رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع 7 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع 7 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع 7 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع 7 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع 7
رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع 7
بُهتت ملامحه، وزاغت نظراته بمجرد أن علم بحجم الكارثة التي حلت فوق رأسه، لم يكن ينتمي لفئة الباحثين عن المشاكل ليتورط في واحدة منها، بل على العكس كان مسالمًا لأقصى درجة، يحاول حل الأمور العالقة والمشاحنات العادية بالسِلم والود. أحس “فهيم” بالعرق البارد يغمر كامل جسده ويغرقه، تساءل في صوتٍ خفيض محاولًا عدم لفت الأنظار إليه:
-طب إيه الحل دلوقت؟
رد عليه “كيشو” بنبرة منزعجة:
-مش عارف.
توسله على الفور في رجاءٍ شديد:
-بالله عليك يا “كيشو” ما تسيبني في الليلة دي لواحدي، أنا مش هعرف أتصرف…
اختطف نظرة سريعة تجاه “رجائي” قبل أن يكمل وصلة استجدائه:
-ده أنا راجل كبير، وماشي جمب الحيط.
استطاع سماع أنفاس “كيشو” الثقيلة قبل أن يخبره:
-هشوف كده، وادعي ربنا تعدي على خير.
أنهى معه المكالمة، وهسهس مع نفسه في توجسٍ شديد:
-سترك يا رب.
لاحظ “رجائي” تبدل حالة مخدومة من الهدوء إلى الارتباك والاضطراب، فناداه من موضع جلوسه متسائلًا في استفهام:
-في حاجة يا عم “فهيم”؟
ابتلع ريقًا غير موجودٍ في حلقه، وأجابه بوجهٍ شاحب:
-لأ، كله تمام.
أمره في لهجةٍ شبه حازمة:
-طب شوف شغلك، ومتعطلش مصالح الناس.
رد عليه بصوتٍ متقطع، وهو يحاول استعادة رباطة جأشه بعدما سابت أعصابه وانفلتت:
-حـ.. حاضر.
…………………………………..
مؤخرًا، وبعد انتشار خبر هروبها من المنزل بين أهالي بلدته، أصبح يسير بين الناس متجهمًا، عابسًا، وقلما يختلط بأحدهم، فقد كان مُحرجًا من الفضيحة التي تسببت بها شقيقته الصغرى، وجعلته في قمة شعوره بالخجل. ودَّ بشدة لو استطاع محو هذا العـــار المشين الذي لحق بسمعةِ العائلة، وتلطيخها بالوحـــل.
ناداه أحد رفاقه عدة مرات، فلم يبدُ أنه يسمعه، فأسرع الأخير في خطاه ليلحق به متسائلًا في استعتابٍ:
-يا “موجي” بناديك من بدري، إنت مطنشني ولا إيه؟
توقف عن المشي ليستدير إليه قائلًا بوجوم:
-والله ولا سمعتك من الأساس.
مازحه في بساطةٍ:
-اللي واخد عقلك.
جاء رده مغلفًا بالحنق، خاصة وتعبيراته تشي بانزعاجه الشديد:
-هو في غيرها بنت الـ ….!
مد يده ليربت على كتفه مُظهرًا تعاطفه معه:
-معلش يا “موجي”، هون على نفسك، هي بردك صغيرة ومالهاش خبرة في الدنيا.
كور قبضة يده، وضغط عليها حتى ابيضت مفاصل أصابعه، ثم كز على أسنانه متوعدًا:
-أه لو بس أوصل لأراضيها، ولا أعرف كانت ماشية مع مين!
رد عليه رفيقه مومئًا برأسه بشكلٍ آلي:
-مسيرك تعرف.
تابع “موجي” مضيفًا في استهجانٍ متعاظم:
-هتجنن، دي كانت طول الوقت تحت عيني، وأنا والله كنت ناوي أجوزها للي يصونها، ويعيشها ملكة في بيتها، بس هي مصبرتش على رزقها.
سأله في شيءٍ من الاستفهام، وهو يطالعه بهذه النظرة الحائرة:
-طب في حد معين في دماغك يكون شاغلها وضحك عليها، وخلاها تعمل كده؟!!
صمت للحظاتٍ، وكأنه قد استغرق في التفكير، ليجيبه بعدها مسترسلًا في شرح ما يدور في خلده:
-مش متأكد، بس في واد كده شاكك فيه، لمحته نواحي بيتنا كذا مرة، وكانت هي بتبقى واقفة في الشباك، وتتلبخ أول ما تشوفني جاي، وارد يكون ليه صلة بيها، وخصوصًا إنه ما هوبش ناحية المكان من ساعة ما طفشت.
