رواية حان الوصال بهجة ورياض من الفصل الاول للاخير بقلم امل نصر
رواية حان الوصال بهجة ورياض من الفصل الاول للاخير هى رواية من كتابة امل نصر رواية حان الوصال بهجة ورياض من الفصل الاول للاخير صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية حان الوصال بهجة ورياض من الفصل الاول للاخير حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية حان الوصال بهجة ورياض من الفصل الاول للاخير
رواية حان الوصال بهجة ورياض من الفصل الاول للاخير
ما بعد الفجر وقبل الصباح، ذاك الوقت الفاصل ما بين ظلام الليل وشروق الشمس، هذا هو وقتها، الذي تجد فيه سكينتها، تصلي الفجر ثم تقف في شرفتها تتمتع بالنسمات العليلة مع الهدوء الذي يعم المنطقة الا من بعض الاصوات القليلة للمارة الذاهبين الى شئونهم، ان كان الى عمل او شيء آخر.
تتأمل المباني حولها وتراقب انقشاع الظلام رويدا رويدا حتى تحط الشمس بضيائها وتزين الأرض.
تتنفس هواء نقيًا، بعيدا عن الصخب والمسؤوليات المعلقة في رقبتها.
بهجة…. هذا اسمها وياليتها نالت حظها منه، او ربما كانت تناله قديما ، قبل ان ينكسر ظهرها بموت الاب، الذي كان سندها رغم طيبته الشديدة والتي كانت تصل الى حد السذاجة في بعض الأحيان ، ولكنه كان حنونا ورؤوفا بها، لم يقصر ابدا في واجباته، او يتزوج بأخرى بعد وفاة الأم في ولادة اصغر أبناءه عائشة
لتحمل بهجة المسؤولية معه منذ الصغر ، ثم تتولاها كاملة بعد وفاته في حادث سيارة غادر، لم يعرف أحد بالسائق المتهور الذي دهسه اثناء ذهابه للعمل.
وتبدأ هي مرحلة جديدة تفصلها تماما عن السابق من عمرها، حيث اكتشاف الغدر من اقرب الأشخاص اليها، وانقشاع الغمامة التي كانت تعصب عينيها عن معرفتهم الحقيقية ونفوسهم السوداء، تبًا لتلك الطيبة التي ورثتها عن والدها، وقد كانت من أهم اسباب قهرها في كثير من الأحيان، حتى اشتدت عظامها ونضجت مع مرارة الأيام.
– يا بهجة يا بهجة، انا صحيت يا جميل، فين الفطار؟
كان هذا الصوت المميز لشقيقها، بنبرة خشنة اكتسبها حديثًا مع بدء بلوغه لمرحلة الرجولة رغم صغر سنه.
تحركت لتخرج اليه من غرفتها تهتف بردها:
– حالا يكون جاهز يا سيادة الدكتور المستقبلي، على ما تكون غسلت وشك وصليت الصبح
بعد مدة من الوقت
وقد استيقظ الجميع لتناول الفطور مع بهجة التي اعدته كالعادة قبل ان ترتدي ملابس الخروج للعمل ، وهي الاَن في انتظار البقية لتخرج أخرهم.
خرج شقيقها ايهاب من غرفته اثناء تصفيفها هي لشعر شقيقتها الصغرى، يهديها قبلة قي الهواء وهو في طريقه للذهاب من المنزل:
– سلام يا بيبو ، اركِ اليوم حين اعود .
ضحكت مرددة خلفه:
– ترجع بألف سلامة يا قلب بيبو
بعث لها قبلة اخيرة، ثم اندفع مغادرًا، لتعود هي الى حديث شقيقتها الثرثارة:
– والله زي ما بقولك كدة يا بيبو، بنت عمك كانت رايحة جاية تتقصع قدام شادي وتلاغيه بالكلام قدام خطيبته صبا لحد ما كشرتلها وكانت عايزة تفط في كرشها.
– تفط في كرشها كمان، ياه على الفاظك يا ست عائشة، بتجيبيها منين دي يا بت.؟
– من الشارع ههه
تمتمت بها عائشة ردا على شقيقتها، لتتبادلا المزاح لحظات حتى انتهت من عمل ضفيرتين لها، لتتركها بعد ذلك تنظم حقيبتها والجدول الدراسي، ثم تأخذها وتذهب بها،
وقبل كل ذلك، دلفت بهجة لغرفة شقيقتها الوسطى جنات، والتي استيقظت لها فور دخولها تستقبلها
– صاحية يا بيبو اطمني.
– ولما انتي صاحية مبتقوميش ليه؟
تمتمت بها بهجة تضربها بخفة بالمنشفة القطنية، فضحت لها جنات تقول باستسلام:
– بريح شوية يا ست، لسة راسي تقيلة .
كرمشت بهجة ملامحها بامتعاض مزيف، لتخرج من حقيبتها الصغيرة عدد من الاوراق المالية تعطيهم لها:
– طب خدي يا ختي المصروف على ما رفعتي راسك التقيلة من ع المخدة وقومتي.
– من ايد ما نعدمها يارب.
قالتها جنات وهي تقبلهم برضا، لتتوقف شقيقتها بتأثر،
لهذه الكلمات البسيطة التي تتلقاها من اخوتها، فتزيح عن كاهلها المشقات وعلقم الأيام الذي تتجرعه في عملها والتعامل مع غابة البشر ، فتهون عليها الصبر والتضحية من اجلهم .
استدركت فجأة قبل ان تتحرك ، لتسألها بتذكر:
– استني يا هنا ، هو انتي مش عندك برضوا مصاريف جامعة والكارنيه بتاع الطلبة.
تغضنت ملامح جنات بحرج لتعتدل بجذعها قائلة بتهوين:
– مااا مش مهم بقى الكارنيه والحاجات دي ، انا بحاول اتصرف واخش سرقة مع البنات ، وان كان ع الكتب برضوا تدبر ان شاء الله.
ابتعلت بهجة غصة مؤلمة بحلقها، للإحساس العجز الذي يتملكها في كل مرة لا تقدر على سد احتياجات اشقائها، وخجلهم الدائم بأن لا يزيدو عليها من الهموم.
لتتنهد رافعة ذقنها بابتسامة نحو شقيقتها:
– وتدخلي سرقة ليه ولا تحتاجي للسلف من اصحابك الكتب ؟ انا هدبرهم في اقرب وقت أن شاء الله، وانتي متخبيش عني تاني حاجات مهمة زي دي، دا مستقبلك يعني مينفعش التقصير فيه، ولا انك تعرضي نفسك للاحراج او الإهانة من حرس الجامعة لو اتقفشتي من غير كارنيه، سامعاني.
اومأت جنات بطاعة رغم الحزن الذي يتملكها في كل مرة تزيد بمتطلباتها على شقيقتها الحنون، والتي تضحي بزهرة شبابها من اجلهم ، وحلم الزواج كباقي الفتيات من عمرها قد تبخر ادراج الهواء، بعد صدمتها وتطليقها من ابن عمها الخسيس قبل ان يتم فرحه عليها او يتزوجها، صاغرا لأمر والدته المتجبرة، والتي لم يكف اذاها لهم حتى الاَن.
❈-❈-❈
بعد قليل
كان خروج بهجة من شقتهم في تلك البناية المكونة من أربعة طوابق، يسكن الطابق الارضي الحاجة صبرية مالكة المنزل، وفي الطابق الثاني خميس الراوي وعائلته، اما الثالث فذلك مسكن بهجة واشقائها بعد وفاة الوالد ، فيتبقى الرابع وذلك الذي بني حديثًا منذ سنوات قليلة، ليكون شقة الزوجية لسمير ابن خميس الرواي وابن عم بهجة الذي كانت على وشك الزواج به لولا موت الوالد وما حدث من مشاكل بعدها افسدت كل شيء حتى حدث وانفصل عنها، رغم عقد قرانه به لأكثر من شهور، ليتزوج بأخرى، وتنفض هي عنها فكرة الزواج على الإطلاق، لتقوم على تربية اخوتها ورعايتهم حتى تطمئن عليهم، وقد ساهم هو بغبائه في تأصيل القرار داخلها بعدما رأت منه ومن عائلته خسه ووضاعة جعلتها تفقد الثقة في جميع الرجال.
ولكنها جميلة وليست كامرأة عادية، تمر امام الخلق فتلفت ابصار الجميع نحوها، حتى وهي تتعمد عدم الاهتمام وارتداء الملابس الواسعة التي تفتقر للأناقة،
ولف الطرحة حول وجهها دون نظام، ولكن منذ متى نجحت التغطيه في اخفاء جمال امرأة؟ خصوصا اذا امتلكت الروح الجميلة معها.
نزلت الدرج خلف شقيقتها الصغيرة ، لتفاجأ به كعادته مؤخرًا، يقف في انتظارها، يدعي الانشغال بالهاتف كحجة يستخدمها دائمًا، وعيناه تطالعها بلوعة، يتحرق للحديث معها ، حتى وهو لا يجد منها غير الصد والتجهم ، ونظرة الازدراء، ولكن الشوق يقتله، ولكن نظرة هذه الصغيرة التي كانت رافعة حاجبها بشر، تجعله يعيد النظر، فكم من مرة جلدته بلسانها اللازع، فيتراجع بخزي، لا يعلم من اين تأتي بهذه الجرأة والجبروت رغم سنوات عمرها التي لا تتعدى الحادية عشر
– ما تيلا بقى يا بيبة، عايزين نخرج من العمارة اللي حررت دي على اول الصبح، والجو فيها بقى ملزق.
كبتت بهجة ابتسامتها بصعوبة، لتواصل السير مع هذه الملعونة الصغيرة، ولسانها الذي ليس ظابط ولا رابط.
اما عنه، فقد تسمر للحظات يكتنفه الذهول، انها سبته بدون حتى ان يتكلم ويأخذ فرصته .
واصلتا الفتاتان سيرهما، في طريق الحارة الشعبية التي نشأن بها، وجاء الدور الاَن في المرور على الوكالة التي كان ابيها شريكًا بها، قبل ان يتوفى، ثم استولي عليها عمها خميس بالحيلة والخداع، مستغلا طيبة شقيقه الفقيد، لأنه لم يفعل حساب هذا اليوم،
تنهدت بحسرة، فلو استمر فقط نصيبهم في هذه الوكالة، لكان وفر عليها المشقة والمذلة في اعمال تسحق كرامتها في بعض الأحيان من اجل اخوتها.
كان في هذا الوقت يتشاجر مع احد الزبائن ويصيح بصوته الجهوري به، لتغمغم هي داخلها:
– صوتك ميطلعش غير برا البيت، انما عند درية المستقوية، حتى عينك متقدرش ترفعها فيها.
تنهدت بيأس لتنفض عن رأسها الفكر المرهق،، وتلتف للأمام، ولكن ابصارها اصطدمت بالضلع الثالث من هذه الأسرة التي تحاصرها من جميع الزويا.
– يوووه علينا ، هيهل علينا دلوقتي ويقول اوصلكم.
خرجت من شقيقتها، وكأنها تقرأ افكارها، لتبزغ ابتسامتها فور ان اقترب منهم سامر عارضا بالفعل:
– صباح الخير على احلى عرايس، متيجو اوصلكم في طريقي.
عبست عائشة تكور شفتيها بضيق لا تخفيه، لتتسع الابتسامة على وجه بهجة، فترفض بزوق:
– تشكر يا سامر، بس انت عارفنا بنحب ناخدها كعابي .
شجعته ابتسامتها الا يستلم متابعًا؛
– يا ستي عارف، بس انا نفسي في مرة تعملوها وتجبروا بخاطري.
هذه المرة جاء الرد من عائشة التي لم تقوى على الصمت اكثر من ذلك:
– يا عم اجبر بخاطرنا احنا وعدينا، المدرسة هتفوتني.
اكتنفه الحرج ليعبر بعتاب ومزاح:
– يا نهار أبيض على لسانك يا عائشة ميفضلش في بوقك نهائي، اتفضلي يا ستي وحصلي مدرستك.
أومأت بهجة تكتم ضحكتها، وصارت عائشة معها تهديه ابتسامة صفراء، لتواصل بعد ذلك المرور مع شقيقتها نحو وجهتهم.
❈-❈-❈
وفي مكان اخر
حيث الهدوء الذي يعم الأنحاء، في ذاك المسكن الخاص به ، رجل الاعمال رياض الحكيم، وقد استيقظ في ميعاده الصباحي الساعة الثامنة، دون الاحتياج لمنبه او مساعدة من بشر، وكأن الساعة برأسه، يسير بنظام لا يحيد عنه ابدا .
يستيقظ على ميعاده في الثامنة ، يأخذ حمامه الصباحي ، يتناول وجبة الافطار سريعًا، ثم يرتشف القهوة بداخل غرفة مكتبه، حيث يراجع بعجالة على بعض الملفات قبل الذهاب الي العمل، ورغم امتلاكه لصالة للالعاب الا انه لا يدخلها الا مساءًا بعد ان ينتهي من جميع اعماله، ويطمئن على سير العمل بكل دقة.
عملي لدرجة الجمود احيانا والصلف احيانا، لديه اصرار دائم على النجاح بكافة الصور، ولذلك لم يكن غريبًا ان يتشارك العمل مع رجل مقارب لشخصيته وقد عرفه عليه ابن خالته، عدي عزام قبل ان يستقر بتركيا مع زوجته، يراعي مصالح العائلة وينوب عن شقيقه مصطفي صاحب اكبر راس مال في المنطقة.
في هذا الوقت كان يجري مكالمته التليفونية بغرفة المكتب:
– ايوة يا كارم…….. لا انا معاك يا باشا، قريت دراسة الجدوى وشجعتني اوي عشان اغامر معاك…….. طبعا مغامرة، ومش اي حاجة كمان، بس انا واثق في قدراتك، ومعاك ياااا…… ثوانى
قطع فجأة ينهض عن مقعده بالانتباه الى شيء ما، وقد ارتكزت ابصاره لما خلف زجاج مكتبه، وبالقرب من حوض السباحة، لينهي المكالمة على عجالة:
– كارم هكلمك بعدين.
اغلق على الفور وركض ليلحق قبل ان تأتيه كارثة، خرج اليها، ليرى سبب تعاسته ومشكلته الابدية، تجلس على حافة الحوض الرخامية، تطوح قدميها في المياه باستمتاع، ليكز على اسنانه بغيظ مكتوم، ثم صاح بصوته الجهوري، جعلها تنتفض له:
– يا نبوية ، انتي يا للي اسمك نبوية.
اتت المرأة مهرولة على صيحته، مرددة بإذغان وخوف:
– نعم يا باشا نعم، تؤمر بأيه.
اومأ لها بعيناه لتفهم على الفور فتذهب سريعًا نحو المرأة:
– يا نهار اسود، انتي ايه اللي جابك هنا؟ ولحقتي امتى تخرجي من الاوضة؟ قومي معايا يا ست هانم قومي.
حاولت المرأة الستينية الاعتراض ولكن نبوية بخبرتها استطاعت مهادنتها، لتنهض معها مستجيبة لسحبها وفور ان اقتربت من رياض بررت بأسف:
– سامحني يا بيه، بس انا والله يدوب رديت ع بنتي في مكالمة التليفون، مش فاهمة ساهتني وخرجت امتى؟ .
مد بطول ذراعه امامها كي تذهب بعدم تقبل لعذرها، لتنصاع نبوية لأمره بأسف وتتحرك لتذهب فخرج صوت المرأة الأخرى بعدم اتزان:
– انت شبهه، شبهه.
امتقعت ملامحه بشدة، واحمرت عيناه بخطر جعل نبوية تسرع هاربة بها من العقاب ، ليزفر هو انفاس بحريق ما يشتعل بداخله، وقد فهم على قولها، انها تكرر نفس القول، حتى وعقلها قد ذهب منها، تذكره دائمًا بأبشغ صفة يكرهها، وهو الشبه الكبير بينه وبين والده، الذي كان السبب هو الرئيسي في جنونها، جنون والدته التي احبت رجلا بكل كيانها لدرجة الهوس رغم كل افعاله الخسيسة معها، ثم كانت صدمتها به اكبر من ان يتحملها عقلها .
بعد قليل .
كان قد انتهي من عمله السريع بغرفة المكتب، ليرتدي سترته في طريقه للخروج، فركضت خلفه نبوية توقفه بندائها:
– رياض باشا، يا رياض باشا، دقيقة من وقتك معلش.
توقف يطالعها بأسفل عينيه بجمود لم يؤثر بها، فهي تعلم تمام العلم انه سيأخذ وقته ثم يصفى لها كالعادة، لذلك تجرأت تفاتحه بطلبها على الفور
– سامحني يا باشا، بس انا كلمتك كذا مرة وانت شكلك بتنسى،
تنهد بسأم يقلب عيناه بتفكير مرهق وقد فهم مقصدها، وهذا من اصعب الاشياء على قلبه،
استرسلت نبوية امام صمت الاخر باعتقادها انه قد نسي بالفعل:
– يا سعادة الباشا انا كنت طلبت منك حد يساعدني الفترة الجاية عشان بنتي اللي رجعت من سفرها، انا بروح البيت مهدودة مبلحقش اقعد معاها ولا اتهنى بأحفادي منها.
اومأ بأنفاس خشنة:
– حاضر، حاضر يا دادة، هحاول اتصرفلك في واحدة، بس انتي عارفة اني دي من اصعب المشاكل بالنسبالي، مش كل الناس امينة زيك.
– تشكر يا باشا دا من زوقك.
رددت بها بامتنان لاطراءه، ليرتدي هو نظارته الشمسية، ويتحرك للذهاب فورًا نحو اعماله.
❈-❈-❈
والى هذا العاشق الساخط، وقد كان واقفًا يستند على سيارته، يطالع ساعة يده كل لحظات قليلة، فيزفر بضيق لهذا التأخير الملازم لها ، في كل مرة يذهب بها الى مقر عملهم،
ليغمغم داخله بالتوعد لها، حتى تكف عن هذه العادة التي تفقده اعصابه، فهو المعتاد دائمًا على الانجاز والسرعة، يأتي عليه الوقت الاَن ليقف في الشمس منتظرا بالنصف ساعة لهذه ال……..
توقف سيل تفكيره، فور ان ابصرها، تطل من مدخل البناية بابتسامة قادرة على ان ترديه قتيلا، تقترب منه بملابسها الفضفاضة، ترتدي الحجاب الكبير ، ومع ذلك تبقى فتنة متحركة، كيف يستطيع التماسك امام سحرها؟ او منع نفسه ان يسحقها الاَن بضمها بين ذراعيه؟ لقد طال انتظاره ولم تعد به طاقة للتحمل.
عند هذا الخاطر، اشتدت ملامحه، ليرسم الجمود امامها، حتى اذا تلقى تحيتها:
– صباح الفل .
– صباح النور مكنتي استنيتي ساعة ولا ساعتين تاني.
تهكم بها ، ليفتخ لها باب السيارة ، ثم يلتف هو للجهة الاخرى، فيتخذ مقعده خلف عجلة القيادة
وتجلس هي بجواره تشاكسه كعادتها:
– كان نفسي يا مستر شادي، بس انا الصراحه خوفت على خطيبي من حرجة الشمس.
مال برأسه ساخرا نحوها، ويداه تدير المحرك
– لا يا شيخة هامك اوي خطيبك، صدقت انا !
– ويعني متصدجش ليه بس؟ هكون بهزر ولا بتمسخر مثلًا
قالتها بدلال كاد ان يفقده صوابه، ليقبض على عجلة القيادة بقوة، يغمض عيناه ويفتحها سريعًا يلتف نحوها بتحذير:
– لمي نفسك يا صبا وبطلي دلعك ده، انا على اخري، فاهماها دي؟ على اخري…. يعني تنشفي نفسك كدة وتسترجلي قدامي، يا حل وعدي من اتفاق ابوكي واصورلكو قتيل…
توقف برهة ليستطرد بانفعال:
– كان زمانك حامل بابني دلوقتي، لكن اعمل ايه في ابوكي بقى؟ الله يجازيه
ضحكت بصوت مكتوم، تزيد من مناكفته:
– حرام عليك يا شادي تدعي عليه، وافتكر انه مجبركاش على حاجة، هو بس عرض عليك الأمر وانت تبعته بشهامتك.
– متفكرنيش.
هتف بها، ليتابع بتحسر:
– دا انا كل ما افتكر دمي يغلي، طب جدتك ام امك
ماتت والفرح باقي عليه اسبوعين، ابوكي يطلب التأجيل وانا اوافق عشان الشهامة والرجولة، لكن الحداد بقى يستمر لست أشهر، ليه يا عم؟ ابوكي خمني يا صبا وانا لا يمكن انسهاله دي؟
لم تقوى على كبت ضحكاتها اكثر من ذلك، كما تفعل في كل مرة ذكر لها ذلك الامر، والنتيجة كالعادة ازدياد انفعاله، ، ولكنها تعلمت اخماد غضبه بكلماتها المعسولة:
– انت جولتها بنفسك يا شادي، عشان هو عارف بشهامتك ورجولتك، ودي عوايدنا اللي طلعنا عليها، مفيش فرح يتم طول ما في حزن في العيلة، لازم الكل يفرح مع بعض، كيف ما بنشيل الحزن مع بعض.
ارتخت معالمه، رغم الضيق الذي يدعيه، ليرمقها بنظرة طمأنتها ، قبل ان يعقب بتحدي:
– ع العموم هانت، هو شهر واحد بس اللي فاضل، يفوت زي اللي فاتوا وعلى اخر يوم فيه ان شاء الله نكتب الكتاب،واليوم اللي بعده الفرح على طول، مش هستني دقيقة تاني مهما حصل يا صبا .
– يا سيدي ربنا يمنع الموانع
– ياااارب.
خرجت منه بحرقة اثرت بها، لتغير دفة الحديث بالدخول في موضوع اخر:
– انا كلمت ابويا بخصوص اسبوع ابن رحمة بكرة
– امممم
زام بفمه بترقب لردها، والذي أتى مثلجًا له:
– طبعا وافق، وجالي روحي يا بتي، دا خطيبك دا زينة الرجال.
هذه المرة البسمة لاخت على محياه ليعلق بحيرة:
– ابوكي دا بمية حال يا صبا، يعقدها من ناحية ويوسعها من ناحية تانية، كأنه قاصد يشلني.
وكأن ردها الضحك بدون توقف.
❈-❈-❈
عودة الى بهجة والتي فور ان حطت قدميها بذاك المصنع محل عملها، توجهت على الفور الى رئيستها، مدام صباح، تلك المرأة التي تكن لها كل الاحترام والتقدير، رغم عصبيتها المرافقة لها على الدوام ، ولكن قلبها الطيب هو الغالب، وهذا ما شجعها في طلبها .
– يا ست الريسة، بقولك محتاجة السلفة ضروري، ياريت توصليها النهاردة او دلوقتي لمديرة القسم هنا.
بأعين ضاقت بريبة:
– ومدخليها انتي يا بهجة، ليه مصرة تحشريني حتى في دي.
اجابتها سريعًا وبعفويتها المعتادة:
– بصراحة خايفة منها لترفضني، ما انتي عارفاها ست رافعة مناخيرها في السما ومحدش بيعرف يتكلم معاها، وانا خلقي في مناخيري بصراحة، دي بتخليني اكرر في اسمي كذة مرة عشان تعرفني،
ضاقت عيني صباح نردد باستنكار:
– وعشان كدة بقى بتصدريني انا اتحمل عنجهيتها وكبرها، يا حلاوة عليكي وكمان بتقولهالي في وشي.
تبسمت بهجة بحرج، لتردف بتملق اصبحت تجيده معها هذه الايام:
– ما انتي أكيد بتعملك حساب يا ست الكل،،هو انا في مقامك برضو، عشان خاطري يا ست الريسة، اختي بقالها شهر دخلت الجامعة ولحد دلوقتي لا عارفة تخش كويس من غير كارنيه الطلاب، ولا عارفة تجيب الكتب ومرتب المصنع هنا على ايدك، بيضع كله على مصاريف البيت
اخرجت صباح تنهيدة متعبة تتناول منها الطلب، بوجه تدعي به الجمود، لكن من داخلها، قلبها يقطر ألمًا على حال هذه المسكينة التي تتحمل ما يفوق طاقتها، من اجل رفعة مستقبل اخوتها، على حساب شبابها وجمالها، وسنوات العمر التي تمر مرور المياه بين اصابع اليد.
– خلاص يا بهجة، هشوف موضوعك واللي فيه الخير يقدمه ربنا
– ونعم بالله .
❈-❈-❈
بنصف يوم العمل تشجعت صباح لتذهب إلى هذه المتعجرفة، والطلب في يدها، وكما توقعت تجاهل كالعادة ولكن هذه المرة يزيد عن الطبيعي، في مراجعة الملفات، والتحدث كل دقيقة عبر الهاتف:
– ايوة يا ميمي اخلص بس شغلي ونتقابل على ميعادنا….. لا بقى متسألنيش عن الوقت انتي عارفة بقى مواعيد رياض باشا….. ماشي هحاول متأخرش.
انهت المكالمة ثم القت نظرة سريعة نحو صباح قبل ان تعود لأوراقها:
– قولتلي بقى عايزة ايه يا صباح؟
زمت المرأة شفتيها بضيق لتعاود الكرة في سرد طلبها:
– يا لورا هانم، انا جيبالك طلب السلفة ده عشان تمضيه ، مش هتعب راسك بأي حاجة تاني.
زفرت الاخيرة تصفق بيدها على الاوراق ، لتتناول هذا الطلب وكي تتخلص من ثرثتها، ولكن وما ان وقعت عيناها على الاسم حتى ضيقت عيناها بتذكر تسألها:
– مش بهجة دي برضوا اللي مضيتلها نفس الطلب، من يجي شهرين؟
على الفور بررت لها صباح:
– ايوة سيادتك بس هي اتعذرت من تاني ودي مسكينة وبتسعى على اخواتها، دا انا لو رئيس المصنع اديها مساعدة من عندي.
ضحكة مكتومة صدرت من لورا لتردد بسخرية:
– واخدة راحتك اوي انتي يا صباح، بس يا حبيبتي دي مش تكية ، دا مصنع ماشي بالساعة وهي تبوس ايدها وش وضهر انها شغالة وبتاكل لقمة عيشها منه، اما عن السلفة، ف انا اسفة ابلغك ، ان طلبها مرفوض حسب قوانين العمل هنا .
واصلت صباح باستجداء :
– يا لورا هانم انا بقول استثناء، اعتبروها حالة انسانية، البنت هالكة نفسها والله وبرضوا مش مكفية مصاريف خواتها
قلبت لورا عيناها، لتزفر بسأم اشعر الاخرى باليأس وقبل ان تعطيها ردها النهائي، تسلل لأنفها رائحة العطر القوية التي تعلمها ، لتنتفض عن مقعدها وتعدل هندام ملابسها، ثم تنثر بخصلات الشعر الكثيف المموج على جانبي رأسها على عجالة، ليعطيها مظهرا جذابا يرضيها، أمام دهشة صباح التي لم تعد تشعر بوجودها من الأساس، حتى اذا دلف بهيبته زادت سرعة الدقات في صدرها، تستقبله بلهفة:
– صباح الفل يا رياض باشا.
– صباح الخير يا نورا.
قالها بجموده المعروف، ليدخل غرفة مكتبه ، فتتبعه هي بتناول الملفات المطلوبة ، وتتذكر صباح فتصرفها بقولها:
– روحي انتي دلوقتي يا صباح شوفي شغلك.
همت المذكورة ان تسألها عن ردها الاخير، ولكن الاخرى لم تعطيها فرصة، وقد سبقتها في الدخول الى مكتب رئيسها.
❈-❈-❈
وبداخل المكتب ، وقفت في انتظار انتهائه من المراجعة والتوقيع على الملفات المطلوبة منه، لتأخذ هي فرصتها بتأمله، وهذه الجاذبية الكامنة في جموده الذي يقارب البرود،
كم من مرة تمنت ان ينظر اليها ويلتفت الى هيئتها المتجددة على الدوام، انها لا تدخر جهدا في هذا الشأن حتى تلفت انتباهه، ترى الاعجاب من الجميع الا هو.
وحتى وبرغم صلة القرية التي تجمعهما، تظل معاملته بحدود حتى لا يزرع داخلها العشم، ولو بغير قصد، قلبه كجدران محصنة، لا يستطيع احد اختراقها .
– لورا
اتت صيحته القوية تخطفها من سيل افكارها، لتنتبه وتعتذر بأدب:
– اسفة حضرتك، انا معاك اهو.
اعتقدت بأنه انتهى مما يقوم به، ولكنها تفاجأت به متوقف، ويمرر على خده الايسر بتفكير وشرود ، لتتجرأ وتسأله:
– حضرتك لو في مشكلة انا تحت أمرك.
التف لها بعينيه البندقية التي لطالما افقدتها صوابها، يقول بعتب :
– انا فعلا عندي مشكلة، كنت كلمتك عنها قبل كدة وانتي شكلك مهتمتيش.
اشارت على نفسها بجزع:
– انا ساعدتك، معقول! انا يستحيل منفذش امرك في طلب كلمتني فيه.
مالت رأسه نحوها بشيء من سخرية:
– وجليسة الست الوالدة اللي كلمتك عنها
توقف فاهها مفتوح للحظات قصيرة تذكرت بها الطلب الذي كان منذ الشهر، لتتحمحم، مبررة بحرج:
– انا اسفة يا فندم اني خذلتك فيها دي، بس انا والله عملت جهدي في البحث في كل المكاتب المشهورة، عمالة ادور ع اللي تليق بدخول القصر عندك ، وتتحمل ااا اسفة يعني… الست الوالدة
عند هذه النقطة اشاح عيناه بضيق انتبهت عليه، فواصلت بدفاعها:
– عملت مقابلة مع يجي عشرين واحدة، وانا احاول اجمع فيهم الصفات المطلوبة، انها تكون نضيفة، ومتفهمة وامينة، وعندها قدرة على الصبر زي نبوية بس للأسف كنت دايما بفشل في البحث، او اللي اكلمها عن الحالة، هي نفسها ترفض.
قالت الأخيرة بصوت خفيض، زاد من ثقل ما يحمله بداخله، يعلم انها مشكلة تقارب المعضلة، ف العثور على واحدة مثل نبوية يعتبر دربًا من المستحيل في هذا الوقت، ولكن المرأة تتحمل فوق طاقتها وحتى وهو يغدق عليها بالأموال بغير حساب، ولكنها في الاخير بشر ولها قدرة على التحمل.
ليوميء بتهكم:
– خلاص يا لورا، افضي انا وادور بنفسى، او اخدلي اجازة من الشغل بالمرة، مدام مش لاقي اللي يسد ورايا
قصد بكلماته ان يحفز روح التحدي بداخلها، وهو ما أتى بنتائجه على الفور:
– لا طبعا حضرتك، انا من النهاردة، مش هنام ولا هريح دقيقة حتى غير لما الاقي طلبك.
تبسم بخبث وقد وصل لغرضه:
– وانا واثق فيكي يا لورا ، وطبعا مش هوصيكي انه يبقى في اسرع وقت
❈-❈-❈
بعد دقائق خرجت لورا تغلق باب المكتب من الخارج، تزفر انفاسها بتعب، بعدما كبلت نفسها بهذه المهمة الثقيلة، تعلم ما ينتظرها من مشقة في البحث، وجدولها من الأساس مزدحم هذه الأيام، استعداد لفرح صديقتها الاقرب ميمي
لتتوسع حدقتيها باستغراب، حينما وجدت صباح مازالت في انتظارها ولم تغادر، فسقطت على كرسبها بإرهاق سائلة لها:
– انتي لسة قاعدة مكانك وممشتيش يا صباح
جاء جواب الاخرى:
– ما انتي مردتيش عليا يا لورا هانم، وانا بصراحة عشمانة في مرؤتك، بهجة دي من احسن العمال عندنا ، بتشتغل ورديتين وتهلك نفسها عشان تكفي مصاريف اخواتها
اعتدلت لورا بتركيز وقد استرعت انتباهاها ، فتجاريها لمعرفة المزيد عنها:
– وانتي متشددالها اوي كدة ليه؟، لدرجادي البنت هماكي.
– طبعا يا لورا هانم، دي زينة البنات والله وحرام فيها البهدلة، طب اقولك بقى هي تقدر تتجوز من بكرة، عمال كتير زمايلها وموظفين هنا كلموني عنها، لكن هي ابدا، مصرة تكمل تعليم اخواتها وحارمة نفسها حتى من الهدمة الكويسة. صابرة ع المر وراضية ، بس ياريت الناس ترحمها.
– اممم
زامت بفمها تتراجع بجلستها، وتريح ظهرها بتفكير ، ظل لمدة من اللحظات حتى حسمت امرها قائلة:
– طب مدام انتي واثفة فيها اوي كدة، انا عندي عرض احسن من السلفة مية مرة .
تهللت اسارير صباح تسألها بلهفة:
– ايه هو يا لورا هانم؟ قولي ربنا يعمر بيتك يارب .
❈-❈-❈
– جليسة، اشتغل جليسة في بيت راجل غريب يا ابلة صباح، معقول!
تفوهت بهجة بالكلمات اثناء جلوسها مع المذكورة في وقت استراحة العمال، بجلستها معها على طاولة وحدهم ، تتناول الغذاء بعدد من الشطائر التي تعدهم في المنزل ، حتى لا تزيد عليها التكلفة بشرائهم من كافتيريا المصنع،
ردت الأخيرة والتي كانت متوقفة عن الطعام بقلق داخلها:
– ويعني هو هيشوفك فين؟ دا طول الوقت برا اساسا ، انا اعرف ان الفيلا بتاعته مفيهاش تقريبا غيرها هي الهانم دي، والباقي هما الخدم والحراس ، وتلت اربع ساعات في مبلغ زي ده، فرصة ما تتعوضتش، المشكلة بس…..
– بس ايه؟
زفرت صباح بضيق تجيبها:
– شوفي يا بهجة انا هقولك ع الوضع كله، واشرحلك حالة الست بالظبط، على حسب اللي سمعته، لأن لورا اكيد مبتقولش الحقيقة كاملة، عن الست اللي هتعاشريها لو حصل ووافقتي
❈-❈-❈
مساءًا ،وفي الثامنة بعد المغرب، هذا وقت عودتها من العمل في مصنع الملابس الجاهزة، والذي يعلم عنوانه جيدا ويعلم بوقت خروجها منه، فيأخذ جلسته في شرفة شقته ، ينتظر ان تهل عليه من مطلع الشارع المكشوف امامه.
سمع تأوه من الخلف وخطوات عرف صاحبتها، والتي ما ان اقتربت منه وجهت حديثها اللازع اليه:
– قاعد في البلكونة ليه يا سمير؟ ما تدخل جوا يا حبيبي تحت التكيف، دي حتي القعدة هنا متعبة وتوجع القلب
حرك رأسه بنصف التفافة، رافعًا حاجبه الايسر ليطالعها بطرف عيناه قائلًا بشر:
– خليكي في حالك يا اسراء ومتدخليش في اللي ملكيش فيه، انا اقعد في الحتة اللي تريحني.
بقلب يحترق تطلعت لما اشتدت رأسه وتركزت ابصاره عليه اول الشارع، بعودة المقصودة تتأبط ذراع شقيقها بمحبة تثير الحسد نحوهما من المحرومين مثلها، لتعبر عن حنقها بقهر
– وانا مين يريحني، تعبانة ليل نهار، شغل هنا وشغل تحت عندك اهلك، واختك البرنسيسة قاعدة غير للزواق والدلع، وطبعا مينفعش ارفع عيني فيها، لا الست والدتك تعلقلقي الفلكة وتتهمني اني بغير منها، وانت سواء هنا او هناك في الحالتين مش معايا.
لم يعيرها اهتماما وانتظر بهجة حتى اختفت بداخل البناية ثم رد بعدم اكتراث:
– والله انا كدة ومش هتغير يا بنت الناس، عاجبك ولا مش عاجبك انتي حرة.
انه حتى لا يجاملها بالكذب، يغرز سهام كلماته السامة بنصف صدرها، ولا يكترث لألمها، ياله من ظالم .
– هتفضلي كدة بقى، واقفة فوق دماغي زي صنفور المحطة، اتحركي ياما وهوينا، انا دماغي عايزة الهدوء ومش ناقص.
مطت شفتبها بابتسامة خالية من أي مرح:
– لا وعلى ايه يا سيدي، انا اصلا تعبانة وعايزة ارتاح، يعني مش مشتاقة اوي للقعدة معاك.
قالتها وتحركت ذاهبة ليطالع اثرها بضيق مغمغمًا:
– في داهية يا اختي،
مصمص بشفتيه متذكرا من تحتل احلام يقظته ومنامه:
– الله يسامحك ياما، انتي السبب.
❈-❈-❈
وفي الشقة اسفلهم
دلفت بهجة برفقة شقيقها الذي مازال متمسكُا بها ، مرحبا بأن تستند على كتفه الذي اصبح يشتد هذه الايام رغم نحافته،
– يا هلا يا هلا، الاستاذ ايهاب مع الكبيرة ذات نفسيها، يا دا الهنا يا ولاد.
ضحك شقيقها وجاء الرد من بهجة التي عبرت عن فرحتها:
– الدكتور ايهاب باشا، خلص دروسه وجاه عندي المصنع يروحني معاه، اسكتي يا بت يا جنات ، البنات هناك كانو هيتجننوا على حلاوته وعلى عيونه الخضرا، وانا اقولهم وسعي يا بت وهي، دا ابني حبيبي مش اخويا وبس .
– حبيبتي يا بيبو ، ربنا ما يحرمني منك.
تمتم ايهاب بالكلمات يقبل رأسها بحب، لتعلق جنات بغيرة:
– ايوة يا عم المشاعر الاخوبة الميالغ فيها دي، عايزين ناكل يا حنين، انا قاعدة مستنية بقالي ساعة.
جاء نداء اصغرهم من الداخل هي أيضًا:
– وانا النوم كابس عليا، يعني ممكن انام من غير عشا، ساعتها هيبقى ذنبي في رقبتكم
ولج ثلاثتهم اليها ليجدوها جالسة على المائدة تتناول دون انتظار، ليتمتم ايهاب وهو يسحب احد المقاعد يجلس بجوارها ويشاركها الطعام:
– كل ده وهتنامي من غير عشا يا مفترية، طب سبيلنا حاجة.
انضمت جنات لتشترك معهما، داعيه شقيفتها الكبرى:
– يا للا بسرعة يا بيبو انتي كمان، كيس البانية اللي جايبينوا بالعافيه، هيروح كله في بطون الأوغاد،.
تحركت قدمي بهجة متمتمة لها:
– بالهنا والشفا ليكم انتو التلاتة، انا هروح اغسل ايدي الاول
– خلاص يبقى انا هحتفظ بالطبق لحد ما تيجي.
قالتها جنات ، لتبعد الطبق الكبير بما يحتويه عن متناولهم بالفعل، فتصدر اصوات الاعتراض، مقابل استمتاعها هي بمشاكستهم:
– قولت لا يعني لا يا مفاجيع .
– ويعني انتي اللي عاقلة اوي، دا تلاقيكي واكله نصه اصلا ع البوتجاز.
– برضوا هتصبرو واتفلقوا انتوا الاتنين.
– انتي غلسة اوي يا ست جنات
– ههه عارفة
وقفت بهجة على مدخل غرفتها تتابعهم بشرود، اشقائها الصغار، لم تندم ابدا على تضحياتها من اجلهم ، لأنهم يستحقون مستقبل افضل من مستقبلها ، حظا افضل من حظها البائس
ولكن قلة الحيلة والعجز عن تحقيق الحد الأدنى لمتطلباتهم، يصيب قلبها بالحزن، ترى ما السبيل الاُن؟ اتوافق على العرض المقدم لها بمرافقة هذه المرأة التي ذهب عقلها بموت زوجها المحبوب واكتشافها لخيانته بعد فوات الاوان، كما اخبرتها رئيستها ام ترفض وتتمسك بأمانها ؟
هذه مشكلة كبيرة ولابد من التفكير بجدية الاَن من اجل اختيار القرار الصائب
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
تمشطها بعيناها من اعلى رأسها حتى قدميها في الأسفل، بنظرات غير مفهومة وكأنها تحمل بغضًا ما ، حتى اثارت استفزاز بهجة لتبادلها باستفهام وحنق، فكادت ان تثور بها لولا تدخل صباح التي اكتنفها التوجس هي الأخرى:
– دي بهجة يا لورا يا هانم، زي ما قولتلك، ولا انتي مخدتيش بالك.
حدجتها المذكورة بغيظ، تعيد برأسها كلمات الأمس عن هذه الفتاة وما تعانيه، حتى جعلتها ترسم بعقلها صورة مخالفة على الإطلاق لما تراه امامها الاَن، هذه الفتاة ترتدي ملابس باهتة وغير مهندمة كما توقعت، ولكن البؤس لم يؤثر ابدا في جمال وجهها الطبيعي، والافت بقوة.
الاَن فقط شعرت بتسرعها واخبار رئيسها بإيجاد الفتاة المناسبة، ليتها تروت قليلًا قبل اخباره.
– انا افتكرتك يا بهجة، بس المشكلة بقى هي اني نسيت اسمك.
ردا عليها، مطت بهجة شفتيها بابتسامة صفراء:
– سبحان الله يا فندم، نفس الأمر عملتيه معايا المرة اللي فاتت وانتي بتمضيلي، كنتي كل دقيقة برضوا تسأليني عن اسمي .
– يمكن عشان مش لايق عليكي؟
قالتها لورا ببساطة، وبغير تقدير لما احدثته بداخل هذه المسكينة والتي اقرت على صحة قولها بصوت متألم:
– عندك حق يا فندم، بس اعمل ايه انا بقى في حظي، كل واحد بياخد نصيبه، وربنا يرحم والدي اللي سماني كدة .
تألمت صباح لوجعها ف التفت نحو الأخرى تخاطبها بحسم:
– لورا هانم، احنا متأخرين على وردية الشغل، ياريت تدخلي معانا مباشر على طول.
امتقعت ملامح الاخيرة، تهم بإخبارها بالرفض، ولكن منعها صوت الهاتف الذي دوي باللحن المميز الذي تضعه لرقمه، جعلها تأجل لحظات كي تجيبه اولا:
– الوو…. يا رياض باشا تحت امرك
وصلها صوته الغاضب:
– أوامر ايه دلوقتي يا لورا؟ ما تخلصينا وتبعتي البنت اللي قولت عليها، انا عايز اشوفها واديها التعليمات بنفسي، عشان اطمن كمان بالمرة واشوفها ان كانت تصلح ولا لأ
ابتلعت بتوتر تجيبه بثقل ، وقد فات اوان التراجع الاَن، بعد غبائها والمدح فيها امامه بالأمس قبل ان تراها وتتذكرها:
– حاضر سيادتك، انا هجيبها واجيلك حالا.
قالت الأخيرة موجها نظرتها نحو بهجة، وفور ان انهت معه، وجهت الحديث بحزم اليها:
– اسمعي اما اقولك، انا هاخدك ونروح الفيلا دلوقتي، حسك عينك ترفعي عينك في وش رياض باشا، تسمعي كلامه عينك تبقى في الأرض، وحاولي دايما تتجنبيه، والمكان اللي يقعد فيه تبعدي انتي خالص عنه.
نبوية هتفهمك وهاتدربك قبل ما تعتمد عليكي،
طول الساعات اللي هتقضيها هناك، قعدتك بس مع نجوان هانم، اياكي تسيبها ولا تخليه يشوف خيالك، يا اما هتبقي انتي الجانية على نفسك
لماذا التهديد والوعيد؟
غضب مفاجيء اعتلى ملامحها لتنقل بنظرة خاطفة نحو رئيستها التي اشارت لها بالتروي، قبل ان تعود إلى الأخرى تهم بالرفض ولكن الحاجة والعوز الجما لسانها، لتكبت بداخلها متمتمة بالاستغفار تدعو الله الصبر، ثم تتبع هذه المجنونة التي لململت متعلقاتها تخبرها على عجالة :
– ورايا على طول عشان اوصلك، عند الباشا اللي منتظرنا
❈-❈-❈
وفي منزله وقد ضاق ذراعًا بتأخر لورا والجليسة الجديدة هذه الدقائق القليلة، رغم استغلاله الوقت في مراجعة احد الملفات، ولكن هذا لا يمنع الضجر من البقاء في هذا المنزل الكئيب، والذي تقريبا يأتي ويخرج منه كرواد الفنادق ساعة النوم والراحة والطعام.
فوالدته العزيزة لا تقصر ابدا بأفعالها حينما تجده امامها.
زفر بحنق ليتناول الهاتف يتصل باحد الارقام عليه:
– الوو يا كارم، قولي ايه الاخبار؟
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي كانت تقلها مع هذه المرأة التي التزمت الصمت، واضعة تركيزها في قيادة السيارة ، ومتابعة الطريق، النظاره على عيناها ، ترديد مع صوت المذياع والاغاني الأجنبية، متجاهلة بهجة، وكأنها ليست معها على الإطلاق،
لتشرد بهجة في التفكير بشأنها، وعقد المقارنة الهائلة بين ما ترتديه من عباءة سوداء باهتة وما ترتديه الأخرى من ماركات باهظة تعلمها جيدا ولكن لا تستطيع حتى الحلم بها، ما أصعبها من مقارنة، حذائها المهتريء مقابل حذاء يلمع كالذهب ، كل شيء بها يثير الحسرة بقلب واحدة مثلها
حرمت من كل تشتهيه الانثى في عمرها، منذ وفاة والدها، وبعد استيلاء عمها على نصيبه في الوكالة ، ليتبقى فقك معاش التأمين والذي لا يكفي حتى الطعام لاربع افراد منهم طفلة تحتاج التغذية حتى تنمو جيدا، عادت برأسها لتنظر من النافذة وتتذكر حديث مر منذ سنة حينما كانت في منزلها في يوم عطلتها الوحيدة
يوم الجمعة
فدوى صوت جرس المنزل، لتسبقها عائشة في فتح الباب ومعرفة الطارق:
– ابلة صفية.
– ازيك يا حلوة يا ام لسان طويل وحشاني.
هللت عائشة بصوت عالي وصل الى شقيقتها:
– ابلة صفية صاحبتك يا بيبة .
اندفعت بهجة بلهفة انستها ما ترتديه، لترحب بصديقتها من الحي المجاور سابقًا، قبل ان تنتقل الأخرى مع اسرتها لمنطقة اخرى ارقى واهم، وذلك بالطبع بعد ان من الله عليهم من فضله .
توقفت في نصف الصالة وقبل ان تصل إليها وتستقبلها، لتبتلع ريقها باضطراب، وقد اجفلت على هيئتها الراقية وتلك الملابس الرسمية لمحامية بعد تخرجها واستلام العمل، هذا الحلم الذي طار ادراج الهواء منها في نصف طريقها اليه .
ليخرج صوتها بحرج:
– اهلا يا صفية، نورتي بيتنا المتواضع.
تبسمت المذكورة بطيبة تعاتبها:
– هو دا سلامك يا خسيسة، كدة من ع الباب.
قالتها واقتربت بخطواتها لتحتضنها بشوق ومحبة اثرت ببهجة، لتغلبها دمعه خائنة هبطت من عيناها، فتلتقطها سريعًا بإبهامها، قبل ان تصل لأعلى كتف الأخرى فتفضح تماسكها الواهي.
وصفية تشدد من احتضانها متمتمة:
‘ وحشتيني اوي يا صاحبتي، انا عارفة اني قصرت في الفترة اللي فاتت، بس ربنا العالم والله، الشغل اصبح واكل كل وقتي تقريبًا
اجادت بهجة رسم ابتسامة زائفة وهي تفلت نفسها عن صديقتها، وتردف هي ايضًا:
– طبعا يستحيل اجيب اللوم عليكي عشان انا كمان مقصرة معاكي ، ما انا برضو الشغل واكل اليوم كله مني
– في مصنع الملابس برضو؟
لهجتها في نطق العبارة تظهر عدم رضاءها على الإطلاق، لتثبت ايضًا بنظرتها السريعة نحو العباءة السمرة التي ترتديها بهجة، بلونها الباهت من كثرة الغسيل..
ثم جلست حتى لا تزيد على المسكينة بدون قصد، متحاشية تكرار هفوتها مرة أخرى:
– طب اسمعيني يا بهجة كدة وركزي معايا، انا بصراحة جاية النهاردة عشان اخد منك شغل ما هو مش معقول يعني ابقى محامية وصاحبتي اقرب واحدة ليا مستنقعش منها
حديثها بتباسط خفف كثيرا عن بهجة وما اكتنفها من مشاعر قاسية في هذه اللحظات القليلة، لتندمج في الأخذ والرد معها:
– لا اله إلا الله، واحنا هننفعك بإيه بقى يا ست المحامية؟ احنا لا عندنا لا حد مشتكي على حد ولا بندور لواحدة مطلقة على نفقة العيال
شهقت صفية بتمثيل ودراما:
– لدرجادي مستهونة بإمكانياتي، يعني انا اخري نفقة مطلقة ولا شكوى على خناقة، انا بحضر في الماجستير يا استاذة، وكلها كام سنة واخد الدكتوراة يعني…..
قطعت فجأة وقد انتبهت على حماقتها، وارتباك بهجة التي صارت تحمحم وتهرب بعيناها عنها.
فهذا الحلم كان من البداية حلم بهجة ، هي التي سبقتها في الالتحاق بالجامعة، وشجعتها في دخول الحقوق، ودائما ما كانت ترسم امالها في ذلك، ولكن القدر كان له رأي اخرى بوفاة والدها ، واستيلاء عمها على نصيبه في الوكالة، عند هذا الخاطر ، اشتدت ملامح صفية لتردف بحزم:
– اسمعي يا بهجة، انا بصراحة جاية النهاردة مخصوص عشان ابلغك اني هرفع قضية على عمك، انا حالفة من قبل ما اتخرج، لشحططه هو والحيزبونة مراته في المحاكم، واجيب حقكم من حبابي عنيه، واطمني يا ستي الاستاذة نوال مرات خالي خالد هي متشجعة وهتساعدني، يعني لو عندك شك في امكانياتي.
سمعت منها لتبزغ ابتسامة على فمها سرعان ما تحولت لضحك متواصل حتى ادمعت عيناها، امام دهشة
صفية، حتى توقفت اخيرًا تعقب على قولها:
– يا عيني يا روح قلبي، نقبك طول شونة، والقضية اللي معشمة نفسك بيها، لو حصل وقدمتيها، هيتحكم فيها من اول جلسة لصالح عمي، ومش بعيد يدفعنا تعويض كمان، بس انا بصراحة معنديش عشان ادفعله، ممكن اقضيها حبس.
– بعد الشر عليكي، ليه بتقولي كدة؟
رددت بها صفية باستهجان، لتخبرها على الفور وتصدمها:
– عشان مفيش اي ورقة تثبت حقنا، ابويا قعد سنين مشارك عمي من غير ورقة واحدة ما بينهم، يعني هو دفع النص بالنص في راس المال، وعمي هو اللي سجل الدكان بإسمه عشان كان بيديرها طبعا، وابويا لانه موظف، كان مكتفي بالمبلغ الشهري اللي بياخده من عمي، ويصدق انه هو الربح اللي طالع من التجارة، وبس كدة،
– وبس كدة
– اه طبعا بس كدة، بابا كان طيب لدرجة السذاجة مع ناس خبيثة زي عمي ومراته الحيزبون، لا ومن بجاحته، يقولي اساعدكم كل شهر بمبلغ من عندي، يعني من فلوسنا عايز يجبي علينا.
زفرت صفية بتعب، وقد فهمت الاَن للمأساة التي تعيشها صديقتها، لتردف بحرقة اصابتها:
– حسبي الله ونعم الوكيل.
❈-❈-❈
وصلت بها الى داخل المنزل المهيب، والحراسة التي تحاوطه من جميع الجهات، لتدلف خلفها تقطع الممر الذي يفصل الحديقة الامامية بالوسط
لم تملك بهجة اي طاقة للفضول او الانبهار، مما تراه امامها ، فشعور الخوف الذي كان يكتسحها من الداخل وما هي مقبلة عليه في هذا المكان الغريب، مع امرأة تعلم جيدا بصعوبة الاختلاط معها، حتى وهي قد قرأت عن حالات مشابهة لها بالأمس عبر محركات البحث، لتعرف كيفية التعامل معها
– رياض باشا مستنينا جوا يا دادة .
كان هذا صوت لورا التي اقتحمت سائلة المرأة باندفاع للداخل قبل ان توقفها نبوية بقولها:
– رياض باشا مش موجود .
– نعم؟
خرجت منها باسفتهام وهي تلتف للمرأة والتي اكدت عليها:
– هو خرج قبل ما توصلوا بخمس دقايق بالظبط، بيقول ان عنده مقابلة مهمة في الشغل، وكلمني انا اقابل البنت واديله التقرير
قالت الأخيرة وقد تركزت لبصارها على بهجة التي تصلبت في وقفتها برهبة، لتشير بذقنها نحوها :
– هي دي؟
زفرت لورا بإحباط لعدم رؤيتها له، بعدما املت في تناول الافطار معه والبعد قليلًا عن جو العمل والرسمية الدائم، فخرج ردها بنزق:
– ايوة هي يا دادة، جربيها شوية وشوفيها تنفع ولا لأ، انا اساسًا موقفتش بحث عن واحدة مناسبة
بحرج متعاظم، جاهدت بهجة لاخفاءه، رفعت ذقنها بإباء توافقها الرأي:
– ايوة صح يا دادة، انا كمان لو مرتحتش…… متزعلوش مني هسيب الشغل هنا فورا.
ارتفعت زاوية شفتي لورا بحنق لقولها، اما نبوية فقد تبسمت باتساع لها، لتعقب بسماحة:
– يا بنتي نبقى احنا الاتنين بقى نجرب بعض اليومين دول، ونشوف الدنيا معانا هترسى على إيه؟، بس انا بصراحة ارتحتلك .
قالتها نبوية بيشاشة ادخلت بعض الارتياح بقلب بهجة ، لتبادلها الرد بابتسامة،
الأمر الذي لم يعجب لورا، لترفع النظاره فوق عينيها ، قائلة بتعجرف:
– طب كويس اوي، امشي انا واسيبكم تتفاهموا مع بعض، اليوم ده اعتبريه اجازة يا ست بهجة لكن من بكرة بقى حضري نفسك لوردية الصبح في المصنع، وبعد الضهر هتيجي على هنا، اما نشوف هتكملي ولا لأ؟
قالت الأخيرة وتحركت مغادرة دون اي كلمة اخرى ، حتى اذا ذهبت خارج المنزل ، صدر رد نبوية:
– كويس اوي انها مشيت عشان نقعد براحتنا، تعالي معايا بقى
تفاجأت بهجة بكف المرأة التي حطت على رسغها تسحبها دون انذار:
– واخداني ورايحة بيا على فين يا خالتي نبوية؟
ضحكت مرددة بتباسط لتفك تشنجها:
– يا ختي حلوة خالتي منك وطالعة زي العسل، احنا هنفطر الاول في المطبخ، وبعدها افهمك كل حاجة
تمسكت بهجة بالارض فجأة تعارضها:
– لا طبعا انا شبعانة، خلينا في الشغل يا خالتي نبوية الله يرضى عنك
ضحكت المذكورة لتعود بالقبض على يدها التي افلتتها منها ، تقول بحزم لا يخلو من لطف:
– ما هو دا تبع الشغل يا بت بطلي خيابة…. الست نجوان لساها نايمة، نلحق نفطر دلوقتي قبل ما ننشغل فيها ولا نقعد يومنا كله من غير اكل .
