاولت السيطرة على مشاعرها المتذبذبة وهي تستمر في مخاطبة نفسها:
-ربنا يستر وما يحصلش اللي في بالي!
........................................
لتقطع الشك باليقين، كان أول ما قامت به فور عودتها لاستئناف العمل بنفس المشفى مع من تبغض، هو إجرائها لاختبار الحمل في سريةٍ تامة، لم تنكر أنها حاولت على مدار الأيام السابقة حينما كان يشرع في ممارسة طقوس الحب الحميمية معها تجنب الاتصال المباشر، لعلها بذلك تحد من شكوكها المرعبة، ومع ذلك بقيت هواجسها قائمة. استغلت وقت انشغاله في غرفة العمليات، بالذهاب إلى المعمل، وتولت بنفسها الأمر، ثم انتظرت بترقبٍ شديد النتائج.
للغرابة ظلت "تهاني" تتلقى التهنئات والمباركات ممن تعرفه وممن لا تعرفه في مكتبها، حتى أصبح ممتلئًا عن آخره بعشرات من باقات الورد، وهذا ما لم تتوقعه، خاصة مع اكتشافها لحقيقته المؤسفة، ظنت أنها ستكون نكرة بالنسبة له، لن يجعل أحدهم يعلم بمسألة ارتباطهما الرسمية، بدا من الصعب عليها فهم ما يخططه في رأسه، بقيت معظم الوقت شاردة، واجمة، في حالة من الخوف. لم تنصرف في وقت باكر، فقد أبلغها زوجها بمغادرته للقاء واحد من الوفود الطبية الأجنبية بأحد الفنادق، مما استحثها على البقاء، واكتشاف النتائج ليلًا.
أسرعت بالذهاب إلى المعمل حتى تتمكن من الإطلاع عليها، اتسعت عيناها في صدمة عظيمة وقد قرأت فحواها، دق قلبها بقوةٍ، وهتفت تكلم نفسها في ارتياعٍ:
-أكيد ده وهم، استحالة ...
تقطعت أنفاسها، وتلعثمت وهي تنهي عبارتها المنقوصة:
-أنا .. حامل!
انفلتت منها شهقة أقرب إلى الصراخ عندما التفَّ بغتة حول خصرها ذراعًا قوية، أحاطتها بتملك، وألصقتها في التو بصدر أحدهم، استدارت كالملسوعة للجانب بوجهها لتنظر إلى من ضمها هكذا، فوجدته "مهاب" بوجهه المبتسم في شرٍ صريح، اجتاحتها موجات من الخوف، والهلع، أحست بقدميها تتحولان لهلامٍ، وكأنها على وشك فقدان وعيها، برزت عيناها أكثر في محجريهما، وداهمها الفزع حينما أراح رأسه على كتفها ليخاطبها في صوتٍ شديد الهدوء لكنه باعث على الشعور بالهلاك الحتمي
-طب مش كنتي تقوليلي يا دكتورة عشان أبقى معاكي في اللحظة دي ....................
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(ندم)
المفاجأة غير المتوقعة جعلت تفكيرها يُشل للحظات، تداركت نفسها بعد هنيهة، واستلت نفسها من حضنه المطبق عليها، لتنظر إليه في ارتياعٍ غير مشكوك فيه. انتصب "مهاب" في وقفته السامقة يُطالعها بترقبٍ، ولم يقل شيئًا، كأنما ينتظر منها التأكيد على جملته الأخيرة، أحست "تهاني" حينها بأنها على وشك الانهيار عصبيًا من سكوته الذي يرعبها عن كلامه. تلجلجت وبررت له في صوت مرتعش:
-إنت فاهم غلط...
حاولت إخفاء النتائج خلف ظهرها وهي تواصل الكذب المكشوف:
-دي تحاليل واحدة زميلتي.
رفع حاجبه للأعلى متسائلًا باقتضاب مريب:
-بجد؟
أكدت له بهزات متتالية من رأسها وهي تطوي الورق لئلا يقرأ ما دُون فيه:
-أيوه.
زم فمه للحظةٍ، ثم دنا منها متسائلًا بهذه النبرة الغريبة:
-وإنتي بنفسك جاية تشوفيها؟
ابتلعت ريقًا غير موجودٍ في حلقها، وأخبرته برجفة بائنة في صوتها:
-دي خدمة ليها.
تقوست شفتاه عن ابتسامة ساخرة أتبعها قوله الهازئ:
-فعلًا قلبك حنين.
جاهدت لتبدو مقنعة وهي تظهر ضيقها من تهكمه:
-لو سمحت مافيش داعي للتريقة، أنا بشوف شغلي.
أولته ظهرها واتجهت للطاولة الموضوعة لتسحب بضعة ملفات، وضعتها فوق ورقة النتائج التي تخصها، لعل وعسى تنجح في إخفائها وسطهم، ثم خاطبته دون أن تنظر ناحيته:
-وبعدين أنا خلصت اللي ورايا، والوقت اتأخر، مش المفروض نمشي؟
أنهت عبارتها وهي تلتفت ناظرة إليه، فوجدته يرمقها بهذه النظرات الغامضة، ثم أومأ قائلًا باقتضابٍ:
-أكيد.
ومع ذلك ظل شعور الخوف مظللًا عليها، يشعرها بأنه يضمر لها شيئًا ضدها. أشار لها لتتبعه مكملاً في أدبٍ مريب:
-اتفضلي.
تحركت أمامه وهي شبه ترتجف، فنظرته التي صحبتها لم تكن مريحة بالمرة؛ لكنها توارت خلف قناع الجمود الذي وضعته على وجهها، محاولة ألا تظهر اضطرابها فيستغل هذه النقطة لصالحه، ويتحرى أكثر عما ظنت أنها نجحت في تخبئته.
............................................
تقمص روح الوداعة الممزوجة بالحماقة لتعتقد أن حيلتها الساذجة قد انطلت عليه، وأنه بالفعل صدق ما قالته بشأن نتائج تحاليل الحمل الخاصة بإحدى رفيقاتها في العمل، لم يكن على هذا القدر من الغباء لينخدع بسهولة، حافظ على صمته المشحون بالكثير طوال طريق عودتهما، لكن ما إن ولج الاثنان إلى داخل بيته حتى استوقفها بسؤاله الذي جعل كلها يرتج، تاركًا الباب مواربًا:
-رايحة فين؟
تجمدت في مكانها، ثم رفعت عينيها إلى وجهه خائفة وهي تسأله بترقبٍ مشوب بالارتباك:
-عاوز مني حاجة؟
ببطءٍ أهلك أعصابها تقدم في خطواته ناحيتها، حتى أصبح ما يفصل بينهما مسافة خطوة، دس يديه في جيبي بنطاله، وحدجها بنظرة قاسية، لا تنوي خيرًا، شعرت بها تنفذ داخلها، تعريها تمامًا. بهتت ملامحها عندما سألها في استعتاب حاد:
-مش عيب يا دكتورة لما تكدبي على جوزك وتستهوني بذكائه؟
اهتزت نظراتها وهي تردد في صيغة متسائلة:
-أنا؟
ارتفعت نبرته فجأة فبدا صوته كالهدير وهو يستطرد:
-إنتي مفكرة إن الكدبة الهبلة اللي قولتيها دي دخلت عليا وصدقتها؟
انتفضت مرتعشة أمامه، فأمسك بها من منبتي ذراعيها يهزها بعنف صائحًا بها:
-بتخبي عليا حملك؟
تلعثمت وهي تحاول تبرير موقفها:
-أنا آ...
قاطعها قبل أن تسترسل في كذبة جديدة بصوته العالي والمخيف، مواصلًا هزها بعصبيةٍ:
-إنتي موجودة معايا في المستشفي دي بالذات عشان تكوني تحت عيني طول الوقت.
برزت عيناها في اتساعٍ شديد، فأكمل باستهزاءٍ وهو يسدد لها نظرة احتقارية مهينة:
-فحاجة عبيطة زي دي مش هتعدي بالساهل!
سلاح المواجهة كان الشيء الوحيد المتاح لها لمقاومته، انتفضت مُبعدة قبضتيه عنها، وتراجعت للخلف مسافة خطوتين لتهدر به في انفعالٍ:
-وده هيفرق معاك في حاجة يا دكتور "مهاب" إني أكون حامل ولا لأ؟
نظر لها بعينين تشتعلان بشدة، فتابعت ما بدا بالهجوم اللفظي عليه:
-ماظنش إن حد بمستوى عيلتك الغنية يفكر إنه يخلف من واحدة زيي فقيرة، من حي شعبي، فمافيش داعي تكبر الحكاية وتعمله موضوع مهم.
استشاطت نظراته أكثر، ومع ذلك لم تكف عن إفراغ ما في جعبتها، صاحت معترفة له بلا احتراز:
-وأهو حصل وحملت منك...
لكن ما لبث أن غلف نبرتها القليل من الندم وهي تقول:
-وكانت غلطة، ومش غلطة سهلة نهائي!
حملق فيها بتحفزٍ، فاستمرت تضيف بعزمٍ مناقض لما كانت عليه قبل لحظة من شعور بالأسف:
-وهصلحها وأنزله.
أشار لها بسبابته مرددًا في نزعة تملكية متعنتة:
-برضوه القرار ده مش بمزاجك.
اندهشت من معارضته للأمر رغم يقينها أنه ضد مسألة الحمل برمتها، فكيف لشخص مثله أن ينجب طفلًا يصبح فيما بعد نسخة منه؟ ومنها هي تحديدًا؟ أهو يسخر منها أم يتعمد استفزازها لتخرج أسوأ ما فيها؟ تحيرت في أمره، وسألته بتشنجٍ:
-إنت عاوز مني إيه بالظبط؟
رؤيتها تثور تستحث فيه هذه النزعة المتأصلة في أعماقه بضبط تمردها، بإخماد مقاومتها، بفرض طغيانه عليها، نظر لها مليًا وهي تصيح أكثر:
-قولتلك طلقني وسبني لحال سبيلي.
امتدت يده فجأة لتقبض على فكها، أسره بين أصابعه قائلًا باستمتاعٍ مغيظٍ لها:
-لسه مزهقتش منك!
ضربت قبضته بعنف لتتمكن من تخليص فكها، ثم منحته هذه النظرة الاحتقارية وهي تخاطبه في حدة متزايدة:
-تصدق، إنت لو آخر راجل في الكون، فأنا مش هخلف منك مهما حصل.
ثم هرولت مبتعدة عنه، وراحت تكور قبضتيها لتلكم بها أسفل معدتها بلكمات متعاقبة في عنف مختلط بالعصبية، وصراخها يتضاعف:
-أهوو .. أهوو، مش عاوزة أفضل معاك.
تفاجأ بما تفعله، واندفع تجاهها دون لتفكير ليمسك بها من معصميها صائحًا في استنكارٍ جلي:
-إنتي اتجننتي؟
ردت عليه بهديرٍ صارخ وهي تتلوى بكامل جسدها لتتخلص منه:
-الجنان هو إني أفضل عايشة مع واحد زيك.
استحقرته بنظرتها قبل أن تواصل إخباره بما أطبق على صدرها، وفاض من قلبها:
-عملت إيه في دنيتي عشان ربنا يبتليني بحد زيك؟
اشتعل وجهه من اعترافاتها المتوالية على رأسه، ومع ذلك تعامل معها بهدوءٍ، واستمر في تقييده لها، مانعًا إياها من إيذاء ما تحمله في أحشائها. استاءت من تحجيمه لها، من وأده لأي مقاومة تبديها، فلم يبقَ لها إلا الصراخ اليائس، لذا أخذت تنعته بالوصف الملائم له:
-إنت شيطان.
أدارها في لمح البصر وألصقها بظهره، ثم لف ذراعيها حولها، وأحكم تشديد قبضتيه القويتين عليها، لتصبح أكثر عجزًا عن التحرر منه، مما استثار أعصابها على الأخير، وجعلها في أوج ثورتها الانفعالية.
.....................................
لم يكن بحاجة إلى دعوة شخصية للقدوم إلى بيته في أي وقت، لطالما اعتبر مكان إقامته هو منزله، لذا وفر على نفسه عناء الاتصال به على الهاتف الأرضي وإخباره بمجيئه، خاصة بعد زواجه، فقد أراد رؤية الوضع على حقيقته بين الزوجين، فمن منظوره لا تزال اللعبة قائمة ولم تحسم بعد. عليه فقط أن يتحين اللحظة المناسبة للانقضاض عليها واقتناصها. ما إن صفَّ سيارته بالخارج حتى وصل إليه ضجيج متداخل لشجار ناشب بين الاثنين، أسرع في خطاه دافعًا الباب الذي كان لا يزال مفتوحًا بيده، اقتحم البهو متسائلًا في استنكارٍ:
-في إيه يا "مهاب"؟ صوتكم جايب لبرا.
أبصره وهو مقيد لزوجته بكلتا يديه، فخطا تجاهه مسلطًا نظره بالكامل على "تهاني" التي لم تكف عن الصراخ الهائج:
-ابعد عني بقى.
اهتاجت وخرجت عن السيطرة بارتفاع نبرتها المتشنجة:
-حــــــرام عليك، أنا تعبت، عاوز إيه مني؟
كما بلغت ثورة غضبها العنان، راحت تخمد مرة واحدة بشكلٍ يدعو للقلق والخوف، غشيت فجأة، وفقدت وعيها ودموعها لا تزال مسالة على وجهها، شعر "مهاب" بتراخي جسدها وثقلها عليه، للحظة شعر بالتعاطف معها، وهتف يناديها:
-"تهاني"!
بحذرٍ وحرص قام بحملها بين ذراعيه متجهَا بها إلى غرفته، ومن ورائه "ممدوح" يسأله مستفهمًا:
-إنت عملت فيها إيه؟
أجاب بوجه مكفهر:
-ولا حاجة.
علق عليه بجديةٍ:
-أظن إنك وصلتها لانهيار عصبي.
لم يبدُ مستعدًا لسماع سخافاته، وزوجته تعاني من تبعات نوبة انفعال عنيفة، مددها على فراشه بتريثٍ، فسحب "ممدوح" الغطاء ليساعده في تغطيتها بعدما ضبط لها الوسادة لتسند رأسها عليه. وقف كلاهما يتطلعان إليها بنظرات جمعت بين الحيرة والتوتر. مرر "ممدوح" يده بين خصلات شعره مقترحًا:
-الأفضل إننا نحاول نشوفلها حاجة مهدئة.
اعترض عليه في تجهمٍ:
-مش هينفع.
سأله بابتسامةٍ ساخطة:
-مستخسر فيها العلاج؟ مش للدرجادي يا دكتور.
رمقه بهذه النظرة المستهجنة قبل أن يقول بتردد ملحوظ:
-لأ .. بس آ..
أبدى "ممدوح" اهتمامه الكامل لسماعه، فصدمه بما لم يطرأ على باله:
-"تهاني" طلعت حامل.
بهتت ملامحه تمامًا وهو يعلق في ذهول شديد:
-بتقول إيه؟
..........................................
كان بحاجة للخروج من البيت بعدما أزعجه هذا الشعور باحتمالية خسارة شيء يخصه، رغم عدم امتلاكه فعليًا له؛ لكنه يعود إليه، أصله منسوب منه. ترك "مهاب" زوجته الغافلة في رعاية ممرضة مسئولة عنها، بالإضافة إلى خادمة لتولي شئونها، جلس كعادته في واحدٍ من المطاعم الراقية بصحبة رفيقه الذي لم يكف عن معرفة تفاصيل ما غاب عنه، فمنحه ما يريد وأفضى له بكل شيء، وكأنه يزيح بذلك هذا الثقل الجاثم على صدره. طالعه "ممدوح" بنظرات عادية قبل أن يجود عليه بما اعتبرها نصيحته الثمينة:
-وإيه المشكلة إنها تكون حامل؟ سهل جدًا تنزله.
غامت ملامحه، وأظلمت نظراته في احتجاجٍ صامت على اقتراحه غير المبالي، بينما استمر "ممدوح" في كلامه وهو يتفرس بتدقيق معني في أدنى تغيير يطرأ على صديقه؛ كأنما يتأكد من شيء بعينه جعل الشكوك تبزغ بداخله:
-مش حاجة مهمة تخاف منها.
هتف ضاربًا بيده السطح الزجاجي للطاولة معترضًا عليه:
-أنا اللي أقرر!
استغرب من تحيزه معقبًا بتشكيكٍ متزايد:
-ما إنت ياما نمت مع ستات كتير.
رد عليه في صوتٍ أجش:
-بس دي مراتي.
جاء تعليقه باردًا للغاية:
-ورقة سهل تتلغى في أي لحظة.
ازدادت تعابيره سوادًا، فأيقن أنه على وشك التأكد مما يشك فيه، لهذا لم يطل في المماطلة، وسأله مباشرة ليعرف نواياه ناحيتها:
-ولا إنت عاوزها تكمل حمل؟
راوغه في الرد، وقال بتشديدٍ وهو يشير له بإصبعه:
-بعدين هشوف، بس دلوقتي أنا عاوزك تاخد بالك منها وتراقبها الفترة اللي أنا مسافر فيها، اعرفي دماغها فيها إيه.
بالرغم من المساوئ المشتركة لكليهما، إلا أن رابط صداقتهما لم يتزعزع، فوثق فيه "مهاب" دونًا عن غيره ليكلفه بهذا الأمر العجيب الذي يلغي أي حدود في العلاقات الأسرية ذات الطابع الخصوصي وكأنه أمر متاح وعادي. قطب "ممدوح" جبينه متسائلًا بفضولٍ قليل:
-رايح فين؟
بعد زفرة سريعة جاوبه:
-"فؤاد" باشا باعتلي، واضح كده إنه شم خبر بجوازي من "تهاني".
ضحك في مرح قبل أن يشير بيده معتذرًا ليخبره:
-قوله بتسلى شوية.
لم يبدُ مسترخيًا في جلسته حين قال:
-أنا عارف هتصرف معاه إزاي!
عادت نظراته لتشرد قبل أن يهمهم بقلقٍ غريب:
-بس اللي شاغل دماغي "تهاني"، مش عاوزها تنزل الجنين.
تعجب أكثر لأحواله المتبدلة، وأردف محاولًا فهم ما يدور في رأسه:
-أنا مستغربك بصراحة، لو كانت واحدة تانية مكانها كنت أجبرتها تجهض.
أعاد صياغة ما قاله مؤكدًا له:
-بالظبط، أنا اللي أتحكم فيها، مش العكس!
ما زال أمره يُحيره، وجملته الأخيرة مجرد ستار زائف لإخفاء ما لا يريد البوح به، أوهمه أنه اقتنع بما أفصح عنه، وردد في ترحيبٍ:
-متقلقش، أنا موجود وهسد مكانك.
..............................................
تسليتها المتاحة كانت في تمضية نهارها بقضاء العالق من المشاوير، وتبادل الأحاديث العابرة مع الجيران، وصل بها المطاف بعد جولة لا بأس بها بالسوق إلى الجمعية الاستهلاكية، فوقفت بالصف، وانتظرت دورها بصبرٍ طويل، في البداية لم تعبأ "أفكار" بالثرثرة النسائية المحيطة بها، إلى أن قامت اثنتان بالحديث عن أمرٍ بعينه، شعرت في قرارة نفسها أنه يخص ابنة شقيقتها، أرهفت السمع لإحداهما وهي تسترسل بوقاحةٍ:
-يا ختي بيقولوا شيلوا أخوه الليلة لأنهم ماشيين مع بعض في الحرام.
ردت عليها الأخرى في نبرة مستنكرة:
-يادي الحوسة.
انقبض قلب "أفكار" في توجسٍ مرتاع، وحاولت قدر المستطاع ألا تعلق بشيء، بينما أضافت الأولى من جديد في استحقارٍ، كأنما تتعمد إثارة البلبلة والمزيد من اللغط بنشر الأكاذيب غير الحقيقية:
-ولما الحكاية اتكشفت حاولوا يلموها.
مصمصت الثانية شفتيها مرددة في استهجانٍ مشمئز:
-الله يسترها على ولايانا.
أضافت المرأة الأولى مرة ثانية في شيء من الإهانة المتعمدة، قاصدة بذلك أن تُسمع "أفكار" ذلك الكلام اللئيم:
-ناس بجحة وعينها قادرة.
ردت عليها الأخرى تؤيدها:
-على رأيك، الناس دول الشرف عندهم مايسواش نكلة!
صرت "أفكار" على أسنانها في غيظٍ، وتوعدتهما في سرها:
-آخ يا ولاد الـ (...)، بكرة تندموا على كلامكم الـ (...) ده!!
..............................................
حينما استعادت وعيها كانت تشعر وكأن عشرات المطارق تدق في رأسها، تأوهت من الألم الذي ما زال مصاحبًا لها، أحست بإجهاد غريب ينتشر في كامل جسدها، وكأنها قد بذلت مجهودًا عجيبًا فاق طاقتها بكثير. نهضت "تهاني" عن الفراش بعدما ألقت نظرة متأنية مصحوبة بالدهشة لمحتوياتها، أدركت أنها لم تكن ماكثة بغرفتها، وإنما بحجرة هذا الوضيع الذي يتلذذ بإيذائها معنويًا ونفسيًا. خرجت منها في الحال قاصدة الاتجاه إلى غرفتها؛ لكن استوقفها وجود هذا الضيف الغريب الماكث بالردهة، وكأنه صاحب مكان. استنكرت تواجده، وسألته وهي تضبط بيديها شعرها المهوش، وثيابها غير المهندمة:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
ترك المجلة التي كان يطالعها جانبًا، ثم نهض واقفًا ليلقي عليها التحية متمتمًا بوديةٍ واضحة:
-حمدلله على سلامتك يا دكتورة.
كانت غير راضية عن أريحيته المتجاوزة معها، فتساءلت في تحفزٍ متجاهلة مظهرها غير اللائق لاستقباله:
-فين "مهاب"؟
أجابها ببساطةٍ وهو يدنو منها:
-سافر.
زوت ما بين حاجبيها مرددة باستغرابٍ يشوبه الاستنكار:
-سافر؟
هز رأسه مؤكدًا عليها ما سمعته منه، سرعان ما انفعلت هاتفة في صوتٍ أقرب للصراخ:
-أه طبعًا، ما أنا وجودي زي عدمه، هفرق معاه في إيه؟
في التو جاءت الممرضة من الداخل تطلب منها، وهي تمد ذراعها ناحيتها:
-دكتورة "تهاني"، من فضلك اهدي، أنا التعليمات آ...
قاطعتها في عصبية:
-مش عايزة حد يقرب مني.
تدخل "ممدوح" قائلًا في روية، وقد أشار للممرضة ليصرفها:
-مافيش داعي للزعيق، احنا عاوزين تكوني هادية عشان صحتك...
استجابت له الممرضة في طاعة، وغادرت، فأتم "ممدوح" جملته بترقبٍ:
-وصحة اللي في بطنك.
تلقائيًا وضعت يدها على أسفل معدتها تتحسسها بارتعاشٍ، ثم صرخت في نفورٍ، وقد أبعدت يدها في الحال:
-أنا مش عاوزة حاجة تربطني بيه، هنزله.
بنفس أسلوبه السهل اللين تقدم ناحيتها أكثر، ثم رفع كفه أمام وجهها قائلًا بتفهمٍ:
-اللي إنتي عاوزاه هيتعمل، بس بالهدوء مش بالعصبية.
حدجته بهذه النظرة القاتمة، قبل أن تسأله في نبرة تلومه:
-كنت عارف إنه كده؟
تنحنح مرددًا بجديةٍ شابت نبرته:
-أنا حاولت أحذرك.
تذكرت هذا اللقاء معه في القارب المستأجر، فضربت جبينها بيدها هاتفة في ندمٍ:
-وأنا زي الغبية مشيت ورا الأوهام.
عندما استبد بها غضبها، انعكس تأثيره السلبي عليها، أحست بقليلٍ من الدوار يصيبها، فسارت نحو أقرب أريكة، وارتمت عليها، تجمعت الدموع في عينيها وهي تسترسل بلا توقف:
-افتكرت إنها فرصة العمر لما أتجوز واحد زيه، عنده اسمه وشهرته، وعيلة كبيرة، كنت بضحك على نفسي وآ...
جلس مجاورًا لها، وقاطعها في تريثٍ:
-تسمحيلي أخدك أخرجك برا شوية تغيري جو.
استغربت من اقتراحه المريب، ورفضته في صوت مستهجن:
-مش عاوزة.
أوشك "ممدوح" أن يراهن نفسه بقدرته على ترجيح كفة الميزان لصالحه، وكسب ثقة "تهاني" دون عناء، فقط إن أشعرها أنه الشخص الجدير بذلك، عليه فقط أن يتعامل معها بالحيلة والدهاء. في وداعة محفورة على ملامحه، مال عليها هامسًا في خبثٍ:
-صدقيني ده هيفيدك، وفرصة تتكلمي وتطلعي اللي جواكي من غير ما حد يراقبك.
رمقته بنظرة مستريبة، فألح عليها بتصميمٍ:
-من فضلك.
...................................................
كالأفعى المجلجلة راح يفح سمومه في أذنيه بقدرٍ معقول، كلما سنحت له الفرصة بذلك، ليوغر صدره أكثر ضده، ويجعله ينقلب عليه، فلا يتخذ صفه مثلما كان يفعل قبل وقتٍ سابق، وبالتالي يظفر هو بالمكانة التي حُرم منها طوال سنوات تفانيه في العمل. تأهب "سامي" في وقفته، وقال بعدما وضع سماعة الهاتف الأرضي في مكانها مخاطبًا والده باحترامٍ:
-السكرتارية بلغوني إن "مهاب" وصل الشركة يا باشا.
دعك السيد "فؤاد" صدره الذي كان يشعر فيه بوخزاتٍ متفرقة، وهتف بعبوسٍ:
-كويس، عشان أحاسبه على اللي عمله.
ابتسم من ورائه في نشوة عارمة، وظل يردد عليه، وعيناه تعبران عن كراهية مختلطة بالشماتة:
-لازم يعرف يا باشا إن عيلة "الجندي" فوق أي حد.
لم ينظر الأخير إليه، كان مهمومًا بالأخبار غير السارة التي صدمته عن ابنه الذي ظن أنه سيخلفه في كل شيء، ضاعف "سامي" من وتيرة شحنه، ورفع غليل دمائه مضيفًا ببغضٍ صريح:
-وإنه مش بالساهل هتسامحه، ده مش بس أساء لاسم العيلة، ده لحضرتك كمان.
مقاومة هذا الألم الحاد كان مستحيلًا، شعر السيد "فؤاد" وكأن هناك من يحز ضلوعه بسنون خناجره الحامية. تشنج في جلسته، وتقلصت يده الموضوعة على صدره، في نفس اللحظة التي ولج فيها "مهاب" إلى داخل مكتبه ليستطرد ملقيًا التحية عليه بتفخيمٍ:
-"فؤاد" باشا!
صاح به "سامي" مهاجمًا إياه بغيظٍ:
-وليك عين تتكلم ولا كأنك عملت حاجة؟!!
رغم الكدر الظاهر في وجهه إلا أنه لم يرفع من نبرته عندما أخبره بتحقيرٍ:
-كلامي مش معاك إنت.
انفلتت صرخة موجوعة من والدهما، أتبعها ذلك النهجان العسير في صدره. اندفع "مهاب" تجاهه هاتفًا في لوعةٍ قلقة:
-بابا.
قال السيد "فؤاد" بصعوبة، وهو يضغط بقبضته المتشنجة على صدره:
-قلبي.
سأله "سامي" في جزعٍ عظيم:
-إيه اللي حصلك يا باشا؟
كان على وشك هزه لولا أن أمره "مهاب" بصرامةٍ قبل أن يدفعه للخلف:
-ماتحركوش، واطلب الإسعاف بسرعة!
نظر له في ضيقٍ، فلكزه بخشونة في صدره ليأمره بهذه النبرة غير الممازحة:
-إنت لسه واقف، يالا أوام.
اضطر على مضضٍ أن يخرج من المكتب مسرعًا تلبية لأمره، بينما بقي "مهاب" ملازمًا لأبيه وهو يحاول طمأنته في جديةٍ:
-اهدى يا بابا، أنا موجود جمبك، متخافش، أزمة وهتعدي.
...........................................
بغير همةٍ أو اهتمام جلست معه، لا تنظر تجاهه، وتطلعت بنظرات شاردة لأفق لا يراه أحد سواها، سيطر عليها ذلك الإحساس المؤنب بأن مجازفتها كانت في غير محلها، بأن من اختارته لم يستحقها، وأنها جنت فقط نتائج اختيارها السيء. كان في رأسها حوار لا ينقطع، ولا يشاركها فيه أي شخص. كانت "تهاني" بين الحين والآخر تنظر إليه بهذه النظرة الحزينة، فحاول "ممدوح" جرها لتبادل الحديث معه، وقال بلطافةٍ:
-اللمون هنا ممتاز.
أبقت على جمودها، فأضاف ضاحكًا:
-منعش، جربيه مش هتندمي.
كان حائرًا في أمرها، وسعى بشتى الطرق لجذب انتباهها، فلم يكن أمامه سوى التطرق لسيرته المزعجة، وبالفعل تيقظت حواسها عندما تكلم بجديةٍ طفيفة:
-أنا عاوزك ما تشليش هم حاجة، ومتقلقيش من "مهاب"، هو بس متمسك بيكي عشانه متعود إن محدش بيقوله لأ.
ضيقت عينيها إلى حدٍ ما، فابتسم في داخله لأنه نجح في إثاره اهتمامها، ارتشف القليل من مشروبه، وتابع:
-اعملي اللي عاوزه وهتخلصي منه بسرعة.
تحول وجهها إلى ناحية أخرى بعيدة عنه، وصوتها المهموم يردد في خفوتٍ:
-يا ريت.
مجددًا استثار حفيظتها عندما تكلم بنزقٍ، وبلا احتراز:
-بس تعرفي، أنا المفروض أشكره إنه خلاكي تثقي فيا.
حدجته بهذه النظرة المُعادية، فقال مُلطفًا الأجواء، لئلا يفسد فرصته السانحة معها:
-مش عاوزك تفهميني غلط، أنا حابب أكون في منزله الصديق ليكي.
صاحت في حديةٍ:
-أنا معنتش بثق في حد.
قال مؤكدًا لها، ونظرة خبيثة تتراءى في عينيه:
-وأنا غير "مهاب"، وبكرة الأيام هتثبتلك ده.
..........................................
نقلت إليها الصورة السائدة بين عموم الناس في المنطقة الشعبية وما يتم تداوله على هيئة شائعات مغرضة، غرضها فقط تشويه سمعة هذه المسكينة من لا شيء، وكأن الجميع قد تكالبوا ضمنيًا على طحن ما تبقى من مشاعرها المحطمة بالمزيد من الإساءات الوضيعة إليها. لطمت "عقيلة" على خدها، وهمست في حسرة، وتعابير وجهها تؤكد هلعها:
-طب هنتصرف إزاي؟
بنفس الصوت الخفيض ردت عليها، وعيناها توحيان بشيء خطير:
-هو حل واحد وبس، مقدمناش غيره!
نظرت لها مستفهمة بعينيها، فتابعت بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا، لكونها تعلم أن ذلك الأمر حساسًا للغاية:
-دخلة بلدي.
وقتئذ انفلتت منها شهقة مستنكرة، ورددت في رفضٍ مستنكر:
-يادي الفضايح! إيه الكلام ده؟
أخبرتها بتصميمٍ، وكأنه لا يوجد حل سواه:
-احنا معندناش اللي نخاف منه، بنتنا أشرف من الشرف، بس الناس ليها الظاهر.
هوى قلبها في قدميها، وأحست بتلاحق أنفاسها، اختطفت "عقيلة" نظرة سريعة نحو المطبخ، لتتأكد من عدم سماع ابنتها لهذا الأمر المخجل بشدة، ثم تساءلت في اضطرابٍ شديد:
-و"فردوس" هتقبل بكده؟
بلا تعاطفٍ قالت:
-غصب عنها لازمًا توافق!
بتحسرٍ متألم لطمت "عقيلة" هذه المرة على صدرها، وهتفت في فزعٍ:
-دي ممكن ترفض الجوازة أصلًا وآ...
لم تدعها شقيقتها تكمل جملتها للنهاية، حيث قاطعتها مشددة عليها:
-احنا مش هنجيبلها سيرة، هنخليها لوقتها.
نظرت لها بغير اقتناعٍ، فتابعت:
-وبكده نبقى خرسنا كل الألسن اللي بتتكلم، وعلى عينك يا تاجر.
كادت أن تفوه بشيءٍ فأخرستها في التو بجملتها الحذرة، وقد لمحت "فردوس" خارجة من المطبخ وهي تحمل في يدها طست الغسيل:
-ششش، لأحسن بنتك جاية.
عمَّ الصمت المريب بينهما، فشعرت "فردوس" بوجود خطب ما، بشيء يدور في الخفاء ربما له علاقها بها، خاصة مع نظراتهما الغريبة ناحيتها، وجهت سؤالها لوالدتها في استفسارٍ حائر، لعلها تخبرها بما ترتاب فيه:
-في حاجة يامه؟
اضطربت كليًا، ونظرت لشقيقتها في توترٍ، ثم تصنعت الابتسام وردت بصوتٍ مرتجف:
-لأ يا ضنايا.
همت بالتحرك وهي تتساءل:
-طب عاوزيني أعملكم شاي بعد ما أخلص نشر الغسيل؟
أجابتها خالتها بترحابٍ:
-أه يا ريت.
هزت رأسها بالإيجاب قبل أن تتابع المشي نحو الشرفة، وهي تخاطب نفسها في تحيرٍ يُخالطه الشك المستريب:
-بيتودودا في إيه دول يا ترى ......
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(حيرة)
كل ما سيطر عليها في لقائها المنفرد به بالقرب من مقر عمله هو التأكد من إقناعه بالموافقة على ما قررته بشأن ابنة شقيقتها، غير مبالية بجريرة ما ستتعرض له هذه المضطهدة على نفسيتها، المهم ألا تمس سمعة العائلة بسوء. أصرت "أفكار" على المجيء بمفردها، فإذ ربما مع الضغط والحرج تتراجع شقيقتها، وتصبح في موقف عسير، لذا تجنبت كل ما قد يفسد خطتها، وأطلعته عليه كأنها مسألة عادية مفروغ النقاش فيها! لولا كونهما في الشارع، وحولهما عموم الناس لصرخ "عوض" استنكارًا وتنديدًا على ما أفصحت به. اشتعل وجهه بحمرة الغضب، ورمقها بنظرة حادة مدمدمًا في استهجانٍ متعاظم:
-إيه الكلام ده يا خالة؟!!
ببرودٍ مناقض له أخبرته بلهجة الذي يقرر مصائر البشر:
-ده اللي المفروض يتعمل.
أبدى رأيه صراحةً، ودون رهبة منها:
-أنا مش موافق عليه...
حدجته بنظرة منتقدة له، فتابع مشددًا بنفس الاستهجان:
-ده ما يرضيش ربنا نهائي.
خشيت أن يزيد إلحاحها من عِناده، فحاول اللجوء لحيلة المسكنة، فخاطبته في صوت هادئ، على أمل أن تمتص غضبته المندلعة:
-بس الناس آ...
استفزته بكلامها الأخير، فقاطعها قبل أن تنهي ما بدأته:
-وأنا مالي ومال الناس، بقى عاوزاني أغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
ضغطت على شفتيها في امتعاضٍ، فسألها في شيءٍ من الاستعطاف:
-والغلبانة دي ذنبها إيه تتعرض لحاجة زي كده؟
زرَّت عينيها بتدقيقٍ، فتابع على نفس النبرة المتسائلة في حمئةٍ:
-وهي أصلًا موافقة على ده؟
هتفت فيه بهجومٍ:
-الذنب من الأول ذنب أخوك، واحنا بنحاول نلم الدنيا.
