رواية فوق جبال الهوان الفصل الحادي عشر 11 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الحادي عشر 11 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل الحادي عشر 11 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل الحادي عشر 11 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل الحادي عشر 11
رواية فوق جبال الهوان الفصل الحادي عشر 11
يا له من تجبر وتبجح لا يمكن تخيله، فهو يحدث أمام قسم الشرطة، وعلى بُعد عدة أمتار من رجال حفظ الأمن والقانون! لقد صدر الأمر الصارم باختطاف ثلاثتهم، وكأنه لا يوجد أي قانون رادع يسري عليهم. شهقت “دليلة” فزعًا عندما اقترب منها أصحاب الأجساد الضخمة، واحتمت بوالدها، الذي ضمها على الفور تحت ذراعه، وألصقها بصدره ليحميها من بطش هؤلاء العتاة، وراح يصيح فيهم هادرًا:
-محدش يلمس بنتي!
تكلم أحدهم من تلقاء نفسه يحذره:
-يبقى تيجي معانا بالذوق.
رد عليه مُكرهًا:
-طيب.
كان مرغمًا على الذهاب بصحبة ابنته إلى الحافلة الصغيرة، ليجنبها التعرض للمهانة أو الخطر. حاول “كيشو” معالجة الموقف بتوسله غير المُجدي:
-يا ريس “عباس”، إنت فاهم الموضوع غلط، دي مكانتش تقصد، ولو تعرف إن “سِنجة” تبعكم مكانتش جت واشتكت.
دون أن ينظر إليه خاطبه في استعلاءٍ:
-مكانتش أول مرة ليها.
استغرب للغاية من جملته الغامضة، وسأله:
-تقصد إيه بالظبط؟
أخبره على نفس النهج الغريب الباعث على الارتياب:
-مش أنا اللي بقرر.
سأله بقلبٍ يدق في خوفٍ:
-يعني إيه؟
لحظتها استدار برأسه نصف استدارة لينظر إليه، قائلًا بابتسامة خبيثة:
-الكلام مع “الكوبارة” دلوقت.
جحظت عينا “كيشو” في محجريهما، وأخذ يولول في حسرةٍ:
-يا سنة ســـودة ومالهاش ملامح!
انقبض قلب “فهيم” بارتعابٍ وهو يتساءل بعد سماعه لجملته تلك:
-هو في إيه؟
أكد مخاوفه المتزايدة حينما أخبره بتعبيرٍ مذعورٍ احتل كافة قسماته:
-وقعنا في إيد اللي ما بيرحمش حد!
رغمًا عنه ارتعدت فرائصه، ونظر إلى ابنته بخوفٍ متعاظم، فما الذي يمكن أن يحدث لهم، وتحديدًا هي؟!
………………………………..
لم تتوقف عن معاودة الاتصال بكليهما، وما عزز شعورها بالقلق والتخبط هو تجاهلهما التام لمكالماتها المتتالية. دارت الهواجس في رأس “عيشة”، وأخذت تدور حول نفسها في صالة المنزل، وتتجه للشرفة لتلقي نظرة عابرة على الشارع قبل أن تردد مع نفسها بغير صبرٍ:
-البت ولا أبوها ما بيردوش خالص!
خشيت من تأزم الوضع وتعقده، واستمرت في التضرع للمولى:
-استر يا رب، عديها على خير.
دار في خلدها مهاتفة ابنتها الكبرى، إذ ربما ذهب كلاهما إليها؛ لكنها أعادت التفكير في الأمر، فلا داعي لإصابتها بالتوتر. عجزت عن البقاء ساكنة في موضعها، وواصلت التعبير عن قلقها:
-قلبي متوغوش ومش مرتاح.
حينما قرع الجرس، انتفضت ركضًا ناحيته وهي تهتف عاليًا:
-أيوه يا اللي على الباب.
اعتقدت أنهما قد أنهيا ما ذهبا لأجله؛ لكنها تفاجأت بوجود جارتها السمجة عند عتبة الباب، انقلبت سحنتها، وهمهمت بتجهمٍ:
-ست “إعتدال”.
بوقاحتها المعتادة، اقتحمت الصالة دون استئذانٍ، وأردفت قائلة في ودية زائدة عن الحد:
-حبيبتي يا “عيشة”، لاقيت نفسي فاضية، قولت أجي أخد بحسك شوية.
رغمًا عنها اضطرت لاستقبالها مرددة باقتضابٍ:
-تسلمي.
نظرت إليها “إعتدال” بتفرسٍ، وسألتها في فضولٍ:
-إنتي كنتي مستنية حد ولا إيه؟
أجابتها بعبوسٍ لا يمكن إخفائه:
-“دليلة” وأبوها.
في شيءٍ من التحقيق علقت عليها جارتها:
-أه صحيح أنا شوفتها نازلة معاه من شوية، وكانوا مستعجلين، هو حصل حاجة لا سمح الله؟
اندهشت من ملاحقتها المستمرة لأخبار عائلتها، وتدلى فكها للأسفل مرددة في نبرة ذاهلة:
-هـه!
بطريقتها الخبيثة والماكرة ألحت عليها “إعتدال”، لعلها تصل إلى غرضها وتشبع فضولها النهم لمعرفة ما تخفيه عنها:
-قوليلي يمكن أقدر أساعدك.