عاد ليسأله رفيقه مستوضحًا:
-طب إنت فاكر شكله؟
أكد له بما لا يدع مجالًا للشك:
-ده أنا أطلعه من وسط ألف.
عقب عليه في رجاءٍ:
-ربنا يعترك فيه!
همَّ “موجي” بالمغادرة؛ لكن استوقفه رفيقه مرة ثانية مقترحًا عليه:
-تعالى نقعد على القهوة شوية.
اعتذر منه بنفس أسلوبه الواجم:
-ماليش مزاج، خليها وقت تاني.
أصر عليه بتصميمٍ:
-يا عم ما تحبكهاش، دي ربعاية، هو أنا بقولك نبات فيها؟
على مضضٍ اضطر للتخلي عن عناده، وواقف على الذهاب معه مرددًا:
-ماشي.
سار كلاهما تجاه مقهى البلدة الشهير، ليكملا تسامرهما هناك، ورغم شعور “موجي” بالحرج من ظهوره علنًا، وفي تجمعات يعرفها فيها أهل بلدته، إلا أنه لم يُحادثه أي شخص في شأن شقيقته، فالجميع يعلم من طباعه الصارمة أنه لن يترك الأمر يمضي هكذا دون أن يصل إلى ما يعيد للعائلة مكانتها.
…………………………….
توقع أن يقوم أحدهم بتدبير مكيدة ما، واستدراج شقيقه للإيقــاع به، ومن ثم جره للمشاكل مجددًا، لضمان استمرار المشاحنات والعداوة؛ لكنه لم يظن أن يبادر “العِترة” بهذا، ويسبق غيره وهو الذي لم يعلن بعد عن خروجه من محبسه، إذا هناك من ينقل عن عمدٍ أخباره إليه، من باعه مقابل طمعه في كسب المزيد من المال.
أراد معرفة ذلك الخائن المندس بين رجــاله في أقرب وقت؛ لكنه لن يتعجل في كشف الستار عنه، سيتربص به، وينتظر اللحظة المناسبة للإيقــاع به في شر أعماله، ولحظتها فقط سينال ما يستحق.
استقل الشقيقان سيارة أخرى تابعة لـ “كرم”؛ لكنه لم يتجه إلى التَبَّة، بل قادها إلى منتصف المدينة تقريبًا، حيث تتواجد المراكز التجارية والمطاعم الشهيرة. استغرب “زهير” من تغيير وجهتهما، وسأله:
-رايح فين كده؟ مش ورانا مصالح؟
أجابه وقد لاحت ابتسامة باهتة على زاوية فمه:
-كله يستنى، المهم نكون سوا.
علق ساخرًا:
-ومن إمتى الاهتمام الزايد ده؟
خاطبه في لهجة لينة، لا تناسب طبيعة شخصيته غير المتساهلة:
-سبني أفرح بخروجك، وإنت من ساعة ما طلعت لابس معايا في المشاكل.
أتى رده كالعادة متهكمًا:
-وهي من إمتى سابتنا؟ دي زي ما تكون بتطاردنا كأنا عاملين معاها اتفاق.
ضحك “كرم” بعفويةٍ قبل أن يعقب عليه:
-على رأيك، خلينا نفك شوية، ونبعد عن الواغش اللي حوالينا.
وافقه الرأي، واسترخى في مقعده مرددًا بعد تنهيدة بطيئة:
-ماشي.
………………………………….
بداخل إحدى القاعات المتسعة التي تعج بعشرات الأفراد الذين اتفقوا فيما بينهم على ارتداء البدلات الرسمية، انتهى المُحاضر من إلقاء كلمته، فبدأ الجمع في الافتراق والتجمع على هيئة تشكيلاتٍ صغيرة لا تتجاوز في مجملها من أربعة إلى خمسة أفراد. لمح “راغب” مديره وهو يفرقع بأصابعه له، فأسرع تجاهه محنيًا رأسه قليلًا في احترامٍ مبالغ فيه، ليصغي إليه بانتباهٍ كامل وهو يخاطبه:
-مش هوصيك يا “راغب”، عايزك تستفيد من كل لحظة هنا، مش مجرد جاي تضيع وقت والسلام.
هز رأسه في طاعة، فأكمل مديره كلامه الجاد إليه:
-إنت لو مشيت ورا كلامي، هتمسك مناصب مهمة جدًا، مش مجرد مدير فرع عادي.