أحس بموجاتٍ من الضيق تغمره، فهي لم تخطئ في إلقاء اللوم على عائلته، ابتلع غصة مريرة في حلقه، وظل مركزًا نظره معها وهي لا تزال تكلمه:
-ومتقلقش، احنا مطمنين من بنتنا، بس يهمنا سمعتنا وشرفنا قصاد الغُرب.
جاهد لإثنائها على رأيها، فاستطرد بزفيرٍ محموم:
-يا خالة آ....
إيجاد المبررات والأعذار، والتعلل بأي حجج لم يكن مطروحًا في قاموسها، لذا رفضت الإنصات إليه، وقاطعته حاسمة الأمر:
-شوف من الآخر كده، اللي قولتلك هيتعمل، سواء كنت موافق عليه ولا لأ!
اتسعت عيناه حنقًا، فغضت بصرها عنه، وأولته ظهرها استعدادًا لذهابها قائلة بجمودٍ:
-مش هعطلك أكتر من كده، فوتك بعافية!
بقي في مكانه متسمرًا، مستهجنًا لكل ما يدور، ضرب كفه بالآخر، وراح يخاطب نفسه في حزنٍ متزايد:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني مش كفاية اللي حصلها سابق، نيجي نكمل على الباقي فيها؟!
حرك رأسه يمينًا ويسارًا، وتابع في أسى بعدما اختفت من أمامه تمامًا:
-لطفك بينا يا رب!
...........................................
لم يتوقف عن هز ساقه في توترٍ مشوب بالعصبية وهو يجلس بالخارج على المقعد المعدني في الردهة الخاصة بهذا المشفى الاستثماري الشهير. رفع يده أعلى رأسه، ثم خفضها قليلًا ليفرك مؤخرة عنقه وهو لا يصدق ما حدث في دقائق، وكأن الحظ يُعانده ويعطيه فقط أسوأ ما لديه، كان على وشك الظفر بمكانة لا تقدر عند أبيه، وحينئذ كان سيحظى بكل ما تمناه لنفسه، الاهتمام، الاحترام، اعتلاء عرش العائلة المهيب؛ لكن ضاعت أحلامه في لمح البصر وتحولت لهباءٍ منثور. حرر "سامي" زفرة ثقيلة معبأة بالحقد من رئتيه، وأراح ظهره للخلف مرددًا في جنبات أعماقه:
-مكانش على البال إن "فؤاد" باشا يدخل يعمل عملية قلب!
عكس وجهه ما تخفيه نفسه، فبدا كظيمًا، ومغلولًا، وهو ما زال مستغرقًا في تفكيره. ظل يكرر في غيظٍ حانق:
-لأ، ومين اللي يبقى واقف مع طقم الدكاترة اللي جوا.. "مهاب" بنفسه!
كز على أسنانه مُطلقًا سبَّة خافتة قبل أن يتكلم بصوتٍ خافت:
-مش لو كان اتأخر شوية كنت آ...
لم يستطع إتمام جملته من شدة غيظه، وتساءل بملامح غائمة للغاية:
-طب أعمل إيه تاني عشان مايشوفش إلا أنا؟!!
توقف عن تفكيره التحليلي عندما وجد الباب الخاص بالتوجه لغرفة العمليات يُفتح، هبَّ واقفًا، واتجه إلى شقيقه الذي أطل عليه منه، رمقه بهذه النظرة الحائرة المتسائلة، فتولى "مهاب" الكلام باسمًا في حبورٍ:
-الحمدلله العملية عدت على خير، شوية وهيتنقل العناية المركزة.
وكأنه لم يسمع ما قاله، هاجمه دون مبرر، بصوتٍ حاد ومرتفع:
-لو جراله حاجة هتكون إنت السبب.
سدد له "مهاب" هذه النظرة المستخفة، تركه يظن أنه المسيطر على الوضع، إلى أن أخرسه بتعقيبه الصادم:
-وإنت نفسك تخلص منه عشان تورث الإمبراطورية، مش كده يا "سامي"؟
ارتفع حاجباه للأعلى، ونظر له مذهولًا للحظة، هربت الدماء من وجهه، وبدا مهتزًا وهو يرد مدافعًا عن اتهامه الواضح:
-إنت بتقول إيه؟
بنفس النبرة الهادئة، والملامح المستكينة، أخبره مؤكدًا:
-أنا أكتر حد فاهمك، إنت زي الكتاب المفتوح قدامي!
ثم ربت على كتفه قائلًا بصوتٍ هازئ يحمل الإهانة في طياته:
-ومش عاوزك تشيل هم إني هاخد مكانك، لأني مش زيك أبدًا...
اشتدت قسمات شقيقه الأكبر، وحدجه في نظرة قلقة سرعان ما تحولت للغيظ الشديد عندما أكمل بإهانةٍ صريحة:
-تابع، مستني اللي يديني الأوامر!
وكأنه سكب فوق رأسه دلوًا من الماء المثلج، انتفض ثائرًا في وجهه، محاولًا لملمة ما تبعثر من كرامته المهانة:
-لو بابا جراله حاجة هخليك تندم، سامع!!!
مجددًا ربت "مهاب" على كتفه قائلًا بشبه ابتسامة:
-مش هتقدر تعملي حاجة.
اشتاط غضبًا على غضب، وأطلق صيحة هادرة فيه:
-إنت متعرفنيش كويس يا "مهاب".
تقدم منه شقيقه، ومال عليه مُحدثًا إياه في أذنه بنبرة جمعت بين السخرية والصرامة:
-بلاش تزعق، إنت هنا في مستشفى، وده بيقل منك يا كبير العيلة.
احتقنت نظرات "سامي" أكثر، فما كان من شقيقه الأصغر إلى أن تركه يغلي في مكانه حقدًا، واستدار مبتعدًا عنه، كور الأول قبضته متوعدًا:
-هنشوف، مين هيضحك في الآخر!
.................................................
حاصر الهم ملامحها، فكانت مكللة بأحزانها، ولما لا تستاء وشقيقتها قد طلبت منها فعل ما تعجز عن البوح به لابنتها؟ ظلت "عقيلة" تتحاشى الجلوس بمفردها معها، لئلا تضطر لإخبارها بما قررته خالتها بالنيابة عنها في ليلة زفافها، مما دفع "فردوس" للاسترابة في أمرها، فوالدتها كانت غريبة التصرفات مؤخرًا. لم تترك عقلها لخواطرها المحيرات، واستطردت تسألها في جديةٍ حينما كانت منزوية بالشرفة:
-يامه إنتي بقالك كام يوم متغيرة، في حاجة حصلت؟
اضطربت، وارتبكت، واعتلى وجهها القلق، في التو أنكرت ما يشغل تفكيرها مرددة:
-لأ يا "دوسة"، كله تمام.
ومع ذلك لم تشعر بالارتياح، ما زال هناك ما يؤرق والدتها، وهذا الشيء كان جليًا في نظراتها الآسفة نحوها. صممت عليها دون اقتناعٍ:
-أومال أنا حاسة ليه إنك مخبية عني حاجة.
اهتزت نظراتها إليها، وبدا وكأن الدموع تشق طريقها إلى عينيها، استشعرت "فردوس" الخطر، وسألتها في شكٍ:
-"عوض" مش عاوز يكمل الجوازة؟ مغصوب عليها زي أخوه؟
شهقت صغيرة خرجت من بين شفتيها، ثم هتفت نافية ذلك في الحال:
-وربنا ما حصل.
سألتها في إلحاحٍ مستنكر:
-طب في إيه؟
ادعت رغم نبرة الصدق الظاهرة في صوتها:
-زعلانة إنك هتفارقيني زي أختك، بقالها أد كده لا حس ولا خبر منها، ربنا يهدي سرها.
أكدت لها بلا تفكيرٍ، وقد التمعت عيناها بالدموع المتأثرة:
-أنا هفضل جمبك، ويوم والتاني هتلاقيني عندك.
شاركتها في إحساسها المرهف، وقالت وهي تسحبها لتضمها إليها في صدرها:
-تعيشي يا ضنايا.
.................................................
طمس الوقائع، وما على هذه الشاكلة، لم يؤثر على الحقيقة الجلية بأن الحياة معه لن تكون إلا جحيمًا ممتدًا، وهي لا تتحمل ذلك أبدًا، في لحظة بعينها ستنهار، وقد تفعل ما لا يُحمد عقباه. مرة ثانية استغربت "تهاني" من مجيء "ممدوح" لزيارتها؛ لكنها لم تكن كالسابق في وضعٍ مهمل ومزري، بدت هادئة أكثر، وأنيقة. استقبلته في الصالون برسميةٍ وجمود، ومع ذلك بدا شديد الأريحية معها، انتظرت ذهاب الخادمة لتسأله دون استهلالٍ:
-ممكن أعرف سبب إنك موجود هنا تاني؟
نظر لها مليًا، بعينين تتفرسان فيها بتدقيقٍ، وهو يغوص بجسده في الأريكة، فأكملت بنبرة متهكمة ومغلفة بالمرارة:
-أنا دلوقتي أحسن، مافيش خوف مني.
حمحم قائلًا بهدوء، وعيناه مرتكزان عليها تمامًا، ليرى ردة فعلها:
-دي وصية "مهاب"!
سألته في تحفزٍ مصحوب بالضيق:
-ليه؟ معينك الحارس الخاص؟
استمتع برؤيتها تبدي التعبير الذي أراده، ثم أجابها باسمًا، وهو يرفع حاجبه للأعلى قليلًا:
-ممكن تقولي حاجة زي كده، ولو إني أفضل إنك تعتبريني ملاكك الحارس!
كررت كلمته الأخيرة في استنكارٍ:
-ملاك؟
هز رأسه إيجابًا، فأخبرته بتهكمٍ ممزوجٍ بالإهانة:
-أنا مشوفتش هنا إلا شياطين وبس!!
وكأنها أعطتهما الوصف الملائم لشخصيهما الوضيعين، فسألها متغاضيًا عما فاهت به:
-سيبك من ده وقوليلي عاملة إيه دلوقتي؟
أغمضت عينيها للحظةٍ، وأجابتها في صوتٍ شبه حزين وآسف:
-زي ما أنا، خسرت أحلامي، وبقيت محبوسة هنا بين أربع حيطان.
ساد وجهه علامات المكر، وسألها في تعاطف خبيث:
-ليه بس؟ ما إنتي تقدري تخرجي وتروحي أي مكان طالما أنا معاكي فيه.
حدجته بهذه النظرة الغريبة، فتابع على نفس المنوال:
-ولو حابة ترجعي شغلك تاني مافيش أي مشكلة.
قالت بغير اقتناعٍ:
-شغلي؟
قال مؤكدًا لها عن ثقة عجيبة:
-أيوه، فرصة تلهي نفسك في حاجة بدل الفراغ الكبير اللي إنتي فيه، وخصوصًا إني زعلت لما عرفت إنك سبتي دراستك، مكانش لازم تعملي كده.
تعمد إثارة هذا الموضوع مرة ثانية بداخلها ليزيد من كراهيتها له، ونجح ببساطة في مسعاه، تبدلت تعبيراتها للوجوم، وهتفت في ضيقٍ قد ملأ صدرها:
-شوفتني كنت موافقة يعني؟
ادعى اهتمامه بأمرها، فاعتذر في التو:
-أنا أسف، المفروض أفهم إنه كان غصب عنك، عمومًا المهم عندي دلوقتي إنك تكوني بخير.
وقتئذ طالعته "تهاني" مطولًا بشيءٍ من الحيرة والتخبط، خاصة مع سوء اختيارها وتبعات ذلك، وفهم "ممدوح" ذلك من نظراتها إليه، فبات شبه واثقٍ من الدرب الذي سيسلكه لإفساد راحة رفيقه.
....................................................
سعل سعلة حرجة آلمت حلقه، فأشار بيده للممرضة المرابطة بجوار فراشه لتأتي له بالماء، ساعدته على شرب القليل، ثم أراح رأسه على الوسادة وهو يحدق أمامه لينظر إلى ابنه وهو يتفقد باهتمامٍ شديد التقارير اليومية التي تخص متابعة حالته بعدما استقر في هذه الغرفة. رفع "مهاب" بصره تجاهه، واستطرد في ابتسامة لطيفة:
-حمدلله على السلامة يا باشا.
لم ينبس السيد "فؤاد" بشيء، فعاتبه ابنه بوديةٍ حذرة:
-كده تقلقنا عليك؟
عندئذ لامه والده بوجه مكفهر:
-يعني مش عارف أنا تعبت من إيه؟
سلط "مهاب" عينيه على الممرضة ليشير لها بالانصراف دون أن يفوه بكلمة، امتثلت لأمره غير المنطوق، وغادرت الغرفة في هدوءٍ تام، ليقترب بعدها من فراش أبيه متحدثًا إليه بابتسامته المعهودة:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، أنا عمري ما أخذلك.
سأله في استعتاب غليظٍ:
-وجوازتك الخايبة دي؟ تسميها إيه؟
سحب "مهاب" المقعد ليضعه على مقربة منه، جلس عليه، وأخبره بكلماتٍ شبه موحية:
-راجل ومتغرب، وعايش لواحدي .. يعني محتاج واحدة تشوف طلباتي.
ضاقت عينا "فؤاد" بغير رضا، ومع ذلك أنصت لابنه وهو يوضح له أسبابه باستفاضةٍ:
-وأنا قاصد أتجوز واحدة كده، مقطوعة من شجرة، تكون تحت رجلي، وفي أي لحظة أقدر أرميها من غير مشاكل ولا وجع دماغ، ده غير إني عاوز أجبر بيها واحدة في دماغي من صفوة المجتمع تغِير، ما هو في ستات ماتحسش بالقهر إلا من واحدة من جنسها، والنار تغلي في عروقها لما تكون أقل منها!
زوى ما بين حاجبيه سائلًا:
-واسم العيلة؟
أكد له بما لا يدع مجالًا للشك:
-اطمن .. محفوظ، وعمري ما اسمح لحد يلطخه، ولو عاوزني أطلقها في لحظة، هعمل كده.
أبقى والده على صمته، ولم يعلق بشيء، مما دفع ابنه للتأكيد مرة ثانية عليه:
-كلها مصالح، وأنا فاهم بعمل إيه كويس.
ثم مد يده ليمسك بكفه، ضغط عليه برفقٍ، وطلب منه بحذرٍ:
-المهم عندي ماتتعبش نفسك دلوقتي، وترتاح.
من الناحية الأخرى، وعلى مقربة منهما، تلصص "سامي" عليهما في حيطةٍ ليعرف ما الذي يدور بينهما من ورائه، امتلأ صدره بالغل والحقد وهو يرى كيف استطاع خداع أبيه، وجعله يتخذ صفه، أطبق على شفتيه في غضبٍ، وهمهم مع نفسه:
-عرفت تضحك عليه تاني، طب أعمل إيه عشان أكسبه في صفي؟!!
...............................................
قبل أن تتشبث برأيها، وتحلق خلف أحلامها، كانت مدركة للهوة العميقة التي وُجدت بينها وبين عائلتها، ومع ذلك اشتاقت كثيرًا لنزاعهما الخالي من أي مكائد، ففي الأخير لم تقم والدتها بإيذائها، ولا شقيقتها بهدم مستقبلها، هي من أقدمت بتهورٍ على ما دمر مخططاتها ظنًا منها أنها ستحظى بنعيم الدنيا ومتعها، وفي النهاية سقطت في قعر الجحيم. كم ودت لو هاتفتها وأطلعتها على ما مرت به؛ لكنها خشيت من عتابها القاسي! تراجعت عن رغبتها تلك، وانخرطت في همومها.
ملازمته لها خلال هذه الفترة أفادها إلى حدٍ ما، وهونت عليها الكثير، بالرغم من إنكارها للتصريح بذلك علنيًا، أثرت الاحتفاظ بما تشعر به لنفسها، تجنبًا لأي مشاكل قد تطرأ من لا شيء. خرجت "تهاني" بصحبة "ممدوح" بناءً على دعوة مُلحة منه لتمضية السهرة في أحد المسارح. انتظرت رفع الستار لمشاهدة العرض الاستعراضي لإحدى فرق الأداء القادمة من الخارج. كانت جالسة في الصفوف الأمامية، في المنطقة المخصصة لأهم الضيوف، لم تشعر ككل مرة بالفخر والغبطة، بل بدت مشاعرها فاترة، مشوبة بالضيق، نظرت حولها في غير مبالاة، إلى أن تكلم "ممدوح" فجأة وهو يمد يده بعلبةٍ ما صغيرة الحجم، مُغلفة بورقٍ مفضض:
-اتفضلي.
سألته وهي تتناولها منه:
-إيه دي؟
احتفظ بابتسامته الهادئة وهو يخبرها:
-هدية بسيطة.
اندهشت من الأمر، وسألته مستفهمة وهي تحرك يدها بها:
-في مناسبة معينة؟
أجابها في بساطة شديدة جعل داخلها يرتبك تحيرًا:
-لأ، بس أنا كنت حابب أجيبلك حاجة تفرحك.
ترددت في أخذها منه، وقالت بحرجٍ وهي تعيدها إليه:
-شكرًا، مكانش ليها داعي.
أصر عليها بملامحٍ جادة:
-هزعل جدًا لو رفضتي تاخديها.
ظلت ذراعها ممدودة تجاهه، فوضع كفه على راحتها القابضة على العلبة، ودفعها برفقٍ ناحيتها دون أن يتكلم، سرعان ما سحبت "تهاني" يدها، وبدأت تفض الورق اللامع لتنظر إلى ما أحضره، تفاجأت بزجاجة عطرٍ باهظة الثمن، رفعتها إلى مستوى نظرها متأملة إياها بانبهارٍ واضح قبل أن تتحول عيناها إليه متمتمة بابتسامة رقيقة:
-برفان!
بادلها الابتسام وهو يقول بشيءٍ من التمني:
-يا رب يعجبك، أنا مش عارف إنتي بتحبي أنهو نوع، بس حسيت إن ده مناسب لشخصيتك أكتر.
نزعت الغطاء، ونثرت القليل من العطر في الهواء لتستنشق رائحته بعمقٍ، تغلغلت في رئتيها، وأنعشتها، مجددًا نظرت ناحيته لتخاطبه بملامح مبتهجة قليلًا:
-ريحته جميلة أوي.
علق عليها في انتشاءٍ:
-مبسوط إنه عجبك.
وضعت العلبة مع غلافها المفضض في حقيبتها، وواصلت كلامها إليه:
-متشكرة جدًا يا دكتور "ممدوح".
قال عن قصدٍ ليزيد من ربكتها:
-أنا اللي شاكر جدًا للبهجة اللي بترسميها بوجودك في المكان.
رمشت بعينيها في دهشة متعجبة، فاستأنف بهدوءٍ، وكأنه لم يقل إلا ما رآه مناسبًا:
-وماتنسيش لو احتاجتي حاجة فأنا جاهز أساعدك.
عجزت عن إيجاد المناسب من العبارات لتوصيف ما يفعله، فعبرت عن ذلك بغير مبالغة:
-مش عارفة أقول إيه قصاد اللي بتعمله ده كله.
رسم على ثغره هذه الابتسامة الرائعة مخاطبًا إياها:
-ولا حاجة، كفاية إني أشوفك مبسوطة كده.
وليضمن إبقاء تأثيره عليها، أضاف عن عمدٍ:
-وما تشليش هم "مهاب"، أنا كفيل أقنعه بأي حاجة.
بلا تفكيرٍ أخبرته في نزقٍ:
-يا ريت لو تقدر تخليه يطلقني.
سكت للحظاتٍ قبل أن يفوه بحذرٍ:
-هحاول، بس خدي بالك هو دايمًا عنيد في حاجات معينة.
بغصة مؤلمة في حلقها اعترفت بألمٍ:
-المشكلة إني مش فارقة معاه أصلًا.
رد عليها بصوته الهادئ:
-الوضع بقى دلوقتي مختلف.
وكأنه تتأكد مما لمح إليه فسألته:
-قصدك بسبب الحمل؟
أجابها مقتضبًا:
-أيوه.
غامت تعابير وجهها، فأوضح لها بنوعٍ من التحذير المستتر:
-ده هيخليه يفكر مليون مرة قبل ما ياخد قرار، باعتبار إن اللي في بطنك يخصه.
قالت في أسى:
-صعب أجيب طفل أظلمه بأب زيه، إنت مش عارف هو وحش إزاي.
انتهز الفرصة، وحاول استمالتها قدر المستطاع لتثق أكثر فيه قائلًا:
-كل مشكلة وليها حل، خلينا بس دلوقتي نستمتع بالأجواء الجميلة دي.
هزت رأسها موافقة، وسألته:
-هو العرض هيبدأ امتى؟
قال مشيرًا بعينيه نحو الستارة الحمراء:
-أظن خلال 5 دقايق بالكتير.
حركت رأسها بإيماءة خفيفة، لتتوقف عن النظر ناحيته، وقد راح الحزن الممزوج بالخوف يلفها من جديد، فمستقبلها مع زوجها لا يزال غامضًا، ناهيك عن كونه محفوفًا بالتهديدات المستمرة ............................................. !!
(ليلة مغلفة بالدموع)
ما لم تفهمه حتى هذه اللحظة، هو إصرار رفيقه على ملازمتها كظلها ليل نهار، وكأن لا عمل له سواها هي وحدها، يبذل أقصى طاقاته للترفيه عنها، والترويح عن نفسها، فتنسى الفترة العصيبة التي مرت بها. استنكرت "تهاني" استغراقها في التفكير في شأنه أكثر من الحد المقبول، وكيف لها ألا تفعل وقد استحوذ على الفراغ الطويل المستبد بها بحضوره وتسليته في ظل غياب زوجها المستمر؟ لن تنكر أنه أظهر لها جانبًا من الاحترام، ذاك الذي تمنت أن يكون صادرًا من شريك حياتها المزعوم؛ لكن للأسف الأخير تعامل معها كوعاءٍ لإفراغ عواطفه بها، لا ككيان رقيق وهش، يحتاج للعناية والرعاية.
زجاجة العطر التي أهادها لها "ممدوح" بعد ليلة دافئة وعامرة بالاهتمام، كانت شاهدًا على الفارق بين الصديقين في المعاملة، نثرت "تهاني" رائحتها المثيرة على جسدها وهي مُسجاة على سريرها، استنشقت عبيرها الساحر بعمقٍ، حتى شعرت بها تُسكرها، تبسَّمت في مرارة، وخاطبت نفسها في ندمٍ:
-مش لو كنت صبرت شوية، كنت آ...
عجزت عن إكمال جملتها للنهاية، وكأن الكلمات تجمدت على طرف لسانها، فلم تستطع الإفلات من بين شفتيها، كان من غير الصواب أن تعقد مثل هذه المقارنة بينهما؛ لكنه من دفعها لذلك بتصرفاته القاســــية معها. تغلغلت الرائحة أكثر في رئتيها، فتذكرت كلام "ممدوح" معها وهو يستحثها على العودة لمتابعة دراستها مع وعده بتقديم كامل العون لها لتحقق ذاتها، جرفها ذلك الإغراء العلمي للتمسك بأملٍ جديد في عدم الاستسلام لحصار "مهاب" المهلك، عليها بمقاومته، فإذ ربما تظفر بأي شيء ينسيها خطئها.
...............................................
امتلأ السطح عن آخره بالمدعوين من الجيران والمعارف والأقرباء لحضور حفل الزفاف الشعبي، خاصة مع انتشار الشائعات والأخبار عن طبيعة هذه الليلة الخاصة، لكونها تمس سمعة وشرف إحدى قاطنات المنطقة. بدا الجميع متشوقًا لمشاهدة ما يحدث فور وقوعه، لذا كان الزحام غير عادي بالنسبة لعائلتين لا تملكان الكثير من الصلات القوية. شعرت "فردوس" وهي تجلس على المقعد الخشبي المبطن بقماش القطيفة الأحمر، مجاورة لزوجها الجالس على مقعد مماثل، بوجود خطب ما، فالأعين كلها مرتكزة عليها بشكل أرعبها، وكأنهم ينتظرون منها شيء ما زالت جاهلة به.
على قدر المستطاع تغاضت عن نظراتهم المزعجة، ورسمت هذه الابتسامة المسرورة على محياها، بالرغم من الارتباك الطبيعي الذي يساورها. مالت عليها والدتها، فانتشلتها من شرودها السريع حينما ربتت على كتفها في حنوٍ، نظرت إليها متسائلة بعينيها، فهمست لها في أذنها بتضرعٍ:
-ربنا يجعل ليلتك مبروكة، ويفرح قلبك يا ضنايا، إنتي صبرتي كتير.
ردت بنفس الابتسامة:
-يا رب.
اعتدلت "عقيلة" واقفة، واتجهت ببصرها نحو شقيقتها التي راحت تصفق بكلتا يديها في حماسٍ، وهي تخاطب من حولها:
-ساكتين ليه يا حبايب، زغرطوا كده، وإملوا الدنيا بهجة، خلي الكل يفرح ويتبسط.
أطلقت مثل النساء زغرودة عالية، قبل أن تدندن مع نغمات الأغنية الدائرة في الخلفية، بينما همهمت "عقيلة" بصوتٍ شبه حزين، وملتاع، كأنما تكلم نفسها:
-ياما كان نفسي أختك تبقى حاضرة معانا.
سمعت "فردوس" هذه الشكوى رغم اختلاطها بالصخب، فسألتها كنوعٍ من الاستعلام:
-ماتصلتش خالص يامه بعد ما بعتي جواب ليها؟
أجابتها بحزنٍ ما زال حيًّا بداخلها:
-لأ يا "دوسة"، زي ما تكون نسيتنا.
ردت مؤكدة عليها:
-مسيرها تكلمنا، ما إنتي عارفة لما بتحط دماغها في العلام والمذاكرة ما بتعرفش حد.
لم تكن مقتنعة تمامًا بتبريرها، وقالت في إنكارٍ:
-بس مش للدرجادي، هي في غربة، وبعيدة عننا.
قبل أن تضيف أي شيءٍ جاءت "أفكار"، وسحبت شقيقتها من ذراعها للجانب قائلة بوجه مبتسم على الأخير:
-وسعي ياختي شوية أما أكلم "دوسة" كلمتين.
طالعتها "فردوس" بغرابةٍ، وسألتها في قليلٍ من التوجس الحائر:
-خير يا خالتي؟
ظلت محتفظة ببسمتها الغامضة وهي تخبرها:
-بصي يا حبيبتي، إنتي عارفة غلاوتك عندي، وما بعملش إلا اللي فيه مصلحتك وبس، صح كلامي؟
أومأت برأسها مرددة:
-مظبوط.
تابعت خالتها حديثها بنفس الأسلوب الغامض:
-لما ليلتك تخلص على خير، عاوزاكي تنفذي اللي هقولك عليه بالحرف عشان نفرح بيكي كلنا.
سألتها بقلقٍ أخذٍ في التصاعد:
-في إيه؟
منحتها نظرة ذات مغزى، ورائها الكثير مما حيرها، قبل أن تجيبها بما لم يرحها أبدًا
-هتعرفي بعدين، بس اسمعي كلامي وإنتي تكسبي.
ثم قبلت فوق رأسها، قبل أن تعاود التصفيق والتهليل الفرح تاركة ابنة شقيقتها على وضعها الحائر المتخبط، تأكل رأسها الأسئلة والخواطر المزعجة.
..........................................
من المفترض أن ينصرف الضيوف بعدما ينتهي ذلك التجمع؛ لكن للغرابة ظل الغالبية حاضرين بالأسفل، متجمهرين أمام مدخل البناية، كما لو كانوا يترقبون حدوث شيء ما، لم تعلق "فردوس" على ذلك، وتغاضت عنه مثلما اعتادت أن تتغاضى عما يؤرقها مؤخرًا. هبطت الدرجات على مهلٍ، وساعدتها "إجلال" على رفع طرف ثوب عرسها لئلا تتعثر فيه، وتتعرقل على السلم. انتابها التوتر واختلط برهبتها من مجرد محاولة التفكير في تفاصيل ما سيأتي من ليلتها، لم توضح لها والدتها أي شيء، واكتفت بالقول الشائع عند العموم:
-جوزك فاهم وعارف هيعمل إيه.
وكأن في جهلها نعمة! لم تسعَ لاستنباط ما اعتبرته متجاوزًا ولا يليق الحديث عنه، طالما هي لا تزال عذراء. ضحكت "إجلال" وخاطبتها في مرحٍ:
-عاوزاكي بقى تدلعي يا "دوسة"، ده يومك النهاردة.
ردت عليها وهي تحاول النظر إليها من طرف عينها:
-ما توترنيش أكتر من كده.
ضحكت مجددًا، وأكدت لها بمحبة صافية نابعة من قلبها:
-هتعدي على خير، إنتي بنت حلال، و"عوض" أفندي راجل محترم وبيعرف في الأصول.
حادت ببصرها عنها محدثة نفسها في استياءٍ:
-وأنا أعرفه منين، ده زيه زي الغريب عندي.
سرعان ما انتشر الحزن على صفحة وجهها لتتابع حديث نفسها المهمومة، وقد دلفت من باب منزلها:
-منها لله اللي حرمتني من فرحتي الحقيقية!
........................................
الطريق إلى غرفة النوم الخاصة بالعروسين كان معروفًا، ومع ذلك لم تتركها والدتها أو خالتها بمفردها، بقيت كلتاهما معها وهي تنتظر جالسة على الفراش قدوم زوجها للانفراد بها، خجلت "فردوس" من تبديل ثوب عرسها، وارتداء هذا الزي الوردي الشفاف الكاشف لكل ما هو مشوق. شبكت كفيها معًا، ونظرت إليهما في استحياءٍ، أرادت أن تعتاد أولًا على وجوده، قبل أن تباشر طقوس هذه الليلة المميزة. بادرت "أفكار" بالكلام حينما ساد الصمت لوقتٍ، فقالت بجديةٍ غريبة رغم خفوت صوتها:
-الناس مستنية البشارة.
حدجتها "عقيلة" بنظرة محذرة قبل أن تردد في تجهمٍ عجيب، باعث على الاسترابة:
-مالوش لازمة نحكي فيه دلوقتي.
استغربت "فردوس" من حديثهما الغامض والموحي، شعرت أنه متعلق بها، وإلا لما بقيت والدتها على تكشيرتها تلك منذ مطلع النهار وحتى الآن، لم تترك نفسها لحيرتها، وتساءلت بقدرٍ من الشك:
-هو في إيه؟
انعكس التردد بشكلٍ واضح على وجه أمها، ألقت نظرة سريعة على شقيقتها التي بدت غير مبالية على الإطلاق بما يصير مع ابنتها، حولت ناظريها عنها، وحاولت التفسير لها، لكن الكلمات لم تسعفها، تعذر عليها إيجاد جملة مناسبة تستهل به بوحها بهذا الأمر العويص، لذا خرج صوتها مذبذبًا، مغلفًا بالاضطراب:
-بصي يا بنتي، إنتي لازمًا تبقي متأكدة إنه كلنا غرضنا نطمن عليكي، تكوني آ....
قبل أن تشرع في الشرح لها باستفاضة، قاطعتها قدوم إحدى السيدات المتشحات باللون الأسود من رأسها لأخمص قدميها، حيث اقتحمت الغرفة هاتفة بتهليلٍ:
-مبروك يا عروسة، إن شاءالله الكل يفرح بيكي وأهلك يرفعوا راسهم لفوق.
كانت المرأة غريبة كليًا عنها، لم ترها مسبقًا، ولا تذكر أنها التقت بها في أي مناسبة سابقة، كانت تعابير وجهها عابسة، نظراتها توحي بالإظلام، أحست بالخوف يتسرب إليها، ورغم ذلك غالبت شعورها الغريزي لتستنكر وجودها غير المسموح به هنا، لذا سألتها "فردوس" في استفهامٍ مشوب بالحيرة:
-إنتي مين؟ وبتعملي إيه هنا؟
لم تتمكن من الحصول على جوابها، حيث لحقت بها امرأة أخرى تماثلها في ارتدائها للثياب السوداء، وفي ضخامة الجسم، وكذلك الملامح الجادة المكفهرة، أمرتها الثانية في صوتٍ صارم، وهي تشير بيدها:
-افردي ضهرك كده يا عروسة.
انقبض قلبها خيفة منها، فنهضت واقفة لتوجه سؤالها إلى والدتها في توترٍ متزايد:
-مين دول يامه؟
شاركتها في الشعور بمشاعرها الخائفة، وحاولت بث الطمأنينة إليها، فقالت وهي تمسح على وجنتها:
-متخافيش يا ضنايا، دول هنا عشانك.
في التو انزوى ما بين حاجبيها، وعلقت متسائلة في خوف أكبر:
-عشاني؟ ليه؟
بلعت ريقها، وقالت وهي تنظر من فوق كتفها للمرأتين المنتظرتين في الخلف:
-دلوقتي هتفهمي.
صاحت المرأة الأولى تأمرها في صوتٍ غليظ:
-اسمعي الكلام يا عروسة عشان ننجز في ليلتنا الحلوة دي.
ارتاعت "فردوس" من طريقتها المريبة في التعامل معها، ناهيك عن تحيرها الكامل من سبب وجودها في غرفة نومها في مثل هذا اليوم، راح شعور الضيق يتسلل إليها، فالتفتت إليهما متسائلة في شيءٍ من الهجوم:
-إنتو عاوزين مني إيه؟
هنا تولت "أفكار" دفة الكلام، وأخبرتها في حنانٍ زائف:
-بصي يا "دوسة"، مش أنا فهمتك فوق إن في حاجات هنعملها بعد ما الزفة تخلص عشان فرحتك تكمل؟
استدارت ناظرة إليها، وقالت وهي تومئ برأسها:
-أيوه، بس مين دول برضوه؟
أجابتها بغموضٍ جعل داخلها يرتجف:
-دول اللي هيقطعوا لسان أي حد اتكلم بالسوء عنك.
استشعرت الخطر بين طيات حديثها المفزع، وسألتها بوجهٍ راحت الدماء تفر منه بالتدريج:
-يعني إيه؟
ألصقت بفمها هذه الابتسامة السمجة، وطلبت منها وهي تدفعها برفقٍ تجاه الفراش:
-اسمعي بس الكلام، وهتعرفي.
مرة ثانية استطردت المرأة الأولى مخاطبة "فردوس" بنفس الصوت الآمر:
-نامي على ضهرك يا عروسة.
اضطرت أن تستجيب لأمرها المريب، وتمددت على الفراش بعدما تزحَّفت للخلف لتريح ظهرها على عارضته الخشبية. افترقت المرأتان، وجلست كل واحدة منهما على طرف الفراش، فأصبحت "فردوس" محاصرة بينهما. مجددًا تكلمت المرأة الأولى تأمرها بصوتها الجاف:
-لما نبدأ سيبي نفسك وبلاش تتشنجي.
رمقتها بهذه النظرة الحيرى، قبل أن تدور بعينيها الزائغتين باحثة عن والدتها، نكست الأخيرة رأسها في خزي، فقد كانت لا حول لها ولا قوة، تقف بلا حراكٍ، تنتظر مثل البقية ما سيحدث. تكلمت المرأة الأولى في صيغة آمرة:
-نادوا على العريس.
تحركت "أفكار" من موضع وقوفها هاتفة في حماس غريب:
-أنا هاروحله.