تهربت من منحها ما تريد معرفته بادعائها الزائف:
-لأ مافيش، ناقصها حاجات في الكلية فأبوها بيجيبهالها.
لم تبدُ مقتنعة بما تقول، ومع ذلك ردت راسمة على ثغرها ابتسامة صفراء سخيفة:
-وماله، ربنا يخليه ليكم.
كم ودَّت “عيشة” لو استطاعت طرد هذه المتطفلة من بيتها؛ لكنها اتخذتها وسيلة لإلهاء عقلها عن التفكير في أسباب تأخر زوجها وابنتهما.
……………………………
بشكلٍ غريزي، التصقت “دليلة” بأبيها حينما أُجبر الثلاثة على ركوب الحافلة الصغيرة، حاولت أن تختطف نظرات سريعة عبر النافذة لتنظر إلى الطريق المؤدي إلى هذا المكان القفر المسمى بالتَبَّة العالية. مالت عليه، وهمست له في أذنه بصوتٍ شبه مرتجف ينم عن مشاعر الذعر المتفشية في داخلها:
-بابا، هو احنا هيحصلنا إيه؟
رغم خوفه المعكوس على تقاسيمه المجعدة، إلا أنه حاول بث الطمأنينة إلى نفسها، فأخبرها بصوتٍ خفيض، وهو يربت على كف يدها:
-ماتقلقيش يا حبيبتي، إن شاء الله كل حاجة هتتحل.
عبرت له عن شعورها دون مواراةٍ:
-أنا خايفة أوي.
مجددًا بذل جهده لتخفيف ما ينتابها من أحاسيس طبيعية بقوله المؤكد:
-متخافيش يا بنتي، محدش هيقرب منك.
قطع وعدًا على نفسه، بألا يسمح لأحدهم، مهما كان يملك من قوة أو سلطان بفعل ما قد يضر بابنته، وإن عنى بذلك التضحية بحياته من أجل صغيرته المدللــة.
مضت عدة دقائق، وتوقفت الحافلة بداخل منطقة تبدو للوهلة الأولى مخيفة للغاية لمن هو غريب عنها، انتصبت شعيرات جلد “دليلة”، وتشبثت أكثر بذراع أبيها، الذي حاول حمايتها، وضمها إلى صدره طوال سيرهما إلى الباحة الرئيسية المواجهة لبيتٍ يبدو وكأنه منزل خاص بحاكمها الأوحد.
بالطبع تعلقت الأنظار الفضولية والمتسائلة بهم، خاصة كلما عرجوا على جماعة مجتمعة، فكانوا يهللون بالترحيب بـ “عباس” في توقيرٍ قبل أن يميلوا على بعضهم البعض ليتهامسوا عنهم.
قلة قليلة فقط مضت تتبعهم لتعرف ما الذي يدور معهم.
أُجبر الثلاثة على الوقوف أمام باب المنزل بعدما رأوا إشارة يد “عباس” المرفوعة إليهم في الهواء قبل أن يستدير ناحيتهم ليهتف في استمتاعٍ وتشفٍ:
-جه وقت الحساب.
هوى قلب “دليلة” في قدميها، وكان حال والدها لا يختلف كثيرًا عنها، بالرغم من بذله الجهد ليبدو ثابتًا وهادئًا، إلا أن فرائصه كانت ترتعد، فمن هم على وشك مواجهتهم لا يقبلون بالغفران كخيارٍ.
…………………………..
في غرفة تشبه حجرة المكتب بسبب احتوائها على مكتبٍ ضخم، من خلفه رفوف وضعت عليها عشرات الكتب والمجلدات، بجانب عدة أرائك جلدية، وتبدو من موقعها معزولة عمن حولها من غرف؛ لكنها كانت الاختيار الأمثل للشقيقين لجعلها حجرة للنقاش والترتيب لمخططاتهما بعيدًا عن تلصص أو تربص المقربين قبل الغرباء بهما.
انفرد “كرم” بشقيقه الأصغر، وسأله باهتمامٍ بعدما أطفأ قداحته التي أشعل بها طرف سيجارته:
-في إيه يا “زهير”؟
جعد أنفه قليلًا، قبل أن يلمس طرفه بإصبعه، ليستطرد موضحًا بنبرة لا تزال غامضة:
-حاجة خدت بالي منها، معرفش إن كنت تعرف حاجة عنها ولا لأ.
رد عليه في اهتمامٍ، ونظراته بالكامل مثبتة عليه:
-رسيني على الحوار.
في نبرة جمعت بين الجد والهزل أجابه:
-الواد “عصفورة” شكله عصفورة.
سكت قليلًا، وكأنه يفكر في مغزى عبارته، قبل أن يأتي رده محملًا بالضغينة:
-أنا بقالي مدة مش مرتاحله.
أضـاف “زهير” في نبرة جادة وهو يشير بإصبعه:
-سهل يتكشف، ونعرف بينقل أخبارنا لمين.
هز رأسه بإيماءة موافقة، فتابع الشقيق الأصغر كلامه إليه بهدوءٍ:
-احنا نرميله معلومة، ونشوف، لو وصلت يبقى هو اللي حكم على نفسه بالقاضية.
لم يجادله على الإطلاق، واستحسن اقتراحه متمتمًا:
-ماشي كلامك.