❈-❈-❈
بداخل المقر الرئيسي للشركة التي جمعت عدي وكارم سابقًا، اجتمع معه يقص عليه تفاصيل المشروع الجديد بإيجاز ، يفند المميزات المتوقعة منه في المستقبل، بالأرقام والتفاصيل الدقيقة والتي كان يطلع عليه رياض اثناء ذلك، ليخرج رده بإعجاب:
برافو يا كارم، عدي لما قال عنك شعلة نشاط مكدبش، لحقت في وقت قياسي تعمل دراسة الجدوى الهايلة دي، انت بتجيب الوقت منين لكل ده؟
ضحك المذكور بزهو، ليأتي رده متوافقًا مع طبيعة شخصيته:
– يا حبيبي الإنجاز دا الصفة الاهم لكل رجل اعمال قادر على الاستمرار، وانا يا قلبي لو معملتش كدة السوق هيبلعني وهنزل في اخر القائمة ، ودي ابشع من اي كابوس في حياتي، انا عيني دايما ع المقدمة
ابتسامة رائقة ارتسمت على ملامح رياض، ليعلق بذكاء شديد:
– يبقى كدة عينك على مصطفى، عشان دا البريمو علينا كلنا في عيلة عزام والمنطقة كلها كمان
اجابه بصراحة وملامح مفعمة بالحماس والتحدي:
– وابقى قدامه كمان ايه المانع؟ انا عارف انه عبقري وعنده علاقات هايلة بروساء الدول كمان، بس انا بحاول اهو بكل جهدي.
– كلنا بنحاول يا حبيبى، بس انت قولت بنفسك عنده علاقات هايلة وخبرة جبارة جعلته يسبقنا كلنا رغم فرق السن البسيط ما بينا وبينه، بس بصراحة هو جدع، ويستاهل المكانة اللي هو فيها،
خرجت من رياض بصدق اثار فضول الاخر لسؤاله:
– طب ولما هو جدع، وانتوا الاتنين رجال أعمال، مخدكش في سكته يكبرك ليه زي ما بيعمل مع اخوه ولا اصحابه جاسر الريان ولا اللي اسمه طارق دا كمان .
قال الاخيرة بضيق ذكر رياض بالعداوة القائمة مع المذكورين رغم عودة المياه بعض الشيء لمجاريها بين العائليتن ، وقد ذكر امامه سابقا السبب الاساسي وراء ذلك، ليرد بمكر:
– قلبك اسود اوي انت يا كارم وعمرك ما هتنسى، ع العموم يا سيدي عشان اجيبلك الفايدة، انا اللي رافض المشاركة والمساعدة من مصطفى دا بالذات رغم عدم وجود أي خلاف او حزازيات ما بينا، ورغم انه عرض عليا قبل ذلك كتير ، بس انا برضو مصمم على موقفي .
– ليه؟
– من غير ليه؟ انا مش عايز .
قالها بجدية جعلت كارم يطالعه بتمعن، مستغربا إجابته وهذا الجمود في نطقها، ليباغته بعد ذلك بسؤاله:
– رياض انت مفيش اي ست في حياتك؟
– وايه دخل الستات في موضوعنا؟
تمتم بها بابتسامة لاحت على محياه، مستغربًا تغير دفة الحديث فجأة لمنحنى مختلف جذريا عن العمل وجديته، وكان رد كارم ببساطة قبل ان يرتشف من عبوة المياه الغازية التي امامه غامزًا بشقاوة:
– مفيهاش دخل يا سيدي، بس هما اللي بيحلو الدنيا، وبصراحة الحياة من غيرهم ملهاش معنى.
سمع منه ليقهقه بضحكة نادرًا ما تصدر كنه منه معلقًا:
– اقسم بالله انت مش معقول يا كارم،
❈-❈-❈
عادت عائشة في ميعادها اليومي من مدرستها ، لتفاجأ بزوجة عمها التي كانت تتقدمها قي دخول البناية، محملة بعدد كبير من أكياس الخضروات والبقالة من لحوم واشياء اخرى، لتقف وتضعهم اول الدرج وتستند هي بذراعها على الجدار تلتقط أنفاسها بلهاث، لتتهكم هي من خلفها:
– ايه دا؟ هما البياعين السريحة اللي احتلو الحارة وصلوا لهنا وعلى سلمنا كمان؟
استدارت لها درية بغيظ سائلة بعدم فهم:
– بياعين مين يا بت
شهقت عائشة بتمثيل ساخر:
– معقووول طنط دررية، اسفة يا طنط، بس انا افتكرتك واحدة بياعة من اللي بيسرحوا بالخضار وجاية تشوف رزقها عندنا .
برقت عيني المرأة بعدم تصديق مرددة:
– انا بياعة يا منيلة؟ ايه يا ختي حصل حاجة في نظرك ولا ايه؟
– لا والله يا طنط انا نظري ما شاء الله ستة على ستة، بس الكياس الكتييرة اوي دي اللي سادة عتبة السلم ، تخلي اي حد في مكاني يظن كدة .
قالتها عائشة مؤدية الكلمات بيداها المفتوحتين في الهواء، وعيناها التي وسعتها نحوهم بقصد، حتى جعلت درية تتمتم بخوف من الحسد
– خمسة وخميسة الله اكبر في عينك، مش تخلي بالك يا بت من كلامك،
شعرت عائشة بداخلها بالانتشاء لرؤية الزعر الذي ارتسم على ملامح درية، فواصلت تزيد عليها:
– وانا جيبت حاجة من عندي يا طنط، ما انتي اللي سادة المجال قدامي بالخضار بتاعك وكياس البقالة والفراخ…. وانا راجعة من مدرستي وعايزة اطلع بيتنا اريح، اعملها ازاي دلوقتي بقى؟ اطير فوقهم يعنى ، اطيرر.
كزت درية على أسنانها بغيظ شديد، لتدنو وترفع اشيائها، ثم تفسح لها الطريق قائلة:
– اتفضلي يا ست البرنسيسة، اديني شيلت الكياس كلها، اطلعي على بيتكم بقى وريحي على كيفك
تحركت على الفور تتبسم لها بوداعة، كأنها لم تكن على وشك ان تجلطها منذ لحظات.
– شكرا يا طنط.
– شكرا يا طنط
رددت بها درية من خلفها بدماء تغلي برأسها بسبب هذه الملعونة الصغيرة، ولكنها تمالكت سريعًا لتدعوها بابتسامة مزيفة، تريد كسب ودها كي تساعدها:
– طب وانتي طالعة كدة وهتسبقيني، ممكن يا عيوشة يا قمورة، تاخدي بس في ايدك كيس البقالة ده، تخففي عن مراتك عمك شوية.
التفت برأسها لها بعد صعود درجتين من السلم ، تطالعها بفاه مفتوح، قبل ان يخرج ردها الازع:
– بقى يا طنط عايزاني انا يا عيلة يا صغيرة، اشيل واحمل على دراعي الضعيف، الكيس اللي يوزن عشرة كيلو ده.
للمرة الثانية تثير زعرها، وتعبر عنه درية هذه المرة بندمها:
– يا نهاار اسود، يا رتني ما قولتلك، اطلعي يا بت اطلعي، مش عايزة حاجة منك، بسم الله الحافظ منك ومن لسانك.
اهدتها ابتسامة رائقة لتنصاع منفذة الأمر بطاعة في الصعود امامها:
– براحتك يا طنط
❈-❈-❈
بمفتاحها الخاص فتحت درية باب المنزل ، لتلج داخله، تضع الاشياء التي تحملها اعلى الطاولة التي توسطت الردهة، منادية باسم ابنتها، والأخرى زوجة ابنها الأكبر
.- بت يا سامية، بت يا اسراء ، واحدة فيكم تيجي هنا تشوف انا جيبت ايه للغدا
استمرت في النداء حتى خرجت لها اسراء من المطبخ تجفف يداها بالمنشفة الصغيرة:
– انا هنا يا خالتي، معلش كنت بغسل المواعين
– ماشي يا اختي، تعالي خدي كيس اللحمة ده اسلقيه ع النار وشوفي هتطبخيلنا ايه؟ عندك الخضار كله اهو، نقي فيه على كيفك
قالت الأخيرة وهي تفتح لها عدد من الأكياس الكثيرة، تريها العديد من الانواع التي أتت بها، فصدر اعتراض اسراء:
– بس الأكل مش عليا انا يا خالتي، انا رتبت البيت وغسلت المواعين، يبقى الأكل دلوقتي على سامية.
لم تكد تكملها حتى اجفلتها الأخيرة بخروجها المفاجيء
من غرفتها هاتفه:
– بس انا مش فاضية النهاردة ، حرام بقى تسدي عني؟
هتفت اسراء بدورها:
– مين اللي يسد عن مين، انا بشتغل والحمل ههدني، وانتي فاضية وموراكيش حاجة
– لا يا حبيبتي ورايا، ومش فاضية خالص على فكرة، انا صابغة شعري من شوية صغيرين، دا غير اني عاملة ايدي منكير، يعني مينفعش اخسر كل اللي عملته.
– لا يا حبيبتي، نقعد احنا من غير أكل
قالتها اسراء بصفة ساخرة لتقابل بالرد المفاجيء من درية:
– وانتي روحتي فين يا اسراء؟ ما هي قالتلك سدي عني.
بدهشة شديدة تطلعت لها فاغرة فاهها لحظات بعدم تصديق حتى خرج صوتها:
– انا اللي اسد عنها يا خالتي، دي بتقولك صبغة ومنكير هو دا عذر؟
– اه يا ختي عذر، انا خارجة بعد شوية ورايحة احضر اسبوع ابن اخويا الكبير، عايزاني اروح مبهدلة، ولا ريحة الطبيخ لازقة فيا، اما دي عجايب صحيح…..
التفت تستدير متابعة حديثها المستفز نحو والدتها:
– انا راجعة لاؤضتي ياما، اكمل اللي بعمله، عن اذنك.
ردت درية بكل تساهل غير عابئة بالقهر الذي تملك زوجة ابنها لعدم الانصاف الذي تشعر به منها، حتى تصنمت كالتمثال:
– خليها تتزوق وتشوف عدلها يا بنتي، مكنتيش انتي بقى بتعملي زيها قبل ما ربنا يكرمك بابني، ولا على رأيها هي ….. اما عجايب صحيح.
❈-❈-❈
قضت قرابة الساعتين في حديث مستمر ومثمر مع المرأة الودود الطيبة، تناولت معها الفطور الفاخر، فقد تفاجأت بالموقع المميز لنبوية، والذي يجعلها محط تقدير الجميع، نظرا لما تقوم به من عمل شاق مع صاحبة المنزل، في رعايتها ، فهي الوحيدة القادرة على السيطرة عليها بحكمتها في تلك الاوقات التي تثور بها ، وتتهور نحو الافعال المجنونة، كما تحمل لها معزة تختلف عن الجميع.
جينما استيقظت نجوان التزمت بهجة بالمكوث في المطبخ بخوف غريزي انتابها في هذا الوقت، فلم تخرج الا على نداء نبوية والتي ادخلتها الى المرأة تعرفها بها وكأنها اخبرتها عنها، عجبا!
– قربي يا بهجة، سلمي على نجوان هانم، خليها تتعرف بيكي.
هذا ما تفوهت به نبوية، اثناء دفعها لها نحو المرأة بخفة ، كي تحثها على التقدم نحوها، بعدما تصلبت محلها، بصدمة اللقاء الاول للمرأة الستنية ذات الملامح الجميلة رغم خطوط العمر التي حفرت على وجهها
كانت هادئة بشكل يثير الريية، تطالعها بتمعن جعل معدتها تتلوى داخلها من الخوف، يحيرها هذا الصمت الغريب، ولكنها يجب ان تغلب خوفها.
ابتعلت تجسر نفسها ترسم ابتسامة في مخاطبتها:
– ازيك يا نجوان هانم، انا بهجة.
طالعتها بهذه الابتسامة الغير مفهومة تتأرجح بكرسيها الهزاز دون اي رد فعل، لتزيد من بث التوتر داخل بهجة، فتدخلت نبوية بحنكتها:
– نجوان هانم هتحبك اوي يا بهجة، عشان انتي طيبة زيها، اصلها بتحب،الطيبين بس وبتعرف الوحشين من نظرة واحدة
ختمت بابتسامة توجهها للمرأة التي ارتخت ملامحها، لتشيح بوجهها نحو الخارج عبر الزجاج الابيض بسكون تام وكأنها ذهبت لعالم اخر، غير عالمهم .
بعد دقائق خرجت بهجة من الغرفة بمرافقة نبوية التي حدثتها بتهوين:
– شوفتي بقى يا ستي، اهي هادية وزي الفل، يعني مبتعضش ولا هتاكلك.
قالت الأخيرة بدعابة لم تستجب له بهجة حتى قالت بتخوف:
– ايوة بس انا اسمع عن اللي زي حالاتها ، ليهم نوبات هياج بتحصلهم احيانا، ما هي لو ساكنة كدة كانت
هتبقى فين المشكلة؟
خبئت ابتسامة نبوية لتوميء لها بإقرار:
– كلامك صح، بس اللي قولتي عليها دي مش بتحصل غير لما ترفض تاخد دواها او لما……
– لما ايه؟
لم نرغب نبوية في اكمال الحديث، فغيرت على الفور معها:
– خلاص انتي تروحي تاخدي يومك الراحة النهاردة، وبكرة ان شاء الله تيجي ع الساعة اربعة زي ما اتفقنا.
❈-❈-❈
وفي مكان اخر ليس بغريب عنا.
خرجت من غرفتها، متأنية بخطواتها بحرص شديد، تضع كفها اسفل بطنها بخوف اصبح ملازمًا لها، تجذبها الرائحة الجميلة نحو المطبخ كالمغنطيس، حتى وقفت على مدخله لتقع عينيها على الصنية الرئعة تخرج من فرن الموقد الغازي،
فسأل لعابها نحوها ، لتعبر عما يجول داخلها:
– الله يا طنط مجيدة، صنية البطاطس باللحمة شكلها يجنن .
شهقت المذكورة متفاجأة بحضورها حتى اهتزت منها الصنية الساخنة وكادت ان تقع منها ، لولا وجود الطاولة التي بالقرب منها، والتي وضعتها عليها سريعًا، لتتمتم بجزع:
– يا لهوي عليا، ايه اللي خرجك من اؤضتك يا شهد؟ انتي يا بنتي مش خايفة على نفسك
قالتها وتحركت سريعًا تجلسها، لتبرر الاخيرة:
– ريحة الصنية يا طنط مجيدة هي اللي خرجتني، بصراحة ريقي جري عليها دلوقتي كمان بعد ما شوفتها، وهموت لو ما دوقتش منها حالا،
– يا حبيبتي بعد الشر عليكي من الموت، انا حالا هعبيلك طبق منها دلوقتي .
قالتها مجيدة ثم تحركت على عجالة لتغرف لها كمية كبيرة به ، ثم توجهت لها برجاء:
– اديني حضرت الطبق اهو يا ست شهد ، ممكن بقى يا قلبي تدخلي على اؤضتك زي الحلوة كدة وتاكليه على سريرك.
بتململ وتعب رددت لها باستعطاف:
– يا طنط ما انا تعبت وزهقت من كتر النوم ع السرير، نفسي بقى اتحرك واروح واجي زي زمان، اتخنقت من الحبسة انا مش متعودة على كدة.
قدمت لها مجيدة طبق الطعام، واقتربت تطبع قبلة على اعلى رأسها تهادنها بحنان:
– مقدرة يا بنتي والله اللي انتي فيه، بس نعمل ايه في أوامر الدكتور ، اللي مشدد على نومتك في السرير، انتي حملك صعب والوقعة زودت الدنيا معاكي اكتر.
سقطت منها دمعة، ازالتها سريعا شهد قائلة:
– حمد لله اللي جات على كدة، ربنا كريم ومسقطتش البيبي مع الوقعة اللي اتكسرت فيها رجلي، بس الصبر مع فترة الحمل صعب اوي، انا كل دقيقة بيصبني الرعب مع اي حركة بسيطة تحصل مني، حتى لو قاعدة نايمة ع السرير، واللي مزود اكتر كمان هو تحمكات حسن، مش مكفيه اني رامية الشغل على امنية، لا دا كمان بيعتبر مراجعتها معايا ع التليفون، للحسابات واخد رأيي في المشاكل اللي بتقابلها، مجهود
ناقص يمنع يعني دخول الحمام، ولا يعملي واحد جمب السرير، تصدقي انه عرض عليا الفكرة في مرة؟
– اهبل ويعملها ما انا عارفاه.
خرجت من مجيدة سريعًا، لتعود اليها ناصحة:
– بس انتي كمان يا حبيبتي لازم تقدري خوفه وتفوتيله،
زمت شهد فمها ببؤس، لتردف مجيدة:
– المهم خلينا في الأكل دلوقتي، حطي ايدك في الطبق ده وانسفيه حالا ، خلي الواد يتغذى، كُلي كُلي
سمعت منها لتلتهم الطعام بشهية وتلذذ، لكن هي ملعقتين، وتفاجأتا الاثنتان بشهقة رجالية تتبعها صيحة :
– يا نهار اسود، انتي سايبة سريرك، وقاعدة هنا يا شهد، وانتي يا ماما سايبها، دا على كدة بقى انتوا بتقرطسوني، ومش بعيد اجي في يوم الاقيها خرجت تتمشى في الشارع كمان.
توقف الطعام بفم زوجته، فجاء الرد من مجيدة:
– ينيلك يا زفت الطين خضيتنا، مش تتنحنح يا واد ولا تعمل اي حركة تعرفنا بحضورك.
خرج صوت شهد بدفاعية:
– هما يدوب خطوتين بس يا حسن من اوضة النوم للمطبخ، مروحتش اي حتة تانية، كنت جعانة، وريحة الاكل تجنن مقدرتش اصبر.
– اه والله يا بني ، حتى شوف .
سمع منهم، وبدون اي نقاش دنى منها يرفعها بين ذراعيه يحملها بحزم مرددًا:
– برضوا تفضلي مكانك وتتصلي بماما ، لو مش قادرة تندهي بصوتك، هاتي الاكل ورانا يا ماما .
تبعته مجيدة وهو يخرج بها من المطبخ نحو غرفتهم، ثم ضجر زوجته:
– يا حسن بقى، كنت مخنوقة والله.
– كنت اتصلتي بيا، وانا جيت من شغلي وعملتك قرد حتى، المهم صحتك وصحة الجنين..
قالها بصوت تغيرت نبرته من العصبية الى الحنو فجأة، لتتبسم من خلفهم مجيدة بغبطة تغمرها، لحال الاثنان وتوافقهم، عكس زوج المجانين الاخران ، ابنها امين وزجته لينا ، وشجارهم على اتفه الأسباب، ثم الصلح ايضا على نفس السبب، بصورة تظهر صغر عقلهما هما الاثنان .
❈-❈-❈
حلاقاتك برجالاتك حلقة دهب فى وداناتك
ويارب ياربنا
تكبر وتبقي قدنا
وتجي تعيش وسطنا وسط الحبايب
تكبر وتروح المدرسة وتصاحب شلة كويسة
وتشوف عيون امك وابوك فرحانة بيك
حلاقاتك برجالاتك حلقة دهب فى وداناتك
انا عايزك تطلع واد مجدع
وفي عز الشدة تكون اجدع من اي حد
صوتك بيسمع ويلعلع
هذه الأغنية الشهيرة التي كانت تدوي عبر السماعات في الاحتفال الصغير الذي تقيمه رحمة مع زوجها، ابتهاجًا بقدوم الصغيرة ومرور اسبوع على موعد ولادتها
صبا والتي اطبقت على الطفلة الوليدة داخل احضانها تضمها اليها بحرص؛ حتى لا تؤديها بمشاعر الحب التي تحملها.
– بنتك حلوة جوي يا رحمة ،
ردت الأخيرة بمحبة متبادلة:
– يا حبيبتي دا انتي اللي عيونك حلوة، شدي حيلك بقى واتلحلحي عايزين نشيل ولادك مع شادي .
قالتها لتجد الرد يأتيها من شقيقها بلوعة هو الاخر:
– اه يا رحمة قوليلها ، دا اخوكي قرب يكلم نفسه
ضحكت شقيقته بمراقبتها لرد فعل صبا، والمشاكسة بعيناها نحو شقيقها المتيم بعشقها، والذي عاد كمراهق في العشرين من عمره بافعاله معها .
تدخل زوجها يدلي بدلوه بينهم:
– يا عم مستعجل على ايه بس؟ بكرة تخلف وتملى البيت العيال وتتحسر على ايام العزوبية اسألني انا .
– شوفي الراجل.
علقت بها رحمة تدعي الاستهجان نحوه، لتثير ضحكات الجميع معها ، حتى أتت سامية مقتربة بنعومة مبالغ فيها، والتي تفاجأت بضحكهم تاركة والدتها في الحديث مع مجموعة من النساء.:
– ما ضحكونا معاكم يا جماعة، ولا احنا ملناش تفس نضحك يعني؟….. انا بصراحة جيت على صوت شادي، بقالي سنين مسمعنهاش الضحكة الحلوة دي .
برقت عيني صبا كلبوة شرسة، نحوه حتى لا يتجاوب معها، تعطي الطفلة الوليدة لوالدتها وكأنها على استعداد تام للقتال .
مما اصابه بالتوتر، ليرد بتحفظ :
– متشكرين يا سامية، عقبال سبوعك انتي كمان لما نيجي نباركلك
وقبل ان تزيد بسماجتها تدخل شقيقها، يصرفها بذكاء:
– معلش يا سامية، اديها نظرة على ولاد اخوكي في المطبخ، قلبي حاسس انهم اكلوا كل الحلويات اللي في التلاجة.
استجابت بفم ملتوي
– اه ماشي هروح اشوف
ذهبت تتبختر في خطواتها بميوعة مقصودة، زادت من استفزاز هذه الشرسة لتعلق بغضب:
– معلش يا جماعة، بس انا البت دي حارقة دمي بشكل غبي، خلوها تتجي شري الله يخليكم.
عاودو الضحك مرة اخرى، لتضيف على قولها رحمة:
– يا بنتي دي قدر بالنسبالنا، ولا امها الست درية؛
بتتعامل مع الناس كأنها صاحبة بيت وجدة المولودة بالفعل، اللي محد بيشوف وشها حتى طول السنة.
– ما هم ما يعرفوش انها مرات ابو جوزك، فوتي وكبري يا ست رحمة.
قالها شادي ليتذكر ويسألها:
– هو صحيح انتي مدعتيش بنات خالك خليل ليه ؟
ردت بأسف:
– كلمت بهجة والله وشددت عليها، بس انت عارفهم بقى نفسهم عزيزة ومبيستحملوش القعدة في مكان واحد مع ساميه وامها، اتحججت بشغلها ودروس اخواتها .
نكس زوجها رأسه بخذلان لقلة حيلته مع اولاد عمه، بسبب فعلة ابيه ، ورفضهم هم في المقابل تقبل المساعدة منه.
ليزفر شادي بتنهيدة مثقلة:
– بهجة دي الله يعينها، اللي هي فيه رجالة كبار ميقدروش عليه.
– هي مين بهجة دي؟ حضرت خطوبتنا عشان اعرفها:
خرج السؤال من صبا ، ليجيبها على الفور:
– هبقى احكيلك حكايتها بعدين ويمكن اعرفك عليها كمان
❈-❈-❈
في اليوم التالي
حضرت على الميعاد لتستلم اول يوم عمل لها، في غياب نبوية التي استأذنت منها ، تأخذها فرصة للراحة هذه الساعات القليلة من مسؤولية الرعاية لهذه المرأة المتعبة
تاركة الأمر لبهجة التي حاولت الحديث معها عدة مرات ولكنها لم تستجب للانتباه لها ، حتى طرأت بعقلها فكرة القراءة في احد الكتب لها.
اوهمتها في البداية بالتركيز معها حتى اندمجت بهجة في إحدى الفقرات، فتكتشف الخدعة بعد ذلك باختفائها من الغرفة.
لتنتفض من محلها وتبحث عنها بذعر في الزوايا وجميع الاركان ، حتى خرجت هاتفة بالنداء عليها، وقلبها سقط بين قدميها، تنتحب:
– نجوان هانم، انتي فبن يا نجوان هانم ؟ يا دي المصيبة السودة عليكي وعلى سنينك يا بهجة، يا نجوان هانم؟ انتي فين بس الله يرضى عنك؟
شعرت فجأة بوجود احدهم خلفها وما همت ان تستدير، حتى تفاجأت بصوت دوى بقوة على الارض الرخامية، لتفاجأ بالمزهرية الكبرى التي تزين الردهة على الارض مهمشة لمئات القطع ،
نزلت تلملم فيهم بفزع ودموع على وشك الهطول:
– يا دي البلوة اللي حطت على راسك يا بهجة، اهي تمت معاكي كمان بالزهرية الغالية، ودي هتدفع تمنها ازاي لو اتورطت فيها؟
– مين اللي كسر الزهرية ؟
دوي الصوت الجهوري من الخلف، يجمد الدماء في عروقها، لتتجمد محلها مستسلمة بيقين النهاية، وصوت يتردد داخلها،
– شكلي كدة روحت في داهية، لا انا اكيد روحت في داهية.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
هل أتى عليك الوقت وتيقن داخلك من قرب النهاية؟
هذا ما كانت تشعر به في هذا الوقت، مع سماعها لخطواته من الخلف تقترب منها برتم كئيب.
وقد تصلب ظهرها من الرعب، مستسلمة لقدرها، وبمعرفة جيدة لحظها البائس، تعلم ان العواقب السيئة سوف تؤدي بها لأبعد ما تتخيل ، خصوصا وهي لا تملك المال لسداد تمن هذه التحفة الضخمة والباهظة الثمن.
فتحت جفنيها فجأة مع تغير الصوت الذي كان تسمعه ، لشيء اشبه بالهسيس.
– بتعملي ايه عندك، انتي عايزة الشغالين يقولوا عليكي ايه بس؟
توسعت عينيها بإدراك لتنهص مستقيمة بطولها، وتلتف نحو الجهة التي أتى منها الصوت، لتجد المرأة المتسببة في كل ما سيحدث لها الاَن، وابنها يحاول سحبها من إحدى الزوايا التي التصقت بها كالاطفال التي تتخفى اثناء اللعب، تتشبث بالارض باعتراض ، وهو يكرر على اسماعها بتحذير وتصميم:
– كنت عارف من الاول ان انتي اللي كسرتيها ما هي العمايل دى محدش يعملها غيرك ، تعالي بقى بلاش فضايح وافتكري وضعك كهانم .
هل ما وصلها كان حقيقيا؟ ام هو درب من خيال صنعه عقلها المسكين للنجاة من هذه المصيبة المحققة، انه يوجه التهمة نحو والدته، بأنها هي من كسرت المزهرية، فيبدو ان رصيدها من هذه الافعال كاف ليشير عليها بآصبعه نحوها دون تحقيق او تدقيق:
– انتي هتفضلي في مكانك انتي كمان، ما تتحركي تساعديني، ولا انتي مش الجليسة بتاعتها؟.
كانت هذه الصرخة الموجهة نحوها، لتنتفض على اثرها، فتهرول نحوهما مرددة بجزع:
– لا والله انا الجليسة بتاعتها.
بسرعة البرق اقتربت لتقف مقابلة لها، وموازية له، بعدما عدلت طرحتها بعجالة حتى غطت نصف وجهها بدون قصد، لتأخذ دورها وتهاودها :
– تعالي يا هانم، نكمل قراية في الكتاب اللي كنا بنقرا فيه من شوية.
استجابت لسحبها لها، عكس ما كانت تفعل مع ابنها، لتثير دهشته في البداية ، والتي ما لبث ان تحولت لغضب ، ليهدر ببهجة فور ان شرعت واستدارت بها:
– المرة الجاية لو سهيتي عنها هيبقى حسابك عسير، أومأت بهزة من برأسها دون ان تمتلك الجرأة لتلتف اليه ، وعادت سريعًا للذهاب بها من أمامه، ثم الاختفاء داخل الجناح الملكي للمرأة المتعبة.
اما هو فقد ظل يلهث خلفهما دقائق بإجهاد ، ينقل ببصره نحو المزهرية الغالية المهشمة على الارض بعدم اكتراث، فقد تعود على الخسائر بأكثر من ذلك بسببها، لكن وبرغم انه لم يتمكن من ملامح الجليسة الجديدة لوالدته إلا ان البريق الاخضر والذي ومض في لحظة ما اثناء صراخه بها لتساعده، فقد لفت نظره ليعود ناظرا في اثرها ، برغبة تدفعه لرؤيتها جيدًا، إلا انه سرعان ما استفاق متذكرًا سبب رجوعه المنزل الاَن لتبديل ملابسه، وحضور موعده الهام مع احد العملاء.
لينفض رأسه من افكارها مغمغمًا باستهزاء اثناء سيره نحو غرفته:
– ما بقاش إلا الخدامين كمان.
❈-❈-❈
ولجت بها داخل جناحها، لتغلق الباب عليهما، ثم تجلسها على احد الاَرائك، وتسقط هي بثقلها على الارض تفترشها وتلهث لمدة من الوقت، لا تصدق انها نجت من هذا المأزق، لقد تم الامر بما يشبه المعجزة ،
هذه المرأة التي لا تحيد بنظرها عنها الاَن، كما كانت هي السبب في ورطتها، كانت هي ايضا سبب نجاتها، لكن لما تشعر بلمحة من مكر في عينيها وكأنها فهمت على ما قد تم، نظرتها اليها بها شيء من اتهام لم تتقبله بهجة، لتخرج منها الكلمات معبرة عما اكتنفها في هذه اللحظات القاسية.
– ايه بتبصيلي كدة ليه؟ لتكوني كمان هتحمليني اللوم في اللي حصل؟ اينعم ابنك جاب تهمة كسر الفاظة عليكي وانتي بريئة ، لكنه برضو كان بسببك، مش انتي اللي غفلتيني وخلتيني اخرج ادور عليكي زي المجنونة؟….. ليه عملتي كدة؟……
اختنقت الكلمات بحلقها، لتبتلع الغصة وتغلبها دموعها في الهطول، فتعتصر عينيها بألم، هذا اكبر من قدرتها على التحمل، هي لا تريد شيئًا سوى سترة اسرتها من العوز، لماذا يحدث كل هذا معها ولا تمر الامور كما تأمل؟ لماذا ؟ لماذا؟
يبدوا ان نجوان قد تأثرت ببكائها، لتغيم عينيها هي الأخرى بغشاء رقيق، وقد تجلى بوضوح تعاطفها معها، ليرتد ذلك على بهجة التي لامت نفسها على الفور، لتجاورها على الأريكه، فتخاطبها:
– اسفة ، اسفة اوي سامحيني، بس انا الضغوط جامدة اوي عليا والله، ومش حمل الاعيبك دي…….
توقفت تجفف بأطراف اصابعها على وجنتيها، قائلة بحسم:
– بصي… لو انتي مش عايزاني، انا مستعدة من النهاردة اسيب الشغل هنا والرزق على الله بس المهم…….
– انتي حلوة.
قاطعتها بها، لتذبهل امامها بهجة، لا تصدق انها فهمتها، لتزيد عليها بعد ذلك، حينما وجدتها تربت بيدها عليها تعيد ما قالتها، محركة رأسها بعدم اتزان:
– انتي حلوة، حلوة.
– انا حلوة، انا حلوة !…….
رددت بها من خلفها لتواصل بارتياب منها واقتناع تام :
– وانتي ملكيش امان.
❈-❈-❈
عادت من العمل اخيرا، بعدما سلمت مهمتها للدادة نبوية ، لتلتقط انفاسها بانتهاء اول يوم لها في المناوبة الكارثية، الاَن فقط علمت سر المعاملة الخاصة لنبوية، وتقديرهم للمجهود الخرافي الذي تقوم به مع تلك المرأة،
نزلت من وسيلة المواصلات الخاصة بالمنطقة، تحمل أكياس الخبز الساخن وبعض المعلبات والمتطلبات للإفطار وعمل الشطائر اللازمة لاشقائها ولها .
تحصي الدقائق وتعد الخطوات حتى تعود للمنزل وسريرها الحبيب كي ترتمي عليه وتغفو حتى الصباح، ولكن من اين تأتيها الراحة طالمة مجاورة لمنزل عمها وأبنائه.
اغمضت عينيها بضيق حينما وجدته ينتظرها على مدخل الحارة، هذا المتبجح، فاقد معاني الرجولة والاحساس، والصفة ابن عمها، وطليقها على الاوراق الرسمية للحكومة، تحمد الله انها لم تتم زواجها به،
انتبهت على تحفزه بالنظر نحوها ، لكنها تجاهلت كعادتها ، لتركز بأبصارها للأمام وكأنه غير موجود على الإطلاق، ولكن ذلك لم يمنعه عما في رأسه، لتجده فجأة متصدرًا بجسده امامها:
– متأخرة ليه النهاردة عن كل يوم؟
رفرفرت بأهدابها قليلًا كي تستوعب:
– افندم، انت بتكلمني انا؟
هتف منفعلا بها:
– اومال بكلم خيالي يعني؟ انا قلقت يا بهجة لما اتأخرتي، وكان هاين عليا اروح المصنع واسأل هناك عليكي……
قاطعته بحدة توقف استرساله:
– كنت عملتها، وانا كنت عملتلك فضيحة، وانكرت صلة الدم اللي ما بينا……
لانت لهجته ليلطف باستعطاف:
– انا عايز اطمن يا بهجة.
– ولا تتطمن ولا تتزفت، انت تشغل نفسك بحاجة غيري، يا اما وديني وما اعبد لاكون موقفاك عند حدك حتى لو حصلت ابلغ فيك بعدم التعرض،
صدرت منها بعنف ألجم الاخر مبهوتا للحظات حتى دوى الصوت الاجش من ناحية قريبة:
– ايه اللي حصل؟ مالك يا بهجة يا بنتي، حد مزعلك.؟
التفت بابتسامة ساخرة نحو عمها، رجل البر، تجيبه بأنف مرفوع:
– ولا حد يقدر يزعلني يا عمي ، متخلقش اصلا اللي يعملها .
قالتها وتحركت ذاهبة بخطوات متأنية ، ترهف السمع لتوبيخ عمها المتوقع لابنه الأحمق، والتي تعلم تمام العلم انه قاصدا ان يصل إليها:
– هترجع تاني لموالك القديم معاها، ما هي لو بتعزك صحيح، كانت وافقت بالجواز بيك عشان تضلل عليها ، واحنا نحطها في عنينا هي واخواتها، مش تتلكك وتطلع كلام في الهوا على ورث وكلام فارغ.
زاد بعلو الصوت ليصبح اكثر وضوحا:
– اه بس لو تفهم وتطلع اللي في دماغها، دول عيال اخويا الغالي ويعز عليا سوء التفاهم اللي حاصل ما بينا.
تبسمت بسخرية دون ان تلتف اليه، لتكمل طريقها مرددة داخلها:
– سوء تفاهم، يا عيني على سوء التفاهم.
❈-❈-❈
وفي منزله
واثناء تناوله الطعام كان الحديث الدائر سريعًا بينه وبين نبوية التي اطمأنت قليلًا بنوم المرأة الكبيرة:
– يعني انتي شايفة انها كويسة وتنفع تكمل؟
– كويسة وبنت حلال مصفي كمان، بدليل ان الهانم ارتحت لها عكس اللي فاتوا .
قالتها نبوية بحماس جعله ينظر لها بتشكك معارضًا:
– معملتش ازاي بس يا دادة؟ اذا كان من اول يوم هربت منها وكسرت الفازة، .
كانت بهجة قد اخبرتها عن حقيقة كسر الفازة، لذلك فضلت الصمت عن اللغو في هذا الأمر واكمال حديثها في الأهم:
– دا شيء طبيعي من نجوي هانم، اذا كنت انا ياللي معاشراها بقالي سنين وبتسهيني وتغفلني، يبقى هتعتقعها هي بقى؟ المهم انها مقلبتش عليها ولا اتصرفت معاها بعنف زي اللي قبلها.
بذكرها لهذا الأمر، توقف الطعام في فمه، ليزفر بضيق يعيد برأسه سجل والدته الحافل بالمصائب والكوارث مع المتدربات، فأتت صورتها اليوم مستجيبة لسحب تلك الفتاة بطاعة اذهلته،… ثم هذا البريق الاخضر.
خرج من شروده على تساؤل نبوية :
– ها يا باشا، قررت تقعدها تساعدني وتخفف عني؟
لم يريحها على الفور، بل توقف لحظات قبل ان يخبرها بشكوكه؛
– غريبة لهفتك دي يا دادة، مع ان لورا قالتلي انها لسة بتدور واحدة تليق بمجالسة الست الوالدة، ودا لأنها انصدمت بهيئة البنت.
زمت نبوية شفتيها بضيق، تمنع نفسها بصعوبة حتى لا تتجاوز في الحديث عن هذه المتعجرفة، ليخرج ردها الحاسم:
– لورا هانم تقول اللي هي عايزاه، وانا كمان بقول اللي شايفاه مناسب، وانت بقى ليك القرار يا سعادة الباشا.
قالتها وكان قراره :
– تمام يا دادة احنا نجربها يومين تاني ونشوف الدنيا ايه بعد كدة، المهم تابعي انتي معاها عشان انا معنديش وقت اقيم بنفسي .
– ❈-❈-❈
دخل الى منزلهم بشراره وناره، بعدما سمع من احد الجيران واستفسر من والده عما حدث، ليزيد بقلبه السخط نحو هذا الجلف المدعو شقيقه، وقد كان مضجعًا الاَن امام تلفاز منرلهم، يأكل من طبق المسليات ويشاهد احدى الماتشات المعاد بثها.
ليذهب هو نحو المتحكم ويغلق الشاشة امامه دون استئذان:
– ايه ده ايه ده؟ بتقفل الشاشة في وشي ليه يا سامر ؟
ردد بها على الفور معترضًا باندهاش لفعلته، وجاء رد الاخر بحرص مراعاة لشعور الزوجة المسكينة بالداخل، رغم غضبه:
– بقفل في وشك عشان تسمع البوقين اللي هقولهم يا سمير ، بنت عمك ملكش دعوة بيها ولا تتعرض لها في اي طريق تمشي فيه، خليك في حالك وابعد عنها احسنلك.
كان يطالعه بفاه مفتوح، حتى اذا توقف تهكم بالرد نحوه:
– وانت بقى كلفتك محامي عنها يا حليوة؟ طب اسمع مني بقى، انت اللي تخليك في حالك ومتتحشرش في اللي ملكش فيه، دي بنت عمي وفي فترة من الفترات كانت مكتوبة على اسمي، اينعم محصلش نصيب ، بس في الاخر برضو هي تخصني، وانت ملكش دعوة .
اهتزت رأس سامر بنصف ضحكة ساخرة ، ليميل عليه محتفظًا بثباته ونبرة الصوت الخفيضة:
– سمير يا حبيبي فوق، بهجة بنت عمك مبقتش تخصك، ولو حاطط في مخك انها ممكن تحنلك بعد دا كله، يبقى انت عايش في الوهم.
– ولو ما فوقتش هيحصل ايه؟ هتاخدها انت بدالي بقى ، امك مش هترضى يا حبيبي.
صاح بها بصوت عالي، ضاربًا بحرص اخيه عرض الحائط، ليكمل بتبجح:
– ايوة يا سمير اسمعها مني عشان تفوق انت كمان، بهجة زي ما اتحرمت عليا هتتحرم عليك وعلى اي حد يبصلها، هي طول عمرها مكتوبة على اسمي، يعني يا تبقى بتاعتي، يا متتجوزش خالص.
تلجم سامر عن الرد ، وقد اذهله المنطق المجنون لشقيقه، وعدم اكتراثه حتى بشعور زوجته التي أتت على الصوت ووقفت امامه متسمرة بصدمة، قبل ان تتماسك وتعبر عن غضبها:
– ولما هي تبقى بتاعتك ، امال انا ابقى بتاعة مين؟ والعيل اللي في بطني ده، حاسب انه ابنك برضو ولا مستني ترجعلها عشان تعترف ان انت خلفت؟
– بطلي هبل يا بت.
خرجت منه برد سريع، مستنكرًا اعتراضها من الأساس، وما همت ان تثور به حتى فاجئتها درية التي خرجت من المطبخ على الشجار، بصحبة ابنتها التي كانت تطرقع بالعلكة بفمها كعادتها، تهتف بزوجة ابنها:
– اطلعي انتي فوق دلوقتي يا اسراء .
– لكن يا خالتي….
– اسمعي كلامي دلوقتي يا بت واطلعي فوق.
اضطرت في الأخير ان تنصاع لأمرها، وتذهب الى شقتها ، تفرغ دموع القهر والضعف بعيدا عنهم .
شعر سامر بالاسف لحالتها، والندم لعدم التريث في مفاتحة شقيقه الأحمق في هذا الوقت اثناء وجودها هي .
اما درية والتي امتقعت ملامحها لفعل الاثنان، فقد كشرت عن انيابها، تظهر هذا الوجه الحازم، امام تمرد اي فرد من عائلتها، والخروج بعيدا عن طوعها، لتقترب من الأحمق الكبير تلكزه بقبضتها، كازة على اسنانها:
– خلاص اتهبلت ومخك راح منك، اصحى يا واد لا افوقك، مرة خناقة في الشارع ، والتانية دلوقتي وقدام مراتك ، وكله ع السنيورة اللي رمتك بطول دراعها يا بن الهبلة.
– قوليلو يا اما يمكن يفهم، هي اللي رفضته، يعني هي اللي مش عايزاه.
تفوه بها سامر ، ليأخذ جزاءه هو الاخر:
– انت تخرس خالص انت كمان، وليكونش فاكرني نايمة على وداني ، ومعارفاش باللي في دماغك.
تلقف سمير قولها ليصيح مهللا:
– ايوة بقى، يعني مش انا بس اللي واخد بالي اهو، خليه يبعد عنها يا اما.
قاطعته على الفور بحزمها، موجهة الحديث نحوهما الاثنان:
– اخررررس، مسمعش صوتك نهائي، الكلام ليكو انتو الاتنين، اياكم اسمع سيرة بنت خليل هنا في البيت ده تاني، فاهمين؟
صمت الاثنان في حضرة جبروتها، لتعلق سامية شقيقتهم، بمصمصة من شفتيها :
– جاتها نيلة اللي عايز خلف، اياك تكون ساحراكم!
❈-❈-❈
مرت عدة أيام على خير، رغم كل ما قابلته بهجة من مصاعب مع هذه المرأة ، وذلك بفضل مساعدة الدادة نبوية التي لم تبخل عليها بالنصايح وتوجيه المرأة المتمردة لطاعتها، ورغم سكونها الدائم واستجابتها لتناول العلاج، إلا ان بهجة لم تعطيها الامان ابدا، تتوقع منها اي شيء ، فالمرأة لديها من التطرف ما يجعلها محل خطر على الدوام.
ولكنها مضطرة للتحمل واكمال المشوار، فالراتب لقاء هذا العمل الشاق مجزيا ويستحق المغامرة من اجل تأمين سبل الحياة مع اخوتها،
تذكرت لقاء لورا وقت ما طلبتها من اجل الاتفاق، لقد كانت حانقة ومتعجرفة بشكل مستفز، حينما القت بعدد من الاوراق المالية على سطح المكتب.
– اتفضلي يا ست بهجة، دا مبلغ محترم، لقاء الكام يوم اللي قضتيهم مع الهانم، رياض باشا قرر خلاص تكملي معاها في مساعدة نبوية .
ضجرت بهجة بشدة، وهي تنظر للنقود التي افترشت سطح المكتب، حتى افقدتها فرحة الحصول عليهم ، دون اللجوء للسلفة التي كانت ستأكل جزء كبير من راتب المصنع.
– مالك مبلمة كدة ليه؟ مش فرحانة انك ثبتي في وظيفة زي دي، بالمبلغ اللي هتاخديه كل شهر، وادي العينة، ولا مش مصدقة.
قالت الأخيرة بابتسامة ساخرة، زادت من الغضب المكبوت لبهجة، والتي جاء ردها بعزة:
– ومصدقش ليه بقى؟ الرقم دا طبيعي كدة مقابل رعاية واحدة زي نجوان هانم، ودي مسؤلية كبيرة الواحد يشيل همها.
– امممم
زامت بفمها لتطلق سهامها في التهديد والوعيد:
– كويس والله انك مقدرة وفاهمة، المهم بس تكوني فاكرة كمان نصايحي، بخصوص رياض باشا،
زفرة طويلة خرجت منها بسأم تردد لها:
– حضرتك فاكرة كل كلامك، وانا فعلا من ساعة ما روحت بحاول اتجنبه، رغم اني مقابلتوش غير مرة واحدة، الباشا اصلا معندوش وقت تقريبا يجي البيت .
زمت لورا شفتيها بحنق لم تغفل عنه بهجة، ولكن لن تكترث بها ولا بفكرتها عنها، فالاهم الان هو المال؛
ذلك الذي حصلت عليه، وقد مكنها اليوم من ابتياع العديد من الأشياء الناقصة من المنزل، وبعض الحلوى التي كان يشتريها والدهم سابقًا واشياء اخرى ، لتدخل البهجة على قلوب اسرتها.
– الله يا ست بهجة، بسبوسه وكنافة بالقشطة، هو احنا النهاردة اول الشهر ولا ايه؟
هذا ما هتفت بها عائشة اثناء تفحصها لعدد الأكياس التي أتت بها شقيقتها، والتي ضحك لسعادتها، لتضيف على قولها جنة هي الأخرى:
– دي كمان جايبالنا بيجامات نقعد بيها في البيت، الله، انا من زمان كان نفسي واحدة قطن ومريحة زي دي، شكرا اوي ليكي يا بيبة .
عقبت بهجة بتأثر:
– كان نفسك فيها من زمان ومتكلمتيش يا جنات، طب قولي يا حبيبتي.
تبسمت الاخيرة بحرج فهمت عليه شقيقتها وتأثرت به، لتزيد عليها عائشة بخفة ظلها:
– النهاردة وانتي داخلة علينا بالكياس يا بيبة ، فكرني بدرية المستقوية، بس دوكها بشوفها كل يوم، تشيل وتكوم على قلبها، بخيلة في كل حاجة، مش فاهمة الناس بتجيب النفس لدا كله منين؟
ضحكت جنات وردت بهجة بابتسامة مكتومة:
– يا بنت عيب، ملناش دعوة بحد احنا يا شوشو، تشيل ولا متشيلش، اوعي تبصي لحد يا قلبي .
عبرت عائشة بسجيتها:
– والله ما ببص، انا بس بتغاظ منها، هي ست مثيرة للغيظ اساسًا، هي وبنتها اللي بتزود المكياج في وشها بالكيلو.
قالتها عائشة فصدحت ضحكات الاثنتان، ليضفن عليها بالمزاح، وهي لا يغلبها كالعادة، حتى دلف اليهم شقيقهم عائدًا من الخارج، ليهلل لمشاهدهم:
– يا بسم الله ما شاء الله، صوت ضحككم واصل للشارع برا، خير في ايه؟
– اتفرج يا غالي وانت تعرف في ايه؟
قالتها عائشة تلفت انتباهه للاشياء التي أتت بها شقيقتهم الكبرى، فكان رده بالفرح ايضًا:
– الله اكبر دي بينها فرجت ولا ايه؟
رددت خلفه بهجة بتأكيد، تخرج له مجموعة من الأوراق النقدية
– فرجت يا حبييي والحمد لله، خد بقى حق الدروس اللي عليك ، ومصاريفك لاسبوع قدام .
تناول منها سريعًا بامتنان:
– من ايد ما نعدمها، بس دول كتير عن كل مرة يا بيبو.
قربت رأسه منها لتقبله على وجنته قائلة بحب:
– ولا كتير وحاجة، انت بس شد حيلك عشان تجيب المجموع اللي يشرف، وتبقي دكتور يا دكتور .
علقت جنات بغيرة اخوية محببة:
– يا عيني يا باشا، خد انت الحب كله كدة وسيب لنا احنا الفتافيت.
– دا انتى في العين من جوا يا بت، خدي تعالي.
قالتها بهجة تخرج مجموعة اخرى تضعهم في جمب وحدهم:
– مصاريف الجامعة والكتب اهي، شبرقي نفسك بالباقي يا ستي، شالله ما حد عوش .
– الله عليكي يا ست الكل.
صاحت به جنات، لتأخذ مكانها هي الأخرى بجوارها وتضمها ، فيأتي رد عائشة:
– وانا بقى اللي وقعت من قعر القفة، ايه يا كبيرة ملناش نصيب كمان ولا ايه؟
فتحت لها ذراعيها:
– فشر يا دلوعة، دا انتي الحب كله يا شوشو.
– ابوة بقى .
تمتمت بها عائشة ، قبل ان تقفز من محلها وتنضم الى اشقائها، في غمرة تجمعهم هم الاربعة، تفيض بالحب والمودة والامتنان.
❈-❈-❈
في اليوم التالي
وبعد خروجها من نوبة العمل بالمصنع، استقلت وسيلة المواصلات نحو وجهتها في منزل رئيسها رياض الحكيم، والذي لم تشأ الصدفة لرؤيته، منذ لقاءهم الخاطف، اثناء الكارثة التي تسببت بها والدته .
رغم اعتياد معظم العاملين به عليها،
– مساء الخير .
– مساء الهنا
كانت هذه التحية والرد بها من قبل نبوية التي استقبلتها بحرارة قائلة:
– كويس اوي يا جميل انك جيتي في ميعادك، انا كنت ناوية اتصل بيكي.
– ليه؟
جاوبت نبوية ردا على سؤالها:
– خير يا قمر، انا بس احتمال اتأخر شوية النهاردة على ميعادي ، بنتي عازمة اخوات جوزها، وطبعا انا مينفعش اسيبها لوحدها في حاجة زي دي، من جهة عشان الأصول، ومن جهة عشان اساعدها كمان.
اصابها بعض القلق عبرت عنه:
– بس خلي بالك انا مينفعش اتأخر، اخري عشرة ، بصراحة دا الميعاد اللي بنقفل فيه علينا انا واخواتي.
ردت نبوية بابتسامة لها:
– عيوني من جوا، هعمل المستحيل عشان متأخرش عليكي، وزيادة عشان تطمني اكتر، رياض باشا ابنها مش هيبقى موجود، اتصل بيا من شوية وبلغني ان عنده حفلة مهمة تخص الشغل، يعني تاخدي الامان ، وربنا يعينك على رعايتها الكام ساعة دول .
– اللهم امين، ويهديها عليا يارب.
❈-❈-❈
وفي مكان اخر
حيث المنطقة الخالية إلا من العاملين بها، في بناء الأبنية الجديدة، وتدشين عدد من الوحدات السكنية، وقفت هي تشرف على العمال وتتابعهم، في تنفيذ المخطط الهندسي بدقة،
وقد اندمجت في العمل واخذت خبرة لا يستهان بها ، رغم صغر الوقت الذي استلمت به، وذلك بفضل مساعدة شقيقتها الدائمة لها،
من يراها الاَن لا يصدق ابدا انها تلك الفتاة المدللة التي لا تراعي سوى طعامها وبشرتها وشعرها،
الشخصية التافهة التي تنبذها، بذكرياتها السيئة مع الملعون ابن خالتها الذي كان يستغل ضعفها امام وهم العشق به.
وقد اكتشفت مؤخرا فقط ان كل السابق ما كان الا وهم بخيالها، بعدما ذاقت حلاوة الحب البريء على يده.
– عصام انا هنا.
هتفت منادية باسمه، وقد وقعت عينيها عليه، يبحث عنها في إحدى الجهات ، بعدما اخبرته عن المكان الذي تعمل به.
التقت عينيها بخاصتيه، يلوح لها كي تأتي، وهي بالطبع خير ملبي.
بداخل سياارته كانت جلستها معه، تعبر عن لهفتها بلقاءه:
– انا مش مصدقة انك عملتها وجيت، عرفت توصل هنا ازاي؟
– انتي عبيطة يا بنتي؟ انا ظابط شرطة، يعني لو العنوان تحت الارض وبرضو هعرف اوصلك، انتي ناسية اني راجل شرطة ولا ايه؟
يتحدث بزهو وثقة تذيبها، حتى الاَن لا تصدق هذا الانقلاب الذي حدث معها، من الارتباط بشخص كإبراهيم الوقح الفاسد ، الذي يحمل نتيجة فشله على المحيطين به ، لخطيبة الضابط الوسيم الذي يجلس جوارها الاَن، بأدبه الجم واخلاقه الدمثة، حتى في أقصى خيالها الجميل، لم تتخيل ان يأتي نصيبها بشخص مثله، رغم تزمته الشديد في بعض الأوقات ، ولكنها لا تنكر انها تعلقت به بشدة، وتتقبل منه اي قرار بتفهم لطبيعته.
اما عنه، فقد كانت سعادته لا توصف، برؤيتها هكذا وسط العمال، تأمر وتفرض احترامها عليهم، وقد كان هذا اول ما لفت انظاره اليها، الفتاة الشجاعة التي انقذت شقيقتها من براثن ابن خالتها الفاسد .
يرى بها الزوجة المناسبة، رغم انها لا تملك الا جمال عادي لا يوازي جمال شقيقاتها، إلا انها تملك جسدًا متناسق، وقد ساهمت الحركة الكثيرة لها في فقدان الدهون، ولكن ظلت بخيرها ايضا، كما تخبره دائمًا بسجيتها، فبرغم اخلاقه العالية مع الجميع، إلا انه في النهاية رجل ، وحلاله احق ان يرى به ما يتمنى ويأمل.
ادار محرك السيارة بعدما اشبع ابصاره منها ، لتسأله هي بلهفة:
– ناوي تاخدني وتروح بيا فين بقى؟ انا مش عايزة اسيب الشغل، لا شهد تعلقني.
دوت ضحكته برجولة مست قلبها، ليردف بزهو:
– تعملها بس ولا تقربلك حتى، دا انتي خطيبة حضرة الظابط عصام ولا مكتوبة على اسمه كمان، يعني شهر بالكتير وتبقي حرمه فعليا، تقدر تتكلم هي ولا المهندس جوزها وانا اللي اعلقهم الاتنين.
تشعر بقلبها على وشك التوقف كلما اخبرها بها، تلك الجملة الساحرة، حرمه، حرم الضابط عصام.
ليأتي ردها كالعادة بابتسامة خجلة، تزيده هياما بها فتفقده البقية الباقية من صبره:
– لااا انا لازم اشوفله حل واختصر بقى ، الكام اسبوع اللي فاضلين ع الفرح دول ، طولوا اوي.
❈-❈-❈
حالها اليوم مختلف عن بقية الايام السابقة، شاردة بصورة غير عادية ، ورغم صمتها الدائم، إلا انها تقطعه كل فترة بطلب تفاجأ به بهجة، كما فعلت الاَن وطلبت منها اعداد طعام تتناوله في هذه الساعة من الليل وقد قاربت على العاشرة مساءً.
واضطرت بهجة لإرضائها، لتجلس مقابلها الاَن وتراقب تلاعبها بالطبق وعودتها للشرود مرة اخرى، وكما تفعل دائمًا، تحدثت تخاطبها بأمل ضعيف في ان تفهمها:
– لو اعرف بس بتفكري فيه ايه؟ عينك رايحة جاية كل شوية ع النتيجة المتلعقة في الحيطة، وكأنك مستنية حد، بعدها تلعبي في طبقك على اساس انك بتاكلي، رغم انك محطتيش معلقة واحدة في بوقك.
بالطبع كان ردها هو المزيد من النظرات الخاوية، والتي تفقد بهجة الامل من شفائها، رغم كم الأدوية التي تتناولها بانتظام بطاعة تدهشها في بعض الاوقات.
– ماشي يا نجوان هانم، بس انا كان غرضي اتكلم معاكي، بصراحة احيانا بحسك فاهمة.