اندهشت "فردوس" من برود خالتها، أنبأها حدسها بأنها على علم مسبق بما يجري، وأنها أرجأت إطلاعها على ذلك خوفًا من رفضها، اختفت "أفكار" قبل أن تتمكن من الاستفسار منها، لذا لم يكن أمامها سوى والدتها لتسألها في تخبطٍ مخيف:
-هو هيعملوا فيا إيه يامه؟
لم تجرؤ على النظر في عينيها، وإعلامها بما تم تقريره، ظلت تقول في شيءٍ من الأسى والتعاطف:
-مش عارفة أقولك إيه والله، بس نصيبك كده.
راحت تتصارع الهواجس المرعبة في رأسها بشكلٍ جعل بدنها يرتجف، زاد تلاحق دقات قلبها، حتى كلمات والدتها لها لم تكن مشجعة بالمرة، صاحت فيها مرة أخرى، كأنما تستنجد بها:
-يامه قوليلي بس، إنتو ناويين على إيه؟
تنهدت في مرارةٍ، وقالت بما ضاعف من هلعها:
-اصبري واستحملي.
استطردت المرأة الأولى تتساءل بجديةٍ:
-في حد من أهل العريس برا؟
جاء رد "عقيلة" مصحوبًا بإيماءة من رأسها:
-أيوه، عمته، وكام حد تبعه.
أمرتها في نبرة حازمة:
-خلي 2 منهم يجيوا معانا.
استبد بـ "فردوس" كل القلق، وتساءلت في فزعٍ بائن في صوتها، وأيضًا نظراتها:
-ليه كمان؟
امتثلت "عقيلة" لأمر المرأة، وسارت تجاه باب الغرفة، والحزن يشع من عينيها، بينما هدرت "فردوس" محتجة عندما شرعت المرأة في الإمساك بها من كتفها، كأنما تثبتها في موضعها:
-ابعدي إيدك عني، مكتفاني ليه؟
زادت من قوتها عليها، ثم أمرتها في نبرة غير متساهلة، ونظرة مخيفة تنبعث من حدقتيها:
-ريحي جتتك يا عروسة، احنا جايين نطمن عليكي ونطمن الحبايب كلهم!
قذف قلبها بقوةٍ عظيمة، فهتفت تستغيث بأمها وهي تحاول التخلص من قبضتها المحكمة عليها:
-يامه! إنتي هتسبيني معاهم؟
ردت دون أن تنظر تجاهها:
-جايلك على طول.
لم تهدأ خواطرها، ولم يستكين داخلها، بل بدا وكأن كل خوفها قد تجمع الآن ليزيد من فزعها، أصبحت "فردوس" الآن في موضع لا تُحسد عليه، تترقب بغير معرفة ما سيحدث لها.
.............................................
تمنى لو انشقت الأرض وابتلعته، فلا يكون ضليعًا في أمر مخزٍ كذلك، سعى "عوض" بشتى الطرق لإيقاف هذه الفعلة النكراء، ورغم كل جهوده المبذولة إلا أنه لم يفلح أمام طوفان إصرار "أفكار" العنيد، وكأنها اتخذت الأمر ثأرًا شخصيًا إرضاءً لحفنة من البشر، لا يهمهم سوى نهش أعراض الأبرياء، والنيل من سمعة الأنقياء. ظل باقيًا بالأسفل، رافضًا الصعود والمشاركة فيما يعرف به قبل وقت سابق، ادعى انشغاله بتوديع من جاء لتهنئته، محاولًا إضاعة الوقت؛ لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث نادته "أفكار" من عند بداية سلم الدرج بصوت مرتفع، ومليء بالابتهاج، كما لو كانت تفتخر حقًا بكشف ستر لحمها:
-سي "عوض"، جماعتك مستنين جوا، عاوزينك تبشرنا.
تحرج كثيرًا من كلامها شبه الفاضح، والذي أتبعه ضحكات عابثة ممن يقفون حوله، تلاها تعليقات شبه متجاوزة، كنوعٍ من التحفيز له. ابتعد عنهم ليدنو منها، وعلى قسماته هذه التكشيرة الكبيرة، همس لها وهو يكز على أسنانه محتجًا:
-اللي إنتي طالباه مني مش هيحصل.
لطمت على صدرها صائحة في استنكارٍ:
-يا نصيبتي!!!
ارتبك من صوتها المرتفع، وتلفت حوله ليتأكد من عدم متابعة أحدهم لحوارهما، لم تكن مثله تخشى من لفت الأنظار، بل قالت في تحدٍ مغيظ له:
-عاوز تفضح البت قصاد الخلق؟!!
عقب عليها في عنادٍ:
-وأغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
زمت شفتيها متمتمة:
-ربنا غفور رحيم...
ثم لكزت جانب ذراعه تستحثه في تصميمٍ أشد:
-اللي يهمنا دلوقتي سمعة بنتنا، والكل واقف وشاهد.
أخبرها بمعارضة تفوق إصرارها:
-محدش فارق معايا من الناس.
هاجمته في تحفزٍ، وقد ارتفعت نبرتها إلى حدٍ كبير:
-يعني مش مكفيك عمايل أخوك؟ جاي تكمل عليها وقصاد أمة لا إله إلا الله؟
مجددًا التفت ورائه لينظر للحفنة المرابطة خارج مدخل البناية، كانوا لا يزالون منشغلين عنه، عاود النظر إلى "أفكار"، وقال بصوتٍ خفيض:
-هي بقت مراتي، واللي بينا مايصحش حد يعرفه!
أصرت عليه بلهجة من يقرر، رافضة النقاش أو حتى مراجعتها في الأمر:
-إلا دي بالذات، الكل هيتأكد من ختم ربنا، ولو مش ناوي تعمل ده بنفسك، يبقى تقف وتتفرج.
برزت عيناه في صدمةٍ، لم تتدعه لذهوله، وأكملت إملاء أوامرها عليه في حسمٍ:
-وما تعلقش، تاخد الأمارة وتفرح كل الموجودين.
توسلها في رجاءٍ:
-يا خالة آ...
قاطعته بلا تفهمٍ:
-ده اللي عندي!
رمقته بهذه النظرة الازدرائية قبل أن تهم بالصعود على الدرج، ليضطر في أسف أن يتبعها وهو مشفق تمامًا على زوجته التي ستختبر نوعًا شديدًا من المهانة، تلك التي لن تُمحى تفاصيلها من الذاكرة مُطلقًا!
..........................................
تكالبت عليها النساء، وأحطن بها من كل جانب لتثبيتها، فانتفضت، وثارت، وحاولت مقاومة تجريدهن لما يسترها. صرخت، واستغاثت، وارتفع صوت توسلاتها؛ لكن الكل سد أذنه عنها، تركوها تبكي بلا ذرة إشفاق منهن، حتى حينما جاء "عوض"، واستنجدت به، تجمد موضعه ولم يقدم لها العون، كان مثلهن شاهدًا على ســحق روحها. ضاقت أنفاسها، وتساقط عرق غزيز منها وهي تقاومهن، سرعان ما تشنج جسدها، وتقلصت عضلاتها، ارتعشت أكثر عندما قامت إحدى المتواجدات بالمباعدة بين ساقيها، صاحت بها من يُقال عنها أنها عمة زوجها تأمرها:
-اتني رجلك شوية يا عروسة.
لم تسهل عليها الأمر، وضمتهما بقوةٍ، لتحول دون وصولها إلى موطن سرها؛ لكن امرأة أخرى من أقارب زوجها عاونتها على فصل ساقيها. هتفت "فردوس" تلوم والدتها بحرقة تقطع نياط القلوب:
-هتسبيهم يامه يعملوا فيا كده؟
رأفةً بها، كادت "عقيلة" تتحرك تجاهها، وتوقف ما يفعلن، إلا أن شقيقتها منعتها، وأمسكت بها من رسغها ضاغطة عليه بقدرٍ من القوة، فاضطرت أن تقول في أسفٍ وهي تطأطأ رأسها خجلًا من خذلانها لها:
-على عيني يا ضنايا والله!
قامت عمة زوجها بسؤالها في شيءٍ من التحدي:
-خايفة من إيه يا عروسة؟ ده احنا جايين نخرس الألسن، ونوريهم البشارة.
أحست "فردوس" بالفزع يتولاها من كل جانب، بأنها تغرق في دوامة مظلمة، لا نجاة لها منها، صرخت عاليًا بصوت كان أقرب للبكاء، لعل وعسى تتخلى عن جمودها وتزيح هذه الأيادي عنها:
-غتيني يامه.
ارتفعت شهقاتها وامتزجت مع نهنهات بكائها عندما شعرت بيدٍ باردة قاسية، تتوغل بغير رحمة في دواخلها، لتقتحم قلاعها الحصينة بلا هوادة، انتفضت، وزاد تصبب العرق بها فأصبحت كخرقة مبتلة، أتبع ذلك توسلها المتسول لعطفٍ غير موجود في أي من الحاضرين:
-يا خالتي، حوشيهم عني.
تصنعت الضحك، كأنما بذلك تخفف من حدة الأمر عليها، وقالت وهي ترمقها بهذه النظرة الجادة:
-متخافيش يا بت، علقة تفوت ولا حد يموت.
وقتئذ اتجهت "فردوس" بنظراتها التائهة نحو "عوض"، حدجته بنظرة مليئة بالعتاب القاسي، فما كان منه إلا أن أخفض رأسه متحاشيًا عتابها الظاهر، فهمهمت داخلها، بصوتٍ تردد صداه بينها وبين جنبات نفسها:
-مش مسمحاك، إنت غدرت بيا زي أخوك!
صرخت مرات مستغيثة بأي أحدٍ، فما أغاثها مخلوق، الكل ساهم في إثبات براءتها من تهمة أدانها بها شرذمة من الناس، ممن يخوضون في الأعراض بافتراء وتدليس، فقط للقضاء على ملل وقت فراغهم الطويل.
في هذه اللحظات القـــــاتلة ودَّت بلوعةٍ لو كانت شقيقتها حاضرة، لكانت نعم السند لها، ولم تتردد لثانية في منع تلك الأيادي النجسة من المساس بها، آه لو بقت ولم ترحل! آه وألف آه!
..................................................
تُركت بمفردها في غرفة النوم بعدما انتُهكت خصوصيتها، وحصلت عمة زوجها على دليل النقاء والطُهر مصبوغًا في قطعة قماش بيضاء. ارتفعت بالخارج أصوات الزغاريد وملأت الأرجاء، حتى أنها فاقت في حدتها مثيلاتها في حفل الزفاف المتواضع. طوحت "أفكار" بقطعة القماش في الهواء مهنئة من حولها في فخرٍ عظيم:
-قولوا للحبايب يهيصوا، وللعوازل يفلفلوا .. بنتنا مافيش في أدبها ولا شرفها.
ردت إحدى السيدات الحاضرات في الصالة قائلة:
-عقبال ما نبارك نهار حبلها.
نظرت إليها ضاحكة وهي تقول:
-عن قريب إن شاءالله.
ثم وجهت كلامها إلى "عوض" الجالس في حزنٍ على مقعد شبه منزو:
-عريسنا يشد حيلته بس.
تعالت الضحكات العابثات والمخبئات خلف الأيادي الموضوعة على الفم، لتردد "عقيلة" بوجه لا يزال عابسًا:
-سيبوه يتهنى مع عروسته.
هتفت "أفكار" في اعتزازٍ وهي تحاول صرف الضيوف من المنزل بتهذيبٍ:
-نجاملكم في الفرح دايمًا يا حبايب.
عندئذ نهض "عوض" من مكانه عائدًا إلى زوجته التي كانت جالسة فوق الفراش، تولي ظهرها للباب، وتضم ركبتيها إلى صدرها بذراعين مرتجفين. صوت بكائها كان مسموعًا له، حز في قلبه رؤيتها هكذا، اقترب منها مبديًا ندمه وأيضًا تعاطفه:
-حقك عليا.
لم تنظر تجاهه، كانت تبكي في حرقة أشد، فواصل إخبارها بصدقٍ:
-والله حاولت أمنعهم، بس معرفتش.
تجرأ ليضع يده على كتفها، فانتفضت مع لمسته المباغتة لجسدها، وكأن مسًا كهربيًا لامسها، في التو زحفت بمرفقيها بعيدًا عنه، وصرخت به رغم ألمها:
-ماتقربش مني.
رفع كفيه في الهواء ليظهر لها حُسن نواياه، ومع هذا لم تبدُ متهاونة معه، حملته كامل اللوم عن كل ما جرى لها، فهدرت به بانفعال من بين بكائها المتحسر:
-منك لله إنت وأخوك، قهرتوني، وكسرتوا كل حاجة فيا، ربنا ينتقم منكم.
رمقها بنظرة مهمومة، فاستمرت على صياحها اللائم:
-عملت إيه فيكم عشان تهدوني بالشكل ده؟
هزت رأسها في استنكارٍ، واعترفت له في نزقٍ، غير نادمة عليه، لتجعله يزداد إشفاقًا بها:
-يا ريتني ما وافقت أتجوزك، يا ريتني!
......................................................
بعد أن ذاع الخبر، وعرف الجميع عن إصابته المفاجأة، تحول خارج غرفته بالمشفى الخاص إلى ما يشبه أحواض الزهور، فقد امتلأت الردهة بباقات مختلفة الأحجام والأنواع من الورود، كنوعٍ من إرسال التهنئة والمباركة على تماثل رجل الأعمال الشهير للشفاء من أزمته المرضية الأخيرة. لجأ "مهاب" للاستعانة بأفرادٍ من الحراسة المدربين لمنع دخول أي فرد لحجرته دون إذن مسبق منعًا لتطفل رجال الصحافة المزعجين، وكذلك لعدم إرهاقه بالزيارات الكثيرة. استاء "سامي" مما اعتبره تصرفًا فظًا، ولا يليق بمكانة العائلة، فعنفه في غرفة مدير المشفى الماكث بها:
-إنت مفكر نفسك مين عشان تتصرف كده؟
لم يرفع رأسه عن التقارير التي يراجعها، وخاطبه في برودٍ:
-اللي فيه الصح للباشا أنا هعمله.
اغتاظ "سامي" من عجرفته المستفزة، فطرق بقبضته المضمومة على السطح الزجاجي بعصبيةٍ جمة، ليدفعه على النظر إليه، حينها فقط هدر في صوت غاضب:
-إنت عارف مين أصلًا جاي يشوفه؟ دول وزراء، وكبار رجالة البلد.
تطلع إليه بنظرته المتعالية، وأردف في تساؤل غير مكترثٍ:
-وإيه يعني؟
استمر "سامي" في الهجوم عليه، فقال باحتقارٍ ظاهر على وجهه، وكذلك في نظرته إليه:
-شكل جوازك من البت الكحيانة دي غيرك وخلا مخك يفوت، فما بقتش عارف قيمة الناس اللي بنتعامل معاهم!
نهض "مهاب" قائمًا بعدما ترك ما فيه يده، وحذره بنظرة صارمة:
-ما بلاش تغلط!
ثم دار حول المكتب، وتقدم تجاهه حتى وقف قبالته، حينئذ تابع إنذاره له، وهو يضع كفه على كتفه:
-زعلي وحش يا "سامي".
نفض الأخير قبضته عنه في نفورٍ، وزمجر فيه بحقدٍ:
-نزل إيدك.
حدجه "مهاب" بنظرة مستخفة، ليردد بعدها بما أغاظه في الحال كعهده معه، وبهدوءٍ واضح:
-ممم .. قول إنك غيران مني عشان بعرف أعمل اللي أنا عاوزه، وإنت لأ.
صاح به في عصبيةٍ مستعرة:
-أنا مش "فؤاد" باشا اللي سهل تضحك عليه بكلمتين فيصدقهم.
سدد له نظرة هازئة قبل أن يسأله في سخريةٍ:
-طب ما إنت معاه طول الوقت، ليه معرفتش تكسبه في صفك؟
اندلع غضبه أكثر بداخله، وصاح فيه مغتاظًا:
-بلاش هلفطة، أنا أكتر واحد عارف وســــاختك، وألاعيبك، ولحد النهاردة أنا مش عاوز أدمرك، وعمال أداري عليك.
سخِر من محاولته غير الموفقة للمزج بين مواضيع شتى لإظهاره بمظهر الشخص الأهوج، الأرعن، وغير المسئول، ورغم ذلك قابل انفعاله المحتد بنفس البرود الهادئ حين رد:
-وإيه اللي منعك؟!
ناطحه الرأس بالرأس قائلًا بوجه محمومٍ بغضبه:
-ما تتحدانيش!
ضحك مستخفًا به، ليعلق بعدها:
-صدقني إنت اللي هتخسر مش أنا.
واصل "سامي" هجومه غير المبرر عليه زاعقًا في تعصبٍ:
-إنت ولا حاجة من غير لقب "الجندي"!
لم تتغير نبرته مُطلقًا وهو يخبره عندما سار عائدًا إلى المكتب مجددًا:
-صح، بس صدقني اسم "مهاب الجندي" برضوه معروف، حتى لو إنت عامل نفسك مش واخد بالك.
جمع "مهاب" التقارير المفرودة على سطح المكتب، واستعد للمغادرة، فسأله "سامي" بنبرته المتشنجة:
-إنت رايح فين؟ أنا مخلصتش كلامي لسه!
لاحت على زاوية فمه ابتسامة متهكمة، ليسترسل بعدها بتعالٍ صريح:
-بس أنا خلصت...
كاد على وشك النكاية به؛ لكنه أخرسه بإشارة من سبابته:
-مش عاوز أسمع حاجة تاني، بس يا ريت لما ترجع تتخانق معايا توطي صوتك، ما تنساش احنا في مستشفى، و"فؤاد" باشا مش هيكون مبسوط لما يسمع عن خناقنا هنا!
كظم "سامي" حنقه مرغمًا، وشيعه بنظرة نارية ثائرة في حدقتيه إلى أن انصرف، آنئذ كور قبضته في الهواء، وتوعده بين نفسه في كراهية لا تكف عن التعمق أكثر فيه:
-بكرة هتندم، وأنا عارف الطريقة إزاي
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(مكيدة ساذجة)
غادر الجميع تباعًا، تعلو وجوههم الفرحة والاعتزاز؛ لكنهم تركوها غارقة وسط إحساسها بالمهانة، والانكسار، لم تجد اليد الحنون التي تطبب من جراحها، أو حتى تهون عليها صعوبة ما اختبرته، ولم تشعر بالأمان في حضور من أصبح زوجها، كان كأنه لم يكن من الأساس، تخلى عنها وانساق وراء ما رغب فيه الآخرين. سالت دموعها أنهارًا، فبللت كامل وجهها، وأفسدت زينتها، فأصبحت قبيحـــة المنظر، ومع ذلك لم تكترث للحظة، فما أصابها مزقها من الداخل قبل الخارج.
وقف "عوض" على باب غرفة النوم حائرًا، مترددًا، لم يعرف ما الذي يجب عليه فعله لاسترضائها وتعويضها عما مرت به، تطلع إليها من موضعه مليًا وبإشفاقٍ حزين، كانت منكمشة على نفسها، توليه ظهرها، ترتجف إلى حدٍ ما، صوت بكائها المسموع إليه حز في قلبه بشدة، نكس رأسه بعدما هزها يمينًا ويسارًا أسفًا عليها. استجمع الكلمات في رأسه، وتكلم سائلًا إياها بحذرٍ:
-إنتي كويسة دلوقتي؟
استشعر سخافة سؤاله، فكيف لها أن تصبح في أحسن حال وهي منخرطة في نوبة بكاءٍ عنيفة؟ تدارك خطئه، ولم يتوقع أن ترد عليه، يكفيها ما هي فيه الآن، ازدرد ريقه، وتابع:
-حقك عليا، أنا لو كان بإيدي مكونتش خليت حد يجي ناحيتك، بس حكم القوي!
ارتفع صوت نحيبها، فأحس بالندم أكثر، فقال مغيرًا الحديث:
-أنا هسيبك على راحتك، نامي على السرير، وأنا هفضل برا.
لم تنظر "فردوس" تجاهه، بل أحنت رأسها لتخبئها بين ركبتيها المضمومتين إلى صدرها، وواصلت بكائها المرير. شعوره بالذنب تضاعف، فلم يكن أمامه سوى الفرار من هذا الإحساس القــــاتل، فأنهى حواره أحادي الجانب قائلًا بعدما التقط منامته من على طرف السرير:
-لو عوزتي حاجة نادي بس عليا.
انسحب في هدوء، وأغلق الباب ورائه ليعطيها مساحة من الخصوصية؛ لكن في الحقيقة كان يريد الهروب من هذا الجو الخانق المعبأ بكل ما هو موجع لكليهما!
.............................................
لم تتوقف عن معاتبة نفسها منذ عودتها إلى المنزل، فإحساسها بالذنب تجاه ابنتها كان ينهشها بشدة، بكت في صمتٍ كلما استحضرت في ذهنها طيفها وهي تستجدي عاطفتها الأمومية لنجدتها ممن يحاولون المساس بها بحجة الشرف والسمعة؛ لكنها ظلت أمام رجاواتها الحارقة كتمثالٍ من الحجر، لا تحرك ساكنًا، تخلت عنها، وتركتها للأيادي الغريبة تكشف سرها، على أمل أن تبتهج في النهاية بعفتها؛ لكنها لم تفعل حينما تم الأمر، كانت تحترق لأجلها، ينفطر قلبها حزنًا على اغتيــــال فرحتها. نظرت "عقيلة" إلى شقيقتها الماكثة معها في بيتها مطولًا، كانت الأخيرة مسترخية، لا يبدو بالها مشغولًا بشيء، لذا استطردت قائلة بصوتٍ شبه مختنق؛ وكأنها تؤنبها:
-مكانش لازم نعمل كده، كسرنا فرحة البت، وآ...
قاطعتها "أفكار" ببرودٍ مغلف بالقساوة:
-لأ ياختي، ده كان ضروري، أومال نسيب الناس تتكلم وتألف حوارات؟ أهوو كله كان على عينك يا تاجر.
ضاقت عينيها في استنكارٍ واضح، فهذه لم تكن أحلامها بشأن زيجة ابنتها، ومع ذلك لم تلقِ "أفكار" أي بالٍ لأحزانها، بل أضافت في زهوٍ مغيظ:
-ده إنتي حقك دلوقتي تحطي صوابعك في عين أي حد يفتح بؤه بنص كلمة عنها.
اعترفت لها وهي تمسح بطرف كم عباءتها المنزلية دموعها التي تملأ صفحة وجهها:
-صعبانة عليا أوي، حاسة إني كسرتها.
ضحكت في استهزاءٍ قبل أن تقول بابتسامة سخيفة:
-علقة تفوت ولا حد يموت...
ثم مالت ناحيتها، وغمزت لها في شيءٍ من المكر:
-دي زمانها غرقانة في العسل وجوزها مدلعها.
لم تبدُ "عقيلة" مطمئنة لهذه الدرجة، فالألم لن يمضي على خير كما تظن، خاصة ما يؤثر بالنفس. انتبهت مجددًا لشقيقتها الكبرى وهي تخاطبها بعدما نهضت من موضع جلوسها:
-بينا نعملها فطور العرسان.
تبعتها في خطواتٍ متعبة ولسانها يهمهم داعيًا:
-ربنا يهدي سِرك يا بنتي، ويريح بالك!
..........................................
كان من غير الطبيعي بالنسبة له، الذهاب هكذا ببساطة وتركه وهو لا يزال في هذا الوضع الصحي الحرج، قرر "مهاب" إرجاء سفره لمدة غير معلومة، وملازمة والده ريثما يتماثل تمامًا للشفاء، وكذلك ليُبقي عينيه على شقيقه الأكبر الذي على ما يبدو يكيد له بعض المكائد الخبيثة، لإفساد ما بينه وبين أبيه على أمل أن يحظى بمكانة عالية لديه، ويفوز بالكعكة كاملة ودون نقصان. راجع مرة ثانية ما لديه من أوراق وتقارير وهو جالس بالمكتب الذي تم تجهيزه له في هذا المشفى الاستثماري الضخم، ليكون خاصًا به خلال أدائه لعمله كطبيب متخصص في الجراحة هنا. قاطع انشغاله في كتابة بعض الملحوظات الضرورية اقتحام "سامي" للحجرة دون استئذان ليهاجمه كالعادة بالمستهلك على الأذن من عبارات التهديد السقيمة، لم يغلق الباب خلفه، وسار مختالًا ناحيته وهو يردف بسخرية مستفزة:
-ده أنا فكرتك حاجز أول طيارة ومسافر.
رفع "مهاب" بصره تجاهه، ثم نظر إليه شزرًا، ليعلق بعدها مستخفًا به:
-للأسف تخمينك مش في محله، أنا مش مسافر.
لم ينجح هذه المرة في استثارة أعصابه، بل بدا "سامي" هادئًا للغاية وهو يسأله في تهكمٍ:
-معقولة تسيب حياة الرفاهية والأضواء، وتفضل معانا؟
رد عليه بما جعل قناع البرود الزائف يسقط في التو:
-"فؤاد" باشا يستاهل إني أضحي بكل حاجة عشانه، ما تنساش أنا المفضل عنده.
لم يتمكن من ضبط انفعالاته طويلًا، أو السيطرة على ردة فعله التي يسهل استفزازها، سرعان ما صعدت الدماء إلى رأسه، فصاح في صوتٍ شبه محتد:
-من إمتى الحنية دي؟ أنا أكتر واحد فاهمك.
قال مصححًا له بنفس الوتيرة الهادئة:
-إنت أكتر حد ماتعرفنيش.
اشتعل وجهه بغضبه، وأطلت من عينيه نظرات كارهة حاقدة، ترك "مهاب" ما بيده جانبًا، لينهض من على مقعده قائلًا:
-رأيي يا "سامي" بدل ما تركز في اللي بعمله، ركز في حياتك إنت.
انفلتت منه صيحة حانقة:
-إنت هتعرفني أعمل إيه ومعملش إيه؟ نسيت نفسك؟ ده أنا مداري على كل بلاويك.
وقفت "مهاب" في مواجهته، لا يبدو على ملامحه أدنى تغيير، بينما استمر "سامي" في إطلاق سهام غضبه المحموم عليه:
-ولا تكون فاكر إنك بكلمتين هتضحك على "فؤاد" باشا، ويرجع يصدقك من تاني؟!!
ابتسم له شقيقه الأصغر بغير اكتراث ليجعل بذلك نيران الغيرة تأكله أكثر، ثم تكلم إليه وهو يربت على جانب ذراعه:
-اعمل اللي إنت عاوزه، في النهاية كل اللي يهمني صحة بابا وسلامته.
استشاطت نظراته بشدة، فقابلها "مهاب" بابتسامة وديعة واثقة، قبل أن يوليه ظهره ليسير عائدًا تجاه مكتبه، التقط أحد الملفات من على سطحه، وقال وهو ينظر إليه من طرف عينه:
-مضطر أسيبك تهري مع نفسك وأشوف اللي ورايا هنا.
بدا وجه "سامي" محمرًا للغاية، عاكسًا لما يستعر في داخله من حقد مشوب بالغيرة العظيمة، تابع "مهاب" سيره نحو الباب قائلًا بلهجةٍ شبه آمرة:
-ابقى اقفل الباب بعد ما تطلع.
انتظر ذهابه ليلعنه:
-غبي، مفكر نفسه مسيطر على كل حاجة.
اتجه إلى حيث الهاتف الأرضي، أمسك بالسماعة، ولف القرص الدوار مُحدثًا نفسه:
-استعد بقى لنهايتك.
..........................................
أمضى الليل غافلًا على الأريكة في صالة بيته، فشعر حينما استيقظ بتيبس فقرات عنقه، وبألم متفرق في أنحاء جسده المتعب مسبقًا. كان وجهه مرهقًا، أسفل عينيه شبه أسود، فقد بقي يقظًا لما بعد الفجر بقليل إلى أن غلبه النعاس، وسقط نائمًا صريع الإنهاك. تمطى "عوض" بذراعيه، ودعك برفقٍ الأجزاء التي ما زالت تؤلمه ليخفف من حدة الوجع، وضب مكان نومه، ثم نهض سائرًا تجاه الحمام ليغسل وجهه. تباطأ في مشيه حينما نظر إلى باب غرفته المغلق، كل ما دار في خلده في هذه اللحظات هو أحوال زوجته، أراد تفقد أحوالها؛ لكنه تراجع عن هذه الفكرة في التو، محاولًا منحها المزيد من الوقت لتتجاوز حادثة الأمس.
لم يكن قد انتهى بعد من تجفيف وجهه حتى سمع الطرقات المتعاقبة على باب المنزل، ألقى بالمنشفة على المشجب الموجود خلف باب الحمام الخشبي، وأسرع الخطى نحو الخارج. ما إن فتح الباب حتى انطلقت في وجهه زغرودة مبتهجة، أعقبها هذه الجملة التقليدية الفرحة من خالة زوجته:
-صباحية مباركة يا عريس.
تنحى للجانب ليفسح لها بالمرور مع ما تحمل في يديها قائلًا:
-الله يبارك فيكي، اتفضلي يا خالة، البيت بيتك.
كذلك ألقى التحية على حماته، وحمل عنها الأغراض التي جاءت بها هاتفًا:
-عنك ..
نظر إلى ما أحضرته الاثنتان بدهشةٍ حرجة، فكلتاهما جاءتا محملتين بكل ما لذ وطاب لإطعامه هو وزوجته التي لم يرها منذ الأمس. تنحنح مرددًا بحرجٍ ظاهر على قسماته قبل نبرته:
-مكانش ليه لزوم التعب ده!
ضحكت "أفكار" مرددة في مرحٍ:
-دي حاجة بسيطة ترم بيها عضمك...
لم تخبت ابتسامتها المتسعة وهي تتم جملتها:
-وعقبال ما نشوف عوضكم يا رب.
قال مجاملًا وهو ينقل ما جاءتا به إلى داخل المطبخ:
-إن شاءالله.
استوقفته حماته بسؤالها المهتم:
-أومال العروسة فين؟
بلع ريقه، وقال:
-جوا، تقدروا تخشوا عندها.
ردت عليه "أفكار" بأسلوبها المبتهج:
-تعيش يا "عوض".
أمل في قرارة نفسه أن تكون زوجته قد استراحت بدنيًا وذهنيًا مما خاضته ليلة الأمس، وإلا لوقعت أسيرة حصار جديد من اللوم والعتاب، فهذه هي طبيعة الحياة هنا في المناطق الشعبية، لا مكان للخصوصية، ولا مجال لتقدير المشاعر الإنسانية حينما تكون منتهكة ومستنزفة.
.............................................
مرة ثانية انطلقت الزغاريد عاليًا من حلقها، وهي تضع يدها على المقبض لتفتح الباب استعدادًا لرؤية ابنتها العروس الخجلى في أبهى صورة لها. أطلت بوجهها باحثة بنظراتها اللهفى عنها، ولسانها يسبقها في التهنئة:
-مبروووك يا "دوسة"، آ...
بترت عبارتها عن عمدٍ حينما وجدتها لا تزال متكومة على طرف الفراش وترتدي ثوب عرسها، انفلتت منها شهقة مستهجنة، وأسرعت ناحيتها تسألها في جزعٍ:
-إيه ده؟ إنتي لسه بفستانك؟
لحقت "أفكار" بها، ونظرت إليها مصدومة قبل أن تعنفها في استياءٍ، وبمشاعرٍ متحجرة:
-يا خيبتك!
نظرت "عقيلة" إلى شقيقتها بنظرة سريعة، ثم حولت بصرها عنها لتسأل ابنتها في جزعٍ متصاعد، وعيناها تتفحصان وجهها المنتفخ بقلقٍ أكب:
-مالك؟ عاملة كده ليه؟
بدلًا من إجابتها أجهش بالبكاء المرير، فانقبض قلب أمها عليها، في حين وبختها "أفكار" بتعبيرٍ ممتعض:
-بذمتك ده منظر عروسة تفتح نفس جوزها في صباحيتها؟
ردت عليها "عقيلة" تعاتبها:
-بالراحة عليها يا "أفكار"، خلينا بس نفهم في إيه؟
زمت شفتيها مرددة في سخطٍ وهي تشير بيدها:
-ما هي الحكاية مش محتاجة تفسير، الجواب باين من عنوانه!!
جلست "عقيلة" مجاورة لابنتها، ومدت يدها لتمسح عنها الدموع وهي تتساءل في توترٍ:
-احكيلي في إيه حصل؟
من بين بكائها الشديد ردت نافية:
-محصلش حاجة يامه، أنا صعبان عليا نفسي واللي جرالي.
هدأت مهاج "عقيلة" إلى حدٍ ما، وحاولت مواساتها بكلماتها الآسفة:
-متزعليش يا بنتي، كله مقدر ومكتوب.
مرة ثانية مصمصت "أفكار" شفتيها، وأضافت بازدراءٍ:
-وربنا وشك يقطع الخميرة من البيت!
لم تتحمل "فردوس" أي إهانة وهي في هذه الحالة البائسة، سلطت نظراتها على خالتها، وصاحت في حنقٍ:
-عاوزاني أقوم أرقص وأفرح بعد اللي اتعمل فيا؟
هزت "أفكار" كتفيها مرددة، وبإيماءة من رأسها:
-أيوه، وتجيبي طبل وزمر، وتمشي رافعة راسك وسط الخلق.
نظرت "عقيلة" إليها بحاجبين معقودين، فتابعت شقيقتها بلؤمٍ:
-يا عبيطة لو مكانش ده حصل كانوا قالوا عنك في الخمر يا ليل.
ثم أشارت لشقيقتها لتنهض لتجلس مكانها، واستمرت في إخبارها:
-إنما دلوقتي إنتي تقدري تقولي للأعور إنت أعور في وشه من غير ما تحسي إنك قليلة.
راحت "فردوس" تكفكف دمعها بظهر كفها، فطلبت منها خالتها بلهجةٍ مالت للأمر:
-قومي كده تعالي معايا نغيرلك هدومك.
أخبرتها في صدقٍ وهي تشير بيدها إلى موضع قلبها:
-أنا موجوعة من جوايا، ومن آ...
عجزت عن إكمال جملتها حرجًا؛ لكن بدت شكواها مفهومة لأمها وخالتها، فوخزات الأمس الحادة لن تتعافى بين عشية وضحاها. ضحكت "أفكار" مستخفة بألمها، وعلقت وهي تقوم واقفة:
-بلاش دلع مرئ!
ثم جذبتها من ذراعها عنوة وهي تلح عليها:
-قومي يالا بلا هم، ده إنتي عروسة لسه بكرتونتها، مش خرج بيت!
رغم التجهم المستحوذ على ملامح وجه "عقيلة" إلا أنها كانت مثل شقيقتها، لا تريد لابنتها الوقوف عند لحظة بعينها، وتناسي مسئولياتها الجديدة كزوجة عليها ترسيخ دعائم علاقتها مع زوجها، لتضمن استمرار حياتها في ظل وجود والدته المتسلطة، فالأخيرة ذات تأثير مهدد لاستقرارهما كعائلة.
...........................................
لم يمر على وجوده بالمشفى عدة أسابيع، إلا وكل بضعة أيام تظهر شكوى غريبة في حقه، على أمل النيل من سمعته وزعزعة وضعه كجراحٍ مخضرم، ومع ذلك كان قادرًا على التعامل بحنكة مع ما يتعرض له من شكاوي مغرضة، متوقعًا من يقف خلفها لإزعاجه ومضايقته، لكنه غض الطرف عن هذه التفاهات إلى أن انتهى المطاف بوجود قوة من أفراد الشرطة تحاصره في مكتبه، وكأنه مجرم خطير على وشك الهروب، حيث تم اتهامه في محضر رسمي بالتسبب في وفاة أحد المرضى عن طريق الخطأ. أنكر "مهاب" هذا الاتهام الصريح، وهتف نافيًا إياه بتحيزٍ ثائر:
-دي تخاريف!