تكلم مُبديًا امتثاله لنصائحه الذهبية:
-أكيد يا فندم ده هيحصل بتوجيهات سيادتك ونصايحك.
استمر في إعطائه المزيد بقوله:
-عايزك تبص لقدام، اللي معاك هيجروك لتحت، وإنت أفضل من المستوى ده بكتير، مفهوم؟
تلقائيًا اختطف نظرة عابرة نحو مجموعته، كانوا يتمازحون فيما بينهم ويتضاحكون بأريحية تامة لا تليق مع جدية الوضع، عاود النظر في وجهه وهو يرد بلا ابتسامٍ بعدما فهم المغزى من عباراته الموحية:
-حاضر يا فندم.
ظل كلاهما يتحادثان بخفوتٍ لعدة دقائق قبل أن ينصرف المدير لينضم إلى رفاقه، في حين سار “راغب” بتكاسلٍ عائدًا لزملائه، انتبه لقول أحدهم المتحمس:
-شايف الأبهة والعظمة؟
رد عليه آخر، ولمعة الانبهار تتجلى في نظراته:
-احنا مكوناش عايشين يا ابني.
بينما سأله ثالث في فضولٍ:
-المدير كان بيقولك إيه يا “راغب”؟
تحفز في وقفته، وارتدى قناع الجمود قائلًا بلا تعبيرٍ واضح:
-مافيش، بيسألني عن الدورة، والتدريب، كويس ولا لأ، في حاجات نقصانا، ولا محتاجين حاجة، يعني كلام عادي.
ردوده كانت منمقة، مرتبة، فلم تجعلهم يرتابون في أمره، ليقول رابع بتشوقٍ:
-كويس، عايزين نشوف البوفيه، الواحد واقع من الجوع.
في التو تحولت أنظارهم نحو القاعة الجانبية التي تتواجد بها موائد الطعام، اتجهوا إليها معًا بخطواتٍ شبه سريعة، في حين تعمد “راغب” التلكؤ في خطاه لينظر إليهما بتأففٍ وانزعاجٍ، غمغم من بين أسنانه بامتعاضٍ:
-هي دي أشكال الواحد يشتغل معاها؟ المدير معاه حق، المفروض أبص لفوق.
……………………………..
كانت لا تزال على حالتها المصدومة، لا تقوى عيناها على الرمش، ولا جسدها عن التوقف عن الارتجاف، فما تمر به منذ قرارها الطائش بترك مسكنها والهرب من أجل الزواج الأهوج يفوق قدرتها على الاحتمال أو التصديق، لقد كانت أضعف بكثير من هذا. بدون أدنى مقاومة، سحبتها “خضرة” كالبهيمة، مع فارق أنها بلا قيد يحيط بعنقها، لتعود إلى منزل “توحيدة” بصحبة “سِنجة” أيضًا، كسيرة الخاطر، ذليلة النفس، وفاقدة لأهم ما يميز المرأة الحُرة الشريفة عن غيرها. لم تنظر “مروة” إلى من تكلمها هامسة بحقدٍ وحسد عندما دفعتها دفعًا إلى مخدعها:
-بيضالك في القفص يا بنت المحظوظة، محدش لا أدك ولا زيك.
أجلستها على طرف الفراش، ثم التفتت ناظرة إلى ربة عملها لتخبرها:
-الريس “الهجام” موصي عليها يا أبلتي.
تنهدت “توحيدة” مرددة بهزة خفيفة من رأسها:
-وصلني الخبر من “عباس” يا “خضرة”.
ثم أعطت أوامرها الصارمة إلى الجميع وهي تشير بإصبعها:
-دلعوها وهننوها، دي اللي هتخلي الكبير يرضى عننا.
تطوعت إحداهن لترد عن البقية:
-حاضر يا أبلتي.
غادرت “توحيدة” الغرفة، لتجد “سِنجة” ما زال متواجدًا بالصالة، فسلطت ناظريها عليه عندما طلب منها:
-ملاقيش حاجة عندك أشربها يا ستنا، لأحسن ريقي ناشف.
من موضع وقوفها هتفت منادية:
-بت يا “لوزة”، إنتي يا بت.
جاءت الأخيرة تلبي ندائها الآمر:
-أيوه يا ست “توحيدة”.