قطع خلوتهما الجادة أحد أتباعهم، فدق على الباب، قبل أن يلج إلى الداخل مستطردًا بصوتٍ شبه لاهث:
-يا “كوبارتنا”، الريس “عباس” جه، ومعاه صُحبة.
تساءل “كرم” بحاجبين معقودين:
-مين دول؟
أجابه بعبارات مفهومة له:
-اللي بلغوا الدبابير عن “سِنجة”.
فرك طرف ذقنه براحة يده في بطءٍ، وأصدر أمره الحاسم:
-خليه يتعامل، وأنا شوية وطالع أشوف الحوار.
هز رأسه في طاعةٍ قبل أن يعقب:
-تمام يا كبيرنا.
عاود بعدها الحديث إلى شقيقه، فخاطبه باهتمامٍ وهو يظهر هاتفه المحمول له ليطلعه على شيءٍ بعينه:
-بص دلوقت احنا عندنا مصلحة مع آ….
انشغل كلاهما بالحديث الجاد عن إتمام مسائل أخرى أكثر أهمية من متابعة ذلك الأمر التافه، والذي يمكن لغيره إكماله وإنهائه دون الحاجة لمشورته.
……………………………..
فيما بعد، راقبت الأعين الجامعة ما بين نظرات فضولية، ونظرات مرتاعة ذلك التابع حينما عاد إلى موضع اجتماع “عباس” بالثلاثة الدخلاء، وقف خلفه، وهمس له بكلماتٍ مقتضبة في أذنه:
-كبيرنا بيقولك اتعامل، وهو هيخلص اللي وراه ويجيلك.
اتسعت ابتسامته اللئيمة مرددًا وهو يفرك كفيه معًا:
-زي الفل.
قرأ “فهيم” بحكم خبرته الحياتية الكبيرة ما ارتسم من علامات لا تبشر بخيرٍ على وجه ذلك اللئيم، فبادر بمحاولة يائسة منه لحل المسألة دون أن تصل للمزيد من التعقيدات:
-يا أساتذة احنا آ…
قاطعه “عباس” قبل أن يتم جملته ساخرًا منه بطريقة هازئة ومغيظة:
-أساتذة .. هــأو، هو إنت فاكرينا في مدرسة يا عم الحاج؟!
تحرج من طريقة إهانته الواضحة، وقال وهو يحاول الحفاظ على ماء وجهه:
-ما أنا مش عارف أناديكم بإيه.
في شيءٍ من الزهو أخبره وهو يضرب على صدره بتفاخرٍ:
-أنا الريس “عباس، وإنت هنا في منطقة الكوبارة.
هز رأسه مرددًا:
-ماشي يا ريس.
من جديد تكلم “عباس” بملامحه الممتعضة:
-وشوف بقى علشان ما نضيعش وقتنا…
اتجه بناظريه نحو “دليلة”، وأشار إليها بإصبعه في لهجةٍ مهددة:
-بتك غلطت، ولازمًا تتحاسب على ده.
غريزيًا اندفع “فهيم” خطوة للأمام، ليقف أمام ابنته، مشكلًا بجسده حائلًا بينها وبينه وهو يكلمه في نبرة عقلانية، لعله يستوعب سوء الفهم:
-هي مكانتش تعرف إن الحرامي تبعكم.
لوى ثغره معقبًا بنبرة متحاملة ضدها:
-موضوع “سِنجة” كده كده هيتحل، أنا بتكلم على إنها موالسة مع الحكومة علينا.
قطب جبينه مرددًا:
-مش فاهم.
أوضح له مباشرةً:
-بتبلغ عننا أول بأول.
لحظتها فقط خرجت “دليلة” عن دور المشاهد الصامت المذعور منذ بداية سخونة الأحداث، لتقول في نبرة هجومية، مدافعة عن نفسها بشجاعةٍ لا تعرف من أين جاءتها:
-وده حصل امتى؟ وأنا أعرفكم أصلًا منين علشان أبلغ عنكم؟!!
التف والدها برأسه نحوها يحذرها:
-خلاص يا “دليلة” اسكتي.
مرة ثانية تكلم “عباس” موجهًا حديثه إليها على وجه الخصوص:
-رجالتنا عرفوكي يا حلوة أول ما دخلتي القسم برجليكي، ما هو اللي زيك بيتعلم عليه على طول.
اضطرت للرد والزود عن نفسها باستبسالٍ غريب:
-وأنا مالي بيكم؟
ما لبث أن تحولت ملامحها للضيق الشديد وهي تتم جملتها بنزقٍ:
-إنتو عاملين الحوار ده أونطة علينا!
وقتئذ غامت تعبيرات وجه “كيشو”، وراح يضع يده على كتف “فهيم” ليضغط عليه قائلًا في نبرة تحذيرية:
-لِم بنتك يا عم “فهيم”، كده هي بتولعها مش بتهديها.
وافقه الرأي في اندفاعها الأهوج، وصاح بها يأمرها:
-اسكتي بقى يا “دليلة”، هو أنا مش مالي عينك؟
اعتذرت منه في التو مبررة:
-أسفة يا بابا، بس هو بيفتري عليا ظلم.
مرة أخرى تكلم “فهيم” ساعيًا لتلطيف الأجواء:
-يا ريس “عباس”، أكيد في سوء فهم في الموضوع، ده احنا لسه جايين المنطقة قريب، مالناش دعوة بحد، وفي حالنا.