رد عليه الضابط المسئول برسميةٍ بحتة:
-يا دكتور البلاغ بيقول إنك عملت العملية كمان بدون موافقة أهل المريض، ودي مشكلة تانية خطيرة.
طرق بقبضته المتكورة في تعصبٍ على السطح الزجاجي، ورد مؤكدًا في غضبٍ مبرر:
-محصلش!
أشار له الضابط بالتحرك وهو يخاطبه في لهجة جامدة:
-يا ريت حضرتك تتفضل معانا بهدوء على القسم، وهناك هتعرف كل التفاصيل.
كان من الصواب في مثل هذه الظروف التصرف بتعقلٍ وروية لكشف الحقائق، بدلًا من إثارة البلبلة بلا داعٍ، لذا سحب "مهاب" نفسًا عميقًا يثبط به انفعالاته الثائرة، وقال بعد زفيرٍ سريع:
-مافيش مانع عندي، بس الأول هكلم المحامي بتاعي.
رد الضابط في هدوءٍ مقتضب:
-براحتك.
..........................................
المحنة التي ظن أنها ستقضي على مسيرته الطبية دون ذنبٍ فعلي حُلت بخبرة فريق المحامين المخضرمين، وتم كشف ملابسات البلاغ المدسوس من أجل إيقاعه في وقت وجيز، فالمريض الذي اتهم بالتسبب في وفاته خطئًا كان اسمه غير مسجل بسجلات المشفى الرسمية، وبالتالي كان من غير المعقول أن يقوم "مهاب" بإجراء جراحة له وهو لا يمارس عمله إلا بذلك المشفى فقط، ناهيك عن عدم تخصصه في إنهاء أي إجراءات قانونية تخص أي مريض، فمهمته كانت محددة القيام بالعمليات الجراحية فور تأكد فريق يعمل تحت يديه من إعداد كل شيء.
أثبتت التحريات صحة ما قُدم من بيانات رسمية، وأطلق سراحه في الحال، ليتجه "مهاب" إلى مقر شركة عائلة "الجندي" وقد عرف من يقف وراء ذلك الملعوب الخبيث. دون استئذان اقتحم غرفة المكتب الخاصة بوالده، حيث يمكث فيها "سامي" معتقدًا أنه قد بات المسئول الوحيد عن إدارة كافة الأعمال ويملك السلطة المطلقة لتسيير الأمور وفق رغباته هو ولا أحد غيره. توتر، وانتفض، واضطرب في جلسته حينما رأى شقيقه الأصغر بشحمه ولحمه يقف قبالته؛ وكأن شيئًا لم يمسه. استطرد الأخير متكلمًا في صوتٍ ينم عن قوة مهيبة:
-كنت مفكر إن حركة عبيطة زي دي هتجيب نتيجة معايا؟
تلجلج وهو يرد عليه متسائلًا بعدما نهض واقفًا:
-إنت قصدك إيه؟
حاول بحيلة مكشوفة تعنيفه للتغطية على رهبته منه مشيرًا له بسبابته:
-وبعدين إنت إزاي تتدخل عليا المكتب كده؟!!!
تقدم "مهاب" ناحيته وهو يشمله بنظرات احتقارية، تحمل ضغينة عميقة تجاهه، فما تعرض له كان بإيعازٍ منه، بالكاد حافظ على هدوء نبرته وهو يخاطبه هازئًا:
-المرادي ذكائك المحدود خانك يا "سامي".
إهانته لشخصه كانت صريحة، غير متوارية، لم يتحملها كعادته، وصاح به متشنجًا:
-إنت إزاي تكلمني كده؟ أنا أخوك الكبير وآ...
قاطعه في صوتٍ مهدد:
-ما تفكرش إني هعديهالك...
انعكس الذعر على محياه، فتوجس خيفة منه وهو يرى نظراته المميتة مرتكزة عليه؛ وكأنه يود الفتك به، ما لبث أن هوى قلبه بين قدميه حينما أكد له بلهجة غير متساهلة إطلاقًا:
-لأني مش برحم اللي يفكر بس يأذيني.
.............................................
استغرقها الأمر الكثير من الوقت لتعود إلى ممارسة روتين حياتها اليومي بشكلٍ شبه طبيعي، وكان أول ما قررت فعله، هو مهاتفة والدتها بعد انقطاع دام لأشهرٍ، خجلت خلالها من الاعتراف لها بالخطأ الجسيم الذي ارتكبته في حق نفسها. تلمست "تهاني" بطنها المتكور، ودارت بيدها عليها في حركة دائرية رقيقة بعدما أحست بوكزة خفيفة في جانبها، لاح على ثغرها بسمة ناعمة، فهي لم تظن أنها ستكمل ذلك الحمل؛ لكن بذرة المشاعر الأمومية التي صحت بداخلها جعلتها تتراجع عن فكرة التخلص منه رغم مساوئ زواجها غير الموفق من "مهاب"، شجعها على ذلك أيضًا غيابه عنها، ودعم "ممدوح" لها، فقد أصبح أكثر قربًا منها، وتخطت مكانته لديها حدود الرفيق المخلص، لتتوطد صداقتهما بشكلٍ غير معقول؛ لكنها لم تتجاوز حدود المباح، حيث أبقت على وجود مسافة حذرة في علاقتها به.
انتشلها من شرودها الذي طال صوت والدتها شبه الباكي حينما أجابت عليها بعد انتظار استمر لما يقرب من دقيقة:
-كل الغيبة دي يا "تهاني"؟ هونت عليكي يا بنتي؟
افتقادها لوجودها في حياتها جعل تأثير سماعها لصوتها جليًا، دق قلبها، وكتمت بيدها أنفها لتمنع نفسها من البكاء، لترد مدعية كذبًا بصعوبةٍ:
-معلش يا ماما، مشاغل.
جاء ردها مستعتبًا:
-مشاغل إيه اللي وخداكي كل ده؟ مافضتيش دقيقة تكلميني فيها؟
نفرت من مقلتيها الدموع، فتابعت بعد نحنحة سريعة:
-غصب عني، بس المهم، قوليلي إنتو أخباركم إيه؟
أجابتها "عقيلة" بعد شهيق مسموع:
-الحمدلله، ناوية ترجعي امتى؟
مسحت "تهاني" بإصبعها دمعها من على وجنتها، وأخبرتها:
-صعب دلوقتي، أومال "فردوس فين؟
في شيء من البهجة جاوبتها:
-مش اتجوزت والحمدلله.
ردت بشكلٍ آلي مقتضب:
-مبروك.
أضافت والدتها بعدئذ بتلقائية أمومية:
-عقبالك إنتي كمان يا ضنايا، وساعتها نعملك أحلى ليلة هنا بمشيئة ربنا.
حينئذ اعتصر الألم قلبها، فكيف لها أن تخبرها عبر مكالمة هاتفية خاطفة أنها تزوجت؟ بل وعلى وشك الإنجاب بعد أشهر قليلة؟! سكتت لهنيهة وهي تشعر بالخزي من حالها، فهذا ليس ما خططت له، وما ظلت تردده على مسامع الجميع! أعمتها في لحظة غادرة أطماعها، وغطت أحلامها الواهية على رجاحة عقلها، فحينما انتهت سَكرة الحب انكشفت الحقائق، وأصبح كل شيء واضحًا. حاولت "تهاني" أن تبرر صمتها الذي شعرت به أمها بقولها الكاذب:
-أنا.. مش بفكر غير في دراستي وشغلي.
ردت عليها برجاءٍ:
-ربنا يقويكي ويهديلك العاصي.
-يا رب.
أوصتها والدتها قبل أن تنهي معها المكالمة في نبرة التياعٍ:
-ما تطوليش عليا يا "تهاني"، اسألي عليا من وقت للتاني.
حبست شهقة بكائها للحظة الأخيرة، لترد في إيجازٍ:
-حاضر.
ثم وضعت السماعة وهي تنفجر باكية في حرقة وتأثر، قلبها اشتاق إليها، وروحها تتعذب في بُعادها عنها، لازمها الحزن من جديد، وجعلها تتجرع بقساوة مرارة اختيارها غير الموفق.
............................................
لم يساوره أدنى شك أن ابنه كان يبذل قصارى جهده ليطمئن على استقرار وضعه الصحي، وها هو اليوم ينعم في قصره الضخم بمظاهر العافية وعلامات النشاط والحيوية؛ لكنه سرعان ما عبس، وقلب شفتيه، لتنتفض في نظراته شارات الغضب بعدما قرأ ما تناولته الجرائد والصُحف اليومية عن خبر اتهام "مهاب" الكاذب، استدعى ابنه على عجالة قبل ذهابه للمشفى، واستعلم منه عن تفاصيل هذه الأخبار، فأخبره بلا انفعال عن الأمر، لينهي كلامه قائلًا:
-أنا بلغتك يا باشا باللي حصل، ولأنه أخويا فأنا لميت الموضوع.
النظر في وجه "فؤاد" في هذه اللحظة كان مخيفًا، فتعابيره كانت توحي بشرٍ خطير، استمر "مهاب" في الحديث مردفًا:
-مهما كان اسم العيلة مش لازم حد يمسه، بس للأسف الخبر وصل الجرايد.
لم ينطق والده بكلمة، كان واجم الملامح، قاسي النظرات، في حين واصل ابنه إخباره بجديةٍ تامة:
-من بكرة هينزل تكذيب عن الأخبار دي في كل مكان، وهحاسب المسئول عن النشر، مش عاوزك تشيل هم يا باشا.
فجـــأة رفع "فؤاد" كفه أمام وجه ابنه ليقول في صوت رخيم وغامض:
-خلاص يا "مهاب"...
كان الأخير مقطبًا لحاجبيه وهو يصغي إليه دون مقاطعة، تحفز في جلسته أكثر عندما تابع بنبرة أكدت على عدم منحه لأي صكٍ من صكوك الغفران لابنه البكري مهما أظهر من دوافعٍ وتفسيرات:
-أخوك ليه حسابه معايا، فمتدخلش ............
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(نجمٌ في السماء)
رغم مضي الوقت على ذكرى ليلتهما المأســـــاوية إلا أن ذلك الحاجز الوهمي ظل قائمًا بينهما، فهي لم تمنحه الأذن بعد للاقتراب منها، ولم يسعَ هو لفرض نفسه عليها، كانا يعيشان تحت سقف واحد؛ لكن فصلت عشرات الأميــال بينهما. ما زال إحساسه بالذنب يؤلمه، يؤرق مضطجعه، يشعره بأنه لم يكن جديرًا بحماية زوجته. حاول مغالبة هذا الشعور القاسي، والتعامل معها بودية ومحبة لتألف وجوده معها؛ لكن هذه النظرة اللائمة المطلة من عينيها ضاعفت من شعوره بالخزي والخذلان. راقبها "عوض" وهي منهمكة في أداء أعمال المنزل التي لا تفرغ منها أبدًا، وكأنها وسيلتها للانشغال والتشاغل عنه. لم تخرج لمرة واحدة من البيت رغم إلحاحه عليها، حتى ما يلزم البيت من طعام وشراب كان يبتاعه هو. كان مدركًا للسبب المنطقي وراء عزلتها وانقطاعها، حتمًا هي تخشى مواجهة الناس، وتسعى لتجنب نظرات المعارف والجيران لها، فموضوع ليلة زفافهما كان ومازال يؤلمها. توقف عن الاستغراق في تفكيره، وتنحنح بصوت خشن لتنتبه لوجوده، ثم سألها بنبرة مهتمة:
-ناقصك أي طلبات؟
ردت "فردوس" بهزة نافية من رأسها:
-لأ، كله موجود.
لف يده حول عنقه يحكه قليلًا، ثم استطرد متابعًا:
-طيب، أنا هتأخر شوية، ورايا مأموريات ومشاوير..
علقت عليه باقتضابٍ:
-ماشي.
فكر في الترويح عنها، فاقترح عليها بإصرارٍ:
- لو حابة تروحي عند الست أمك وتقضي النهار معاها، فالبسي عشان أوصلك في سكتي.
نظرت له باستغرابٍ للحظةٍ، ثم حسمت رأيها مرددة:
-طيب.
.................................................
استحوذ بمكرٍ ودهاء على الفراغ الكبير الذي ملأ حياتها لأشهرٍ، وجعلها فريسة سهلة الاستدراج لأي إغراء بسيط، وبالتدريج لم تعد تشعر بهذه الوَحشة المسيطرة على نمط يومها الرتيب، وتناقص بداخلها شعور النقم والكراهية، لتصبح أكثر تقبلًا للمستجد في حياتها. تطلعت "تهاني" إلى "ممدوح" وهو يسير معها على البساط الأحمر الممتد بطول الردهة الخاصة بقاعة المؤتمرات حينما استطرد حديثه الباسم إليها:
-مبسوط إنك خدتي القرار ده.
رغم التوتر الذي اعتراها إلا أنها أخفته وراء ابتسامة رقيقة منمقة، لترد في إيجازٍ:
-شكرًا.
لم تصدق أنها استطاعت الانسياق وراء دعوته الملحة بطرح أفكارها المتفردة على المجتمع العلمي، ترددت في البداية، وعارضت قبولها؛ لكنها استسلمت مع تصميمه، وخاضت التجربة غير متوقعة نجاحها؛ لكنه أمدها بكل السبل والوسائل التي جعلت أحلامها تصبح حقيقة ملموسة، لتحفر بذلك اسمها بين جموع العلماء والأطباء المعروف عنهم دومًا بإقدامهم على تقديم مبادرات علمية مفيدة للغير، مما دفعها لتكون من ضمن المرشحين الأوائل للمشاركة في أي مؤتمر علمي. موجة من الارتباك عصفت بها وكأنها مرتها الأولى التي تتولى فيها الحديث عندما اقتربت من مدخل القاعة، شعر "ممدوح" باضطرابها، فقال مُلطفًا:
-ماتقلقيش أنا موجود جمبك في كل لحظة.
هزت رأسها في امتنان، فأكمل بشيءٍ من التوصية وهو يخفض بصره نحو بطنها المنتفخ والبارز من أسفل ثوبها الأسود اللامع:
-حاولي ماتتعبيش نفسك كتير...
لتتحول نبرته لشيء من اللؤم وهو يختتم عبارته:
-إنتي غالية عندنا.
أحست بتلميحٍ متوارٍ في جملته، استدعى سيرة من لا تحبذ التفكير فيه، فما كان منها إلا أن ضحكت قائلة في شيء من الاستهزاء:
-إيه دكتور "مهاب" موصيك عليا؟
صحح لها بتوضيحٍ شبه جاد:
-لأ، أنا بقالي مدة معرفش عنه حاجة، بس حقيقي أنا خايف عليكي، مش حابب إنك تتعبي.
ارتبكت من طريقته في إظهاره لاهتمامٍ مبالغٍ بها، وقالت كأنما تتهرب منه:
-عن إذنك، أنا اتأخرت.
تنحى للجانب، ورد دون أن تخبت بسمته:
-اتفضلي، وهتلاقيني مستنيكي لما تخلصي.
اكتفت بالإيماء برأسها قبل أن تتسارع خطواتها لتبتعد عنه، وذلك الإحساس الغريب والمتناقض تجاهه يناوشها بقوةٍ، حاولت مقاومة التشوش الذي يسود مشاعرها، بل وينعكس تأثيره الطاغي على تفكيرها، فهناك أشياء لا تزال معلقة، تحتاج للحسم قبل التفكير في أي أمر جديد.
..........................................
جمع الأوراق الرسمية من أمامه بعدما فرغ من التوقيع عليها جميعًا، ليضعها بحرصٍ في مغلفٍ أبيض اللون، ثم نقل المظروف إلى داخل حقيبته الجلدية، وأغلقها قبل أن ينتقل من موضع وقوفه إلى حيث كان يجلس في مواجهته عند قدومه لحجرة مكتبه. رفع المحامي نظره إلى رب عمله عندما شدد عليه بلهجته الصارمة:
-زي ما فهمتك يا حضرت الأفوكاتو.
في طاعة تامة علق عليه:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، كل اللي أمرت بيه هيتعمل.
تأكد الأخير أنه لم يغفل عن شيء مما كُلف به، وأضاف في تهذيبٍ:
-استأذن معاليك.
أشار له "فؤاد" بيده لينصرف قائلًا:
-اتفضل.
أثناء خروجه تقابل مصادفة مع "سامي" الذي رمقه بنظرة حائرة مستغربة لوجوده، حاول استدراجه في الحديث ليعرف سبب زيارته؛ لكنه لم يمنحه ما يسد به رمق فضوله، فاتجه الأخير في الحال إلى مكتب أبيه، ظل يراوغ ويحاور في مواضيع شتى إلى أن انتهى به المطاف متسائلًا بنبرة مالت للتحقيق وهو يتفرس في قسماته:
-هو المحامي بيعمل إيه هنا يا باشا؟
أخبره بوجهٍ شديد الصرامة دون أن ينظر إليه:
-موضوع مايخصكش.
بهتت ملامحه للغاية من إحراجه المتعمد له، وقال حفظًا لماء وجهه المُراق:
-أنا بس بطمن لأحسن يكون في مشكلة ولا حاجة، يعني مافيش داعي حضرتك تتعب نفسك، كل اللي يمهني سلامتك، وأنا موجود عشان آ...
قاطعه في صوتٍ آمر غير متساهل:
-روح على مكتبك دلوقتي، لما أحتاجك هناديلك.
تحول حرجه لعاصفة من الضيق، اضطر مرغمًا لكظم ما يعتريه، وقال متصنعًا الابتسام:
-تمام يا باشا.
بدا في وجهه التذمر لأنه لم يعرف السر الذي يخفيه والده عنه، خاصة مع تكرار قدوم محاميه الخاص، دون أن يتم استدعائه لحضور لقائهما، والذي يرتبط في الأغلب بالعمل والاتفاقات المتعلقة به، لذا شك أن يكون الأمر أخطر مما يجيء في تصوره. تكلم "سامي" مع نفسه بعزمٍ وهو يسير نحو مكتبه:
-لازم أعرف إيه اللي بيدور من ورايا!
............................................
انتابتها قشعريرة مريبة ومبررة عندما وطأت خارج جدران بيتها، ندمت لأنها وافقت على ذلك، وسارت -وشعورها بالرهبة يغمرها- مجاورة لزوجها، اختلست النظرات على من حولها، كانت تخشى من أي ردة فعل غير متوقعة حينما يراها أحدهم، فقد توهمت أن الجميع مازالوا يذكرون تفاصيل ليلتها الدامـــية بعدما شاهدوا بأعينهم ما جرى حينها. هدأت خواطرها المتوترة نسبيًا عندما وجدت أن هواجسها غير حقيقية. استعادت جأشها، ومشت بخوفٍ أخذٍ في التناقص حتى بلغت بنايتها القديمة. تركها "عوض" عند المدخل، وقال:
-سلمي على الجماعة فوق، وأنا هطلع عندهم لما أرجع.
أولته ظهرها مرددة بوجهٍ شبه عابس:
-طيب.
تقابلت عند صعودها على الدرج مع جارتها "إجلال" التي كانت تنفض السجاد، سعدت الأخيرة للغاية لرؤيتها، وهللت في سرور متعاظم:
-"دوسة" حبيبتي.
احتضنتها، وانهالت عليها بعشرات القبلات على كل وجنة، وعاتبتها برقةٍ:
-كده يا "دوسة"؟ تنسيني يا حبيبتي؟
ردت بوجومٍ بائن:
-معلش.
تصنعت "إجلال" الضحك، ومازحتها:
-شكل صحتك مش جاية على الجواز.
لم تجد منها أي تعليق، فندمت على طرفتها على الموفقة، وتساءلت لتغير من مجرى الحوار:
-إنتي عاملة إيه؟ بقالنا كتير مشوفناكيش هنا، هو سي "عوض" مانعك تزوري خالتي ولا إيه؟
نفت بهزة من رأسها، وأجابتها صراحةً، وبنبرة مشوبة بالهم:
-لأ، أنا اللي مكونتش حابة انزل من البيت.
تفهمت للأمر، وقالت بودٍ وهي تميل عليها بوجهه لتقبلها:
-مش هعطلك يا "دوسة"، عشان تلحقي تقعدي مع خالتي شوية، إن شاءالله نتقابل تاني.
تنهدت مغمغمة في نفس النبرة الموحية بالتعاسة:
-ربنا يسهل.
شهدت "إجلال" كيف يمكن لمشاعر الحب حينما يتم الغدر بها أن تتبدل لأخرى على النقيض، ناقمة، ساخطة، وغير مقبلة على الحياة، لأن أحد الطرفين كان منذ البداية مستغلًا، ومنافقًا.
.................................................
رغم استقبالها الحميمي والحار لها إلا أنها شعرت بأنها مجرد ضيفة عابرة، بأن ما في المنزل ما عاد يخصها. اقتضبت في الحديث مع والدتها، والتهت بتنظيف ما احتوى على الغبار لئلا تحادثها بما لا تريد البوح به، خاصة ما يخص طبيعة علاقتها الفاترة مع زوجها. انقلبت سحنتها حينما جاءت خالتها على غير ميعاد، وكأنها لا تبدو مرحبة بوجودها. سألتها "أفكار" بفضولٍ وهي تجول بعينيها عليها من رأسها لأخمص قدميها:
-مالك يا "دوسة" خاسة كده ليه؟
ردت عليها وهي تجفف الأرضية المبتلة تحت قدميها بمنشفة جافة:
-أنا زي ما أنا.
تدخلت "عقيلة" في الحوار، وأخبرتها بعد زمة سريعة لشفتيها:
-وربنا أنا قولت هي مابتكلش.
سكتت "أفكار" لهنيهة، ثم تكلمت عاليًا وبنزق:
-لأحسن تكوني حبلى؟!!
شهقت "فردوس" مصدومة، وتوقفت عن التجفيف وهي منحنية على ركبتيها لتتطلع إليها بعينين مصدومتين، في حين تابعت خالتها متسائلة بمكرٍ:
-هو إنتو بقالكو كام شهر سوا؟
ردت عليها بوجومٍ:
-عيب يا خالتي الكلام ده.
ضحكت في تسلية، وأصرت عليها بسخافةٍ:
-يا بت هتعملي مكسوفة ولا إيه؟ علينا برضوه!
مرة ثانية شاركتهما "عقيلة" الحديث، وقالت بتعبيرٍ شبه جدي:
-أكيد لو في حاجة هتقول.
لم تبدُ شقيقتها مقتنعة بذلك، وأردفت في نفس الأسلوب السمج المستفز:
-ده احنا بقالنا شهور مابنشوف وشك، يعني لازمًا غرقانين في العسل، والدلع، وآ...
ضجرت "فردوس" من سماعها لمثل هذه التلميحات المتجاوزة، وكأنها حقًا تنعم بحياة هانئة مع من اختارت، لذا أنكرتها في التو، وبغير احترازٍ:
-محصلش، هو احنا أصلًا بنقعد سوا!!!
توقفت كلتاهما عن الكلام لتحدقا في وجهها بنظراتٍ جمعت بين الدهشة والذهول، آنئذ أدركت "فردوس" أنها أخطأت في إبلاغهما بحقيقة وضعها. استقامت واقفة، ومسحت كفيها في جانبي قميصها المنزلي، لتتجه بعدئذ بعينيها نحو أمها عندما لطمت على صدرها تسألها في جزعٍ:
-يا نصيبتي؟ ليه كده يا بت؟
أجابتها بوجهٍ ممتعض:
-مافيش يامه، مالناش نفس لبعض.
نظرت لها "أفكار" شزرًا، وعقبت بنبرة مليئة بالاستهجان، ويدها تشير إليها باحتقارٍ:
-طبعًا، ونفسه هتتفتح إزاي؟ شوفي بوزها ممدود شبرين لقدام!
اشتعل وجهها غيظًا من أسلوبها الفظ، فلم تكف عن مضايقتها، واستمرت تقول:
-بقى ده شكل واحدة هتخلي جوزها يلبد في البيت؟ ليه حق يكون معظم الوقت طفشان!
هتفت بها في حدةٍ، وقد اشتاطت غضبًا:
-مالوش لازمة الكلام ده يا خالتي!
لم تكترث لأمرها، وحذرتها بشيءٍ من الهجوم:
-إنتي لو فضلتي على نفس الحال مش بعيد تلاقيه متجوز عليكي.
انقبض قلبها، وراحت تصيح بالتياعٍ ممزوج بالضيق:
-ماتقوليش كده...
منحتها خالتها نظرة مستخفة بها، فدافعت عنه بثقةٍ عمياء:
-"عوض" مالوش في الكلام ده.
أكدت لها بما زعزع يقينها تجاهه:
-يا عين أمك الرجالة كلهم صنف واحد، لو ملاقوش الراحة في بيتهم هيدوروا عليها برا!
ثم مصمصت شفتيها، وسألتها في جرأة:
-على كده بقى بتلبسي ليه الشفتشي؟!!
تضرج وجهها بحمرة خجلة، ورمشت بعينيها مهمهمة:
-عيب كده!
ضحكت ساخرة منها، ووكزتها في جانب ذراعها، لتخبرها بعد ذلك بنبرة ذات مغزى:
-يا خايبة! وربنا الراجل ده ليه الجنة إنه مستحمل منك نشفان الريق!
كزت على أسنانها في حنقٍ، ومع ذلك لم تعلق عليها، بينما استمرت "أفكار" تتكلم مخاطبة شقيقتها كنوعٍ من التحذير:
-وعيها يا "عقيلة"، بدل ما ترجع تقعد جمبك بخبيتها الكبيرة!
على الرغم من فظاظة طريقتها إلا أنها كانت محقة في إنذارها، وهذا ما جعل شقيقتها ترتاع من احتمالية انفصــال ابنتها، أو على الأغلب زواجه بأخرى لتعاني بقســــاوة من الأمرين.
.........................................
مع مرور الوقت نما بينهما شيء أعمق من الود؛ لكنه ما زال مغلفًا بالحيطة والحرص، ولم يتجاوز الحدود، فرغم هجر "مهاب" لها إلا أنها حافظت على مسمى علاقتهما إلى أن تنتهي بشكلٍ رسمي. لن ينكر "ممدوح" أن مشاعر الغيرة قد بلغت منتهاها لديه عندما انكشفت له شخصية "تهاني" الإنسانية، تلك التي لم ولن ينظر إليها رفيقه مطلقًا، كم حقد عليه لكونه تفوق عليه في الظفر بها! آه لو سبقه في النيل منها، لربما اختلف كل شيء الآن. مرة أخرى اصطحبها لأحد المؤتمرات الطبية، وكالعادة أصر على اشتراكها في محاضرة الضيوف، ولم تعارضه مثلما فعلت في السابق، فخبرتها لم تعد محدودة في هذا المجال. تقوست شفتا "تهاني" عن ابتسامة مشرقة وهي تستطرد:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح" على كل حاجة عملتها عشاني، حد تاني كان استغل الموقف واتخلى عني، مش يدعمني بالشكل الكبير ده عشان أنجح.
رمقها بهذه النظرة الدافئة المليئة بقدرٍ من العتاب قبل أن يرد:
-هزعل منك بجد لو فضلتي تقولي كده!
تلونت بشرتها بحمرة نضرة، فقال عن قصدٍ ليزيد من إرباك مشاعرها:
-إنتي غالية عندي.
افتقارها لسماع ما يداعب مشاعرها المرهفة كأنثى جعلها تواقة دومًا لمثل هذه العبارات الناعمة التي تجعلها متأهبة لاستقبال المزيد. نظرت إليه بنظرة مختلفة، وهو يؤكد لها مبتسمًا:
-وأنا واثق إنك قريب أوي هترتاحي من كل مشاكلك.
تضمن جملته تلميحًا حذرًا يخص علاقتها الشائكة مع زوجها، تنهدت مليًا، وهمهمت في رجاءٍ كبير:
-يا ريت.
............................................
أدهشه تفوقها العلمي، ولباقتها الأدبية، فكانت لأغلب الوقت محط أنظاره، لا يرى سواها، ولا يسمع غيرها، كان في كامل انتباهه لكل شاردة وواردة تصدر عنها رغم جلوسه في مؤخرة القاعة؛ لكن زاويته أتاحت له رؤيتها بشكلٍ أفضل ودون إثارة الريبة أو التساؤلات، بقي مستغرقًا في تأملها إلى أن هبط عليه ظلًا غريبًا، جعله يدير رأسه للجانب ليمعن النظر فيمن حجب الرؤية عنه، سرعان ما اعتلت قسماته صدمة جلية، فهتف في غير تصديق، وقد اتسعت نظراته بشدة:
-"مهاب"!
ضرب كتفه بيده، وجلس إلى جواره قائلًا بعنجهيةٍ:
-مفاجأة مش كده؟
سحب "ممدوح" شهيقًا عميقًا، ليضبط به نوبة الاضطراب التي أصابته، لفظه على مهلٍ، ثم سأله مستفهمًا في صوتٍ شبه هادئ:
-ماقولتش إنك جاي ليه؟ على الأقل كنت روحت بنفسي أستقبلك في المطار!!
رد عليه في خبثٍ، ونظرة غامضة تصدح من مقلتيه:
-وأبوظ المفاجأة عليكم؟
تحفز "ممدوح" في جلسته، وسألته بتحيرٍ قلق بعدما اختفت البسمة من على محياه:
-إنت عرفت منين إن احنا هنا؟
رفع حاجبه للأعلى قليلًا، وأجابه:
-مافيش حاجة بتستخبى عليا.
ثم اتجه ببصره للأمام، لتقع عيناه على زوجته، وتابع بنبرة موحية:
-أنا شايف إنك قايم بواجبك على الآخر، مقصرتش مع "تهاني".
قال كأنما يسخر منه:
-مش إنت موصيني؟
مجددًا ضرب على كتفه بيده قبل أن ينهض ليخبره:
-وإنت الصراحة عملت بالوصية، وعوضت غيابي.
كلماته كانت منتقاة، ومبطنة بتلميح مفهوم، نظر إليه بشيءٍ من التوجس والقلق، ثم تساءل كمحاولة للتغطية على ذلك:
-أخبار "فؤاد" باشا إيه؟
مط فمه للحظةٍ، وأجابه:
-بقى أحسن.
تصنع الابتسام معقبًا:
-طب كويس.
أشار "مهاب" برأسه نحو المنصة، ثم خاطبه في تشفٍ، وهذه الابتسامة اللئيمة تتراقص على زاوية فمه:
-فرصة بقى أطلع أشجع مراتي، ولا إيه رأيك؟
غام وجهه كليًا، وانعكس ذلك أيضًا في نظراته إليه، بصعوبة حاول مبادلته الابتسام حينما رد عليه:
-اتفضل.
كاد ينهض ليسير معه؛ لكنه ضغط على كتفه ليبقيه جالسًا في مقعده وهو يكلمه بلهجة الآمر الناهي:
-خليك مطرحك، أنا عارف سكتي كويس!
ثم أطلق ضحكة خافتة كأنما يستهزئ به، قبل أن يوليه ظهره، ويتقدم للأمام تاركًا إياه يغلي بين أحقاده.
.................................................
ركزت عينيها على زجاجة الماء البلاستيكية الموضوعة أمامها إلى أن أحست بانقباضة غير مريحة تضرب في صدرها، وكأن حدسها يخبرها بشكلٍ غير مباشر باتخاذ حذرها، في عفوية تامة، تطلعت للأمام، وأبصرته، كانت مفاجأة مدوية، ما لبث أن استدعى عقلها لحظات المذلة والإهانة وهو يسير في خيلاء تجاهها، وكامل نظراته عليها، توقفت عن التنفس، كما جحظت عيناها على اتساعهما، ورددت بقلبٍ يدق في هلع:
-"مهاب"!
بقيت على حالتها المصدومة للحظاتٍ إلى أن استعادت رشدها، فنهضت مستأذنة من على منصة الحضور، محاولة الفرار منه قبل وصوله؛ لكن لحظها التعس شعرت بذراعه القوية تطوق كتفيها لتجبرها على الاستدارة للجانب، والنظر إليه، انفرجت شفتاها، وحملقت فيه بذهولٍ كبير، فاقدة لقدرتها على النطق بكلمة، مال نحو أذنها، وهمس لها بحرارة كانت ترتجف منها:
-حبيبتي، وحشتيني.
انطلقت شارات الإنذار في عقلها لتجبرها على الاستفاقة من حالة التيه التي سيطرت عليها بوجوده المؤثر، أيمكن لمتحجر القلب ومن يدعس على أرواح البشر أن يكون صادقًا في اهتمامه بأحدهم؟ ربما لانطلى عليها ذلك لو لم يتابع مرددًا بأسلوبه المتملك:
-فكرتيني مش راجع ولا إيه؟
حدجها بنظرة لها مدلولها وهو يسألها:
-"ممدوح" كان شايف شغله معاكي كويس؟
أدركت بصفاءٍ كامل أنه يحاول استفزازها، تهديد سلامها الذي ظنت أنها قد بدأت تعيش فيه بغيابه الدائم عنها، سرعان ما تحفزت ضده بوضوحٍ، تملصت من ذراعه، وتراجعت عنه متسائلة في حدة:
-إنت عاوز مني إيه؟
ألقى نظرة على الانتفاخ البارز في جسدها معلقًا:
-شكلك نسيتي إنك مراتي، وإن اللي في بطنك ده يخصني.
بغريزة أمومية وضعت يدها على بطنها تحميه، وهتفت في نوعٍ من الهجوم اللفظي عليه:
-مش شايف يا دكتور إنك اتأخرت على الطلاق؟ المفروض ورقتي كانت توصلني من زمان.
تفشى فيها الخوف حينما منحها هذه النظرة النهمة التي تجردها مما يسترها، قبل أن يخبرها مؤكدًا:
-ومين قالك إني هطلقك دلوقتي؟ ده أنا حتى ماشبعتش منك!
أحست بدفقاتٍ من العرق البارد تغمرها وقد لمحت "ممدوح" قادمًا من على بعد لينضم إليهما، ارتعشت شفتاها وهي تنطق باسمه:
-دكتور "ممدوح"!
التفت زوجها لينظر إليه صائحًا بصوتٍ مسموعٍ لكليهما:
-بيتهيألي دورك خلص لحد كده.
تجمد الأخير بمكانه ناظرًا إلى "تهاني" بتحيرٍ وضيق، أصبح أكثر حقدًا عليه عندما طلب منه "مهاب" في وقاحةٍ:
-محتاج أختلي بمراتي شوية، يا ريت تمشي!
اكتسب وجهه تعبيرًا ساخطًا رغم ترديده الهادئ:
-طبعًا، خدوا راحتكم.
انصرف مغادرًا وهو يبرطم بسبة خافتة، في حين انطلقت "تهاني" مواصلة فقرة هجومها الكاره عليه:
-إزاي قابل على نفسك تفضل مع واحدة مش طايقاك؟
وضع يده في جيب بنطاله، وانتصب أكثر في وقفته السامقة المتعجرفة، ليسألها في استعلاءٍ:
-للدرجادي نسيتي كنتي عاملة إزاي أول ما شوفتيني؟
ببساطة شديدة اعترفت له مسترسلة:
-كنت غبية، وعامية، ومش فاهمة حاجة.