سرعان ما تعلقت عيناها به، وراحت تومض في عقلها كلمات “حمص” الأخيرة عن علاقته المباشرة برضيعها المفقود، عليها أن تبذل ما في وسعها لتقصي أي معلومات منه عنه، فتأهبت حواسها، وعمدتٍ إلى اللجوء لبعض الحيل المستهلكة لإبقائه مشغولًا بها. ركزت سمعها مع “توحيدة” عندما أمرتها:
-هاتي لـ “سِنجة” حاجة باردة يشربها.
ابتسمت في تدللٍ، وردت وهي تمسك بطرف منديل رأسها لتلفه حول إصبعها في ميوعةٍ افتقدتها في الآونة الأخيرة:
-تعالى معايا، وأنا أعملك الساقع والسخن كمان.
تبعها بعدما منحته “توحيدة” الإذن للحاق بها، لتشيعهما الأخيرة بنظرات مهتمة وهي تهمهم بصوتٍ خفيض:
-شكلها عقلت، ورجعت لدماغها.
راقبت “خضرة” مثلها حركاتها المكشوفة لاستدراج أحدهم لفخ الإغواء المحكم، لتقول بعدها كنوعٍ من التأييد لها:
-يا ريت يا أبلتي.
……………………………..
لم يستطع إغفال نظرات الاستحقار وأمارات الاشمئزاز والنفور الظاهرة على أعين ووجوه كل من يتطلع إليهما منذ أن ولجا إلى داخل هذا المطعم الشهير، المعروف بنوعية رواده الذين ينتمون لفئة الأثرياء وعلية القوم بالمدينة، فالأمر ببساطة يعود إلى هيئتهما غير المهندمة، ومظهرهما البسيط الذي يناقض طبيعة المتواجدين به.
شعر “زهير” بالضيق من طريقة تحديق الآخرين به، ورأى كيف تقدم أحد الندلاء تجاههما على مضضٍ، ليوجه سؤاله إليهما وهو يوزع نظراته بينهما، كأنما يحاول صرفهما من المكان بشكلٍ غير مباشر قبل أن يفسدا بوجودهما أناقته:
-في حجز يا فندم؟
انقض عليه “كرم” ليطوقه من عنقه، وسأله بلهجةٍ هجومية:
-ولو مافيش؟ هتمنعنا يعني؟
ارتاع النادل من أسلوبه العنيف في التعامل، وحاول أن يبدو منضبطًا قدر استطاعته:
-لأ يا فندم، بس آ…
قاطعه قبل أن ينهي كلامه قائلًا بلهجة من يقرر لا من يُخير:
-من غير بسبسة، شوفلنا أجدعها تربيذة عندك وأقعدنا فيها…
وقبل أن يوشك على رفض مطلبه، أو حتى الاعتراض عليه، جذبه من عنقه بقساوةٍ ناحيته، ليهمس في أذنه بغير تفاهمٍ:
-بدل ما أجيبلك سقف المكان ده في حلقه.
ازدرد النادل ريقه، وقال في طاعة تامة:
-حاضر يا فندم.
حرره بعدما ربت على جانب عنقه مبتسمًا بسخافةٍ:
-تعجبني.
اضطر إلى اصطحابهما إلى أكثر الأماكن تميزًا بداخل هذا المطعم، ما إن تأكد من استقرارهما حتى فر هاربًا ليبلغ عن وجودهما المزعج إلى رئيسه في العمل. استنكر “زهير” طريقته محتجًا:
-مش لازم الأسلوب ده يا “كرم”، ما كنا نشوف حتة تانية.
في نبرة مملوءة بالزهو والعجرفة تكلم شقيقه الأكبر مشيرًا بيده:
-اللي إنت ما تعرفوش أنا شريك في أم المخروبة دي، يعني أقعد في أتخنها حتة تعجبني، وعلى مزاج مزاجي.
اندهش للمفاجأة، وسأله بتعبيرٍ شبه واجم:
-وإزاي معنديش خبر؟
أعطاه ردًا مقنعًا:
-أومال أنا جايبك هنا ليه؟ علشان تشوف وتعاين بنفسك على الطبيعة، وتقولي يستاهل اللي اتدفع فيه ولا لأ.
مسح بنظرة شمولية محيط المطعم ليردد في قدرٍ من الإعجاب:
-مش بطال، بس لازمًا أشوف ورقه وأطمن.
هز رأسه هاتفًا في إذعانٍ معتاد لتحقيق مطالبه:
-حقك يا خويا.