قالتها بهجة ليحدث اتصال بصري بينهما غير مفهوم، واستمر لمدة من الوقت جعلها تتيقن بقرب استجابتها، حتى حدث مالم تتوقعه، حينما باغتتها المرأة بالقاء كوب الماء عليها بدون انذار ، لتشهق مجفلة من فعلتها، فتلتقط انفاسها بفزع متمتمة:
– ايه اللي انتي عملتيه دا؟ حرام عليكي يا شيخة هتقطعي خلفي بعمايلك دي.
سمعت منها وكأنها إشارة الاحتفال، لتنطلق في نوبة من الضحك المتواصل ، تصفق كفيها ببعضهما وتزيد من زهول بهجة التي وجمت تراقبها بصمت،
لتستغل الآخرى، وبحركة سريعة، دفعت الاطباق وما يحتويها من طعام بطول ذراعها، لتسقط على الأرض، وانتشرت الفوضى حولهم بشكل مزري .
حتى صارت بهجة على وشك البكاء:
– يا نهار اسود عليا وعلى سنيني، امتى هلحق انيل وانضف اللي عملتيه ده، والخدامين كلهم مشيو وراحو بيوتهم، هو انتي ايه يا ست انتي، حد مسلطك عليا؟
❈-❈-❈
احتفال صغير اقامه الاثنان مع الشركاء الجدد، بمناسبة عقد الصفقة الهامة والتي ستزيد من رفع رصيدهم امام عمالقة السوق.
انجاز جديد يضاف الى سجله، وقد اثبت انه قادر على التحدي وخلق الفرص، وبمساعدة هذا المدعو كارم، يجد الامال تفتح امامه بغير حساب ،
لكن وبرغم كل ذلك يشعر ان فرحته ينقصها شيء ما،
شيء ما لم يحدده بالظبط، او ربما هو ذلك السبب القديم الذي مهما حاول انكاره، يجد نفسه منغمسا به.
ف اليوم هو الذكرى السيئة، ذكرى وفاة والده .
ترى هل تذكره الاَن، ام ان الله رحمها بنسيانه.
❈-❈-❈
دثرتها تشد عليها الغطاء، بعد أن خلدت الى فراشها ونامت على غير موعدها، وكأنها تهرب الى نومها من حزن ما، رغم كل ما تفعله معها ، إلا انها لا تبغضها، بل تشفق عليها وتحزن من أجلها، لا تصدق ان العشق هو من فعل بها كل ذلك؟ كيف لها ان تكون بهذا الضعف من اجل رجل؟
تحمد الله انها فقدت الثقة بهذا الصنف كله،
تنهدت تعود من شرودها، لتذهب وتطفيء اضاءة الغرفة، ثم تعود إلى ما ينتظرها من شقاء في ترتيب الفوضى التي فعلتها الأخرى على مأدبة الطعام واسفلها،
رغم اقتراب الساعة من الحادية عشر الا ان مروءتها أبت عليها ان تتركهم للدادة نبوية ، فالمسكينة لا ينقصها، خلعت عبائتها السوداء وذهبت بها الى المرحاض القريب ، لتمسح بالماء على بقع الطعام التي طالتها من رمي الاطباق، فمظهرها كان يثير الشفقة بحق.
عادت بها الى الردهة التي يوجد بها مائدة الطعام،
لتلقى بنظرها سريعًا، ثم تسحب شهيقًا مطولا، وتخرجه، قبل ان تستعين بالله ، وتبدأ في رفع الاطباق وتنظيف الارض، ومائدة السفرة، بعدما القت العباءة على احد المقاعد، تتركها كي تجف حتى تنتهي، لتعمل هي بملابسها البيتيه التي كانت ترتديها في الأسفل.
بنشاط وتركيز شديد ، ذهبت بالاطباق الى المطبخ، تجليهم بسرعة، ثم أتت ترفع السجادة الصغيرة ومفرش المائدة، تضعهم في ركن وحدهم لغسلهم بعد ذلك ،
وتنهمك بعدها في التنظيف ومسح الارضية، حتى انها لم تنتبه لمن عاد الى منزله، تاركا الحفل في نصفه، فبرغم القساوة التي تأصلت به على مر السنوات، إلا ان قلبه لم يطاوعه ان يترك والدته في هذا اليوم، دون ان يطمئن عليها،
ليفاجأ الاَن بهذا المشهد،
فتتجمد اقدامه عن التقدم ، يطالع شعرها الحريري الذي كان يغطي وجهها، ملابسها الملتصقة بالقد الملفوف برشاقة مذهلة، بنطالها البيتي المرتفع لأسفل ركبتها، وتيشرت بيجامة في الأعلى،
اشياء عادية غاية في البساطة ولكن عليها كانت تسلب العقل .
تلك الفتاة التي لو لم يعلم من نبوية بوجودها الاَن، لم يكن ليعرفها ابدا، وذلك للصورة ان اخذها عنها، في التخفي اسفل الملابس السمراء.
لقد رأى اجمل النساء من دول عدة، ابدا لم تؤثر فيه امرأة كما حدث الاَن.
كالذي اصابه الخرس، ظل بوقفته مشدوهًا يطالعها، تلك الحورية التي تحتل منزله منذ ايام عدة ، غافلا عنها ولا يعطيها بالا، حتى يأتي اليوم فيتفاجأ بها على هذه الهيئة!
منكفئة فيما تفعل ولا تدري بمن التصقت قدميه بالأرض بالقرب منها، وضاعت في جوفه الكلمات، حتى انتبهت هي اخيرا لترفع رأسها فتقابل ببريقها الأخضر بندقيتيه، فتنتفض بذعر نحو عبائتها المبتلة تضعها عليها متمتمة بارتباك :
– انا اسفة مكنتش واخدة بالي .
ابتلع هو كي يعود لصوابه ، فخرجت كلماته بدون ترتيب ، ورغم انه يعرفها:
– انتي مين؟
اضطربت بحرج، تلف شعرها بعشوائية قبل ان تغطيه بالحجاب، لتطرق وتبتبلع ريقها بصعوبة:
– انا بهجة الجليسة الجديدة للهانم الكبيرة سيادتك.
– انا بس كنت بنضف من شوية الاطباق اللي دلقتها نجوان هانم.
تجاهل كل استرسالها، وركز على شيء واحد، اسمها
والذي علم به من لورا ومن نبوية، لكن منها، يشعر وكأنه لاول مرة يسمعه، وبصره يجول على ملامحها الجميلة، يتعرف بها لأول مرة.
غير منتبهًا لوضعه، وقد اثار بتحديقه بها الرعب، لترتجف داخلها، تود الركض من محلها الى خارج المنزل ، ليتها ما اطاعت الدادة نبوية.
لابد لها من الذهاب الان وفورا.
– انا كدة خلصت اللي عليا، استأذن بقى عشان امشي
قالتها وتحركت نحو محفظتها وهاتفها الحديدي، ترفعهم عن احد المقاعد امام بصره، ليباغتها برده:
– تمشي تروحي فين؟ انتي عارفة الساعة كام دلوقتي؟
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
– تمشي تروحي فين ؟ انتي عارفة الساعة كام د لوقتي
تطلعت اليه ببعض الارتباك والتشتت تجيبه بسجيتها :
– عادي يعني , هشوف اي وسيلة مواصلات نقل عام واركب فيها , مش مشكلة.
ضاقت عينيه باستنكار :
هي ايه اللي مش مشكلة ؟ الساعة دلوقتي داخلة على اتناشر.
_ يانهار اسود.
هتفت بها بعفوية اثارت تسليته, لتلقي بنظرها نحو شاشة هاتفها الرديء فتاكدت لتلطم بكفها على وجنتها مرددة بجزع:
– انا خدني الوقت ومحسيتش بنفسي مع الهانم , هي دادة نبوية مجتش ليه ؟ دي كانت مواعداني هتيجي احداشر بالكتير , ازاي قدرت تعمل فيا المقلب ده.
تحدث بابتسامة لم يخفيها رغم ادعاءه الرزانة امامها:
الدادة كلت حلو مع الجماعة قرايب بنتها , وللأسف داخت وتعبت من مجهود العزومة , هي بلغتني انها مش هتقدر تيجي النهاردة , لأنها حاولت تتصل بيكي بس للأسف تليفونك كان بيرن معاها عالفاضي.
اطرقت رأسها بشرود , وخرج صوتها ببحة مزجت مابين الخوف والحزن :
– ربنا يشفيها يارب , خلاص بقى انا همشي دلوقتي وهبقى اتصل بيها اما اروح اطمن عليها , عن اذنك يافندم.
قالتها , وماهمت بأن تتحرك حتى أجفلها بنبرته الحازمة:
بقولك ماينفعش تخرجي دلوقتي الساعة داخلة على اتناشر انتي بتفهمي ازاي؟
برقت عينيها فجأة برفض وغضب لانفعاله الغير مبرر, لتكبت بصعوبة داخلها عدم الرد بشيء لايعجبه, حتى لو اضطرت لخسران وظيفتها ,هذا شيء قد اعتادت عليه:
– حضرتك متشغلش نفسك, انا بعرف اتصرف كويس اوي.
لاحت على جانب فمه ابتسامة لم تفهمها ,ليرد ببرود وعيناه تلاحق تفاصيلها بجرأة تثير الأستفزاز.
– ماشي يابهجة , انا عارف انك سبع رجالة في بعض , لكن برضو انا ما يخلصنيش, ومستعد اوصلك بنفسي.
– لأ.
خرجت منها سريعا وبدون تردد , لتثير اندهاشه أكثر بفعلها:
– قصدي يعني اني مش عايزة ازعجك يا فندم , لأني عارفة طريقي كويس وبعرف اتصرف، عن اذنك والف شكر على زوقك.
قالتها ثم التفت على الفور , متخذة طريقها نحو الخروج, لاتعطي له بالا ,ليفتر فاهه من خلفها مفتوحا بذهول, ثم يتحول لابتسامة متسعة, فيتناول هاتفه, ثم يتصل على احد الاشخاص:
– ايوة يا علي , اسمعني كويس.
❈-❈-❈
بخطوات ثابتة خرجت من المنزل الضخم، متخذة طريقها نحو الباب الحديدي ثم الشارع ، ولتلقى بعد ذلك حظها فى البحث عن وسيلة تقلها، رغم الرعب الذي يتغلغل داخلها في العودة الى منزلها في هذه الساعة المتأخرة من المساء، وهواجس تدور برأسها حول نوعية البشر المضطرة أن ترافقهم حتى تصل الى وجهتها، لتتضرع داخلها، وتناجي الله القوة.
الاَن وقد خرجت من محيط المنزل والحراس التي تحاوطه، تجول عيناها بالشارع الفسيح، وقد خلى من السيارات والمارة الا قليلًا،
تجسر نفسها في السير نحو وجهتها وقد اصبحت وحيدة لا تملك الا ايمانها في مواجهة المخاطر.
– عديها على خير يارب.
صارت تتمتم بها ومجموعة من الادعية والايات الحافظة، حتى تفاجأت باضاءة قوية لإحدى السيارات تأتي في مواجهتها، لتضطر هي للأفساح لمرورها، وكانت المفاجأة حينما اكتشفت هوية السائق، والذي تعرفه من توصيله الدائم للدادة نبوية ، ليطل برأسه وشعره الابيض بابتسامة مشاكسة يخاطبها:
– جايلك قلب ترجعي لوحدك في نص الليالي يا بهجة.
ضحكت باضطراب تهدئ من ضربات قلبها المتسارعة، في ردها للرجل العجوز:
– عم علي… خضتني حرام عليك، افتكرتك واحد غريب وبتعاكس.
– بصراحة انا لو غريب، وشوفت واحدة حلوة كدة في الشارع، لازم اعاكسها .
قالها العم علي بمشاكسة لتسهم بنظرها اليه، حتى جعلته يضحك بملىء فمه، ليتابع بمرح:
– انتي لسة هتنحي؟ ياللا تعالي يا بت اركبي معايا اوصلك في طريقي.
ترددت باعتراض:
– ماا بلاش يا عم علي، العربية مش بتاعتك .
هتف بها حازما دون يختفي منه المرح:
– بلا بتاعتي بلا بتاعة غيري، رياض باشا اساسًا هو اللي أمرني.
– رياض باشا هو اللي أمرك؟
تمتمت بها بعدم تصديق، ليأمرها هو :
– انتي لسة هتسألي؟ اخلصي يا بهجة خليني انا كمان ارجع بيتنا واريح انام، يلا…..
اضطرت تحت إلحاحه ان تزعن لتنضم معه في الكرسي الخلفي بارتباك منها، حتى جعله يعلق بمرح:
– يعني كدة بقيت انا السواق بتاعك، والله تستاهليها.
وختم ضاحكًا، ليظل مستمرًا بأحاديثه معها، كي يخفف من توترها، حتى وصل بها الى مدخل الحارة وقد كان في انتظارهم شقيقها، بعدما اتصلت به وابلغته بعودتها.
❈-❈-❈
– هااا اطمنت على حبيبة القلب انها رجعت.
تهكمت اسراء بالكلمات نحو زوجها الذي انتفض متحفزًا فور رؤيته لطيف غريمتها على مدخل الحارة، بصحبة شقيقها الذي هبط عزيمته في الخروج واستقبالها موبخًا تأخرها حتى هذا الوقت.
وتأتي الاَن زوجته لتزيد عليه وقد فهمت ما يدور برأسه:
– راجعة مع اخوها، يعني ملكش حجة تتعرضلها.
حدجها بنظرة نارية لم تأبه بها لتتابع بعدم اكتراث:
– قوم يا اخويا قوم، نام في فرشتك احسن وافتكر ان وراك شغل في الوكالة، بدل ما انت مضيع وقتك في الفكر ع اللي راح، والحزن ع الاطلال.
زمجر غاضبًا يكاد ان يفتك بها:
– يا بنت ال…. غوري يا اسراء، بدل ما اخليها عشيتك الليلادي انا مش ناقصك.
بابتسامة شامتة علقت وهي تغادر من امامه:
– لا وعلى ايه؟ انت حر.
قالتها واختفت من أمامه، ليعلق في اثرها:
– فرحانة فيا يا بت الجزمة، ماشي.
ادار رأسه للناحية الأخرى مغمغمًا بتوعد نحو المتمردة ابنة عمه:
– وانت كمان يا بهجة، برضو حسابك عسير عشان تبطلي تروحي وتيجي على كيفك.
❈-❈-❈
في اليوم التالي
استيقظت بهجة على اتصال هاتفي برقم غريب ، لترد بصوت ناعس مستفسرة:
– الوو…. مين معايا.
– انا يا بهجة.
وصلها الصوت الرجالي ذو البحة المميزة، لتنتفض بجزعها، تفتح اجفانها على وسعهم، فتبتلع ريقها مرددة بارتباك:
– انت مين يا فندم ؟
للمرة الثانية تسأله بعدم تركيز، وهو يجاهد الحفاظ على جديته:
– انا رياض الحكيم يا بهجة.
حينما ظلت على صمتها وقد اصابتها الصدمة بالخرس، تابع بتسلية:
– شكلك كدة صاحية من النوم ومش مركزة، ع العموم انا هبعتلك عم علي يجي ياخدك بالعربية، تحلي محل الدادة النهاردة لانها تعبانة.
– دادة مين؟
تساءلت بها وكأن عقلها لم يعد يعمل، ليتابع بصبر ليس من شيمه، شارحًا لها وقد اصبح الامر يروقه:
– قولتلك دادة نبوية اللي تعبانة، انا خارج دلوقتي ورايح على شغلي، الهانم متتسابش لوحدها، واياكي تسهي عنها.
قالها وانهي المكالمة على الفور ، لتتطلع هي لفترة من الوقت بشاشة الهاتف، لتتدارك متسائلة بجزع:
– نهار اسود، طب وشغلي في المصنع، مين اللي هيشيله؟ انا اتصل بنبوية دلوقتي ولا الريسة صباح، دا ايه الربكة دي يا ربي على اول الصبح.
❈-❈-❈
وفي مكان اخر،
حيث كانت بين زهورها ، تمر عليهم بدلو الماء لتسقيهم وتراعيهم، وصوت المذياع يصدح بأغاني الزمن الجميل، ليتفق مع مزاجها الرائق وهي تردد خلفهم بما تحفظه، حتى اجفلها صوت الشجار المعتاد في هذا الوقت .
– اتلمي يا لينا واتقي شري على اول الصبح، بدل ما اطلعهم عليكي، انا مش شايف قدامي اساسًا دلوقتى.
– وان ما اتلميتش يا امين هتعمل ايه؟ انا بقى مشتاقة اشوفهم، اللي انت عايز تطلعهم دول.
توقفت مجيدة عما تفعل لتغمغم بعدم فهم، لهذان المعتوهان:
– نهار اسود، هو ايه اللي يطلعهم وهي عايزة تشوفهم؟ هي العيال دي مخها ضرب ولا ايه؟
تحركت على الفور خارجة من الشرفة اليهم، لتجد ابنها يهدد بقبضته نحو هذه المجنونة:
– يا بنتي اتاخري عني وبلاش تستفزيني، قلم واحد بس مني هيطيرلك صف ضروسك كلهم.
– تخصرت امامه بتحدي:
– طب وريني هتطيرلي صف اسناني ازاي يا امين ، انا قدامك اهو .
– يا لهوي عليا.
تمتمت بها مجيدة قبل ان تصل اليهما، وتقف حاجز بين ابنها وزوجته، والتي صارت تزيحها بخفة لتبتعد للخلف.
– اخزي الشيطان يا حبيبي وابعد عنها كدة، دي حامل واحنا مش ناقصين.
تلقف قولها ليصيح بغضبه:
– ما هو دا اوس المشكلة يا ماما، الهانم بقولها تريح شوية عشان العيل وهي مفيش فايدة، قاعدة تتنطط من هنا لهنا زي فرقع لوز لما هتشلني.
وقبل ان تتفوه مجيدة بكلمة، سبقتها الأخرى:
– يا سيدي وانا اشتكلتك، ما انا فل وعال العال اهو.
قاطعتها مجيدة تكبر بتحذير:
– يا بنتي الله اكبر، متفوليش على نفسك يا منيلة.
– عشان تشوفي يس يا ماما، المورستان اللي انا عايش فيه، اهي كل كلامها كدة، لما هتطير برج من نفوخي.
ربتت مجيدة على كتف ابنها لتجذب الأخرى والتي كانت تزفر بضيق، تضمها اليها ، كي تلطف مع الاثنان:
– بعد الشر على نفوخك يا حبيبي، وانتي يا بنتي ربنا يحفظك، هو برضو خايف عليكي اعذريه، روح يا امين على شغلك وانا هتفاهم معاها.
اومأ لها بطاعة وفور ان هم بالتحرك، عاد اليه الجنون مرة اخرى عقب قولها:
– بس انا ورايا شغل يا طنط مينفعش اتأخر.
– اهي يا ماما، عشان تشوفي بنفسك دماغها، دي مينفعش معاها التفاهم ابدا.
تدخل شقيقه والذي كان خارجًا من غرفته يسند زوجته بخطوات متمهلة بطيئة من اجلها:
– مالكم على اول الصبح كدة ازعجتونا وقلقتوا نومنا يا بعدة ، الواحد ميعرفش بقى يريح في بيته منكم.
– يا حبيبي انت يا رايق، سامحنا يا اخويا لو ازعجناك .
عقب بها امين متمهكا بحنق ، ليثير ابتسامة متلاعبة على ثغر اخيه،
– حقكم تصالحونا بقى؟
قالها ليزيد من استفزاز اخيه الذي ارتفع طرف شفته بغيظ له، ليتدارك بعد ذلك حينما وجد زوجته تهرول بلهفة نحو صديقتها:
– شهودة يا قلبي، عاملة ايه النهاردة انتي والبيبي؟
لانت ملامحه، متأثرًا بعاطفة الاخوة التي تجمع بين الاثنتان، ليخاطب هو الاخر زوجة اخيه بتعاطف:
– اخبار رجلك ايه النهاردة يا شهد؟ لساها برضوا بتوجعك؟
اومأت متمتمة له بالحمد ليضيف زوجها بتأنيب ينبع من خوفه:
– ما هي طبعا لسة مخفتش، عشان الحركة عليها، انا عارفها مبتثبتش مكانها، ربنا يستر ع الجنين .
دافعت عن نفسها بكلل وتعب:
– يا حسن انا طول اليوم نايمة على سريري، مش خطوة ولا خطوتين هما اللي هيزيدو تعب الرجل ، ولا هيسقطوا الجنين؟
– تمام يا شهد، انا قاعدلك النهاردة من الشغل خالص، اما اشوفهم خطوتين ولا اكتر.
اشاحت برأسها عنه، والتوى فمها بطريقة اضحكت من انتبه مثل مجيدة وابنها الضابط امين والذي عقب بمرح:
– والله يا شهد انتي الله يكون في عونك.
التقت عينيه بفيروزتي زوجته ، ليتابع بكيد لها بادعاء يجيده، كي لا يضعف امامها:
– وعوني انا كمان معاكي ويصبرني على ما بلاني
❈-❈-❈
سارت تخرج من الحارة مسرعة، وقد غيرت طريقها المعتاد ، وتعجلت عن ميعادها الصباحي، كي تلحق بالسيارة التي اتفقت مع سائقها عبر الهاتف ان يبتعد بقدر الامكان عن منطقتها، وقد تأكدت من الدادة نبوية بحقيقة مرضها بالفعل، كما اخبرتها بالتفصيل عن موقف الامس، وترددها بالذهاب بعدما رأها بهذه الصورة الغير لائقة امامه، حينما كانت تمسح الارضية ببيجامة النصف كم وشعرها الذي ظهر جميعه بغفلة منها ، ولكن المرأة هونت الأمر عليها، بل وسفهت منه، حتى اقنعتها ان الأمر لا يستحق التفكير من الأساس،
وبدورها هي اتصلت بصباح كي تغطي عليها ، حتى لا يحتسب عليها يوم غياب في عملها بالمصنع.
أبصرت عن قرب العم علي، وقد وجد احد الاكشاك، ليجلس مع صاحبه في انتظارها، يتحدث ويتباسط مع الغريب كعادته، ليتها تملك نصف مزاجه الرائق دائمًا.
حينما انتبه اليها ، تبسم لها بتحية ثم ترك كوب الشاي من يده، ذاهبًا نحو محله خلف عجلة القيادة، لتدلف خلفه على الفور متمتمة بقلق:
– اتحرك بسرعة يا عم علي .
ليذعن الرجل مغادرا بها على الفور، رغم استغرابه من توترها.
وبعد لحظات قاربت الربع ساعة، خرجت من خلفها شقيقتها الصغرى لتذهب نحو مدرستها، ثم تقابل بابصارها ابن عمها سمير الذي توقف محله ف مدخل البناية، يطالعها بتساؤل اثار التسلية داخلها، لتسخر كعادتها:
– يا دي النهار الملزق لما يبتدي من اوله.
اصابته كلماتها بالغيظ الشديد حتى انه لم يصمت لها هذه المرة ، يدفعه الفضول ايضا في السؤال:
– بطلي قلة حيا يا عائشة واصطبحي ع الصبح.
رفرت اهدابها بتمثيل لتردد باستخفاف:
– افندم حضرتك انت بتكلمني انا؟
– امال بكلم خيالي.
هتف بها ليقترت متسائلًا:
– اختك مخرجتش ليه معاكي النهاردة؟ هي تعبانة؟
هذه المرة صارت تضرب كفا بالاخر تحدث نفسها بتجاهل له:
– لا اله إلا الله، انا قولت من البداية انه يوم ملزق.
همت ان تتخطاه غير مبالية، ليوقفها ناهرًا وكأنه قد اصيب بالجنون:
– لما حد كبير يكلمك ردي، وبلاش قلة ادب ولا تلقيح بالكلام، اختك ايه اللي أخرها لقريب الساعة واحدة بالليل امبارح؟
وكأنه ضغط على زر الاشتعال، لتفرغ به طاقة الغضب التي تحملها منه ومن اسرته:
– اولا اختي ملكش حق تسأل عليها، ثانيا بقى انا مؤدبة غصب عن اي حد ، ولو مش مؤدبة برضو ملكش دعوة.
لسانها الحاد كسياط تجلد من أمامها، ولكنه ابدا لن يصمت لها:
– بقى دي اخلاق بنات محترمة؟ بترودي على ابن عمك الكبير وتقلي أدبك عليه.
تكورت وجنتيها بضيق طفولي تزفر في وجهه بحنق، ثم تهم ان تقرعه بما يستحقه، ولكن اوقفها مجيء شقيقه الأصغر، ينقذه من براثنها:
– ايه في ايه؟ صوتكم جايب لاخر الشارع ؟ ايه اللي حصل يا عائشة؟
ردت رافعة له حاجبها:
– اسأل اخوك الكبير المحترم، اللي بيتعرض لواحدة قد عياله، وبعدها يتهمني اني بقل ادبي، طب انا ماشية ورايحة مدرستي دلوقتي، واياك الاقيه بيوجهلي اي كلام تاني .
قالتها وتحركت ترفع حقيبتها مغادرة امام صدمة الاثنان، ليردد سمير في اثرها بعدم تصديق:
– بقى انا بتعرضلها وهي قد عيالي؟ ليكون فاكرة نفسها طفلة حقيقي، دي عجوز شمطاء
.
– وحد قالك تقف في وش القطر، اتحمل بقى لسانها اللي زي المرزبة .
تفوه بها سامر ضاحكا، يصعد الدرج لمنزله، قبل ان يتوقف على قول شقيقه؛
– انا كنت بسألها على اختها الكبيرة، الهانم راجعة امبارح على واحدة بالليل، والنهارده مظهرتش خالص.
ارتفع حاجب الاخر بريبة مرددًا:
– واحدة بالليل! ليه يعني؟
❈-❈-❈
حينما توقف بها العم علي داخل محيط المنزل الضخم، ترجلت منها سريعًا والهاتف على اذنها، تتحدث مع الدادة نبوية لتنفذ التعليمات المطلوبة في مجالسة الهانم الكبرى،
كان هو في طريق خروجه نحو عمله لتتشبث قدميه بالأرض فور رؤيتها، حتى مر طيفها يتخطاه، فيصل لأسماعه تحيتها على عجالة:
– صباح الخير يا باشا، ايوة يا دادة انا معاكي
اكملت محادثتها تسرع بخطواتها وكأنها فعلت ما عليها والان تريد الهروب منه، ليتوقف محله ناظرا في اثرها حتى دلفت لداخل المنزل واختفت بداخله .
ثم يعود لصوابه شاعرا بشيء ما غير مفهوم ، ان كان ارتياحًا لمجيئها بديلا في الوقت المناسب لرعاية والدته في وقت مرض المرأة التي تتحملها ، ام هو لمحة من انتعاش سرت داخله برؤيه البريق الاخضر رغم حديثها المقتضب السريع، ثم هذا الشيء المختلف بها، رغم ارتدائها هذا الثوب الرديء ، لكنه لا يليق بها ابدا.
❈-❈-❈
ربتت سميرة على كتف ابنها وهو يتناول الطعام بنهم، اثناء جلستها معه في موعد الزيارة الاسبوعيه، تخاطبه بتعاطف، وعدم احتمال لما وصل اليه.
– كل يا حبيبي وبر نفسك، انا جيبالك اكل كتير اشكال والوان، دا غير الفلوس اللي حطيتها في الامانات ، مش عايزاك تحتاج حاجة خالص يا ابني،
رد ابراهيم يلوك الطعام بفمه:
– انا عايز اخرج ياما، هو دا اللي انا محتاجه، مش شوية الاكل والشرب داخل سجن من اربع حيطان.
مصمصت بأسى وحنق يغمرها:
– ويعني انا هعمل ايه اكتر من كدة يا حبيبي؟ المحامي بياخد شيء وشويات وابوك على قد ما بيعارضني، لكنه في الاخر بينخ ويديني اللي عايزاه عشانك، لكن بقى اللي معقد الدنيا هي شهادة الشهود، خالتك اترجتها كذا مرة، لكن المزغودة امنيه راكبة راسها، نست اللي كان ما بينكم، وباعت بطول دراعها ، بعد ما اتخطبت لحضرة الظابط، الهي ما توعى تفرح.
كلمات الحقد التي تتفوه بها، كانت تزيد من صب الوقود واشعال النيران بصدر ابنها الناقم من الأساس:
– اه ياما متفكرنيش، بت ال……. اللي كانت زي الخاتم في صباعي، لعبة احركها من ايدي دي، لإيدي دي، خلاص كبرت وشافت نفسها.
زفر بحريق من داخله مع دخان السيجارة التي اصبح ينفث بها غليله، بعد ترك الطعام:
– اموت واعرف بس الظابط دا ايه اللي عجبه فيها؟ عادية واقل من العادية كمان، دا غير انها غبية، مفيهاش غير بس جسمها………
توقف وقد لاحت بعد اللقطات القديمة في مخزن والده، وما كان يفعله بخسة معها ، ليمسح بظفر ابهامه على ذقنه النابتة بتفكير:
– يكونش دا اللي عجبه فيها هو كمان؟
تبسم بغليل مغمغمًا:
– ماشي يا امنية، والله ما هاسيبك.
❈-❈-❈
اثناء مطالعته للملفات ، وتوقيعه على الاوراق المطلوبة، وهي تحدق اليه بوله كعادتها، كي تفتح معه اي حديث عادي، تخرج من اطار الرسمية التي يحبسها بها:
– ماما فرحت اوي لما حكتلها عن انجاز الشركة والتوقيع اللي حصل امبارح مع مسؤلي الماركة العالمية للأزياء، مش قادرة اقولك كان ناقص بس تزغرط.
رفع رأسه بشبه ابتسامة خفيفة كرد لها، ليقول ببرود لا يناسب لهفتها قبل ان يعود لما يفعل:
– ربنا يبارك فيها، سلميلي عليها
تمتمت بإحباط اصبح يلازمها من افعاله:
– يوصل ان شاءالله، رغم انها هتموت وتشوفك بنفسها، ترغي وتتكلم معاك.
اوما يرضيها بمجاملة:
– ان شاء الله، اكيد هشوفها في اي مناسبة للعيلة.
بادلته هي الأخرى بابتسامة باهتة، لتتناول منه عدد الملفات ، وقبل ان تلتف أوقفها بقوله:
– صحيح يا لورا، متنسيش تتصلي بالدادة نبوية وتعرفي ايه حالتها عشان تبعتيلها دكتور كويس، اصلها تعبانة جدا على حسب ما سمعت .
تساءلت بتوجس:
– وطنط نجوان مين مراعيها دلوقتي.
– بهجة .
توسعت عينيها بمفاجأة وهو يخبرها عن مجيئها اليوم منذ بداية الصباح بناءًا على طلبه، لتعقب بتشتت وغيط:
– ازاي حضرتك؟ وانا شايفة اسمها في دفتر الحضور للعاملات قبل ما اجي، دي اكيد صباح بتغطي عليها بقى، انا هطين عيشتها.
صدحت منه فجأة ضحكة مجلجلة نادرة، كادت ان تطيح بها، ليقول بمرح:
– طب والله جدعة وعملت اللي انا غفلت عنه، اسمعي يا لورا، احسبي كل الايام اللي هتقضيها بهجة في الشفت زيادة محل الدادة نبوية وجمعيهم في مكافأة لها، دا غير طبعا الايام اللي هتغيبها هنا متتحسبش غياب.
برقت عينيها باعتراض لم تخفيه:
– وافرض استهبلت ولا وزودت فيها، دي عمرها ما هتبقى زي دادة امينة، انا اصلا بدور على واحدة زي دادة عشان نستبدلها في أي وقت.
ترك كل شيء وارتكزت عينيه عليها برد هاديء وحازم:
– وماله يا لورا دوري ولو لقيتي زي الدادة جيبيها برضوا تساعد معاهم….. مش نستبدل..
بقوله الحاسم أنهى كل سبل الجدال معه، لتنصرف من امامه، تغمغم داخلها بكل عبارات الحنق والندم على توظيف هذه الفتاة بمنزله.
❈-❈-❈
– رايحة فين يا سنيورة؟
توجهت درية بالسؤال نحو ابنتها التي خرجت من غرفتها تتمايل بخطواتها المتبخترة، وقد تزينت بمبالغة كعادتها، وارتدت افخر الملابس من خزانتها واضيقها ايضا، كي تبرز المنحنيات والتفاصيل اللافتة بها.
فجاء جوابها من بين تلويك علكتها :
– يعني هكون رايحة فين بس ياما؟ هو انا ليا مين غير بيت اخويا، اهو ازوره وبالمرة اطمن على عمتي المسكينة التعبانة.
– عند شادي.
تمتمت بها درية، لتضيف بعدم رضا:
– احنا مش قولنا نبطل الروحة والجاية على هناك، مدام خطب وكل واحد راح لنصيبه، يبقى نشوف احنا نصيبنا بقى؟
قالتها بمغزى فهمت عليه ابنتها ، لتقارعها برفض:
– وطبعا قصدك بالكلام ده، الواد ربيع ابن عم خيري صاحب ابويا، بقى الاشكال الضالة دي تتسمى نصيب ياما، انا عايزة واحد ببدلة ملو هدومة، مش العيل الشارب ده.
في رد مباغت، مصمصمت درية بشفتيها ترد بسخرية:
– اه يا ختي حقك ما انتي واخدة البكالوريا ولا الاسنس اللي بيقولوا عليه…… فوقي يا روح امك دا انتي شهادة دبلوم صنايع وخدتيها بالغش كمان، يبقى ايه لزوم العنطزة بقى؟
دبدت قدميها على الارض بغيظ وعيناها التفت نحو المطبخ، لتعود اليها هامسة بتحذير:
– ما توطي صوتك بقى ياما، وخلي بالك احنا مش لوحدنا في البيت .
قالت الأخيرة بإشارة نحو زوجة اخيها التي كانت تعد الطعام داخله، ولا تدري بأنها كانت تضحك الان بصوت مكتوم، وقد وصلها الحديث،
اما عن درية فقد امتقع وجهها بحنق، والأخرى تلح عليها:
– سبيني امشي بقى ياما، انا مبعملش حاجة غلط، واحدة ورايحة بيت اخوها وتطمن على عمتها، فيها ايه دي بقى؟
❈-❈-❈
عودة لبهحة التي مازالت تقنع نجوان وتحاول ترضيتها، بعدما استيقظت ولم تجد نبوية التي اعتادت على مجالستها صباحًا ومعظم الوقت:
– يا ست عبريني، يعني لا عايزة تقومي تفطري ولا تغسلي وشك حتى ، هتفضلي لازقة طول اليوم ممدة في السرير.
ظلت على حالها، لا تنطق الا كلمة واحدة:
– نبوية.
تنهدت بهجة داخلها، تناجي الصبر، لتستمر في مهادنتها:
– ما قولتلك كزا مرة انها تعبانة ، هي لو تقدر برضوا هتسيبك ومتجيش.
اشاحت بوجهها للناحية الاخرى ، برسالة واضحة برفضها، لتغمض عينيها بيأس لمدة من الوقت ، حتى رفعت رأسها فجأة تعبر عما خطر برأسها، وهي تراقبها:
– شعرك اصفر وزي الحرير ، سبحان الله، حتى وانتي قايمة من النوم ومنعكش حوالين وشك برضوا مخليكي قمر.
يبدو ان كلماتها قد أتت بأثرها، وقد التفت لها تنتظر المزيد، ف الانثى حتى لو كانت بنصف عقل سوف تستجيب للغزل ،
فتبمست بهجة متابعة بإعجاب:
– انتي عارفة بقى ، انا كان نفسي يطلع شعري اصفر زيك كدة، يعني عشان يليق على لون عيوني، حكم احنا وارثين العيون الملونة دي من امي، انا والواد ايهاب خدنا اللون الاخضر الصافي، اما البت جنات خدت العسلي والمزغودة عائشة اخر العنقود فدي خدت الزتوني، عشان تغيظنا كلنا بروعته.
ظلت نجوان على وضعها وقد وضح جليًا ان الحديث قد اعجبها ، ليخرج صوتها اخيرا:
– انتي حلوة .
– تاني .
صدرت بمرح من بهجة لتتابع باتساع ابتسامتها:
– والله وانتي اللي قمر، ياما نفسي اوصل لسنك كدة وابقى في نص جمالك.
استجابت نجوان وبفعل طفولي اصبحت تهز اكتافها بزهو، لتردف بهجة بتمني:
– يا سلام ع الروقان والجمال يا ناس لما تبقي هادية، اه لو تبقى هادية ورايقة كدة على طول…… بقولك ايه؟ هو انا ينفع اسرح شعرك الحلو ده.،
سمعت منها لتذهب عيناها نحو الفرشاة الملقاة القريبة منهم، لتوميء بعيناها بموافقة، جعلت بهجة تقفز من محلها بحماس:
– حالا هسرحلك واعملك احلى تسريحة.
❈-❈-❈
دفع باب الغرفة ليدلف اليها بخطوات مسرعة ، ليبطأها فجأة مع انتباهه لحالة الاخر، حينما وقعت عينيه عليه،
يتحدث في الهاتف بابتسامة حالمة، يهتز بكرسيه برواق، حتى انه حاول ان ينهض كي يؤدي التحية العسكرية اليه، ولكن امين اوقفه ملوحًا بكف يده.
ليجلس مقابله يسند بمرفقه على سطح المكتب ، مريحًا وجنته على قبضة يده، يتأمله بوجه عابس جعل الاخر يخفي بصعوبة ابتسامته، قبل ان ينهي المكالمة بصوته الهامس، ليعلق امين؛
– يا خويا يا نحنوح، بتحب في تليفون الشغل يا حضرة الظابط.
دافع عصام ضاحكًا:
– الله يا فندم، هو انا بكلم حد غريب؟ دي زوجتي المستقبلية اللي كاتب كتابي عليها.
– اممم
زام بفمه متصنعُا الضيق:
– اه يا خويا فرحان اوي، هما يومين عسل وبعدها تشبع نكد.
اكمل عصام بضحكاته:
– ومالوا يا فندم، ندوق العسل وبعدها يجي النكد براحتوا، يعني احنا هنروح منه فيه.
– يا حبيبي.
تمتم بها بمصمصة من شفتيه، ليردف:
– كنا كدة في حماسك، بس يلا بقى، هو شر لابد منه وخلاص .
– برضوا شر.
– اه شر عندك مانع.
– لا يا فندم وانا اقدر.
– ايوة كدة اتعدل.
قالها امين وصدحت ضحكاتهم، بحديثهم الودي، قبل ان ينخرطوا في العمل والمناقشة حول الامور الهامة بينهم.
❈-❈-❈
قامت لها بتمشيط الشعر الحريري، حتى اعجبها، وصارت تتأمله امام المرأة، لتستجيب لها بعد ذلك وتتقبل الطعام منها، ثم تتناول العلاج دون اعتراض، ليدخل بعض الارتياح قلب بهجة، ولكن ذلك لم يمنعها من الحذر.
فقد تعلمت الا تعطيها ابدا الامان ، مضى نصف اليوم معها، حتى تفاجأت بالخادمة تخبرها:
– رياض باشا طالب يشوفك يا بهجة في اوضة مكتبه.
قطبت بعدم استيعاب:
– رياض باشا عايزني ليه؟ وهو من امتى اصلا بييجي في النهار؟
جاء رد الخادمة بعملية:
– رياض باشا مستنيكي يا بهجة، اتفضلي وانا هقعد مع الهانم اراعيها لحد ما ترجعي.
ابتلعت ريقها بتوتر:
– ودا كمان عايزني في ايه؟ جيب العواقب سليمة يارب.
❈-❈-❈
خرجا الاثنان من المصعد، ويدها مازالت محجوزة في قبضته، تأرجحها بمرح وكأنها طفلة صغيرة تتدلل عليه، وهو يتقبل منها رغم غيظه في بعض الاوقات حينما تزيد عليه.
ولكنه لم يعرف معنى السعادة الا على يدها، وقد اصبح ملازمًا لها ، في الذهاب الى العمل وفي العودة منه، وفي العمل نفسه .
تقارب يحدث بين شخصيتين مختلفتين في كل شيء ولكن الله يوحد القلوب بدون اسباب .
– هتصل بيكي النهاردة بالليل، اياكي تنامي لاطلعه عليكي بكرة في الشغل.
اهدته ابتسامتها الساحرة تشاكسه:
– والله انت وبختك، حصلتني وانا صاحية فل، انما لو روحت في النوم، انسى، حتى لو هتشغلني تاني يوم اشغال شاجة…. اه
قطعت متأوهة حينما ضغط على كفها:
– ردي وقولي حاضر وبس يا صبا، من غير ما تلفي وتدوري معايا، غلبتيني معاكي.
قهقهت بمرح مرددة:
– حاضر يا عم، بس خف يدك دي، لا يطلعلك ابو ليلة وهو اللي يرد عليك.
– والله، يعني انتي بتهدديني بابوكي.
تمتم بها ليكمل بالضغط على كفها :
– طب خليه يطلع دلوقتي وانا اعملها وضع حميمي عشان يلمنا نتجوز بالمرة، انا اساسًا بتلكك.
وكان ردها الضحك المتواصل، تزيده هياما بها، حتى اجفلهما صوت الباب الذي فتح فجأة لتطل عليهم من مدخله :
– الله، انت واقف هنا يا شادي، مش تدخل عشان تطمن والدتك برجوعك،
التفت إليها سائلا بفزع:
– مالها والدتي يا سامية؟ وانتي هنا من امتي.
ردت ببساطة:
– انا جيت اطل عليها واشوفها لو عايزة حاجة، لقيتها زعلانة وكل شوية تسأل انت رجعت ولا لأ.
افلت كف صبا، ليتحرك على الفور إليها بقلق:
– لا يبقى انا لازم اشوفها واطمن عليها بنفسى.
دلف بخطواته المسرعة الى منزله بالداخل، لتظل سامية بوقفتها على مدخل المنزل، تطالع صبا بابتسامة صفراء، قبل ان تصفق الباب فجأة بوجهها، لتعلق هي في اثرها:
– يا بت ال….. ماشي يا سامية الزفت.
❈-❈-❈
كانت تقف خلف باب مكتبه، تفرك كفيها بتوتر يكاد ان يوقف قلبها، لقد ظنت ان الأمر قد مر على خير، وقد نسى هو بانقضاء الليل او كما أخبرتها الدادة نبوية انها هي من تهول الأمر ولا شيء مما يدور برأسها قد يحدث.
أمجنون هو كي يترك كل النساء اللاتي يعرفهن وينتبه لها؟
إذن لماذا طلبها؟ ولماذا هو هنا اليوم من الأساس؟ هذه ليست عاداته كما تعلم.
ابتعلت تحاول تنظيم انفاسها وتهدئة ضربات قلبها التي كانت تدوي بتسارع من الخوف، لتجسر نفسها وتطرق بقبضتها على باب الغرفة ، ليصلها الصوت القوي على الفور:
– أدخل.
اغمضت عينيها تعيد تدريب النفس مرة أخرى، تتمتم بالأدعية تاركة حمولها على الله، لتدفع الباب وتلج اليه في الداخل، فتلقي اليه بالتحية:
– مساء الخير يا فندم، حضرتك طلبتني.
كان جالسًا خلف مكتبه يطالع احدى ملفاته، ليرفع عيناه إليها، فيخلع عنهما نظارة القراءة، ثم يتأملها بسفور وكأنه يستعيد صورتها بالأمس ويقارنها بهيئتها الاَن، بصمت مريب زاد من قلق المسكينة، قبل ان يرد برتابة:
– مساء الفل يا بهجة، انا فعلا طلبتك….. عشان اشوفك.
قال الاخيرة ضاغطًا بنبرة لم تريحها لتطرق برأسها، مسلمة امرها للمولى قائلة:
– تمام يا فندم، اللي تؤمر بيه حضرتك.
سمع منها وفجأة وجدته ينهض من خلف مكتبه، ثم يقترب بخطواته منها ، حتى وقف مقابلها يجفف الدماء بعروقها بقربه، وهذه النظرة المتمعنة بملامحها الجميلة بحق، وخضار عيناها المبهرة بصفاءها وتميزها، ثم يجيب بهدوءه:
– كنت عايز اعرف منك يا بهجة، هي لورا اتفقت معاكي تقبضك كام على شغلك هنا؟
قطبت بعدم فهم لمغزى السؤال، لتقلبها سريعًا برأسها، ثم تأتي بالظن الاسرع لذهنها الاَن:
– بتسأل على مرتبي ليه يا فندم؟ انت ناوي تديني بقية حسابي وتمشيني؟
تبسم ساخرا ليجلس على طرف مكتبه قائلًا:
– وانا لو عايز امشيكي اتصل بيكي بنفسي عشان تيجي الصبح يا بهجة ، ولا انتي عدم التركيز لساه مستمر معاكي من ساعة الاتصال .
اطرقت بحرج دون ان تنبت ببنت شفاه، لتمتقع ملامحها من سخريته التي لم تتقبلها، حتى فهم هو ليستطرد بنبرة آسفة لم تخلو من إعجاب:
– انا مش قصدي اسخر ولا استهزأ، دا كان مجرد هزار.
– تمام يا فندم، وانا مقولتش حاجة، عادي يعني.
– لا مش عادي يا بهجة عشان شكلك زعلتي فعلا
ردد بها يكتنفه المزيد من التسلية في مشاكستها، وهذا الاعتزاز الذي يلمسه في نبرتها ، غير ابهة بصفته، في اصرار منها لوضع الحدود، هذه الفتاة تستحق التأمل والدراسة.
تنهد يعود لموقعه خلف المكتب ، ليتحدث بجدية:
– شوفي يا ستي انا كنت بسأل عشان ازود على شغلك شفت، عشان تخففي اكتر عن دادة نبوية، الست كبرت ومعدتش تتحمل زي الاول، وطبعا اجرك هيبقى اضعاف .
– طب وشغلي في المصنع.
– عادي ممكن تنسقي وممكن نلغيه خالص ونخلي اللي هنا هو الاساسي.
– لا طبعا اللي هناك عليه تأمين ، انما هنا مؤقت.
خرجت منها سريعًا حتى اجبرته على الابتسام مرددًا :
– ما انا ممكن اعملك للي هنا تأمين برضو ؟
هذه المرة ردت برفض لم تخفيه:
– مش موضوع تأمين، انا مش حاطة في خطتي اساسا اني استمر جليسة.
توقف فجأة مضيقا عينيه بتفكير:
– بهجة هو انتي دارسة لحد ايه بالظبط؟
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
حينما سألها قاصدا معرفة المستوى التعليمي لها
ظلت صامتة ولم تجيبه على الفور حتى انه عاود الكرة مرة اخرى ليأتي الرد هذه المرة بنبرة مستنكرة:
وايه لزوم السؤال ده يا فندم؟
حقا تعجبه جرأتها :
– وهو لازم يكون له لزوم عشان تجاوبي يا بهجة ؟
يسأل ببساطة بجهل تام منه عن حجم الحرج الذي ينتابها في هذا الموقف كلما سألها احدهم تكره ان ترى نظرة الاشفاق منهم ,او الحزن على ما وصل اليه حالها كما تفعل بعض النساء معها .
– ثانوية عامة يا فندم، مكملتش جامعة.
– وليه بقى مكملتيش جامعة؟
مطت شفتيها بابتسامة ليس لها معني ترد بامتعاض وقد ضجرت بالفعل من إلحاحه:
– ظروف حضرتك، ودي بتحصل في كل العائلات كنت هتجوز…..
اعتدل عن جلسته مقاطعًا لها:
– واتجوزتي بقى يا بهجة؟
– انكتب كتابي.
– يعني اتجوزتي؟
– دا غبي دا ولا ايه؟
تمتمت بالجملة من داخلها، وقد نفذت طاقتها:
– يا فندم بقولك كنت، وكان كتب كتاب، يعني اتفسخت خطوبتي، واتحسبت مطلقة على الورق زي ما اتجوزت على الورق، ممكن بقى استأذن، عشان انا بدأت اقلق على نجوان هانم .
قالتها والتفت تغادر دون انتظار رده، ولكنه اوقفها على الفور بحزمه:
– لكني برضو مخدتش منك رد نهائي عن موضوع الشيفت الزيادة .
عادت اليه بحسم لا يقبل النقاش:
– انا مستمرة في شغلي في المصنع والشيفت الاضافي بتاع مدام نجوان هنا، كمساعدة لدادة نبوية، بإستثناء اليومين دول بس في تعب الدادة، ممكن امشي بقى يا افندم؟
اومأ لها بذقنه للأمام، لتخرج على الفور، تدخل بعض الهواء لصدرها، بعدما انتهت من اثقل الأحاديث على قلبها.
❈-❈-❈
دلف بخطواته السريعة داخل المنزل حتى وصل الى غرفة والدته دفع الباب دون انتظار بقلقه، ليجفل المرأة التي رفعت راسها عن المسبحة تطالعه بتساؤل .
فيجلس هو على الفور بجوارها يسألها بتفحص:
– ايه اللي حصل يا أمي؟ حاسة نفسك تعبانة ولا النوبة رجعت تاني؟
خرج رد المرأة باندهاش:
– تعبانة ليه يا حبيبي؟ ما انا كويسة قدامك اهو، وبتفرج ع الشاشة والسبحة في ايدي .
– امال كنتي بتسالي عليا ليه وانا برا في الشغل ؟
– انا كنت بسأل عليك؟ مين قال كدة .
– سامية هي اللي قالتلي .
قالها شادي وارتفعت ابصار الاثنان نحو مدخل الباب الذي وقفت واستندت على إطاره المذكورة، لتبرر على الفور:
– ايوة يا عمتي سألتيني عنه امال ايه؟ هو انتي لحقتي تنسي لما كنتي كل شوية تقوليلي اتأخر عن ميعاده، اتأخر عن ميعاده.
شردت المرأة تعصر عقلها قليلًا، ولما يأست من التذكر ، لطفت على الفور حتى لا تحرجها:
– جايز يا بنتي جايز انا برضو عقلي مبقاش بيركز اوي اليومين دول….. استني صحيح…… مش انتي باين اللي كنتي بتسألي عن ميعاد رجوعه عشان يوصلك وانا قولتلك، هو كل يوم بيجي بدري عن كدة، اكيد كان معاه حاجة مهمة النهاردة خلته يتأخر.
قالتها المرأة بسجيتها لتفحمها دون قصد منها، فيبصرها شادي بحنق شديد، يكشف كذبها، ولكنها كالعادة لا تغلب في ايجاد المبرر:
– اه يا عمتي فعلا انا سألتك، بس دا عشان ادوقه من طبق المهلبية اللي عملتهولك من شوية، قوليلو بقى هو عجبك قد ايه؟
اومأت والدة شادي برأسها توافقها بحماس:
– ايوة طبعا دا عجبني قوي، بنت عمتك نفسها حلو اوي قي الحلويات يا شادي، هي جابت لنا طبق كبير، انا خدت منه يدوب معلقتين عشان متعبش، سيبتلك انت الباقي، يستاهلوا بُقك يا حبيبي .
سمع من والدته، لينقل بأبصاره منها إلى هذه المراوغة ، بعدما اوقعت قلبه منذ قليل، وأفسدت عليه لحظة الصفاء مع محبوبته، ليكتشف الان كذبتها بشكل واضح، ووالدته الطيبة، بلعت كالعادة طعمها والاَن تغطي على فعلتها، والعجيب انها تبادله النظر الاَن بوقاحة وكأنها لم تفعل شيء.
– انا رتبت البيت كله يا شادي، ووضبت المطبخ، حكم دا كان متبهدل اوي، طبعا بقى ما هي شقة عازب، بس انت الله يكون في عونك، محدش يلومك.
زفر بداخله يجاملها بامتعاض:
– كتر خيرك يا سامية، بس رحمة اختي الله يباركلها كل يومين تلاتة بالكتير بتيجي هنا تروق كل حاجة، وانا بعمل على قد مقدرتي وماشية، يعني مش محتاجة تعب منك .
تلقفت قوله ترد بنعومة:
– تعبكم راحة يا شادي يا ابن عمتي، هو انا ليا اعز منكم عشان اجي واطل عليكم واعمل بأصلي، شوف بقى انت تقوم دلوقتي، تغير هدومك ولا تتشطف على ما احضر انا الغدا، بالمرة اتغدى معاكم، حكم الوقت خدني، ونسيت اكل من الصبح .
لم تعطيه فرصة للاعتراض، لتختفي من امامه على الفور، عازمة على ما انتوت عليه، لينقل بغضبه نحو والدته:
– البت دي ايه اللي مقعدها لحد دلوقتي ياما هنا؟ ما تروح على بيتهم، ولا تتنيل تكمل قعدتها عند اخوها وعيال اخوها، مالها بأكلنا ولا شربنا؟
ضغطت والدته على شفتيها، تحذره بهمس:
– وطي صوتك يا شادي يا بني، لتسمعك وهي في المطبخ جوا وتحرجها.
– ودي بتتحرج، ولا تتكسف اصلا ياما…..
قطع متأثرا هذه المرة بضغطها على قبضة يده، لتعود مشددة:
– متكملش يا شادي وتزعلني منك، مش بعد ما تعبت في توضيب البيت من الصبح، تكون دي جزاتها مننا ، سامعني؟
ازعن لرغبتها، كابتا امواجًا من الغضب والانفعال بداخله، فوالدته الحنونة، وبرغم علمها جيدا بغرض ابنة اخيها، إلا انها لا تخرج ابدا عن حدود الذوق معها، وتجبره ايضا على مهاودتها، وكأن الطيبة خلقت لها ولشقيقها الراحل، اما الخبث والمكر، فقد طمع بهم الشقيق الاخر له وحده، والد سامية وزوج درية المرأة المتسلطة .
❈-❈-❈
اما عن صبا والتي دلفت بحنقها الى داخل المنزل، تغمغم بالحديث والسباب مع نفسها ، حتى لفتت انتباه والدتها والتي كانت تطوي بكوم الملابس الجافة بعد غسلها ، لتعقب ساخرة على حالتها:
– اسم الله عليكي يا حبيبتي، من دلوك بتكلمي نفسك.
بعبس لم تخفيه:
– ومكلمش ليه نفسي بقى؟ والبت الزفتة اللي اسمها سامية، جفلت الباب في وشي، انا ياما تجفل الباب في وشي؟
– طب حيلك حيلك.
رددت بها زبيدة تلوح بيدها لها:
– فهميني الاول باب مين اللي اتجفل في وشك.
خرج ردها سريعًا بكلمات غير مترابطة من فرط انفاعلها:
– سامية الزفت بنت خال شادي، انا كنت عايزة ادخل معاه، بس خوفت من تحذير ابويا اللي مانعني ادخل بيته نهائي، طب انا عايزة اطمن على حماتي دلوك، اعملها ازاي؟
– يا بت انا مش فاهمة منك حاجة، ثم مالها حماتك كمأن؟ ما انا دخلت عليها الصبح واطمنت عليها .
رددت خلفها بتشتت:
– يعني حماتي مفيهاش حاجة، امال الزفتة دي بتعمل عندهم ايه اصلا ؟
ضربت زبيدة كفيها ببعضهما، وقد فاض بها من هذيان ابنتها:
– لا حول ولا قوة الا بالله، عمالة تهرتلي بالكلام وانا مش فاهمة منك حاجة، ما تجيبي يا بت من الاخر، انت عايزة ايه بالظبط؟
وكأنها كانت في انتظارها، خرج ردها على الفور برجاء:
– عايزاكي تروحي تطمني على خالتي ام شادي، وبالمرة تروحي تشوفي الزفتة دي بتعمل عندهم ايه؟
❈-❈-❈
خرج من غرفته بعدما بدل ثيابه لأخرى عادية للمنزل، ليتفاجأ بوالدته خارجة من غرفتها تتأبط ذراع ابنة خاله ساميه والتي انتبهت عليه لتعلق بابتسامة سمجة:
– كويس انك لحقت بسرعة وغيرت، الاكل سخن ومش محتاج انتظار.