وجوده كان كالهم على القلب، جعلها في حالة من الغضب والانفعال، وازداد ذلك بقوله المستمتع:
-تعرفي، أنا فكرت إنك نزلتي الحمل، بس إنتي فاجئتني.
رفعت سبابتها في وجهه، وهتفت في تحيزٍ حانق:
-أنا احتفظت بيه عشاني مش عشانك إنت.
وضع إصبعيه على طرف ذقنه قبل أن يقول:
-أكيد، ماهي فرصة ليكي برضوه تستفيدي عن طريقه.
الآن ترى صورة مختلفة عنه، حقيقته البشعة التي حجبها حبها الأعمى عن رؤيتها؛ شخصية مؤذية، متعجرفة، متملكة، تفرض سطوتها بكل الحيل والسبل لتحوز على ما لا تستطيع امتلاكه. استمرت في قولها المتعصب وهي تناطحه الند بالند:
-إنت غلطان يا دكتور.
امتدت يده تجاه وجهها لتلامس راحته صدغها، فانتفضت نافرة منه، ومع ذلك لم يبدُ مزعوجًا من تصرفها، بل قال في برودٍ تام:
-حبيبتي، أنا قريتك من أول لحظة!
احتقنت نظراتها بشدة، فتابع مستفيضًا في وصفها بتبجحٍ:
-واحدة طماعة، دورت على فرصة حلوة عشان تركب عليها، بس للأسف اللي حصل العكس!
وصلها وصفه الجارح والمهين، فاندفعت ناحيته بعصبية وهي تكور قبضتها لتلكزه في صدره صارخة به:
-إنت سافل ومش محترم.
أمسك بها من رسغها ضاغطًا عليه بقسوةٍ، أخفض يده مدمدمًا في صوتٍ صارم ومحذر:
-ماتنسيش نفسك!
انتشلت يدها من قبضته، واستمرت في مهاجمته كلاميًا:
-إنت واخد قلم كبير في نفسك...
قطب جبينه مظهرًا ضيقًا نسبيًا منها، فأكملت على نفس المنوال:
-أنا من غيرك أقدر أحقق أحلامي بنفسي، مش مستنية أستفيد منك بحاجة.
في التو هددها مباشرة:
-وأنا سهل عليا جدًا أدمرها، ومن غير مجهود.
اشتعلت عيناها على الأخير، فقال باستخفافٍ:
-ماتبصليش كده.
تأويهة خافتة انفلتت منها عندما أطبق على فكها يعتصره وهو يخاطبها:
-اللعب معايا مش سهل خالص يا دكتورة.
وضعت يدها على كفه تريد انتزاعه، فأرخى أصابعه عنها لتهمهم في ألمٍ:
-أنا بكرهك.
استخدم يده الأخرى في المسح على وجنتها قائلًا:
-كويس، عاوزك تفضلي كده.
انتفضت من لمسته التي اعتبرتها مقززة، وهتفت به:
-كنت غبية لما صدقت إن واحد زيك كويس.
لم تنتظر رده على كلامها، بل تحركت منصرفة بعيدًا عنه بخطواتٍ شبه مسرعة نحو سلم الدرج، ليلحق بها هاتفًا:
-أنا ماسمحتلكيش تمشي.
ثم قبض عليها من ذراعها ليوقفها عنوة، لم تقبل بإمساكه لها، وثارت عليه محاولة انتشــال ذراعه من بين أصابعه:
-ماتمسكنيش، شيل إيدك عني.
نجحت في الإفلات منه مستخدمة كامل قوتها، واستدارت بعصبيتها الجمة للأمام غير منتبهة لموضع قدمها، فزلت، وانكفأت على وجهها، فاقدة لاتزانها، لتسقط في حلقات دائرية بطول سلم الدرج وصوت صراخها المفزوع يرن في جنبات المكان. تسمر "مهاب" في مكانه مصدومًا مما حدث لها، وصاح يناديها:
-"تهانــــــــي"!
.........................................
مغلفًا بصمته، ومستغرقًا في تفكير عميق، مكث "مهاب" في الرواق على أحد المقاعد الجلدية بالمشفى، بعدما تصاعدت الأحداث واتخذت مسارًا مفاجئًا غير الذي كان مرسومًا له. بالطبع لكون الحادثة التي تعرضت لها زوجته خطيرة، رغم أنها لم تكن بقصدٍ منه، إلا أنها جعلته محط الاتهام والتساؤلات، فخضع للتحقيق المدقق كإجراء قانوني متبع، شهد بما حدث، موضحًا تفاصيل وقوعها، إلا أنه تغاضى عن الإبلاغ بشجارهما الذي نشب، مدعيًا أنها كانت متلهفة للعودة إلى منزلهما لتجديد شوقهما، فغفلت عن الانتباه لخطواتها وتعرقلت على الدرج، ولم يتمكن من إنقاذها.
استفاق "مهاب" من شروده عندما سأله رفيقه:
-عملت إيه؟ التحقيقات خلصت ولا لسه؟
أجابه بتعبيرات واجمة:
-لسه.
استطرد "ممدوح" يسأله في خبثٍ، كأنما يتأكد من شكوكه ناحيته:
-هما مفكرين إنك زقتها على السلم ولا إيه؟
حدجه بنظرة نارية قبل أن يجيبه:
-لو حابب أخلص منها طبيعي أعمل ده من غير شهود يا "ممدوح"، أنا مش غبي أوي كده.
توقف عن التحديق في وجهه عندما خرج إليه أحد الأطباء من الداخل ليخاطبه:
-دكتور "مهاب"...
نهض قائمًا، فاستأنف الطبيب كلامه بترددٍ:
-احنا للأسف مضطرين نلجأ للولادة القيصرية.
ظهر القلق الشديد على وجه "ممدوح"، بينما ظلت تعابير "مهاب" غير مقروءة، خاصة والطبيب يؤكد بنبرة شبه آسفة:
-الوضع صعب، والتدخل الفوري مطلوب حفاظًا على حياة الأم والجنين اللي في بطنها.
لم ينبس بكلمة، وأبقى على صمته المريب، فكرر عليه الطبيب لمرة أخرى:
-محتاجين موافقتك، باعتبارك زوج المريضة.
ظهرت الحيرة في عيني "ممدوح"، وابتلع ريقه متوقعًا الرفض من قِبل رفيقه، فمنذ متى يهتم لأحدهم؛ لكنه فاجأه عندما هتف بصوتٍ حازم:
-اعمل المطلوب.
هز الطبيب رأسه بالإيجاب، فتابع "مهاب" إملاء أوامره عليه:
-اسمعني كويس، اللي يهمني الجنين، مفهوم؟
قال بعد زفرة سريعة:
-احنا هنعمل اللي علينا وزيادة.
بعينين متحفزتين، تطلع "ممدوح" إليه، رغم كل شيء لم يمنعه ضيقه من سؤاله غير المتدبر:
-هي مش فارقة معاك ولا إيه؟
لم ينظر تجاهه، وهمهم وهو يستقر جالسًا على مقعده:
-مش وقته الكلام ده!
بحث عن شيء ليخبره به؛ لكنه لم يجد، لذا هسهس مع نفسه في استحقارٍ:
-للنـــدالة عنوان!
.................................................
الانتظار الطويل المحمل بالتكهنات بالخارج كان مزعجًا له، ربما لو استخدم سلطته لولج بلا أي تعقيد لداخل غرفة العمليات وتابع ما يدور بنفسه؛ لكنه للمرة الأولى في حياته يرتاع من فكرة تواجده، فقطعة منه تسبب بدون قصد منه في إيذائها. تأهب في جلسته، وانتفض دفعة واحدة عندما أطل الطبيب من الداخل ليعطيه البشارة بوجه مبتسم:
-ألف مبروك يا دكتور "مهاب"، الحمدلله الخطر زال، والأم والولد بخير.
غفل عن الجزء المتعلق بزوجته، وأبدى كامل تركيزه مع كلماته الأخيرة متسائلًا ليتأكد مما سمع:
-هي جابت ولد؟
رد بنفس الوجه المبتسم، وبإيماءة من رأسه:
-أيوه.
انفرجت أساريره بابتسامةٍ كانت مصحوبة بخفقة قوية في صدره، رأى "ممدوح" ما طرأ عليه من تغيير غريب ومريب، وراقبه دون تدخلٍ، عاد الطبيب ليكلمه:
-شوية وهننقل المدام بعد ما تفوق على أوضة خاصة بيها.
مرة ثانية لم يكترث لحديثه عنها، وسأله "مهاب" مستعلمًا:
-الولد كويس؟
جاوبه في الحال:
-بخير، بيتم فحصه جوا، اطمن...
أحس "مهاب" بنوبة من الارتياح تتخلل أوصاله، بينما الطبيب لا يزال يحادثه:
-صحيح الولادة كانت بدري عن ميعادها، بس الحمدلله عدت على خير.
ضنَّ عليه بأي رد يظهر اهتمامه بها، وانشغل بتفكيره في المولود الصغير الذي سيحمل اسمه، ولقب عائلته. انتبه لرفيقه عندما هنأه وهو يربت على ظهره بخفةٍ:
-مبروك يا صاحبي، بقيت أب.
ثم تصنع الضحك، واستأنف يسأله في لؤمٍ:
-أكيد الباشا الكبير هيفرح لما يعرف بخبر عظيم زي ده، ولا هو معندوش خبر بجوازك؟
حينئذ برزت نظرة مسيطرة في عيني "مهاب" وهو يقول بغرورٍ واثق:
-لأ عرف، ولاد الحلال خدموني الصراحة!
خيل إليه أنه يتهمه بنظرته تلك، كاد أن يبرر له لولا أن خرجت إحدى الممرضات من الداخل وهي تحمل لفافة قماشية، تقدمت بها نحو "مهاب" وهي تخاطبه:
-اتفضل يا دكتور، ابن حضرتك.
وكأنه صعق بلمسة غير متوقعة من سلك يسري فيه تيار كهربي حينما امتدت ذراعاه، وحمل عنها طفله البكري، قربه من صدره ببطءٍ، وراح يتأمله بنظرات ملية، مدهوشة، حائرة، غير مصدقة حقًا أنه يضم بين يديه لحمه ودمه. راقبه "ممدوح" بسحنةٍ مغتاظة، طغى عليه غليل نفسه، وأردف معلقًا عليه في أسلوب شبه متهكم ليحقر من أهمية هذه اللحظة الفريدة التي يعايشها:
-منظرك غريب أوي، مين كان يصدق إن الدكتور "مهاب" يبقى أب بالسرعة دي، أكيد إنت مصدوم!
للغرابة لم يبالِ "مهاب" بسخريته الظاهرة، ولا باستخفافه بمسألة إنجاب زوجته لطفل في ولادة مبكرة، بل كان منشغلًا بما يحمل، بقيت نظراته تحوي رضيعه دون غيره، وأخبره بصدقٍ عجيب:
-هتصدقني لو قولتلك إن دي لحظة ما تتعوضش.
وكأنه يزيد من اندلاع النيران بأعماقه بالإفصاح عن حقيقة مشاعره، لذا استهان بها مدعيًا ضحكه:
-معقولة؟ إنت بتحس؟ صعب أقتنع بصراحة!
سدد له نظرة مزدرية قبل أن يعقب عليه:
-تقتنع أو لأ مايهمنيش دلوقتي.
ابتلع إهانته البادية في نظرته إليه، وسأله كنوعٍ من المزاح:
-ماشي يا سيدي، على كده ناوي تسميه إيه بقى؟
كان كمن صعد نجمه إلى السماء في طرفة عين بميلاده غير المرتب له، خاصة إن علم والده أن حفيده البكري ذكرًا، فكم كان ينتظر لحظة كتلك، وإن لم يكن راضيًا عن زيجته! ابتسم في حبورٍ، ليترك لرضيعه سبابته ليلف أصابعه الضئيلة عليه، ثم قال في شموخٍ:
-بفكر في .. "أَوْس" ...........
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(أَوْس)
بعد نجاح عملية الولادة القيصرية لها، تم نقلها إلى غرفة منفردة، لتقوم إحدى الممرضات برعايتها الرعاية اللازمة، ريثما تستفيق كليًا. كانت "تهاني" تشعر بآلام متفرقة في أنحاء عظام جسدها، وذلك كردة فعل طبيعية جراء اصطدامها العنيف والمتكرر على طول درجات السلم. تأوهت في صوت واهن، وهي تحرك رأسها للجانبين على الوسادة، تجمعت الدموع في عينيها، وراح صوت أنينها يرتفع بالتدريج، انحنت عليها الممرضة لتضبط غطاء شعرها البلاستيكي، وسألتها إن كانت تريد شيئًا، فأخبرتها الأخيرة بسؤالٍ، وبهمسٍ شبه مسموع:
-اللي في بطني عايش؟
أجابتها في التو، وبابتسامة مشرقة على محياها:
-أيوه، ما شاء الله ابنك بخير.
خفق قلبها بقوةٍ، وردت بصدرٍ ينهج:
-ابني!!
استغرقها الأمر لحظاتٍ معدودة لتخامر هذا الشعور الرائع بكونها قد أنجبت وصارت أمًا. بلهفة ممزوجة بالحماس هتفت تطلب منها رغم انخفاض نبرتها:
-عاوزة أشوف ابني.
ربتت الممرضة بحنوٍ على كتفها قائلة بنفس الوجه الباسم:
-اطمني، هيجيلك هنا كمان شوية.
أغمضت "تهاني" عينيها لهنيهة مستمتعة بذلك الإحساس الخلاب، لتظل تردد على لسانها بتنهيدة متشوقة:
-ابني.
راودتها ذكرى مشوشة للحظة سقوطها من على الدرج، فتنفست الصعداء لكونها قد مرت وانقضت على خير، تنبهت لصوت الباب وهو يفتح لتجد أحد الأطباء يلج منه مخاطبًا إياها بشيء من الودية:
-حمدلله على السلامة يا دكتورة.
نظرت تجاهه، وردت وهي تحاول الابتسام:
-الله يسلمك.
تفقد اللوح المعدني المدون عليه آخر الملحوظات المتعلقة بشأنها، والمتدلي من على طرف فراشها، ثم سألها مهتمًا:
-حاسة بإيه؟
تحسست جبينها، وأخبرته بإيجازٍ:
-تعبانة.
هز رأسه في تفهمٍ، وقال:
-متقلقيش، شوية وهترتاحي.
اقترب منها ليفحصها عن قربٍ، ثم أضــاف:
-أنا موصي الممرضة وهي هتقوم باللازم معاكي.
استمر في فحص أنبوب المحلول الموصول برسغها وهو يخاطبها:
-بصراحة أنا مكونتش متخيل إن رغم صعوبة وضع العملية إنها تعدي على خير.
ضيقت عيناها ناحيتها، فابتسم أكثر وقال:
-إنتي والمولود كويسين.
عند ذكر رضيعها صاحت تسأله في لهفةٍ:
-عاوزة أشوف ابني، هو فين؟
أجابها ببساطةٍ وهو يكتف ساعديه أمام صدره:
-مع دكتور "مهاب"، باباه!
عندئذ انتابها الفزع، هربت الدماء من وجهها المتعب، وهمهمت في صوتٍ متقطع، مستشعرة تلاحق دقـــات قلبها:
-"مهاب"!!
اندهش للتغير الذي طرأ على ملامحها، وبدا متعجبًا أكثر حين سألته في صوتٍ خائف للغاية:
-هو فين؟
لم يعرف بماذا يجيب، فشأنهما معًا لا يخصه، لذا فضل أن يتحدث بحيادية، فتكلم في هدوءٍ:
-أنا عاوزك تهتمي بصحتك بجانب اهتمامك بالمولود، ده جرح خطير، محتاج وقت عقبال ما يلم، وإنتي فاهمة طبعًا يا دكتورة.
كان الشائع في هذه الفترة الزمنية وضع النساء لحملهن بصورة طبيعية، فكان من النادر اللجوء للولادة القيصرية، إلا في الحالات القصوى التي تتطلب ذلك، وبالتالي اضطر الطبيب أن يزيد من الاستفاضة في إسداء النصح لها تجنبًا لأي مضاعفات قد تنعكس بالسلب عليها، فأكمل على نفس النهج:
-ويا ريت تظبطي مع دكتورة نسا، بحيث تاخدي وسيلة قبل ما تفكري تحملي تاني.
تجاهلت كل ما قاله، وهتفت ترجوه بنظرتها قبل نبرتها:
-أنا.. عاوزة .. ابني.
أومأ برأسه مرددًا وهو يهم بالتحرك مبتعدًا عن سريرها الطبي:
-متقلقيش.
شيعته بنظراتها اللهفى إلى أن خرج من غرفتها وهي تتحرق بشدة لرؤية وليدها، تنفست بعمقٍ قبل أن تحرر الهواء من صدرها في هيئة زفير بطيء، تعلقت عيناها بسقف الغرفة، وأخذت تحدث نفسها في قليل من الراحة:
-ابني كويس، الحمدلله.
....................................................
طال انتظار وصول رضيعها إليها، وراح شعور الاطمئنان الذي غمرها يتلاشى، ليحل كبديل عنه شعور الخوف والاضطراب. تضاعفت مخاوفها بصورة مرعبة عندما وجدت زوجها يقف عن عتبة الباب يراقبها بنظرات قاسية للغاية، جعلتها ترتجف في رقدتها، حاولت الاعتدال فاجتاحتها موجة من الألم؛ لكنها لم تتفوق على رهبتها منه، تمتمت باسمه في صوت مرتعش:
-"مهاب"!
تقدم مُختالًا في خطواته ناحيتها، دون أن ينطق بشيء، فقط عيناه تحومان عليها، كأنما يتعمد استثارة أعصابها، وزيادة ارتياعها منه. تسارعت نبضات قلبها، وسألته في صوتٍ لاهج ما زال مرتجفًا:
-فين ابني؟
وقف أمام فراشها، يُطالعها من علياه بنظرات دونية، احتقارية، تحمل الإهانة في طياتها، أجابها مقتضبًا في الكلام، بعد صمت بدا لها ممتدًا، وكأنه لا ينتهي أبدًا:
-موجود.
نظرته إليها لم تكن مريحة بالمرة، شعرت من خلال تأملها المرتعب لملامحه أنه يكمن لها شيئًا، وزاد ذلك الهاجس قوة عندما استطرد قائلًا من جديد:
-بس الأول في حاجة لازم أقولهالك.
هزت رأسها كأنما تسأله دون كلام، فأخبرها باسمًا في تشفٍ أصابها بالصدمة العظيمة:
-إنتي طالق!
جحظت عيناها في ذهول مرتاعٍ، وغمغمت بلا تصديقٍ:
-إيه؟
تابع معلقًا في لذة مغيظة لها، وممتعة له:
-مش ده اللي كان نفسك فيه من زمان.
شعرت حينها وكأن أنفاسها انقطعت، بتوقف عضلة قلبها، بظلامٍ تام ساد ما حولها. اخترقت كلماته المسمومة طبلتي أذنيها وهو يواصل إخبارها ببرود وقسوة:
-وجه الوقت اللي أقولك فيه أنا مابقتش عاوزك.
كانت تنظر إليه كالموتى، الصدمة المفاجئة جعلت ذهنها عاجزًا عن التفكير، ورغم هذا استمر يفرغ ما في جعبته هاتفًا بنبرة هازئة متهكمة بشدة:
-روحي اثبتي نفسك كدكتورة مالكيش مثال، وانجحي، إنتي حرة.
بدأ عقلها يعمل من جديد، ليوضح لها فداحة قراره، وأكد لها ذلك بقوله الحاسم:
-بس ابني مالكيش دعوة بيه، وأنا هعرف أربيه بمعرفتي.
آنئذ خرجت عن طور جمودها اللحظي لتفجر صارخة فيه، متجاوزة في إحساسها بالقهر والعجز أي شعور بالألم الجسدي:
-حرام عليك يا "مهاب"، إنت بتعمل فيا كده ليه؟
انتصب في وقفته، وقال وهو يحدجها بنظرة مزدرية:
-قولتلك كل حاجة بتتعمل بمزاجي.
سدد لها نظرة احتقارية جعلت داخلها يتفتت، وقلبها يتمزق إربًا وهو يتابع:
-وإنتي ماتلزمنيش دلوقتي.
إعلانه بطرده من جنته المزعومة جعل كيانها يتبدل كليًا، انتفضت من رقدتها لتمد ذراعها نحو يده، أمسكت بكفه تشده منه متوسلة إياه في حرقةٍ:
-أبوس إيدك ماتحرمنيش من ابني.
استجدت فيه عاطفة إنسانية غير موجودة به من الأساس، فلم يرأف بها، ولم يكترث لشأنها، بل نفض يدها بقوةٍ كأنه ينفر من لمستها المقززة، بكت في قهرٍ، وهي ترى منه هذه المعاملة المتجافية. انسحق قلبها بين ضلوعها عندما رأته يستدير ليتجه نحو باب الغرفة تمهيدًا لمغادرته، أحست بناقوس الخطر يدق، إن تلكأت أو فكرت لربما خسرت وليدها الذي لم تره بعد للأبد، لم تنتظر كثيرًا، بل اندفعت ناهضة من على الفراش، وطوفان من الألم الجارف يجتاح كل ذرة فيها، انفلتت منها صرخات متقطعة، وهي تجاهد للحاق به، تاركة خلفها بقعة من الدماء تلوث فراشها، كان كل ما فيها يرتج، ومع ذلك لم يشفق عليها، ولم يبالِ لأمرها كعهده معها. بالكاد استوقفته عند العتبة، فركعت في الحال على ركبتيها عند قدميه، وقتئذ نظر إليها باستحقارٍ أكبر مستلذًا بتحقيق انتصار زهيد من لا شيء. بلا تفكير أو وعي راحت تردد متسولة مشاعره:
-أنا هعيش خدامة تحت رجلك، بس خليني جمب ابني.
أمام إحساس الأمومة، ورائحة الصغار الملائكية يهون كل شيء وأي شيء! بيديها المرتعشتين، تعلقت بساقه، وظلت تتوسله في انكسارٍ:
-مش هعصالك أمر مهما كان، اللي هتؤمرني بيه هنفذه مهما كان.
ثم أحنت رأسها بطواعية كاملة، كأنما تريد تقبيل حذائه، وتابعت في ألمٍ شديد:
-أبوس رجلك ماتبعدهوش عني.
كانت كالعبدة الذليلة، مشهدًا لطالما أغراه، وعايشه مع العابثات المتمرسات في طقوس العشق الآثم، واليوم يتجدد بشكل أكثر واقعية وتأثيرًا عليه، ورغم هذا علق بجمودٍ مستخفًا بما تفعله:
-ماظنش إنك هتستحملي، إنتي واحدة عندك طموح وآ...
قاطعته رافعة بصرها إليه قبل أن يكمل جملته للنهاية مؤكدة لها عن انصيـــاع صريح له:
-لأ، جربني، ولو عصيتك طلقني تاني.
مط فمه قليلًا، فواصلت توسلها المهين:
-بس ماتحرمنيش من ابني.
كانت لترضى بأي احتمال طالما أنه لا يتضمن حرمانها من رضيعها، ذل الخدمة أهون عليها بكثير من وجع الفراق! تركها "مهاب" تلتاع بشوقها وأنينها معقبًا في النهاية بعدما نفض ساقه ليتخلص من قبضتيها:
-تمام يا دكتورة، هشوف.
زحفت على يديها في عجزٍ واضح نحو الخارج وصوتها الباكي يرجوه في حرقةٍ أشد:
-"مهاب"، رجعلي ابني، خليني أطل عليه.
لم يلتفت إليها، بل انصرف في نشوة مريضة لترتكن بظهرها على الجدار المجاور لغرفتها وهي تنوح في حسرة متعاظمة:
-آه، يا وجع قلبي عليك يا ضنـــايا!
...............................................
تأهبت ابتسامتها المبتهجة للبزوغ عندما سمعت صوت زوجها يأتي من الخارج، خاصة مع امتلاء رأسها بعشرات النصائح والحكايات المخجلة عن العلاقات بين الزوجين لضمان استمرار اشتعال جذوة الحب بينهما لأطول فترة ممكنة، فتحمست لإسقاط ذلك الحاجز الوهمي الفاصل بينهما، ومحاولة إعطاء الفرصة لقدرٍ من الملاطفة والتقارب، لعل وعسى تنجذب إليه، وتجد فيه ما يعيد دفقات المياه إلى مجاريها الطبيعية. أوشكت "فردوس" على الذهاب إليه لاستقباله؛ لكن خالتها منعتها من الخروج لتؤنبها بنبرتها، وكذلك بنظرتها الحادة إليها:
-إنتي هتطلعي كده؟
سألتها مندهشة وهي تخفض بصرها لتتأمل سريعًا ثوبها المنزلي الفضفاض القديم، وذي اللون البرتقالي:
-ماله شكلي؟
بفظاظةٍ واضحة صارحتها:
-يقطع الخميرة من البيت.
عبست كليًا، وانطفأت الفرحة في عينيها، بل إنها كادت تبكي تأثرًا من كلامها اللاذع؛ لكن خالتها لم تعبأ بما تفوهت به، واستمرت في تعنيفها:
-أومال احنا كنا بنتكلم فيه إيه من صباحية ربنا؟
كادت تبرر موقفها بأنها أمضت النهار بطوله في تنظيف المنزل، وغسل الثياب، والقيام بكافة الأعمال العالقة تخفيفًا من العبء المُلقى على كتفي والدتها؛ لكن الأخيرة لم تهتم بمجهودها المستهلك، وهتفت تأمرها:
-روحي الأوضة خديلك قميص عِدل من بتوع "تهاني" البسيه.
الإتيان على ذكر نوعية ثياب شقيقتها نشط ذاكرتها باهتمامها بانتقاء الجيد من الأقمشة، والمواكب لما يسمى بصيحات الموضة، وإن كان كاشفًا للأكتاف، بارزًا للمنحنيات، وملتصقًا بالأجساد؛ لكنها كانت تفتقر للشجاعة لارتداء ذلك، فتلبكت، وقالت باعتراضٍ حرج:
-بس آ...
في التو منعتها من الاحتجاج بإصرارها الحاسم:
-من غير بسبسة، عاوزين الجدع مايشوفش غيرك.
مع سيل الإهانات المتواصل فقدت حماسها لمواصلة الأمر، فردت بإحباطٍ:
-يا خالتي أنا ماليش نفس.
زمت شفتيها هاتفة بها بغيظٍ مكتوم:
-أومال هيبقالك إمتى؟ لما يرجعلك معلق في دراعه واحدة تانية تفرسك؟
ارتفع حاجباها للأعلى، فلكزتها "أفكار" بقبضتها المضمومة في ذراعها، وحذرتها:
-مايبقاش مخك ضِلم.
لم تبدُ راضية عما تسعى لإجبارها عليه، فتابعت خالتها إعطاء تعليماتها عليها:
-ماتضيعيش الوقت، أمك هتفضل معاه، وإنتي البسي حاجة مدندشة من هدوم أختك الجديدة.
ردت على مضضٍ، وكأنها تستصعب تنفيذ ذلك:
-طيب.
قبل أن تغادر استوقفتها مرة ثانية آمرة إياها:
-استني كده وريني خدودك!!
قطبت جبينها متسائلة في تحيرٍ:
-مالهم دول كمان؟
أمسكت بهما بأصابعها وراحت تضغط عليهما بشكلٍ أوجعها وهي توضح لها ما تقوم به:
-خليني أقرصهم عشان يبان فيهم الدموية كده.
تأوهت من الألم، ورجتها:
-بالراحة يا خالتي.
تجاهلت شكواها، واستمرت في جذب خديها بقساوةٍ طفيفة لتكسبهما هذه الحمرة الشديدة، ثم تصعبت بشفتيها، لتدمدم بعدها في سخطٍ:
-بلا خيبة!
..................................................
ابتسامة حقيقية صادقة، نابعة من أعماق قلبها، ظهرت على صفحة وجهها الباكي، عندما عاد إليها بعد وقت طويل وهو يحمل رضيعها، كانت قد فقدت الأمل في رجوعه، حقًا شعرت وكأن روحها قد ردت إليها حينما رأته، أقبلت عليه بذراعين مفتوحتين لتضمه في لهفة وشوق، متناسية ما بها من أوجــاع، وكأن في ضمته البلسم الشافي لجراحها الغائرة، هانت كل المصاعب مع احتضانها له. قبلت "تهاني" وليدها من كفه الضئيل والدموع تطفر بغزارة من طرفيها، كلمته في صوت رقيق رغم اختلاطه بالبكاء:
-ابني حبيبي.
وجوده معها، وبين أحضانها، جعلها تقبل وترتضي بأي مهانة مهلكة لها في مقابل عدم خسارته، راحت تهمس له في أذنه برجاءٍ شديد:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
كفكفت دمعها بظهر كفها، وتابعت:
-فداك كل حاجة يا حبيبي، المهم تفضل في حضني.
ابتسامتها المشوبة بالبكاء ضاعت فجأة، وحل الفزع على قسماتها عندما حادثها "مهاب" فجــأة:
-احتمال يجوا يحققوا معاكي.
سألته بقلبٍ ازدادت وتيرة دقاته وهي تضم رضيعها إلى صدرها في خوفٍ، كما لو كانت تخشى من أخذه قســـرًا منها:
-في إيه؟
أجاب بنبرة هادئة:
-بخصوص وقوعك من على السلم.
في البداية تطلعت إليه ببلاهةٍ، وكأنها تحاول استحضار تفاصيل مشاجرتها الأخيرة معه، لم تضع الوقت في الصمت، وقالت من تلقاء نفسها:
-أنا دوخت ووقعت من نفسي.. إنت ملكش دخل.
نظر إليها مبتسمًا قليلًا، واستحسنت ردها:
-كويس.
أشاحت بنظراتها بعيدًا عنه، لتعاود التحديق في الوجه النائم هامسة :
-حبيبي.
مجددًا تكلم "مهاب" ليشتت نظراتها عن الرضيع:
-صحيح أنا خلاص قررت أسمي ابني "أَوْس"!
كررت الاسم باندهاش غريب:
-"أوس"!
قال متباهيًا بحُسن اختياره:
-أيوه، حاجة مختلفة، وتليق بيه.
تأملته "تهاني" بتعجبٍ، فواصل توضيحه المملوء بالزهو:
-"أوس الجندي"، اسم يليق بحفيد الباشا "فؤاد الجندي"!
...............................................
تبعثرت خيوط الكلمات وتفرقت أثناء حديثه مع حماته عندما رأى زوجته تطل من الداخل وهي متأنقة في ثوبٍ ضيق، من اللون الأحمر، له فتحة صدرٍ متسعة، يكاد ما يبرز أسفلها من مقومات مغرية يعلن عن وجوده المشوق. بدا متأهبًا في جلسته، وعجز عن إبعاد نظراته الفضولية عنها، فقد كان غير معتاد على رؤيتها هكذا، تدلى فكه للأسفل باستغرابٍ، وراح يتأملها مليًا، ليتسلل في حرجٍ واضح من تحديقه الذي طال بها عندما هتفت به "أفكار" في مكرٍ، وابتسامتها العابثة تتراقص على شفتيها:
-امسك الصينية عن مراتك يا "عوض"، ده بيتك، إنت مش غريب.
نهض من موضع جلوسه متجهًا إليها ليحمل عنها صينية الشاي قائلًا وهو مطرق الرأس:
-عنك.
ردت عليه "فردوس" باقتضابٍ:
-تسلم
اختطف نظرة سريعة نحو نتوءاتها الشهية، فانتفضت به حواسه الكامنة، تنحنح في حرجٍ، وباعد عينيه عنها ليعاود الجلوس في مكانه، محاولًا قدر المستطاع تحاشي النظر ناحيتها، وتوجيه الحديث إلى "عقيلة"، لئلا يبدو اشتهائه للاقتراب منها واضحًا. استمرت "أفكار" في اللعب على وتيرة تحفيز الزوجين، فقالت مدعية وجود الألم بظهرها:
-يستر عرضك يا "دوسة" اعدلي طرف السجادة لأحسن مش قادرة أوطي.
حملقت فيها "فردوس" بغرابة، وتعابيرها تعكس حيرة جلية، وكأنها لا تفهم مقصدها، فأشارت لها خالتها بعينيها نحو البقعة القريبة من زوجها، لتظهر تأثيرها عليه كأنثى عند وجودها في محيطه. أكملت "أفكار" جملتها مزيدة في توضيحها:
-بدل ما حد يتكعبل فيها.
-حاضر.
قالتها "فردوس" وهي تسير إلى النقطة المشار إليها، من وجهة نظرها كان البساط مفرودًا، لا يحتاج لإعادة ترتيب، ومع ذلك مالت بجسدها مدعية انشغالها بتسوية أطرافه، وهي غير مدركة أن ما تقوم به من حركات عادية تعمل كمؤثرات محفزة لمشاعر زوجها المكبوتة. اعتدلت في وقفتها، فأمرتها "عقيلة" وهي تشير بيدها:
-شوفي جوزك لو ناقصة حاجة هتيهاله.
قال معتذرًا بمجاملة مهذبة وقد أطرق رأسه قليلًا:
-لأ كده فضل ونعمة، كتر خيركم.
ثم التفت ناظرًا إلى زوجته التي بدت مغرية، قبل أن يخاطبها في صوت جاهد ليجعله جادًا:
-مش يالا بينا بقى، عشان نسيب الجماعة يرتاحوا.
هزت رأسها موافقة، فنهض قائمًا ليضيف:
-هستناكي تحت عقبال ما تغيري هدومك.
قالت وهي تشرع في السير:
-طيب.
لكنها توقفت عندما اقترحت خالتها بخبث، ونظرة عبثية تلمع في عينيها:
-مالوش لازمة تعطلي جوزك، حطي عليكي العباية.
همَّت "فردوس" بقول شيء محتج يعبر عن انزعاجها من محاولة فرض وجودها عليه بهذا الشكل السافر؛ لكنها ابتلعت الأحرف في جوفها عندما منحتها خالتها هذه النظرة المحذرة، لتضطر مرغمة على إطاعتها في صمت، بينما رددت والدتها في سرها بتنهيدة راجية:
-ربنا يجعل في وشك القبول والرضا يا بنتي .................................... !!
(أَوْس)
أثناء سيرها معه كانت ساهمة، تمشي مدفوعة بتوجيهه وبشكل آلي عبر الطرقات إلى حيث يقطنان، دار في رأسها عشرات الأفكار، ورسمت العديد من السيناريوهات لما ستكون عليه ليلتهما بعد كل ذلك المجهود المبذول من قِبل خالتها لتحلية صورتها في عينيه، انتبهت "فردوس" لزوجها، وانتفضت كالملسوعة فجأة عندما تكلم في نبرة معاتبة:
-إنتي مش معايا خالص!!
سألته بحرجٍ وهي ترمش بعينيها:
-هو .. إنت كنت بتقول حاجة؟
كرر عليها سؤاله مبتسمًا في بساطةٍ:
-كنت بسألك ناقصك حاجة نجيبها في سكتنا؟
هزت رأسها قائلة:
-لأ، ماظنش.
عاد الصمت يخيم بينهما من جديد، فسعى "عوض" لفتح سبل الكلام مجددًا، فقال بشيءٍ من الصدق، وكأنه يعبر لها عن مشاعره المتأثرة بها:
-بس تعرفي النهاردة كان شكلك حلو.
تفاجأت بمدحه غير المتوقع، فسكتت للحظةٍ، تحاول استجماع جملة ملائمة، فقالت كالبلهاء:
-كتر خيرك.
تفهم التردد الظاهر عليها، وأكد لها باهتمامٍ متزايد:
-أنا مش بجاملك دي الحقيقة.