رد بسخطٍ، وعلى سحنته هذه التكشيرة المنزعجة:
-كل ده ما يخشش دماغي بمليم.
تكلم “كيشو” من فوره:
-طب قولنا يا ريس “عباس” نراضيكم إزاي؟
من جديد كرر “فهيم” اعتذاره:
-أنا محقوقلك يا ريس، وشوف الترضية اللي تعجبك وأنا موافق.
أتته الفرصة على طبق من ذهب لفرض سطوته، فقال بكلماتٍ لا ترد:
-بص يا عم الحاج، دية الليلة دي كلها علشان تخلص خمسيناية، والنهاردة.
تطلع إليه بعدم فهمٍ، وكأنه أعطاه قطعة من الأحجية لحلها، وليست عبارات واضحة يسهل عليه استيعاب مغزاها، فردد بشكلٍ تلقائي، كأنما يستعلم عما نما إلى مسامعه:
-خمسيناية إيه؟
تولى “كيشو” دفة الكلام، فأخبره مباشرة:
-خمسين ألف يا عم “فهيم”!
تدلى فكه للأسفل صائحًا في ذهول مستنكر:
-إيه؟
كانت “دليلة” مثله على نفس الدرجة من الاستنكار؛ لكن غيظها من تعنته، ومحاولته إذلالهم جعلتها في أوج عصبيتها، فلم تتمكن من ضبط انفعالاتها أو السيطرة على شعور الحنق الذي تفشى فيها، لتصيح بصوتٍ مرتفع محتجة على إجحافه البين:
-ليه إن شاءالله؟ دي بجاحة وسرقة عيني عينك!
بالكاد جاهد “عباس” لمنع نفسه من التطاول عليها، فأطلق تحذيره الأخير لها:
-لولا إنك حُرمة وأبوكي واقف قصادي يتذللي كنت عرفتك مقامك.
استفزتها طريقته، فكزت على أسنانها في حنقٍ، وهمهمت بزمجرةٍ غاضبة:
-إنت آ…
في التو تدخل والدها ليمنعها من مواصلة الهجوم اللفظي عليه، وافتعال المزيد من المشاكل بتوسله المستتر:
-بالله عليكي تسكتي.
رأت نظرات الضيق تتجلى في عينيه، فقالت ممتثلة لأمره رغم غليل نفسها المحتقنة:
-حاضر.
كتفت ساعديها أمام صدرها، ونظرت إلى أبيها الذي عاد ليتفاوض مع “عباس” بشيءٍ من الرجاء:
-يا ابني المبلغ كبير عليا، وأنا راجل ظروفي على أدي، صعب أدبر حاجة زي كده في وقت ساعته.
في قساوة واضحة أخبره:
-مالناش فيه.
تدخل “كيشو” مقترحًا بحذر:
-طب ينفع يا ريس “عباس”، عم “فهيم” يستسمح “الكوبارة” يقسطله المبلغ، ده بردك راجل كبير وعلى المعاش، وفاتح بيت، وعنده ولايا.
لئلا يبدو منزوع الرحمة، قال على مضضٍ وهو يلوح بكف يده في الهواء:
-خلاص كلمه، وهو صاحب الناهية فيه.
استحسن قبوله بالأمر، فيما دمدمت “دليلة” بغيظٍ من بين أسنانها، وبهمسٍ:
-حسبي الله ونعم الوكيل.
وجه “عباس” أمره لأحد أتباعه بعدما فرقع بأصابعه:
-روح ياض شوف “الكوبارة” خلص اللي وراه، ولا لسه مشغول، واديله خبر باللي حاصل.
انصاع له مرددًا قبل أن يهرول تجاه المنزل ليلج ويختفي بداخله:
-أوامرك يا ريسنا.
………………………………
انتهى “زهير” من مراجعة الأعمال العالقة والتي دون ملاحظات عنها في هاتفه المحمول، ليدسه في جيبه متطلعًا إلى شقيقه الأكبر الذي راح يقول بحبورٍ وهو يرمقه بهذه النظرة المتفاخرة:
-اتفقنا.
شدد عليه “زهير” بغير تساهل:
-ابعت اللي يخلص، ويحط عليهم.
ربت “كرم” على كتف شقيقه متمتمًا بشيءٍ من التشجيع:
-زي الفل.
دق التابع الباب مرة ثانية، وولج إلى داخل الغرفة هاتفًا في صوت لاهث:
-يا كبيرنا، الراجل اللي جاي في حوار “سِنجة” عايز يتكلم معاك.
تساءل “كرم” مستفهمًا، وقد رفع حاجبه للأعلى:
-هو مش “عباس” بيخلص معاه؟
أخبره بجديةٍ:
-ما الريس “عباس” باعتني أبلغك باللي عمله..
ثم سرد له بإيجازٍ عما جرى، وإلزامه بدفع تعويضًا ماديًا تُقدر قيمته بخمسين ألف جنيهًا، فبدا “كرم” غير معترض على قراره، وعقب بتجهمٍ ساخط:
-ومطلوب مني إيه؟ أديله إعفا من المبلغ؟
علق التابع بلا نقاشٍ:
-اللي تؤمر بيه يا كبيرنا هيتنفذ.
في حين تنهد “زهير” بصوتٍ مسموع نسبيًا قبل أن يقترح:
-شوفه عايز إيه الراجل ده، جايز معذور، وسهلها عليه، طالما جاي ندمان.