تقدم يتناول ذراع والدته منها قائلا بضيق:
– مخرجاها ليه طيب من الاوضة، ما احنا بنجيبلها الاكل لحد عندها.
شهقت بمبالغة:
– يا نهار اببض، وتوسخ الفرشة من تحتيها، لا طبعا يا شادي، كدة احسن ع الاقل تفرط رجليها في الخطوتين دول.
لا ينكر صحة حديثها، ولكن الخوف هو ما يمنعه دائما عن تنفيذ ذلك، كما يحدث الاَن، مع ارتعاش جميع جسد والدته في كل خطوه تخطوها، فيه.
– انا فاهم كلامك بس برضو الامر ما يسلمش، تعالي يا ماما اقعدي.
قال الاخيرة يجلسها على مقعد السفرة الصغيرة، وجلست هي بلهفة تدعوه:
– ياللا بقى انت كمان معانا، تلاقيك راجع هلكان من الجوع.
دا انا جايبة محشي ورق عنب حكاية، جيبت طبقين واحد طلعته لبيت اخويا والتاني جيبته هنا.
رفض عرضها السخي بابتسامة صفراء:
– متشكر اوي يا سامية على زوقك، بس انا للاسف اكلت فعلا قبل ما اجي .
– كلت فين يعني؟ في الشغل ولا برا الشغل؟
خرجت منها بانفعال جعلته يرد عليها بالمثل:
– اكلت مطرح ما أكلت بقى، المهم اني شبعان وخلاص، كلو انتو بالهنا والشفا.
همت ان تزيد عليه ولكن منعها صوت جرس المنزل الذي دوى فجأة ليذهب اليه فجأة ويرى من الطارق، ليزداد داخلها الغيظ حينما لمحت وجه هذه المرأة السمراء والدة الملعونة صبا التي تكرهها، يتلقاها هو بترحاب مبالغ فيه:
– خالتي زبيدة، اتفضلي الف اهلا وسهلا.
– اهلا بيك يا حبيبي، انا جاية اطمن على حبيبتي الغالية الست الوالدة ، هي صاحية ولا نايمة.
اشار لها بيده نحو والدته التي تبسمت لها ، لتهلل زبيدة برؤيتها جالسة بعيدة عن فراشها:
– وه وه بسم الله الله اكبر عيني باردة عليكي يا غالية .
تقدمت للداخل تتبادل معها المزاح والحديث الودي، اما شادي فقد توقف على مدخل المنزل ، بابتسامة متسعة وعيناه الى الخارج، ليثير فضول ابنة خاله التي شعرت بعدم الراحة بوقفته هذه واعطاءها ظهره، لتميل برأسها حتى تحققت من الجهة التي يتطلع اليها، تلك الملعونة خطيبته تقف على مدخل الشقة المقابلة لهم، تتوعد له وتحذره وهو ييتسم لها بملئ فمه، بوجه مشرق، مستمتعًا بحنقها، وكأنه عاد مراهقًا يشاكس ابنة الجيران.
❈-❈-❈
على مائدة الطعام التي كانت تجمع الاسرة ، يجلس على رأسها خميس ، يتناول طعامه بنهم كعادته ، وزوجته لا تكف عن تقديم المزيد من اصناف اللحوم في طبقه، برعاية تجيدها في أرضاءه:
– كُل يا خميس، دا انت بتشقى وتتعب.
ليتمتم لها بفم ممتلئ:
– ربنا يخليكي ليا دودو ، هي البت سامية فين؟ مش قاعدة معانا ع السفرة يعني؟
– راحت تقضي يوم مع ولاد اخوها وبالمرة تقعد شوية مع عمتها، ما انت عارف بنتك بتحبها قد ايه
اوما بهزة من رأسه ليأتي تعقيب سامر مستنكرًا:
– اه طبعا وتلاقيها هتقعد تتركن هناك ،،ما انا عارفها وعارف اللي في دماغها.
– هو ايه اللي في دماغها يا واد انت،؟ انت هتتكلم بالالغاز، عندك حاجة قول.
زفر سامر بعجز عن الافصاح عما يدور بخلده، وما يعلمه عن تهور شقيقته، وحزم ابن عمته الباتر في كل ما يخصه، ليصمت مجبرا واضعًا همه بطعامه.
وتدخل سمير يغير مجرى الحديث.
-،شوفت بت اخوك يا حج، امبارح راجعة قريب الساعة واحدة بالليل، والهلف اخوها واقف مستنيها على ناصية الحارة.
– ومدام الهلف اخوها كان واقف مستنيها، يبقى هعملها ايه انا بقى؟
تفوه بها خميس في رد مباغت لابنه، ليتوقف الطعام بفمه بصدمة، جعلت بعض من الانتشاء يتسرب الى زوجته التي طالعته بشماتة لم تخفى عليه، لينفعل مبررًا بحماقة لم يحسب لها حسابا؟
– ازاي يعني مالناش دعوة؟ هي دي مش تخصنا برضو، بنت اخوك اللي طايحة دي لو غلطت، العيبة هتلبسك انت يا عمها.
توقف خميس عن الطعام ليطالعه بأعين تلونت بالاحمرار معنفًا له:
– انت بتبرطم بتقول ايه ياض؟ مين دا اللي يتجرأ ويجيب عليا العيبة؟ دا انا كنت ادفنه مطرحه، مش بناتنا احنا اللي يتجاب سيرتهم، انا رايح لها البت دي .
قال الاخيرة وأزاح بجسده المقعد للخلف بعنف يهم بالنهوض إلا ان صيحة زوجته كانت هي الاسبق:
– اقعد يا خميس مطرحك وكمل أكلك .
تطلع لها بتردد لكنها اعادت عليها حاسمة تأمره:
– بقولك اقعد يا خميس، وسيبك من هطل ابنك.
اذعن الرجل لأمرها يعود لجلسته وطعامه، وجاء الاعتراض من ابنها:
– انا اهطل ياما، بقى راجل كبير زيي ، يتقال عليه اهطل ياما.
– وستين اهطل كمان، عشان بتنبش ف اللي ملكش فيه، وعايز تعمل مشاكل احنا في غنى عنها .
رددت بها درية بتصميم وتقريع، وغمغم سامر بسخرية، دون ان يرفع عيناه عن الطعام:
– بتجيب التهزيق لنفسك.
– لم نفسك يا سامر بدل ما احط كل غليلي فيك دلوقتي.
قابل الاخير انفعاله بابتسامة سمجة مستخفة، ليأتي الرد من زوجة الاخر وهي تنهض عن الطعام بغتة:
– الحمد لله انا شبعت.
قالتها بحدة لفتت ابصار الجميع نحوها وهي تذهب نحو باب المنزل مغادرة نحو شقتها، لتعلق والدته من خلفها:
– عاجبك كدة يا بوز الاخص؟ هتطفش مراتك منك بعمايلك السودة .
اضاف سامر على قولها :
– والله عندك حق ياما ، البت ساكتة ساكتة لكن في الاخر هتنفجر في وشه.
– تنفجر ولا تغور في داهية ، انا لا طايقها ولا طايق عيشتها.
– صاح به والده بغضب:
– امال طايق ولا عايز مين يا ابن الكلب، ما هي مشكلتك انك مفضوح قدامنا كلنا وعارف كويس
ان الموضوع منتهي، ومع ذلك بتحرب على خراب عشك ولا حاسس ان جايلك عيل في السكة .
تجهم سمير بوجه ممتقع من الغيظ والغضب المكتوم، يوزع بنظرات الاتهام نحوهم دون ان يقولها صراحة، ولكنها لم تخفى على والدته ، والتي عبرت عنها مدافعة:
– بلاش بصاتك دي يا واد، وافتكر كويس انها هي اللي باعتك لما حطت شرط ورث ابوها في الوكالة، قبل جوازها منك، وهي اساسا ملهاش ورث.
سامر والذي لم يقوى على كبت فضوله هذه المرة:
– بس بهجة دايما بتتكلم ان معاها الحق، انتوا متأكدين ياما ان ملهاش ورث؟
سعل خميس والطعام في فمه، لتلحقه زوجته بالماء، ثم تربت على ظهره، تلقي باليوم على أبناءه:
– اسم الله عليك يا خويا، اشرب اشرب، خليتو ابوكم شرق وكان هيروح في شربة مية جاتكو الهم .
ظل على وضعه لحظات امام ترقبهم، حتى التقط انفاسه ليردف بلهجة مضطربة:
– انا عمري ما اكل حق حد، وربنا العالم انا عملت ايه مع المرحوم، بس كله عند ربنا ، انا مش هتكلم .
لتهتف من خلفه بتأييد يلجمهم كالعادة:
– صدقت يا اخويا، واللي عند ربنا ما بيروحش، كُل كُل وهدي نفسك ، بلا هم.
❈-❈-❈
مساءًً
حينما غادرت منزله، كان هو ما زال قابعًا في غرفة مكتبه ولم يغادره بعد ، أنهى جميع الاعمال المطلوبة منه، بذهن شارد بالكاد يكفيه للمراجعة او القراءة السريعة في اعماله، لتعود صورتها وتحل امامه على الفور،
ثم يأتي الاَن ويقف خلف الجدار الزجاجي يراقبها وهي تغادر ، وعيون الحراس والعاملين أينما مرت تذهب معها، بها شيء لا يفهمه،
جميلة ولا ينكر ذلك، ولكن يوجد الالاف من الجميلات، ولكن هي بها شيء مميز لم يصل إليه بعد؟
حتى طريقة سيرها بهذه العباءة الفضفاضة بمبالغة، حديثها بعزة ولغة راقية بعيدة تمام البعد عمن تعامل معهم من العاملين.
ثم يظل هذا الشيء الاروع، وهو عيناها وذلك الصفاء بخضارها يذكره بنقاء الطبيعية وسحرها،
زفر انفاس خشنة ليعود الى جلسته خلف المكتب ، محدثًا نفسه بتساؤل:
– منذ متى لم يلتفت نحو امرأة او تشغله بهذه الطريقة، يبدو ان تأثير بهجة سوف يستمر معه طويلا هذه الايام حتى تنصرف من عقله او ربما يجد له الحل.
❈-❈-❈
هذه المرة اتخذت احتياطها وخرجت باكرا عن اليوم السابق، وقد افنت يومها في مجالسة نجوان فلم تتركها الا بعدما اخلدت للفراش، لتعود الاَن والساعة تعدت العاشرة فقط.
نزلت من سيارة النقل العام التي كانت تقلها الى منطقتها، وقد رفضت اليوم عرض العم علي في توصليها، تجنبًا للتساؤلات ووجع رأس هي في غنًى عنه، ولكن منذ متى حدث ما نبتغيه؟
– جاية منين يا بهجة؟
جاءها السؤال بغتة من خلفها، لتلتف نحو مصدر الصوت، وتفاجأ بابن عمها الأصغر سامر، مضجعًا على سيارته، التي اصطفها خارج الحارة، وكأنه كان في انتظارها، وقد بدا هذا واضحًا من وقفته، مكتفًا ذراعيه اعلى صدره،
– افندم يا عم سامر انت كمان، اخوك معاك بقى؟ ولا انتو مقسمينها بالدور؟
تهكمت بها في رد واضح على رفضها لتدخله، ولكنه كان اذكى من ان يتحامق معها مثل اخيه، لذلك جاء رده بهدوء :
– لا يا بهجة مش مقسمينها ولا لينا حق نسألك طبعًا، بس يا بنت عمي لما الاقيكي بتغيبي عن بيتكم لحد الساعه دي، دا غير اني لما سألت عنك في شغلك، عرفت انك معتبتيش المصنع من اساسه، يبقى حقي انشغل.
– كمااان روحت المصنع وسألت عني، دا اخوك متجرأش يعملها يا سامر؟
تمتمت بها بحالة من الدهشة والغضب تعتريها، ليقابل ردها بمهادنة وكلمات ذات مغزى:
– انا غير اخويا يا بنت عمي، هو كان غبي ومعرفش يحافظ عن النعمة اللي في ايده ودلوقتي بيبكي عليها بعد ما راحت منه، انما انا الامر عندي غير، انا راجل واعرف اصون اللي معايا كويس، ولما اقرر محدش يقدر يرجعني عن قراري، وف الاول وف الاخر انا سؤالي نابع بس من الخوف عليكي، مش شك ولا اي شيء يزعلك.
ضاقت عينيها وافتر فاهها تطالعه بتفكير وتفحص، لتحسم الجدال معه:
– حاسة كلامك رايح لسكة مش عجباني يا سامر، لذلك انا هنهي معاك من اولها، عشان لو حاطط اي فكرة في دماغك شيلها من اولها عشان انا قافلة الباب بالضبة والمفتاح مع الكل…. وخصوصا انتو .
زفر يطرق برأسه سريعًا ثم يرفعها متطلعا اليها بابتسامة لم تصل لعيناه:
– براحتك طبعا، رغم اني شايف ان الكلام مش وقته، بس انا هرجع وانبهك على موضوع الرجوع بالليل عشان بس سمعتك في الحارة والكلام اللي انتي عارفاه، عشان انا يوم ما هيوصلني نص كلمة بس هولع في الكل ومش هيهمني لا كبير ولا صغير.
– كتر خيرك يا ابن عمي. بس انا مش محتاجة نصيحة ولا دفاع من حد ، واهل الحارة اللي انت بتقول عليهم دول ، هما اكتر ناس عارفين مين بهجة؟ وانا مش محتاجة حماية من حد .
قالتها والتفت ذاهبة نحو وجهتها، دون ان تكلف نفسها بالنظر نحوه ولا بمعرفة تأثير حدتها عليه، فلديها من الهموم ما يكفيها، ولا ينقصها منه هو الاخر .
❈-❈-❈
داخل غرفة أمنية؛ والتي كانت منكفئة مع شقيقتها في حصر الايرادت والمصروفات وكل ما يخص العمل عبر الهاتف ، انتبهت لقدوم والدتها، لتظل واقفة محلها بصمت وترقب، حتى اذا انتهت امنية التفت إليها تخاطبها بفراسة :
– نعم يا ماما، وقفتك والسكوت كدة ، بيقول ان في بوقك كلمتين، قولي انا سمعاكي.
تشجعت نرجس، ثم تقدمت لتجلس على طرف التخت ، تلقي بنظرها نحو الاوراق والدفاتر التي تبعثرت على الفراش بإهمال ، لتعقب ساخرة:
– اللي يشوف الكراريس والكشاكيل يقول عليكي رجعتي تاني للجامعة…..
مصمصمت بشفتيها لتكمل بضيق:
– حسرة عليكي، الشغل الهباب بقى واخد كل وقتك ، حتى الساعتين اللي بترجعيهم راحة للبيت مش مرحومة من الحسابات والهم التقيل ، كان مالك بس بالهم والقرف ده؟
صمتت امنيه لبرهة من الوقت تطالعها دون تعليق، فبمعرفتها الجيدة لها، تعلم ان خلف كلمتها يوجد شيء آخر:
– وماله ياما الشغل والهم ، ما هو حالنا ومالنا، حمد لله احنا مش بنشتغل عند حد ، المهم بس انتي جيبي من الاخر ، عشان انا متأكدة ان دي مقدمة اللي بتبدي بيها دايما.
– اا ما انا فعلا عايزاكي في حاجة .
تمتمت بها نرجس بتلعثم، تدور مقلتيها باضطراب ، مما جعل ابنتها تظل على صمتها في انتظار الآتي، لتردف لها بعد لحظات من التردد :
– بصراحة بقى انا مش هقدر ما تكلمش، ابن عمتك محاكمته قربت، وكنت عايزاكي تتنازلي عن اللي في دماغك بقى وكفاية عليه لحد كدة.
رفرفت بأهدابها امنيه قليلا من الوقت، لكن سرعان ما استوعبت لتزفر وتشيح بابصارها عنها ، تستجدي من الله الصبر ، لتواصل نرجس دفاعها:
– ما تلفيش بوشك عني وتعملي نفسك مش سمعاني، عشان كذا مرة اتحايل عليكي وانتي راكبة دماغك، خالتك مقطعة نفسها وانتي ولا حاسة، وابن خالتك هيضيع مستقبله حرام عليكي.
– حرام على مين؟
صرخت بها بوجهها ، لتواصل بعدم تحمل :
– كام مرة هقولهالك، دا قتل ابويا ، يعني دا جزاته الاعدام ، مش انتي تبكي على مستقبله ، وتنسي حق جوزك ولا بناتك اللي اتيتموا بسببه.
تلجمت قليلًا بحرج منها، لكنها عاودت بعد ذلك :
– الحي ابقى من الميت، وانتي ما شوفتيش بعينك، بتقولي سمعتي، لكن ابن عمتك قال بعد كدة انه كان بيهرتل عشان يغيظ المدعوقة شهد، يعني ما قتلهوش.
– اه بقى وانتي صدقتي؟ يا سلام على طيبتك يا ماما.
عقبت بها بسخرية مريرة ، لتلتف بعد ذلك نحو مدخل الغرفة، وعودة شقيقتها الصغرى والتي اجفلها مشهدهم:
– ايه مالكم؟ شكلكم بتتخانقوا صح.
زمت نرجس فمها بضيق، ليأتي الرد من امنية:
– تعالي يا رؤى وشوفي الست الوالدة، اصلها مازالت زعلانة على ابن خالتك اللي ظلمناه وهنضيع شبابه .
ولعلمها التام برأي ابنتها الأخرى وتشددها، زفرت بقوة لتنهض من جوارهم مغمغمة:
– اتريقوا براحتكم ، ما انتوا خلاص كبرتوا ومبقاش حد مالي عينكم، هروح انا فين فيكم؟ وانا ست غلبانة.
توقفتا الاثنتنان بفاه منفرج لعدة لحظات لا يصدقن منطق والدتهم وتعاطفها مع من قتل زوجها ويتم بناتها، لتعلق رؤى اخيرا :
– تصدقي بالله يا امنيه، انا طول عمري اعرف ان امك سلبية، دلوقتي بس اتأكدت ان معندهاش شخصية ولا تعرف تحكم ولا تحدد رأي، خالتك سميرة تعيطلها حبتين تيجي هي تقلب الدنيا علينا،
اكتفت امنيه بالصمت، فما تحمله بداخلها من غصة وندم على ما قد فات ومرت به من اخطاء بسبب هذا المعتوه، حينما كانت كالدمية بين يديه، حتى انها تتمنى لو تمحي هذه الفترة من سجل ذاكرتها الى الابد. وياليتها تستطيع.
❈-❈-❈
دلفت بهجة لداخل المنزل، بعد أن فتحت بمفتاحها، لتدخل باكياس الأشياء التي تحملها ثم تضعها على الارض، لتبحث بعيناها عن اشقاءها، ولكن؛ وقبل ان تهم بالنداء عليهم وصلها صوت نقاشهم من داخل اقرب الغرف الى الباب، غرفة شقيقها والذي لم يكن موجود ف هذا الوقت لعلمها بمواعيد تحصيل دروسه،
– يا بنتي بقولك هزقته، بيسأل ويطقس، هو ماله اصلا.
– بجاحة يا حبيتي، بس انتي برافو عليكي يا عائشة، انك وقفتيه عند حده، عشان يعرف كويس اننا مش ساهلين ليه ولا لأهله .
طلت عليهم بهجة تردد سائلة:
– هو مين اللي احنا مش ساهلين ليه؟
انتفضتا الاثنتان بجلستهما على الفراش، ليرددن بمرح وجزع وقتي:
– حرام عليكي يا بهجة خضتينا.
قابلت قولهم بابتسامة ضعيفة تشاركهم الجلسة على تخت شقيقهم:
– اولا ايه اللي مقعدكم على سرير ايهاب، ثانيا وهو الاهم عايزة اعرف بتتكلمو على ايه؟
ردت رحاب:
– قاعدين في اؤضة ايهاب عشان رتبناها، والكلام خدنا واحنا بنرغي.
أضافت على قولها عائشة:
– اصلنا كنا بنتكلم على ابن عمنا سمير يا ست بهجة، انا مش فاهمة انتي ازاي كنتي هتتجوزيه ده؟ ازاي مكنتيش حاسة بتقل دمه ولا رزالته.
بابتسامة بالكاد تخفيها:
– ما انا مكنتش ناصحة وقروبة زيك يا ست عائشة، ابويا قالي هتتجوزي ابن عمك مقدرتش اعارضه، وبرضوا هو مكانش وحش اوي كدة، او يمكن انا مكنتش فاهمة الدنيا كويس ولا عارفة طبيعة البشر اللي عايشين وسطيهم.
قالت الأخيرة بغصة مررت حلقها، لتجفلها عائشة بقولها:
– بس انا النهاردة ادتهولك على دماغه، عشان يحرم يدخل في اللي ملهوش فيه.
– ليه هو عمل ايه؟
تكفلت بالرد هذه المرة جنات:
– بيسألها عن رجعتها امبارح الساعة واحدة بالليل ، وانتي عارفة طريقته بقى المستفزة.
قالت الأخيرة بحرج فهمت منه بهجة على مقصد الاخرى، لتتنهد بغيظ مكتوم متمتمة:
– يعني انا هلاقيها منه دا كمان ولا من اهله، هما لا يرحموا ولا يسيبوا رحمة ربنا تنزل
صمتت برهة لتكمل بما يعتريها من قهر:
– خنقة من جميع الجهات.
لطفت شقيقتها الوسطى جنات:
– معلش يا بيبو، دا اكيد من اهميتك يا حبيبتي، ولإنك غايظة الكل بعزة نفسك .
قالتها لتضيف عليها عائشة بفخر:
– ايوة يا بيبة، وانا فخورة بيكي، ان كنتي شغالة في مصنع ملابس، او حتى جليسة لست عجوزة، واي حد يتكلم نص كلمة بديلو على دماغه.
استطاعت بعفويتها ان ترسم ابتسامة على وجه شقيقتها ، لتفتح ذراعيها اليها وتضمها بقوة:
– وانا بقى لو هبقى فخورة بحاجة واحدة بس في حياتي، يبقى انتي يا عين اختك، بلسانك الطويل ده، وعقلك اللي سابق سنك ، بتخلي الكل يعملك الف حساب، ياريتني كنت زيك.
جنات ضاحكة هي ايضًا:
– اه والله، انا نفسي لما اتعرض لاي موقف في الجامعة، بقول ياريتك يا عائشة كنتي معايا، قوية ولسانها مبرد ع الكل .
❈-❈-❈
في اليوم التالي
وعلى غير عادته، فضل تناول الافطار هذه المرة على مائدة تجمعه مع والدته، والتي جلست امامه بصمت واعين مترقبة، لا تقترب يدها من الطعام، ليعلق هو مخاطبًا لها بسخرية:
– ايه يا ست الكل، مش قادرة تاكلي وانا قدامك ، طب اداير وشي لتكوني بتتكسفي من الاكل معايا.
لم تظهر له اي استجابة، بل ظلت على وضعها وهذا الغموض الذي تحاوط نفسها به، حتى يشعر بالعجز عن قراءة ما يدور بعقلها:
– اموت واعرف انتي بتفكري في ايه؟ انا واثق ومتأكدة انك فاهماني يا ماما.
زفر بحنق حينما يأس منها، ليلطم بكفه على سطح المكتب، يشيح بوجهه للجهة الاخرى، وقد ذهبت عنه شهيته، ف اصطدمت عيناه بها .
وهي تدلف اليهم ، وقد تخلت هذه المرة عن العباءة السمراء، وترتدي الاَن ملابس شبابية تناسب عمرها، على قدر بساطتها ولكنها تظهر الجانب الرقيق بها ، مهما حاولت من اخفاء او تقليل، تظل راقية رغم انفها .
– صباح الخير.
القت التحية موزعة ابصارها عليه وعلى والدته التي نهضت فجأة لتلتصق بها، بفعل على قدر ما اصابه بالضجر، ولكنه ايضًا تفاجأ به، لثقة والدته بهذه الفتاة، في هذه الفترة القصيرة، ليعلق:
– يااه يا بهجة دي شكلها ادتك الامان اكتر من ابنها .
ربتت بهجة على ساعدها لتهدئتها قبل ان تلتف اليه قائلة بحرج:
– لا العفو يا فندم مين قال كدة؟ اا انا بستأذنك بس تخلي عم علي يوصلنا للدكتور بتاعها ، انا عرفت من دادة نبوية ان النهاردة ميعاد الزيارة الشهرية.
– اااه
تمتم بها بتفهم، ليتمتم بفراسة:
– عشان كدة بقى انتي، غيرتي العباية السمرا النهاردة،
ابتلعت ريقها بخجل لانتباهه وتعليقه على هذا الأمر، لتوميء برأسها ردًا له، فخرج رده مفاجئًا لها:
– تمام يا بهجة، انا هاخدكم بنفسي ع الدكتور.
– حضرتك بنفسك هتروح معانا ؟
قابل تساؤلها بابتسامة مبررًا:
– مش والدتي يا بهجة، يعني من حقي اطمن عليها، ولا انتي شايفة غير كدة .
نفت بهز رأسها، وذهنها يستعيد تعليمات الدادة نبوية بخصوص ذلك الامر، حينما اخبرتها عن المسؤلية الجسيمة في الحذر من أفعالها، في كل مرة كانت تخرج بها وحدها، لا يرافقها سوى الحراس وسائق السيارة .
انتشلها من شرودها، جذب نجوان لها من ملابسها ، لتشير بالرفض بسبابتها، يبدو أنها لا تريد مرافقته، ليأتي الرد منه بعمليه، وهو يتحدث عبر الهاتف:
– ايوة يا كارم، معلش يا حبيبى، ممكن تنوب عني النهاردة كام ساعة كدة، اصلي خارج بالست الوالدة ع الدكتور واحتمال اتأخر شوية….
قطع مع محدثه، لينقل بعيناه نحو الاثنتان مخاطبًا لها بأمر:
– مستنية ايه؟ روحي ياللا لبسيها ، خلينا نحصل ميعاد الدكتور، ياللا يا بهجة مش عايزين تأخير .
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
أنهى تمرينه الصباحي، واتجه الى غرفة طفله، حيث الموعد اليومي لإيقاظه، من قبل والدته التي لا تمل من تدليله:
– عموري يا قلب ماما، اصحى يا قلبي، اصحى يا روحي.
– قلبك وروحك، وجوزك الغلبان سيبتيله ايه يا ست رباب؟
تمتم بالكلمات وهو يدلف اليهما لداخل الغرفة، لتعقب هي بابتسامة مشاكسة:
– وانت هتعوز ايه تاني؟ ما انت معاك رباب بحالها
مال برأسه يضيق عينيه بحركة فكاهية اضحكت الصغير الذي كان يفتح عينيه في التو، ليتلقفه هو يرفعه اليه مهللا:
– شايفة يا ست رباب، بقالك ساعه تدلعي وتهنني وفي الاخر مصحيش غير على صوت باباه.
– ايوة يا سيدي، عيشها انت بقى عليا، بعد ما جات فرصتك ، كدة برضو يا عموري!
قالت الأخيرة بعتاب نحو الصغير الذي ارتمى بثقله عليها، كمبادرة صلح معها، تقبلتها بصدر رحب ، لتمطره بالعديد من القبل، تشدد عليه بضمتها.
– يا قلب مامي انت، بحبك اوي اوي .
يبدوا ان فعلها لم يعجب كارم ، فقد تجهم فجأة، ليباغتها بالنداء على المربية:
– دادة نعمات، خدي البيه الصغير وحضريه لحضانته.
اما هي فقد عبرت عن ذهولها فور خروجهما:
– كارم هو انت خطفت الولد مني ليه؟ انا كنت هحميه واجهزه بنفسي.
– عشان شايف ان دلعك بقى أوفر يا قلبي، انتي كدة بتفسدي الولد، ودا اللي انا لا يمكن اسمح بيه.
تمتمت بصدمة من خلفه:
– انا بفسده! معقول يا كارم، بقى انا والدته افسده؟!
زفر يقترب منها ملطفًا:
– يا قلبي افهمي، انا مش بتكلم عن حنانك ولا حتى الدلع العادي، انا بتكلم عن الافورة، مش عايز اتعامل مع ابني عسكري زي ما كان بيحصل معايا من بابا، بس كمان مش عايزه يبقى مريء ولا دلوع، انا ابني لازم يكون عضمه شديد وقوي، يبقى ناجح اكتر مني انا كمان، والفرص اللي معرفتش اوصلها انا يوصلها هو .
أومات ببعض الطاعة، وقد بدا انها فهمت على وجهة نظره، ليعبر لها عن فرحته بإقناعها، بضمة كبيرة منه لها:
– حبيبتي المطيعة، بحبك اوي يا قلب كارم.
التقط ثغرها بقبلة جامحة شغوفة كعادته، استجابت تبادله ، حتى تطور الامر باللمسات الجريئة التي تعرفها، فعبرت عن تأففهها:
– كارم انت كلك عرق، دا مش ميعاد حمامك برضو؟
استفاق من نشوته ليستدرك على حالته بالفعل ، فتبسم يرخي ذراعيه عنها ؛
– انا فعلا مخدتش بالي، بس اعملك ايه بقى؟ ما انا معاكي بنسى نفسي.
قال الاَخيرة يقرص على وجنتها ، ليتابع بعد ذلك بعملية حينما انتبه على ساعة الحائط:
– دا انا كمان متأخر على شغلي وشغل رياض في الشركة اللي كلمني انوب عنه فيه.
هم ان يذهب ولكن زوجته لم تقوى على كبت سؤالها الملح:
– دا صاحبك قريب مصطفى عزام مش كدة، لكن دا ايه ظروفه بالظبط، متجوز ولا خاطب، انا عمري ما شوفته مع واحدة ست.
– ولا انا.
قالها زوجها بابتسامة متسعة يستطرد بدهشة وهو يخرج من الغرفة ويسحبها معه:
– من ساعة ما اتعرفت بيه ، وهو كل حياتة شغل في شغل، ماشي تمام اوي ودا اللي عاجبني فيه، بس بستغرب اوي عنه الموضوع ده، اصله كمان مش مقضيها نسوان في الخفا على حسب ما بعرف، ولا يمكن في وهو حريص زيادة.
– او يمكن بيحب.
خمنت بها ليمط شفتاه بعدم معرفة:
– يمكن بس هو انسان غامض اوي، متعرفيش دماغه بتفكر في ايه؟ عكس ابن خالته عدي ، كان واضح اوي معايا، ولا يمكن حكاية والده واللي حصل مع والدته مأثرين فيه.
– هو ايه اللي حصل معاهم؟
سألته بانتباه شديد حتى توقف بها في وسط الردهة، ليداعب ذقنها :
– بعدين يا شاطرة ابقى احكيلك حكايتهم، وابعدي دلوقتي بقى من سكتي خليني اطلع اخد شاور واشوف اللي ورايا.
همت ان تتشبت بقميصه المتعرق وهي تخاطبه برجاء:
– طب دقيقتين بس احكيلي عنه نبذة مختصرة حتى.
ابتعد بجسده عنها مغمغمًا بتسلية:
-،اوعي كدة عني، مش انتي مكنتيش طايقة ريحة عرقي من شوية، خلي الفضول ياكلك بقى.
قالها وتحرك مهرولا يصعد الدرج بخطوات مسرعة، لتغمغم في اثره بغيظ:
– ماشي يا كارم، والله ما هسيبك.
❈-❈-❈
اعتدلت بجذعها عن جلستها بإجفال لا تصدق ما وصل لإسماعها عبر الهاتف:
– كااارم، كااارم مين اللي يمسك الشغل عنك يا رياض؟ وانت هتروح فين بالظبط؟
وصلها صوته الحاد:
– انا بكلمك في الشغل يا لورا ، يبقى تكلميني بصفة رسمية، بقولك شريكي كارم هو اللي هينوب عني النهاردة ، يبقى افهمي بقى من نفسك دا المطلوب منك ومن غير تعطيل.
انتفضت واقفة لتستطرد في محاولة للاستيعاب:
– حضرتك انا مش عايز اعطلك اكيد، انا بس بستفسر، دي مش عوايدك، وانت اهم حاجة عندك الشغل .
هذه المرة خفف من حدته:
– وحد قالك اني ههمل في شغلي؟ انا هوصل الست الوالدة للدكتور وبعد ما اطمن عليها هروح ان شاء الله ع الشغل وامارس نشاطي.
اومأت ببعض التفهم:
– تمام زي ما تحب ، بس معنى كدة بقى ان الدادة نبوية خفت وهي اللي هتروح معاك تراعيها؟
– لأ مخفتش لسة، واللي رايحة معانا بهجة .
– بهجة! بهجة مين؟ طب ما كنت انا روحت معاكم بدل الزفتة دي، ولا هي فاكراها فسحة دي كمان.
هتفت بها بانفعال لم تقوى على كتمانه، ليوقفها هو بصرامة:
– انتبهي لكلامك يا لورا، انا بلغتك بأمر الشغل، يبقى تنفذي المطلوب منك وانتي ساكتة ، وبس كدة.
ختم بجملته ينهي المكالمة بفظاظة، لتطالع هي الشاشة بصدمة، هذه اول مرة يعنفها غير أبهًا بصلة القرابة بينهم ، دائمًا ما كان يحترمها في العمل وغير العمل، تعلم انها بالغت في رد فعلها حينما أتت سيرة هذه الفتاة، ولكنها ايضا لا تحتمل كلمة عنها….
❈-❈-❈
دلفت تسحبها لداخل غرفة الطبيب المختص بحالتها، وقد تقدمهم هو اليه ، ليتلاقاه الاخر بالترحاب والتهليل :
– رياض باشا بنفسه في عيادتي المتواضعة، لا دي حاجة ولا في الخيال بقى.
– سجل بقى عشان تبقى للتاريخ.
قهقه المذكور يتبادل معه المزاح، قبل ان يدخل في صلب الموضوع؛
– يللا يا سيدي اهي الست الوالدة قدامك، عايزين نطمن ونعرف اخر التطورات في حالتها .
ذهبت عيني الطبيب نحو ما اشار ، ولكنه لم ينتبه للمريضة، وقد انصبت ابصاره على من ترافقها:
– مين الأمورة.
صدرت منه كسؤال عادي وإعجاب لم يخفيه، ليأتيه الرد بحدة غير متوقعة من الاخر:
– امورة مين؟ انا بكلمك عن المريضة، خليك في المريضة يا هشام .
بدا واضحا اجفال الطبيب من طريقته الفظة عكس المزاح والحديث الودي منذ قليل، ليتحمحم ويجلي حلقه ، متحدثًا بجدية:
– خلاص يا رياض، انا بس كنت بهزر مع اني كنت عايز اعرف يعني هي تقربلكو ايه؟
– الجليسة بتاعتها يا دكتور.
خرجت منها سريعًا في رد له:
– اه تمام ، خلاص هاتيها قعديها هنا قصادي نرغي شوية الاول.
تقدمت بها نحو ما اشار على الكرسي المقابل له، تجلسها امامه، ليقابلها الطبيب بابتسامته المشرقة:
– مدام نجوان القمر، عاملة ايه النهاردة ؟
❈-❈-❈
بعد قليل خرج الاثنان بها، من غرفة الفحص، دون معرفة حقيقية لما وصلت اليه حالتها، هذا السكون المبالغ فيه والوداعة، يجعلانه دائما في حالة ترقب لها،
حديث الطبيب معه في ان يزيد من قربه لها كي تعطيه الامان وتتصالح معه بعد سنوات الجفاء بينهم، ربما يؤثر في حالتها النفسية ويجعلها تستجيب للتعافي الكامل، ولكن ماذا بيده اكثر من ذلك؟
هي من تجعله ينفعل عليها بأفعالها، حتى كلما حاول كسب ودها صدمته برد فعلها وكأنها لم تعد ترى فيه الا صورة زوجها الخائن الراحل، ونست انه ابنها .
– طب انت كدة ممكن تطلبلنا عم علي يوصلنا، وانت تروح شغلك يا فندم.
نطقت بها بهجة تنتشله من شروده، ليعود اليها، محدقًا بها بتركيز شديد، جعلها تتوتر في وقفتها مخاطبة له:
– يا فندم انا بكلمك عن رجوعنا للبيت لو يعني……
– خلاص سمعت…..
تفوه بها مقاطعًا لها بفظاظة لا يعرف سببها، ولا يعلم بسر هذا الضيق الذي يشعر به الاَن تجاهها، حديثها منذ قليل وفصاحتها في مناقشة ما تلمسه من حالة نجوان مع الطبيب الذي برغم رزانته التي اشتهر بها، إلا انه معها كان كرجل اخر، يتباسط معها ويمازحها، حتى كاد ان ينسى المريضة نفسها وابنها بكل هيبته، هذه الفتاة تفاجأه كل يوم باكتشاف جديد عن شخصيتها:
عض على نواجزه، يكبت غضب غير مبرر داخله، ليردف بخشونة وبصيغة الامر؛
– هاتيها وتعالي ورايا ع العربية ، انا اللي هرجعكم بنفسي.
❈-❈-❈
في السيارة التي كانت تقلهم في طريق العودة ، لم تنسى له طريقته الفظة في التحدث معها، واحساس بعدم الراحة يكتنفها، مع كل نظرة يوجهها لها عبر المرأة حيث كانت جالسة في المقعد الخلفي مع والدته، والتي صبت اهتمامها بها، لتتجاهله ولا تعطي له بالا .
ليلفت انتباهها تركيز الآخرى بالنظر نحو الخارج نحو جهة ما، وهذا البائع الذي التفت حوله الأطفال:
– ده بياع غزل البنات، تحبي اجيبلك منه.
حينما قالتها لم تقصد الجدية ولكن بلهفة الأخرى وتطلعها اليها كطفل صغير، تهز رأسها برجاء.
اجفلت هي لهذا الاصرار العجيب من المرأة لتنقل بنظرها نحو الأخر بارتباك، تردد بتلعثم:
– انا ان كان عليا والله انزلك، بس بقى…..
– هنزل اجيبلها انا .
تمتم بها بخشونة، قبل ان يصطف السيارة فجأة، ويترجل منها بهيبته، ثم يشير للرجل البائع والذي هرول اليه على الفور تاركًا مجموعة الأطفال الملتفة حوله:
– ايوة يا سعادة البيه.
لم تتبين بهجة بالحديث الدائر بينه وبين البائع في الخارج، بجلستها هي في الداخل برفقة نجوان، حتى فاجئها هو بمجموعة دفعهم بضيق، حتى امتلأ حجرها هي والأخرى والتي هللت بوجه مشرق كطفل صغير، جعل الابتسامة تنير بوجه بهجة فرحًا لها،
– ياااه للدرجادي غزل البنات فرحك، ياريتني كنت اعرف من زمان كنت جيبتلك على طول .
فتحت نجوان احدى الاكياس تقطم منه قطعة كبيرة بتلذذ، ثم تناولها هي ايضا قطعة كي تشاركها، تلقتها منها بهجة بترحيب:
– حلوة اوي ، كأنك انتي اللي عملاه والله تسلم ايدك .
وبغير قصد منها لعقت الجزء المتبقي على طرف ابهامها، غافلة عمن تجمد محله في مشاهدتها، حتى انه نسي القيادة ونسي ما ينتظره من اعمال في متابعتها، حتى التقت خضرواتيها بدون قصد ببندقيته، لتطرق بحرج، تستدرك خطأها في عفوية لم تتعمدها، ولكنها فعلت به الافاعيل.
ليتحمحم مجليًا حلقه، وينتبه لنفسه، ليدير محرك السيارة ثم يتحرك نحو وجهته والعودة بهما الى المنزل.
❈-❈-❈
عقب عودتهم الى المنزل، كانت المفاجأة بانتظارهم، بوجود لورا الذى لم يتوقعه رياض ليباغتها بسؤاله على الفور:
– في حاجة حصلت يا لورا؟ وانتي هنا من امتى اصلا؟.
صدر ردها بوداعة:
– جاية هنا عشان الشغل طبعا،.
وقبل ان يستفسر منها توجهت نحو نجوان تستقبلها بود شديد:
– طنط نجوان حبيبة قلبي.
اجفلت الاخيرة بضمها من تلك الفتاة، ونثر القبلات على جانبي وجهها، تخاطبها بحنان مبالغ فيه:
– وحشتيني، وحشتيني اوي، سامحيني لو الشغل هو اللي واخدني منك.، انما انا لو عليا اجيلك كل يوم، وماما كمان دي نفسها اوي تشوفك.
– انتي مين؟
تمتمت بها نجوان لتدفعها عنها بضيق ، ومن دون كلمة اخرى ارتدت بقدميها للخلف، نحو بهجة التي التزمت محلها، لتعود اليها وتتشبث بها كطفل صغير، بمشهد اوقد النيران برأس الأخرى،
لتبرق عينيها بحمم تطلقها نحوها، تلك التي استولت على قلب هذه المعتوهة، لتنال ثقتها، دونا عن المئات منن تقدمن لهذا العمل، ويبدو انه قد حان الان الدور عليه هو.
التفت اليه بأنفاس لاهثة ، لا تقوى حتى على تخيل الفكرة.
– لورا انتي ما قولتيش جاية ليه؟
كانت تلك صيحته نحوها، لتنتفض باستدراك سريع، وتتناول عدد من الملفات التي وضعتها على ذراع الأريكة ، ثم تعطيه اياها:
– حضرتك انا جيبالك دول، كارم باشا قام بالواجب وزيادة بس دول مطلوب فيهم امضتك الشخصية.
ألقى بنظرة سريعة بمستوى الاوراق، ليتمتم باستغراب:
– كان ممكن يستنوا على ما اجي الشركة بنفسي، بس يلا مش مهم ، هاخدهم ع المكتب اراجعهم وامضيهم،
تحرك خطوتين متمتمًا لها:
– استنيني هنا ولا خلي حد من الشغالين يعملك حاجة تشربيها.
اومأت بطاعة وابتسامة حلوة:
– اتفضل براحتك، انا مش غريبة .
حينما انصرف نحو وجهته، وتوقفت هي بوسط الردهة تجول بأبصارها هنا وهناك، حتى وجدت غايتها ، وذلك خلف الجدار الزجاجي ، حيث الجهة الاخرى، والحديقة الداخلية للمنزل،
وجلسة تجمع نجوان مع تلك الفتاة على طاولة لهم وحدهم.
ابتسامة غامضة لاحت على ملامحها، قبل ان تتحرك من محلها قاصدة وجهتهما.
❈-❈-❈
كانت نجوان مازالت تحتفظ بابتسامتها الحالمة وهي تتناول من قطع الحلوى التي أتت بها، تتناولها بتمهل وتلذذ بذوبانها داخل فمها، ونظرات شاردة جعلت بهجة المتابعة لها تعلق بتخمين:
– سرحانة ووشك مورد، شكلك كدة كنتي خارباها فسح ع النيل، حلبسة بقى ودرة مشوية وبطاطا ع الفحم……
توقفت فجأة بتردد مغمغمة:
– خايفة أسألك عن ذكرياتك دي كانت مع مين لا اخرب عليكي حالة الصفاء وانا مش واخدة بالي، بس اقولك بقى اهم حاجة تكوني مبسوطة، يعني انا هعوز ايه اكتر من كدة؟
– انتي هنا يا طنط وانا بدور عليكي.
جاء الصوت من خلفها، لتلتف بجذعها بهجة، فتحققت من هذه المتعجرفة، وهي تقترب منها، بهيئتها كعارضات الازياء ، كل شيء بها مرسوم بدقة، مع اهتمام مبالغ فيه، يجعلها قبلة للنظر.
– أخبارك ايه يا بهجة؟
كان هذا السؤال اول ما نطقت به فور أن توقفت امامهم بابتسامة لا تخلو من استخفاف ،فجاء رد بهجة تبادلها بواحدة صفراء:
– الحمد لله يا لورا هانم رضا.
– اممم ، وعلى كدة بقى، انتي مبسوطة هنا؟
لم تعجبها نبرة السؤال :
– انبساط! لا يا هانم، تقدري تقولي بقيت اتعود ، لكن انبساط دي حاجة بعيدة اوي، ربنا يكرمنا بيها.
زمت شفتيها بهذه الابتسامة المستفزة، ثم جلست مخاطبة لها بزوق غريب عنها:
– ماشي يا بهجة، طب ممكن بقى تقولي لحد من الشغالين يحضرلي حاجة اشربها، يعني لو مش هتقل عليكي.
حينما نقلت بهجة بابصارها نحو نجوان التي انكمشت بنظرات الخوف وكأنها طفلة تخشى الغرباء، سارعت تطمئنها:
– ما تخافيش على طنط انا هراعيها بنفسي، هي اول مرة يعني؟ ولا انا غريبة عنها؟
اضطرت بهجة ان تزعن لالحاحها، وتنهض تنفذ طلبها ، تاركة نجوان التي صارت تتابعها بأعين راجية الا تتركها، لتطمئنها قبل ان تستدير عنها وتذهب:
– جيالك على طول متخافيش.
تطلعت لورا في أثرها بنظرات حارقة، لترتخي ملامحها بعد ذلك وتلطف بقولها نحو الأخرى:
– ايه يا طنط، معقول تكوني خايفة مني للدرجادي، هو انا غريبة عنك يعني؟ ولا هتنسي صلة الدم اللي ما بينا؟
حينما جذبت انتباهها اخيرا، واصلت لورا بطريقتها الناعمة:
– انا عارفة انك عاقلة وست العاقلين كمان، بدليل انك منتبهة لكلامي دلوقتي، طب اقولك على حاجة…….
توقفت فجأة تدور ابصارها في الانحاء كافة قبل ان تعود اليها هامسة:
– انا جيالك النهاردة مخصوص عشان احذرك، البنت دي اللي اسمها بهجة، عارفة تبقى قريبة مين؟
دارت مقلتيها مرة اخرى قبل ان تخبرها بهمس يقارب الفحيح؛
– تبقى قريبة ناريمان، فاكرة ناريمان؟
لاحت على ثغرها البسمة ، حينما رأت الزعر الذي اعتلى ملامح الاخرى، لتكمل بانتشاء .
– ايوة هي بعينها يا طنط ناريمان، وجاية تخطف حكيم منك…… شوفتي بقى .
توقفت تراقب تأثير الكلمات عليها، بعدما حطت بيداها على الجرح الخامد، تنخر فيه بأظافرها، لتقلب كيان المرأة بذكريات بشعة وصورة غريمتها التي حلت امامها، تغشي عينيها عن الرؤية، فيعلو صدرها ويهبط بانفاس متسارعة وبصورة انبأت الأخرى بقرب الوصول لهدفها ، فتنسحب من امامها بهدوء، وتبتعد مع مراقبتها بحرص، حتى انتبهت لعودة الأخرى من الجهة الاخرى، لتنهض نجوان من محلها، تحركها الذكرى البائسة، وقد توقف عقلها عند هذه النقطة، ولم يعد يعمل ولا يميز أي شيء
لتندفع بغضبها مسرعة بخطواتها نحوها وكأنها ذاهبة الى الحرب ، فتتلاقها بوسط المسافة عند المسبح، ويحدث ما يحدث !
❈-❈-❈
تتأوه بتعب ، شاعرة بثقل ودوار يلف رأسها وهي تجاهد لالتقاط الوعي، حتى فتحت عينيها للضوء القوي، مستغربة النعومة الشديدة بالفراش، لتتضح الرؤية رويدا رويدا امامها، ولكن…..
هذه ليست غرفتها، ولا هذا فراشها، ولا….
– يا نهار اسود
هتفت بها تعدل جذعها بجزع، حينما انتبهت على ما ترتديه:
– هدومي راحت فين؟ وهدوم مين دي اللي انا لابساها؟
لترفع عنها الغطاء وتنهض عن الفراش رغم دوار رأسها الذي كاد ان يسقطها ارضا، لولا أن لحقت بنفسها، لتستند بيدها على قائم التخت، لكن سرعان ما استقامت لتتحامل على هذا الدوار الشديد، وتخرج من الغرفة الفخمة تبحث بأبصارها يمينا ويسارًا حتى وقعت عينيها عليه ، جالسًا بأحد الاركان على الاَريكة الاثيرة ،
امام حاسوبه الذي كان يعمل عليه بانشغال تام ، حتى اخترقت اسماعه صيحتها، ليجفل، ويهتز كوب القهوة بيده، حتى اسقط كمية كبيرة من المشروب الساخن على قميصه ولوح المفاتيح للحاسوب، كما احرق جزء من بشرته، ليتأوه بصمت وهو يسمع لها:
– انا كنت في الاوضة االي جوا بعمل ايه؟ ومين اللي غير لي هدومي؟ انتوا عملتو فيا ايه بالظبط؟
اشار بيده والأخرى صار يمسح بها بالمحرمة على قميصه ولوح المفاتيح، متمتمًا ببعض الهدوء:
– طب اهدي خليني افهمك.
– تفهموني ايه؟ دا انا هوديكم في داهية،
صرخت بها، تهم بالمتابعة بالسباب، ولكنه اوقفها بحزم وصرامة:.
– اسمعي مني الاول بقى وافهمي، ولا اسيبك على عماكي احسن ……
انهارت ساقطة على الارض، وقد غلبها التعب الجسدي، وجزع داخلها يجعل قلبها ينتفض خوفا، ان يكون حدث معها شيء لا تستطيع العيش معه، شيء تفضل الموت على ان يحدث.
– انا مش عايزة ابقى على عمايا، انا عايزة افهم، ارجوك انا مش فاكرة اي حاجة..
زفر يمسح بكفه على وجهه لينهض ذاهبًا نحوها، يمد يده اليها :
– قومي يا بهجة الاول واستريحي ع الكنبة، بلاش قعدة الارض.
رفضت قاطعة:
– لا انا مش عايزة اقوم، انت اتكلم وانا كدة مستريحه.
امام اصرارها لم يجد بدا من مهادنتها، ليجلس هو على اقرب المقاعد اليها، ثم يستعيد برأسه ما حدث ، ولحظات من اصعب ما مر عليه
((قبل ساعات من الاَن
وقد كان بغرفة مكتبه، منكفئًا على عمله على عدد الملفات التي أتت بهم مساعدته لورا، بتركيز تام ، حتى اجفل على صوت صراخ غير مفهوم، لم يميزه في البداية، حتى دوى الاسم المعروف بذهنه:
– حكييييم، حكييييم.
انتفض على الفور وقد علم ان تلك والدته، ليخرج مهرولا يتبع الصوت الذي ذهب به الى الحديقة، وكانت المفاجأة حينما وجدها بالقرب من المسبح، تنتحب وتنتفض محلها، وقبل ان يتخذ طريقه نحوها، صعق بالأفظع،
وذلك برؤية الجسد البشري وهو يصارع الغرق بداخل المياه، وقد تيقن تماما من ضعف مقاومتها، وانها على وشك ان تستسلم للموت،
ليتخذ القرار على الفور، ويلقي بنفسه داخل المياه فيحملها من ظهرها بذراع والأخر يدفع به داخل المياه حتى خرج بها يلقيها على السطح الرخامي فاقدة للوعي.
فحاول بخبرته القليلة إجراء الاسعافات الاولية لها ، بالضغط بكفيه وقلبها ايضا لإخراج الماء الذي دخل مجري التنفس لها.
– فوقي يا بهجة الله يخليكي فوقي.
– ايه اللي حصل انا كنت جوا بعمل مكالمة تليفون.
كان هذا صوت لورا التي أتت للتو من الداخل، لم يلتفت لها ، وقد كان مشغولا في اسعاف الأخرى، والتي اضطر في الأخير ان يجري لها تنفس صناعي، ليصدر صوت شهقة مفاجأة من لورا التي كادت ان تصاب بأزمة قلبيه، مع استجابه الأخرى، وسعالها في إشارة لعودتها للحياة مرة اخرى، ولكن بنصف وعي ، ليحملها هو ذاهبًا بها الى الداخل.
– انتبهي على ماما على ما ارجعلك يا لورا؟
صرخت به ضاربة الارض بقدميها:
– ودي هتروح بيها على فين؟
– لم يكلف نفسه عناء الإجابة، فواصل طريقة حتى ذهب بها الى احدى الغرف، مناديا على احدى الخادمات ، حتى تخلع عنها ملابسها وتراعيها، حتى يأتي بالطبيب اليها ، ويذهب هو للاطمئنان على والدته.))
– ادي كل اللي حصل يا بهجة، لساكي برضو مش فاكرة؟
كان هذا سؤاله فور ان قص عليها كل شيء، وقد اقتص من الجزء الخاص بإسعافها ذكر التنفس الصناعي، ليختص به لنفسه ، فيكفيه ما يكتنفه الاَن من مشاعر كاسحة، بقبلة الحياة التي لم يتعمدها، ولكنها قلبت كيانه رأسا على عقب ، بالكاد يحاول التوازن امامها ، وصرف افكاره بقدر الامكان .
لينتبه على اجابتها، بعدما نفت بهز رأسها، وقد تغضنت ملامحها بالحزن، لترد بصوت بالكاد خرج:
– دلوقتي بس افتكرت، انا كنت راجعة من المطبخ، بعد ما سيبتها مع لورا، كانت هادية وراسية بشكل فرحني، لدرجة اني لما شوفتها جاية عليا بوشها مقلوب، افتكرتها بتهزر، قبل ما تفاجأني والاقيها بترميني على حوض السباحة، ووقفت قدامي تبص عليا كأنها تمثال ، وانا بصرخ عليها واقولها:
– بتزقيني ليه انا مبعرفش اعوم؟ نادي حد يخرجني، نادي حد يخرجني.
ختمت تمسح دمعات خائنة سقطت منها، متابعة:
– طب هي عملت كدة ليه معايا، دا انا اديتها الامان وافتكرتها بتحبني.
ردد خلفها بتأكيد:
– بس هي فعلا بتحبك يا بهجة، بدليل صريخها عليكي وعشان حد ينقذك.
– امتى؟ دا انا مش فاكرة غير فرجتها عليا .
– وانا بقولك اللي حصل يا بهجة، ماما من ساعة اللي حصل قافلة على نفسها في حالة مشوفتهاش عليها بقالي سنين، اكيد يعني انا مش هكدب عليكي.
اومأت بتفهم، لا تستبعد هذا الفعل منها. فهي كالبحر مرة تخدعها بهدوها وصفاءها، ومرة اخرى تصفعها بأمواجها العاتية.
استدركت فجأة تسأله:
– صحيح انا كنت سيباها مع لورا، راحت فين وسابتها؟
مط شفتيه بعدم معرفة:
– بتقول انها كانت بتعمل مكالمة ساعة اللي حصل، المهم دلوقتي انا كنت عايز اعرف قرارك عن الاستمرار هنا او عدم الاستمرار، وانا في كل الحالات هعوضك عن اللي حصل معاكي، دا حقك عليا، قرارك دلوقتي بقى يا بهجة.
صمتت قليلًا بتفكير، قبل ان يصدر ردها النهائي:
– انا عايزة اشوفها الاول ، قبل ما احدد اي قرار.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
زمجرة بغليل خرجت منها، تدفع محتويات مكتبها على الارض بعنف اصدر ضجيجًا دوي في أنحاء المنزل، حتى اجفل والدتها من خارج الغرفة، لتدلف اليها سائلة بجزع تستكشف الأمر:
– يا نهار اسود، ايه اللي حصل يا لورا؟
التفت إليها ، قابضة على شعر رأسها تكاد ان تقتلعه مرددة:
– مفيش حاجة حصلت يا ماما، المصيبة ان مفيش حاجة حصلت؟ ودا اللي هيجنني وبيخليني اسأل نفسي كل دقيقة، انا ايه اللي ناقصني عشان ما يشوفنيش؟ ليه دايما حاططني في خانة القرايب او الموظفة اللي عنده، امتى بقى يحس بيا؟ حتى يرحمني من النار اللي بتاكل فيا وانا كل لحظة يدور عقلي بالهواجس، انه يبص لواحدة غيري ولا يفكر في الجواز، هتجنن يا ماما هتجنن.