على عكسه كانت متبلدة، جامدة، تجد صعوبة في مجاراة طريقته السلسة في البوح بما يناوش القلب، فاكتفت بالصمت، وتحاشت النظر ناحيته، لتتطلع للأمام ممعنة النظر في الحواجز المعدنية التي تسد مقدمة الطريق، هتفت متسائلة في استغراب حائر:
-هو الشارع مقفول ولا إيه؟
دقق النظر هو الآخر في الناصية المزدحمة بعشرات البشر، وقال:
-مش عارف، بس أول مرة يحطوها هنا.
تباطأت خطواتهما، واستطالت عنق "عوض" محاولًا تبين ما يحدث عبر الحشد الذي يملأ جنبات المكان، علق مُبديًا تحيره:
-ده في زحمة ودوشة قدام.
توجس قلبها خيفة من حدوث مكروه ما، فرددت بتلقائيةٍ:
-ربنا يستر..
أشار لها بيده لتتوقف قائلًا بلهجة شبه آمرة:
-استني كده أما أسأل.
استجابته له هاتفة في إيجازٍ:
-طيب.
سارع "عوض" في خطواته بعدما تركها واقفة في مكانٍ غير مزدحم ليستطلع بنفسه الأمر، آملًا ألا يكون خلف ذلك التجمهر كارثة مفجعة.
............................................
بدأ قلبها يدق بسرعة كعادته كلما ولج إلى الغرفة، ارتاعت فرائصها ظنًا منها أنه قد جاء لأخذ رضيعها قسرًا، شددت من ضمه له، ونظرت إلى "مهاب" بقلقٍ معكوس بقوة على محياها، ازدادت مخاوفه مع صمته المدروس، فما كان منها إلا أن سألته بصوتٍ ما زال مرتعشًا:
-هتردني لعصمتك تاني؟
لم يمنحها الرد الشافي، ترك هواجسها المخيفة تأكل رأسها، وقبل أن تفكر في تكرار سؤالها المُلح عليه اقتحم الغرفة دون استئذان "ممدوح" ليلقي نظرة شاملة على "تهاني" والرضيع القابع في حضنها، اندلعت مشاعر الغيرة بدواخله تجاه رفيقه، فانتفض الحقد في مقلتيه، فهو دومًا يظفر بكل ما يتمنى دون عناءٍ، على عكسه، فهو يتلقى الفتات والمتبقي منه. أخفى ما يضمره في صدره وراء ابتسامة متكلفة، وتساءل وهو يتبختر مقتربًا من الفراش:
-أنا جيت في وقت مش مناسب ولا إيه؟
احتفظ "مهاب" بصمته، وصاحبه بنظراته الغامضة وهو لا يزال يتقدم للأمام، في حين تابع "ممدوح" كلامه قائلًا:
-حبيت أطمن على الدكتورة.
ثم وجه حديثه إليها متسائلًا باهتمامٍ:
-إيه الأخبار؟
توترت "تهاني" من وجوده، وتضاعفت دقاتها، فإن كانت مشاعرها قد انجذبت إليه بسبب لطافته ووديته معها، إلا أنها لن تضحي بقطعة منها لأجل أهواءٍ وقتية نتجت جراء الوحدة والشعور بالفراغ. ارتجفت في رجفتها عندما أجاب "مهاب" بنبرة موحية:
-ماتقلقش عليها.
حينئذ تكلمت من فورها، وبصورة رسمية استغربها:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، أنا كويسة.
اندهش الأخير من الجفاء المريب الذي تظهره ناحيته، وكأنها راحت تعيد بطواعية وضع الحواجز بينهما، كان فطنًا للدرجة التي جعلته يخمن انصياعها الواضح، فقال مشيرًا بيده:
-الدكتور برا قالي إن في حد جاي يسألها عن تفاصيل الحادثة.
أخبرته دون أن تفكر للحظة، كما لو كان الجواب معدًا بشكل مسبق:
-ده قضاء وقدر، والحمدلله إنه اكتبلي أنا وابني عمر جديد، وده اللي يهمني دلوقتي.
مط فمه في إعجابٍ، ثم حول نظراته تجاه "مهاب" الذي كان يحدجه بنظرته المتباهية، اقترب بعدئذ منه، مال ناحيته، وهمس له:
-برافو، عرفت تطلع من المشكلة دي كمان من غير خساير...
هز "مهاب" رأسه في نشوةٍ، بدا متفاخرًا بتحقيق نصرًا جديدًا في معركة لم يبذل فيها مجهودًا، استكمل "ممدوح" الناقص من جملته، فاستطرد بسخريةٍ محسوسة في نبرته:
-وبعيل كمان.
صحح له بصرامةٍ رغم خفوت صوته:
-اسمه "أوس"، يا ريت تحفظه.
تلقائيًا اتجه "ممدوح" بنظراته القاتمة تجاه الرضيع، وعلق بإيجازٍ غامض:
-أكيد.
ربت "مهاب" على جانب ذراعه وهو شبه يطرده بوقاحةٍ:
-بيتهيألي وجودك مالوش لازمة.
حملق فيه مرة ثانية، ابتلع الإهانة المستترة في طريقته المتعالية، واستقبلها بابتسامة متصنعة مرددًا:
-صح، هاسيبكم سوا.
همَّ بالانصــراف؛ لكنه توقف عند الباب ملتفتًا برأسه نحو "تهاني"، أعطاها نظرة لم تسترح لها، قبل أن يدور ببصره ليستقر على وجه "مهاب"، ابتسم في سخافةٍ، وخاطبه قائلًا في تهكم متوارٍ:
-نتقابل بعدين يا .. "أبو أوس"!
...............................
أثار الغبار التي سادت في الأرجاء جعلت الرؤية غير واضحة، مشوشة، والسعال كان منتشرًا بين المتواجدين. حاول "عوض" اختراق صفوف البشر المجتمعين بكثافة ليصل إلى المقدمة، التقطت أذناه عبارات مبهمة عن تواجد مكثف لعناصر الشرطة مع رجال الإسعاف وسيارات الإطفاء، ما إن وصل إلى آخر نقطة كان مسموحًا فيها للحضور بالوقوف حتى استطاع فهم ما حدث، رأى العقــــــار الذي يقطن به وقد انهار تمامًا منذ ساعات، على حسب ما سمع، ليخلف العديد من الضحايا العالقين أسفل أطنان من الركام الخرساني. تدلى فكه للأسفل، وحملق بعينين متسعتين في رعبٍ للأطلال المرابطة كجبل من الحجارة أمامه، حلت الصدمة عليه كالصاعقة، فعجز عن الكلام أو التعليق. تنبه لضربة أحدهم على كتفه وهو يخبره كنوعٍ من المواساة:
-الحمدلله إنك مكونتش موجود، وإلا كنت رحت مع اللي راحوا.
التفت للجانب الآخر عندما خاطبه أحد الجيران:
-ده في ناس اتدفنت بالحيا هنا!
أضاف ثالث من ورائه:
-ده إنت ربنا كتبلك النجاة.
رويدًا رويدًا تدارك عقله ما حدث، وأدرك حقًا أن الدار التي كانت تأويه لم تعد موجودة، اختفت مع كل ما يخص عائلته وزوجته من متعلقات شخصية، وذكريات أسرية، كان "عوض" في هذا الموقف تحديدًا قليل الحيلة، لا يملك زمام نفسه، فما كان منه إلا أن ردد مستسلمًا للواقع المرير:
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
هتف أحد المتواجدين من جديد:
-احمد ربنا إنك كنت برا.
استدار تجاهه متسائلًا في تخبطٍ عظيم:
-ده حصل إمتى وإزاي؟
رد عليه الرجل وهو يحك مقدمة رأسه:
-محدش عارف بالظبط، بس آ...
قبل أن يتم جملته قاطعه صوتًا صارمًا لأحد أفراد الشرطة ينهر به الجميع:
-يا جدعان ارجعوا لورا خلونا نشوف شغلنا.
تراجع مع من تراجع للخلف بعيدًا عما كان بيته ولسانه يردد بتحسرٍ موجوعٍ:
-لطفك يا رب، هتصرف إزاي دلوقتي؟
نظر إليه الجيران بتعاطفٍ وشفقة، وعلق عليه أحدهم:
-ليه حق الراجل يكلم نفسه، كان زمانه مع الأموات!
.........................................
انقاد بلا وعي إلى خارج الزحام، وهو مشوش الذهن تمامًا، فاقدًا لقدرته على التفكير السليم، وكيف له أن يفعل وهو في وسط كارثة عظيمة لم تكن موضوعة في الحسبان؟! كانت "فردوس" لا تزال تنتظره عند البقعة التي تركها فيها، ضجرت من الوقوف بمفردها ومع ذلك لم تتجرأ لمخالفة أوامره، لمحته يجتاز الحاجز وهو باهت الملامح، مشتت النظرات، أقبلت عليه تسأله في قلقٍ:
-عرفت في إيه يا "عوض"؟
استجمع قدرًا من شتاته المبرر، ونظر إليها بعينين حزينتين للغاية، فسألته مرة أخرى بتوجسٍ أكبر:
-إيه اللي حصل؟
أجابها وهو بالكاد يحبس دموعه:
-البيت راح.
بدا كلامه مبتورًا، منقوصًا، غير واضحٍ لها، لذا سألته مستفهمة:
-بيت إيه اللي راح؟!
سحب نفسًا عميقًا، وأجابها بصوتٍ مختنق:
-العمارة وقعت كلها.
انخلع قلبها بين ضلوعها، وسألته في صوت أخذ في الارتعاش:
-عمارة مين؟
أجابها بحسرة تملأ كامل وجهه، وهو يغالب دموعه:
-العمارة اللي ساكنين فيها، غير الناس اللي ماتوا وآ..
حينما أدركت الكارثة التي حلت بها صرخت لاطمة على صدرها:
-يا نصيبتي؟!!!
في التو استدارت ناظرة إلى التجمهر الموجود بالأمام وهي تكمل ولولتها المفجوعة:
-يادي الخراب المستعجل.
استوعبت الكارثة التي ألمت بها، فاندفعت بتهورٍ تجاه الحاجز؛ لكن "عوض" استوقفها بالإمساك بها من ذراعه ليسألها:
-استني رايحة فين؟
هتفت في قهرٍ، وهي تذرف الدموع بحرقةٍ من عينيها:
-حاجتي وعفشي، وهدومي.
قال لها بألمٍ:
-استعوضي ربنا.
انتشلت ذراعها من يده، وصاحت في صراخٍ مفطور:
-يعني إيه؟ كله راح كده في غمضة عين؟
حاول تهوين الأمر عليها، فعلق:
-قولي الحمد لله إن احنا بخير.
انفجرت تبكي بقهرٍ أشد، وافترشت الرصيف بجسدها لتبدأ في النواح والولولة عاليًا:
-آه، يا وجع قلبي، أنا مش مكتوبلي أفرح وأتهنى أبدًا!!!
..................................................
مجددًا رفعت كوب الماء إلى فمها لترتشف ما به، فتبلل جوفها الجاف، قبل أن تخفضه لتنخرط في نوبة بكاءٍ جديدة مصحوبة بالندب والتحسر، بعدما عادت إلى بيت أمها لتمكث فيه مؤقتًا. نظرت إليها والدتها بأسفٍ وحزن، ففرحتها لم تدم كثيرًا، بل إنها تبخرت كالسراب، لتظل كعهدها تعيسة الحظ، ورفيقة أصيلة للغُلب والشقاء. جاءت "أفكار" لتفقدها، فلم تسلم من لسانها اللاذع الذي لم يترفق بها، زادت من شعورها بالإحباط والألم بقولها السليط:
-أنا مشوفتش واحدة فقر كده في حياتي أكتر منك.
من بين دموعها الغزيرة تأملتها "فردوس" تعاتبها بشيء من اللوم:
-خلاص يا خالتي بقى، كفاية تعتيت في جتتي!
أيدتها "عقيلة" في كلامها قائلة بضيقٍ:
-سبيها في حالها ياختي، الحمدلله إنها بخير.
لم تبدُ مثلهما متعاطفة، حزينة، أو حتى الهم يملأ قلبها، كانت تفكر بالعقل، تحسب كل خطوة وفقًا المستجد من الأوضــاع، لهذا أبدت جمودًا غريبًا وهي تسأل:
-وهتعمل إيه بعد كده؟
أجابتها بتحيرٍ:
-الله أعلم.
لم تتحمل "فردوس" تأنيبها القاسي، وكأنها من تسببت في انهيار المبنى القديم، فنهضت من موضعها لتتجه إلى غرفة نومها القديمة، حتى تختلي بنفسها، بينما زمت "أفكار" شفتيها مغمغمة وهي تشيعها بنفس النظرات الجامدة:
-ده جوزها يعتبر على باب الله، لا عنده أملاك ولا أبعدية.
ثم ركزت بصرها على شقيقتها وتابعت:
-هيدبروا حالهم إزاي؟ هيباتوا في الشارع بقية عمرهم.
لم تجد "عقيلة" ما ترد به عليها، فواصلت شقيقتها الكبرى استرسالها المزعج:
-وموت يا حمار عقبال ما الحكومة تديهم شقة.
يئست من لغوها الزائد، وقالت حاسمة رأيها:
-خلاص يا "أفكار"، هما هيفضلوا هنا معايا، البيت فاضي عليا.
تفاجأت بما قررته فجــأة، ودون ترتيب مسبق، لتظهر رفضها لاقتراحها النزق في صيغة متسائلة:
-وبنتك "تهاني" لما ترجع؟ تلاقي راجل غريب أعد معاكو؟
ردت مصححة لها:
-ده جوز أختها، مش حد غريب.
أصرت على رفضها قائلة:
-برضوه، ده البيت أد كده، وآ...
كانت موقنة أنها لن تسلم من احتجاجها ونقاشها، وإن استمرت طوال النهار، لهذا قاطعتها منهية الجدال في هذا الموضوع:
-ساعتها نبقى نتصرف.
كادت تنطق بشيء؛ لكنها أسكتتها:
-بس مش هاسيب "فردوس" تبات في الشارع ولا على الرصيف.
علقت عليها بتذمرٍ ساخط:
-والشملول جوزها فين؟ المفروض يدور على بديل.
بعد تنهيدة سريعة أجابت:
-أهوو بيعمل اللي عليه.
التفتت "عقيلة" برأسها نحو باب المنزل عندما سمعت الطرقات عليه، نهضت متجهة إليه لتفتحه، فوجدت "إجلال" عند عتبته، أردفت الأخيرة مرددة بأنفاسٍ لاهثة أكدت على لوعتها:
-سلام عليكم، إزيك يا خالتي؟ لا مؤاخذة إن كنت جيت من غير ميعاد، بس أنا أول ما عرفت بالخبر جيت جري أطمن على "دوسة".
رحبت بها قائلة:
-فيكي الخير يا بنتي، خشي واسيها بكلمتين جوا.
كانت ممتنة لاستقبالها، وانطلقت في التو نحو الداخل، لتلازم صديقة الطفولة، وتشاركها في مصابها، طامعة أن تنجح في التهوين عليها.
................................................
منذ الصغر، أدرك الفارق والاختلاف بين الشقيقين؛ فالكبير متهور، ومندفع، لا يحسب الأمور جيدًا بعقله، يفعل ما يطرأ على باله بغير حسبانٍ، والصغير على النقيض، يمتلك من الذكاء والفطنة ما يجعله قادرًا على تسيد الآخرين وقيادتهم، لا يثير المتاعب، وإن وقع في المصائب وجد السبيل للخروج بلا أدنى خسارة، لهذا كان الابن المفضل لديه، مما زرع الغيرة والحقد في نفس ابنه البكري مع مرور الزمان. الأزمة الأخيرة أوضحت له ما ظن أنه غفل عنه، لهذا أراد إعادة توزيع الأدوار خاصة مع التطورات الجديدة. لجأ السيد "فؤاد" لمحاميه لتنفيذ ما فكر فيه في فترة تعافيه، وشرع الأخير في تحقيق مطالبه دون تأخيرٍ، وصار كل شيء مثلما رغب. استغرب "سامي" من استدعاء أبيه له في مكتبه وقت وصوله، سأله بعدما استقر على المقعد المقابل له:
-خير يا باشا؟
في زهوٍ بائن في نبرته، وكذلك على تقاسيمه، جاوبه باسمًا بقدرٍ قليل:
-أخوك بلغني إنه جاب ولد.
غامت تعابيره للغاية، وهتف غير مصدقٍ ما سمع للتو:
-إيه؟
تابع والده حديثه إليه مهمهمًا:
-بقى لعيلة "الجندي" حفيد.
انزعج من الأريحية الواضحة على والده الأرستقراطي الصارم، فلو كان هو من تصرف برعونة، وتزوج بفتاة مجهولة الحسب والنسب، لربما عوقب بالطرد من جنته، وحُرم من نعيمه وترفه. أظهر "سامي" سخطه ونقمه عليه فقال:
-شايفك يا باشا مبسوط بالخير، يعني بالبساطة دي وافقت تدي لقب العيلة لحد ما نعرفش أصله من فصله؟!!!
حذره السيد "فؤاد" من التمادي في حديثه هاتفًا:
-خد بالك من كلامك يا "سامي"، اللي بتتكلم عنه ده ابن أخوك، من صلبه.
أصر على اعتراضه مدمدمًا بغلٍ يبرز في نظراته:
-بس يا باشا ..
بنفس اللهجة الشديدة الحازمة أمره:
-مش عاوز أسمع كلمة زيادة في الموضوع ده، اتصل بيه باركله وخلاص!
على مضضٍ اضطر أن يعقب، وتعبيرات وجهه تعكس كراهيته:
-اللي تؤمر بيه.
استعد "سامي" لينهض من مكانه؛ لكن جلس مذهولًا عندما أضاف السيد "فؤاد":
-صحيح، المحامي جهزلك ورق الشركة الجديدة.
سأله في صدمة متزايدة، ونظراته تتسع ببهجة لا يمكن إنكارها:
-شركة جديدة؟
أكد له بغموض ضاعف من وتيرة الحماس لديه:
-أيوه.
كان من الأفضل أن يرسله بعيدًا، أن يلهيه بالأعمال فلا يجد وقتًا لتدبير المكائد لشقيقه. استطرد السيد "فؤاد" موضحًا بهدوءٍ:
-في فرع هنفتحه برا مصر، وإنت اللي هتديره، بحكم خبرتك هنا.
وكأنه قد نال مبتغاه، تهللت أساريره، وانعكست آثار الفرحة على محياه، فقال بابتسامة عريضة للغاية:
-إيه؟ معقولة؟ أنا يا باشا؟
تعمد السيد "فؤاد" تجاهل مظاهر السرور البائنة على ابنه، وقال بصرامته المعتادة، كنوعٍ من التحدي:
-وريني هتثبت نفسك إزاي!
وقتئذ هب واقفًا ليخبره بثقةٍ ملأت صدره، ويده تزرر طرفي سترته:
-اطمن يا باشا، أنا هخليك تفتخر بيا.
هز رأسه معقبًا:
-منتظر ده.
انصرف بعدها "سامي" وشعوره بالنشوة يغمره، حادث نفسه في تصميم متحمسٍ للغاية:
-أخيرًا رضا عني "فؤاد" باشا، ودي فرصتي عشان أقدر أوريه الفرق بيني وبين "مهاب"، وساعتها بس هيعرف إنه كان غلطان لما وثق فيه عني!
................................................
بدت وهي جالسة على طرف الفراش، ترتدي ثيابها تأهبًا لخروجها من المشفى، في حالة من الخنوع والاستسلام، امتدت يدها لتداعب برفقٍ حذر أنامل رضيعها النائم إلى جوارها، انتفضت واقفة مرة واحدة عندما فُتح الباب فجــأة، فوخزها جرحها الحي بقوة. تطلعت بنظرات قلقة، تظهر الخوف والتوتر، نحو "مهاب" الذي أطل منه باسمًا في غرور واثق، ابتلعت ريقًا غير موجود في جوفها، وسألته بنبرة مهتزة:
-قرارك إيه؟
تقدم ناحيتها بثباتٍ، وعيناه لا تحيدان عنها، مما أشعرها بالمزيد من الرهبة والارتياع، أحست بمدى ضآلتها أمام بطشـــه اللا محدود، خشيت أن يسحقها باختيارٍ صادم، فبادرت بإبداء استعدادًا تامًا لتنفيذ كل ما يأمرها به، حبست أنفاسها انتظارًا لكلمته الفاصلة، لم تطرف بعينيها وهي تنظر إليه، مــد يده ليحتضن طرف ذقنها، ارتجفت من لمسته التي لم تكن حميمية، أو دافئة، بل شعرت بها كلمسة قاتل يختبر أضعف نقطة في فريسته لـنحــرهــــا منها. حين تكلم شعرت بقلبها ينقبض:
-أنا فكرت ...
شعر "مهاب" برجفتها أسفل لمسته، فاستمتع بمدى تأثيره الطاغي عليها، ابتسم أكثر في انتشاءٍ، وأكمل:
-عشان ابني هردك.
وكأن الحياة قد عادت لتدب في روحها الكسيرة؛ لكن قبل أن تكتمل فرحتها هددها صراحةً، ويده قد أطبقت على فكها تعتصره:
-بس لو في يوم قصرتي في حقه، صدقيني مش بس هحرمك منه، هخليكي تندمي على اليوم اللي عرفتيني فيه!
لم تترك "تهاني" لعقلها الفرصة للتفكير أو التحليل أو حتى مراجعة ما أقره، بل هتفت في الحال رغم الألم الذي انتشر في عظام فكها، مظهرة فروض الطاعة والولاء الكامل له:
-حاضر، أنا مستعدية أعمل أي حاجة عشان أفضل جمب ابني طول العمر.
غابت ملامح التهديد من على قسماته، رمقها بهذه النظرة المتلذذة بانتصاره، ليربت بعدئذ برفق على جانب وجنتها معقبًا في استحسانٍ:
-كده تعجبيني .................
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(لا كرامة معه)
تحذيره المشروط بطردها من جنته الزائفة، وإقصائه عن فلذة كبدها إن أخطأت وعصت أوامره مهما كان كفيلًا بإخضاعها، وجعلها أكثر حرصًا على عدم إغضابه، وإن لم تكن راضية تمامًا عما يفعل. التزمت "تهاني" بكل شيء، وتخلت عن أحلامها في سبيل البقاء معه. تنهيدة عميقة خرجت من رئتيها، لتمنح بعدها رضيعها الذي تهدهده بلطفٍ ابتسامة صافية، النسمات الرقيقة في الشرفة وهي جالسة به جعلته يغفو بالتو، ضمته إلى صدرها، وانهالت على وجنته تقبله في عاطفة أمومية جياشة. همست له بالقرب من أذنه:
-عشانك أنا مستعدة أتحمل أي حاجة، المهم ماتبعدش عني.
رغمًا عنها طفرت دمعة متأثرة من طرفها، مسحتها بسبابتها، وواصلت القول:
-إنت أغلى ما في حياتي.
احتوته في أحضانها الدافئة، وأغمضت عينيها مستمتعة بهذه اللحظات الثمينة، سرعان ما تبدد ذلك الهناء النفسي، وانتفضت في قدرٍ من الفزع عندما جاءها صوته المنفر:
-"تهاني"!
استدارت برأسها ناحية مصدره دون أن تنهض، وردت في صوتٍ مطيع:
-أيوه.
رأت زوجها مقبلًا عليها، ومن خلفه بمسافة بسيطة لمحت واحدة غريبة، تجهل هويتها، تقف في وقفة رسمية، وترتدي ثياب الخادمة. قرأ "مهاب" تساؤلها المحير في عينيها دون أن تنبس بكلمة، ومع ذلك أمرها:
-سيبي "أوس" للمربية بتاعته وتعالي.
كررت كلمته باندهاشٍ متعجب:
-مربية!
أتى تبريره وقحًا ومهينًا في نفس الآن:
-أيوه، أومال مفكرة هخلي واحدة زيك جاية من الحواري تربيه؟ تفهمي إنتي إيه في أصول التربية!
ابتلعت مرارة الإهانة قسرًا، وقالت مدافعة عن نفسها بألمٍ محسوسٍ في نبرتها:
-أنا أمه يا "مهاب"، مافيش حد هيخاف عليه ولا يحميه من الهوا الطاير زيي.
رد عليها بتصميمٍ:
-واللي جايبها فاهمة شغلها كويس، وعارفة هتتعامل معاه إزاي.
عفويًا تشبثت "تهاني" برضيعها في خوفٍ غريزي، وكأنه تخشى فقدانه بانفصاله عنها، حاولت إقناعه بالعدول عن رأيه، فرجته:
-صدقني، أنا هعمل المستحيل عشان أخليه أحس حد في الدنيا.
وكأنها نكرة، لا أهمية لرأيها، رفع سبابته أمام وجهها ينذرها:
-أنا قولت إيه!!
اضطرت مرغمة، وبحرقة تستعر في صدرها، أن تخنع له وتستجيب لأمره، فارتجف صوتها وهي تخبره:
-حاضر، اللي إنت شايفه!
فرقع "مهاب" بإصبعيه للمربية لتتقدم للأمام، تجاوزته متجهة إلى الرضيع، أخذته قسرًا من والدته، والتفتت ناظرة إلى رب عملها الذي حادثها باللغة الإنجليزية مُلقيًا عليها تعليماته، فأظهرت طاعتها الكاملة وهي تبتسم.
............................................
اجتمعت هموم الدنيا وشقائها في ملامحه التعيسة، وكيف له ألا يحزن وقد فقد المكان الذي يأويه في غمضة عين؟ حاول قدر استطاعته توفير النفقات اللازمة لتأجير منزلًا مؤقتًا؛ لكنه كان مكبلًا بالديون، وهذا أثقل كاهليه بشدة، خاصة مع إقامته غير المستحبة لدى حماته، لهذا أراد تلقي بعض المساعدة، فخطر بباله اللجوء لشقيقه، إذ ربما إن علم بُمصابه نجده في الحال. كما هو معتاد جلس "عوض" في انتظار دوره بالسنترال العمومي، الزحام كان متوسطًا، وحينما أخبره الموظف بالتوجه إلى كابينة الهاتف الخاصة بمكالمته، أسرع إليها، والتقط سماعة الهاتف مخاطبًا والدته، فشقيقه لم يكن متواجدًا، لهذا اضطر أن يخبرها عما حدث، فصاحت باستنكارٍ ضاعف من شعور الذنب لديه:
-أنا قولتلك من الأول إني مش راضية عن الجوازة دي، وإنت عاندت، وركبت دماغك، وهي اتطربقت في الآخر علينا كلنا.
همَّ بالكلام؛ لكنها استمرت مسترسلة بغضبٍ:
-هتفهم امتى إنها نحس ووش فقر.
رد عليها بحذرٍ، وقد غامت تعابيره:
-يامه ده نصيب، الحمدلله إننا طلعنا منها بخير.
هدرت به عاليًا، حتى ظن أن من حوله سمعوا صوت صراخها:
-نصيب إيه بس؟ ده كل حاجة راحت، وبقينا على الحميد المجيد!
بالكاد استجمع خواطره، وقال بشيء من الخزي، مستصعبًا طلبه:
-طيب أنا دلوقتي عاوز قرشين وآ...
قاطعته قبل أن يتم جملته للنهاية بحسمٍ:
-منين يا حسرة؟ أخوك يدوب اللي جاي على أد اللي رايح!
علق بحلقه غصة مريرة، فخذلانها له كان موجعًا، انتبه لصوتها مرة ثانية عندما طلبت منه:
-بقولك إيه، إنت تطلق البت دي، وأنا ساعتها هحاول أتصرف وابعتلك قرشين تيجي بيهم عندنا.
هتف بلا تفكيرٍ رافضًا اقتراحها:
-مش هعمل كده يامه.
صاحت في حنقٍ:
-أنا غلبت معاك، ومابقتش عارفة أخد معاك لا حق ولا باطل!
ضم شفتيه، وردد بعد لحظة من الصمت الموجع:
-كتر خيرك يامه.
اخترق صوتها الحاد أذنه وهي لا تزال تتكلم:
-بس خدها مني كلمة، طول ما إنت سايب الفقر دي في حياتك مش هتشوف يوم عدل.
بشيءٍ من عزة النفس والكرامة قال:
-ربنا وحده اللي بإيده يقرر مصايرنا.
زادت من ضغطها عليه بحديثها الختامي:
-إنت مابتسمعش إلا نفسك، اقفل، ومشاكلك حلها بنفسك!
لم تضف شيئًا آخرًا، انقطع الاتصــال وهو على نفس الحال البائس، بل يمكن القول أنه أصبح أكثر بؤسًا وشقاءً بعدما أحبطته برفضها الصريح لتقديم يد العون له. خرج من السنترال يجرجر أقدامه وهو يُحادث نفسه:
-لطفك بيا يا رب! هعمل إيه؟!
غمره شعور المعذب العاجز الفاقد للحيلة والوسيلة، سار محني الرأس يتخبط في الطرقات والشوارع، وهو متحرج للغاية من العودة إلى منزل حماته، فبماذا يخبرها وقد وصلت الأمور لمداها الأخير؟
............................................
الانفصـــال عن وليدها كان عسيرًا، وغير يسيرٍ عليها، شعرت "تهاني" وكأن روحها تتمزق، وقلبها يتفتت، بالكاد حاولت الاعتياد على مُفارقته لتزاول عملها، تبدلت أحوالها كثيرًا، وصارت أكثر شهرة وتميزًا، كل الأبواب المغلقة فُتحت من أجلها، أصبحت تنتمي للطبقة الأعلى شأنًا، وبات يتم دعوتها للانخراط في أوساطٍ لم تكن لتظن أبدًا أنها ستصبح واحدة منهم، حتى مكان عملها تحول لشيء يليق بمكانتها الجديدة. في قرارة نفسها، كانت تتحرج من هذا الشعور الغريب الذي يناوشها من آن لآخر وتستنكره؛ بأنها راضية عن النقلة الكبيرة في حياتها، وإن كانت على حساب كرامتها؛ لكن سرعان ما جاهدت لتُسكت ذلك الصوت الداخلي المندد بهذا، لتقنع نفسها بأنها تفعل هذا مضطرة وإلا لعانت الأمرين وحُرمت من كل شيء.
..............................................
لم تبرح مكانها بغرفة نومها، بعدما اختلت بشقيقتها لتحدثها فيما نوت فعله، حيث قررت الانتقال للحجرة الأصغر الخاصة بابنتيها، وترك هذه لـ "فردوس" وزوجها للإقامة بها لاتساعها، ريثما يجدان مكانًا مناسبًا للعيش فيه، وإن لم يحدث لم تشعرهما بالحرج لمكوثهما الدائم معها، بل وزادت على ذلك باقتطاعِ جزءٍ من معاشها الشهري وإعطائه لابنتها كمساعدة خفية في شراء ما ينقص. اعتبرت الأمر كتمهيد مسبق لتقبل الواقع المرير الذي فرض على الجميع ومحاولة التعايش معًا. رفضت "أفكار" ما اقترحته بشدة، ونهرتها في استهجانٍ:
-ده اسمه جنان يا "عقيلة"!!
نظرت إليها مليًا، فأكملت تعنيفها لها:
-إنتي كده بتريحيهم، وبتقوليلهم خدوا كل حاجة على الطبطاب، إزاي تعملي كده؟
استغربت من تحيزها الغريب ضدها، ورغم هذا عللت لها دعمها غير المقيد بشروطٍ مظهرة تعاطفها معها:
-ما هي بنتي، وظروفها صعبة، لازمًا أقف جمبها لحد ما حالهم يتظبط، والحكومة تعوضهم بشقة، ولا جوزها ربنا يكرمه ويلاقي مطرح تاني يعيشوا فيه.
بدت هجومية إلى حدٍ كبير وهي تخاطبها:
-دي مشكلته ويتصرف، ما أخوه خد أمه ومعيشها في الهنا برا، الناس بتحكي وتتحاكى على اللي عمله معاه، بس جه عند "عوض" وضاق به الحال، المفروض يقف جمبه ويساعده، ويشوف حل.
أطلقت "عقيلة" زفرة بطيئة، وقالت في صوتٍ مفعم بالأسى:
-ما احنا عارفين اللي فيها، أمه لا عمرها طاقت البت ولا هترضى بيها، احنا بنحاول نلم الدنيا على أد ما نقدر.
مصمصت شفتيها متمتمة:
-والله إنتي صعبانة عليا، محدش بالطيبة دي في الزمان ده!
في تلك الأثناء، استرقت "فردوس" السمع لما يدور بينهما، خاصة أن فضولها استحثها على ذلك، بعد تكرار لقاءاتهما بعيدًا عنها. في أعماقها كانت تشعر بأنها أهينت، اتهمت باطلًا بشيءٍ لم تتسبب فيه، أوغر ما سمعته صدرها، وملأوه بالحقد، لم تتحمل اتهاماتها المسيئة، ولا ظنونها الباطلة، فتحت الباب دون استئذان، واندفعت للداخل موجهة كلامها إليها بانفعالٍ:
-كفاية يا خالتي تملي ودان أمي ضدي، حرام عليكي بقى!
تفاجأت "أفكار" من اقتحامها السافر، وعنفتها في غيظٍ:
-إنتي واقفة تتصنتي علينا؟
ردت موضحة بحدةٍ:
-لأ، بس صوتك مسمع لبرا يا خالتي، ولو اتكلمنا بحق الله "عوض" بيعمل اللي عليه، بس ده قضاء ربنا.
نظرت لها شزرًا قبل أن تسألها بسِحنة منقلبة:
-طب ما يكلم أخوه ياخدكم معاه، ليه رمي البلا ده على أمك؟
هتفت في حرقةٍ:
-يا خالتي أخوه مرضاش بيا ورماني، إنتي نسيتي الله حصل؟ وفي الآخر أنا رضيت بالهم ورضيت بحكمك عليا، ليه محسساني إني وحشة مع أمي؟ وكل اللي حصل كان قضاء ربنا!
كل ما فاهت به أوحى بإدانة ملموسة لخالتها؛ ولكنها تظاهرت بأنها لم تكن متورطة في الأمر برمته، وأشاحت بوجهها للجانب موجهة حديثها لشقيقتها فقط:
-لما تحبي تشوفيني ياختي ابقى عدي عليا، واهوو ناخد راحتنا في الكلام بدل ما الغُرب يسمعونا.
ثم زمت شفتيها مجددًا، وقالت وهي تغادر الغرفة:
-سلام.
لم توصلها لباب المنزل كما اعتادت أن تفعل، بل مكثت في مكانها تسأل والدتها بعينين تغرقان في الدموع الساخنة:
-هي بتعاملني كده ليه؟
اقتربت منها أمها، وربتت على كتفها في إشفاقٍ، مهونة عليها حزنها قليلًا، فاستأنفت "فردوس" حديثها المرير:
-ما هي السبب من الأول في الجوازة دي!!
علقت عليها بحذرٍ:
-ماتخديش على كلامها، هي خالتك كده بتحب تتفك بكلمتين، اسمعي من هنا، وطلعي من هنا.
انفجرت "فردوس" باكية بحرقةٍ، وراحت تشتكي وتنوح في تعاسةٍ جلية:
-أنا مش عارفة ليه حظي في الدنيا قليل كده؟
حينئذ أخذتها أمها إلى حضنها، تاركة إياها تبكي على كتفها، ظلت تربت على ظهرها، وواستها بالكلمات اللطيفة، ودَّت لو امتلكت مفاتيح السعادة، وقتها لما بخلت عليها بها.
...........................................