جاء مدير المطعم على وجه السرعة بناءً على ما أخبره به النادل ليتعامل مع هذين الدخيلين بصرامةٍ وحزم؛ لكنه في التو عرف هوية أحدهما، فتراجع عن طريقته المتحفزة قبل أن يمارسها حتى، ليقول في ترحيبٍ شديد، وهو شبه مطأطئ لرأسه:
-المطعم نوع يا فندم، مش كنت تدينا خبر سيادتك علشان نستقبلك كويس.
رد عليه بتعالٍ:
-أنا أحب أطب على اللي يخصني من غير إحم ولا دستور.
تصنع الابتسام، وقال في تهذيبٍ:
-مكانك يا فندم.
جاء رده وقحًا كعهده مع كل من يحاول استخدام معسول الكلام في الحديث إليه بتوددٍ:
-ما هو مكاني فعلًا.
لم يسعَ لقول المزيد مما قد يضعه في موقفٍ سخيف، واكتفى بسؤاله:
-أوامر سيادتك؟
رفع “كرم” يده أعلى رأسه ليفركها في حركة سريعة، واستطرد:
-عايزين ناكل أنا وأخويا، شوفلنا إيه ينفع عندك هنا.
عقب عليه بأسلوبه المتأدب في التحاور مع الغير:
-كل حاجة متاحة يا فندم.
لحظتها وجَّه “كرم” سؤاله إلى شقيقه:
-في دماغك حاجة معينة تاكلها؟
حرك رأسه بالنفي مرددًا:
-لأ، مش فارقة.
آنئذ التفت ناظرًا إلى مدير المطعم يأمره:
-هاتلنا أجدعها أكل، وأوام مش ناقصين لكاعة.
رد عليه مبديًا فروض الطاعة:
-حاضر يا فندم، دقايق وهيكون الأكل عند سيادتك.
صرفه “كرم” بإشارة من يده، ليعاود التحديق في وجه شقيقه، وجده مشغولًا بالتطلع في تركيزٍ مريب نحو بقعة بعينها، فاستدار برأسه ناظرًا إلى حيث يحدق، فأبصر شابة متأنقة الثياب، تجلس بصحبة أحدهم، وتبتسم إليه في لطافةٍ ورقة، فظن بديهيًا أنه يعاكسها، وأفصح عن ذلك ممازحًا إياه:
-عينك رايحة فين؟
انتبه “زهير” لكشف أمره، وانعكست علامات الانزعاج على تعابير وجهه قبل نبرته عندما خاطبه:
-ولا حاجة.
مجددًا سأله “كرم” في وقاحةٍ جريئة:
-عجباك ولا إيه؟
تجهم أكثر حينما اقتضب في رده:
-لأ.
مرة ثانية عاود شقيقه الأكبر التحديق في الشابة؛ ولكن بنظراتٍ متفرسة أكثر، فبدت نوعًا ما مألوفة إليه، لذا راح يخبره بعفويةٍ:
-وشها مش غريب.
اعتصر ذهنه ليتذكر أين رآها قبل سابق، لم يستغرقه الأمر أكثر من لحظاتٍ ليقول في الحال في صيغة تساؤلية:
-مش دي البت بتاعة الكلية؟
حسنًا، لم تكن هذه المسألة تحديدًا من الأمور التي يحبذ “زهير” الحديث عنها، لكونها تمثل مصدرًا للحرج والإزعاج، فلم يتجاوز بعد نظرتها المتعجرفة المتعالية عليه حينما عبر لها ببلاهةٍ وحماقة في أول عام دراسي له عن إعجابه بها، وقتئذ صدته، وعاملته بازدراء، وسخرية، وتعمدت الحط من شأنه للإمعان في مضايقته وإزعاجه، ليعلم بعدها شقيقه بالأمر، ويتعامل مع عائلتها شخصيًا، وبالطريقة التي جعلتها تعتذر له علنًا، قبل أن تنتقل فورًا من الجامعة، وتغادر المدينة بأسرها؛ لكن بقيت أطلال ما مر به قابعة في دواخله.
واليوم تفاجأ بوجودها هنا، في نفس المكان معه، لو كان يعلم لما فكر في المجيء تجنبًا لتلك الذكريات المزعجة التي انهالت عليه كالسيل لتذكره بما حاول نسيانه. انقلبت تعبيرات وجهه بوضوح، وحذره بضيقٍ:
-“كـــرم”، قفل على سيرتها، كإنها مش موجودة.
رد مستهزئًا من الأمر برمته:
-أهوو، على يدك المشاكل هي اللي بتيجي لحد عندنا.