دفعت في الاخيرة احد المقاعد تسقطها بقدمها، قبل ان تخور قوتها وتسقط على الاخر، بمشهد اثار استفزاز والدتها:
– يعني انا افهم من كدة، ان الجنان والتكسير والبهدلة دي كلها، عشان الباشا اللي مش راضي يعبرك ولا يحس بحبك، ما عنه ما اتنيل، هي خلاص الرجالة صفصفت عليه ؟ الدنيا حواليكي مليانة شباب زي الورد، لكن انتي اللي عميتي نظرك ووقفتي الرؤية عليه هو بس…. فوقي يا حبيبتي قبل الوقت ما يسرقك، ويضيع عمرك بالقعدة جمبه.
طالعتها بحنق متعاظم، تخاطبها بعتب:
– شكرا اوي يا مامي ع المؤازرة، دا بدل ما تقفي جمبي وتدليني على طريقة تقربه ليا.
لطمت والدتها كفيها ببعضهما، لتتخصر ناظرة اليها بقنوط، قابلته لورا بضحكة ساخرة:
– شوفي انتي بتتكلمي ازاي عن إنى اسيبه واشوف غيره بكل سهولة، ومتعرفيش اني بقيت اغير عليه من الخدامين يا مامي، تصدقيها دي؟ انا حالتي بقت متأخرة في حبه، ودوايا هو.
هذه المرة حلت الابتسامة على ثغر والدتها، ولكن بمرارة على حال ابنتها:
– يبقى انتي كدة هتحصلي والدته يا قلبي، ما هو اللي ضيع نجوان هو الهوس بجوزها، اللي هو صورة من ابنه، بس ع الاقل حكيم رغم كل عيوبه كان بيحب مراته، انما انتي يا حلوة، حجتك ايه؟ مهووسة بحب راجل مش حاسس بيكي من الأساس.
وعلى عكس ما توقعت بعدما حدثتها بالمنطق، جاءها رد ابنتها بتصميم وتشبث:
– عشان طنت نجوان كانت ضعيفة يا ماما، يبقى تستاهل اللي حصل لها، انما بنتك بقى……
توقفت تضع قدما فوق الاخرى، تردف بثقة:
– قوية، وقوية اوي كمان، وعمرها ما هتتنازل عن حلمها .
❈-❈-❈
دلفت تتبعه حينما دفع الباب ليتوقفا الاثنان بمدخل الغرفة، فيشير لها بيده نحو الأخرى، وتفاجأ برؤيتها؛ متكومة على الفراش، تحتضن ذاتها من ركبتيها الى صدرها، وكأنها طفل صغير، أضاع والديه، وتاه في عالم غير عالمه الذي يعرفه،
برغم كل ما تحمله من غضب نحوها، إلا ان مشهدها بهذه الصورة مزق قلبها ، كيف انقلبت هكذا من حالة الحالمية والشرود الجميل الى هذه المرأة البائسة التي تبدو كعجوز كسرها الحزن:
– هي ليه عاملة كدة؟
كان هذا هو السؤال الذي صدر منها في رد فعل اولي لما تراه، فتنهد هو بأسى يضع كفيه بجيبي بنطاله قائلا:
– اهي ع الحال ده من ساعة اللي حصل، في البداية كانت بتصرخ بهستيريا واحنا مش فاهمين عايزة ايه؟ فا اضطرينا نديها حقنة مهدئة، نامت بعدها، لكن من ساعة ما صحيت وهي ع الحال ده، مش عايزة تقوم من ع السرير ولا تاكل ولا تشرب ، انا احترت معاها وبفكر جديا اوديها لأي مصحة…..
قاطعته معارضة على الفور:
– لا حرام ارجوك، الدكتور امبارح نبه على قربك منها ، وانها تحس بحبك واحتياجك ليها ، لو نقلتها للمصحة يستحيل ترجع لطبيعتها تاني ولا تخف .
لحظات من الصمت بينهم، وهو يحدق بها بنظرات لم تفهمها، وهي في انتظار رده.
، يدهشه خوفها على والدته رغم ما فعلته معها وقد كانت على وشك الموت بسببها، كيف تمتلك قلبًا يتسع للتسامح في امر كهذا؟
نفض رأسه يتصرف بعمليه، مقررا بذكاء منه استغلال الفرصة:
– طب انا من رأيي تقعدي معاها الاول وتحددي قرارك ، وبعدها اشوف انا الحل المناسب.
اومأت رأسها بتوتر ، لتخطو نحو المرأة المتعبة، تلك التي انتبهت عليها، لتتعلق ابصارها بها، تغشي عينيها الدموع التي بدأت تهطل بندم ورجاء، التمسته بهجة، لتسقط جالسة بجوارها تخطابها بحيرة وعتاب :
– طب بتعيطي ليه دلوقتي؟ انا اللي حقي ازعل منك على فكرة .
اهتز صوتها في الاخير بتأثر واضح، لتفاجأ برد فعل نجوان، التي نهضت بجذعها مرددة بكلمات بالكاد تفهم:
– انتي مش هي، انتي مش هي .
– هي مين؟ وضحي اكتر عشان افهم؟
لم تجد اي رد منها، سوى ان فاجأتها تحتضنها بدموع صامتة، تبلل كتفيها ، تزيد من تشتتها، فتردد بإجهاد وتعب:
– طب والله حرام عليكي اللي بتعمليه فيا ده؟ انا دلوقتي اكرهك ولا احبك، تصعبي عليا ولا ادعي عليكي عشان كنتي هتموتيني؟ انتي ايه حكايتك معايا؟
دوت عبارتها الاخيرة، برأس ذلك المتابع لمشهدهم من اوله، وكأنها تنطبق على حالته معها، تلك الحنون التي تسامحت في غضون دقائق مع واحدة لا تعرفها سوى من فترة لا تتعدى الأسابيع، بفعل لم يقوى هو عليه مع اقرب الناس اليه، رغم مرور السنين.
❈-❈-❈
خرجت اليه بعد قليل،
وقد بدلت ملابسها، لأخرى التي أتت بها، بعدما جففتها لها عاملة المنزل، لتخطو نحوه وملامح التردد تعلو تعابيرها، وهو يراقبها ويتشرب تفاصيلها بشغف هو نفسه لا يصدقه، بعد سنوات لا يذكر عددها، تساوت فيها النساء مع الرجال في نظره، لا يلتفت ولا يعطي بالا لاحداهن، مهما كانت درجة جمالها، ومميزاتها، انما مع هذه…… يبدو ان الأمر مختلف تماما.
– تعالي اقعدي يا بهجة.
هتف يدعوها ، يزيح الحاسوب عن قدميه، مؤجلا العمل عليه حتى ينهي النقاش المهم معها، ليردف فور ان استجابت وجلست امامه:
– ما انا مضطر اتابع بقى الشغل من بيتي.
فهمت على مقصده من خلف الكلمات، لتعقب بأسف:
– معلش يا فندم اننا عطلناك على شغلك.
قالتها لتطرق برأسها بحرج منه، فجاء رده بمراوغة:
– والله لو ع اليوم ده وخلاص ، تعدي يا بهجة، انما المشكلة ع الايام اللي جاية بقى، لو انتي رفضتي الاستمرار، انا بصراحة مش عارف ساعتها هعمل ايه لحد ما تقوم الدادة نبوية من رقدتها الشديدة دي.
افتر فاهاها تهم بالرد ولكنه كان الاسبق :
– انا مش بضغط عليكي يا بهجة، انتي ليكي الحرية انك تحددي قرارك، وحاجة تانية….
توقف يعطيها مبلغا من النقود في ظرف ابيض، قائلًا:
– دول حاجة بسيطة يا بهجة، وملهمش دعوة بأي شيء.
تطلعت في الظرف المغلق بعدما وضع في كفها، يظهر مبلغا كبيرة من النقود، لتعبر عن رفضها:
– بس دول كتير اوي وانا معملتش حاجة.
– انتي كنتي هتروحي فيها يا بهحة، يبقى معملتيش ازاي بس؟
تمتم بها متفكهًا على غير طبيعته، ليجبرها على الابتسام رغم توترها، فترد بخجل:
– العمر والأجل دا بإيد ربنا.
– ونعم بالله .
تمتم بها، ثم صمت في انتظار ردها، والذي جاء بعد فترة سائلة:
– طب ممكن اعرف انت هتعمل ايه معاها؟ بس من بعد اذنك يعني بلاش المصحة.
– معنى كدة انك قررتي عدم الاستمرار يا بهجة؟
جاء ردها بحيرة ظاهرة:
– ما انا بصراحة خايفة منها بعد اللي حصل، وبرضوا صعبانة عليا، ومش فاهمة هي عملت معايا كدة ليه؟
– بس هي بتحبك والتصرف اللي طلع منها دا انا مش عارف هو حصل ازاي ، بس اللي متأكد منه، بعد اللي شوفته جوا معاكي، هو انه لا يمكن يحصل تأني.
اشار في الاخيرة على ما حدث منذ دقائق بداخل غرفة والدته ، حينما تشبثت بها كالاطفال وبأعين دامعة، وهذا لا يحدث الا نادرًا.
حينما وجدها صامتة، تابع يضغط على هذا الجزء الضعيف بها:
– ع العموم لورا لساها بتدور على واحدة ، دا غير انها عرضت عليا تتكفل بيها في بيتها لحد ما الدادة نبوية تسترد صحتها .
– بلاش لورا عشان بتخاف منها.
خرجت منها سريعا بتعبير واضح عن رفضها، ليعقب هو بقلة حيلة لا تخلو من مكر:
– طب اعمل ايه بس يا بهجة، ما هو يا الحل ده، يا اوديها المصحة.
– تاتي المصحة برضو؟
تمتمت بها، ثم اغمضت عينيها تستغفر ربها، وتناجيه العون ، وهو يطالعها بترقب في انتظار الرد، والذي لم يأتي إلا اخيرا:
– طب انا هاخد الكام يوم دول لحد ما ترجع دادة نبوية ويشفي عنها يارب ، بعدها بقى، ابقى اقرر استمراري من عدمه من عشرتي معاها.
زفر بارتياح مغمغمًا:
– وانا مش هنسالك المعروف دا ابدا يا بهجة ، وبرضوا مش هتأخر عنك في عائد مادي تستحقيه.
تمتمت بتوتر :
– مش مهم العائد المادي، قصاد انها متأذنيش، ربنا يهديها عليا .
❈-❈-❈
لا يوجد اجمل من ان يأتيك الفرج بعد طول عذاب، ومن حيث لا تحتسب،
فرحة تغمرها بشكل لا يوصف، رغم الالم ولحظات الأسى التي مرت بها، والوجع الجسدي الذي لم يذهب حتى الاَن.
الا انها لا تنكر فرحتها الاَن، وهذه المبلغ المحترم من المال ، سيمكنها من دفع عدد كبير من الديون والاقساط التي رغم صغرها، إلا ان كثرة عددها، يجعلها طوق في الرقبة يخنقها، سوف تتمكن من شراء شيء ما لها يصلح للخروج، ولشقيقاتها ايضا.
لن تبقي على قرش واحد منهم، فما تصرفه الاَن، تعلم ان الله سوف يخلفه.
– احنا وصلنا الحارة يا بهجة، تحبي تنزلي هنا مطرح ما بتنزلي كل يوم ، ولا ادخل بيكي داخل منطقتكم؟
قالها العم علي بمشاكسة، استجابت لها بابتسامة قائلة:
– كتر خيرك يا عم علي، كل مرة تسألني السؤال وانت عارف اجابته.
تفكه بطرافة منه، يُسمعها قبل ان تترجل من السيارة:
– الحق عليا ، اني مستغليتش وانتي سرحانة، ودخلت بيكي في قلب الحارة وقدام باب بيتكم ، واقولك انزلي.
– ساعتها مكنتش هتعرف تخرج بيها يا عجوز يا لئيم .
صدحت ضحكات الرجل العجوز في قلب السيارة، في رد فعل على كلماتها، لتغادر هي بابتسامة متسعة ، خبئت بعدها بقليل، فور ان وقعت عينيها على ابن عمها الأصغر، والذي وكأنه اتفق مع شقيقه الاخر في تضييق الخناق عليها، الا يكفيها عمها وزوجته المتسلطة وابنتهم الحمقاء التي لا تجد راحتها الا بتعكير صفوها في كل مرة تقابلها، فلينجدها الله منهم.
– راجعة ع الساعة اتناشر وفي عربية اخر موديل يا بهجة.
زفرت تقابله بحنق مرددة:
– وانت مالك؟
اشار بسبابته على صدره بصدمة:
– انا مالي يا بهجة؟
– اه انت مالك؟ ومستعدة اكررها للصبح يمكن تفهمها.
قالتها بتصميم اوغر صدره، حتى كاد ان يتفوه برد قوي، ولكنه توقف على قدوم شقيقها والذي تجهم سائلا:
– واقفة ليه عندك يا بهجة؟
وقبل ان ينطق هو وجدها تجيبه:
– ابن عمك بيحقق معايا على رجوعي الساعة اتناشر، ورجوعي في عربية يا ايهاب، ولما بقوله انت مالك زعل.
– دا بجد؟
غمغم بها شقيقها موجهًا نظراته نحو ابن عمه، ثم اجفله بقوله:
– طب انت مالك صحيح؟
ختم ضاحكا يسحب شقيقته ويذهب بها من أمامه بكل هدوء واريحيه، تاركا الاخر بفاه منفرج في متابعتهم، ثم يغمغم بالسباب والشتائم.
❈-❈-❈
توقف موكب السيارات امام القصر القديم الطراز والمتجدد بأحدث الوسائل، ليترجل من احداهم بهيبته، ثم التف نحو الجهة الاخرى، يتناول كف امرأته التي كانت تجد صعوبة في النزول لولا مساعدته، وذلك نتيجة لحملها في الشهور الاخيرة بالجنين الذي يتشوقا اليه منذ سنين، منذ زواجه بها،
– براحة يا روح قلبي، على اقل من مهلك.
ردت زوجته بامتنان ، تريح برأسها على ذراعه الذي تستند عليه:
– ربنا يخليك ليا يا مصطفي، متحملني رغم التعب المستمر، ولا شكلي اللي بقى بشع.
تنهيدة مثقلة صدرت منه، يقبل كف يدها بلوعة:
– شكلك ايه بس ولا بتاع، هو انا شوفت ولا عمري هشوف غيرك، يا نجمة الجماهير انتي، ياللي هتخلفيلي اجمل طفل على سطح الكوكب، يااااه دا انا متشوق اوي.
ربتت نور برقة على يده التي تحاوطها، ثم قامت بطبع قبلة خاطفة على كتف ذراعه بحب متمتمة:
– هانت يا روح قلبي، فات الكتير مبقاش الا القليل، كلها ايام ويهل ولي العهد ، ربنا يعديهم بقى على خير زي اللي فاتوا .
– يارب يارب .
تضرع بها الى الخالق بشوق جارف، يعد على اصابعه، بقرب الوصول لأجمل الأهداف التي ينتظرها، فصبره الذي طال يستحق المكأفاة، بعشمه في كرم الخالق.
– مصطفي.
دوى الصوت القوي ينتشله من عالمه الوردي، ليتفاجأ بها جالسة في انتظاره في بهو القصر، تستند بذقنها على رأس عصاها، وكأنها كانت في انتظاره، لتهمس زوجته بخوف منها:
– مامتك قاعدة مستنياك يا مصطفى، باينها زعلانة كالعادة، انا بصراحة مش هتحمل القعدة، هموت وانام.
رد بهمس هو الاخر:.
– خلاص اطلعي وانا هحصلك.
سحب ذراعه منها، لتعتمد على ذاتها في الباقي، ثم ألقت بالتحية على المرأة ذات الوجه العابس:
– مساء الخير يا طنط،
– مساء النور يا روح طنط.
رددت بها بهيرة بسخرية لم تخفى على ابنها ، الذي تعمد التجاهل كعادته، تجنبا لغضبها:
– نعم يا ست الكل، مش عوايدك يعني تسهري.
مطت شفتيها بابتسامة ليس لها معني، قائلة:
– خلينا نتعلم يا سيدي منكم،… ع العموم دا مش موضوعنا
– امال ايه هو موضوعنا؟
سألها مستفسرًا، لتجيبه بعد برهة من الوقت :
– انا كنت بفكر اشتري قصر جدك شوكت باشا، عايزة اجدده، وارجعه لاصله.
قطب قليلًا بتفكير ، ليعقب بعد ذلك:
– بس دا ورثك مع خالتو نجوان، هتبيع ازاي نصيبها بحالتها دي؟
– من ابنها
– يا ماما وافرضي رياض قبل ومضى، وخالتو رجع لها عقلها بعد كدة وخفت، هتتقبل ازاي الأمر لما تلاقي نصيبها بقى ملكك انتي .
زمت شفتيها تضرب بعصاها على الارض بحنق:
– وانا بقى هفضل تحت امرها؟ حد قالها تروح تتجوز برا العيلة من واحد العوبان زي حكيم، خسرها فلوسها، وبموته اخد عقلها كمان، ما هي لو سمعت الكلام، مكنش دا كله حصل لها.
يعلم ان جادلها ستواصل ولن تتوقف ، وهو بالكاد تحمله قدميه، لذلك فضل مجاراتها:
– حاضر يا ماما ، هشوف الموضوع ده مع رياض، وهو يتصرف، عن اذنك بقى عشان هموت وانام .
لم يتلقى منها رد، فنهض متابعًا انسحابه:
– تصبحي على خير بقى يا ست الكل، عن اذنك.
تابعت انصرافه وهروبه منها بضيق :
– ماشي يا مصطفى،انا برضو مش هسكت غير لما اخد القصر.
❈-❈-❈
مرت عدة أيام في مجالستها للمرأة بهدوء وبعض الارتياح بما لمسته منها من تغير، وقد اصبحت تستجيب لها وتطيعها دوما ، أدمنت القصص والروايات، وقراءتها من قبل بهجة، وكأنها تكفر عن ذنبها وخطأها.
حتى أتى ذلك اليوم حينما وصلها اتصال من شقيقتها، تخبرها عن حمى مفاجئة أصابت شقيقها، عقب عودته من إحدى دروسه.
فحاولت الاتصال بصاحب العمل حتى تستأذنه وتترك نجوان في حوزته، فمسؤولية الخروج الاَن مع عدم توقع أفعالها الغير مضمونة على الإطلاق يقيد عقلها عن التفكير بأي شيء ، ولكنها لا تقدر على المكوث هنا وشقيقها لا تعلم بما اصابه ومع محاولات الاتصال المتكررة وفشل الوصول اليه، اضطرت في الأخير ان تبعث رئيستها في عمل المصنع لتُعلم هذه المتعجرفة مساعدته في المصنع كي تخبره، وحينما لم تجد منها نتيجة هي ايضا، حسمت امرها لتتخذ القرار.
❈-❈-❈
– قلب اختك يا حبيبي، ايه اللي حصله يا جنات؟
هتفت بكلماتها، فور ان دلفت اليه عائدة من الخارج، تسحب بيدها نجوان التي وقفت محلها بانشداه،
وهي تراها تسقط بجوار شقيقها على الفراش.
لياتيها الرد من جنات:
– رجع من برا ع الحال دي يا بهجة، جسمه مولع وبيجر رجليه بالعافية، حاولت معاه بالكمادات، الحرارة نزلت يدوب شوية صغيرين، وبعدها رجعت تاني رغم البرشام اللي خده، انا مش عارفة والله اعمل معاه ايه تاني؟
– متعمليش حاجة، انا اساسا اتصلت بالدكتور، وانا جاية وبتابع معاكي في السكة.
اومأت جنات برأسها لتشير اليها بعد ذلك بذقنها، نحو الأخرى باستفهام ، لتنتبه بهجة على وقفتها مازالت محلها؛
– اه دي نجوان هانم اللي انا شغالة عندها، اقعدي يا هانم، واقفة ليه على رجلك، تعالى اقعدي ع الكنبة اللي هناك دي.
بحالة من الارتباك ، لم تتحرك نجوان من محلها ، لتنهض جنات بسرعة بديهة، فتقترب منها وتسحبها برقة ولطف:
– تعالي اقعدي وريحي رجلك، اينعم هي الكنبة على قد الحال، بس والله مريحة.
اومأت رأسها باضطراب، تسجيب لسحبها ، حتى جلست على هذا الشيء الجديد عليها ببعض الهدوء، الذي طمأن بهجة بعض الشي لتهتم بشقيقها، بعدما اعطت تعليماتها لجنات بقفل باب المنزل الخارجي والحرص الشديد منها، فهي حتى الاَن لا تعطيها الامان .
❈-❈-❈
وفي الاسفل
هللت سامية نحو اسرتها تخبرهم:
– شوفتي ياما، شوفت يابا، الحارة كلها مقلوبة تحت ع العربية الزيرو اللي سادة الشارع.
سبقهم بالرد شقيقها الأوسط سامر:
– اه يا ختي شوفناها، وشوفنا كمان مين نزل منها ، عارف يابا العربية دي تبع مين؟
رد خميس بلهفة:
– مين يا واد؟
– بهجة بت اخوك يابا، ودي مش اول مرة على فكرة، انا شوفتها نازلة قريب منها برا الحارة، ودلوقتي جايبة معاها واحدة ست شكلها هانم بشعر اصفر، ولا اللي بيطلعو في المسلسلات التركي بحلاوتهم رغم سنها الكبير.
برقت عيني والده بشغف استفز درية لتتدخل وتنهره:
– تركي ولا مصري، هي جاية بيها هنا ليه؟ وتعرفها منين اصلا؟
– الله اعلم.
تمتم بها سامر، ليجلس محله ويتكيء مضجعًا على الاريكة، فعلقت شقيقته بحقد:
– ودي هتغلب برضو، اكيد لقت لها سكة مع الست اللي بتقول عليها، انا ملاحظاها هي وواخواتها بقالي فترة، كلهم طقموا بالجديد، والنعمة بانت عليهم، دا البلوزة اللي خرجت بيها البنت جنات امبارح، انا كنت هموت عليها واجيبها، بس معرفتش تتجاب من اي محل.
بضحكة ساخرة عقب شقيقها باندهاش:
– يا نهار ابيض عليكي يا سامية، بقى كل الهدوم اللي انتي جايباها دي، ومعجبكيش غير البلوزة اللي لابساها جنات وهي رايحة الكلية؟
عبست سامية بضيق لم تخفيه، ليتهكم والدها بضجر منها:
– ودي بتشبع ابدا دي؟ دي لو جابت كل اللي في السوق، برضو مش هتستكفى .
تجاهلت درية كل ما يقال ، لتتسائل بفضول :
– هو الواد سمير راح فين؟ مطلعش ليه هو كمان يرغي ويحكي، زي ما بيعمل في اي حاجة تخص المحروسة، دا بقُه ما بيتبلش فيه فولة.
❈-❈-❈
– اتفضل يا دكتور اتفضل.
بحنق يسري داخلها، وقفت تستقبل الطبيب الخارج من غرفة شقيقها، برفقة هذا البغيض ابن عمها، والذي تفاجأت به، حينما أتى به، فور ان رأه يدلف الى داخل البناية يبحث عن عنوان المنزل الذي وصفته له عبر الهاتف، ليأخذها حجة، لفرض خدماته عليهم. لولا الخوف من الفضائح ، ووضع صحة شقيقها في الاولوية،
لكانت رفضت واعطته درس لن ينساه، هذا الوغد المتخاذل، يحاول الاَن تحسين صورته امامها، بعدما خيب ظنها في اشد اوقاتها احتياجًا له، كسند تتحامي به وقت أن كانت زوجته على الورق .
– الدكتور بيطمنك عليه متقلقيش يا بهجة.
بضيق لم تخفيه رمقته بنظرة عابرة، تتجاهل الرد عليه، لتتوجه مخاطبة الطبيب :
– طمني يا دكتور على حالته.
اوما لها الطبيب بعمليه، يشير لها نحو الأخر:
– انا كتبت كل التعليمات والارشادات اللي لازم تلتزمو بيها، مع روشتة العلاج، واديتهم للاخ قريبكم….
سارع بالتصحيح له.
– ابن عمها يا دكتور واكتر كمان.
كتمت زفرتها بصعوبة، تبتغي التوضيح:
– افهم من كدة انه مش دور برد عادي مع حمى، تتعالج بالأدوية اللي احنا عارفينها ؟
وافقها بأسف:
– في الحقيقية هو فعلا كدة، المريض عايز رعاية كاملة، خلو بالكم من الاغذية كمان، دي حاجة مهمة اوي عشان تقوي مناعته، وبإذن الله خير متقلقلوش.
ختم بالاَخيرة ، ليسحب نفسه كي يغادر ولكن بهجة اوقفته من اجل ان تنقده:
– استنى يا دكتور حق الكشف .
اشار بكفه:
– لا ما قريبكم قام بالواجب.
صدمة احتلت ملامحها ، لتعد العشرة بداخلها، حتى اذا خرج الطبيب ، وتحرك هو يعطيها ظهره، باغتته بجذبه من قماش قميصه، ثم وبحركة سريعة تخطف ورقتي التعليمات وتلك التي مدون بها اسماء الادوية، وقبل ان يستوعب، وجدها تضع ورقة النقود ذات الفئة العالية داخل كفه قائلة:
– كدة بقى يبقى في ايدك حق الكشف ، وكتر خيرك اوي بقى على كدة.
اعترض غير مستوعبًا لسرعتها في التنفيذ:
– انتي ازاي تعملي كدة؟ شايفاني كرودية يا بهجة، ولا مش مالي عينك عشان تديني حق الكشف وتمنعيني من ان اجيب العلاج لابن عمي؟
بابتسامة ساخرة خالية من أي مرح:
– بلاش اقولك انا شايفاك ازاي؟ اما بقى عن ابن عمك ، ف انت يا سيدي كتر خيرك اوي ، عملت الواجب اللي عليك وزيادة لما دخلت مع الدكتور اللي كشف عليه، اما بقى تدفعله مليم واحد في كشف او دوا ف دا لايمكن اسمح بيه.
امتقع وجهه بغضب شديد:
– على فكرة دي قلة زوق منك يا بهجة، عشان انتي كدة بتهينيني وتقلي مني، طب قدري حتى صلة الدم اللي ما بينا .
– يا سيدي والله مقدرة، بدليل اني ما طردتكش وانت داخل مع الدكتور وفارض نفسك في مرافقته.
– فااارض نفسي.
– ايوة فارض نفسك ، وياللا بقى معلش لو سمحت عشان انا عايزة ادخل لاخويا اطمن عليه، وزي ما انت عارف البيت كله حريم.
تجمد محله، يطالعها بأنفاس هادرة، وصدر يصعد ويهبط بانفعال مكبوت، يمنع نفسه بصعوبة عن التصرف بحماقة قد يندم عليها بعد ذلك، وهذه الرفض القاسي لأي محاولة للقرب او التصليح، يصيب عقله بالعجز والغضب، وهي الاَن تطالعه بتحدي وكأنها تقرأ افكاره.
ليقطع لحظة الصمت بينهم ، ولوج عائشة عائدة من المدرسة، ثم تعليقها بدهشة لا تخلو من تهكم:
– ايه ده ايه ده؟ هو انا لغبطت ودخلت بيت غير بيتنا ولا ايه؟…… ولا يكونش عقلي اللي بيكوبس دايما بالعفاريت بالليل، اتطورت حالته وبقى يشتغل في النهار كمان؟
– عفريت لما ياخدك يا بعيدة.
كان هذا رده، قبل ان ينسحب ويخرج ذاهبًا من حيث أتى .
لتطالع شقيقتها بتساؤل فور خروجه، ولكن هذه المرة بجدية، جعلت بهجة تجيبها على الفور :
– تعالي ورايا على اوضة ايهاب وانتي تعرفي بنفسك.
❈-❈-❈
بداخل الغرفة، كانت المفاجأة، حينما اكتشفت وجود نجوان بجوار شقيقها على الفراش جالسة ، وبأناملها تمر على شعر رأسه بحنو جلي ، جعلته يغمض عينيه براحة، لتطالعها بهجة بدهشة وعدم استيعاب،
اما عائشة والتي كانت اول مرة تراها، فعبرت سائلة باستغراب:
– مين الحلوة ام شعر اصفر ؟ دي تبع الدكتور ولا خارجة من مسلسل في التليفزيون.
انتبهت لها نجوان لتقرب رأسها منها، وتنظر الى عينيها مباشرةً، ثم خرجت كلمتها باقتضاب كما عودت بهجة:
– زتوني.
ضحكت لفعلها بهجة، وقد تيقنت من تقدم حالتها، بتذكرها لهذه الشيء الصغير، لترد محفزة لها:
– ايوة هي بعينها ، دي يا ستي عائشة ام عيون زتوني، والقردة بتاعتنا ام لسان طويل، برافو عليكي بقى انك افتكرتيها، ودي بقى جنات طالبة الجامعة، وايهاب اكيد عرفتيه، هي دي عيلتي المتواضعة يا ستي، ربنا يباركلي فيهم.
ابتسامة خلابة لاحت بثغرها، لتوزع بأبصارها عليهم والثلاثة يبادلنها بمودة، ما عدا ايهاب والذي غرق في النوم تأثرا بفعل نجوان وحقنة الطبيب التي حقنه بها قبل مغادرته،
لتعلق عائشة بفراسة:
– كدة بقى انا عرفت لوحدي، هي دي الست اللي انتي شغالة عندها يا بيبة صح؟
– صح .
– ومشرفانا النهاردة فى البيت.
– ايوة .
تدخلت جنات باقتراحها:
– طب كدة مدام ايهاب نام، يبقى احنا بقى نعمل بأصلنا مع الضيفة اللي مشرفانا النهاردة ونأكلها، ولا ايه رأيك يا بهجة.
سمعت الاخيرة تجيبها بعمليه:
– خلاص يبقى خلو بالكم منها، سايروها واتكلموا معاها، وانا هحضر اللي يناسبها، اصلها مش بتاكل اي حاجة.
❈-❈-❈
سقط بجسده على كرسي مكتبه ، يحرك رأسه يمينا ويسارا، ثم يدلك على رقبته بتعب واجهاد متعاظم، وقد أنهى اخيرا جولاته مع احد العملاء الجدد، ليعرفهم على جودة بضائعه ومميزاته التي تصلح للمنافسة العالمية، ثم نقاش وغداء عمل وتوقيع صفقات،
يوم مرهق مر به من اجل تحقيق احد أهدافه التي يسير على خطاها بجد واجتهاد، يساعده على ذلك شريكه الجديد بنشاط وحنكة اكتسبها في سنوات عمره بالعمل ليست بالقصيرة.
– رياض باشا، يحقلك دلوقتي ترتاح وتنام بعد الإنجاز العظيم اللي قومت بيه النهاردة.
خاطبه بامتنان حقيقي:
– كله بفضل ربنا وبعده انت يا كارم، بجد انا مبسوط من عدي اللي عرفني بيك.
تبسم بثقة وتواضع يعدل في ياقة قميصه:
-ياااعم بقى اخجلتم تواضعنا.
صدحت ضحكة الاخر، مرددا بمرح:
– والله انت مشكلة يا كارم.
قالها وارتفعت رأسه فجأة نحو باب الغرفة، ليأمر الطارق بالدخول، لتلج اليهم لورا بملابسها الرسمية بأناقة ظاهرة، يطرقع حذائها ذا الكعب العالي على الارض، وهي تتبختر بخطواتها للفت النظر نحوها، حتى اقتربت تميل نحوه بعدد الملفات التي طلبها منها، امام ابصار كارم الذي لا تفوته فائتة بطبيعته:
– اهم يا فندم، عقود الصفقات اللي امرت بيهم .
اومأ لها:
– تمام يا لورا، اتفضلي انتي وانا هبعتلك لما اخلصهم.
– تحت امرك.
تمتمت بها ثم خرجت بنفس الصخب الذي دلفت به، ليعلق كارم في اثرها:
– مش دي برضوا قريبتك وقريبة عدي على حسب ما بعرف.
رد بجدية دون ان يرفع رأسه عن مراجعة الاوراق التي امامه:
– اه، هي تعتبر بمثابة بنت خالي، وعدي نفس الأمر.
– اااه.
اومأ محركا رأسه، قبل ان يميل عليه مغمغمًا بهمس:
– طب ايه بقى يا عم؟ قريبتك ونشيطة وواجهة مشرفة زي ما انا شايف،إيه اللي ناقصها بقى؟
قطب حاجبيه في البداية، لكن سرعان ما وصل الى مقصده، ليردف حاسمًا:
– مش ناقصها حاجة وتكاد تكون مكتملة زي ما بتقول، بس انا مش شايفها غير في موقعها ده او قريبتي اللي اعرفها من وهي طفلة، لكن زوجة ولا اي حاجة تانية انسى.
– امممم.
زام بفمه كارم ، ليعقب بتفهم ، رغم دهشته:
– حقك طبعا، انا متجوز قبلك وعارف قيمة الحب في الارتباط، لذلك عمري ما هلوم عليك.
– حب!
دوت الكلمة بداخله، حتى صرفته عن كل ما كان يعمل عليه، ليظل بنصف ذهن حتى انصرف شريكه، لينفض رأسه من افكارها، قاصدا الاهتمام بعمله، ليضغط على زر الجرس، يطلب مساعدته، حتى اذا أتت اليه:
– كنت عايز اطمن على سير العمل النهاردة بالمصنع، بما اني طول اليوم كنت برا، ياريت لو تعمليلي تقرير مفصل قبل ما امشي.
اومأت برأسها، ثم تحركت خطوتين بتردد انتبه له، ليسألها بتوجس:
– ايه مالك؟ في حاجة يا لورا ؟
ابتلعت ريقها تظهر اضطرابها امامه:
– بصراحة حضرتك انا مش فاهمة في ايه بالظبط؟ بس صباح رئيسة العمال جات عندي اثناء غيابك، تبلغني ان اللي اسمها بهجة، خدت نجوان هانم وخرجت بيها.
انتفض من محله بجزع:
– بتقولي ايه؟ يعني خدتها وراحت فين من غير ما تبلغني؟
اهتزت كتفيها بعدم معرفه تردف:
– الله اعلم يا فندم، بس انا اخاف تأذيها البنت دي شكلها اتجرأ اوي بعد ما خدت الثقة و….
لم ينتظر منها تفسيرات اكثر من ذلك، وقد دنى على الفور يتناول اشياءه بعجالة من فوق سطح المكتب، ثم يتحرك سريعًا مغمغمًا بتوعد:
– انا هعرف احاسبها كويس لو جرتلها اي حاجة، هي اتجننت عشان تتصرف من دماغها ولا ايه؟
ابتسامة ماكرة لاحت على جانب ثغرها مرددة:
– ياريته يحصل بجد عشان اخلص من الاتنين.
❈-❈-❈
وقف يستقبلها متخصرا، وعيناه الصقرية ضاقت بريبة جعلت الخوف يسري بداخلها، بعدما طلبها عبر الهاتف، لتأتي بوالدته فورا من مكان ما ذهبت بها، فتزعن هي في اقل من نصف ساعة تحضر بها، بواسطة العم علي سائق السيارة الخاصة بها.
– حمد الله ع السلامة.
ظهر جليًا التهكم في نبرته، مما اثر على نجوان لتتوقف محلها عن التقدم بخوف جعله يهدر بدون سيطرة:
– ما انا مش وحش وهياكلك يا ماما، ولا انتي خلاص استحليتي تدي الامان للغريب وابنك لا؟
زادت ملامحها رعبًا، ليزفر بضجر يشبح بوجهه عنها ، لتضطر بهجة للتدخل:
– اسمحلي اوصلها لاوضتها يا رياض باشا.
– اتفضلي
هتف بها، فاردًا ذراعه نحو الدرج ، ليباشر بغضبه:
– توصليها وترجعيلي حالا ، عشان عايز اتكلم معاكي.
اومأت بهزة من رأسها، لتسحب المرأة نحو غرفتها، وفور ان اطمئنت بتهدئتها، هبطت اليه، بأقدام بالكاد تحملها، هيئته ليست مبشرة على الإطلاق للتفاهم او الاخذ والرد في الحديث، ولكن ما باليد حيلة، فلتخوض المواجهة بخيرها وشرها وليحدث ما يحدث.
وصلت لتقف امامه في بهو المنزل الذي اتخذ جلسته به، يبدو كبركان خامد على وشك على الانفجار:
– ايوة يا رياض باشا، انا تحت امرك اهو.
زفر بأنفاس خشنة، ليعتدل بجلسته واضعًا قدما فوق الاخرى، يبذل مجهود مضنيا في السيطرة على انفعاله:
– اتفضلي انتي يا بهجة، فهميني بالظبط ايه بيحصل، وازاي خرجتي من الفيلا بالست الوالدة…..
خرجت الاخيرة بصيحة اجفلتها، قبل ان يتابع بنبرة اهدى لكن اقوى:
– من غير ما تبلغيني.
برغم الزعر الذي سرى بكل خلية من جسدها، الا انها سرعان ما تمالكت لتقابل انفعاله بشجاعة تخبره:
– حضرتك انا مخرجتش بيها من نفسي ولا هي كانت فسحة، اختي اتصلت تبلغني بالتعب الشديد اللي حل باخويا، وانا حاولت اتصل بيك مية مرة عشان استأذنك اروح اشوفه، لكن محاولاتي باءت بالفشل وتليفونك بيرن ع الفاضي من غير ما تفتح عليا ولو مرة واحدة، لما غلبت كلمت الريسة تبلغ لورا، لكنها هي كمان مدتش اهتمام وقالتلها انك مشغول ومش فاضي لأي رغي ، انا كنت ساعتها هعمل ايه واخويا بيفرفر من السخونية مع اختي اللي مش عارفة تتصرف.
– تقومي تاخديها بيتكم؟
– امال كنت هسيبها في مسؤولية الخدم اللي عندهم شغلهم اساسا، ممكن يكون تصرفي معجبكش، بس انا اضطريت لكدة، وهي الله يباركلها، قضت اليوم كله من غير ما تعمل معايا اي مشاكل.
سمع منها فصاح بها بعدم استيعاب:
– قضت اليوم عندكم! امي انا قضت يوم بحاله عندكم في الحارة يا بهجة؟
ابتعلت ريقها باضطراب تبرر:
– يا فندم ما انا بقولك اني اضطريت لكدة، للظرف المهم اللي حصل عندي، انت مكنتش بترد على تليفوناتك، وانا مقدرش اسيبها لوحدها هنا في البيت، ولا قدرت اتخلى عن اخويا اللي تعب اوي وكان لازم اروح اشوفه.
– تقومي تاخديها عندكم الحارة، مخوفتيش بقى لاتهرب ولا تعمل مصيبة بردود أفعالها الغير متوقعة.
– بالعكس، دي انبسطت اوي بتغيير الجو، حتى الدكتور هشام قالي دي خطوة هايلة…..
– وهشام دا شوفتيه فين؟
قاطعها بأعين برقت بترقب وهدوء ما قبل العاصفة، فصدر ردها بعفوية:
– عادي ما هو كان بيتصل عليا يطمن عليها .
سمع منها ليجفلها على الفور بصرخته:
– انا هقتله واشرب من دمه عشان يحرم ما يعملها تاني،… ثم تعالي هنا وقوليلي، دا من امتى بيحصل ان شاء؟
الزفت ده من امتى بيتصل بيكي يا بهجة؟…..
هذه المرة كان كالمجنون، ليضاعف من فزعرها، ناهضُا من محله بملامح غريبة عن هدوئه المعروف، مما جعلها ترتد بأقدامها للخلف تجيبه بصوت مهتز:
– من وقت ما روحنا كشفنا للهانم عنده، هو كان عنده نمرة دادة نبوية اصلا، وكلمها ياخد نمرتي منها عشان يسألني عن الهانم الكبيرة واحوالها .
– وانتي بقى بتجاوبيه عادي، وتحكيلوا عن تصرفاتها بالتفصيل، واكيد طبعا بيعلق بهزاره السخيف اللي انا عارفه.
– عادي مش شغله.
قالتها ببساطة جعلته يصرخ بعدم سيطرة:
– شغل مين يا بهجة متحرقيش دمي، الزفت دا تمسحي نمرتك من عنده، وانا من النهاردة هغيره واروح بوالدتي للي احسن منه، فاهماني ولا لأ، تمسحي نمرته نهائي.
– تحت امرك طبعا، دي الست والدتك وانت ادرى بمصلحتها.
تمتمت بها بصوت يحمل في طياته اعتراضًا ظهر في استرسالها بعد ذلك:
– مع اني شايفة انه انسان محترم ومعملش حاجة……
– اسكتي يا بهجة.
صاح بها بحدة، مقاطعًا لها، ليمسح بكفيه على وجهه يحاول السيطرة على انفاسه الهادرة، وحالة الهياج التي قلما ما تصدر منه، نظرا لطبيعته الصارمة، والمتحكمة دائما في ردود أفعاله، ولكن مع هذه الفتاة يصبح الأمر مختلف، انها الوحيدة التي تستطيع اخراجه عن طوره الهاديء، ببرائتها المستفزة.
– طب انا كدة عايزة اروح بقى يا فندم
– نعم.
انتشلته من حالة الشرود والتشتت، لتواصل بقولها:
– يا فندم بقولك اخويا تعبان، والحمى اللي عنده لسة مخفش منها، يعني عايز رعاية كبيرة اليومين دول..
اومأ بتفهم، مخففا من حدته في مخاطبتها:
– خلاص يبقى المستشفى اولى برعايته، هناك هيبقى تحت عين الدكاترة وهياخدو بالهم منه اكتر .
صدر ردها بمعارضة:
– مستشفى ايه بس يا فندم؟ ما احنا جيبناله الدكتور البيت، اشحططه في مستشفيات وقرف ليه بس.
رمقها بغيظ مرددًا:
– مفيش شحططة ولا زفت يا بهجة، انا هكلمهم دلوقتي عشان يحضرولوا سرير ويستقبلوه.
– يستقبلوه فين؟
لم يلتفت لها، وقد انشغل بالاتصال الذي صار يجريه مع احدهم، يأمره بالفعل بما نوه عنه منذ قليل، حتى اذا انهى المكالمة، ثم التف اليها موضحًا:
– دي مستشفى احنا من ضمن المساهمين فيها، هتخرجي دلوقتي مع عم علي، هيروح بيكي هناك، الدكاترة هيشوفوه ويحددو حالته بالظبط ان كانت تحتاج رعاية وحجز، ولا يرجع ع البيت، وفي كل الحالات متشليش هم اي مصاريف.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
عدة أيام مرت، وشقيقها محتجز في المشفى المتخصص الفاخر، بعدما انزاح عنها هم علاجه المُكلف، بفضل كرم رئيسها في العمل، وقد ثبت بالفعل خطورة الحمى التي تعرض لها، ولولا العلاج المكثف لكان الأمر تطور اكثر من ذلك
ولكن في المقابل كانت مشتتة ما بين متابعة شقيقها، ومراحل تقدمه، في هذا الوضع ، وما بين رعاية نجوان التي تعلقت بها كالأطفال ، وهي لن تخذل رئيسها والذي اغدق عليها بكرمه في اشد الأزمات التى تعرضت لها هذه الفترة .
ولكن الاخرى لا تكف عن الطلب منها معظم الاوقات للذهاب بها الى منزل عائلتها مرة اخرى، كما يحدث الاَن، وهي ترفض تجنبًا لغضب رئيسها:
– مينفعش يا نجوان هانم، والله ما ينفع، مش ناقصة مسؤولية انا .
رغم صمتها الدائم الا انها تستطيع بأفعالها التأثير عليها ، بعبوس الملامح وكلمة واحدة تصر تكررها عند الحاجة.
– عائشة
– يقطع……
هتخليني ادعي على اختى يا مدام نجوان، بس هي السبب بعمايلها ولعبها معاكي، خليتك تتعلقي بيها .
زفرت بتعب لتسقط ، ممسكة رأسها الذي كان على وشك الانفجار، حتى أتى هو بهيبته يتدخل في الحديث معهم:
– ايه في ايه؟ ليه النرفزة والعصبية ما ببنكم؟
انكمشت نجوان كعادتها، ليحدجها بضجر قبل ان يتجه نحو بهجة التي ردت بحالة من الاجهاد:
– مفيش حاجة حضرتك، انا بس تعبت من اصرارها على انها عايزة تروح معايا البيت، وانا بقولها مينفعش.
قطب بعدم استيعاب، يستعيد بذهنه الجملة مرة اخرى:
– بتصر ازاي يعني؟ هي بتتكلم اساسًا؟
– كلمة واحدة بس؟
– كلمة ايه؟
– عائشة.
– عائشة مين؟
تنهدت تخبره:
– دي تبقى اختي يا فندم، بس هي صغيرة اوي، يدوب حداشر سنة، بس المرة اللي فاتت اندمجت معاها في اللعب والهزار.
مط بشفتيه، وابتسامة مليحة اعتلت ملامحه:
– يا سلام، يعني حتة عيلة صغيرة، عملت اللي محدش فينا عرف يعمله، وعلقتها بيها.
نقل بأبصاره نحو والدته ، يخاطبها بعتاب ممازحًا:
– اجيبها تعيش معاكي هنا…..
– لأ، الله يخليك بلاش تقول كدة لتمسك فيها بجد.
صدرت منها بمقاطعة يشوبها الرجاء ، ليتوقف هو محدقًا بها، لا يمل ابدًا من حفظ تفاصيلها، وهي رغم الخجل الذي يصيبها، لكن سرعان ما تتمالك، فهي لا تقتنع ابدا بإعجابه بها وتعتبرها نظرات عادية بالنسبة لطبيعته الباردة:
– مكنتش اعرف ان ماما تأثيرها جامد كدة عندك، ع العموم تمام .
ختم بتنهيدة، ليفاجئها بقوله:
– خلاص يا بهجة خديها معاكي مدام بتفرح، وخلي واحد من الحراس يروح معاكم للأمان .
ظهرت بوادر الفرح على وجه والدته، مما جعله يرتد بأثره على بهجة، التي وبرغم المسؤولية التي سوف تلقى على عاتقها، إلا انها فرحت بفرحها:
– شكلها انبسطت بالفعل، بس انا رايحة المستشفى دلوقتي، خليها وقت تاني يا نجوان يا هانم.
اصدرت جملتها الاخيرة بوضوح تام نحو نجوان التي حركت رأسها بتشنج دليل على رفضها، ليأتي الحل منه هو:
– خلااص يا بهجة، انا هاخدكم ع المستشفى، تخلصوا مشواركم وبعدها تروح معاكي بيتكم ، ساعة ولا ساعتين كدة وتيجو مع عم علي، واهي تغير جو،
جهزوا نفسكم.
قالها وتحرك ذاهبًا من امامها بهدوءه المعتاد، لتتصلب هي محلها تطالع اثره حتى اختفى بصعوده الدرج، هذا الرجل يذهلها بأفعاله الغير متوقعة، ولكن لما الاستغراب ؟ فهو يفعل مع نبوية اكثر من ذلك بحكم العشرة التي تجمع بينهم، والتضحيات التي تبذلها في رعاية والدته، اذن فلا يجب ان تشطح بأفكار غبية.
❈-❈-❈
خرجت من المصعد، عائدة من الخارج بصحبة والدتها ، تحمل عددا من المشتريات النسائية وذلك لقرب ميعاد زفافها ، لتقع عينيها عليه، يغلق باب منزله، وحالة من غضب قلص تعابير وجهه، مع الترديد دون توقف بالاستغفار:
– استغفر الله العظيم يارب، استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم.
القت بالتحية والدتها، رغم استغرابها هي الأخرى من هيئته،:
– مساء الخير يا شادي يا ولدي.
رد موجهًا التحية نحوها ونحو خطيبته المندهشة لحاله المتغير بعجالة متوجها نحو المصعد:
– مساء الخير يا خالتي، مساء الخير يا صبا.
سمعت الاخيرة لتترك ما بيدها لوالدتها ، لتعود عن طريقها وتوقفه:
– رايح فين يا شادي؟ وايه اللي معصبك بالشكل ده؟
زفر طاردًا دفعة من الهواء المشبع بقلة حيلته:
– والله قرفان يا صبا، ومخنوق، حاسس اني قليل اصل واستاهل الضرب على نفوخي، بعدين اما ارجع بقى من مشواري هبقى احكيلك.
– وانا لسة هستنى على ما تيجى؟
امام تشبثها قرر تغيير طريقه من المصعد، ليهبط الدرج على اقدامه برفقتها، كي يعبر لها عما يعتريه من ضيق:
– ولاد خالي اليتامى يا صبا، النهاردة بس عرفت بمرض الولد الوحيد فيهم، وحجزه في مستشفى، بقالوا اكتر من أسبوع، أسبوع وانا نايم على وداني ومعرفش، بتقصيري في السؤال عنهم، بعد ما ولاد درية قطعوا رجلي من عندهم بالكلام الزفت بتاعهم.
ذوت ما بين حاجبيها بضيق وعصبية:
– ليه يعني؟ مش عيال خالك دول يتامى، هيضرهم ايه ولاد الست المفترية دي لما تسأل عنيهم.
تنهد يحرك رأسه بانفاس يجتاحها الغيظ:
– انتي قولتي بنفسك مفترية، وعيالها ورثو التناحة والاستعباط، واحد كان كاتب كتابه علي بنت خالى الكبيرة واتفسخت خطوبته بيها قبل الفرح، واتجوز وشاف حاله ولسة برضو فارض نفسه وعنده امل والتاني عايز دور اخوه.
توقف يتابع لها بانفعال، حتى غفل عن تبعاته:
– يا مؤمنة، دول منعوني ما اروح عندهم ولا اسأل عليهم ، بحجة انهم بنات وميصحش ادخل بيت مفيهوش راجل كبير، انا دمي بيغلي يا صبا، ما هو لولا عمايلهم دي مكنتش ابدا سيبت بهجة ولا اخواتها من غير ما اقف جمبهم.
استرسل تأخذه الجالالة، متوقعًا انفعالا منها هي الأخرى، لتفاجأه بردها:
– هي بهجة دي حلوة جوي للدرجادي؟
بحالة من عدم الاستيعاب، صار يتطلع لها، وقد توقف عقله عن التفكير، عاجز عن فهم عقل الانثى، والذي ترك جميع ما سبق ليركز على معلومة تافهة مثل هذه، ليقرر منهيًا الجدال من اوله:
– صبا يا حبيبتي، اطلعي لامك اللي سبتيها فوق، وانا لما ارجع من مشواري، نبقى نشوف الموضوع المهم ده، سلام.
ما كاد ان يتمها حتى وجدته يسرع بالهبوط من أمامها، لتتمتم هي من خلفه بتصميم، عازمة على الذهاب معه:
– وانا بعد اللي جولته ده هسيبك تروحلها لوحدك، والله ما هسيبك ، استني يا شادي.
❈-❈-❈
خارج الغرفة المحتجز داخلها شقيقها، وقد اطمأنت عليه بعد زوال الخطر، ولم يعد يتبقى على خروجه الا القليل ، وقفت تلتقط انفاسها بحضوره، متمتمة بالإمتنان:
– الف حمد وشكر ليك يا رب، اني اطمنت عليه، ياريت كمان الدكاترة تستعجل بخروجه، عشان يحصل اللي فات من دروسه.
تبسم برزانة واضعًا كفيه بجيبي بنطال حلته، بهيبة تليق به، يخاطبها:
– مش وقت دروس ومذاكرة يا بهجة، المهم التعافي بالكامل عشان يبقى المخ مستعد لحشو المعلومات وفهمها.
– ايوة والله عارفة، بس دا حلمه الطب، والتقصير اكتر من كدة هيأثر عليه.
– لو ممتاز هيلحق اللي ناقصه يا بهجة، ولو محصلش، الدنيا موقفتش يعني ع الطب وبس ، الناجح ناجح في اي مجال.
– لا ان شاء الله يحصل ويدخل طب، يارب يارب، تحقق له امنيته يارب.
صدرت منها بلهفة وعفوية، جعلته يضحك ممسكًا جبهته بيأس منها:
– لا انتي مفيش منك فايدة ابدا، انا هروح اشوف مدير المستشفى، وبعدها اعدي عليكم قبل ما امشي، خلي بالك بقى منها.
قال الاخيرة بإشارة نحو والدته؛ والتي كانت واقفة خلف مدخل باب الغرفة ، تلوح كفها ببرائة نحو ايهاب الراقد في سريره، وهو يبادلها بابتسامة متسعة وكأنه على معرفة بها منذ زمن،
لتعقب بهجة بدهشة:
– سبحان من يوفق القلوب مع بعضها، وانتي يا نجوان ولا اكنك على معرفة بإيهاب من سنين، ربنا يهديكي بقى ومتعمليش حركة غدر ، انا مش قدها ابدا والله.
التفت عنها لتفاجأ بابن عمتها يقترب بهلع نحوها:
– ازيك يا بهجة، وازاي اخوكي ايهاب، اخبار صحته ايه؟
اومات تطمئنه برقتها المعتادة:
– كويس والله يا شادي، متقلقش، ازمة وعدت على خير الحمد لله.
– مقلقش ازاي بس؟
تمتم بها بأسف من حاله، ليتدارك بعد ذلك وجود صبا، فيعرفها به:
– دي صبا خطيبتي يا بهجة، انا كان نفسى من زمان والله اعرفك بيها بس النصيب.
تبسمت بسماحة ترحب بها:
– زي القمر، ربنا يخليهالك، ازيك يا صبا.
ابتلعت الاَخيرة ريقها ، تصافحها بيد باردة ترد تحيتها ، ومن داخلها تردد بصدمة:
– يا لهوي عليكي يا صبا، دي طلعت حلوة جوي.
❈-❈-❈
وفي مدخل المشفى،
تقدم سمير نحو موظف الاستقبال، يسأله عن غرفة ابن عمه ايهاب، تاركًا شقيقته تجول بأبصارها في الأجواء بأعين يملأؤها الانبهار، والحقد ايضًا، لتأخذه التساؤلات عن مصدر الاموال والتكلفة ومن اين؟
– انت هتفضلي واقفة في مكانك يا سامية؟ ما تيلا يا بنتي .
كان هذا صوت شقيقها والذى توقف عن تقدمه من اجلها، لتتحرك بخطواتها السريعة نحوه متسائلة:
– سمير، عيال عمك جابو منين حق المستشفى الاَلاجة دي؟ اسبوع بحاله بأيامه ولياليه، وابن عمك محجوز فيها، دا اكيد كلفتهم بالالافات.
خلط رده بضحكة ساخرة، انتي بتقولي فيها، دي الليلة هنا اقل حاجة تكلف عشر تلاف، هموت واعرف قدروا عليها ازاي؟ دا ابوكي اللي معاه الفلوس بجد، عنده استعداد يموت على أبواب المستشفى الحكومي ، ولا انه يزيد بجنيه واحد لمستشفى زي دي.
– عشان حظنا فقر ، وقعنا في راجل بخيل زيه، انما برضوا انا هتجنن لو معرفتش، دفعو تمن القعاد في المستشفي دي ازاي.
عاد بصحكته الساخرة قائلا :
– يبقى اتجنني احسن، عيال عمك ايد واحدة مع بعض، مفيش حد هيغلط ويريحك ابدا، دي المزغودة عيشة ممكن تقيم عليكي الحد لو بس فتحتي معاها كلام .
اكمل بضحكة زادت من سخطها، ليدلفا داخل المصعد، كي يصل بهم الى الطابق الثاني، ومنه الى غرفة ايهاب، والتي ما ان حطت اقدامهم بداخل الطرقة المؤدية اليها، حتى جحظت ابصارهم، بوجود شادي برفقة بهجة يتحادث معها في جانب قريب من الغرفة، لتصدر زمجرة غاضبة من سمير:
– شوفي الزفت بيستغل الموقف، وقاعد يتمحلسلها، وياخد ويدي معاها ، دا مش بعيد يكون هو اللي دافع حق المستشفى، ما انا عارفه، مقتدر بحكم وظيفته، والنعمة ما انا ساكتله.