لم يرد حديثه، وقال بلا ابتسامٍ:
-ماشي كلامك يا “زهير”.
تحرك شقيقه الأصغر تجاه باب الغرفة متابعًا كلامه إليه بعدما أخرج هاتفه من جيبه:
-وأنا هكلم رجالتنا تظبط حوارنا التاني.
هتف من ورائه في استحسانٍ:
-الله ينور عليك…
ليقوم بتوجيه باقي كلامه للتابع في لهجةٍ آمرة:
-وإنت ياض ناديلي على الراجل ده هنا.
-ماشي يا كبيرنا.
قالها التابع مومئًا برأسه قبل أن يسرع في خطاه لينفذ أمره الصارم في الحال.
…………………………………..
بنفس الخطوات الراكضة عاد التابع إلى رب عمله ليخبره بالمستجد، فابتسم “عباس” معقبًا وهو يثبت نظرته القوية على “فهيم”:
-حظك حلو، الكبير بنفسه وافق يقابلك.
هلل “كيشو” في سرورٍ، وكأن الأمل قد عاد ليلوح في الأفق:
-يا فرج الله!
ثم مال على “فهيم” ليهمس له في أذنه:
-أهوو كده في أمل إنك تعرف تدفع المبلغ على أجزاء.
رد عليه بغير تعبيرٍ:
-ربنا ييسر…
سرعان ما أصبحت ملامحه أكثر عبوسًا وضيقًا وهو يُحادث نفسه:
-كنت ناقص ورطة أكتر من كده.
التفت محدقًا في ابنته، وأمرها لتتبعه:
-تعالي يا “دليلة”.
قبل أن تتحرك خطوة واحدة من موضع وقوفها، اعترض “عباس” على ذهابها قائلًا بنبرة عالية:
-“الكوبارة” عايزك لواحدك.
احتج على بقائها بمفردها وسط هؤلاء هاتفًا في توجسٍ شديد:
-بس أنا مش هسيب بنتي.
رفضه يعني إضاعة فرصة ثمينة للتفاوض وتقليل حجم الخسائر، لهذا عَمِد “كيشو” لنصحه بطريقة تبدو أقرب للرجاء، خاصة مع نظرته المصوبة إليه:
-أنا معاها يا عم “فهيم”.
على مضض اضطر أن يقبل، واستدار يوصي ابنته:
-خليكي هنا “دليلة”، وأنا دقايق وراجعلك.
هز رأسه قائلة في طاعة:
-ماشي يا بابا.
قبل أن ينصرف حذره “كيشو” بجديةٍ شديدة:
-خد بالك من كلامك يا عم الحاج معاه.
فهم رسالته المبطنة في تحذيره، وردد بتضرعٍ وخفوت:
-ربنا يستر.
لينصرف بعدها صاعدًا الدرجات الرخامية، ومن أمامه أحد أتباع “عباس” ليرشده إلى مكان اللقاء بزعيمهم.
…………………………
كان من الصعب عليها فهم طبيعة الحياة في هذا المكان المليء بكل ما يحفز النفس البشرية على تقبل الشرور برحابة صدر، وكأنها حقيقة مفروغ منها. بالكاد ضبطت أعصابها، ولاذت بالصمت وهي تسمع التلميحات المستفزة لها، إلى أن فرغ صبرها مع كلام “عباس” الأخير الموجه إليها تحديدًا:
-اللي حصل النهاردة ده قرصة ودن ليكي، علشان ما تحشريش مناخيرك في اللي مالكيش فيه.
دمدمت في حنقٍ، وقد ساد على تقاسيمها تجهمًا عظيمًا:
-والله العظيم احنا في زمن العجب، بقى المجرمين والبلطجية ليهم عين وبيتكلموا؟!
لم يستطع تبين ما تهمهم به، فواصل استفزازها بطريقته السمجة:
-احمدي ربنا إن الكبير دخل في الحوار، وإلا كان زمانك متعلقة مع أبوكي.
في تلك الأثناء، خرج “زهير” من داخل المنزل ليتطلع إلى “عباس” أولًا، ثم وقعت عيناه على تلك الشابة، في التو عرفها، إنها نفس الفتاة الباحثة عن المتاعب، تعقدت تعبيرات وجهه، وظهرت حيرة لحظية على ملامحه، أيعقل أن تكون هي المتورطة في مسألة إبلاغ الشرطة عن مشاحنتهم السابقة؟ لم يحتج للتخمين، كان الأمر جليًا ومحسومًا، خاصة مع مرور والدها بجواره، برأس مطأطأ، وخطوات بطيئة، تدل على العجز وقلة الحيلة. انتبه إلى صوتها الثائر وهي تتواجه مع “عباس” بلا خوفٍ:
-ده على اعتبار إن اللي بتعملوه ده حلال؟!!
اغتاظ “عباس” من عدم مبالاتها بشأن تهديداته، وتحفز في وقفته صائحًا بحدةٍ:
-بتبرطمي تقولي إيه؟
تقدم “زهير” ببطءٍ ليتابع باهتمامٍ ما يدور بينهما من سجالٍ محتدم، حيث ناطحته “دليلة” الند بالند، دون أن تكترث مجددًا لتبعات اندفاعها الطائش:
-بقول العيشة اللي إنتو فيها دي من حـــرام.