ظل “زهير” على تكشيرته الكبيرة وهو ينذره:
-إنت لو عملت اللي يضايقني همشي.
رفع كفيه للأعلى قائلًا:
-خلاص، احنا جايين نتبسط أصلًا.
لاحظته الشابة حينما مررت عينيها بشكلٍ عابر على أرجاء المطعم، فتبدلت في التو قسماتها للقلق والخوف، ثم راحت تميل على من معها لتهمس له بشيءٍ، قبل أن تنهض فجأة وتجمع متعلقاتها الشخصية، وتهرع مغادرة للمطعم بأقصى سرعة، وكأن هناك من يطاردها به.
سخر “كرم” من الطريقة التي ذهبت بها هاتفًا:
-أهي طفشت من نفسها.
مجددًا عاتبه “زهير” في انزعاجٍ بائن على نبرته، وكذلك وجهه:
-برضوه هتتكلم عنها؟
راح يمازحه باستظرافٍ زائد:
-خلاص، خلينا في “سمارة” طيب.
ضجر منه مرددًا في استياءٍ:
-برضوه؟
……………………………………
حرصت على بث كل ما يحتاج إليه لتوقظ بداخله الرغبة، ونجحت في استثارته بالطريقة التي تجيدها لتتمكن من سلب الحقيقة من بين شفتيه أثناء ممارسته لطقوس الحب معها، في الزاوية الخلفية بالمطبخ. بالطبع لم يضيع “سِنجة” الفرصة التي واتته بلا عناء، واستغلها بالكامل، فأخذ ينهم من الشهد المصفى أضعافًا مضاعفة، إلى أن بلغ الذروة، وأصبح على حافة الانهيار، آنئذ فقط سألته “وِزة” بصوتٍ لاهث، وخافت:
-ما تريحني يا “سِنجة” وتقولي ابني فين؟
أفضى إليها بالسر الذي لا يعرفه سواه، وهو يخمد النيران المتأججة في جسده:
-مــات يا حلوة.
ظنت أنه يلاعبها بكلماته المراوغة، ليضللها، ويستفيد في نفس الآن مما تقدمه له، فسألته وقد تصلبت أطرافها:
-هي الست “توحيدة” موصياك تقولي كده؟ خليك صادق معايا.
انقضت الحاجة، وانطفأت شعلة الرغبة، فابتعد عنها قائلًا بجمود، وهذا التعبير الساخط يسود كامل وجهه:
-اقري عليه الفاتحة، ربنا رحمه من أم زيك، كان هيتعاير بيكي لما يكبر.
إهانته كانت قاسية للغاية؛ لكنها لا تفوق تصريحه الذي لم يكن بالمزاح مطلقًا، فهتفت تسأله بقلبٍ يدق في خوفٍ:
-إنت بتقول إيه؟
أجابها صراحةً، ودون تجميلٍ للحقائق الصــادمة، مشيرًا بكفيه:
-بجيبلك الناهية، أنا بإيدي دول قضيت عليه.
برزت عيناها في محجريهما، وأمسكت به من تلابيبه تسأله في نبرة صارخة، وقد فاض الدمع الغزير من طرفيها:
-حرام عليك؟ ليه كده؟ عملك إيه؟ ده كان حتت لحمة حمرا، إيه ذنبه؟
أمسك بقبضتيها، وأزاحهما قائلًا في استحقارٍ:
-ذنبه إنك خلفتيه.
وكأنها امتلك قوة جسدية هائلة، سيطر عليها غضبها الممزوج بحسرتها وقهرها فانقضت عليه لتخنقه من عنقه وهي تتوعده:
-أنا هـــموتك، هقتلك زي ما قتلته يا ابن الـ …..
تفاجأ بهجومها الضاري عليه، وحاول تخليص نفسه من براثنها، خاصة أنها راحت تخمش في وجهه وجلد عنقه بأظافرها لتؤلمه، وتشوهه.
أتى على صوت صراخها الهائج “خضرة”، وبعض الشابات، تدخلن على الفور للفصل بينهما، والأولى تلومها بشدة:
-إنتي اتجننتي يا بت، إيه اللي بتعمليه ده؟
واصلت “وِزة” الصراخ بمشاعر أم مكلومة، وقلبها قد انكوى بلوعة خسارة فلذة كبدها:
-ابنـــي، ضنـــايا!
بالكاد نجا “سِنجة” من بين يديها، لتشكل الشابات حائلًا فاصلًا بينهما، سحبته “توحيدة” نحو الخارج وهي تكلمه:
-امشي يا واد من هنا دلوقت.