قالها وتحرك بأقدامه مسرعًا، مبيت النية على الصدام .
لتمصمص هي في اثره بغيظ، وتسرع باللحاق به:
– يعملها ما انا عارفاه، فالح بس يكشر في وشي ع الفاضية وع المليانة، لا وجايب خطيبته الهبلة معاه صورة، استنى يا سمير.
وصل اليهم المذكور، يلقي التحية بتهكم واضح:
– عاملة ايه يا بهجة يا بنت عمي، شكل شادي ابن خالك قايم بالواجب وزيادة .
امتقع وجه الاخير بغضب يحاول السيطرة عليه، ليأتي الرد من بهجة:
– وما يعمل الواجب ولا ميعملش حتى، انت مالك ؟ متعصب ليه يا سمير؟
– بصورة تفضح ما بداخله خرج صوته الغاضب:
– طبعا يا ست بهجة وانا هتعصب ليه؟ خلي الراجل يقوم بواجبه ويزود اكتر ، ما احنا عارفين اللي فيها.
قال الاخيرة بنظرة مقصودة نحو صبا التي كانت جالسة على مقاعد الانتظار بجوار نجوان الملتزمة بجسلتها الهادئة، لتضيف سامية مباشرة نحوها:
– قصده يعني على شهامته، اصله بيقوم بالواجب وزيادة، بالذات مع بهجة……… مش بنت خاله بقى.
مطت شفتيها بالاخيرة قاصدة اشعال الغيرة بقلب هذه العاشقة، حتى تقلصت ملامحها بغضب، ولكنها التزمت الصمت تكتم داخلها، مع احتداد النقاش بينه وبين هذا الأخرق ابن خاله:
– احترم نفسك يا سمير، انت في مستشفى محترمة، الحركات العبيطة دي لا مكانها ولا وقتها، انت جاي ليه اصلا ؟
سمع منه الاخير، يصيح مهللا بصفاقة:
– لا اطردني احسن يا شادي، اصل انا قاعد في بيتك ، في مستشفى وليها وضعها، ما تتكلمي يا بنت عمي، ياللى عاجبك الوضع.
صدر ردها بقوة كي تلجمه:
– وضع في عينك، احترم نفسك يا سمير ، ولا لمها احسن وروح، وكتر الف خيرك يا سيدي.
– لا يا شيخة، دا انتي كمان عايزة تمنعيني من ابن عمي وزيارته، اخص عليكي يا بهجة ، دا احنا لو عدوينك مش هتعملي معانا كدة.
تدخلت سامية هي الأخرى بأسلوبها الملتوي:
– هدي اعصابك يا اخويا، شادي ابن خالي اكيد ميقصدش حاجة وحشة، ما هي برضو بنت خاله، وحقه يطمن عليها .
ضغطت بالاخيرة، ليهدر شقيقها بغضب وبدون تقدير :
– ايوة بقى قولي كدة، يعني واخد اخوها حجة، طب ما تقولها صراحة يا شادي.
عند الاخيرة لم يتمالك شادي قبضته، والتي ارتفعت بدون تفكير لتسقط بثقلها على جانب فكه الايمن، حتى كادت ان تطير صف اسنانه، يرافقها سبته:
– دي عشان تتعلم الادب.
شهقت الفتيات بهلع، لتصدح صرخة سمير الذي ارتمى على الارض كالخرقة، بإهانة لم يتقبلها، لتصدر صرخاته التي ضجت في قلب المشفى، وهو ينهض في محاولة للهجوم عليه ، وقد تلقفه شادي ليلف ذراعه خلف ظهره، يحاول السيطرة على هياجه، ويأمره بالتوقف امام صدمة الفتيات:
– اهدى بقى وبطل فضايح، الناس بتبص علينا.
وكأنه طلب العكس، زاد صراخ الاخر مع تجمع البشر من حوله حتى أتت صيحة قوية:
– ايه التهريج ده؟ ايه اللي بيحصل هنا.؟
ليطل بجسده الضخم، يوزع بنظراته القوية على المتشاجرين، ثم تتوقف عليها بتساؤل ، فيحاصرها بأعين تلونت بالإحمرار، وتتسمر هي محلها بحرج يكتسحها، ولسان يعجز عن ايجاد التعبير المناسب لما يحدث الاَن، اتخبره ان المشاجرة التي واقعة امامه الاَن بسببها !
❈-❈-❈
– اتنين، اتنين رجالة يا بهجة بيتخانقو عليكي.
هي نص ساعة بس اللي غيبتها ، امال لو اتأخرت شوية كمان ، كان هيحصل ايه؟
قابلت صيحته بغصة مؤلمة مررت حلقها، فجعلت كلماتها تخرج بنبرة يكسوها الحرج:
– مكانتش خناقة بالمعنى المعروف، هو بس الزفت ابن عمي اللي زودها وكان داخل بشراره وناره، مش ناوي على خير ، انما شادي ابن خالي فدا راجل محترم …..
– شادي مين يا بهجة؟ متحرقيش دمي ولا تجيبي سيرة أي زفت منهم.
للمرة الثانية تخرجه عن طوره الهاديء، كلما حاول التماسك والعودة لطبيعته، يحدث العكس مرة اخرى، لقد كان على وشك ارتكاب جريمة منذ دقائق بسببها.
اما عنها فقد كانت تتمنى ان تنشق الارض وتبتلعها من امامه، لذلك لم تجد بدا من الاسف والانسحاب:
– ع العموم يا فندم انا اسفة لو سببتلك أي حرج، انا مستعدة حتى مجيش هنا تاني غير بعد ما اخويا ينكتبله على خروج.
قالتها والتفت تتحرك ذاهبة من امامه، ولكنها لم تكد تكمل خطوتين، حتى مالت بسيرها فكادت ان تقع ، لولا ذراعيه التي تلقفتها، لترتطم بصدره وقد لاح عليها الضعف بقوة، ايه مالك يا بهجة؟ حاسة بحاجة تعباكي؟
رفرفرت بأهدابها لبرهة من الوقت، تتمالك ذاتها من الدوار الذي لفها منذ لحظات قليلة، لتعي على نفسها بحضنه وهذا القرب منه ، فقد كان وجهه لا يفصله عنها سوى انشات قليلة، يخاطبها بقلق واضح، ولكن الوضع لم يكن مريحًا بالمرة، لتستحضر على الفور ارادتها ، فتنتصب، ثم تدفعه عنها بخفة ، ولكنها، وما كادت ان تقف جيدا حتى سقطت مرة اخرى بين رحاب ذراعيه، ولكن هذه المرة فاقدة للوعي تماما، مما اضطره ان يدنو ثم يرفعها من اسفل ركبتيها، فيحملها اليه،
وجهها الملائكي بصورة تختلف تمامًا عما تدعيه من قوة ، عظامها اللينة برقة ألهبت مشاعر قد كبتها منذ زمن ، لتعود الاَن وبشدة، هو بالكاد حاول تخطي قبلة الحياة التي فعلها مجبرًا من أجل افاقتها من الغرق،
ماذا بها هذه الفتاة لتجعل هذا الخافق بين ضلوعه، ينتفض كعصفور بللته امطار الشتاء القارص، بمشاعر امتزجت بالقلق واشياء اخرى لا يعرف تفسيرًا لها.
زفر بنفض رأسه من كل ما يعتريها من افكار ، ليتحرك بها نحو افاقتها.
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي كانت تقلهم للعودة، وهو يقودها ينقل بنظراته كل لحظة نحوها، متابعًا صمتها المستمر منذ خروجهم من المشفى، وردودها المقتضبة، على عكس طبيعتها المشاكسة معه، ليخرج عن صمته فجأة موجها حديثه اليها بانفعال:
– لا بقى، كتر السكوت دا بقى يقلق، لتكوني صدقتي يا صبا كلام العيل الأهبل ده؟ انتي تعرفي عني الاخلاق دي؟
خرج ردها بحدة بعدما اجبرها على الألتفاف اليه:
– ما هو مش بكلام العيل الأهبل يا شادي، افعاله متدلش غير على حاجة واحدة، وهي ان عنده اسباب، حتى برغم تفاهته ورغم كل عمايله، لكن الحرقة اللي بيتكلم بيها ناحيتك مش هتيجي من فراغ…..
يعلم انها شديدة الذكاء، ومدامت قد وصلت به لهذه النقطة، هو ابدا لن يبخل عليها بالحقيقة، وليحدث ما يحدث:
– ماشي يا صبا، انا هجيبلك من الآخر عشان تبقي على بينة، وارجو تحترمي شجاعتي وما تحمليش الامور اكبر مما تحتمل.
يبدو ان القادم ليس جيدًا ولكنها لن ترضى الا بالمعرفة، لتوميء له بتوجس:
– اتفضل يا شادي اتكلم.
صمت قليلًا يستحضر الذكريات ، ليأتي بالاهم مباشرةً:
– سمير بيغل مني عشان انا اللي وقفتله في موضوع طلاقه من بهجة، هو مكانش عايز يطلق ولا يحلها من جوازه منها ، وهي بعد ما نزل من نظرها في موضوع ورث ابوها من الوكالة، كانت بتفضل الموت على انها ترتبط بيه؟ وانا مقدرتش اقف متكتف، ساعدتها بالمحامي اللي يخلص، وجمعت كبار المنطقة حكموا حكمهم بعدم جبر اليتيمة على شيء هي مش عايزاه، ومن يومها وهو مش شايلني من دماغه، حتى بعد ما خطبتك، برضو المتخلف اللي في دماغه في دماغه.
– حاولت تتقدملها عشان تتجوزها انت يا شادي؟
سؤالها المباشر اصابه بالتشتت، ليحيد ببصره عن الطريق والتف اليها بفاه منفرج، ونظرة فهمتها على الفور، ليصحح موضحًا لها:
– مش عشان اللي في دماغك والله يا صبا، انا كنت عايز اضلل عليهم هي واخواتها، واحميهم من جبروت خالي خميس ومراته وعياله، بس هي فاجأتني برفضها، والاعتماد على نفسها ، وسبحان الله بعد ما كانت ضعيفة وتاكل عشاها القطة، ربت لها ضوافر وقدرت بعزة نفسها تفرض شخصيتها على الكل، انا مقدرش امنع نفسي من احترامها، ولا اقدر امنع نفسي عن حبك، اقسم بالله انا ما دق قلبي ولا عرف العشق إلا ليكي يا صبا.
استطاع بصدقه ان يصل بها الى بر الامان الذي تتنعم فيه بعشقه، حتى ارتخت ملامحها في إشارة لبدء اقتناغها، لكن سرعان ما انقلبت فجأة بتذكرها:
– بس بصراحة هي طلعت حلوة جوي يا شادي، ازاي يعني عجلي ما يشتش ولا برج من نفوخي يطير.
ضحك يرفع كفها اليه ، ثم يقبل ظهرها تعبيرا عن حبه، مرددًا بغزل واقرار:
– وانتي والله قمر واحلي من القمر نفسه، دا اللي عجبني فيكي ثقتك بنفسك يا صبا، يعني مهما كان جمال بهجة، هيجي ايه جمب جمالك وانتي متربعة في قلب حبيبك، ربنا ما يحرمني منك يا قلب شادي انتي.
❈-❈-❈
استعادت وعيها اخيرًا لتفتح اجفانها للنور والحياة، فوقعت ابصارها اولا على السقف الابيض والانارة الخفيفة، ثم نزلت نحو المحلول المعلق بيدها، لتنتبه على دفء بكفها الاخر، وتفاجأ بنجوان تحاوطها بكفيها الاثنين ، مشهد بقدر ما اثار ذهولها، بقدر ما اثر ليلمس نياط قلبها، ونظرة الحنان التي تطل من عينيها، لتسخر متسائلة:
– ليكون دخلت الجنة من غير ما اعرف ولا انا بحلم ولا ايه بالظبط.
جاءها الصوت الرخيم من جهة النافذ الكبيرة والستائر البيضاء، معلقًا:
– عشان تعرفي بس خوفها عليكي، اهي ع الحال ده من ساعة ما انتي تعبتي، حتى والدكاترة بيسعفوكي برضو ماسابتش ايدك ابدا.
استدركت لحالها الاَن، وما اردف به، لتتسائل بقلق:
– هو ايه اللي حصل؟ انا اغمي عليا مش كدة؟ طب ليه المحاليل والحاجات دي؟
اقترب قائلا بمطة صغيرة من شفتيه :
– انتي فقدتى الوعي خالص يا بهجة، والدكتور فحص حالتك واقر انك ضعيفة ومحتاجة تغذية، دا غير طبعا الاجهاد والإرهاق، كلهم اتجمعوا عليكي.
– يعني حاجة عادية الحمد لله، دا انا افتكرت حاجة خطيرة، اقوم بقى اشوف اللي ورايا.
تمتمت بها بتقليل، ليتفاجأ بنزع ابرة المحلول من يدها، بصورة جعلته يتسائل بجذع:
– بتعملي ايه يا مجنونة انتي؟ مش تستنى الاول رأى الدكتور.
نقلت بنظرة سريعة نحو نجوان ، لتلف حول رأسها الحجاب قائلة:
– واستنى ليه تاني؟ مدام المحلول جاب فايدته والحمد لله ورفع عني شوية، اروح بقى اطمن على اخويا، قبل ما اروح، زمان اخواتي البنات رجعوا من دراستهم.
وقبل ان يصدر اعتراضه، وجد والدته تقوم باللازم، في التشبث بها، لتصدح ضحكته:
– انتي اللي بتجيبيه لنفسك، اهي مش هتسيبك حتى وانتي تعبانة، ارجعي لسريرك احسن يا بهجة، خليكي عاقلة.
وعلى عكس ما توقع من اعتراض منها لحالة الوهن بها، رحبت بسماحة تذهله:
– وماله خليها تيجي، ع الاقل يراعوها معايا شوية، مدام بتفرح بلقاهم، انا عمرى ما هقولها لا.
❈-❈-❈
انتهت جولة اخرى من المحاكمة المستمرة طوال اشهر في الشد والجذب من اجل تحديد مصيره، ليعلن القاضي تأجيلها كالسابق، ولكن هذه المرة هناك بارقة امل، بعد مرافعة المحامي الجديد، وقد اثبت انه داهية ويستحق رزمة النقود الكبيرة والتي تحصل عليها من والدته، بعدما شكك في شهادة الشقيقتان واتهمهم بتلفيق تهمة قتل ابيهم من اجل الاتتقام منه، فكرة شيطانية فاجأه بها، مع مجموعة من الحجج والقصص المؤلفة عن صحة خطف شهد من الأساس ، وانه مجرد خلاف عادي تطور لتشابك بالأيدي، ومنه اتجهت الفتيات لتلفيق التهم اليه.
– بشرة خير يا ابراهيم، شكل المحامي عقر وهيجيب البراءة المرة دي.
كان هذا صوت والدته، والتي هرولت اليه خارج قضبان القفص المحبوس به، عقب قول القضاة ليفتر فاهه بالابتسام بتردد:
– اما اشوف ياما ، هتكمل على كدة ولا هتتقلب من تاني.
أتت الإجابة من المحامي المحنك، يحدثه منتفش الريش بزهو:
– متقلقش يا ابراهيم، انا ياما عدى عليا قضايا من النوع ده وانيل مية مرة، تجار مخدرات وسلاح وقتل وجميع الجرايم، كلهم طلعوا بفضل مهارتي، واظن والدتك حكتلك عن سمعتي .
– حكتلي يا متر، بس انا برضو مليش غير النتايج، غير كدة متقوليش.
– ان شاء الله هتظهر النتايج قريب ، بس انت متفولش.
قالها الرجل ليسحب حقيبته ويذهب من جوارهم، فتعلق سميرة من خلفه:
– حار ونار في جتته، خد مني فلوس بالهبل، بس معلش اهم حاجة يطلعك براءة ، والنعمة لو ما نفذ بوعده، لاكون فضحاه ومجرساه في كل الدنيا.
– قلبك ابيض ياما.
تمتم بها بضحكات متقطعة، ليصدر السؤال منه بعدها:
– الا خالتي مجاتش ليه معاكي؟ ولا اي واحدة من مضاريب الدم بناتها:
عوجت شفتيها يمينا ويسارًا، مرددة بغيظ:
– يتفلقوا، عنهم ما جم خالص، بيجهزو لفرح الزفتة امنية، انهاردة حنتها بقى ، وبكرة تتزفت على النيلة الظابط خطيبها.
سمع منها وتحولت ملامحه من الابتسام الى التجهم بشده، انفاس حارقة كالدخان ، يخرج من أذنيه وفتحتي انفه، ليقبض على قضبان المحبس الحديدية بقوة ابيضت لها مفاصله، حتى انتفضت والدته بالزعر تخفف عنه:
– متزعلش نفسك انت يا حبيبي، بكرة تتجوز ست ستها، واللي احلى منها كمان.
ظل على وضعه، فصار صوت انفاسه الخشنة فقط مع هزهزة اسلاك القضبان بغضب وعنف وهي تهون عليه، حتى سحبه رجل الأمن من امامها، يدخل به داخل الممر المؤدي الى الردهة الداخلية، ويجمعه مع مجموعة السجناء من زملائه، قبل العودة بهم الى محبسهم الاساسي، فلم يخرج عن صمته سوى بعدما وقعت عينيه على غريمه، يخرج من إحدى الغرف بصحبة عدد من زملائه الضباط:
– يا عصام باشا، انت يا عصام باشا.
صوته العالي جعل الاخير يلتف اليه، مع انتباه الجميع له، ليهدر بالرد عليه غاضبًا:
– عايز ايه يا ابني انت، وبتنده عليا ليه بصوتك العالي؟ انت اتجننت.
جاء قوله بلهفة:
– لا يا باشا متجننتش، انا بس عايز اكلمك في موضوع ضروري، انا ابراهيم لو مش عارفني، ابن خالة خطيبتك، واللي كنت خطيبها قبلك.
برقت عيني الاخير على الفور بإجفال وغضب، وقد توقفت جميع الاصوات، والجميع مصوبا ابصاره نحوهما ، بعد هذا التصريح الغبي منه،
فاتجه نحوه يقبض على ياقتي قميصه معنفًا له، وقبل ان يتمكن من ضربه او سبه، اردف ابراهيم مصححًا:
– اسف يا باشا، والله ما قصدي حاجة، انا بس عايزك في كلمتين.
على صوته يزجره:
– وانت تكلمني بصفة ايه؟ ولا يكونش فاكر نفسك قريبي صح.
صدر رد ابراهيم بصوت يتخلله المسكنة:
– مش بأي صفة والله، هما بس كلمتين محشورين في زوري ونفسي اقولهم.
❈-❈-❈
بإحدى الصيدليات، وبعد أن تم الانتهاء من تضميد الجروح، بالمعقمات، وتناول المسكن لهذا الالم الرهيب بفكه، ليتمكن من توجيه شقيقته بحدة:
– انتي يا بت ، اياكي تبلغي حد باللي حصل النهاردة، لاشرب من دمك .
شهقة غاضبة صدرت منها لتعقب بتهكم:
– تشرب من دمي كمان، لهو انت مقدرتش ع الحمار هتتشطر ع البردعة.
هدر بها يحذرها بعنف:
– لمي نفسك يا سامية انا على اخري، مش ناقصك انتي كمان .
اشفقت تتراجع عن سخريتها بعد شعورها بنبرة الحزن التي تغلف صوته، لتلطف قائلة:
– انا مش قصدي اشمت فيك ولا اتريق ، انا بس اضايقت من كلامك الناشف وتهديدك ليا.
– عشان عارف بقك اللي ميتبلش فيه فوله يا سامبة، وانا بقى على اخري ومش قابل نص كلمة من حد .
اومأت بتفهم ، فهي الاعلم برد فعل والدتها لو علمت ولا غضب اسراء او شماتة سامر، ثم سخرية والدها ومعايرته.
– خلاص يا سمير انا مش هتكلم وان حد سألتي عن اللي في وشك، هقول دي خناقة في الشارع.
– جدعة .
تمتم بها ليغمغم بحسرة من داخله:
– مهما عدت السنين ولا شوفت في حياتي نسوان، ما في واحدة هتحل مكانك يا بهجة، وبرضوا مش هسيبك.
❈-❈-❈
خرج من وكالته، يرفع عيناه للأعلى نحو شرفة منزل شقيقه، يمني نفسه برؤية القمر كما حدث منذ ايام، وقد توقف عقله عند هذه اللحظة حينما رأى المرأة الجميلة، ذات الشعر الاصفر كسلاسل الذهب والبشرة البيضاء البهية، بصحبة ابنة شقيقه، تتطلع في الحارة وابتسامة تذهب بالعقل مرتسمة على ملامحها الفاتنة.
لقد رأى شبيهات لها على التلفاز وفي مسلسلات الدراما التركية كما وصفها ابنه، لكن على الحقيقة ، لم يصادف ابدا كهذه الفتنة المتحركة، يجزم بأن الاعجاب متبادل، فقد التقت عيناها بخاصتيه وتبسمت باتساع، لقد طار عقله وقتها حتى كاد ان يتخلى عن رزانته، ويصعد اليها بشقة شقيقه الراحل، ولكن منعه الحرج من بهجة واشقائها، فقد انقطعت الصلة بينهم منذ وقت طويل، بعد مشاكل الميراث، من أين يجد الحجة اذن ليفعل؟
ليتعلق قلبه بالأمل في عودتها، لربما وجد الفرصة وقتها في لقاءها وحدها بعيدا عن الحوش من أبناءه وابناء شقيقه ، والملعونة درية .
– ااااه
تأوه داخله بلوعة، يتمنى ان يبتسم الحظ له ،ويعوض ما فاته بالزواج من امرأة مثلها، تضيء بالظلام، ليست كدرية التي لا يقدر عليها سوى الله.
فهو رجل مقتدر، يملك اموالا لا حصر لها ، جزء في التجارة على العلن، واضعاف في الخفاء، لا يعلم عددها الا هو ، وان كان ينقصه بعض النحافة بذلك البطن الممتد امامه ( كرش) رغم رشاقة معظم الجسد، ثم زرع كمية من الشعر بوسط الرأس التي تلمع من نعومتها بتلك الصلعة الكبيرة بوسطها، اما عن الطول فمنذ متى كان فارقًا له.
لابد من الاهتمام بنفسه، ويدللها بعد الشقاء، فما فائدة ما حصده طوال هذه السنوات ، ان يتركه من خلفه، كي يرثه أبناءه الحمقى وزوجته المتسلطة .
شهقة صدحت بداخله، فور ان تفاجأ بدخول السيارة المذكورة تلج الى المنطقة وكأنها لبت نداء قلبه الضعيف،
ابنة شقيقه الراحل، جالسة في الخلف، بجوار تلك الحورية، ما أجملها من امرأة.
– اااه.
خرجت هذه المرة بتنهيدة مسهدة، لتتحرك قدميه ويتبعهم ، حتى اذا توقفت السيارة امام البناية خاصتهم، اقترب يستقبلهما:
– يا أهلا بالضيوف اللي معاكي يا بنت اخويا
قطبت الاخيرة بدهشة وهي تترجل من السيارة، وتسحب خلفها نجوان التي توقفت هي الأخرى بإجفال، تطالع الرجل المتوسط الطول، بجسده الصغير، ذلك الذي يميزه البطن الكبير، عكس باقي أعضاء الجسد، وكأنه ياكل ويخزن داخل احشاءه فقط ، ثم هذه الابتسامة المتوسعة، والشارب الرفيع بشدة ، يحدق بها بصورة فجة جعلتها تعود برأسها للخلف بجزع منه، لتتصدر بهجة امامها، قائلة:
– نعم يا عمي في حاجة؟
صار يشب برأسه موجها الحديث نحو الأخرى:
– حاجة ايه بس يا بنتي؟ انا بتكلم على ضيوفك، الناس الالافرنكة دي، مش واجب برضو نتعرف بيهم وياخدو الواجب، انا عمها يا هانم.
في الاخيرة امتدت كفه نحوها يريد المصافحة، ليزداد رعب الأخرى، بظن منها انه سوف يؤذيها، لتهب بهجة بنجدتها ، بأن ابتعدت بها عنه قائلة:
– معلش يا عمي، بس الهانم مبتقبلش تسلم ولا حتى تتعرف بحد غريب، عن اذنك.
قالتها وتحركت بها سريعًا تتخطاه، ليقف هو متطلعًا باثرهما، وبكفه التي مازالت ممتدة ليعلق بصدمة:
– الله، طب وهو السلام في ايه يعني؟ هو انا جربة مثلا؟
❈-❈-❈
كان منغمسًا بشروده ، يهزهز بمقعده للخلف كالأرجوحة، معطيا ظهره بعكس الجلسة خلف مكتبه.
حتى لم ينتبه على دخول رئيسه اليه، ولا حينما توقف خلفه، ليجفله فجأة بالصوت المزعج للملفات التي القى بها على سطح المكتب دفعة واحدة:
– ايه يا غالي، قاعد سرحان وسايب شغلك متكوم فوق بعضه، ما تعمل بقى بلقمتك في الكام الساعة دي، قبل ما تاخد الاجازة وتغرق في العسل .
ابتسامة ضعيفة صدرت منه كاستجابة لمزحته، ليرد بمرح مصطنع:
– معلش بقى لازم تعذرني، اي حد في مكاني هيبقى مش بعقله.
انتبه امين على تغيره ، وهذه النبرة لم تريحه، ليميل نحوه قاطبًا بقلق:
– ايه مالك يا عصام؟ انت في حاجة مضايقاك؟
زاد بتصنع الابتسام وادعاء عدم الفهم:
– بتقول كدة ليه بس يا باشا، هو انا حد قدي النهاردة مثلا عشان اضايق.
زم شفتيه الاخر، مضيقًا عينيه بريبة يعقب:
– مش عارف، حاسس حاجة فيك متغيرة، مش مطمني شكلك كدة، اصل انت بالذات مفضوح قدامي، وانا عارف كنت هتموت ع الجواز ازاي والفرح.
– طب وايه اللي حصل يعني؟ ما انا لسة برضو هموت ع الجواز والفرح.
يرافق كلماته الاخيرة ضحكة مكشوفة اكدت لأمين صدق ظنه، ليخاطبه بنصح:
– ماشي يا عصام انا مش هضيق عليك، بس عايزك تعرف كويس اوي، ان انا تحت امرك في اي وقت، سواء في الفرح او في الشدة ، انت اخويا الصغير ياض، وفرحتي بيك ولا فرحتي بابني اللي لسة مشوفتوش.
جذبه في الاَخيرة اليه ، ليعانقه عناقًا رجولي، يربت بكفيه على ظهره، متمتمًا بالتهنئة:
– ربنا يتمم فرحتك على خير يا حبيبي.
تقبل عناقه بامتنان حقيقي معبرا عنه:
– والله وانت كمان يا امين باشا، ربنا العالم باللي شايله في قلبي ناحيتك، انت اخويا الكبير فعلا حتى لو مش بالدم .
عاد يربت على ظهره، ثم بدأ يمازحه بجرأة كعادته وهو يحاول ان يجاريه، حتى اذا تركه وخرج.
سقط بثقله على كرسيه بإرهاق، عائدًا لجموده، وهذه الكلمات التي تدوي برأسه من وقت لقاءه بهذا الفاسد ابراهيم.
في وقت سابق،
وبعد أن استجاب لمطلبه، ليدخل به احدى غرف الامن ، وينفرد باللقاء معه:
(( – اتفضل يا زفت، قول عايزني في ايه؟ خلصني.
تمتم بكلماته ليجلس واضغًا قدما فوق الاخرى، بصورة ازعجت ابراهيم الواقف امامه، والاصفاد بيده، ليزيد الحقد بقلبه، على من لفظته كخرقة بالية، والاَن تكافأ بهذا المتعجرف، الذي يبدو امامه كالوضيع :
لتبزغ ابتسامة قميئة على محياه قائلًا:
– وليه العصبية دي بس يا باشا؟ دا احنا حتى في صفة مشتركة بتربط ما بينا…… امنية.
انتفض عصام بجلسته بعد سماع اسمها ليعتدل هادرًا به:
– احترم نفسك يا زفت انت، واياك تنطق اسمها تاني على لسانك، واوعى تفتكر ان اللي عملته برا هعديهولك ، انا بس مسكت نفسي عشان اجيب اخرك، اخلص قول انت عايز ايه؟
ردد بفحيح الافاعي وابتسامة الحرباء :
– خلاص يا باشا، بلاش اقول اسمها…….. بس اشيل الذكريات الحلوة بقى من دماغي ازاي بقى؟ طعم الشفايف اللي تعبت من كتر ااا…….
توقف ينتشي برد فعل الاخر، والذي فاجأته الصدمة لتبرق عينيه بذهول فتابع يضع كفه على موضع القلب يردف بوقاحة ودناءة:
– ولا الشامة اللي هنا في الحتة دي، اكيد انت عرفتها ولا يمكن لسة موصلتلهاش، دي حتى جامدة اوي، ساعة ما تمسك فيها ، تبقى ولا العيل الصغير بتشبط ومش عايز تسيبها……..
قطع في الاخيرة، وقد انقض عليه كالأسد الجريح يكيل له بالضربات في كل ما تقع عليه يده:
– يا حيوان يا سافل يا منحط، انا هخلص عليك النهاردة.
ورغم قوة الضربات لم يكتفي ابراهيم، فظل يواصل رغم الالم المبرح:
– يا باشا بقولك ذكريات، انت زعلان ليه بس؟ اه ..
…… بكرة تعرف كلامي من نفسك….. ولا اقولك اسألها وهي تجاوبك عن مغامرات المخزن…. بس بصراحة….. اااه،….. كنا بنعمل كل حاجة الا الاخيرة اللي انت عارفها دي….. عشان البقف اللي هيشيل بعدي…..
ختم بضحكاته الماجنة ترافق صرخاته التي دوت بقوة للخارج، حتى ارغمت رجال الامن لاقتحام الغرفة عليهم، ثم سحبه من بين يديه، مستندا على الاكتاف لا يستطيع الوفوف على قدميه، بعدما ابعدوه عنه بصعوبة وقد كان على وشك قتله،
يلهث كدب مفترس، بعد ان قيده الرجال بصعوبة، للخروج بالاخر، يتجاهل الرد على التساؤلات والتفسيرات التي توجه له منهم ، عيناه لا تفارق هذا الفاسق، والذي لم يكف عن الابتسام له، بوجهه الذي اصبح خريطة تزينها البقع الزرقاء والحمراء والتورمات المنتشرة بها.
يصارع بكل قوته للإفلات منهم والفتك به، والرجال لا يكفون:
– بس لو تفهمنا يا باشا الواد ده عمل ايه واحنا نأدبهولك. ))
عاد من شروده بعروق منتفضة، وقبضة ابيضت مفاصلها، تناديه للعودة للاكتفاء بقتله، ولكن ان نفذ وفعل، اين موضعها هي من الاعراب،
هي من سلمت وتساهلت معه، هي من جعلت وضيع كهذا يحتفظ في سجل رأسه بذكريات سافرة عنها وعن جسدها…
كز على اسنانه يخرج زفيرا كغليل الحمم، يعدد الفرق الشاسع بخطبتها به، حتى وبرغم عقد القران، ابدا لم يحاول ان يفعل مثل باقي الرجال وينال منها ولو قبلة صغيرة، كل ملامساته لم تتعدى مسك الايدي، وبعض الكلام الجريء في الاونة الاخيرة انما بحرص، وذلك لتهيء نفسها للقادم في عالمهم الجديد الذي يجمعهما.
لماذا يحدث هكذا معه؟ وهو الملتزم دوما، والذي لم يفعل ابدا مثل باقي الشباب الذين يتلاعبون بعقول الفتيات؟
دوي صوت الهاتف من جواره على سطح المكتب ، يتطلع لهذا اللقب الجديد الذي سجل به رقمها (( زوجتي ❤))
ليزفر انفاسًا مهتاجة، متجاهلا الرد عليها، ليعود لأفكاره القاتمة. يدمي شفته السفلى بالعض عليها من الغيظ.
❈-❈-❈
كانت مضجعة على اريكتها ، تتابع الحديث الشيق بين شقيقتها ونجوان التي كانت تضحك بملء فمها، على اقل مزحة تردف بها الصغيرة والتي لا تكف عن سرد ما يحدث معها في المدرسة ومغامراتها في صد الفتيات طويلات اللسان معها ، وكيف تفحمهم بردودها الحادة، لتفرض شخصيتها القوية عليهم .
– سبحان من بيجمع القلوب صحيح.
عقبت بها بهجة ، يسعدها هذا الاندماج بين الغريبتين، وقد توافقت شخصياتهم رغم كل الفروق الشاسعة بينهم .
ليصدح هاتفها بنمرته، فردت برسميه كعادتها معه
– الوو….. افندم يا رياض باشا .
وصلها الرد بنبرته الرخيمة الهادئة:
– الوو يا بهجة عاملة ايه؟
ابتلعت ريقها ترد بكلمات منتقاة؛
– الحمد لله كويسة حضرتك، لو بتتصل عشان الست الوالدة، فهي مبسوطة دلوقتي مع عائشة شوية كدة و…
قاطعها بقوله:
– انا مطمن عليها وهي معاكي يا بهجة.
صمتت لا تجد من الكلمات بما يسعفها بالرد عليه، ليردف هو :
– اتا كنت بسأل على صحتك، لسة برضو حاسة بالضعف ولا دايخة ؟
اومأت بارتباك تهز رأسها وكأنه واقف امامها، لتجيبه برقة لم تتصنعها:
– ما انا قولتلك كويسة يا فندم ، انا احسن بكتير دلوقتي، دا غير ان اختي جنات قايمة بالواجب من ساعة ما رجعت من الكلية وعرفت، عصاير بقى واكل بتعمله بنفسها.
– كويس اوي يا بهجة… خلي بالك من نفسك.
كانت تلك كلماته الاخيرة قبل ان ينهي معها المكالمة يتركها بحالة من التشتت والارتباك تلفها، وتفسيرات تدحضها بعقلها برفض تام لها.
حتى شعرت بالدوار بالفعل، لتتمتم بحديث نفسها:
– انا مالي دوخت بجد ليه بقى؟ ما كنت قايلاله اني خفيت من شوية!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
بخطوات مسرعة رغم حرصها المعتاد، عبرت المساحة الفاصلة بين غرفتها والغرفة الأخرى ، لتطرق على بابها متجاهلة الحرج، او الخجل في ازعاج البشر وايقاظهم في هذا الوقت المبكر.
حتى اذا فتح باب الغرفة قوبلت بالسخرية والاندهاش على الفور :
– يا نهار ابيض، معقول ! انتي جاية من اوضتك لحد هنا برجليكي ومن غير توصيلة كمان؟ هو فين حسن؟ ازاي يسمح بالتسيب ده.
وقبل ان يفتر فاهها بالرد ظهرت من خلفه زوجته هي الأخرى تتضامن معه عليها ضاحكة:
– اه صحيح دي شهد، وعلى باب اوضتنا صح يا امين، اكيد حسن نايم وهي بتغفله كعادتها.
صاحت تسكتهم هما الاثنان بنزقها:
– دا مش وقت هزار الله يخليكم، انا جاياك في سؤال يا امين، ارجوك تجاوب عليه لو تعرف.
لفتت بجديتها انتباههم، ليتخلى امين عن عبثه سائلا لها بتوجس:
– ايه الحكاية يا شهد قلقتيني؟ تعالى ادخلي الاول مش هتفضلي واقفة ع الباب.
في الاخيرة هم ان يجذبها من قماش عبائتها للداخل ولكنها تشبثت بالأرض معبرة عن رفضها:
– دا مش وقت كلام ولا راحة، انا عايزاك بس تشوف صاحبك دا اللي غايب عن عروسته من امبارح، وعماله تتصل بيه ما بيرودش، هي بس رسالة يتيمة، رد بها على اخر العشية وقال انه مشغول جدا، بعدها قفل تليفونه وكأنه فص ملح وداب، لدرجة اهله نفسهم واخته اللي حضرت الحنة معانا امبارح كمان قلقت وبقت مش عارفة تبرر تصرف اخوها.
– اختفى! وليلة حنة العروسة كمان! ازاي يعني؟
تمتم بها عاقد الحاجبين بشدة، ليدلف على الفور داخل غرفته، متوجهًا نحو الهاتف:
– انا هشوف الواد دا راح فين يا شهد متقلقيش، اتصلي على أختك وطمنيها، عصام من اول ما اتعرفت عليه وهو راجل، يعني لو في أي حاجة هيتكلم على طول، مش هيقل بنفسه ولا يستندل في شيء مهم زي ده.
تبعته زوجته الى الداخل وقد اصابها القلق هي الأخرى، وتوقفت شهد تلتقط انفاسها بتوتر يعصف بها، تتابع اتصاله في محاولات باءت بالفشل لعدم استجابة الاخر بالرد عليه، لينتقل شعور القلق داخله هو الاخر، فجاء رده الحاسم:
– انا نازل دلوقتي، ولو في سابع ارض هعرف اجيبه.
ردت باستجداء تخاطب نخوته:
– ياريت يا امين، دا البت ما قادرة تنام من امبارح، هتموت من القلق والخوف، دا عمره ما عملها ولا ردش على مكالمتها الا لو في الشديد القوي، اللي يمنعه.
اومأ يوافقها الرأي، فهو الاعلم بلهفة الاخر في الارتباط والزواج من شقيقتها، وعقله الاَن على وشك التوقف بحيرة اصابته، عن ماهية هذا التحول العجيب، في ظرف هام كهذا.
– شهد واقفة مكانك بتعملي ايه؟
كانت هذه صيحة زوجها، بنبرة الجزع التي تعلمها، لتدافع مبررة على الفور :
انا كنت جاية في طلب مهم يا حسن وماشية اهو .
قالتها وكادت ان تميل بسيرها، لولا ذراعيه التي لحقت عليها كي تسندها، فغمغم بتوبيخ:
– وتجيلو انتي بنفسك ليه؟ ما كنتي كلميني انا وانا اجره من قفاه لحد عندك، عايزة تتعبيني في اللف وراكي وبس يا شهد.
تجاهل امين الرد على مزحته، وتركه في الأخذ والرد مع زوجته، طوال طريق وصولهم لغرفتهم، اما هو فقد اغلق الباب سريعًا ليخلع عنه التيشرت البيتي الذي يرتديه، باحثًا عن شيء يصلح للخروج في خزانة الملابس بعجالة اجبرت زوجته للتساؤل:
– طب انت هتخرج كدة من غير ما تحدد وجهتك، مدام بتقولك ان اهله مش عارفين مكانه، يبقى كدة هتروح على فين تسأل عليه بقى؟
التف نحوها باستدراك متذكرًا تغيره بالأمس، ليلتف عائدًا لهاتفه على الفور، يتصل بأحد ما :
– الوو يا صبري انا الظابط امين………… يا أهلا وسهلا بيك يا حبيبي، معلش انا كنت بتصل في استفسار سريع كدة…… تسلم يا حبيبي الله يخليك؟ شوف يا سيدي انا عارف طبعا ان انت كنت مرافق عصام في مشوار المحكمة امبارح ونقل المساجين و………. بتقول ايه؟……..
اعتدلت لينا من جسلتها تتابع رد فعل زوجها في تقلص ملامحه وهو يستمع الى الطرف الأخر عبر الهاتف، وسرده عما حدث دون انتظار السؤال:
– ازاي يعني اتخانق في المحكمة؟ ومع مين؟…….. السجين ابراهيم بتاع قضية الخطف والقتل القديم…….
تمتم الاخيرة بملامح انقبضت تعابيرها بشدة، وهذه المفاجأة بذكر اسم هذا البغيض، تشعل برأسه ملايين التساؤلات، عما قام بفعله، ليحدث هذا التغير بشخص هاديء كعصام.
❈-❈-❈
خرج من غرفة مكتبه ، بعد فترة طويلة من مراقبتهم من خلف الحائط الزجاجي، وحالة السكون تلك التي تميز بها والدته هذه الايام، رغم قلقه في بعض الاحيان ، فهي ليست مضمونة على الإطلاق، ولكنه لا ينكر ارتياحه باندماجها مع هذه الجميلة، كزهور الحديقة من حولها، تشيع بهجة بالمكان رغم حزنها، مشرقة مثلهم، وصافية بصفاء السماء فوقها، وخضار العيون الساحرة يمتزج مع لون الخضرة بجوارها، بامتزاج يثير الدهشة.
– صباح الخير.
القى التحية بصوته الرخيم مفاجئًا لهم، ف انتفضت والدته برد فعل اعتاد عليه، ولكن اثار غيظه:
– في ايه بقى يا ماما، مش عفريت انا واقف قصادك يعني عشان تتخضي كل مرة كدة .
لطفت بهجة على الفور بعد ترديدها التحية وكأنها تولت مهمة الدفاع عنها:
– معلش يا رياض باشا، بس هي كدة مع الكل، شكل نجمها خفيف زي ما بنقول عندنا في الحارات الشعبية.
حدق بيدها التي كانت تضعها على ذراع والدته كدعم لها، وكأنها تبثها الاطمئنان بلفتة بسيطة جعلته يعلق بابتسامة:
– ماشي يا بهجة نديها عذرها، طب ممكن تسمحولي اشاركم الجلسة على الترابيزة ولا اشرب من العصير اللي بتشربوه؟
– يا نهار ابيض يا فندم، اتفضل حضرتك.
تفوهت تنهض عن مقعدها بفعل اثار استيائه:
– انا بقول اشاركم يا بهجة، مش تقومي واقعد مكانك.
اكتنفها الحرج لتعود لجلستها تتمتم بالاسف بكلمات غير مترابطة من فرط ارتباكها، وجلس هو مقابلا لها، بقرب اثار الخجل بها، رغم المسافة الفاصلة بينهم بالطاولة، لديه هالة وهيبة تثير بقلبها الرهبة فتفقدها التوازن، على الاقل داخلها :
– ما قولتليش بقى، عن سر تعلق ماما بعائشة الصغيرة.
على اثر سماع الاسم انتفضت نجوان بانتباه، جعله يعلق بمرح:
– يااه للدرجادي عائشة معلقة معاكي؟
تبسمت تجيبه بسجيتها:
– يمكن عشان بترغي معاها، اصل انا اختي ما تتوصاش ابدا في الحتة دي، تجيب الشرق ع الغرب وما بتملش، انا وجنات وايهاب بنتعب منها ونسيبها، أما بقى نجوان هانم بحسها تنبسط من رغيها مش عارفة ازاي؟
ختمت باتساع ابتسامتها التي زادتها جمالا ليحدق بها برهة من الوقت جعلتها تعود لخجلها ، حتى استدرك هو ليتحمحم من حالته تلك ، ليقول بجدية:
– على فكرة انا كلمت دادة نبوية من شوية طمنتني المرة دي عليها وبشرتني انها هتعود قريب لمزاولة شغلها .
– بجد ، يعني انا هرجع لشغل المصنع من تاني؟
قالتها بلهفة بقدر ما ادهشته، بقدر ما اثارت استياءه من الداخل ليشاكسها بلؤم:
– زهقناكي وتعبناكي اوي معانا يا بهجة صح؟
افتر فاهها واغلقته عدة مرات وقد غمرها الحرج كطفلة صغيرة تعجز عن الرد للحظات حتى تمكنت بتلعثم:
– لا والله يا فندم….. ااا مش حكاية اني زهقت ولا تعبت، انا بس اشتقت لشغلي ولصحبة البنات الغلابة اللي زيي والريسة صباح.
لطف يخفف عنها رغم استمتاعه بهذا الوهج الذي طغى على بشرتها الشفافه حتى اصبحت كتلة ملتهبة امامه، ثم برائتها التي تكاد ان تطيح بعقله.
– انا فاهم يا بهجة مفيش داعي تبرري، مهمها كان المميزات هنا لكن انتي برضو محتاجة تخففي عنك المسؤولية.
قال الاخيرة بنظرة جانبية نحو والدته التي تتابع وكأنها تفهم ما يدور بعقله، رغم ان الظاهر غير ذلك .
تحمحم يستفيق من حالته، لينهض فجأة عن الجلسة الممتعة متذكرًا ما ينتظره من اعمال:
– انا هقوم اشوف الشغل اللي ورايا، رغم ان القعدة هنا ما يتشبعش منها، محتاجة حاجة يا بهجة قبل ما اخرج؟
– انا يا فندم؟ لا طبعآ.
نفت بها وعلى الفور حتى تسبب في ضحكة عابثة على شفتيه ليعود موضحًا:
– انا بسأل يعني عن الست الوالدة يا بهجة ، ولا دي كمان مش محتاجة؟
تبسمت باضطراب لتتذكر ما ينقصها من دواء:
– اه صحيح حضرتك انا كنت عايزة اقولك عن العلاج المستورد ، هو قرب يخلص والاحسن يعني نجيب غيره قبل ما ينقص مننا، بس انا دلوقتي مش فاكرة اسمه، اصله تقيل اوي، اروح بسرعة اجيبهولك.
اشار لها بالجلوس:
– مفيش داعي، خليكي مكانك، لما تدخلي جوا ابعتي الاسم، او صوريه في رسالة.
– ابعتلك رسالة فين يا فندم؟
اجاب عن سؤالها بابتسامة مستترة:
– عم طريق الواتس يا بهجة، ولا عايزة تقولي ان معندكيش واتس؟
ردت بعفويتها المعتادة:
– لا طبعا عندي يا فندم.
ابتسامة مشاغبة سيطر عليها بصعوبة قائلاً قبل ان يغادر:
– كويس اوي، متنسيش بقى.
حينما غادر ظلت لبرهة من الوقت تتطلع في ظهره، حتى اذا انتهت تنفض رأسها من العبث الذي اصبح ينخر بها، عادت لنجوان ، وجدتها تحدق بها بنظرات لم تفهمها على الإطلاق، ولا تجد لها تفسيرا.
❈-❈-❈
بفاه منفرج، ظلت لمدة من الوقت تستوعب ما قد وصلها من اخبار عبر الهاتف، من إحدى الطبيبات التي تعمل بالمشفى التخصصي المشهور، وتملك العائلة جزء كبير من اسهمها،
عن زيارات رياض الشبه اليومية لها منذ قرابة الاسبوع، ورعاية شاملة لهذا الفتى شقيق الملعونة التي اصبحت كطيف شبح لها هذه الايام يطاردها في الصحو والمنام،
لا تصدق تلك المبالغ الكبيرة في علاج هذا الفتى ، سوف يتم اختصامها من نصيبه السنوي.
كيف يفعل شيء كهذا لمجرد عاملة بمنزله، تعلم عنه الكرم خصوصا مع العاملين على خدمة والدته، كمثال نبوية التي تحظى بكل الاهتمام لاجل مكانتها عبر السنين.
انما هذه ، اي مكانة قد صنعتها في هذا الوقت القصير، يبدو أنها قد استهونت بأمر هذه الفتاة:
– يا ترى قدمتي ايه تخليه، يتكفل بالمبلغ الضخم دا عنك، يا بهجة الزفت.
كان هذا هو السؤال الذي دوى داخلها، حتى تفوه بها لسانها :
– مبقاش انا لورا ان ما لقيتلك صرفة.
❈-❈-❈
وصل الى منزل عائلته، ليضغط على الجرس بحرج، لا يعلم من اين سيدخل اليهم بتساؤله؟ بعدما سأل معظم الاصدقاء والمعارف التي يعرفها، في السؤال عنه، وعما ان كان قد قضى السهرة معهم، وحين مل من عدم الوصول إلى نتيجة، قادته قدماه الى هنا، ربما وجد ما يدله عليه منهم.
فتحت شقيقته لتتلقاه بابتسامتها العذبة؛
– اهلا حضرة الظابط امين، مشرفنا ومنورنا.
لحق يبرر عن سبب مجيئه في الوقت الباكر من اليوم:
– صباح الخير ، معلش لو جيت في وقت غير مناسب، بس انا كنت جاي اسأل على عصام.
– الله، وهو حضرتك غريب يعني؟ دا انت تيجي في اي وقت، ع العموم هو نايم في اوضته حاليًا، اتفضل ادخل وصحيه الكسلان ده، يشوف اللي وراه، دا اليوم طويل اوي النهاردة.
قالتها تنزاح بجسدها من امامه، ليعبر خلفها الى داخل المنزل، تغمره الدهشة، فإن كان الامر طبيعيا الى هذا الحد، فما سبب الغياب عن عروسه وعدم السؤال.
بعد لحظات قليلة،
كان عنده بداخل الغرفة، يتطلع الى نومه الهاديء بسكينة، مناقضة تماما لحالة القلق البالغ والتوتر التي اصابت اهل العروس.
– انت يا باشا، انت يا زفت انت ياللي نايم وسايب الدنيا تتطربق برا.
استيقظ عصام يفتح اجفانه للضوء، فيقابل وجه رئيسه فوق رأسه متابعًا بإصرار:
– اصحى ياض انت واتعدل، خليني اتكلم معاك انا مش فاضيلك .
قطب عصام يستجيب له، ليعتدل بجسده متمتمًا، بابتسامة متكاسلة:
– سيادة الباشا امين بذات نفسه، في اوضة نومي وبيصحيني كمان، دا ايه النهار النادي ده؟
عبس موبخًا له:
– يا برودك يا اخي، مأنتخ وصاحي ناموسيتك كحلي ، والبت واهلها مفكرين انك هربت وطفشت يوم فرحكم.
قطب يدعي عدم الفهم :
– بنت مين؟ قصدك امنية؟ وايه اللي هيخليني اطفش واسيب فرحي عليها المجنونة دي؟ هو انا غاوي مصاريف تترمي ع الارض ولا ناس تشنع علينا بكلام مش لطيف.
انفعل امين مرددًا بغيظ:
– ولما هو كدة يا ظريف، طفشان من امبارح ليه ، واختك يسألوها تقول معرفش مكانه، انتو متفقين مع بعض توقعوا قلب البت واهلها.
– لا لا لا حرام عليك متظلمش عبير اختي، هي فعلا قالت الحقيقة، لان انا بالفعل كنت غايب عن البيت ومرجعتش الا وش الفجر، يعني اكيد ملحقتش تطمنهم، ع العموم احنا لسة فيها ، اطمنهم انا بنفسي.
قالها ثم توقف يتناول هاتفه من فوق الكمود المجاور له ، ليهاتف الأخرى امامه:
– الوو يا امنية صباح الفل يا قلبي…….. يا بنتي وليه القلق بس وتكبري الموضوع؟ انا قايلك من امبارح اني مشغول…
التقت عينيه بخاصتي رفيقه، والذي كان يرمقه مضيقًا عينيه بريبة وهو يواصل التبرير مع خطيبته:
– لا يا قلبي متقلقيش، النهاردة ليلة عمرنا، روحي ارتاحي واشبعي نوم قبل ما تدخلي في دوشة التجهيزات والعك اللي مستنيكي في اللبس والمكياج……. انا هقفل معاكي كمان عشان انتبه للي ورايا، دا حتى امين باشا مشرف منزلي المتواضع….. يلا سلام بقى.
انهى المكالمة، ليلتف اليه بتنهيدة مقللاً:
– اهو يا باشا زي ما شوفت بنفسك، الوضع عادي جدا، ومفيش اي حاجة وحشة لا سمح الله.
– يا شيخ.
تمتم بها امين، بشك اصبح يرواده بقوة، ليتناول المقعد الوحيد يقربه من التخت، ثم جلس مقابلا له، يبدأ حديثه الجاد:
– عصام، انا عرفت بخناقتك امبارح في المحكمة، لما ضربت الزفت اللي اسمه ابراهيم وكان هيموت في ايدك ، لولا رجالتنا اللي حاشوه عنك، دي مش طبيعتك ولا شخصيتك ابدا، كون انك تضربه بالشكل ده، وانت عارف بالصلة اللي كانت بتجمعه بخطيبتك، وبعدها تغطس وتختفى عن فرحك، دا ملهوش غير معنى واحد عندي، هو ان الولد ده قالك او استفزك بشيء انت مقدرتش تتحمله، واكيد الكلام…. كان عنها.
كان صريحًا في مواجهته ، غير آبهًا بشيء سوى ان يفتح قلبه اليه، ولكن الاخر لم يكن بطاقة لتحمل حتى ذكر اسمها في موضوع خاص كهذا، تأبى رجولته ان يناقشه مع احد ما ، مهما كانت صفة قربه له.
فجاء الرد وكأنه كان مستعدا له:
– اي كلام ده اللي هيقدر يهلفط بيه الولد ده؟ وانا اصلا هسمحله يجيب سيرتها على لسانه من الأساس، كبر دماغك يا باشا، هو اخره كان محروق مني عشان خطيبته سابته وهتتجوزني انا بداله، زود في الهرتلة، انا مستحملتش، قومت مديله الطريحة ، عشان يحترم الفرق اللي ما بينه وما بينى ، وميكررهاش.
اما عن امين ، فلم يكن غبيا على الاطلاق، ليبتلع القصة رغم حبكتها، ولكنه فضل السكوت ومجاراته ليقينه الاكيد باستحالة افصاح الاخير عن الحقيقة، ولكن لا بأس .
لينهض زافرا بقنوط:
– ماشي يا سيدي براحتك، ع العموم انا في اي وقت تحت امرك وقت ما تحب تتكلم، قلبي مفتوحلك، وبرضو مش هسألك اختفيت فين الوقت دا كله؟ دلوقتي بقى خلينا في ليلة النهاردة، فاضلك اي حاجة لسة مخلصتهاش؟
نهض عن تخته بحيوية، ليسترسل عن اخبار القاعة والمدعوين، وما تم تجهزيه وتحضيره لهذه الليلة.
❈-❈-❈
وفي هذه الاثناء،
هرولت هي من غرفتها، نحو الجالسين بوسط الصالة بحالة من البؤس تكتنفهم نتيجة ما يحدث:
– اتصل يا ماما اتصل، اتصل يا رؤى، حتى عبير اخته كمان اتصلت وراه على طول تتأسفلي عشان لما رجع متأخر راحت نامت وملحقتش تتصل وتطمني عليه.
تهلل وجه رؤى على عكس والدتها التي استنكرت بضيق :
– ومالك يا اختي فرحانة اوي كدة ليه؟ بقى بعد ما اتغمينا ليلة بحالها بسبب تناحة المحروس وتناحة اهله، لسة ليكي نفس تفرحي وتنسي عملته!
تجلت الصدمة على وجه امنيه بوضوح والتي توقعت مؤازرة او تخفيف عنها، في وقت عصيب كهذا من اقرب الناس اليها، والدتها، فجاء الدعم من شقيقتها الصغرى العاقلة:
– ولا يهمك يا امنية، اعتبريها ليله وعدت، بصراحة احنا كان لازم يصيبنا النكد، بعد اللي عملتوه في ليلة الحنا امبارح ورقصك الاوفر ع الفاضي وع المليان مع البنات، ودول معظهم كانو مبيننها اوي بطريقة كلامهم وقرهم عليكي انك هتتجوزي ظابط.، إن كل ذي نعمة محسود يا اختي .
عبرت امنية عن اقتناعها ببعض الندم:
– صدقتي، بس انا كنت فرحانة اوي يا رؤى، ولحد دلوقتي مش قادرة اصدق جماله ولا رقته معايا، دا بيعاملني كأني ملكة، مش المصدي اللي كان شايف نفسه ياما هنا ياما هناك، ودائما محسسني اني اقل منه.
قالت الأخيرة بقصد واضح نحو والدتها، ودفاعها المستمر عن هذا الاخرق ابراهيم، والتي مصمصت بشفتيها تصدر صوتا يجتاحه الغيظ :
– ايوة يا ختي شوفي نفسك علينا من دلوقتي، طبعا ، هو انت حد هيملى عينك بعد كدة.
– يا ساتر يارب.