ارتفعت نبرته فبدت أقرب للزئير وهو يهتف مستهجنًا وصفها:
-نعم يا ختي؟
وكأنها تناولت حبوب الشجاعة، فأكدت له بلا خوفٍ:
-أيوه، زي ما سمعت، الحوار اللي عامله مع كبيرك علينا، ده بس علشان تستبيحوا فلوس الناس الغلابة وتلهفوها بأي حجة، وده لأن مافيش حد قادر يقف قصادكم.
ليبدو جادًا في تهديده المزعوم إليها، أخرج “عباس” زجاجة صغيرة من جيبه، ونزع غطائها المعدني في عصبيةٍ وهو يتوعدها:
-الظاهر إنك عايزة يتعلم عليكي بجد.
كانت مجرد زجاجة دواء لمعالجة تقلصات المعدة، لكونه يعاني مؤخرًا من صعوبات في الهضم، ابتاعها في طريقه إلى هنا من الصيدلية، أو الأحرى أن يُقال أنه أخذها بلا مقابل، هداه عقله لاستخدامها كوسيلة لإرعابها وتهذيبها، فقذف ما بها في وجهها مرددًا:
-وأنا معنديش مانع.
صرخت من هول المفاجأة، وظنت أنه قذف بسائل مادة ما حارقة في وجهها ليحرق بشرتها ويشوهها، فاستدارت بكامل جسدها بعدما غطت وجهها بيديها للجانب، لتصطدم بحائط بشري لم تتوقع تواجده ورائها.
ضربت “دليلة” برأسها صدر “زهير”، لتتفاجأ به يحاوطها بذراعيه، وكأنه يضمها إلى أحضانه، فرفعت عيناها بذعرٍ إليه، بعدما شعرت بلمسة يده على ظهرها، حملقت فيه بعينين متسعتين، فناظرها عن قربٍ خطير وهو يستعتبها مبتسمًا بعبثيةٍ:
-مش تلمي لسانك أحسن؟
استشعرت التهديد من طريقته الملبكة للأبدان، وما زادها إحساسًا بالحنق منه هو تجرؤه على وضع يده على جسدها، وكأن هناك ما يربطهما معًا، انتفضت مبتعدة عنه، ورفعت يدها في الهواء لتهوى بها على صدغه لتصفعه بقسوةٍ وهي تنعته في انفعالٍ وثورة:
-ما تلمسنيش يا حــيـــوان!
انصدم الجميع بردة فعلها القوية، فكان “عباس” أول من صاح مستهجنًا تصرفها الأهوج:
-إنت اتجننتي يا بت؟!
همَّ بالهجوم عليها لولا أن أشار له “زهير” بيده بالتوقف في مكانه، وعدم الاقتراب منها. أدركت “دليلة” حجم الكارثة التي ارتكبتها، وضمت يديها معًا إلى صدرها، لتشعر بموجات من الخوف والترقب تعصف بها، فإلى الآن لم تحل مشكلتها الأولى، لتجد نفسها تتورط في مشكلة أخطر منها، فكيف ستقوم بمواجهة نتائجها الجسيمة؟ نفضة أقوى حلت بها عندما أتى صوت “كرم” من مسافة لا تبدو بعيدة عنها وهو يتساءل في صوتٍ غاضب للغاية:
-إيه اللي بيحصل عندك يا “زهير”؟!!
على ما يبدو رأى “كرم” صفعها لشقيقه في وقاحة منها بعدما تفاوض مع أبيها الذي جاء بصحبته ليتساءل الأخير في ذعرٍ حقيقي:
-“دليـــلة”! إنتي عملتي إيه؟
تعمد “عباس” سكب المزيد من الوقود على النيران المشتعلة بقوله المحفز لإثارة المشاكل وهو يوجه إصبع الاتهام إليها:
-الحق يا كبيرنا، البت دي مش هاممها حد، وطايحة في الكل.
هزت “دليلة” رأسها رافضة ما يحدث، بينما هرول “فهيم” تجاه ابنته، وجذبها من معصمها ورائه، ليحول بينها وبين “كرم” الذي أوشك على الانقضاض عليها، ورجاه في خوفٍ كبير:
-هي ما تقصدش.
قبض “كرم” على كتفه، ودفعه للجانب بخشونةٍ ليزيحه عن طريقه وهو يزمجر بحنقٍ متضاعف:
-اتركنلي على جمب يا راجل إنت.
اتسعت عينا “دليلة” على آخرهما عندما وجدت نفسها في مواجهةٍ مباشرة مع الوحش الكاسر، كادت تموت رعبًا في جلدها عندما هدر بها بصوته الجهوري المهدد:
-إنتي بقى عاملة نفسك سبع رجالة في بعض وشايفة نفسك علينا؟!!
ظنت أنه الهلاك الحتمي بنزع فتيل غضبه المستعر، وعجزت عن التحرك من موضع وقوفها للفكاك منه قبل أن يبطش بها، أنقذتها العناية الإلهية باعتراض “زهير” له، فوقف بجسده أمامها يمنعه من بلوغها، وخاطبه في جديةٍ وصرامة:
-اهدى يا “كرم”.
رد عليه شقيقه الأكبر بعدائيةٍ صريحة:
-ما عاش ولا كان اللي ترفع إيدها عليك ياخويا…
ثم مال برأسه للجانب قليلًا ليسدد لها نظرة نارية قاتلة قبل أن يتم جملته بنبرته المخيفة:
-احنا بنعرف نعدل الضلع الأعوج!