تحسس وجهه الملطخ ببقع دماءٍ متفرقة جراء النزف الحادث من الخدوش الموجعة التي طالت وجهه، وأخذ يبرطم في غيظٍ:
-فوقوها المجنونة دي، بدل ما تحصل ابنها.
لكزته “توحيدة” في كتفه وهي لا تزال تأمره:
-روح من هنا بقى.
لو كان في مواجهةٍ مع غيرها من الرجال لما تركها هكذا دون أن يرد الصاع صاعين؛ لكن يكفي عليه –حاليًا- احتـــــراقها بنيران فقدان رضيعها.
……………………………….
الأوقات الطيبة تمضي كسرعة البرق مهما امتدت لساعات، وهذا ما حدث معها، كم تمنت “إيمان” ألا ينقضي نهارها الهانئ مع أسرتها أبدًا؛ لكنها مضطرة للذهاب والعودة إلى منزلها قبل أن يجن عليها الليل. احتضنت والدتها في محبةٍ صافية، وخاطبتها بصوتٍ بات إلى حدٍ ما مهمومًا:
-كان نفسي أقعد معاكو أكتر من كده، بس علشان الوقت ما يتأخرش عليا وأنا برا.
تفهمت “عيشة” لوضعها المتأرجح ما بين محاولة إرضاء ذويها، وعدم إغضاب زوجها، فقالت:
-ماشي يا حبيبتي..
تراجعت عنها وأوصتها:
-خديلك مواصلة من على أول الشارع، وكلمينا لما توصلي.
هزت رأسها مرددة:
-حاضر.
التفتت بعدها موجهة أمرها إلى ابنتها الصغرى:
-روحي معاها يا “دليلة”، وديها من مطرح ما جت، واتأكدي إنها ركبت.
أطاعتها هي الأخرى قائلة:
-ماشي.
علقت “إيمان” حقيبة يدها على عضدها، واستطردت في نبرة شبه حزينة:
-بابا واحشني جدًا، معرفش هو اتأخر ليه؟ كان نفسي أشوفه أوي.
بدت تعبيرات أمها مزعوجة إلى حدٍ كبير عندما تحدثت إليها:
-أبوكي ده بأحوال، بيختفي ومحدش بيعرفله سِكة.
حررت تنهيدة عميقة من صدرها لتقول بعدها:
-طيب سلمولي عليه، وأنا هحاول أفوت عليكم تاني.
ربتت “عيشة” على ظهرها في حنوٍ، وقالت وهي توصلها إلى باب المنزل:
-بإذن الله.
مجددًا انحنت “إيمان” على والدتها تقبلها من وجنتيها، وبالطبع تلقت منها عشرات التوصيات أثناء هبوطها على درجات السلم، ومن خلفها تبعتها “دليلة” وهي تأمل ألا تلتقي مرة ثانية بجارتهما المتطفلة اللزجة.
…………………………….
العودة إلى التَبَّة بعدما فرغ من الظفر بلحظات حميمية عاصفة كان مستبعدًا، فقد أتت الأوامر من “عباس” بالجلوس في المقهى الرئيسي، ومراقبة حركة المارة، لمعرفة إن كان أحد أتباع “العِترة” لا يزالون متواجدون بالمنطقة، لهذا استغل “سِنجة” الفرصة، واسترخى على كرسيه الخشبي أمام دراجته النـــارية، يدخن النارجيلة، ومتابعًا بعينين حادتين كالصقر كل من يعرج إلى داخل الشارع.
لمح من موضع جلوسه شابتين، تقفان على مسافة ليست ببعيدة عنه، وجهيهما ليسا مألوفًا عليه، فاستنفرت حواسه، وركز بصره معهما فقط دونًا عن البقية.
……………………………..
لم يكن من السهول العثور على سيارة أجرة شاغرة في هذه المنطقة النائية، حتى باستخدام التطبيق الخاص باستئجار العربات. زفرت “إيمان” في ضيقٍ من انتظارها غير المجدي؛ لكن ما لبث أن تبدلت تعبيراتها للتوتر حينما وردها اتصالًا هاتفيًا من زوجها، انتفضت تخاطب “دليلة” في توجسٍ قلق:
-ده “راغب” بيتصل.
ردت عليها بعدم مبالاة:
-وفيها إيه دي؟
سددت لها نظرة أكثر قلقًا وهي تخبرها:
-ما هو يعرفش إني هنا، إنتي ناسية ولا إيه؟
تذكرت “دليلة” ذلك، وسألتها في اهتمامٍ:
-طب هتقوليله إيه؟
ارتبكت أكثر، وهتفت بملامحٍ عبرت عن قلقٍ زائد:
-مش عارفة.