غمغمت بها رؤى، وقد استهجنت جهل والدتها وغبائها في التعبير حتى يخونها الرد مع ابنتها، لتنهض ملطفة:
-طب مدام اطمنتي ، يبقى روحي نامي بقى الساعتين الفاضلين دول، عشان تريحي بشرتك وتروقي للجاي .
رحبت امنية بابتسامة ملء فمها:
– هو كمان قالي كدة، عشان ابقى مصحصحة واروق له، عن اذنكم .
– ايوة بقى .
عقبت بها رؤى بابتسامة شقية، تغازل شقيقتها التي غادرت بعد ذلك بارتياح ، لتنام قريرة العين بعد ليلة طويلة من السهد والسهر،
وتتناول هي هاتفها تتصل على شقيقتها الكبرى شهد كي تطمئنها، بعدما شغلتها معهن رغم تعبها .
❈-❈-❈
جاء المساء
واجتمع الاحباب والأهل والاقارب في القاعة التي امتلأت عن اخرها بالمدعوين، العروسين في منصة العرس يستقبلان التهاني والمباركات والتقاط الصور بكل ترحاب،
العروس كانت جميلة وفاجئت الجميع بطلتها، وعريسها المغوار يتبادل المزاح مع اصدقائه وضحكاته خير دليل عن مدى سعادته،
لقد أجاد دوره بالفعل، اما هي ففرحتها كانت بسعة الكون، ترقص بين صديقاتها وشقيقاتها وصيفات لها، رؤى وفريال المتغربة دائما، حضرت اليوم من سفرها من اجل هذا الحدث الهام، تجبر والدتها على الاندماج معهم، رغم أدعائها الرزانة طوال الوقت.
اما شهد فقد كانت مقيدة بجوار زوجها الذي لم يكف عن تحذيراته.
– خفي هز بوسطك يا شهد وانتي قاعدة، الحركة غلط عليكي، كفاية بقى .
خرجت زفرتها برد له قبل ان تتجه باعتراضها نحو مجيدة :
– شايفة يا طنط، طب بذمتك انا بهز، انا بهز ، حتى السقفة كمان بقى اسمها هز وانا قاعدة!
تضامنت مجيدة معها كالعادة رغم تحفظها:
– طبعا يا حبيبتي معاكي حق هو مزودها، بس انتي بردو خدي بالك، لانك من فرحتك بتهزي من غير ما تحسي.
تطلعت لها بصدمة لتنقل بتساؤل نحو صديقتها لينا والتي ضحكت توافق حماتها الرأي:
– بصراحة اه يا شهد، ودنك ماشية مع الأغنية وبتعبري بانسجام يجنن يا قلبي، انا بجد مش عارفة بتعمليها ازاي؟
أتى قول زوجها بتحكم كالعادة:
– اول مرة يقولو كلمة حق، اسمعي الكلام بقى وانتي ساكتة.
بالطبع لم تصمت له، وصارت تجادله في الأخذ والرد ، امام متابعة جيدة من مجيدة التي كانت تتدخل بتسلية حين يلزم الامر ، وتعليقات ساخرة من لينا، والتي انتبهت في الاخير على شرود زوجها وعدم مشاركتهم هذه اللحظات الجميلة:
– ايه مالك يا عمنا انت كمان؟ معقول يا امين قاعد جنبنا سرحان، وصاحبك العريس خاربها في الرقص مع اصحابه هناك؟
زفر صامتًا دون ان يجيبها، فكيف يخبرها، ان ما يقلقه بالفعل، هي حالة صديقه تلك؟ الفرح المبالغ فيه يجعله يزداد شكا به بالفعل، هذا احساسه.
❈-❈-❈
وفي محبسه،
تأؤه بألم مبرح اثناء تقلبه للجهة الاخرى في نومته ، ليصدر اصواتًا:
– اااه، اااه ياني اااه.
عقب زميله والذي كان جالسًا بجواره يلوك الطعام بفمه:
– ايه بس مالك يا غضنفر؟ لسة برضو عضمك مدشدش بعد العلقة بتاعة امبارح؟ دا شكل الظابط الغشيم ده ايده تقيلة اوي.
ضحك بتقطع وحشرجة يجيبه:
– اااه والله يا ابو الزمل هو فعلا ايده تقيلة، تقيلة اوي، بس انا عاذره، حكم اللي سمعه محدش يستحمله.
ختم بضحكة قميئة اثارت فضول الاخر :
– عاذره في ايه بقى؟ وليه يعني محدش يستحمله؟
اعتدل بضحكاته يتحامل على الالم، ثم تناول علبة السجائر يتناول منها واحدة ، يشعلها بالقداحة لينفث في الهواء الدخان الكثيف حوله ، قبل ان يلتف لزميله قائلا بانتشاء:
– ضربتله كرسي في الكلوب، يعني جيت كدة يا معلم وقطعت عليه في اجمل حتة هو مستنيها .
عقد الرجل حاجبيه معبرا عن استيائه:
– انت هتكلمني بالالغاز يا عمنا ، ما تجيب من الاَخر، وقول انت نكشته بإيه خليته يديك الطريحة الجامدة دي .
– ما يخصكش.
قالها ثم نفث كتلة من الدخان بوجه الرجل جعله يتأفف ويسعل، متمتمًا بالسباب الذي لم يأبه به ابراهيم، ليحدث نفسه:
– ياما نفسي اشوف وشك دلوقتي يا امنيه اكيد الباشا بتاعك هيفسخ خطوبتك ولا هيرضى يكمل الجوازة، عشان اخرج الاقيكي مكسورة يا كلبة وغصب عنك ترجعي تحت رجلي من تاني، ما انا مش هحلك من دماغي خلاص، هتبقي انتي شغلانتي……
افتر فاهه بابتسامة شاردًا، حتى جعل الجالس من جواره، يغمغم بلطم كفيه ببعضهما:
– لا حول ولا قوة الا بالله، دا باينه مجنون دا ولا ايه؟
❈-❈-❈
بداخل الشرفة التي وقف ينتظر بها منذ لحظات ، ينفث دخان سيجارته سريعًا في الهواء الطلق، قبل ان يصله رائحة عطر اللافندر عن قرب ، ليلتف برأسه الى الداخل فوجدها خرجت من المرحاض، تطلق شعرها وتعيد ترتيبه امام المراَة بعدما ارتدت منامة العروس الكاشفة اكثر مما غطت ، وفوقها المئزر الشفاف بصورة جعلت عيناه تجحظ من محجريها، ليستدرك على الفور ، فيلج الى الداخل يغلق الستائر سريعًا، ثم يقف محله يتأملها جيدًا، بنظرات تمشطها من منبت الشعر المتموج بقصة اظهرت جمالها المخبأ خلف مظهر المقاول الذي تتخذه في عملها،
لتنزل عيناه نحو الخف الصغير في القدم التي رسمت بالحناء، تلك التي اتبع خطوطها ليعلو رويدا رويدا، حتى انتفض يقترب منها على الفور ويضمها اليه بصورة اجفلتها، فتبسمت بخجل واضطراب:
– ايييه يا عم خضتني، على طول كدة من غير كلام ولا سلام .
– يا ستي سلامتك من الخضة.
تمتم بها وعيناه تلتهم تفاصيلها بشغف، بداية من بشرتها الناعمة كالحرير، ثم جيدها حتى ما تكشفه المنامة لتتوقف على هذه النقطة التي عرفها جيدًا، لتتركز عينيه عليها بصورة اخجلتها حتى همت ان تعترض بدلال الانثى، ولكنه فاجئها حينما ارتفعت رأسه يقابل خاصتيها قائلًا بوجه خالي من التعابير:
– دي هي فعلا الشامة، وفي نفس المكان اللي شاور عليه، حتة مغرية اوي .
تعقد حاجبيها متمتمة بتساؤل وعدم فهم :
– هو مين اللي شاور عليها؟
ابتسامة جانبية غير مفهومة حلت بزاوية فمه، يخبرها بما اوقف شعر رأسها من الرعب:
– ابراهيم، اصله هو اللي اداني فكرة عنها، وجعلني اشتاق اوي عشان اشوفها……
ابراهيم! هل ما سمعته صحيحًا؟
برقت عيناها بفزع جمد الدماء بعروقها، حتى ارتخت قدميها من وقع الصدمة، فاهتزت بوقفتها، ولكنه كان الاسبق ليزيد من ضمها بذراعيه اللاتي تطوقها ككلابتين، مرددًا بسخرية وهدوء يثير الدهشة:
– لا اجمدي كدة امال، دا احنا ليلتنا طويلة وانا عايزك مفوقة، شكل السهرة هتبقى صباحي.
ابتلعت بصعوبة ريقها الذي جف من الخوف، كي تجسر نفسها على السؤال:
– هو قالك ايه الزفت ده؟ وانت شوفته فين؟ اكيد افترى عليا والف من دماغه.
– بجد !
صدرت منه، ثم تجهمت ملامحه بشر، وكأنه انسان اخر غير الذي تعرفه، يصعقها بكلماته:
– ولما هو بيألف من دماغه، عرف مكان الشامة دي ازاي؟ رعشة جسمك بين ايديا دي اسميها ايه؟ وشك اللي اصفر حالا دا معناه ايه؟
صدرت الاخيرة بصيحة، يرجها بعنف، وكأنه فقد القدرة على التماسك، لتهطل دمعاتها، وصوت بح من فرط ما تشعر به:
– كان خطيبي وابن خالتي يا عصام، اكيد عايز يخرب ما بينا بعد اللي حصله.
عاد برجها يحاصرها بتحقيقه:
– انا اللي عايز اعرفه تم ولا ما تمش الكلام اللي قال عليه، مغامراتكم في المخزن القديم كانت بتوصل لإيه؟
ارتفعت كفه ليطبق على وجنتيها يعصرهم بقبضته:
– الشفايف دي اللي حقي انا دلوقتي، سبقني هو ليهم صح ولا بيألف؟ ولا الشامة…
شاور بعيناه عليها في الأسفل:
– مش دي برضو من المحرمات ويستحيل حد يوصلها غير جوزك؟ وصل لإيه تاني يا أمنية؟
– اكتر من كدة مفيش والله.
سقطت من بين يديه وقد خارت قواها، لتردد بانهيار، متشبثة بكف يده، وكأنها غير قادرة على مواجهته:
– انا كنت صغيرة يا عصام، ومش شايفة حد غيره، عقلي كان ملغي من زنه على دماغي، وكنت فاكرة ان هو نصيبي، عارفة اني غلطت، بس والله والله والله عمره ماوصل لأكتر من كدة،
حينما ظل على جموده، رفعت رأسها اليه:
– انا مفهمتش ولا عرفت يعني ايه كرامة الست ، غير وانا معاك، كفرت عن خطأي كتيرر وربنا العالم ، لو انا وحشة مكانش رزقني بيك يا عصام، انت العوض.
بأنفاس متهدجة تطلع لها من علو، يردد معقبًا لها:
– وعوض ربنا ليا انا فين؟ طول عمري حايش نفسي عن اي خطيئة، حرمت عليا اي لمسة من اي ست، حايش كل حاجة لحلالي، واحدة تصون نفسها زي ما انا عملت.
قسوة الكلمات كانت أكبر من تحملها، وقد علمت بحجم تقزمها امامها، لتتحامل على قدميها وتنهض بقوة واهية، تبتلع غصتها وقد يأست من ان يصفح عنها ، قائلة بشجاعة زائفة:
– على العموم انا طلعت كل اللي في قلبي، وانت حر في اي قرار تاخده، عن اذنك .
قالتها وتحركت خطوتين، قبل ان تقف مجبرة على صيحته من خلفها:
– رايحة فين؟
– هنام في اي اوضة في الشقة
كان هذا ردها، قبل ان يباغتها برده:
– لا والله، كدة بسهولة.
لم تستوعب معنى جملته، الا حينما وجدته يجذبها اليه فجأة بطاقة الغضب التي تحركه:
– طب يرضيكي يتحرم عليا اللي كان حلال لغيري من غير كتب كتاب حتى.
وما كاد ان ينهيها، حتى فاجأها برفعها عن الارض ثم سقط بها على التخت، مردفًا بالقاسمة:
– وبالمرة عشان اتأكد من صحة كلامك، واعرف هو فضلي ايه من حقي.
اغمضت عينيها بألم، تستسلم لقبلاته القاسية، وعنفه في تجريدها من كل ما يكن حاجزا بينها وبينه، مرت اللحظات بينهم كالمد والجزر، بعنفه المبالغ فيه مرة ، وحنانه المستتر مرات، حينما تغلبه عاطفته،
هو كالأسد الجريح وهي لابد لها من التغاضي والصبر حتى يصفح عنها، ترى هل يأتي ذلك اليوم؟
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي
خرجت من المشفى في زيارة مبكرة الى شقيقها ، قبل الذهاب الى عملها ومجالسة نجوان، براحة تكتنفها وقد طمأنها الأطباء بقرب خروجه، بعد تحسن حالته بصورة جيدة عن السابق .
عبرت الى الجهة الاخرى من الطريق بقصد البحث عن وسيلة عامة تقلها، لتقع عينيها على تلك السيارة التي تعرفها جيدا تقترب منها حتى بطئت السير بجوراها، لتخرج رأس قائدتها من النافذة مخاطبة لها:
– اقفي يا بهجة وتعالي اوصلك معايا .
اشارت بسبابتها نحوها بدهشة جعلتها تعتقد أن الدعوة ليست موجهة اليها :
– انتي بتكلميني انا يا أنسة لورا؟
– امال بكلم خيالي يعني؟ ولا انتي في حد غيرك في الشارع اعرفه أصلا.
صاحت بها بحزم توقف سيارتها، لتعيد عليها الامر بحزم:
– اخلصي ياللا يا بهجة خليني اوصلك عند طنط نجوان، تلاقيها بتسأل عنك دلوقتي.
ارتابت بهجة من اصرارها، حتى ذهب بها الظن ان الأمر تكليف من رئيسها بنفسه، وقد تكون والدته مريضة او شيء ما، لذلك لم تجد بدا من الانضمام مع هذه المتعجرفة بداخل سيارتها، لتقود بها نحو وجهتها ، وبعد لحظات من الصمت ، خرج قول لورا لها:
– انتي كنتي خارجة من عند اخوكي اللي مازال محجوز في المستشفي صح .
اومأت لها بموافقة:
– صح ، قولت اطمن عليه قبل ما اروح شغلي.
– امممم الف سلامة عليه، طيب هو عامل ايه دلوقتي؟
قطبت بهجة قليلًا لصيغة السؤال المختلفة، لكن سرعان ما اجابتها بطيبة:
– الله يسلمك يارب، هو الحمد لله دلوقتي اتحسن كتير عن الاول وربنا سترها، اصل دوره كان صعب اوي.
– طب كويس، بس المستشفى دي استثماري وغالية اوي، تعرفي انتي كدة؟
تمتمت بلؤم لم تنتبه عليه بهجة، فخرجت اجابتها بسجيتها كالعاده:
– اه فعلا غالية حسب ما سمعت، بس رياض باشا، الله يباركله هو اللي اتكفل بيها، عشان تبع عيلته زي ما قال، بصراحة جميله فوق راسي .
تبسمت بسخرية تلتف اليها مرددة:
– جميل ايه ده اللي راسك هتتحمله يا بهجة؟ انتي عارفة الفاتورة لحد دلوقتي كام؟ دي معدية المية الالف جنيه، تخيلي؟
– اييييه؟
صدرت من بهجة بخضة، برقت لها عينيها وانسحبت لها الدماء من وجهها، لتردف بعدم استيعاب:
– ازاي يعني؟ مش معقول طبعا.، اكيد المبلغ مش بالصورة دي .
– لأ يا حبيبتي هو بالصورة دي بس انتي مش عايزة تصدقي.
ذهول اصاب بهجة مع انتباهها لهذه النبرة الغريبة منها، لتزيد عليها بإيقاف السيارة بغته حتى اهتز جسديهما بعنف ، قبل ان تلتف اليها ، كاشفة وجهها الحقيقي.
– انا النهاردة اطلعت على الفاتورة بنفسي، وبصراحة استغربت اوي ان واحد زي رياض يدفع المبلغ الضخم ده في علاج حيالله اخو واحدة بتشتغل عنده. وكمان من فترة قريبة اوي، مش مكملة شهرين حتى.
رغم قساوة الظن والسؤال الموجه لها بنية غير سوية ، الا ان بهجة لم يكن لديها خيارا سوا الدفاع والتبرير:
– وفيها ايه حضرتك؟ انا اعرف ان رياض باشا كريم مع الكل ، خصوصا اللي بيراعوا والدته، بدليل اللي بيعمله مع دادة نبوية.
– وانتي تيجي ايه في نبوية؟
صاحت بها لورا بقوة اجفلت بهجة، لتستطرد:
– نبوية دي تقريبا هي اللي ربت رياض، دي نشأت هي واختها في نفس البيت اللي اتولدت فيه نجوان وطنط بهيرة، يعني معروفة عندهم من زمان، زيدي عليها بقى رعاية والدته الخاصة لها من تمن سنين، انتي بقى، تاريخك ايه عنده؟
ما اصعبه من سؤال، حينما يأتي من امرأة بسواد قلبها، التوجيه به نحوها بحد ذاته اتهام:
– حضرتك عايزة توصلي لإيه يا لورا هانم؟ وانتي مركرباني من الاول معاكي في العربية ليه من اساسه؟
تبسمت بشر وقد وصلت بها الى المرحلة التي تريدها؛
– متزعليش مني يا بهجة، بس انا عايزة اسألك رياض بيعمل معاكي كدة ليه؟ ايه المقابل؟
لقد وضحت الرؤية وقد اخبرتها صراحة بما يدور برأسها من عفن، لتهدر بها بأنفاس لاهثة:
– مقابل ايه؟ انا مسمحلكيش تشككي فيا وفي اخلاقي .
سمعت منها تمط شفتيها بعدم اكتراث:
– اي حد مكاني يا بهجة هيسأل السؤال ده، ودماغه تلف……
بأعين احتبست فيها دمعة على وشك الهطول:
– بس رياض باشا انسان محترم، وانا كمان مقبلش حد يجيب في سيرتي بكلمة واحدة، الراجل عمل معايا كدة بدافع انساني، هو دا مش مبرر كافي.
– لا مش كافي يا بهجة، ولازم تعرفي ان كل حاجة ليها مقابل، دي معروفة في كل حتة، ولو معشمة نفسك في حاجة اكتر من العطف عليكي، تبقي بتضري نفسك بالحلم .
تبًا لها من ملعونة، متحجرة القلب، تحرم عليها حتى الحلم ، هي تعلم بقدر نفسها، ولا تطمع ولن يحدث ان تفكر بشيء كهذا ، ولكن ان تجد من يقلل منك بوجهك لهذه الصورة والتلويح بالظن السوء هذا اكبر من قدرتها على التحمل.
– والله انا عارفة نفسي كويس، مش محتاجة انك تفكريني، ولا هقبل انك تتهميني بشيء مهين زي ده، عن اذنك.
قالتها وشرعت بأن تدفع باب السيارة وتخرج، ولكن اوقفها تحذير هذه المتعجرفة:
– الكلام دا لو وصل لرياض يا بهجة، ساعتها هتأكد ان انتي……
برقت لها بخضرواتيها، تمنع نفسها بصعوبة عن الفتك بها، فتترجل سريعًا قبل ان تسمع لشيطان رأسها وتغرز انيابها الحادة ببشرتها التي تتفاخر بها، او نتف شعرها حتى تستكفي وتهدأ نيرانها منها.
وفي رد أخير منها، صفقت الباب بقوة، فور ان حطت قدميها في الخارج، لتجر اقدامها سريعًا تبحث عن وسيلة تقلها الى محل عملها، ولكن قهر قلبها جعلها تتوقف في اقرب مكان منزوي خلف احدى البنايات لتذرف دمعات ابت الاحتجاز والكبت.
❈-❈-❈
حينما وصلت الى منزله، لم تطيق الانتظار على رؤيته بالصدفة او حينما يريد هو كمان عودها، بل تحركت تعرف وجهتها ، متجاهلة طريقها الاساسي نحو غرفة نجوان،
لتطرق عليه باب غرفة المكتب، والتي يعمل بها في ذلك الوقت قبل الذهاب الى مصنعه، لتدفع الباب بعجالة فور ان سمعت بإذنه بالدخول تباغته بقولها:
– رياض باشا، ممكن تسمحلي بكلمتين .
كانت مفاجأة له رؤيتها من الأساس، فما باله من هيئتها تلك واندفاعها:
– اتفضلي يا بهجة، بس مش تقولي صباح الخير الأول!
دلفت اليه مرددة بتوتر اصبح يلمسه منها:
– صباح الخير يا فندم انا كنت عايزة……
قطعت مجبرة حينما اوقفها مشيرا لها بالجلوس امامه، لتعترض على الفور وقد استفزها هدوئه:
– يا فندم انا مش عايزة اقعد، انا عايزة اعرف، انت دفعت كام في علاج اخويا عشان لازم اسدد الدين اللي عليا، اينعم هيطلع كبير ، بس انا برضو لازم اشوف صرفة، انتي دخلته المستشفى الاستثماري بتاعتكو ليه؟
ما انا كنت روحت بيه على اقرب مستشفي حكومي، اكيد كانو هيسعفوه، ما هو دا شغلهم اصلا.
اسهابها بتلك الحالة التي تشبه الانهيار، جعله يترك محله، ليلتف حول المكتب فيصبح مقابلا لها، يتأملها عن قرب، وقد وضح جليا من هيئتها الباكية، وذبول عينيها ان الأمر جلل:
– انتي مالك النهاردة؟ في حد زعلك بأي كلمة؟
يسألها ببساطة ، ولا يعلم بحجم الجرح داخلها الاَن، حينما اكتشفت انها مديونة لهذا الرجل، لتتجاهل الرد عن سؤاله، مفضله التمسك بحديثها:
– حضرتك هو انت ممكن تقسطلي المبلغ، بس حتى لو حصل ، دا هياخد كام سنة؟…. يا نهار اسود، ودا هيكفيه كام سنة، دا حتى لو وصلت للمعاش مش هيقضي.
حسنا لقد فاض به من هذيانها ولابد من الحزم لإيقافها:
– بهجة ممكن تبطلي تكلمي نفسك وتجيبي من الاخر، انا عايز اعرف دلوقتي ، ايه اللي خلاها تطق في دماغك حكاية دفع حق العلاج دي؟ ما انا قولتلك اني شريك في المستشفى يعني مش هدفع حاجة من جيبي .
– بس هيتخصم من ارباحك، ودا مبلغ كبير اوي حسب ما عرفت، السؤال بقى ، انا هدفع قباله ايه؟
ضاقت عينيه بريبة، يستوعب لبعض اللحظات ، قبل ان يباغتها بقوله:
– وانتي اش عرفك بخصم ارباحي ولا بالمبلغ اصلا؟ ثم تعالي هنا، مين اللي اقنعك اني عايز منك مقابل؟
حينما ظلت صامتة، عاجزة عن الرد صاح بها هادرًا:
– اتكلمي يا بهجة، مين اللي حط في دماغك الكلام ده؟
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
اتكلمي يا بهجة، مين اللي حط في دماغك الكلام ده؟
على اثر صيحته الاخيرة انتفضت بارتباك واضح امامه، ورفض قاطع لاخباره، لكن بذات الوقت تعجزها الحيلة عن إيجاد رد مناسب، لتتلجلج بالكلمات امامه:
– اهوو بقى….. عرفت وخلاص…. لمااا سمعت واحد ااا، بيسأل الريسبشن على اجرة الليلة……في المستشفى، ساعتها حسبتها وقلبي وقع في رجلي……..
– امممم.
زام ليتحرك عائدا لمقعده خلف المكتب، وهي لا تعرف ان كان صدقها ام لا…
ولكنه أظهر اقتناعا زائفًا:
– ماشي يا بهجة، يعني افهم من كدة انك عرفتي بالصدفة
– ايوة بالصدفة..
صدرت منها سريعًا لتردف موجهه له السؤال:
– دلوقتي بقى هسددلك ازاي؟….. انا مخي هيوقف من التفكير.
تبسم ساخرا لمعاناتها:
– طيب يا بنتي ومخك يقف ليه من التفكير؟ هو انا طالبتك؟ انا مش عايز منك حاجة يا بهجة، افهمي بقى.
بقلة حيلة دبت قدمها بإصرار مرددة :
– فهمت………. بس مينفعش.
– مينفعش ليه؟
سألها بابتسامة حاول لملمتها بصعوبة، فكان جوابها:
– عشان هو كدة، المبلغ كبير قوي، وانا اخته يعني لازم اتكفل بمصاريفه، قولي بقى، هسدده ازاي دلوقتي؟ اخد قرض اسدد نصه والباقي مثلا يبقى يتقسم على شهور،
يتخصمو من قبض كل شهر؟
زفر مقلبًا عينيه، وقد يأس من الجدال معها، لينهي حازمًا:
– خلاص يا بهجة، انتي قولتي اللي عندك، وانا هفكر، او لو لقيت طريقة تاني هبقى ابلغك بيها، ممكن بقى تسبيني اكمل شغل دلوقتي؟
لم تتحرك على الفور، ، وكأنها تريد منه المزيد من التوضيح ، فواصل قائلا لها بأمر:
– ما قولنا خلاص يا بهجة، اخرجي ياللا خليني اكمل شغلي ، وروحي انتي سلمي على دادة نبوية .
– والنبي بجد، يعني هي جات فعلا؟
صدرت منها بلهفة، وابتسامة اشرقت بمحياها، بطيبة جعلته يوميء رأسه لها ببطء وعيناه تتأمل فرحتها بانشداه، حتى اذا انصرفت من امامه، ذاهبة نحو المرأة، ظل هو لمدة من الوقت ، يطالع اثرها بشرود، يعيد برأسه كل خلجة وكل همسة صدرت منها، بشغف شغله عما كان يعمل به قبل اقتحامها عزلته، وحين عاد في محاولة لاستعادة التركيز على الملفات، وجد نفسه يدفعها عنه بقرف، وكأن عقله يرفض مشاركه احد ما غيرها ولو حيزًا ضئيلًا من فكره.
❈-❈-❈
خرج من غرفة مكتبه حينما يأس من التركيز، وقد ذهب ادراج الرياح، ليرتدى سترة حلته مقررا الذهاب لعمله، وجدها في وسط الردهة تضحك بعفوية في المزاح والنقاش مع نبوية التي كانت تشاركها هي الأخرى بسجيتها ومزاحها، ووالدته العزيزة، جالسة بينهما، بابتسامة لا تفارق ملامحها، وكأنها تفهم على الحديث الذي يدور بينهم، متشبثة بذراع رفيقتها الاولى، ليصل الى سمعه ما يدور بينهم:
– ايوة بقى، من لقى احبابه يا عم، خلاص نسيتيني يا نجوان هانم بمجرد ما شوفتي حبيبتك.
جاء رد نبوية باعتزاز:
– طبعا يا حبيبتي، دي عشرة عمر بحاله، قبل انتي حتى ما تتولدي يا ست بهجة بسنين .
تصنعت الدراما بقولها:
– اخص ع الصدمة، دا انا كنت قربت اصدق اني بقيت حبها الوحيد، لدرجادي كنت مخدوعه فيكي يا نوجة.
– نوجة.
تمتم بها هو فور ان اقترب منهم، يجفلهم بحضوره، فتدخل مرددًا باندهاش:
– نوجة! دا اسم جديد دلع لماما يا ست بهجة .
اخجلها بسؤاله المباغت حتى جعلها تبرر بحرج:
– لا يا فندم دا مش اسم جديد ولا حاجة، انا بس خدت بالي اني كل ما أدلعها بتبقى هادية ومتتعبش قلبي في اي طلب اطلبه منها.
– امممم.
زام بها، يمط شفتيه بابتسامة يشوبها الرزانة قبل ان يلتف نحو نبوية:
– البيت كان ناقص من غيرك يا دادة، وماما زي ما انتي شايفة، ولا كأنها لقيت مامتها.
ردت نبوية بطيبة ليست بغريبة عنها:
– البيت منور بأهله، انا كمان في بيتي وكنت حاسة كأني غريبة عن المكان، وان دا بيتي الاصلي، اما عن الهانم، دي كانت وحشاني اوي.
قالت الأخيرة بإشارة نحو نجوان التي زادت من تشبثها بها وكأنها فهمت الكلمات، ليتفاجأ هو حينما وجد بهجة تنهض من جوارهم متمتمة بتأثر:
– ربنا ما يحرمكم من بعض يا دادة، اقوم انا اشوف شغلي بقى في المصنع، مدام الحمد لله ربنا يسر الأمور.
– خدي اليوم اجازة يا بهجة، وابتدى من بكرة .
همت ان تفرح بعرضه السخي، ولكنها تذكرت عودة المنزل في ذلك الوقت، والوحدة في انتظار عودة اشقائها من محل دراستهم، لتعبر بالرفض على الفور:
– لا يا افندم الف شكر، نأجل الاجازة لوقت تاني، اصل انا وحشني اوي المصنع وصحابي وحبايبي اللي فيه عن اذنكم بقى.
قالتها وما همت ان تستدير عنهم، حتى اوقفتها نجوان بقولها:
– عائشة.
– يا نهار ابيض تاني برضو؟
صدرت من بهجة، تلوي فمها بابتسامة، ثم تردف بعدها :
– في اقرب وقت هاخدك ليها ان شاء الله، عن اذنكو بقى.
❈-❈-❈
اعتدل بجذعه على الفراش، بعد فترة طويلة من التململ والتقلب على تخته بدون فائدة، وقد ذهب عنه النوم منذ نهوضها من جواره، حين تسحبت بهدوء بظن منها انه مازال نائمًا، لتتجه نحو المرحاض وتغيب به لأكثر من نصف ساعة، حتى اثارت قلقه عليها ، لولا استماعه لصوت المياه من الداخل، لظن ان بها شيء ما.
يعلم انه كان قاسي معها بالأمس، ولكن ماذا كان بيده، ونيران قلبه لم تخمد حتى الاَن، لا يصدق ان تلك كانت ليلة عمره التي كان يخطط لها ويجهز المفاجأت. ان تمر بهذا السوء، هو ابشع كوابيسه.
انتبه على صوت باب الحمام الذي اندفع تخرج منه،
ترتدي منامة قطنية، وشعرها المبتل يحاوط وجهها،
بوجه احمر ندي، رغم هذه الانتفاخات البسيطة حول عينيها، ليتيقن من صدق ظنه انها كانت تبكي بالداخل .
تبدو المنامة منزلية بالأساس، بربع كم وبنطال صغير بالكاد يغطي ركبتيها.
صوت ضعيف خرج منها في القاء التحية نحوه، قبل ان تعطيه ظهرها وتتجه نحو المراَة لتصفف شعر رأسها امامها:
– صباح الخير.
– صباح النور .
خرجت منه جوفاء، بوجه خالي من أي تعبير، لتتركز ابصاره بها، يقيم تفاصيلها بعين الرجل الخبيرة بمفاتن زوجته التي رأها بالأمس، لديها جسد يغوي القديس على الخطيئة، وهو ليس بمحصن، فرغم كل غضبه لم يستطع منع نفسه عنها، فصارت رغبة امتزجت بعنف غضبه، لتؤدي الى هذه النتيجة، وتزيد من اشتعال رأسه ان احد ما اطلع على ملكه غيره، حتى وقد تأكد من صدق قولها باحتفاظها بعفتها، إلا ان باقي التفاصيل الأخرى…..
انتفض كالملسوع عن الفراش كي يهرب من افكاره السامة، فيصبح خلفها تماما، ويظهر لها انعكاس صورته امامها، بانعقاد حاجبيه ، وصوت انفاسه الهادرة، حتى اصابها التوتر ، لتلتف له متسائلة:
– ايه ؟؟ في حاجة؟
ظل على وضعه صامتًا لمدة من اللحظات يتأمل بشرتها، وتلك العلامات المتبقية من اثار معركة الأمس، حتى وقعت عيناه على تلك الشامة التي نال منها، غير مكترث بما يسببه من الم لها، وقد وضح الاثر جليا عليها الاَن، لتندفع حمم سائلة بأوردته، ورغبة جامحة تدفعه لتكرار الامر ،
وفي نفس الوقت، صوت ما بداخله ينادي بالترفق بها،
وما بين ذاك وذاك، لم يشعر إلا بيده قد ارتفعت لتطبق اصابعه على وجنتيها المكتنزتين، وهذه الشفاه المنتفخة بإغراء، فدنى نحوهم دون سابق انذار، ليلتهمهم بنهم، يرتشف منهما ما يسكر عقله ويرطب عليه من التفكير المستمر. غير واعي ان كان شغف او جموح، او عنف، وذراعه تعتصر خصرها، فلم يستفق الا بدفعتها القوية له، لتلتقط انفاسها، ثم قالت لتوقفه، وبصوت يهتز برجفتها:
– امي زمانها على وصول، هي واخواتي البنات، وعيلتك كمان ، دا الميعاد اللي قالوا عليه من امبارح.
❈-❈-❈
بعد قليل،
وقد اجتمعت الاسرة في منزل الزوجية الجديد، قبل ذهاب العروسين الى رحلتهم في قضاء شهر العسل في احدى المنتجعات الشهيرة، كما هو مخطط من البداية.
وكما فعل بالأمس، أجاد تمثيل الزوج السعيد بمهارة اذهلتها، يتبادل النكات والمزاح مع اهل العروس ووالديه وشقيقته، يظهر مشاهد السعادة الجمّة بينها وبينه، وهي تحاول مجاراته، رغم حزنها المتفاقم لجرحه، وما تسببت به من اذى لرجل بأخلاقه، فهي الاعلم الان بحجم معاناته، كم ودت ان يعود بها الزمن وتصلح كل ما فات، او تمحيه من ذاكرة الزمن وذاكرتها، لو كانت تعلم بما يخبئه القدر لها من عوض جميل، ما كانت ابدا قللت من ذاتها بالارتباط بشخص فاسد وقميء مثل ابن خالتها ابراهيم، فليجازيه الله بأفعاله.
❈-❈-❈
وفي محبسه،
بالتحديد داخل مبنى المراحيض ، بزاوية مختصرة، بعيدة عن اعين رجال الامن، اجرى مكالمته الهاتفية عبر الهاتف النقال الذي استأجره من احد المساجين القدامى.
مع والدته، والتي ما ان سمع بردها على سؤاله، حتى صاح لها باستنكار:
– ايه؟ اتجوزت وعملت فرح عليوي كمان؟…….. وما استغربش ليه ياما؟ شكل الظابط بتاعها دا راجل قلة ومعندوش حرارة…………. ايوة معندوش حرارة وانا برضو مش هحلهم من دماغي……. عشان تبقي عارفة……… سيبك ياما من الهرتلة دي وركزي مع محامي الزفت، ادفعيلو ودفي جيبه بالفلوس، خليه يخرجني في اقرب وقت، انا دمي بيغلي………. متقوليليش اهدى، انتي تعملي اللي بقولك عليه وتخرجيني، هو دا اللي هيريحني…….. ماشي ياما؟ اسيبك بقى.
فور ان انهى المكالمة، أٌختطف الهاتف من يده، بواسطة الرجل الذي يملكه، يحدثه بصوته المتحشرج:
– شاطر يا حلو، دقيقة تانية وكنت هحسبها عليك بالضعف، عشان دي تتسمى بعرفنا ضريبة الوقت الزايد.
ختم بضحكة سمجة اثارت سخط الأخر ، يرمقه بازدراء، ثم يبتعد عنه، مغادرا من المرحاض المقرف، ليتناول احدى السجائر من علبتها، يشعلها بالقداحة، يغمغم بالتوعد داخله:
– ماشي يا بنات ناصر الدكش، انا مفيش ورايا غيركم .
❈-❈-❈
على الاريكة التي كان مضجعًا عليها يشاهد مع شقيقه احدى برامج تحليل القنوات الرياضية، يدعي الاندماج مع نقاش المذيع مع المحلل الرياضي، وعيناه تذهب كل دقيقة نحوه بابتسامات خبيثة كان يتجاهلها الاخر في البداية حتى فاض به، لينهره بحنق؛
– ما تتلم يا عمنا انت في يومك ده، شايفني اراجوز قدامك ؟ ولا وشي فيه حاجة مش عاجباك؟
اطلق سامر ضحكته الصاخبة ليردد:
– حاجة واحدة! قول حاجات ، انت وشك كله متشلفط يا باشا، بقى عامل زي الطريق الدائري….
ختم ضاحكا مرة اخرى ليستفز الأخر حتى هدر به :
– احترم نفسك يا سامر، اقسم بالله انا على اخري منك.
ببرود شديد واصل سامر ضاربًا بغضب شقيقه عرض الحائط:
– طب بدل ما تعصب نفسك وتتنزفز كدة، ما تريحني وقولي على صاحب الخناقة الحقيقية ، اللي سببلك البهدلة دي في وشك، قولي يا اخويا عشان اروح اخدلك بتارك من سواق الغبرة اللي زنق عليك بعربيته.
زفر يكظم حقده، يود لو يفتك به، فتلميحات هذا الأحمق تثير بداخله الريبة، ولكنه يأبى كشف الحقيقة امامه:
– لا يا اخويا اطمن وحط في بطنك بطيخة صيفي، انا ظبطت الراجل ومسحت بيه بلاط الشارع، يجي ايه اللي في وشي ده عن اللي انا عملته فيه.
– يا بطل.
تمتم بها سامر ليطلق ضحكة رنانة أذهبت الباقي من عقل شقيقه، لينهض فجأة يهجم عليه ، يمسكه من تلابيب ملابسه، وقد ضج من سخريته:
– تحب اعرفك عملي انا عملت فيه ايه؟ شكلك مش مصدق وانا بقى عايز اثبتلك.
صدح صوت دريه من خلفه يوقف المعركة من اولها:
– في ايه يا زفت انت وهو، فاكرين نفسكم عيال صغيرين وهنحوش ما بينكم، ولا ديوك وهتتناقروا، شيل ايدك عن اخوك يا سمير.
صدحت الاخيرة بأمر اجبره على ترك هذا المستفز، والذي لم يكف عن ابتسامته اللزجة وشقيقه يشتكي لوالدته:
– خليه هو يلم نفسه عني ياما، عمال مقلتة عليا بقالوا يومين وانا ساكتله، انما والمصحف لو زودها…….
– مفيش داعي للحلفان، هو مش هيعملها تاني….
صدرت منها بمقاطعة حادة، لتتوجه بالأمر بعد ذلك نحو الأخر:
– سمعت انا قولت ايه يا سامر؟ مش هتعملها تاني، يا اما هتلاقي حسابك معايا انا يا حبيبي، جاتكم الهم، ولا اكنكم عيال اتناشر سنة، مش رجالة كبار ، قطيعة .
بصقت كلماتها وانصرفت من امامهما نحو وجهتها داخل المطبخ، والذي وقفت على مدخله اسراء تراقب بصمت كعادتها، لترمقه بنظرة لائمة وكأنها هي الأخرى تفهم على ما اصابه، ليزداد الشك بداخله ان تكون شقيقته الملعونة قد افشت امره.
❈-❈-❈
بعد لحظات،
دلف الى داخل غرفتها يباغتها بقوله:
– انتي يا بت، بلغتي الواد ده باللي حصل صح؟ قولي الحقيقة لا اشلفط وشك.
شهقت تخرج صوتا مستنكرا، بعدما أجفلها بحضوره اثناء وضعها لطلاء الاظافر على اصابع يدها:
– ودول بيطلعو امتى دول، محدش قالك يا حبيبي، ان دي اوضة بنات ومحدش ينفع يدخلها هجم كدة من غير استئذان.
اقترب منها هادرا بهمس:
– بطلي قلة حيا وردي على سؤالي، الاوضة اساسا دخلتها لما لقيت بابها مفتوح، يعني مش مقفول عشان اخبط عليكي، ولا انتي عايزة تاخذيني في دوكة وتهربي من السؤال؟
عبست ملامحها بضيق تقر امامه باعترافها:
– بصراحة بقى، امك هي اللي زنقت عليا، وانت عارفها لما بتحتل على موضوع بتجيب قرار اللي قدامها، انا حاولت والله اداري على قد ما اقدر، بس هي بقى فضلت تجرجرني لحد ما حكيتلها كل حاجة.
بحالة من الزعر تمتم خلفها بعدم تصديق:
– يا نهار ابوكي اسود ، انتي كمان حكيتي لامك ، دا على كدة البيت كله عرف.
– لا والله مش كله، انا اعترفتلها هي بس، انما الزفت سامر معرفش لقطها ازاي؟
– سمعنا بقى ولا……
– ولا ايه تاني يا زفتة؟ انا كنت عارف من الاول انك متستريش لذلك نبهت وشددت عليكي، لكن اللي فيه داء ميروحش منه .
اطرقت رأسها بخزي، فهي بالفعل لم توفي بعهدها معه، رغم محاولتها ذلك، لكن والدتها لطالما عرفت كيف تسحب منها ما تريد.
ليضرب شقيقها بكفيه على جانبي فخذيه، يغمغم بتفكير:
– اااه، وطالما امك ماتكلمتش ولا فتحت معايا سيرة يبقى مرقدالي ، او يمكن انا مش في حساباتها من الأساس، وهتجيب اللوم كله على بهجة، دي امك وانا عارفها.
مصمصت بشفتيها لتردد بضيق:
– وانت شاغل نفسك بيها ليه بقى؟ ما هي فعلا السبب يا حبيبي، لولا قعدتها معانا في نفس العمارة، مكنتش هتبقى حاططها في دماغك كل ده، كنت هتبص لمراتك المسكينة دي، بدل ما انت سايبها ومش معبرها.
– اه يا اختي مراتي المسكينة؟ لما هى صعبانة اوي عليكي كدة، ما تروحي تساعديها في المطبخ، ولا هو حط المونكير مينفعش يتأخر.
عقب بها ثم سحب نفسه ليذهب من الغرفة، يكتنفه الغيظ بشدة لفعل هذه الحمقاء.
❈-❈-❈
بهيئة جديدة كليا عن كل ما سبق، قصت شعرها بعدما صبغته بدرجة من اللون جديدة عنها، واسلوب مختلف في الملابس، حتى اثارت انتباه ذلك الذي كان يعمل مع رئيسها في هذه الوقت في مقر المصنع، ليوجه بحديثه عنها معه؛
– رياض…. البت قريبتك اللي برا دي، اقطع دراعي ان ما كانت بتحبك ومتعلقه بيك.
رفع اليه نظرة خاطفة بابتسامة مستخفة، قبل ان يعود إلى عمله ، وكأنه لم يسمع شيء ، ليعيد عليه مشددًا :
– طب وربنا انا ما بقول كلام جزافا، ما تجرب يا بني معاها، مش يمكن تطلع كويسة، انا مش فاهم، انت عايش ازاي من غير نسوان.
اطلق ضحكته النادرة برزانة ليعقب بمرح:
– مفيش فايدة فيك يا كارم، هو احنا في ايه ولا في ايه بس يا بني؟ بقى قاطع الشغل عشان تكلمني عن النسوان في حياتي، وتقولي عايش ازاي؟ عايش عادي يعني يا سيدي، ولا ينقصني اي حاجة.
– لا والله ينقصك.
ردد بها يخالفه بتأكيد :
– بكرة لما تقع على بوزك وتحب، هتعرف قيمة الكلام اللي بقوله دا كويس .
عاد رياض ضاحكا متمتم له:
– ماشي يا حبيبي هبقى افتكرك.
تمتم بها بسخرية، يظهر عدم اكتراثه، بقناعة رسخها بداخله ، ان العشق ضعف وهلاك، ولا شيء يستحق شغل جزء في تفكيره، سوى العمل والنجاح، لكن لماذا صورتها لا تفارقه؟ تلك البهجة التي حلت قريبًا بمحيط حياته، لماذا لا تتركه الاَن بتركيزه الجدي في عمله؟
بعلمه انه لا يفصله عنها الاَن، سوى طابق واحد،
هي في الأسفل تعمل ضمن طبقة العمال لديه، وهو في الأعلى بين اعماله والمناقشات مع شريكه.
بعد مغادرة كارم، ظل لفترة من الوقت يحاول التركيز ولكن عقله المتمرد، ابى الاستمرار.
لينهض فجأة مقررًا الذهاب بنفسه للاطمئنان على سير العمل بين العمال، بلفتة لا يفعلها تقريبا الا في الضرورات القصوى، او نادرا.
هبط الدرج الرخامي، يقف في المنتصف، عيناه تجول على العمال وانشغالهم على الماكينات الحديثة بجد ونشاط في تفصيل الملابس بحرفية عالية الدقة.
الاعداد ضخمة والبحث عنها وسطهم كالأبرة في كوم من القش،
رجال ونساء، كالنحل ميز وسطهم صباح نظرا لجسدها الضخم، او ربما لأنها هي من انتبهت عليه لتهرع من وسطهم مهرولة، وقبل ان تصل إليه، وقعت عينيه على تلك البهجة، بملابس العمل، منكفئة على احدى القطع، وكأنها تصنع لوحة بدقة عالية، حتى انها لا تلتفت للحديث مع احد، لا يستغرب الاَن سر تمسكها بالعمل هنا، لكن مهلا من هذا الذي أتى يقف جوارها ويحدثها ؟!
– رياض باشا، يا أهلا وسهلا نورتنا، دي مفاجأة ولا هلال العيد والله.
كان هذا صوت صباح التي هللت بفرحة لمجيئه، فكان رده ان اومأ لها على عجالة، قائلا بعدم تركيز :
– هلال العيد ليه بس؟ انا جاي اطمن على سير العمل، ايه الاخبار؟
سمعت منه، لتسهب بالحديث عن ما تم تنفيذه في التصميمات الجديدة، وانجاز الطلبيات القديمة، والخ والخ.
وهو غير منتبه لاي جملة منها ، فعيناه كانت تتابع بشغف تلك الحورية، وذاك الغراب الذي يدور حولها، يتصنع الحديث ليلفت انتباهها، ثم يسحب منها ابتسامة توزعها كالبلهاء اليه، ثم تتناول منه كوب الشاي فترتشف منه متلذذة، وتلك الشفاه تترجم الشكر والامتنان له، وكأنه قد أتى لها بعلبة شيكولاتة فاخرة، تبًا.
– عندك تعليمات عايزني ءأمر العمال بيها؟
اردفت بها صباح، حينما طال صمته معها وعدم تعقيبه على كل ما استرسلت به من حديث في التو، ليستدرك بفطنته، قائلا لها:
– لو عندي تعليمات هبلغهالك يا صباح ومش هستنى تطلبي مني. انا بس كنت عايز أسألك ، هو مين اللي واقف هناك عندك بهجة وبيكلمها؟
شبت ببصرها نحو ما يرنو اليه، لتجيبه على الفور:
– دا تميم، شغال معانا هنا تبع قسم القص، بس ايه، واد شاطر وايده تتلف في حرير.
وجه كلماته بحدة نحوها:
– ولما هو واد شاطر وايده تتلف في حرير، سايب مكانه ليه وبيلاغي في العمال؟
دافعت على الفور صباح عن الشاب بلهفة:
– لا يا باشا، هو اكيد خلص شغله، اصله شاطر زي ما بقولك، وان كان على وقفته عند بهجة، فدي عشان ليها وضع خاص معاه.
– خاص.
دوت الكلمة برأسه، لتبرق عينيه بلهيب مخيف، جعل المرأة تسرع في التصحيح:
– خاص مش بمعنى غلط يا باشا، انا قصدي انه رايدها بحلال ربنا، عايز يتجوزها، ربنا يارب يفرحنا بيهم قريب.
تتحدث بتلقائية وابتسامة حالمة بغباء، وكأنها ستفرح بأبنائها، غافلة عن ذاك الذي كان يرمقها بغيظ متعاظم ، يجاهد للمحافظة على ثباته امامها، رغم حمم البراكين التي تغلي بداخله، ليغتصب ابتسامة ليس لها معني في مخاطبته لها:
– طب روحي يا صباح اندهيلها خليها تيجي ورايا ع المكتب، عشان عايزها في امر ضروري.
– بخصوص الست الوالدة يا باشا ولا في حاجة تاني؟
زفر بضيق من تدخلها :
– ميخصكيش يا صباح ، انتي عليكي تنفذي وبس؟
لم ينتظر ردها، وتحرك يستدير معاودا الصعود ليتفاجأ بلورا امامه، تسأل قاطبة:
– انت هنا بنفسك يا رياض باشا، مقولتليش ليه، لو عايز تعمل جولة على الأقسام؟
اجابها بنزق:
– مدام مطلبتش منك يا لورا، يبقى متقلقيش نفسك.
قالها والتفت رأسه نحو صباح يشدد عليها:
– متنسيش اللي قولتلك عليه، ابعتي لبهجة خليها تيجي ورايا حالا .
اكمل طريقه بعد ذلك يتخطاها، غير ابهًا، بغروره المعتاد، لتتوجه هي بغضبها نحو صباح:
– البت دي طالبها في ايه؟
اومأت الاخيرة بهزة من اكتافها، تزيد من حيرتها.
– والله ما اعرف يا هانم.
❈-❈-❈
والى منزل بهجة،
حيث ذهب الجميع منهم الى اماكن دراستهم والعمل، بعد خروج جنات الى جامعتها على ميعاد محاضرتها، لتستغل هي انشغال أبنائها في الوكالة محل ابيهم ، بعد اختفائه هو الأخر، دون ان يخبرها بوجهته.
لتصعد الدرج بخفة، وعيناها تدور في كل الأنحاء بحرص شديد، حتى وصلت الى باب شقتهم، لتُخرج من جب صدرها، تلك النسخة من مفتاح المنزل، والتي مازالت تحتفظ بها حتى الاَن، رغم مرور السنين وموت اصحابها، وقت ما كان الود موصول، قبل ان يتبدل لعداء بعد موت خليل شقيق زوجها.
ليأتي الاَن فائدته، فتضعه في مغلق الباب ، ثم تدفعه بهدوء، لتلج بداخل المنزل، تتأمل محتوياته سريعًا، والتغيرات التي طرأت به حديثًا، ثم تخطو نحو وجهتها في غرفة بهجة.
بحثت سريعًا بعيناها نحو شيء ما تريده، وحين لم يعجبها شيء، لم تجد امامها سوى التوجه نحو خزانة ملابسها، لتعثر اخيرا على هذا الحجاب الصغير القديم ، ترفعه امام عينيه محدثة نفسها:
– هى دى، اكيد مش هتحس بيها لما تغيب ، طرحة قديمة ومرمية وسط الهدوم.
وضعتها على انفها تشتم الرائحة، لتردد بارتياح اكبر:
– وكمان فيها ريحتها، يعني عز الطلب.
وضعتها سريعًا بجب صدرها، لتواصل حديث نفسها:
– كدة بقى سيدنا يشتغل صح.
جرت اقدامها نحو المغادرة بعد انتهاء مهمتها، لتعيد غلق المنزل من الخارج، وتنزل الدرج بخطوات واثقة الى حد ما حتى وجدتها امامها فجأة لتشهق مزعورة، وتبصق في فتحة ملابسها في الأعلى:
– بسم الله الرحمن الرحيم، بيطلعو امتى دول .
توقفت عائشة تطالعها بنظرات ثاقبة ترد بسخرية:
– بيطلعو للي خايفين منهم.
اجفلتها بردها الغريب، ليتسلل القلق بداخلها، توبخها بشجاعة زائفة:
– واخاف منك ليه يا اختي؟ هتولعي فيا ولا افتكرتي نفسك بتخوفي صح؟
تعلم انها ملعونة وحادة الذكاء بإجرام لا يتوفر حتى في اشقائها الكبار، فتأخرها عن الرد ، وهي تحدجها برفع حاجب واحد بشر يبث بقلبها الخوف بالفعل، لتلسعها بالسؤال المباغت:
– هو انتي كنتي نازلة من فين يا طنط؟ ومرات ابنك وابنك مش في الشقة اساسا؟
ابتلعت درية ريقها الذي جف في حضرة هذه الملعونة، لتبرر بغضب:
– وانتي مالك يا اختي ان كانوا قاعدين ولا مش قاعدين، انا اطلع شقة ابني وقت ما انا عايزة، وسعي كدة من قدامي، مبقاش الا العيال كمان، وسعي.
تخطتها لتنزل رافعة رأسها بتعالي، تدعي عدم الاكتراث ، وقلبها يرجف من الداخل، تتخيل نفسها لو تأخرت دقيقتان ودلفت هذه الملعونة عليها الشقة، على اقل تقدير كانت ستتسبب لها بفضيحة، ان لم تلبسها تهمة سرقة، او تشعل بها النار وهي حية ، تجزم انها قادرة على فعل ذلك.
التفت رأسها بدون قصد نحو الأعلى، لتجدها مازالت محلها ، وابصارها منصبة عليها، بصورة اعادت الفزع الى قلبها، لتدلف الى شقتها سريعا ، واضعة يدها على قلبها تلهث ببعض الارتياح:
– يا لهوي عليكي بت، وقفت شعر راسي من الخضة.
❈-❈-❈
أتت بهجة بناءًا على امر استدعائها، لتقابل اولا تلك الفتاة المتعجرفة، ترمقها بنظرات ازدراء من اعلى حجابها في الأعلى حتى ما ترتديه من حذاء في قدمها،
تبرع دائما في بث صفة النقص بداخلها، ورغم ادعاء بهجة غير ذلك، إلا داخلها ينجرح بالفعل ، ولكن ابدا لن تعطيها غايتها في التقليل من ذاتها.
اهدتها ابتسامة صفراء قبل ان تخبرها:
– رياض باشا طالبني .
صدر رد لورا بتعالي، تشير بسبابتها نحو مكتبه دون ان تكلف نفسها حتى عناء الرد، لتعود اليها بهجة بنفس الابتسامة الصفراء دون رد هي الأخرى، قبل ان تتحرك ذاهبة نحو وجهتها، تتمتم بصوتها كالهمس:
– جاتك قرصة في ايدك يا بعيدة.
وصلت الى باب غرفته، تطرق بخفة ، حتى اذن لها بالدخول.
ثم دلفت الى داخل الغرفة التي ولأول مرة تخطوها بقدميها ، لتفاجأ به تاركًا مقعده خلف المكتب، واقفًا امامه بتحفز اثار بداخلها التوتر ، لتوجه سؤالها له بقلق:
– افندم يا رياض باشا، الريسة صباح بلغتني ان حضرتك طلبتني، هي نجوان هانم جرالها حاجة؟
– مجراش اي شيء، وهي تمام وعال العال يا بهجة، انا كنت طالبك في حاجة تانية بعيدة عن البيت والست الوالدة.
اردف بكلماته على عجالة وكأنه لا يطيق الاسهاب، ليثير بداخلها الفضول والسؤال للمرة الثانية:
– افندم يا باشا عايزني في ايه؟
زفر انفاسه الخشنة بصمت دام لحظات وكأنه يبحث عن حجة لسؤاله، ليحسم فجأة مندفعا:
– كنت عايز اعرف منك، صحة الكلام اللي قالته صباح، عن اللي اسمه تميم ده ورغبته ، في انه عايز يتقدملك.
قطبت بعدم استيعاب، وقد تفاجأت بالسؤال الغريب:
– تميم مين يا فندم؟
ردد بانفعال يزيدها اندهاشًا :
– تميم زميلك في المصنع عندنا يا بهجة، انتي مش مركزة ليه؟
الاَن قد فهمت رغم استغرابها لعصبيته المفرطة وسؤاله عن شيء يخصها، الا انها تمالكت تجيبه في الاَخير:
– هو فعلا عايز يتقدملي، بس بلغته كذا مرة انه مينفعش عشان اخواتي.
– يعني صباح بتكدب؟
– لا طبعا الريسة مبتكدبش، اصل هو كل شوية يكلمها عني في انتظار موافقتي .