بهدوءٍ مثير للريبة تكلم “زهير”، وهو يضع كفيه على جانبي وجه شقيقه ليمسك به منه:
-حوارها معايا أنا.
لم يكن أمام “فهيم” أي حل آخر سوى تهذيب ابنته بصرامةٍ أمام هؤلاء، وإن كانت مرته الأولى التي يلجأ فيها للعنف معها، وإلا لعانت الويلات بخلق المزيد من العداوات معهم. على الفور سحبها من ذراعها بعيدًا عنهما، وانهــال عليها بصفعة مباغتة على وجنتها قبل أن يلومها في صوتٍ مرتفع ومحتد:
-عملتي كده ليه يا “دليلة”؟
في البداية ألجمتها الصدمة، وحملقت فيه مدهوشة، لتغرق حدقتيها في بحرٍ من الدموع، قبل أن ترتجف شفتاها هامسة بذهول مستنكر لردة فعله تجاهها:
-بابا!
صفعها على وجنتها الأخرى بواحدة مماثلة في القوة والقسوة وهو مستمر في تقريعها:
-هو احنا ناقصين مصايب؟ ما كفاية الدين اللي بقى في رقبتي بسببك!
تجمدت في موضعها كالصنم، والدموع تنساب من طرفيها بغزارةٍ، ليتطلع الجميع إلى ما يدور بين الأب وابنته بنظراتٍ جمعت ما بين التشفي والتسلية. فاقت الصدمة احتمالها، ففقدت وعيها مع الصفعة الثالثة، وانهارت مغشيًا عليها، لتُطرح أرضًا، و”فهيم” يصرخ بندمٍ حقيقي وهو يحاول الإمساك بها قبل أن ترتطم رأسها بالأرضية الصلبة فتتأذى أكثر:
-“دليـــــــلة”!
لو لم يكن حاضرًا للموقف منذ بدايته، لظن أنها تمثيلية رخيصة ومفتعلة لطلب الصفع والعفو؛ لكن كل شيء حدث بشكلٍ غير متوقع ومفاجئ.
لئلا تسوء الأمور أكثر من ذلك، دفع “زهير” شقيقه من صدره بقبضتيه القويتين، وهمس له برجاءٍ:
-امشي يا كبير، وأنا هتعامل مع الحوار ده، هو يخصني من دلوقت.
كعادته لم يستطع أن يرد له طلبًا، وهدر من بين زفيره الحانق، في لهجةٍ مالت أكثر للتهديد:
-ماشي يا “زهير”، بس أحسنلك تعمل اللي يرضيني، أنا مش هقبل تتهان وأسكت.
أكد له وهو يومئ برأسه:
-حاضر، شوف وراك إيه.
انسحب بعدها “كرم” مغادرًا الباحة، وهو يلعن بسبابٍ لاذع، ومن خلفه “عباس” وبعض الأتباع، ليوجه “زهير” أمره للبقية المتواجدة في غلظةٍ وصرامة:
-يالا ياض إنت وهو .. هي مش فرجة.
في التو انفض الجمع، ليبقى “كيشو” في مكانه مترددًا ما بين البقاء والذهاب، ليأتيه الأمر النافذ من “زهير” بالرحيل، فانصرف على الفور، وهو يدعو الله ألا يتورط مجددًا مع هذه العائلة التعيسة.
………………………………..
لم تستجب “دليلة” لأي من محاولات والدها المستميتة لإفاقتها، ظهر الندم الشديد عليه، فابنته لم تألف نهائيًا قساوته معها تحت أي ظرف، فكانت الصدمة لا تحتمل بالنسبة لها، فأخذ يعتذر لها وصوته يكاد يكون مختنقًا:
-حقك عليا يا بنتي، غصب عني والله.
لم ينتبه إلى “زهير” الذي جثا على ركبته أمامهما، فقد أخذ يشملها بنظرة سريعة تفقدية قبل أن يصدر أمره الموجه إليه:
-عنك شوية يا حاج.
من بين سحابة دموعه المتجمعة في مقلتيه نظر إليه “فهيم” متحيرًا، وسأله في توجسٍ كبير:
-إنت هتعمل فيها إيه؟
لم يجبه، وتفاجأ به يمرر ذراعيه خلف ظهرها، وأسفل ركبتيها، حتى يتمكن من حملها، ثم نهض واقفًا، وسار بها بخطواتٍ سريعة نحو سيارته، ليتبعه “فهيم” في ذعرٍ وهو يسأله:
-إنت واخدها على فين؟
استخدم “زهير” يده بصعوبة في فتح الباب الخلفي لسيارته، وأجلسها بحذرٍ على المقعد، مراعيًا وضع رأسها برفقٍ على الجانب، ليعترض “فهيم” طريقه متوسلًا إياه:
-بالله عليك ما تأذيها، أبوس إيدك، اللي إنت عايزه أنا هدفعه، بس ماتجيش جمبها.
طمأنه بكلامه الغامض وهو يربت على كتفه:
-اركب يا حاج، أنا هرجعكم من مطرح ما جيتو.