ارتعش الهاتف في يد “إيمان” وهي تخاطب شقيقتها:
-خايفة ماردش عليه يعملي مشكلة.
تشدقت مقترحة عليها:
-خلاص قوليله إنك في الشارع بتجيبي طلبات للبيت.
استحسنت فكرتها قائلة:
-طيب.
سحبت في التو نفسًا عميقًا، لفظته دفعة واحدة، لتجيب على اتصاله بصوتٍ جاهدت ليبدو ثابتًا وطبيعيًا:
-أيوه يا حبيبي، إيه أخبارك؟
جاء صوته صلدًا وغير ودي:
-إنتي فين؟
نظرت إلى شقيقتها الصغرى بتوترٍ، وأجابته بهدوءٍ:
-في السوبر ماركت، بجيب بقالة، وشوية طلبات نقصاني.
أمرها في جديةٍ:
-طيب افتحي الكاميرا.
تصلب بدنها، وسكتت لهنيهة قبل أن تخبره كذبًا:
-مش معايا نت، الباقة عايزة تتجدد.
بدت حجتها مقنعة نوعًا ما، فتنفست الصعداء لأنه لم يصر عليها، وإلا لوقت في مأزق كبير، سمعته يسألها:
-ماشي قدامك أد إيه وتطلعي البيت؟
أجابته في الحال رغم عدم يقينها من حدوث ذلك:
-ربع ساعة بالكتير.
قال بعدها بلهجته الآمرة:
-كلميني أول ما توصلني.
ردت في طاعة، وكالعادة:
-حاضر.
انتهت مكالمته، ودقات قلبها تكاد تصم أذنيها من فرط خوفها، لتهتف بعدها في غير تصديقٍ:
-الحمدلله، قلبي وقع في رجليا، كنت خايفة لأحسن يعرف إني هنا.
بدت “دليلة” منزعجة من الأمر، وسألتها:
-وهو إيه اللي مضايقه إنك تيجي عندنا؟
حاولت اختلاق الأعذار له، ودافعت عنه:
-لسه مش واخد على الوضع الجديد.
لوت ثغرها معقبة باستهجانٍ:
-تقولش أخدين أمير الأمراء، ما احنا عارفين حاله وماله!
في نبرة أقرب للرجاء طلبت منها:
-مش وقته يا “دليلة”، خلينا نشوف تاكسي يروحني.
…………………………………..
ما زالت نظراته مثبتة عليهما، أو تحديدًا على حقيبة اليد المنتفخة التي تعلقها إحداهما على ذراعها بإهمالٍ، كانت بالنسبة له غنيمة سهل الاصطياد، فقط إن تصرف بمهارة، واختطفها منها في لمح البصر، وما زاد من رغبته تلك رؤيته لهاتفها المحمول الذي ألقته بداخلها، حتمًا سيجني حفنة لا بأس بها من النقود حينما يبيعه. تصلب في جلسته، وبدا مستعدًا لتنفيذ خطته التي رسمها في عجالةٍ.
هتف في انتشاءٍ، وهذه اللمعة الخبيثة تصدح في عينيه:
-شكلها هتحلو معاك.
نهض “سِنجة” من على كرسيه، وسار تجاه دراجتـــه النـــارية، أدارها بعدما ركب فوقها، والتف بها من طريق جانبي ليصبح على مقربة أكثر من ضحيته الجديدة، وراح ينتظر لحظته المناسبة للانقضاض على الحقيبة واختطافها.
لم تبدُ “إيمان” منتبهة لمن يراقبها خلسة، كانت مشغولة بالبحث عن سيارة أجرة تعيدها إلى بيتها، وبدأت تظهر تبرمها:
-مش معقولة مافيش عربيات هنا.
بشكل عفوي التفتت بنظرها للجانب عندما سمعت صوت الدراجة النـــارية يقترب منها، وقبل أن تفهم ما الذي يدور، انتُزِعت حقيبتها من يدها، فتمزق حاملها الجلدي، وشعرت بألم عظيم في عظام ذراعها، لتنطلق منها صرخة مفزوعة.
تداركت “دليلة” ما حدث للتو، وأمسكت بشقيقتها قبل أن تنكفئ على وجهها مرددة بصــــراخ:
-الحقونا يا نـــاس، حـــــرامي ……………………….. !!!