بعد مضي ما يزيد عن ستة أشهر، بذلت خلالها ما في وسعها ليل نهار لنيل رضائه، وإبداء فروض الطاعة الكاملة له، فاجأها حين أمرها بالسفر معه إلى ذلك المؤتمر الطبي، للغرابة لم تحضر فاعلياته مثلما توقعت! بل تركها وحيدة بالفندق حتى فرغ من التزامه، ثم اصطحبها إلى أرقى بيوت الأزياء والموضة، ليجري تغييرًا جذريًا في هيئتها الخارجية. اهتمت بها المتخصصات، وجعلن مظهرها يبدو مغايرًا تمامًا لما كانت عليه سابقًا، سيدة مجتمع رمن الطراز الأول، اندهشت "تهاني" لما قرره بشأنها، ورغم حيرتها إلا أنها أحبت الرفاهية المعروضة لها، وأرادت الاستمتاع بها على كل الوجوه، لحظتها توهمت أنه أدرك قيمتها، إذ ربما يحاول تعويضها عما عاشته معه، كانت حمقاء للدرجة التي جعلتها تصدق ذلك.
عادت إلى الفندق محملة بالحقائب المملوءة بالثياب والأحذية والحُلي الباهظة، تأملت ما صار ملكها مجددًا في عينين مبهورتين، وهي تكاد لا تصدق ما تخامره الآن من إحساس افتقدته بالنعيم والترف. تطلعت بتحيرٍ قلق إلى زوجها الجالس بعنجهية على الأريكة، واضعًا ساقه فوق الأخرى، وفي يده إحدى سجائره الغالية. في البداية ترددت في سؤاله عن الأسباب التي دفعته لفعل هذا، تغلبت على خوفها، وتساءلت:
-ليه ده كله؟ واشمعنى دلوقت؟
أجابها بغطرسةٍ وهو ينفث دخان سيجاره في الهواء:
-من النهاردة إنتي هتكوني واحدة تانية، تليق باسم عيلة "الجندي".
أصغت بعنايةٍ لما يخبرها به، خاصة حينما أضاف:
-واجهة مُشرفة، مش مجرد واحدة عادية والسلام.
راقها ذلك التغيير، واستحسنته، فقالت باسمة:
-حاضر، اللي إنت عاوزه هعمله.
كادت تمضي فرحتها للنهاية لولا أن كدر صفو هذه اللحظات بقراره الصادم:
-بالمناسبة، انسي خالص إنك كان ليكي عيلة ساكنة في حارة.
برقت عيناها ذهولًا وهو لا يزال يكمل:
-مش عايز أي صلة بيهم نهائي، هما مالهومش وجود في حياتك.
ما طلبه ليس بمسألة عادية تخص العمل، يمكن توفيق أوضاعها عليها، الأمر أصعب بكثير، إنه متعلق بأفراد أسرتها، لوهلةٍ شردت مستعيدة لمحات سريعة وخاطفة من شريط حياتها، بما تضمنته من أحداثٍ سارة وأخرى مؤسفة، كان العامل المشترك فيها هو حب والدتها، ولهفة شقيقتها، أخرجها من سرحانها اللحظي صوته الآمر والمحفوف كذلك بكلمات التحذير:
-لو خالفتي أوامري هتندمي ندم عمرك، سامعة؟
انتفضت مع صيحته الهادرة، وردت في طاعة:
-حاضر، في حاجة تانية؟
قال نافيًا:
-لأ.
استعدت للالتفاف، فاستوقفها بإنذاره القاسي:
-لو في أي تقصير مش هرحمك.
بلعت ريقها، وخنقت هذه الغصة التي برزت في حلقها بقولها المستسلم وهي تنظر إليه بحزنٍ:
-اطمن، أنا تحت أمرك.
صرفها بإشارة من يده، فأومأت برأسها بخفةٍ، وتحركت بخطواتِ شابها الخزي، يبدو أن أتعس لحظات حياتها ما زالت في الانتظار!
...........................................
قامت في رأسها عواصف الأفكار المحيرات حينما استلمت هذه الأوراق الرسمية أثناء تواجدها بمحل البقالة، لم تعرف فحواها، ورفضت قراءتها على مرأى ومسمع ممن حولها، فما أسرع ترويج الشائعات المغلوطة على حساب الأبرياء، ولإسكات الألسن المتطفلة ادعت أنها تخص مشكلة شقة الإيواء التابعة لابنتها "فردوس"، فبدا الأمر مقنعًا للعوام. هرولت "عقيلة" عائدة إلى المنزل؛ لكنها عرجت على جارتها "إجلال"، دقت عليها الباب، ففتحت لها الأخيرة، ودعتها للدخول بعد تحيتها، ومع ذلك اعتذرت منها، لتطلب دون تفسيرٍ:
-اطلعيلي يا بنتي شوية لو فاضية، عاوزاكي في حاجة مهمة.
اعتراها الفضول، فسألتها بحاجبين معقودين:
-خير يا خالتي؟
ردت بمزيدٍ من الغموض:
-فوق هتعرفي.
ردت عليها وهي تشير بيدها للخلف:
-طيب هقول لأمي وأحصلك يا خالتي.
اكتفت بهز رأسها، وصعدت للأعلى، وقلبه يقفز بين ضلوعها خوفًا ورهبة. على أحر من الجمر انتظرت قدوم "إجلال" إليها، ما إن ولجت للداخل حتى أغلقت الباب خلفها، أمسكتها من معصمها، وجذبتها نحو الأريكة، أجلستها عليها والأخيرة في تحير واسترابة من تصرفاتها معها. بددت "عقيلة" الغموض السائد بقولها وهي تمد يدها بمغلفين مغلقين:
-في جوابات استلمتها من المُحضر وأنا عند البقال، وأنا مش عارفة فيها إيه، خدي شوفيهم.
تناولت الاثنين منها وهي ترد بانصياعٍ:
-عينيا.
فضَّت كل واحدٍ على حدا، وبدأت تقرأ بتعجلٍ، دون صوتٍ، ما كتب فيهما. تابعتها "عقيلة" بتوترٍ مترقب، حينما طال سكوتها سألتها في شيءٍ من الارتباك:
-ها عرفتي فيهم إيه؟
تلبكت، وترددت، وظهر ذلك بوضوحٍ على قسماتها ونظراتها؛ لكن لا مفر من معرفتها بالحقيقة، وإن كانت مؤلمة. بلعت "إجلال" ريقها، لتخبرها بتريثٍ، وهي تراقب ردة فعلها:
-ده واحد من المحكمة، وواحد من الكلية بتاعة "تهاني".
سألتها في لوعةٍ مشوبة بالإلحاح:
-مكتوب فيهم إيه؟ ما تقولي يا "إجلال"، بلاش تنهي قلبي معاكي.
رفعت المظروف الأول نصب عينيها، ثم أجابتها:
-بتاع الكلية فيه إنذار بالفصل!
لطمت "عقيلة" على صدرها منددة بما عرفته:
-يا لهوي! ليه كده بس؟
راحت تشرح لها ببساطة أن أسباب ذلك الإجراء الرسمي يعود لانقطاعها عن مواصلة دراستها في البعثة التعليمية دون توضيحٍ مبرر لهذا، كذلك تضمن إخطار المحكمة إلزامها برد كافة المصروفات والنفقات التي تم تخصيصها لها خلال مدة إقامتها بالخارج. واصلت "عقيلة" ندبها المصدوم لاطمة على فخذيها:
-يادي النصيبة اللي كانت لا على البال ولا على الخاطر!!
نظرت إليها "إجلال" بشيءٍ من التعاطف، بينما مُضيفتها تتساءل في ذهول مصدوم:
-طب هي عملت كده ليه؟
هزت كتفيها متمتمة:
-الله أعلم بظروفها يا خالتي.
أحست "عقيلة" وكأن مطرقة قاسية قد هوت على رأسها، فجعلتها في حالة من الخوار والهوان، بدت لحظتها وكأن محيطها غام وساد فيه التشوش والضباب. حاولت النهوض من موضع جلوسها، فلم تستطع، بصوت شبه لاهث خاطبت جارتها وهي تنظر إليها بعينين دامعتين:
-اسنديني يا بنتي، مش قادرة أقف على حيلي!
عاونتها على القيام وهي تحاول التبرير لها بأي أعذارٍ، لعل وعسى تخفف بذلك من وطأة الصدمة عليها:
-أكيد في حاجة حصلت هناك خليتها تسيب ده كله.
انسكبت الدموع من مقلتيها وهي ترد عليها بأسئلة لا تجد أي إجابة مقنعة لها:
-طب وما رجعتش ليه؟ ده بيتها، وأنا أمها، دي...
تقطع صوتها لهنيهة قبل أن تحاول إتمام عبارتها في حزنٍ متزايد:
-دي بقالها شهور من آخر مرة اتصلت بيا.
ارتجفت كليًا، كانت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار عصبيًا، معتقدة أن ابنتها تعرضت لحادث مأساوي بشــــع، بدت غير قادرة على التماسك لمجرد تخيل ذلك، فاستنجدت بجارتها بصوتٍ واهن للغاية:
-أنا مش حاسة بنفسي، الحقيني يا "إجلال"!
ثم سقطت مغشيًا عليها، صرخت الأخيرة فزعًا لرؤيتها تفقد الوعي هكذا فجـأة:
-خــــالتي!
..............................................
الإمعان في التحقير من شأنها، وإذلالها في كل فرصة تتاح له، كان ممتعًا له بشكلٍ لا يوصف، وكأن في تهشيم كرامتها لذة مشوقة ترضي نزعة غير سوية بداخله، خاصة حينما تتلقى الثناء أو التكريم من أحدهم، وكأنه يريد إخبارها بشكل مباشر ألا تنساق وراء ما تظن أنه المستقبل الباهر دون ضمان موافقته! امتثلت له رغم شعور الرفض السائد في وجدانها، ليس أمامها مهرب، عليها إسعاده وإلا حُرمت من سعادتها، كل ما كان يطلب منها ارتدائه، كانت تضعه على جسدها، فهناك ثيابٌ تُصيِّر الفتاة الوقورة كامرأة لعوب، وهذا ما أراده منها، أن تتألق في ثياب فتاة ليل عابثة، تُجيد اصطياد الرجال، كنوعٍ من التسلية له، قبل أن يطفئ لهيب الرغبة المندلع فيه. ألقى "مهاب" نظرة طويلة متأنية على زوجته وهو جالس عاري الصدر، وباسترخاءٍ على جانبه من الفراش، أشار لها بإصبعه لتدور حول نفسها، فاستجابت، وراحت تلف ببطءٍ، متأكدة أن عيناه الثاقبتان تنفذان إلى كل قطرٍ فيها. حين انتهت من دورتها وجدته يبتسم في رضا، أبدى إعجابه بدلالها وعلق بما يشبه السخرية:
-شيك أوي يا دكتورة.
اغتاظت من إهانته المبطنة، وهسهست بعبوسٍ:
-إنت بتتريق؟
وسَّد يده خلف رأسه معقبًا بتملكٍ مستفز:
-طبعًا، عندك مانع؟
ضمت ذراعيها أمام صدرها، كأنما تخفي بهما مقوماتها عن نظراته الجريئة المُجردة لها، وسألته في نبرة خجلة:
-مطلوب مني إيه دلوقت؟
رفع حاجبه للأعلى قائلًا بغموضٍ:
-تبسطيني يا دكتورة، مش إنتي مراتي؟
بين جنبات نفسها رددت في استهزاء:
-ولازمتها إيه دكتورة وأنا بالشكل ده؟!!
تنبهت لصوته الذي ما زال يكلمها:
-شوفي هتخلي جوزك مرضي إزاي!
حدجته بهذه النظرة الساخطة، فمن أمامها ليس بامِرئ طبيعي، إنما شيطان جالس فوق أعناق ضحاياه، وهي للأسف إحداهن!
...............................................
من بعد الذي علمته، صار الوقت ثقيل المرور عليها وبطيء للغاية، فقدت "عقيلة" الشغف في كل شيء، ذبلت، وضعفت، ونال منها المرض، كل ما رجته فقط معرفة أي شيء عن ابنتها الغائبة قبل أن ترحل عن هذا العالم الفاني، تعذر على "فردوس" الوصول إليها بعدما انقطعت أخبارها تمامًا، سعت جاهدة للوصول إليها، سألت عنها القاصي والداني؛ لكنها اختفت وكأنه لم يعد لها في هذه الدنيا وجود. ذاك النهار، وتحديدًا أوان الضحى، كانت ممسكة بقطعة من القماش البالي، تستعملها كخرقة للتنظيف، مسحت بها على طرف حذاء زوجها المغبر، قبل أن تناوله إياه وهي تشكو إليه شأن أمها:
-طول عمرها كده "تهاني"، جايبة الهم لأمي، عمرها مريحتها، لحد ما هتجيب أجلها.
هز رأسه في أسف، وطلب منها في نبرة راجية:
-هوني عليها وخليكي جمبها، ده يعتبر ابتلاء.
في سأمٍ ظاهر عليها ردت:
-أديني بعمل اللي عليا وزيادة.
شكرها "عوض" على تنظيفها لحذائه، فسألته بعدما ارتداه:
-إنت رايح فين؟
أجابها وهو يسير تجاه الباب:
-هشوف في الحي وصلنا لإيه في موضوع الشقة ده.
-طيب.
قالت كلمتها هذه وهي تنحني لتحمل الدلو المملوء بالمياه استعدادًا للبدء في مهمة تنظيف أرجاء البيت. ألقت نظرة أخيرة على زوجها قبل أن يخرج ويغلق الباب خلفه، لتردد في سخطٍ:
-ما هو لو يجيلنا خبرها الكل هيرتاح!
.........................................
جرفها الحنين إلى أشياء افتقدتها كثيرًا، كسماع صوت والدتها، إلى رؤيتها، إلى التمتع بحضن طويل دافئ بوجودها، تنهدت، وخرجت التنهيدة محملة بأشواق ورغبات تعلم جيدًا أنها لن تتحقق. كبتت "تهاني" ما تشعر به في دواخلها، فإفساد ما تحاول بنائه بأمنية شبه مستحيلة كان مرفوضًا. حضرت بجسدها هذا التجمع الطبي؛ لكن ذهنها غاب عما يدور من حولها، لاذت بالصمت كليًا، واكتفت بتقليب صفحات الكتيبات التي أمامها بنظرات فاترة، لتظهر اهتمامًا زائفًا بما يُطرح للنقاش. لم تنتبه لوجود "ممدوح" رغم أنها كانت تنظر تجاهه، ومع ذلك بدت وكأنها لا تراه.
نهض الأخير من مقعده حينما لمحها بين الحاضرين، واتجه إليها بخطى واثقة بعدما زرر طرفي سترته، أحست "تهاني" بشيء يظللها، فرفعت بصرها للأعلى لتجده أمامها، تفاجأت بوجوده، واعترتها ربكة موترة، خاصة أن ذلك هو لقائهما الأول بعد أشهر من الغياب الطويل، انطلق لسانها يسأله في شيءٍ من الإنكار:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
أتى رده موجزًا ومباشرًا:
-جاتلي دعوة.
سألته في نفس اللهجة المستنكرة:
-هو إنت مش كنت مسافر؟ رجعت ليه؟
وضع يده في جيب سرواله، وقال:
-طبيعي أرجع بعد ما أخلص اللي ورايا، بس الأهم إني رجعت من تاني...
تعمد التوقف عن الكلام ليضمن إصغائها التام إليه وهو ينهي جملته بكلمة واحدة عنت الكثير:
-عشانك.
فزعت لاعترافه النزق، وتلفتت حولها في ذعرٍ، كأنما ترتاع من احتمالية سماع أحدهم لما فاه به، نالت منها رجفة أخرى جعلتها أكثر توترًا عندما استطرد يسألها بألفةٍ متزايدة:
-إنتي زعلانة مني في حاجة؟
ردت باقتضابٍ، وبوجهٍ ذي ملامح رسمية، لتقطع عليه سبل التودد إليها:
-لأ.
أعاد فتح سترته، وجلس دون استئذانٍ مجاورًا لها، لاح على قسماتها تكشيرة عظيمة، ثم مال عليها متسائلًا بنبرة معاتبة، وهذه النظرة الماكرة تطل من عينيه:
-أومال بتتعاملي معايا كده ليه؟ ده أنا غايب عنك بقالي مدة، ويعتبر يعني أكتر حد خايف عليكي حقيقي من قلبه هنا!
صوته الدافئ، الحاني، والمهتم جعل الرعدات تنبجس في أعماقها، كانت متعطشة لهذا الشعور المفعم بالاهتمام والاحترام، قاومت التخبط الذي يداهمها حينما يُعاملها بهذه الحميمية اللذيذة، وحافظت على الحاجز الرسمي القائم بينهما، فخاطبته في نفس اللهجة الجادة:
-دكتور "ممدوح"، أنا واحدة متجوزة، وعاوزة أحافظ على حياتي مع ابني وجوزي، مش حابة يكون في مشاكل خالص.
بنفس الطريقة الملتوية، داعبها بكلماته، وهو يمد يده ليحتضن كفها:
-وأنا مش عايز غير إني أشوفك مبسوطة، والضحكة منورة وشك.
كانت كمن لامسه تيار كهربي، انتفضت مصعوقة، وسحبت يدها من أسفل لمسته الجريئة، لتنهره بعينين جاحظتين:
-إيه اللي إنت بتعمله ده؟!
ظل على هدوئه معها، فحذرته بتقاسيمٍ اكتسبت لونًا عدائيًا:
-ماتنساش نفسك!
أكدت له بترفعٍ يحمل في طياته التهديد:
-أنا ست متجوزة، وأظن جوزي مش هيقبل حد يتعدى على مراته
رمقها بنظرة غير مريحة، قبل أن يأتيها تعليقه نزقًا، وصادمًا لها على كافة الأصعدة:
-"مهاب" عرف يخليكي إزاي تخضعيله، وتكوني تحت رجليه.
بهتت ملامحها، وأصبحت شبه شاحبة بعدما فرت الدماء من وجهها، ازدردت ريقها، وردت بجمودٍ:
-لو سمحت، مايخصكش اللي بيني وبين جوزي.
اعتلت زاوية فمه ابتسامة هازئة قبل أن يسألها بلؤمٍ:
-على كده إنتي عارفة هو فين دلوقت؟
رمشت بعينيها وهي تجاوبه:
-وراه عمليات، مش فاضي.
ضحك ساخرًا منها، ليردد بعدها بما أوقد نيران الحنق في صدرها:
-مكونتش متخيل إنك بالسذاجة دي...
برقت حدقتاها بغضبٍ، فاستغل الفرصة كحرباء متلونة ونجح في استثارة حفيظتها بقوله المسموم:
-بس هو من الأول اختارك عشان كده.
انقبض قلبها بقوةٍ، وسألته مستفهمة بتعبيرٍ واجم للغاية:
-قصدك إيه؟
أراح ظهره للخلف في مقعد، وقال بخبثٍ، قاصدًا بذلك إشعال فتيل الكراهية بينهما:
-أنا رأيي ترجعي بيتك أحسن وتشوفي بنفسك.
تخللتها موجات من الخوف الممزوج بالشك، فنهضت دون مقدمات من موضعها، لتنصرف بلا تبرير، قاصدة العودة إلى منزلها، آملة في نفسها أن يكون ما أخبرها به مجرد أكذوبة حمقاء، افتعلها ليثير غيرتها لا أكثر!
............................................
لم يصدر عنها أي صوت وهي تفتح باب البيت بحرصٍ شديد لتلج إلى الداخل، كان البهو شبه معتم، خافت الإضاءة، أرهفت السمع، لا ضوضاء، قليل من الاطمئنان تسرب إليها، وراحت تخبر نفسها في استهجانٍ:
-أكيد قاصد يعمل كده عشان يضايقني.
تقدمت بتؤدةٍ، واتجهت إلى غرفة نومها، كان الباب مغلقًا، فانقبض قلبها بقوة، وتوجست خيفة من وقوع الأسوأ، تسللت ماشية حتى أصبحت أمام الكتلة الخشبية التي تخفي خلفها ما يدور بالداخل، ألصقت أذنها بها، وركزت كامل حواسها، انتفضت في هلع حينما اخترق أذنها هذه التأويهة الأنثوية المكتومة، أحست بشعور مماثل لطعنة غدر تنفذ في صدرها، ارتجفت يدها وهي تمسك بالمقبض لتديره، استجمعت شتات نفسها المتبعثرة، وفتحته لتتفاجأ بمشهد جعل عيناها تتسعان على آخرهما؛ المربية التي من المفترض أن ترعى رضيعها، وتنام بجواره، متواجدة هنا في غرفتها، بلا ثيابٍ تقريبًا، وتُطارح زوجها الغرام على فراشها، وأثر العشق الآثـــم يبدو جليًا عليهما.
ارتعدت كليًا، وانفلتت منها شهقة مذعورة وهي مذهولة بالكامل مما تبصره، شُل تفكيرها لحظيًا من هول الصدمة، وحينما استفاقت من جمودها، صرخت في استنكار غاضب للغاية:
-إيه اللي أنا شايفاه ده؟
لم يبدُ "مهاب" متفاجئًا من ظهورها، بل كان هادئًا، مسترخيًا، ومستمتعًا بما يجري، على عكسه ذُعرت المربية من حضورها، ونهضت عن الفراش باحثة في التو عما تستر به ما انكشف منها. اندفعت "تهاني" للأمام تجاهها، وواصلت صياحها المستهجن:
-على سريري! ومع دي؟!!
أمسكت بها من شعرها، وجذبتها منه في شراسة، لتقوم بلكزها في كتفها وفي أي موضع تطاله بقبضتها الأخرى. توقعت أن يتحرك زوجها من موضعه، يفض تشابكهما، يحاول الاعتذار أو إبداء الندم؛ لكنه لم يقم بشيء، ظل يطالعهما من موضعه باستمتاعٍ. حز في قلبها استهانته بخيانتها، وتعامله مع الموقف المشين بهذا الكم الهائل من الهدوء والبرود، أعاد "مهاب" ضبط ثيابه التحتية، وأمر المريبة باللغة الإنجليزية:
-اذهبي الآن.
رفضت "تهاني" تركها، وصرخت في عصبيةٍ جمة:
-مش هتمشي قبل ما أفضحها.
نظرت المربية بتوترٍ قلق إليه، وهمست في صوت مرتعش، كأنما تستجديه لينقذها من هذه الفضيحة الوشيكة:
-سيدي.
خاطب المربية بنفس اللهجة الهادئة وهو ينهض من مكانه:
-لا تكترثي بها، ارحلي.
حينئذ حولت ناظريها عنه، واستخدمت قدرًا من القوة لتدفع زوجته وتتحرر منها، ثم ركضت هاربة من الغرفة وهي تحاول تغطي ما ظهر من مفاتنها. كانت "تهاني" على وشك اللحاق بها؛ لكن "مهاب" منعها بالإمساك بها من رسغها، أصابها اشمئزاز عارم من لمسته التي تلت هذه العلاقة الآثمة، نفضت يدها، وأكملت صراخها بنبرة جريحة:
-إنت اتجننت؟ إزاي تعمل كده، لأ وهنا؟
اشتدت قبضته عليها، واخشوشن صوته قليلًا حين حذرها:
-ماتنسيش نفسك.
تطلُعها إليه من هذا القرب، وبعد ما شهدته، جعلها تدرك مدى قبحه، وبذاءته اللا متناهية، حاولت الدفاع عن كرامة سحقت بقولها:
-أنا عارفة إنك بتخوني وتعرف عليا كتير، بس اللي عمره ما يجي في بالي إنك تعمل ده هنا!
حدجته بهذه النظرة الاحتقارية النافرة وهي تزيد من هجومها اللفظي عليه:
-إيه القــــرف ده؟!
كان دنيئًا معها في رده المستفز:
-أنا أعمل اللي عاوزه في الوقت اللي يعجبني...
ثم دفعها بخشونة تجاه باب الغرفة وهو يكمل بقسوةٍ:
-ولو مش عاجبك، الباب مفتوح!
كادت تُطرح على وجهها من أثر الدفعة العنيفة؛ لكنها حافظت على اتزانها، والتفتت ناحيته تصرخ في حرقة، ودموعها تنسال بغزارة:
-بتخوني هنا، وعلى سريري!
مرر يده أعلى رأسه، وقال متباهيًا بما ارتبك ليزيد من تحطيمها ذاتيًا:
-لأ يا دكتورة، في أي حتة تيجي على بالي، فاهمة!
لم تجد ما ترد به عليه، وإن وجدت حتى لن تستطيع النطق بشيء، فأمثاله من الحقراء لا يستحقون سوى المــــوت. ابتسم "مهاب" في انتشاء لإخضاعها بغير مجهود، تقدم ناحيتها على مهلٍ ليخاطبها بعدها:
-أيوه، خليكي كده حلوة.
سددت له نظرة نارية قاتـــلة، لتوليه ظهرها تأهبًا لمغادرتها، تسمرت قدماها قبل أن تخطو حين سألها:
-رايحة فين؟
أبقت على نظراتها المقهورة بعيدًا عن وجهه، وأجابت بإيجازٍ:
-لابني.
ارتعش ظهرها، وأحست بوخزاتٍ حادة تتفشى فيه، عندما شعرت بيده توضع عليه، دار حولها لينظر عليها قائلًا بخبث:
-هو نايم، تعالي كملي اللي بوظتيه.
استنفرت، وتصلبت أكثر حين التفت يده حول عنقها ليتحسس بأصابعه جلده الناعم، تأففت، وأصابها الغثيان من لمسته، توسلته بصوت مبحوحٍ:
-سيبني دلوقتي.
شعرت بأظافره تخمش جلدها وهو يسألها:
-إيه مش عاجبك؟
كم كانت حمقاء وهي تظن أنها قادرة على تحمل هذا الجحيم المملوء بكل صنوف الإهانة والإذلال! وهو حقًا لا يكل ولا يكف عن تدميرها. أطبق بيده على عنقها، فتحشرجت أنفاسها، ونظرت إليه بذعرٍ، كرر عليها سؤاله، فأجابته بصوتٍ متقطع:
-أنا .. بس .. عاوزة أغير هدومي الأول.
دفعها معه للداخل وهو يقول باسمًا بشيطانية:
-أنا عاوزك كده، وهنا .. في الحتة دي.
وأشار تجاه الفراش .. بالطبع لم يكن بحاجة لأدنى محايلة لإقناعها بتسليمها جسدها ليعيث فيه كيفما شاء بالطريقة التي ترضيه وتستهويه، وفي نفس البقعة الملوثة بعشق غيرها، كل ما استطاعت فعله هو حبس أنفاسها، الإطباق على جفنيها، الدعاء سرًا بانتهاء هذه اللحظات القاسية، بين جنبات نفسها ظلت تردد بلا صوت:
-حــــيوان ......................................... !!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(وضاع العمر هباءً)
جلست على طرف الفراش حينما انتهت من ارتداء قميصها المنزلي، شدته للأسفل لتضبطه على جسدها، وراحت تزرر فتحة الصدر، قبل أن تمد يدها وتمسك بمنديل رأسها لتلفه حول شعرها الذي ما زال رطبًا من استحمامها. حانت من "فردوس" نظرة جانبية نحو زوجها المستلقي على الجانب الآخر من السرير، ويوليها ظهره مستغرقًا في نومه. لم يكن ما يجمعهما معًا هو الحب، إنما الظروف العصيبة التي فرضت على كليهما، ورغم مُضي ما يزيد عن خمس سنوات على زواجهما إلا أنها لم تنجذب إليه بشدةٍ مثلما أوهمها الجميع، كان ما بينهما روتينيًا، فاترًا، يميل لقضاء الواجب عنه للشغف والوله.
حادثت نفسها في سقمٍ، وتكشيرة كبيرة تجتاح وجهها:
-خليك كده نايم يا "عوض"، ده اللي بقيت باخده منك، تيجي تنام، وطول الوقت برا!
حتى حلمها بالحمل، والإنجاب كان متعذرًا، فكيف يحدث ذلك وقلما يحظيان بليلة حميمية عاصفة تندلع فيها شرارات الرغبة والهيام؟!
تركت خواطرها المؤرقات جانبًا، ونهضت بتكاسلٍ عن الفراش، ثم سارت بخطواتٍ خفيفة حذرة نحو باب الغرفة، ألقت نظرة أخيرة على زوجها، قبل أن تخرج من الحجرة، لتوارب الباب خلفها. واصلت مشيها الحثيث تجاه الغرفة الصغرى الماكثة بها والدتها، كانت الأخيرة تنام على جنبها، لا تتحرك، فمنذ الأخبار المشؤومة التي تلقتها بشأن فصل ابنتها البكرية من عملها، وانقطاع كامل أخبارها عنها أصابها الإعياء والمرض. زهدت الحياة، وأصبحت متعلقة بأملٍ واحد فقط، ربما لن يتحقق؛ لكنها تشبثت به، ألا وهو رؤية الابنة الغائبة!
تأملتها من عند عتبة الباب، وجهها أصبح تعيسًا، ذابلًا، زاره المرض كضيف مقيم لا عابر، وحفر آثاره عليه، حز في قلبها رؤيتها تنزوي يومًا بعد يوم بسبب أوهامها الواهية، حتى الكلام انقطعت عنه، وبات من النادر سماع صوتها. مرة ثانية زفرت "فردوس" الهواء الثقيل من رئتيها قبل أن تتقدم تجاهها لتتفقدها، انحنت عليها لتقبلها من رأسها، ابتسمت لرؤيتها يقظة، وخاطبتها في صوتٍ خفيض:
-عاملة إيه النهاردة يامه؟
ابتسمت "عقيلة" بسمة باهتة، فارتضت بها ابنتها، ثم مسحت بيدها على وجنتها في رفقٍ، وأكملت سؤالها لها وهي تسحب الغطاء عليها لتغطيها:
-محتاجة حاجة أجيبهالك؟
هزت "عقيلة" رأسها بالنفي، فربتت على كتفها في مودةٍ، قبل أن تستقيم واقفة لتنظر بصدمة مذهولة إلى صينية الطعام المتروكة على الطاولة الملاصقة لفراشها القديم، استنكرت عزوفها عن تناوله، وصاحت في ضيقٍ:
-الله! ده الأكل زي ما هو من ليلة إمبارح!!
مجددًا نظرت إلى والدتها تستعتبها بقولها:
-طب ليه كده بس؟
اغتاظت من تصرفها الضار بصحتها، وقامت بتأنيبها لفظيًا في حدة:
-وربنا حرام اللي بتعمليه في نفسك!
اقتربت منها، ورأت كيف تجمعت الدموع في عينيها إيذانًا بالبدء في نوبة بكاءٍ صامتة، مما استفزها، وجعلها تزيد من وتيرة غضبها عليها بترديدها:
-ليه تعــــذبي روحك بالشكل ده؟
ذرفت "عقيلة" العبرات الساخنة، فكزت "فردوس" على أسنانها محتجة على ما تقوم به، فابنتها لا تستحق ذلك التعاطف، وهي الأكثر جحودًا على الإطلاق. جلست على طرف الفراش ملاصقة لها قبل أن تهتف في صيحة استهجانٍ:
-فكرك يعني هي هتحس بيكي وترجع لما ما ترضيش تاكلي وتعيطي عليها؟
ثم ضربت بكفيها معًا وهي تضيف:
-هي خلاص يامه .. شافت حياتها ونسيتنا.
ابتلعت "فردوس" غصة مريرة، واستمرت تقول:
-طول عمرها كده، متمردة على حياتنا، مش عجباها...
انخفضت نبرتها إلى حدٍ ما قائلة بسخطٍ:
-ومين يرضى بعيشة الفقر والغلب؟!!
رمقتها بنظرة مقهورة قبل أن ترجوها بيأسٍ:
-نفسي تحسي بيا وتقدري اللي بعمله عشانك.
بكت "فردوس" هي الأخرى تأثرًا بما جال في نفسها خلال هذه اللحظات الحساسة، وراحت تدمدم:
-خمس سنين يامه بعمل كل حاجة عشان ترجعي زي الأول.
مسحت بظهر كفها ما انسال على وجهها من دمعٍ، وأكملت بنفس الشجن:
-لا اشتكيت من فقر، ولا فتحت بؤي بكلمة، نفسي تكلمي تاني..
توسلتها باستعطافٍ يفطر نياط القلوب:
-يامه .. إنتي آخر حد فاضلي في الدنيا، من بعد ما خالتي ماتت، مش عايزة أخسرك إنتي كمان، عشان خاطري كفاية زعل وحزن على ناس ما تستاهلش!
نهضت بعدئذ من على الفراش، وحملت الصينية، ثم قدمتها لها قائلة:
-كُلي حاجة وريحيني.
نبذت "عقيلة" الصينية بيدها، وأبعدتها عنها، ليتضاعف الحنق في نفس ابنتها. بالكاد تمالكت أعصابها وهسهست:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب أعمل إيه بس عشان ترضي؟
ما كان من والدتها إلا أن أولتها ظهرها، وتجاهلتها، ليملأ روحها المزيد من الحقد والغيظ، تحركت "فردوس" مغادرة الغرفة وهي تقول في حرقةٍ:
-منك لله يا "تهاني"، هتجيبي أجل أمك حتى وإنتي بعيدة!
...............................................
لم تنجح كتلة مساحيق التجميل التي لطخت بها تقاطيع وجهها في إخفاء الحزن العميق والراسخ فيها، حتى عيناها كانتا مكسوتان بحمرة ملتهبة جراء بكائها الذي لا ينقطع. بدت "تهاني" وهي جالسة في المطعم بصحبة "ممدوح" واجمة للغاية، شاردة في أغلب الأحيان، انتظرت اللحظة التي ترك لها العنان لتفرغ مكنونات صدرها، فانطلقت في شكواها كعادتها خلال لقائها المنتظم به، حينما يغادر زوجها البلاد، ويذهب لواحدٍ من مؤتمراته الطبية الهامة ويغيب لعدة أيامٍ.
في البداية كان جالسًا في مواجهتها؛ لكنه مع الوقت انتقل ليجاورها، لتشعر به قريبًا منها. اختنق صوتها بشدة للدرجة التي خرج بها متقطعًا وهي تعترف له:
-خلاص مابقتش قادرة.
نظر لها بتعاطفٍ ماكر، ومد يده ليمسك بكفها المفرود على سطح الطاولة، لم تمانع مسكته، واستمرت في استرسالها:
-أنا بموت في اليوم ألف مرة، وهو ولا فارق معاه، بيعمل كل حاجة مُقـــرفة عشان يقهــرني.
شعر بتشنج أصابعها على كفه وهي تضيف بصعوبةٍ:
-خيـــانة، وشُرب، وحاجات ماتخطرش على البال.
فاضت الدموع من عينيها، ولم تكترث برؤية من حولها لها وهي تبكي، تطلعت إليه بعجزٍ قبل أن ترد في شرودٍ مغلف بالندم الكامل:
-يا ريتني قولت لأ من الأول، يا ريتني.
بيده الأخرى احتضن "ممدوح" نفس كفها، بث إليها الدفء، وتوسلها بنبرته الحنون المدسوس بها سم الأفعى:
-اهدي يا "تهاني"، ماينفعش اللي بتعمليه ده، الناس هتاخد بالها.
ردت عليه بمرارةٍ:
-يا ريت حد ياخد باله، على الأقل كنت اترحمت.
شعرت بيده تشتد على راحتها، ورأت نظراته تحتويها، ليخبرها مؤكدًا بلؤمٍ:
-أنا هنا .. موجود جمبك.
سكتت بعدها للحظاتٍ، قبل أن تسحب يدها معتذرة منه:
-أنا أسفة يا "ممدوح"، شغلتك معايا زي تملي، بس ماليش غيرك هنا.