فغر فاهه للحظةٍ مذهولًا، يكاد لا يصدق ما سمعه، ليجد “زهير” يدور حول مقدمة السيارة حتى يستقر خلف عجلة القيادة، في التو ركب بجوار ابنته، وحاوطها بذراعه ليريح رأسها على كتفه، مسح على وجهها الرطب بترفقٍ، وعيناه الأبويتان تنظران إليها بأسفٍ وندم.
……………………………………..
لجأ إلى أسلوب الصمت المخيف طوال قيادته للسيارة، ليشعر “فهيم” بمزيد من التخبط والحيرة من أمره الغامض نحوهما، خاصة أنه أبصر نظراته القاتمة إليهما بين الفنية والأخرى، فاستشعر قلبه نية غير محمودة تجاههما، لهذا تساءل بحذرٍ وهو يزيد من ضمه لابنته، وكأنه يحاول حمايتها بكل الطرق المتاحة إليه:
-إنت ناوي على إيه معانا؟
أخبره بغموضٍ جعل البرودة تسري في عروقه:
-مش وقت كلام.
لم ينتبه “فهيم” إلى بلوغه لمنطقة سكنه، بسبب تركيزه الكلي معه، ليدور ببصره بشكلٍ عفوي في الأرجاء عندما سأله:
-ده بيتكم صح؟
أمعن النظر في المكان، مستوعبًا أنه بالفعل وصل إليه، فجاوبه باقتضابٍ مرتبك:
-أيوه.
ترك المحرك دائرًا، وترجل من السيارة، ليقوم بفتح الباب الملاصق لـ “دليلة” ثم مرر ذراعيه من أسفل جسدها، وقام بحملها دون استئذان منه، وهو يكلمه بلهجة الآمر الناهي:
-وريني ساكنين فين.
كان يعلم مسبقًا بمحل إقامتها، ومع ذلك ادعى جهله به ليجلعه يمضي في طريقه أولًا، حتى يتجنب نظراته التي تلاحقه وتحاصره، بل وتطبق على أنفاسه كلما حاول استراق النظر إلى هذه الشابة المثيرة لفضوله واهتمامه. أطاعه “فهيم” مرددًا وهو يهبط عن السيارة بتعجلٍ:
-حاضر.
ثم سبقه في خطاه ليرشده إلى مكان بيته هاتفًا:
-اتفضل من هنا.
كعادتها الفضولية المتطفلة، وقفت “إعتدال” على بسطة السلم تراقب كل شاردة وواردة تحدث، فلم يغب عن ناظريها رؤية “زهير” وهو يصف سيارته أمام البناية ليترجل منها حاملًا ابنة الجيران الشابة، فدارت برأسها الأفكار المحيرات عن علاقة بعضهما ببعض. اندفعت بنزقٍ ترحب به، وهي ترسم على وجهها ابتسامة عريضة مستفزة:
-سي “زهير” عندنا؟ منور العمارة يا كبير المنطقة.
ادعت أنها لم تبصرها في البداية، وقالت في خوفٍ مصطنع:
-الله! مش دي “دليلة”؟ هو حصل إيه؟
زجرها “زهير” بخشونةٍ مهددًا إياها، وهو يحدجها بنظرة قاسية:
-تعرفي تسكتي، ولا أسكتك بطريقتي؟
في التو تخلت عن أسلوبها التحقيقي، وتراجعت للخلف، لتبدي اعتذارها إليه:
-حقك عليا يا كبير..
واصل “زهير” تهديده لها وهو يكمل صعوده للأعلى:
-خشي بيتك واقفلي بابك عليكي أحسنلك.
لم تقل شيئًا، وانصاعت إليه عائدة إلى داخل بيتها، لتقف وراء الباب بعدما أغلقته متسائلة مع نفسها وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها:
-شكل الموضوع فيه إن، ولازمًا أعرفها!
………………………………
بمجرد أن سمعت الطرقات على الباب، أسرعت “عيشة” تجاهه لتفتحه، لتتفاجأ بزوجها ينحيها جانبًا، حتى يفسح المجال لـ “زهير” ليمر بابنتهما وهو يحملها، أرشده إلى مكان غرفتها حتى يتمكن من وضعها على السرير، قبل أن يغادر الغرفة تاركًا الاثنان معها، ما لبث أن انهالت عليه زوجته بأسئلتها المذعورة:
-إيه اللي حصل يا “فهيم”؟ البت مالها؟ ومين ده اللي جايبها؟
رد عليه بصوتٍ لاهث للغاية وهو يشير إليها بيده المرتعشة:
-هقولك بعدين، خليكي بس مع البت دلوقت.
تركها مع حيرتها تأكلها، ليتجه إلى الخارج حيث كان لا يزال “زهير” في انتظاره، راقبه في صمتٍ مغلف بالقلق وهو يعدل من طرفي كمي قميصه، وكذلك ياقته. تحفز في وقفته عندما وجه إليه أمره المشوب بالتحذير:
-لما بنتك تفوق تنبه عليها ما تحتكش بحد…
افترت شفتاه عن دهشة مرتعبة، فأكمل إنذاره إليه:
-والأحسن ما تخرجش، علشان مصلحتها…
لم يكن بالممازح مُطلقًا وهو يختتم معه باقي حديثه بجديةٍ أشد، وهذه النظرة الغامضة، والعاكسة لما هو أخطر، مثبتة عليه:
-ده لو إنت خايف عليها بجد ………………………… !!!
………………………………………