تخليها عن الألقاب الرسمية بينهما جاء بعد توطيد صداقتهما السرية، والتي دامت لفترة ممتدة إلى الآن. راقبها الأخير وهي تبعد يدها في توترٍ معقبًا بهدوءٍ:
-متقوليش كده، بجد هزعل، لو إنتي بس تسمحيلي آ...
كانت تعرف ما يريد قوله قبل أن ينطق به؛ التدخل لإنهاء هذه الزيجة بأقل الخسائر مثلما كان يخبرها، فقاطعته في التو:
-أرجوك، أنا مش عاوزاه يعرف إني وصلت للحالة دي، ما هيصدق يزيد أكثر، كفاية إني لاقية حد بفضفض معاه بدل ما أتخنـــق وأمـــوت.
عاتبها بنظرته الرقيقة وهو يفوه بجزعٍ:
-بعد الشر، خسارة الجمال ده يتدمـــر كده.
استخدمت "تهاني" منديلها القماشي لتمسح بخفة ما بلل وجنتيها، وقالت بعد أخذها لنفسٍ عميق:
-أنا مستحملة ده كله عشان ابني، بس مسيره يكبر ويعرف أنا عملت إيه عشانه.
تصنع الابتسام حين علق:
-أكيد طبعًا...
مجددًا تجرأ واحتضن يدها ليوصيها باهتمامٍ زائد:
-المهم عندي دلوقتي تهدي، وتريحي أعصابك.
بادلته الابتسام الخافت وهي تقول بعد تنهيدة بطيئة، تاركة إياه يداعب أصابعها:
-هحاول.
.........................................
فرغت لتوها من توزيع ما قامت بخبزه من فطائر صغيرة بمساعدة جارتها المقربة، على الفقراء والمعدمين، أثناء تواجدهما بمنطقة المقابر. طوت "فردوس" الكيس البلاستيكي الخالي، ووضعته في آخر تحمل فيه أشيائها الصغيرة، كان النهار حارًا، ونسمات الهواء شبه معدومة، فراح العرق يتصبب من جسدها بغزارة، لذا استخدمت كم عباءتها لتمسح به حبات العرق المتجمعة عند جبينها، أدارت رأسها قليلًا نحو "إجلال" عندما خاطبتها باستحسانٍ:
-القُرص المرادي مخبوزة حلو.
أخبرتها بلا ابتسامٍ:
-عشان حطينا فيها سمنة بلدي.
ظلت جارتها على أسلوبها الودي وهي تتكلم إليها:
-عادة ماتتقطعش يا حبيبتي، وربنا يجعلها بثوابه.
نظرة مهمومة ألقتها الأخيرة على شاهد القبر الذي يضمن بداخله رفات خالتها الراحلة، وكذلك من سبقوها، قبل أن ترد بصوتٍ بائس:
-كله عشان خاطر أمي.
لاحت على ثغر جارتها بسمة راضية حين أضافت:
-مالناش بركة إلا هي.
بدأت "فردوس" بالسير عبر الطرقات الضيقة لتخرج من هذه المنطقة، شردت في وجوم متذكرة كيف تغذى الحزن على صحة والدتها، ونهل من عافيتها، فتركها كالأشبـــاح، بالكاد تصارع للبقاء على قيد الحياة. غص صدرها بالبكاء لهذه الأفكار والخواطر المؤلمة، وراحت تشكو لها في صوتٍ يفيض بالأسى:
-نفسي تسيبها من الهم اللي قضى عليها، والتفكير في "تهاني"، ده اللي راح ما بيرجعش.
لم توافقها الرأي، وحادثتها بصوتٍ مال للجدية:
-غصب عنها، هي أم، والضنا غالي.
ردت عليها بشيء من النقم:
-ده لما يكون يستاهل.
تفهمت موقفها المعادي، وحاولت إظهار بعض التقدير لها بقولها:
-معلش يا "دوسة"، هوني على نفسك، الكل عارف إنتي بتعملي إيه عشان خاطرك الست "عقيلة".
لوت فمها متمتمة:
-ربنا موجود.
وصلت كلتاهما بعد برهة من السير إلى حيث يتواجد موقف الحافلات المزدحم، لم يكن من السهل إيجاد مقاعد شاغرة وسط مئات البشر المتصارعين للحاق بأول حافلة تصل. لتقضي على طول فترة الانتظار، اقترحت فجأة "إجلال" بنزقٍ، وقد ظهرت رنة من الحماس في صوتها:
-بقولك إيه، مفكرتيش تشتغلي يا "دوسة"؟
انعكست الدهشة على ملامح وجهها، وردت باستغراب مشوبٍ بالتعجب:
-إيه؟ أشتغل؟!
أكدت لها حُسن اقتراحها بإيماءة من رأسها لتستحثها على القبول به:
-أيوه، أهوو تجيبي قرش زيادة يساعدك في البيت.
رفضت بعد صمتٍ لحظي، وكأنها قد قامت بعمل تقييم سريع لأوضاعها:
-لأ، "عوض" مش هيرضى، ده غير إني مقدرش أسيب أمي لواحدها وهي في الحالة دي.
لم تستسلم أو تيأس، بل كررت عليها بقدرٍ بسيط من الإلحاح:
-عمومًا فكري، مش هتخسري حاجة.
ضجرت "فردوس" من عدم جدوى انتظارهما، فأشارت بيدها نحو الأمام وهي تخاطب جارتها:
-ربنا يسهل، خلينا نمشي من هنا، ونركب من على أول الشارع.
أيدتها في الرأي، وتبعتها قائلة:
-يكون أحسن برضوه، أهوو بدل وقفتنا اللي مالهاش لازمة.
.....................................
بلطافةٍ مصحوبة بالحذر قامت المربية الأجنبية الجديدة بمسح فم الصغير ذي الخمسة أعوام، عقب انتهائه من تناول الحساء الساخن في غرفته، كانت مسئولة عن رعـايته في غياب والديه، مهام وظيفتها لم تكن مقتصرة على ذلك فقط، بل كُلفت بأمور أخرى كانت تتلهف لها عن أي شيء آخر. ابتسمت له بكل محبة وألفة، ثم أمسكت بعدئذ بصحن الخضار، ووضعته أمامه وهي تطلب منه في صوت رقيق لكنه آمر باللغة الإنجليزية:
-ملاكي، تناول ذلك أيضًا.
عبس الصغير "أوس" بملامحه رافضًا الاقتراب منه، فأصرت عليه بنفس الصوت الحنون:
-إنه شهي.
رفض تناوله بعنادٍ، وقبل أن تضغط عليه انتبهت لصوت أحدهم وهو ينادي:
-حبيبي!
نهض الصغير من موضعه فور أن رأه حاضرًا، واتجه إلى أبيه ليتلقفه الأخير في أحضانه، وينهال عليه بقبلات أبوية دافئة؛ لكن نظرات "مهاب" تعلقت بالمربية الرشيقة التي لمعت عيناها برغبة وانتشاء. نكست الأخيرة رأسها في ارتباكٍ مصطنع، وتمتمت بنعومةٍ:
-عودًا حميدًا سيدي.
اكتفى بهز رأسه، وأبعد ابنه عنه ليخاطبه في جدية:
-عاوزك تسمع الكلام وماتعملش شقاوة، إنت راجل، والراجل لازم يبقى أد كلمته، اتفقنا؟
أظهر طاعته له بتحريك رأسه إيجابًا، فبدا "مهاب" مسرورًا لذلك، وتركه منصرفًا من الغرفة، لتهتف المربية وهي تشير بإصبعها للصغير في تلبك مريب:
-لا تتحرك من مكانك، انتظرني هنا، سأعود سريعًا.
لحقت بـ "مهاب"، وسألته في اهتمام متزايد:
-سيدي، أتريد شيئًا؟
رمقها بهذه النظرة الماجنة التي تفهم مغزاها جيدًا، قبل أن يجاوبها بعبارة موحية كانت مدركة تمامًا لما ورائها:
-نعم، لا تتأخري.
اتسعت ابتسامتها اللاهية، وأخبرته:
-حسنًا، سأترك الصغير مع ألعابه ليلهو، وسأحضر في الحال.
أولاها ظهره، وغمغم بخفوت نازعًا عنه سترته:
-وماله!
.............................................
منذ عودته إلى المنزل وهذا التعبير المريب يكسو كامل ملامحه، بالإضافة لالتزامه بالصمت الطويل، راقبت "فردوس" زوجها بنظرات غريبة متشككة، ودفعة من الأسئلة المحيرة تتدفق في رأسها، لم ترغب في شغل بالها بأمره، فاقتربت منه في جلسته المنعزلة بالشرفة، وسألته بعدما أعدت له كوبًا من الشاي الساخن:
-مالك يا "عوض"؟ من ساعة ما رجعت من برا، وإنت ساكت وواخدلك جمب!!
جاورته في جلسته، وسألته بإلحاحٍ أكبر:
-حصل حاجة؟
لم يجب بشيء، فواصلت ضغطها عليه:
-عرفت خبر عن أهلك طيب؟
تنهد مطولًا قبل أن يجيبها بإيجازٍ مزيحًا ذلك الثقل الجاثم على نفسه:
-لأ.
زوت ما بين حاجبيها متسائلة في تصميمٍ:
-أومال في إيه؟
استمرت في محاصرته بنبرتها المُلحة، وهي تركز كامل بصرها عليه:
-اتكلم يا راجل، مش هتحايل عليك!
نظر لها بعجزٍ، ليتكلم في صوتٍ مُثقل بالهموم:
-استغنوا عن خدماتي في الشغل يا "فردوس"!
في البداية لم تستوعب حقيقة طرده من عمله، فقد أصابت الصدمة المفاجأة تفكيرها بالجمود، فاستفهمت منه بقلقٍ راح ينتشر في تقاسيمها:
-يعني إيه الكلام ده؟
أجابها في صراحة صادمة:
-يعني مابقوش عايزين واحد زيي يخلص ورق الحكومة، وبقيت على باب الله!
جحظت عيناها في ذهولٍ قبل أن تلطم على صدرها منددة بالكارثة التي حطت على رأس عائلتها المنكوبة:
-يا نصيبتي!
ردد في قلة حيلة:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.
سألته في تحسرٍ، وقلبها يدق في فزعٍ:
-طب وهتعمل إيه؟
بنفس النظرة العاجزة أخبرها وهو يهز كتفيه:
-لسه مش عارف.
ظلت "فردوس" تنوح وتولول، ويداها تضربان على فخذيها:
-أهي مصيبة لا كانت على البال ولا على الخاطر.
تبادلت مع زوجها نظرات أكثر قلقًا وخوفًا، ولسانها يردد:
-يعني هناكل منين؟ وهنعيش إزاي؟
حاول طمأنتها بكلماته المواسية:
-سبيها على الله، ربنا مابينساش حد.
نظرت له شزرًا، وكأنها غير مقتنعة بعدم مبالاته، واستهانته بالأمر، هل يظن أن أبواب العمل متاحة لمن مثله من محدودي الشهادات والخبرات؟ بالكاد إن وجد واحدة مماثلة فستقيم الأفراح؛ لكنها كانت شبه متيقنة أنه لن يتمكن من الحصول على واحدة بسهولة أبدًا. انقلبت سحنتها على الأخيرة، وأخذت تقول في نقمٍ:
-ونعم بالله، بس احنا ورانا هم ما يتلم، بيت مفتوح، ومصاريف أد كده، ده غير علاج أمي...
وكأن عاصفة من الهم اجتاحتها، فراحت تزيد في تعداد المصائب بإضافتها:
-ده لواحده بالشيء الفلاني، ولا مديونية البقال والجزار، وآ...
قاطعها "عوض" مشيرًا بيده، وبصوته الهادئ:
-أنا هتصرف، وأرض الله واسعة!
اشتاطت غيظًا مما اعتبره برودًا، ونهضت من جواره لتواصل ندبها البائس:
-كل الناس خيبتها السبت والأحد، وأنا خيبتي ما وردت على حد!!!
.....................................................
كان بحاجةٍ للذهاب إلى الحمام، وتلبية نداء الطبيعة، حاول قدر المستطاع تمالك نفسه؛ لكنه ضجر من الانتظار غير المجدى بداخل غرفته، فنفخ في مللٍ، وناداها لأكثر من مرة:
-ناني .. ناني!
لم يجد منها أي استجابة، لذا تأهب للخروج من غرفته للبحث عنها بداخل المطبخ معتقدًا أنها منهمكة في إعداد وجبة غذائية صحية له. توقف في منتصف الطريق عندما سمع هذه الأنات الغريبة تأتي من جهة غرفة والده. وقتئذ نال منه التردد، وخشي من الذهاب إلى هناك، جمده الخوف في مكانه، وأرهف السمع محاولًا تبين ماهية ما يصدر. سرعان ما غالب فضوله الطفولي رهبته المؤقتة، واستحثه على التحرك.
سار الصغير "أوس" على مهلٍ، واقترب من غرفته، لم يكن الباب مغلقًا بشكلٍ تام، بل كانت هناك فُرجة صغيرة، تسمح بانبعاث الضوء من الداخل، والمصحوب بخيالات غريبة لأطياف غير محددة المعالم تنعكس كالظلال على الأرضية اللامعة. ركز الصغير بصره على هذه الانعكاسات المتحركة بإمعانٍ مشوبٍ بالحيرة، توهم أنها تخيلات مجسدة لأشباح مخيفة، ربما قد تطارده إن رأته واقفًا هكذا كالصنم. عقله لم يفهم بعد طبيعة ما يدور، ورغم ذلك لم يشعر بالارتياح، ولم تكن كذلك لديه الرغبة لاكتشاف حقيقتها لهذا انسحب على الفور دون أن يصدر صوتًا، محاولًا نسيان ما قد يسبب له الأحلام والكوابيس المفزعة ليلًا حين ينام بمفرده.
.................................................
حينما عادت من الخارج، مكثت في غرفة صغيرها تستمع بإنصات لما فعله خلال يومه، استمتعت "تهاني" بنعيم أحضانه، وبحلاوة قبلاته البريئة. كاد كل شيء يسير على ما يرام لولا أن حكى لها في عفوية تامة ما شاهده مصادفةً على مقربة من غرفة والده، وعن اختفاء المربية الأجنبية لمدة استطالها قبل أن تعود إليه بشكل غير مرتب. آنئذ احمر وجهها فجأة، وأحست بانفجارات تحدث داخلها، حيث تفقه ذهنها لما جرى في غيابها مجددًا من أفعال مشينة. ظهرت على قسماتها علامات الاستنكار، والحنق، والاستهجان العظيم، استحقرت فعلته الدنيئة والمتكررة، والأسوأ من ذلك أنها تحدث على مرأى ومسمع من طفلها البريء.
مدفوعة بغضبها المستعر، انطلقت "تهاني" تجاه غرفة مكتبه، والمتواجد بها حاليًا، اقتحمتها دون استئذان وهاجمته باندفاعٍ متعصبٍ:
-إنت إزاي يجي في بالك تعمل القــــذارة دي هنا؟ لأ وقصاد ابنك كمان!!!
نظر لها "مهاب" باستعلاءٍ وبكل برود، وكأن تشنجها الواضح أمامه لا يهمه أو يعنيه. تابعت زوجته هجومها المليء بالإدانة وهي تدنو من مكتبه:
-إيه مش خايف يشوف نجــــاستك ويعرف حقيقتك بدري بدري؟
عندما تمادت في إهانته بهذا الشكل الفج، لم يتحمل "مهاب"، فانتفض واقفًا، وهدر بها بغضبٍ جم:
-إنتي نسيتي نفسك؟!!!
ردت عليه "تهاني" بشيء من الكرامة وعزة النفس، وهذه النظرة المزدرية تطل من عينيها إليه:
-لأ عارفة كويس أنا مين وأصلي إيه...
ثم لوت ثغرها في نفور وهي تستكمل بنفس الوجه المشمئز:
-الدور والباقي على الدكتور المحترم اللي ما بقاش عارف يفرق بين الصح والغلط، واللي المفروض يتعمل وما يتعملش في بيته وقصاد ابنه!!
هذه المرة كانت المشاحنة حامية والصدام بينهما عنيفًا، لم يتوقع "مهاب" أن تتحداه هكذا، بل ويتطاول عليه لسانها بهذا الشكل السافر، فما كان منه إلا أن قال بلا ندمٍ، وبما جعل قلبها ينخلع في موضعه:
-إنتي طــالق!
صدمها ما فاه به، وحملقت فيه بعينين متسعتين بشدة، فأكمل بصوتٍ أقرب للصياح المهدد بعدما تأكد من تأثير قساوة قراره النزق عليها:
-اطلعي برا بيتي، وابني مش هتشوفيه تاني.
لم يمهلها الفرصة لاستيعاب ما جرى في التو، كانت مذهولة كليًا من التطور المخيف الذي دار بينهما في لمح البصر. بنوعٍ من العنف والخشونة، اتجه "مهاب" إليها ليقبض على ذراعها، دفعها منه دفعًا إلى الخارج وهو ينعتها بكلمات نابية يندى لها الجبين، غير مكترثٍ بالجلبة أو الفضيحة الحادثة أمام الخدم الذين تابعوا ما يدور بين الزوجين باندهاشٍ ممزوج بالتحير.
وقف الصغير "أوس" يتأمل المعاملة المهينة التي تتلقاها والدته من قبل أبيه بذهولٍ مرتاع. النظرة المذعورة التي انتفضت في حدقتيه، وأمسكت بها عيني والدته، في هذه اللحظات العصيبة، جعلتها تتراجع عن حدتها، وتتبدل للنقيض كليًا، وكأنها تداركت في التو فداحة غضبها الأهوج. ثقلت خطواتها، وقاومت دفع زوجها له لتتوسله في صوتٍ مال للاختناق:
-لأ يا "مهاب"، ماتعملش معايا كده!
بلا تهاونٍ خاطبها، وقبضته تشتد على عضدها:
-أنا حذرتك، وإنتي عصيتي أوامري
انحنت جاثية على ركبتيها، وتعلقت بكلتا ذراعيها في ساقه تستجديه بحرقةٍ:
-كانت لحظة طيش، أرجوك ارحمني، وبلاش تحرمني من ابني.
غروره الممزوج بنزعة التجبر المستحوذة عليه جعله أشد تصميمًا على تأديبها بقســــاوةٍ، أمسك بها من شعوره، وجرها منه في صورة مهينة ومذلة، حتى شعرت مع سحبه الشـــرس أنه على وشك اقتلاعه من جذوره. وجد الصغير "أوس" نفسه عاجزًا عن منع ما تلاقيه من تعنيف مخيف، نظر مثل البقية في رعب مراقبًا طردها من الجنة الزائفة لأبيه.
ألقاها "مهاب" ككيس قمامة مقزز خارج بيته، قبل أن يصفق الباب في وجهها، متجاهلًا الطرقات المتلاحقة عليه في شكل جنوني من كلتا قبضتيها، ثم التفت ناظرًا إلى الخدم محذرًا إياهم باللغة الإنجليزية:
-غير مسموحٍ بدخولها مطلقًا، أفهمتم؟!!
لم يعلقوا بشيءٍ سوى بإبداء إيماءة طائعة لأمره الصارم، ليقوم بعدها برفع بصره تجاه ابنه، وأمره هو الآخر بغير تساهلٍ:
-روح على أوضتك يا "أوس"!
نادى الصغير والدته في صوت أقرب للبكاء:
-ماما، أنا عاوزها!
أنذره بغلظةٍ وهو يشير إليه بسبابته:
-اسمع الكلام وارجع أوضتك وماتخرجش منها!
عصاه في عنادٍ طفولي، وظل ينادي باسمها، فاضطر لتوجيه أمره للمربية:
-اذهبي به إلى غرفته!
في الحال استجابت له، وهرولت نحو الصغير لتحمله إلى غرفته وسط تذمراته الغاضبة وركلاته القاسية من قدميه لجسدها، لعل وعسى ينجح في الإفلات منها.
لم تتوقف "تهاني" عن الطرق والصراخ ببكاء حارق ليفتح لها الباب ويردها إلى عصمته، ندمت أشد الندم لتسرعها الأرعن، آه لو صمتت، وصبرت، وكبتت في نفسها ما عرفته، لما آلت بها الأمور إلى هذه النهاية المأساوية المحطمة لها؛ امرأة مطلقة، مطرودة في الشارع، ومحرومة من صغيرها!
تجاهلها "مهاب" تمامًا، وأرسل للأمن ليقوم بطردها وإبعادها من محيط مسكنه، فقد أصر هذه المرة على ألا يكون متساهلًا في شأنها، وصمم بعدائية متصاعدة على أن يحيل ما ظنت أنها حياتها الهانئة إلى جحيم مستعر، لتتعلم الدرس جيدًا، فمحاسبته على سلوكياته؛ وإن كانت غير سوية، ليست بشيءٍ يُغتفر ............................................ !!!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
(طوق الأشواك)
بعدما هاتفته لتلتقي به بصورة عاجلة في هذا المكان العام، وتحديدًا ذلك المطعم الراقي، جلست متحفزة، متلفة الأعصاب، لم تخجل، ولم تكف عن ذرف الدموع علنًا وهي تسرد لـ "ممدوح" بإيجازٍ ما حدث من مشادة كلامية تطورت إلى تطليقها وطردها بشكلٍ مهين من بيتها، ليترتب على ذلك حرمانها من صغيرها الوحيد. ارتفع صوت نواحها ليلفت أكثر الأنظار إليهما وهي تتوسله بحرقةٍ:
-اتصرف يا "ممدوح"، أرجوك أعمل حاجة.
نظر حوله بتوجسٍ، قبل أن يطلب منها بصوتٍ جاد؛ لكنه مهتم:
-طب اهدي بس، الناس بتتفرج علينا.
صرخت "تهاني" في تحفزٍ، وقد بدت منهارة الأعصاب تمامًا:
-متقوليش أهدى أو أسكت، مش فارق معايا حد هنا خالص، المهم عندي ابني...
انسالت دموعها أكثر، وراحت تتابع بصعوبةٍ، وبصوتٍ شبه متقطع:
-"مهاب" استحالة يردني تاني، أنا ممكن أروح فيها لو اتحرمت من "أوس".
تطلع إليها مدعيًا إشفاقه عليها؛ لكنه كان متوقعًا مثل تلك النهاية في يومٍ ما، أصغى إليها حين استمرت تستفيض بألمٍ متعاظم:
-أنا استحملت فوق طاقة البشر حاجات كتير عشان ابني يفضل في حضني.
بالطبع كان يصل إليه ما يدور بين الزوجين أثناء لقائه برفيقه حينما يتشاركان المجون مع الفتيات العابثات، فكان "مهاب" يتفاخر بأفعاله غير السوية معها وتباريه في تهشيم روحها، وبعثرة كرامتها بطرق مختلفة، وكأن في ذلك تميزًا فريدًا؛ لكنه جعله يتمنى في نفسه أن يتمكن من اصطياد هذه الغنيمة ليُريها الفارق بينهما في منح طقوس الحب الجامحة. أخفى حقده، وغيرته، وما يحمله من تفكير سيء وراء هذا القناع الهادئ، ليسحب من جيب سترته الأمامي منديله القماشي، ثم مده به يده تجاهها، وخاطبها في شيءٍ من الثقة:
-متقلقيش، أنا ليا لي طريقتي معاه.
تناولت منه المنديل، وكفكفت به عبراتها المنسكبة وهي تسأله:
-هتعمل إيه؟
لجوئها إليه، وقلة حيلتها، تعزز بداخله القليل من القوة، فاستغل الفرصة، ورد باسمًا بغرورٍ محسوس في نبرته:
-كل خير...
ثم ادعى الاهتمام المبالغ فيه بشأنها عندما لاحقها بجملته التالية:
-المهم قوليلي دلوقتي هتباتي فين؟ عاوز أطمن عليكي.
تنفست بعمقٍ، وطردت الهواء من رئتيها دفعة واحدة، لتجيبه بعدها:
-أنا كلمت واحدة زميلتي هبات عندها كام يوم لحد ما أشوف هتسرى الأمور على إيه.
اقترح عليها بخبثٍ:
-لو ينفع أسيبلك شقتي تباتي فيها، وآ...
رفضت مقترحه بشكلٍ قاطع:
-لأ طبعًا، إنت بتقول إيه؟ استحالة أوافق بده.
برر لها مقصده بنفس الابتسامة الليئمة التي يخفي خلفها شيطانه الماجن:
-أنا حابب أشوفك بخير، ومش متبهدلة.
وضعت "تهاني" يدها على قلبها، مستشعرة نبضاته الموجوعة، وأخذت تدعو في عجزٍ:
-منك لله يا "مهاب"، هتعمل فيا أكتر من كده إيه؟
تجرأ "ممدوح" ووضع راحة كفه على ظهرها ليمسد عليه في رفقٍ، قبل أن يكرر طلبه عليها:
-من فضلك اهدي، أنا وعدتك إني هتصرف.
لم تبدُ منتبهة بقدرٍ كافٍ لتمانع ما يفعله، بل رجته باستجداءٍ أكبر:
-عشان خاطري روحله واتكلم معاه.
هز رأسه قائلًا بتأكيد:
-حاضر.. ماتشليش هم ...
ثم سحب ذراعه ليمسك بكأس العصير الموضوع أمامها، وأصر عليها وهو يبتسم ابتسامة صغيرة:
-اشربي بس العصير ده وروقي دمك.
....................................................
صارت الأيام متشابهة عليه، لا جديد فيها، ولا مكان متاح له ليعمل فيه، يئس من ضيق ذات اليد، ومن انعدام مصادر الدخل، نضب ما في جيبه، ولم يعد لديه ما ينفق به على بيته. سار متخاذل الأقدام، بالكاد يحبس دموعه، إلى أن بلغ منطقته الشعبية، رفع "عوض" بصره للأعلى فوجد المسجد أمامه، التجأ إليه، فخلع نعليه، وولج إلى الداخل قاصدًا الوضوء أولًا ليتطهر، كان محيط المسجد خاليًا، لا يتواجد به أحد، فمشى ببطءٍ إلى أحد الأركان، وافترش الأرضية جالسًا على ركبتيه، ورافعًا كفيه للسماء. انهمرت عبراته بتتابع وهو يشكو إلى المولى ما أصبحت عليه أحواله:
-يا رب كل أبواب الدنيا اتقفلت في وشي، ومافيش غير بابك اللي دايمًا مفتوح ليا.
نكس رأسه في خزي قبل أن يدفن وجهه بين راحتيه متابعًا شكواه:
-أنا مبقتش عارف أعمل إيه.
استمرت عيناه تبكيان، وقلبه يتألم وهو لا يزال يبوح بما يطبق على صدره:
-محدش راضي يشغلني، وأنا قليل الحيلة، مابفهمش في حاجات كتير.
عاد ليرفع وجهه للأعلى مناديًا في رجاءٍ وتضرع:
-يــــا رب أنا ماليش غيرك، وإنت الكريم الوهاب..
استفاض في مناجاته قائلًا:
-انظر لي بعين الرأفة يا رحمن، واكرمني بفضلك يا مُنعم!
ثم صمت عن الكلام وظل يسبح بحمد ربه، إلى أن جاء من خلفه شيخ الجامع، رجل خمسيني العمر، نحيف، له لحية رمادية اللون، ووجه هادئ الملامح. جلس أمام "عوض"، ووضع يده في حنو على كتفه متسائلًا بوجه بشوش وباسم:
-مالك؟ مهموم ليه؟
تصنع الابتسام وهو يرد بعد تنهيدة طويلة مليئة بالأسى:
-الحمدلله يا شيخ "عبد الستار"، أنا راضي بنصيبي، وباللي ربنا قسمه ليا.
ألح عليه في تصميم:
-قول ما تكسفش.
أطلق العنان لما عبأ صدره من همومٍ وأثقال، ولم يقاطعه الشيخ، تركه حتى فرغ تمامًا، ليخبره متبسمًا، وكأنه يأتيه بالبشارة الطيبة:
-طب أنا عندي ليك حل، بس مش عارف إن كان هيعجبك ولا لأ.
خفق قلبه وهو يسأله في لهفة ظاهرة على نظراته:
-خير يا شيخنا؟
ظل محافظًا على بسمته الهادئة وهو يوضح بهدوءٍ:
-احنا دايمًا متعودين نعمل ليالي محمدية وإحياء للذكر في أماكن كتير، وبنحتاج حد يساعدنا في نقل الحاجة وتوزيع الطلبات.
تحير فيما يريده منه، وقرأ الشيخ هذه الحيرة في عينيه، لذا سأله مباشرة:
-فإيه رأيك تبقى معانا؟
وكأن دعوته الصادقة قد استجيبت من فوق سبع سماوات، فهتف متسائلًا في غير تصديقٍ بعدما انفرجت أساريره:
-إنت بتتكلم جد يا شيخنا؟
أكد عليه بإيماءة إيجابية من رأسه:
-طبعًا، هي شغلانة بسيطة، بس باب رزق يجيلك منه أي حاجة.
تهلل على الأخير، وبدا مرحبًا للغاية بهذه الوظيفة المتواضعة عندما قال:
-طالما بالحلال فأنا راضي.
ثم رفع بصره وكفيه للسماء شاكرًا رب العزة على فيض نعمه:
-اللهم لك الحمد والشكر يا رب، ياما إنت كريم يا رب.
استحسن الشيخ ما يُظهره من رضا، وربت على كتفه في محبةٍ، فأسرع "عوض" بإمساك يده يريد تقبيلها وهو يقول في امتنانٍ:
-إيدك يا شيخنا.
سحبها في التو معاتبًا إياه بنظرة صغيرة:
-استغفر الله، احنا كلنا عبيد إحسانه جل وعلا.
وكأن روحه الملتاعة والمعذبة قد وجدت راحتها أخيرًا بعد أيام من الشقاء والحزن، لم يتوقف "عوض" عن ترديد عبارات الشكر والتضرع للمولى حتى خرج من المسجد، يريدُ أن يطلع زوجته على الأنباء السارة.
..........................................
دون ميعادٍ مسبق، التقى به في غرفة مكتبه بمسكنه، ليشاركه تناول المشروب، ويدعي كذلك تباهيه بما اعتبره إنجازًا جديدًا في تطور علاقته بـ "تهاني". ملأ "ممدوح" كأسه بالمزيد من هذا النوع الفاخر من الخمر، ووضع مكعبات الثلج فيه، ليحمله مع الآخر الذي أعده لرفيقه ممتدحًا تصرفه وهو يقترب من الأريكة ليجاوره في جلسته المسترخية:
-إنت جبار يا "مهاب"، حقيقي ماشوفتش في حياتي حد زيك.
وضع الأخير ساقه فوق الأخرى بتفاخرٍ، وعقب بإيجازٍ، وهذه النظرة المغترة تلمع في حدقتيه:
-ولسه!
تجرع قدرًا كبيرًا من الخمر، بلعه دفعة واحدة، وواصل الكلام:
-واحدة غيرها كان زمانها خلصت على نفسها عشان تترحم منك ومن اللي بتعمله فيها.
ضحك في زهوٍ، فأكمل "ممدوح" على نفس النهج المادح:
-دايمًا بتبهرني بأسلوبك.
أشار له "مهاب" بكأسه الذي يقبض عليه بيده، وقال:
-اتعلم من الأستاذ.
كان "ممدوح" على وشك النطق بشيءٍ، لكن الطرقة الصغيرة على الباب جعلته يتوقف، وينظر إلى حيث أطلت المربية الأجنبية، أومأت برأسها في خفةٍ، وأبدت اعتذارها اللبق قائلة:
-عذرًا للمقاطعة سيدي...
سمح لها "مهاب" بالكلام، فأوضحت بقليلٍ من الضيق:
-لكن "أوس" يرفض تناول طعامه، ولا يكف عن مناداة والدته.
التفت "ممدوح" برأسه لينظر إلى رفيقه متفرسًا بتدقيق في ملامحه، رأى كيف غامت تعبيراته، وكساها الوجوم، أخفض "مهاب" كأسه الفارغ وأمرها:
-استدعيه إلى هنا.
ردت في طاعة قبل أن تغادر مسرعة لتحضره:
-كما تأمر سيدي.
في نوعٍ من الفضول تساءل "ممدوح" بخبثٍ:
-هتعمل معاه إيه؟
قبل أن يفكر في إجابته اقترح عليه دون تفكيرٍ:
-أنا من رأيي تألف أي حكاية تضحك بيه عليها وتريح دماغك، ما إنت مش هتخلص من زن العيال.
لم يعلق عليه "مهاب" بكلمة، فاستمر يضيف بنزقٍ:
-أو الأحسن إنك تبعته مدرسة داخلي.
نظر له رفيقه بجمودٍ قبل أن يحذره بصوت غير متساهل:
-موضوعه مايخصكش.
استشعر تحفزه من صوته، فتراجع ضاحكًا ضحكة مكشوفة، ليعلل بعدها بسخافةٍ:
-أنا بفكر معاك بصوت عالي.
تحول بناظريه تجاه الباب عندما اقتحم الصغير "أوس" الغرفة ركضًا، توقف أمام أبيه متسائلًا دون تمهيدٍ:
-فين ماما؟
اعتدل "مهاب" في جلسته المسترخية، وأنزل ساقه لينظر إليه من مستواه قبل أن يضع قبضتيه على كتفيه مُجيبًا إياه:
-مسافرة.
في عنادٍ طفولي رفض تصديق كذبته هاتفًا بصوت منفعل:
-لأ أنا عاوزها، خليها ترجع.
عامله بهدوءٍ تام، وقال:
-بعدين يا "أوس"، أنا عاوزك تسمع الكلام وتاكل.
رفض الإصغاء إليه كليًا، أو حتى الاقتناع بما فاه به، وركل بقدمه الأرض في عصبية، مواصلًا الصراخ:
-لأ، إنت مشيتها من هنا، أنا عاوزها.
ضجر "ممدوح" مما اعتبره تدللًا زجًا، وصاح فيه بصوتٍ أجش:
-كفاية صداع يا ابني، هي مش راجعة تاني، حط ده في دماغك.
حينئذ تحولت نظرات "أوس" إليه وحدجه بكراهيةٍ صريحة، قبل أن يتدخل والده لينهره عن التدخل فيما لا يعنيه، وخاصة شأنه مع ابنه بقوله الصارم:
-"ممدوح"! ماتدخلش!
تلبك من إحراجه بهذا الشكل السافر، وأمام من؟ ابنه الذي لا يتجاوز طوله منتصف خصره، رسم ابتسامة متكلفة على ثغره مرددًا بتبريرٍ:
-أنا حبيت أساعد.
كرر عليه رفيقه بتصميمٍ شديد اللهجة:
-دي حاجة تخصني مع ابني!
نهض من جواره بوجه منقلب، وهتف بعبوسٍ مصحوب بنظرة نارية مسلطة على "أوس" تحديدًا:
-اللي تشوفه.
النظرة الجادة في عيني "مهاب"، مع نبرته الهادئة، كانتا وسيلته لإقناع صغيره بالتخلي عن عناده الطفولي، فاستطرد على مهلٍ:
-بص يا حبيبي، يومين وماما هترجع تاني، بس عشانها غلطت وزعلت بابا جامد، فاحنا مخاصمينها كام يوم، فما ينفعش إنت كمان تزعلني! عاوزك تسمع الكلام وتاكل، وأنا بنفسي هجيبها لحد عندك، اتفقنا؟
بعد لحظة من الصمت المترقب، اكتفى "أوس" بهز رأسه بالموافقة، فاستحسن والده ردة فعله، وقال في مدحٍ:
-برا