تتحدث بعفوية، غافلة عن تبدل ملامحه وغضب غير مبرر يلوح في الافق، ليوميء برأسه فجأة ويردد بغيظ مكتوم، يفسر الأمر بمنطقه:
– اااه يعني الباشا مفقدش الامل، ورايح جاي يدور حواليكي، ومهمل في شغله؟
– لا يا باشا، تميم انسان محترم، وشايف شغله كويس.
– متدافعيش عن حد قدامي يا بهجة وخليكي في اللي يخصك ، انا شوفت بنفسي وانا اللي بقولك دلوقتي.
قابلت عصبيته بدفاع عن الشاب، وقد استفزها تحامله عليه:
– انا مش بدافع يا فندم، انا بقول الحقيقة، بس انت شوفته فين صحيح وهو بيدور حواليا؟ قصدك يعني لما جه وجابلي كوباية الشاي من شوية؟ …..
– اسكتي يا بهجة.
صاح بها مقاطعًا، لا يريد شرحا ولا تفسيرا، فقد رأى بنفسه ما يكفيه، ويجعل الدماء تغلي برأسه، ليفاجأها بقوله:
– قوليلي يا بهجة، انتي مشتغلتيش عندنا ليه بشهادتك؟!
– شهادتي.
رددت بها من خلفه، وكأنها تستوعب المغزى من السؤال، لتجيبه بعدها بحرج:
– وشهادتي دي بقى، هشتغل بيها ايه حضرتك؟ دي ثانوية عامة، يعني مفرقتش كتير عن الاعدادية.
– والحقوق……. انا عرفت انك دخلتيها، بس مكملتيش فيها.
اجفلها بمعرفته لهذه المعلومة عنها، فهي لا تتحدث بها على الإطلاق، ولكن يبدو ان لديه سبله الخاصة في البحث خلف من يعمل بمنزله، اذن لما التعجب.
– حضرتك انا مدرستش في حقوق غير سنة واحدة ، والتانية يدوب حضرت فيها كام محاضرة، وبعدها قطعت نهائي، يعني اكيد متتسماش دراسة.
زفر يجلس على كرسيه مرددًا بلمحة من ضيق :
– انا طبعا مش هسألك عن السبب، عشان متقوليش نفس الحجة، في حكاية انك كنتي هتتجوزي ومحصلش نصيب….. لكن دلوقتي انا بتكلم عن الوضع الحالي، وانا شايف انك تصلحي لوظيفة ارشيفية حتى لو بشؤون العاملين، بدل التفصيل والقعدة على المكن يا بهجة .
تخيل موافقتها على الفور، ولكنه تفاجأ بردها:
– بس انا بحب التفصيل فعلا على فكرة.
زفر بغضب مكتوم يردف حازما:
– تقدري تكملي هوايتك دي في البيت يا بهجة، انا بعرض عليكي دلوقتي فرصة ووضع احسن لواحدة متعلمة زيك.
حينما ظلت على صمتها ضرب بكفه على سطح المكتب:
– فكري كويس وخدي فرصتك يا بهجة، وانا من بكرة همضي قرار تعيينك.
اومأت برأسها بموافقة، لكن سرعان ما انتبهت لقوله معقبة بعدم فهم:
– افكر ازاي واخد فرصتي وانت حاسم قرار تعييني؟
اومأ بلهجة لا تقبل النقاش:
– امشي دلوقتي يا بهجة، واعتبري القرار اتنفذ، بقووولك امشي يا بهجة.
اضطرت في الأخير ان تنصرف من امامه، بتشتت اصابها، لا تصدق حزمه في امر يخصها كهذا، غير قابل حتى للمناقشة، لطالما وصفته الفتيات زميلاتها في العمل انه المغرور الوسيم، لتتيقن هي الاَن من صفة جديدة به، وهي انه ديكتاتور أيضا.
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي كانت تقلها معه، حيث كانت جالسة بجواره في الامام ، وفي طريقهم نحو المنتجع السياحي، لقضاء شهر العسل ، ليته كان كذلك بالفعل.
تراقب صمته وقيادته الناعمة للسيارة بهدوء يثير تعجبها، رغم صخبه والمزاح المبالغ فيه، حينما يقابله شخص ما يعرفه، او يقف بلجنة ما ويصادف برؤية احد اصدقاءه من أفراد الشرطة، فيُقابل التهاني والمباركات منهم، بالابتسام وسعادة يجيدها امامهم، حتى اذا اختفى الجمع واختلت به كما يحدث الاَن، ظلت ابصاره منصبة على مراقبة الطريق، لا يتلفت اليها الا للضرورة، يحدثها بكلمات محددة ومقتضبة.
برغم كل ما حدث منه بالأمس معها ، إلا انها تعطيه عذره، ولن تتوقف عن محاولاتها في القرب منه مرة اخرى، علُه في يوم ما، يعود اليها عصام القديم.
– عصام…… ممكن تنتبهلي ولو دقيقة.
هتفت منادية حتى تخرجه من حالة الوجوم التي تتلبسه، وكما توقعت جاءها الرد بعد برهة من الوقت .
– نعم يا امنية، عايزاني انتبهلك ازاي وانا بسوق؟
تبسمت بضعف تجيبه:
– والله دي حاجة سهلة اوي، ممكن تتكلم وانت بتسوق عادي، دا لو عايز تتكلم….. انا عايزة اسمع صوتك يا عصام، عايزة نتكلم مع بعض زي الاول ومنوقفش…. حتى لو هتفتح في الموضوع اياه…… انا قابلة.
رغم ترددها ، إلا انها ملكت الشجاعة لقولها، وهذا يحسب لها، ولكنه كان بحالة من الغليان المكتوم من اجلها، حتى لا يجرحها، وما دامت طلبت بنفسها، اذن فلتتحمل.
التف اليها بتنهيدة مثقلة قائلًا:
– ماشي يا امنية نتكلم ، انا بقى عايز اعرف منك، حصل كام مرة؟ والامر دا كان في الخطوبة بس؟ ولا قبل كمان؟
قطبت بعدم فهم في البداية، لكن سرعان ما وصلت لمقصده، لتتنحنح بحرج تجيبه:
– مش بالصورة اللي في دماغك يا عصام، انا مكنتش هبلة للدرجادي، هما كام مرة بس بعد الخطوبة، لكن قبل الخطوبة والله ما حصل .
التف برأسه عنها معقبا بضيق متعاظم:
– في الحالتين مش فارقة، ما دام حصل، وكذا مرة كمان .
زفر دخان من حريق صدره، حتى شعرت بسخونته وصل اليها، لتردد بضعف:
– والله ما حصل غير بعد ضغط منه، كان بيستغل اوي فرق السن ما بينا وعدم خبرتي.
– يعني محصلش مع اي حد تاني غيره؟
اجفلها بسؤاله، حتى ارتجفت بزعر تنفي:
– اقسم بالله ما حصل، حتى جيبلي المصحف احلف عليه.
قبض على مقود السيارة حتى كاد ان يكسره، ليعبر عن حسرته كازا على اسنانه بشدة :
– كان نفسي الإجابة دي تبقى شاملاه هو كمان، تبقى شاملة الجميع، وانا ساعتها وربي كنت هصدقك من غير حلفان، لكن انتي يا امنية…..
قطع بأنفاس لاهثة، يمنع نفسه على المواصلة، بعدما شعر، بيداها التي التفت حول ساعده العضلي، وتميل برأسها عليه تذرف الدموع بندم مرددة:
– وانا والله اكتر منك، كنت اتمنى ابقى اعقل من كدة، كنت اتمنى اشوفك من زمان، انا كنت في احتياج للحب من اي حد، حتى لو كان وهم زي اللي كنت عايشاه مع الزفت ده اللي ربنا يجازيه…
زادت من ضمه ذراعه بقوة لتردف برجاء:
– انا شبعت بحبك عن كل العالم، اوعى تسيبني ولا تتخلى عني، عاقبني زي ما انت عايز، بس متسبنيش لحالتي في الضياع من تاني يا عصام…… ارجوك.
لانت ملامحه برجاءها، ورق قلبه لها حتى تخلى عن جموده، ليربت بكفه على وجنتها مهونا:
– خلاص بطلي عياط، انا مكنتش عايز افتح في مواضيع اصلا، بس انتي اللي جبرتيني.
– عشان عايزاك تطلع اللي في قلبك يا عصام، تجرحني احسن ما تشيل في نفسك ، وعقلك يشتغل بالظنون.
قالتها بضعف ورغبة صادقة التمسها في نبرتها، ليميل على رأسها فجأة يخطف قبلة على جبهتها، قبل ان يعود لقيادته، مردفًا:
– ماشي يا امنيه، ريحي انتي دلوقتي ، لسة قدامنا كذا ساعة على ما نوصل.
لم تتخلي عن تشبثها بذراعه، بل زادت من قربها منه قائلة:
– انا راحتي في قربك يا عصام، هضرك لو انام على كتفك وانت بتسوق؟
رحب بابتسامة رائقة:
– لا طبعا مش هتضريني يا امنية ، اخري بس الكتف هينمل، لكن يا ستي ولا يهمك.
تبسمت بارتياح لتسند رأسها مستسلمة لنوم تنشده منذ الامس، وهو يواصل القيادة، بعقل هدأ قليلًا، او مؤقتًا، ليشعل المذياع على اغنيه هادئه لفيروز، تساهم في ترطيب الأجواء المشحونة الى حد ما .
أنا لحبيبي وحبيبي إلي
يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي
لا يعتب حدا ولا يزعل حدا
أنا لحبيبي وحبيبي إلي
حبيبي ندهلي قلي الشتي راح
رجعت اليمامة زهر التفاح
و أنا على بابي الندي والصباح
و بعيونك ربيعي نور وحلي
و ندهلي حبيبي جيت بلا سؤال
من نومي سرقني من راحة البال
أنا على دربو ودربو عالجمال
يا شمس المحبة حكايتنا أغزلي
❈-❈-❈
بيد مرتجفة صارت تقرأ البنود في العقد الذي امامها، بعدم تصديق، تدقق النظر في الاسم، علُه تشابه يحدث كثيرا، ولكن كيف هذا؟ من في العالم بهذا الاسم غيرها تلك الملعونة؟ لترفع ابصارها اليه ، فيلتقط نظرتها هو بتحدي، وكأنه ينتظرها.
– ايه يا لورا، ساعة بتقري في بنود العقد الجديد!
بغضب مكتوم تجاهد لعدم انفلات الامر من يدها:
– ما انا بصراحة مش مصدقة، إيه لازمة نقل عاملة من قسم الملابس، لموظفة على مكتب، ما احنا لو محتاجين ، في غيرها كتير يستاهل.
تبسم ببرود يجيده:
– اكيد طبعا في غيرها يا لورا ، الدنيا مليانة كفاءات، بس انا قررت نقلها ببنود العقد الجديد اللي قدامك.، إيه المشكلة عندك بقى؟
– يا فندم المشكلة مش عندي، انا بتكلم عن الكفاءة، احنا اساسا لو محتاجين نعمل اعلان وهيتقدم الافات، ليه بقى نبدل ونفتح علينا فاتحة من باقي العمال اللي هيغيروا منها اكيد؟
زاد اتساع ابتسامته في استفزازها، ليردف بحسم:
– انا اصدرت امري، وانتي عليك تنفذي اللي عليكي، اما بقى عن مشاكل ولا اي عوق تاني، ميخصكيش يا لورا، انا المسؤول عنها يا ستي.
افحمها عن المجادلة لترفع راية الاستسلام امامه، وتستأذن للانصراف حتى اذا وصلت الى مكتبها، لطمت بكفيها على سطحه، تضغط على اسنانها، مانعة نفسها بصعوبة عن الصراخ او تكسير اي شي امامها تعبيرا عن غضبها ، حتى اذا تمالكت بأسها اخيرا رفعت رأسها متمتمة داخلها بتوعد :
– انا لازم يكون لي صرفة المرة دي وبسرعة .
❈-❈-❈
استيقظت من نوم القيلولة على اثر حركة ما في غرفتها، وبجوارها على الفراش، حتى اذا فتحت عينيها صرخت مزعورة:
– انت مين يا راجل انت……
قطعت مجبرة حينما حطت الكف الغليظة التي تعلمها جيدا، مع صوت صاحبها وهو يحذرها:
– اسكتي يا ولية هتفضحبنا ، انتي ايييه؟ مجهزة نفسك ع الصريخ .
رفع كفه حينما شعر بارتخائها، وهذه النظرة المندهشة منها ، لتعقب بعدم تصديق لما تراه امامها:
– انت ايه اللي عامله في نفسك دا يا خميس؟
تبسم يمسح بكفيه على جانبي شعره بزهو مرددًا:
– ايه فاجأتك صح؟ بس ايه رأيك في النيولوك الجديد؟ لايق عليا؟
هدأت اخيرا من صدمتها لتردد رافعة طرف شفتها بنزق:
– هو ايه اللي لايق عليك؟ انت صبغت شعرك ولا عملت ايه بالظبط؟ انا حاسة ان فيك حاجة غريبة مش فاهماها.
افتر فاهه بابتسامة بعرض وجهه تظهر الصف الامامي لاسنانه بالكامل، وهو يجيبها بفرحة:
– صبغت وزرعت يا درية، مش بقولك نيولوك.
اهتزت رأسها باستفسار تنقل بابصارها نحو الصلعة التي تقلصت الى حد ما :
– زرعت فين؟ ما الصلعة موجودة لسة؟
– لا ما انا زرعت نصها، لسة الباقي هياخد كام يوم .
مالت رأسها للخلف تطالعه بريبة لهذه اللهفة:
– والشعر اللي زرعته ده جيبته منين؟ انت ضامن دا جايبنه من فين؟
ضحك بتفكه ومبالغة لم تستجيب لها وهو يخبرها بتفاخر:
– يا ولية مايبقاش ضميرك سو ، مفيش حاجة اتزرعت من برا ، جوزك كله خير، ولا انت ناسية اني عندي غزارة في الانتاج ، وسوء في التوزيع.
ختم بضحكاته رافعا ذراعه امامها، لتظل هي على صمتها وراسها الاجرامي يدور بالظنون، حتى صدر ردها اخيرا:
– مبروك يا خميس ، الف مبروك يا حبيبي، عقبال يارب ما تحصد اللي زرعته.
جاء رده بالضحكات:
– حلوة احصد دي.
– عجبتك؟
– ايوة عجبتني اوي .
– اممم.
زامت بالاخيرة بابتسامة صفراء واضعة كفها على وجنتها تسمع منه الأحاديث التافهة التي كالعادة يجيد تأليفها من خيال عقله، حينما يريد التغطية على شيء ما برأسه.
فهي تفهمه اكثر مما يفهم هو نفسه.
❈-❈-❈
بداخل مطبخها، بعدما عادت من عملها، تقف امام القدر التي تقلبه على النار ، وتستمع الى حديث شقيقتها:
– يا بهجة صدقيني، صوت الباب اللي سمعته وانا طالعة، دا صوت بابنا ، انا حاسة الست دى دخلت شقتنا .
التفت لها شقيقتها بسأم:
– للمرة التانية بتقولي نفس الكلام يا عائشة، ايه هيدخل بس الست دي بيتنا؟ ليها ايه عندنا؟ ثم ازاي كمان؟
دبت عائشة قدمها على الارض بيأس:
– انا بقولك ع اللي حاساه يا بهجة، وانت مش عايزة تصدقيني.
– عشان انا بتكلم بالمنطق يا قلبي .
قالتها ثم دنت تطبع قبلة على وجنتها، تضمها اليها بحنان:
– ياريت الشطارة دي والبحث نوفرهم للمذاكرة، مش التفكير في حاجات تضر.
اومأت بهز رأسها، رغم عدم اقتناعها ، لتخطف قبلة اخرى قبل ان تامرها :
– ياللا بقى خدي اطباق السلطة دي وحطيهم ع السفرة ، على ما أكون جهزت الاكل اللي في ايدي .
اذعنت تطيعها، وما كادت ان تخرج من المطبخ، حتى دوى صوت الهاتف ، لتتناوله، تجيب نفس الرقم الذي اجابت عنه سابقًا:
– الوو يا رياض باشا، فيه حاجة؟
وصلها صوت ضحكته ، ليردد بمرح:
، ليه يا بهجة؟ هو انا لازم يبقى في مصيبة عشان اكلمك .
تحمحمت بحرج، لتصمت لحظات حتى أتى ردها:
– انا اسفة حضرتك.
– مفيش داعي للأسف يا ستي،انا كنت بتصل عشان ابلغك ، بقرار التعيين الجديد، انا مضيته ومن بكرة تيجي تستلمي كموظفة.
رفرفرت اهدابها بعدم تصديق تجادله:
– مضيت امتى حضرتك؟ هو انت مش قولتلي فكري وخدي فرصتك.
– وقولت اني هنفذ برضو يا بهجة .
ختم بضحكة نادرا ما تصدر منه ، لتبرق عينيها بدهشة للتغير المفاجيء لهذا الرجل ، حتى اذا انتهت المكالمة، غمغمت متسائلة مع نفسها بعدم تصديق :
– دا ايه اصله ده ؟
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
كان لابد لها من تغيير هيئتها اليوم ، لتناسب الوضع الجديد، كما أن الموظفين ملزمين بحسن الهيئة بعيدا عن الملابس المخصصة للعاملين اثناء العمل، والتي كانت ترتدبها فور دخولها محل عملها، وخلعها للعباءة السمراء المريحة لها من جميع النواحي، بعيدًا عن التزين والأناقة فهي بالفعل لا تريد لفت الانظار اليها، وقد قررت منذ تحملها للمسؤلية، الا تدع شيئا ما يلهيها عن توفير لقمة العيش بعزة، ورعاية اشقائها وكفايتهم عن اي احتياج ، حتى وان لم تنجح في ذلك الا بعض الشيء ولكن يكفي السترة والاستغناء وعدم الاحتياج لأحد
اما الاَن وقد فرض عليها هذا الوضع الجديد، ولا يصح الا التغيير ، فقد ظهرت الان امامها المعضلة الكبرى في انتقاء الملبس المطلوب.
وقفت بحيرة امام خزانة ملابسها ، تتأمل محتوياته من ملابس قديمة وجديدة لها، تتأملهم وحيرة تفتك بها، ماذا ترتدي؟ ماذا ترتدي؟
ملابس الجامعة التي تركتها منذ سنوات مازالت تحتل جزئًا ليس بالهين داخل الخزانة، ولكن منها الضيق بعض الشيء، كما أنه عصري ويظهر عمرها صغيرا وهي لا تريد ذلك،لقد جربت احدهم بالأمس، والذي كان بنطال من الجينز وبلوزة محكمة الى حد ما، فنالت من اشقائها التهليل والإعجاب ، وكأنها لم تكن هذه ملابسها في يوما ما، وذلك على الرغم من انها كانت ترتدي بعض منها في اضيق الحدود
ضغطت بطرفي اصابعيها على جبهتها، متمتمة بيأس:
– وبعدين بقى؟ يعني يا اما صغير وعصري، يا اما كبير وواسع، وانا عايزة حاجة وسط، طب اروح بإيه بس يا ربي؟
وصلها ضحكة ساخرة من شقيقتها من خلفها معلقة بشفقة نحوها:
– انتي لسة برضو في حيرتك دي يا بهجة؟ يا لهوي عليا، امال لو رايحة حفلة يا بنتي، كنتي هتعملي ايه؟
ردت عنها عائشة، والتي كانت تلج لداخل الغرفة معها:
– مكنتش هتروح الحفلة اصلا؟
ختمت بضحكة تشاركتها مع جنات ، حتى هتفت هي بهما:
– انتو بتقولو فيها، طب والله طالعة في دماغي بجد مروحش النهاردة، واقعد من الشغل على ما ربنا يعدلها.
نفضت ذراعيها في الهواء لتسقط على جانب التخت القريب منها، مما جعل الفتاتين تكفان عن المزاح، مراعاة لحالة اليأس التي تتلبسها.
لتقترب منها جنات قائلة بدعم، وهي تحمل شيئًا ما تخبئه خلف ظهرها:
– بيبو يا روح قلبي، انا عارفة انك مكنتيش مستعدة للترقية ولا التغيير، بس انتي بقى، ليه تحزني نفسك؟ الموضوع مش بالصعوبة دي، هوني على نفسك ، دي وظيفة عادية، يعني اي لبس محتشم وجميل حلو عليها، مدام مفيش يونيفورم رسمي .
زفرت تطرد دفعة محملة بإحباطها :
– يا جنات افهمي، انا مش عايزة ابقى ملفتة زي باقي الموظفات اللي بينورو في القسم الاداري عندنا في المصنع، ولا عايزة ابقى مأفورة زي اللي اسمها لورا، انا عايزة حاجة بسيطة وناعمة، تناسب قعدتي ع المكتب وبس، على ما ربنا يسهل واعرف اشتريلي حاجة كويسة، الحمد لله في قرشين متشالين يأدو الغرض، بس دلوقتي هلبس ايه وانا مش مستعدة زي ما قولتي؟
تبادلت عائشة وشقيقتها الابتسام، لتقول بزهو لا يخلو من مزاح:
– بس انتي منورة لوحدك يا بيبة، نعملك ايه بقى لو لبسناكي ونورك لعلع، نوطي الفولت مثلا؟
هذه المرة استطاعت ان تضحكها معهما، فتخفف عنها التوتر، لتخرج لها جنات من خلف ظهرها، الشيء الذي كانت تخفيه:
– ودي يا ستي البلوزة بتاعتي اللي اشتريتها قريب. هنظبطها على جيبة مناسبة ونعمل بس شوية تغيير، بحيث تباني انيقة وسيمبل زي ما انتي عايزة.
طالعت بهجة القطعة امامها لتردف برفض:
– بس دي بلوزتك يا جنات اللي نقتيها بعد تعب، وقولتي انها مميزة .
– يا ستي ومالها يعني لو كانت مميزة؟ ما تغلاش على بيبو حبيبتنا، مع اني عارفة انها هتليق عليكي اكتر، بس ميهمش، انا هاخد التعويض المناسب واجيب واحدة غيرها لما نعمل جولة التسوق مع بعض، ولا ايه رأيك؟
– اه يا مستغلة.
قالتها بهجة مضيقة عينيها بتصنع الصدمة، لتردد شقيقتها بما يشبه الامر :
– انا فعلا مستغلة، وشرط عليكي كمان، هلفلك الطرحة بنفسي النهاردة واظبط وشك بحاجات خفيفة كدة ، بحيث انك تحضري اول يوم ع المكتب وانتي واخدة وضعك.
– امممم.
زامت بتفكير سريع، لتردف برأيها:
– ماشي، بس متزوديش على كريم عادي او اساس، ويبقى خفيف كمان عشان ميبانش اني متغيرة ولا حلوة.
شهقت جنات بدهشة، مرددة:
– حلوة! لا طبعا يا بيبو مينفعش نطلعك حلوة ولا بتنوري، هو احنا ناقصين سحب كهربا.
قالتها لتصدح صوت ضحكاتهن بمرح يتبادلن المزاح، والاستعداد لاداء مهمتهم.
❈-❈-❈
بعد قليل،
انتهت من لف الحجاب لها بطريقة عصرية، كما نفذت الشرط بوضع زينة الوجه، ببساطة لا تظهر، ومع ذلك بدت رائعة بصورة تشرح القلب، الالوان المبهجة للحجاب وما ترتديه من ملابس، حلت بها نقوش ضيفة باللون الاخضر انعكست على بشرتها الندية تزيدها بهاءً، فصارت مثالا حيًا للبهجة.
هذه اول مرة منذ فترة طويلة تتهندم بهذا الشكل، كل محاولاتها في السنوات السابقة ، كانت بعدم اهتمام، للتركيز في الأهم، اما الاَن…… فلا تعلم لما تكتنفها الرغبة القوية هكذا في التغير.
– قمر، اقسم بالله قمر ، ايه الحلاوة دي يا بيبو.
هذا كان رد فعل عائشة والتي كانت تتابع وضع اللمسات النهائية، بتثبيت الحجاب، لتلتف اليها سائلة بخجلها:
– يعني مش مزوداها ، انا حاسة نفسي متغيرة .
شهقت خلفها جنات باستهجان:
– حرام عليكي يا شيخة، وهو احنا عملنا حاجة اصلا؟ دا كله يدوب رتوش.
تفكهت عائشة بأعجابها:
– مش ذنبنا انك قمر يا بيبو ، نصيبك بقى.
بابتسامة مستترة لوحت بقبضتها كأنها ستضربها، قبل ان ترفع بصرها توزع نظرات الامتنان نحوهما، لتحسم وترفع حقيبتها متمتمة:
– عقبال يارب ما نفرح بخروج ايهاب كمان، ادعو لاخوكم بالشفا، وادعولي انا بالتوفيق.
– ربنا يوفقك يا بيبو وتبقى دي بداية الصعود في السلم الوظيفي .
– يارب .
تمتمت بها بهجة، رغم تشكهها، لسبب بسيط وهو ان شهادتها المتوسطة؛ لا تؤهلها لذلك.
❈-❈-❈
حينما خرجت من المنزل، وفور ان اغلقت الباب، اصطدمت عيناها بابن عمها، وقد كان خارج من منزل عائلته في الطابق اسفلهم، يعطي زوجته شيئا ما، قبل ان يغادر، لتجحظ عيناه برهبة، حتى سقط ما كان بيده ، ليصدر صوت التذمر من زوجته مرافقًا لهبوط بهجة الدرج:
– وقعت المفاتيح يا سمير، هنزل ازاي ببطني دي ع الارض واجيبهم؟ اتفضل هاتهم انت بقى.
ظل على جموده، غير منتبه لثرثرتها، حتى خطت بهجة بجواره تتخطاه، فدارت رأسه معها كدوار الشمس حين يتتبع شعاعها، لتصدر صيحة زوجته بعد فترة من صمت:
– روح يا سمير، الهي رقبتك تفضل كدة معووجة وما تتعدل ابدا.
استفاق من نشوته، ليعود اليها مرددا بعدم تصديق:
– انتي بتدعي عليا انا يا اسراء؟
– ايوة بدعي عليك يا سمير، وهصرخ بالصوت الحياني كمان يمكن تحس على دمك وتفهم.
صرخت بقهر، وقد فاض بها ومن افعاله، اما هو فقد انتفض مجفلا خوفا من سماع الجيران، ليدفعها ويلج بها داخل المنزل، يغلقه عليهما، ويتشاجر معها.
بهجة والتي وصلها الصوت، توقفت فجأة تلقي خلفها بنظرة أسى لحال الزوجة، ثم تنهدت بثقل لتخرج وتغادر البناية التي اصبحت تكرهها منذ زمن بسببهم .
وكما توقعتا شقيقتيها، سارت بهجة تلفت ابصار الجميع نحوها من كل اهل منطقتها بإعجاب واضح وهمهمات تصلها من الشباب التي لا تخفي انبهارها، حتى تسلل التوجس داخلها، تتسائل مع نفسها:
– هي الناس دي محسساني ليه اني كنت معفنة.
وفي الشرفة أعلاها ، كانت ابنة عمها سامية تتابع الجلبة التي تحدثها بمرورها في المنطقة، متجاهلة الشجار العالي من داخل منزلهم ، وصوت والدتها التي انضمت من اجل التخفيف بينهم، فقد بدا جليًا ان الزوجة قد فاض بها, وسمير كالعادة يصدمها بجفائه وعدم اكتراثه، لتزداد شحونة الأجواء، وتلك الواقفة بالشرفة لا يشغلها سوى التركيز في تلك الملعونة التي تسرق العيون رغم ارتدائها لتلك البلوزة ملك شقيقتها ، فتغمغم هي بضجر:
– يعني انا مكنتش طايقاها على جنات ومستخسراها في واحدة زيها، عشان تيجي تلبسيها انتي يا ست بهجة وكأنها متفصلة لجنابك، دا ايه الحظوظ دي بس؟!
اصدرت صوت مصمصة من شفتيها وقد ذهبت ابصارها نحو شقيقها والذي تسمر هو الاخر كالجميع على باب وكالتهم، ناسيًا زبائنه، لتغمغم بحنق:
– ياكش تكون عملالك عمل انت التاني، جتك خيبة انت والاهطل الكبير.
– طلقنى يا سمير.
صرخة صدرت من الداخل، اجبرتها لترك الشرفة والذهاب نحو الشجار المحتدم، لتجد شقيقها هذه المرة متجمدًا لوقع المفاجأة، اما درية والتي كانت ممسكة بهذه المنهارة:
– صلي ع النبي يا اسراء وبطلي عبط ، انتي اتهبلتي في مخك ولا جرالك ايه بس؟
وبرد فعل غير متوقع، دفعتها عنها بعنف وكأنها قد فقدت صوابها:
– انا برضو اللي اتهبلت؟ ولا ابنك اللي شال من جلده حتة الاحساس، دا بقى عامل زي الحيطة اللي واقف وراها ، لو جرحتي فيها بالسكين حتى عمرها ما تتكلم ، عشان مش بتحس، لا وعاملي فيها حبيب وبيبكي ع الاطلال، ياخي اتنيل هو انت تعرف تفكر غير في نفسك ، عامل زي العيل الصغير اللي شالو عنه لعبته الحلوة، قاعد يزن ويفرك، هيموت عشان ترجعله من تاني، ما انت لو كنت تستاهلها بجد مكنتش راحت منك اصلا .
صدرت الاخيرة بصرخة موجهة نحوه ، فكان الرد منه على الفور بلطمة قوية على وجنتها شهقت على اثرها والدته وشقيقته التي وضعت يدها على فمها بصدمة، والمسكينة التي تلقت اللطمة، من هول ما يحدث معها تجمدت محلها دون اي رد فعل ، تتطلع له بعيناها فقط، حتى دموع مقلتيها توقف سيلها، وكأنها ابت الخنوع او الضعف امامه.
❈-❈-❈
على مائدة الطعام وقد اجتمع جميع افرادها اليوم في تناول وجبة الإفطار مع مجيدة التي اصرت على أبنائها وزوجاتهم مشاركتها اليوم، برغبة منها تود تكرارها كل يوم ، ولكن قليلا ما يحدث، نظرا لانشغالهم الدائم كلٌ فيما يخصه او ما يعمل به:
– يا خويا انتبه على اكلك، سيب البت تعرف تاكل براحتها.
هتفت بها نحو ابنها الأصغر والذي عبس بوجهه يهم يالاعتراض ، عكس زوجته التي تلقفت كلماتها بترحيب:
– قوليلو يا ماما، دا محسسني انى مجوعة ابنه جوا بطني.
رد هو بدفاعية:
– بييجي كلامها اوي على هواكي، عشان عارفة انها دايما بتغطي عليكي، لكن تفتكري انتي تعليمات الدكتور لما قالك ان حالتك خاصة، بعد اللي حصل، واهتمامك بتغذيتك وتغذية الطفل يبقى اهم اولوياتك طول شهور الحمل لااا، عشان خايفة تتتخني ولا شكلك يتبهدل، مع الراحة وعدم الشغل، انا فاهمك.
فغرت فاهها باستهجان قائلة بصدمة:
– نهار اسود عليا وعلى سنيني ، دي كانت جملة وغلطت بيها قدامك الشهر اللي فات يا حسن، لساك فاكرها وشيلهالي ف دماغك؟
اشار بسبابته على جانب رأسه بتصميم لها:
– عمري ما اسهو عن اي جملة خرجت منك يا شهد، انا مركز معاكي اوي، ويلا كلي اللي قدامك بلاش دلع.
زفرت بيأس منه، امام ضحكات الثلاثة المراقبين لهم، لتعلق والدته:
– عشان تتعلمي يا خايبة، وتربطي لسانك ده ما يزلف قدامه بأي حاجة يمسكها عليكي، دا ابني وانا عارفاه زنان .
تدخل امين هو الاخر:
– يا عم انت كمان، بتدقق ع البنية الغلباتة، امال لو معاك فرقع لوز اللي معايا كنت عملت ايه؟
– انا فرقع لوز يا امين؟
شهقت بها لينا بصدمة هي الأخرى، لتهادنها مجيدة بتسلية متفكهة:
– لا يا حبيبتي انتي مش فرقع لوز ولا حاجة، دا هو اللي مش قادر يفهم لحد دلوقتي انه متجوز اللهلوبة هههه.
تمتمت بها لتصدح الضحكات، حتى لينا هي الأخرى تبسمت بخجل، حتى اذا هدأت ضحكاتهم، توجهت مجيدة نحو شهد بسؤالها:
– قوليلي يا شهودة، اخبار العرايس ايه؟
اتصلتي باختك واطمنتي عليها ؟
اومأت تجيبها بإشراق:
– الحمد لله ، امنية بتشكر في عصام وبتقول فيه كلام حلو اوي، ربنا يبارك فيه ، انسان اخلاقه عالية اوي .
– مش صاحب ابني، يبقى لازم تبقى اخلاقه عاليه طبعا.
قالتها مجيدة بزهو بإشارة نحو امين الذي دفعه الفضول للتساؤل:
– يعني حالهم كويس ومبسوطين مع بعض يا شهد؟
ردت بدهشة :
– ايوة يا امين، ما هي بتشكر فيه، يعني اكيد مبسوطين.
– ربنا يديمها عليهم يارب.
قالها بتمنى من القلب، وبداخله يتردد السؤال:
– طب ولما هو مبسوط وعال العال، ماله بقى المجنون ده، كان متغير ليه بس؟
❈-❈-❈
استيقظت من نومها على اثر هزة خفيفة بالفراش اهتز لها جسدها، لتفتح عيناها مجفلة، فتجد وجهه مطلا عليها من علو ، حيث كان متكئًا على مرفقه بجوارها، يبدو وكأنه كان يراقبها منذ فترة.
لتستدرك وضعها وهذه البرودة الطفيفة التي تلامس بشرتها، وبرد فعل غريزي شدت عليها الملاءة كي تغطي بها حتى نصف رقبتها، لتثير على ثغره ابتسامة، مع مخاطبته بجدية يغمرها الارتباك:
– شكلك صاحي من بدري، طب مصحتنيش ليه؟
بلطف شديد دنى يقطف من ثغرها قبلة سريعة، قائلا بتغزل:
– كان عاجبني ابصلك وانتي نايمة يا ستي، لو حاسس بجوع أكيد كنت هدور ع الاكل ، مش لازم اصحيكي يعني، بس انا بقى شبعان ، وشبعان اوي كمان.
قالها بمغزى فهمت عليه، من طريقته نحوها، لتغزو السخونة وجنتيها ، وتسبل اهدابها عنه بخجل شديد، بتذكرها ليلة الامس، ومشاعر العشق التي اكتسحها بها، بعيدًا عن اي افكار سوداء تعكر صفو علاقتهم الزوجية الوليدة، تتمنى لو يدوم ذلك.
حمحمة بخشونة صدرت منه ليسرق انتباهها بقوله:
– لا بقولك ايه، احنا من امبارح مخرجناش من اوضتنا، كدة الوقت هيسرقنا وهننسى حتى نتفسح ولا نشوف معالم البلد، قومي يا امنية عشان انا اصلا بتلكك وربنا ع القعاد.
نهض بالفعل يجبر قدميه على الوقوف بعيدا عن الفراش ، فحاولت هي ايضًا التغلب على كسلها، لتنهض بجذعها بصعوبة وهي تلملم الغطاء حولها، امام نظراته المتفرسة لها، لتخاطبه برجاء:
– طيب ممكن تكمل انت وتسبقني على ما أقوم أنا وأدخل الحمام، ممكن؟
اهتزت رأسه بنفي غير متوقع، ليسقط فجأة على الفراش بجوارها عائدًا اليها:
– انا بقول نأجل الخروج شوية، اليوم لسة في بدايته مش هيطير يعني.
اجفلت بخجل شديد وهي تجده يندس معها اسفل الغطاء الذي جذبه على حين غفلة منها، لتردد بتساؤول:
– عصام انت اكيد بتهزر….
قطعت بشهقة خافتة هذه المرة، قبل ان يوقف هو كل استفسار لها يبتلعه بجوفه، ليأخذها بجولة اخرى من جولات العشق بينهم، ينسى العالم وينسى نفسه في عالمهم الخاص بهما وحدهما، بعيدا عن اي ضغوطات وتأويلات العقل التي لا تنتهي.
❈-❈-❈
وفي مقر عملها الذي دلفت اليه للتو، يتكرر نفس السيناريو الذي يحدث معها من وقت خروجها من المنزل، عمال تعرفهم وآخرين لا تعرفهم، تتركز أبصارهم بها وكأنها المرأة الوحيدة التي تمر امامهم، فتزداد هي توجسًا داخلها:
– حتى انتو كمان، انا كدة كنت معفنة بجد بقى!
– بهجة، ايه الحلاوة دي يا بت؟
كان هذا صوت رئيستها في القسم السابق والتي هرولت اليها فور ان رأتها، لتتلقف هي لقاءها بها كالنجدة لها؛
– ست الريسة، هو انا لدجادي متغيرة؟
تقدمت منها لتخطف قبلة من وجنتها قائلة:
– انتي مش متغيرة يا بت، انتي واخدة وضعك الطبيعي اللي اتخلقتي بيه، حمد الله ع السلامة يا بهجة القمر.
ابتسامة بضعف لاحت على جانب شفتيها، في رد على تغزل المرأة، والذي رسخ برأسها نفس الفكرة:
– تشكري يا ريسة دى عينك هي اللي حلوة، بقولك…. انتي هتيجي معايا دلوقتي ع المكان الجديد بتاعي في الشركة هنا، ع الاقل تشجعيني.
ضحكت صباح ساخرة:
-،اشجعك على ايه يا منيلة؟ دا مجرد نقل، ثم كمان الاستاذ عبد الفضيل مفيش اغلب منه، راجل كبير ، وقايم بشغل المصنع بقالوا سنين، حركي رجلك واستعيني بالله، وانا هحصلك بعد شوية كدة مع البنات، اجيبهم ونباركلك ع الموقع الجديد ، عقبالنا يارب، لما نطلع كدة للدورالتالت.
تبعتها تتمتم بالادعية لتتخذ طريقها نحو الجهة الاخرى الخاصة بدرج الطابق الثاني والمصعد، لتتوقف امام الاخير في انتظاره، حتى اذا هبطت وخرج فردان من الموظفين لتدلف هي سريعًا وقبل ان يصعد بها، تفاجأت يمن ينضم معها وقد كانت تلك المتعجرفة، بنظارتها التي لم تخلعها بعد، مشغولة في النظر بهاتفها ، فلم تنتبه سوى بعد برهة، لتقع عينيها على بهجة، فتقيمها بتجهم اثار القشعريرة بقلب المسكينة، والتي حاولت تلطف رغم عدم ارتياحها:
– صباح الخير يا أنسة لورا.
خرج الرد من تحت اسنانها:
– صباح الخير، ما انتي خلاص عرفتي انسانسير الموظفين.
كتمت بهجة زفرتها لترفع ذقنها للامام باعتزاز في رد لها:
– مش بقيت موظفة يا فندم، يبقى اكيد الكام دور دول مش هطلعهم على رجلي.
– اممم.
زامت بها بنظرة مقللة، ثم قالت بضيق:
– طب يا سيادة الموظفة الجديدة، حاولي بس تبقي قد الحدث، عشان اللبس اللي لابساه باين من اولها كدة انه بيئة .
قالتها وانفتح باب المصعد ، لترميها بشبه ابتسامة ساخرة، ثم تخرج من امامها تتمايل بخطواتها بزهو، لتتبعها بهجة ولكن بخطوات متأنية مثقلة، تغمغم بهمس مع ذاتها:
– روحي يا بعيدة، الهي يسد نفسك زي ما سديتي نفسي من اولها كدة، اووف عليكي دا انتي عقربة……
❈-❈-❈
ابلت بلاءًا جيدًا في اول يوم عمل لها بمكتب شئون العاملين والذي لا يحتوي سوى على ثلاثة موظفين، رجل كبير بالعمر هو رئيسهم، يدعي عبد الفضيل، وامرأتان ، تعملان معه منذ زمن، يبدو من حديثهم الدائم، اندماجهما التام لدرجة عدم اخفاء احداهما ضيقها لوجود موظفة جديدة تشاركهم الغرفة، وهذا ما كان يظهر بوضوح مع تعليقاتها المبطنة نحو بهجة:
– عارفة تخلصي شغلك ع الكمبيوتر، ولا حاسة بحاجة معصلجة معاكي؟ انا مقدرة ان الشغل هنا مختلف خالص عن شغل المكنة تحت.
من نبرتها الملتوية علمت جيدا بهجة بمقصدها، ليأتي ردها المفحم:
– تسلمي يا مدام سناء، بس انا والحمد لله دارسة، القوانين وعارفة كويس اشتغل ع الكمبيوتر، يعني الشغل هنا اسهل بكتير من القعدة ع المكنة، مع اني والله اشتقتلها من دلوقتي.
– اممم.
زامت بها المدعوة سناء لتغلق فمها وتعود لما تعمل عليه، ف انتقلت ابصار بهجة نحو الأخرى، الانسة حكمت والتي تبسمت بمودة لها محفزة:
– برافو عليكي يا بهجة ، انا بحب اوي البنات المكافحة اللي زيك.
قولها اللطيف خفف على بهجة مع تلك النظرات المحبة من العم عبد الفضيل ، الصامت دائمًا، فلا يتحدث الا قليلًا، ولكنه يبث الطمأنينة بقلب من يرافقه، بدفء طيبته.
ولكن هذا الهدوء المبالغ فيه، لم تعتاد عليه بهجة، تفتقد صحبتها مع الفتيات بالأسفل وتباسطهم في الحديث البريء والجريء في ان واحد، صداقة مرت عليها سنوات، شغفها في اخراج القطع الجميلة من القماش لاشياء جميلة يرتديها الكبار والصغار، عكس ما تدونه على هذا الحاسوب ، من بيانات واحصاءات تثير الصداع في بعض الاحيان.
نفخت بملل وهي تتلاعب بازرار الحاسوب بعدما انتهت من معظم العمل المطلوب منها، تحصي الساعات والدقائق المتبقية في انتظار انتهاء اليوم الاول في هذا العمل الممل بحق.
– مساء الخير عليكم، الموظفة الجديدة بهجة هنا عندكم؟
هتفت احدى الفتيات مع اخريات زميلاتها في العمل القديم، ليهللن فجأة برؤيتها فهبت هي واقفة للترحيب بهم، لتحدث حالة من الهرج والصخب.
– يا حلاوة يا ولاد، ايه يا بت الحلاوة دي.
– مبروك يا بهجة قعدتك ع المكتب، عقبالنا يارب.
– الله يبارك فيكي، عقبالكم يا ختي.
– عم عبد الفضيل ينفع توظفني معاها؟
تبسم الرجل الكبير بخجل من جرأة الفتاة، دون ان يرد كعادته، مما استفز المدعوة سناء .
– من فضلكم، بلاش الصوت العالي ولا الشوشرة ، دا قسم اداري، يعني احنا معندناش كده، أنا مقدرش اشتغل ع الصوت العالي ولا الصداع، عايزين نخلص اللي في ايدينا .
شهقت احداهن بالعلكة بفمها تود تقريع المرأة المتكبرة، ولكن بهجة لحقت بذكائها لتمنع الجدال من اوله:
– معلش يا مدام سناء، انا هاخدهم واخرج بيهم، عشان منزعجكيش، كملي انتي شغلك.
رمقها العم عبد الفضيل بتقدير لرجاحة عقلها في رأب الصدع من اوله، قبل ان يلتف بنظرة عاتبة نحو الأخرى.
لتخرج بهجة بزميلاتها في الرواق ، فيتبادلن معها المزاح بحرية حتى انضم لهما عدد اخر من بينهم كان زميلها تميم والذي عبر عن حزنه في انتقالها الى هنا، رغم فرحته لترقيتها ، وهي كالعادة ترد برقة، كما تفعل مع الجميع، فمرت لحظات من المزاح وتبادل الأحاديث مع تهنئتها للمنصب الجديد. قبل ان ينقلب كل ذلك مع مجيء هذه المتعجرفة وهتافها بازدراء نحوهم:
– ايه ده؟ ايه ده؟ دا بقى فرح مش قسم محترم، انت يا عامل انت وهي، سايبين شغلكم وجايين هنا القسم الاداري عاملينها زيطة، انا لازم اشوف شغلي معاكم.
– لو سمحتي يا انسة يا لورا، محدش فيهم عمل حاجة غلط عشان تحاسبيهم، دول جايين يباركولي.
هتفت بها بهجة بانفعال في رد لها، لتلتقط هي فرصتها في اهانتها امامهم:
– يا ما شاء الله يا ست بهجة، ما كانو يعملولك فرح احسن، بقى كل ده عشان قعدتي على مكتب، دا كدة يبقى المكنة اولى بيكي بقى.
صدرت بعض الهمهمات الغاضبة امام صدمة بهجة التي تلجمت لحظات قبل ان تستفيق على اعتراض تميم الذي وجه غضبه نحو تلك المتعجرفة:
– والله هو فعلا اولي بيها، ع الاقل مش هتشوف هناك اشكال بتتكبر على خلق الله زي ما بيحصل هنا.
برقت عيني لورا بإجفال، لتصيح به موبخة:
– انا متكبرة يا زفت انت؟ طب انا هوريك بقى المتكبرة دي بتعمل ايه مع واحد زيك .
– اعملي حضرتك، الرزق على الله مش بإيدك
صدر الرد القوي منه، ليحتدم بينهما شجار بالكلمات فيتدخل بعض العمال مثل صباح التي كانت تحاول التهدئة، وبهجة التي انتابها الخوف على قطع رزقه، لتأتي الصيحة الجهورية توقف جميع الألسنة،
– ايه اللي بيحصل هنا؟ وليه جمع العمال دا كله؟
توزعت عيناه بينهم حتى وقعت ابصاره على تلك البهجة، التي تميزت من وسطهم، لا تقوى على رفع عينها نحوه، حتى قالت بحرج:
– انا اسفة يا فندم بس دول زملائي، وكانوا جايين يهنوني.
توسعت عينيه بذهول في النظر اليها، وتصلب جسده بعدم تصديق، لهذه الهيئة الجديدة وقد بدت وسط المجموعة كزهرة متفتحة باختلاف جذري عنهم، وهذه الرقة في الرد عليه شتت ذهنه عن سبب مجيئه من الأساس.
ولكن انقشع السحر فور ان وقعت عينيه على هذا المدعو تميم، وحديث لورا في الإشارة عليه وعلى زملائه:
– رياض باشا، تعالي شوف بنفسك المجموعة اللي عاملة ازعاج دي، وانا بس عشان اتكلمت، الولد ده بيقل ادبه عليا .
مالت رأسه نحو المذكور بشر مرددًا:
– بيقل أدبه !
تدخلت بهجة بدفاعية نحو الشاب :
– لا والله حضرتك، هو بس بيدافع عني وعن الزملا بعد الأنسة لورا ما جات زعقت فينا من غير سبب.
تميم انسان في منتهى الاحترام وعمره ما يقل أدبه على حد.
كز على اسنانه وهو يبصرها بحنق شديد ، يود لو يكتم على هذا الفم، ويغلقه عن التفوه بحرف واحد آخر بالدفاع عن هذا التميم ، والذي يود ان يقتله الان بسببها.
❈-❈-❈
اجتمعتا الاثنتان بمكتبه، فتحدثت لورا تصب على بهجة وزملائها اللوم والتصرف بعدم مسؤلية في اول يوم عمل لها، لتثقل عليها بطريقتها الفجة، في اظهار دنوها وعدم نفعها في وظيفة كهذه ، لتظل هي على صمتها، في انتظار دورها، حتى اذا انتهت لورا، اصدر امره هو:
– خلاص يا لورا روحي انتي شوفي شغلك .
– طب وهي؟
تسائلت مشيرة بالإبهام نحو بهجة، ليجيبها هو ببساطة:
– هي هسمعلها زي ما سمعتلك.
بدا الاعتراض جليا على ملامحها، رغم مجاهدتها لعدم اغضابه:
– ايوة يا فندم، بس احنا اتكلمنا وقولنا كتير بما فيه الكفاية، هترغي وتقول في ايه تاني.
تبسم بهدوء يكاد ان يجلطها:
– انا عندى مرارة اسمع اكتر يا لورا ، روحي انتي شوفي شغلك، واما اعوزك هطلبك.
اضطرت بصعوبة ان تذعن لامره ، لتضرب بقدمها على الارض فور ان استدارت بغضب متعاظم، تحجم نفسها بصعوبة عن الفتك بهذا الملعونة .
اما بهجة والتي اصابها اليأس مما حدث، فخرج صوتها فور مغادرة الأخرى:
– رياض باشا انا بقول ارجع لشغلي الاساسي زي الاول ، منعًا للمشاكل مرة تانية، بس ارجوك متأذيش اي حد من زملائي، دول جم يهنوني بحسن نية.
مالت رأسه في النظر اليها بتهكم، مشبكا اصابع كفيه ببعضهما، يظهر جمودًا نحوها، كي يخفي ما يعتريه من مشاعر في رؤيتها بهذه الهيئة المختلفة اليوم،
كلمة جميلة تجحف حقها، انها حقا فاتنة، وبصورة لافتة حتى لضعيف النظر، قدر صغير من الاهتمام مع ارتداء ملابس مبهجة بالوان ناسبت الخضار الصافي بعينيها يكاد ان يفقده صوابه،
– رياض باشا انا بكلمك .
– هو عاد فيها باشا ولا رياض حتى .
تمتم بها بداخله، قبل ان يتحمحم يجلي حلقه:
– اتكلمي يا بهجة انا عايز اسمعك، قولي اللي حصل وانا بعدها هبقى اقرر ان كنتي تستمري في الشغل هنا ولا لأ.
– تمام يا فندم.
❈-❈-❈
لم يفهم كلمة مما قالت، وكيف له التركيز؟ وقد تشتت عقله ما بين طلتها الجديدة التي تسلب العقل رغم بساطتها، وما بين تذكره لما حدث ورأه بنفسه منذ دقائق، هذه الفتاة ستفقده عقله، نعم هذا اقرب تخمين له.
نفض رأسه، يجليها من الأفكار المتخبطة، ليلطم بكفه على سطح المكتب، يوقف استرسالها عله بالنقاش قد يستعيد التركيز،
– ثواني بس عشان متوهش منك، من البداية كدة ، انتي ليه مسمعتيش كلامها لما قالتلك اصرفيهم؟
تطلعت اليه بعدم استيعاب قائلة:
– امال انا بحكيلك في ايه يا فندم بقالي ساعة؟ هما اساسا كانو مستيني عشان اصرفهم، دي ناس عارفة شغلها كويس واللي مستنيها، هي اللي كانت قاصدة بقى تحرجني قدامهم من غير ما اعملها اي حاجة والله، مش فاهمة انا هي بتعمل معايا كدة ليه؟
صمت قليلًا يحدق بهذه الحمقاء التي لم تفهم حتى الاَن سبب كره الأخرى لها، ليزفر داخله بحنق تاركًا كل ما اسهبت به يجفلها بمطلبه:
– بهجة ممكن متجيش الشغل تاني بالبلوزة اللي انتي لابساها دي.
زعرت تنزل بعيناها نحو ما ترتديه، تتسائل بحرج:
– ليه يا فندم؟ هي بلوزتي فيها حاجة وحشة، دي حتى جديدة والله.
ردد بعصبية نافيا:
– مفيهاش حاجة وحشة يا بهجة، انا شايف انك تيجي بحاجة رسمية اكتر من كدة، وياريت لو غوامق افضل يعني، ممكن؟
اومأت بضعف وقد كسى الحزن ملامحها الشفافة، لتزيد من ثقل ما يكتنفه من الداخل، تظنه يقلل منها، ولا تعرف بما يعتريه من عواصف وبراكين تتقاذف بالشرر تحرقه كلما تذكر تحديق الجميع بها، وبهيئتها المبهجة تلك بصورة تزعجه وبشدة.
– بهجة متفهمنيش غلط ، انا مش قصدي خالص اللي في دماغك على فكرة.
ردت بغصة مما تأصل بذهنها:
– انا فاهمة ومش محتاج تبرر يا فندم، يبقى كدة لورا كان عندها حق وانا اللي مصدقتش بقى لما قالتلي انها بيئة ومتصلحش للشغل…….
سمع منها ليقاطعها بحدة، وقد فاض به منها:
– لأ مش بيئة يا بهجة، بل بالعكس ، هي حلوة وحلوة اوي كمان، هو انتي معندكيش مرايات في بيتكم.
اجفلها بصيحته، لتهتز بوقفتها بارتباك يلفها، فلا تدري ان كان تغزل او انفعال بها، لتسبهل اهدابها عنه بخجل، انتبه له هو ليتدارك نفسه، فيسرع بالتصحيح، قصدي ان يبقى عندك ثقة في نفسك يا بهجة.
انا لما مضيت على عقدك كموظفة ادارية عندنا، دا لانك انتى قدها واكتر كمان لما تحاولي تطوري من نفسك، عشان تاخدي مكانتك اللي تستحقيها.
ارتخت ملامحها ببعض الارتياح لقوله ، لترفع ابصارها مرة اخرى اليه تخاطبه بامتنان :
– انا بصراحة مش عارفة اقولك ايه؟ كلامك دا حضرتك بيصحي جوايا احلام كنت دفنتها في الكام سنة اللي فاتو.
– متقوليش حاجة يا بهجة، انتي فكري وارجعي لشخصيتك اللي راحت منك من تاني.
بزغت ابتسامة مفاجئة على طرف شفتيها معلقة:
– شخصيتي اللي راحت كانت ضعيفة حضرتك، يعني مينفعش ارجعلها اساسًا.
– خلاص يبقى ارجعي لحلمك واعرفي وضعك كويس، اللي عايز تطور ميفضلش متبت ع اللي تحت.
قالها بقصد لم يعجبها لترفع رأسها باعتراض له :
– بس دول زملائي اللي عشت معاهم سنين، مينفعش اتخلى ولا اشوف نفسي عليهم، دا انا ابقى قليلة اصل .
تأثر بغضبها، ولكنه احتفظ بجموده ف الرد نحوها:
– يعني عايزة مني دلوقتي يا بهجة؟ اعطيهم مكافأة بعد ما قلو ادبهم على مديرة مكتبي؟
جحظت عينيها باتساع نافيه:
– حضرتك دي هي اللي دخلت فيهم شمال، وتميم يدوب كان بيرد عليها.
– تاني تميم؟
صدرت منه ضاربا بكف يده على سطح المكتب بتعصب، اوقع بعض الملفات والأوراق على الارض بسببه، لتتلجم هي بصدمة ، جعلته يزداد غضبا بداخله،
ولكنه حاول التحكم في انفعاله، لينهض عن مكتبه تاركًا كل الفوضى، ليقف مقابلها، ثم تفوه بصوت بنبرة متغيرة:
– ممكن يا بهجة تخلي بالك من كلامك معايا، ومتجبيش سيرة أي حد قدامي .
حديثه بهذا القرب والنبرة المختلفة، وتلك النظرة التي تشبه الرجاء، حينما التقت خضرواتيها ببندقيتيه، وحديث دار بينهما في لحظات لم تشعر بها، ان كانت طالت او قصرت، ترى ما تفسير ذلك؟
هل هو….. تبًا.
نفضت رأسها تزيح بوجهها للأسفل عنه، تقطع ذاك التواصل البصري بينهما، ترفض الفكرة من الأساس، لانه لا يصح ، أبدا لا يصح.
– حضرتك انا عايزة امشي دلوقتي وانا مطمنة، ارجو متعملش حاجة تاني لزملائي لو أمكن.
وصلها صوت زفرته القوية، قبل ان يعود مرة اخرى لمكتبه، يرضيها بقوله:
– ماشي يا بهجة اطمني، بس ارجو ميتكررش تاني اللي حصل .
اومأت بهزة من رأسها، دون ان ترفع عيناها اليه ، لتستأذن في الانصراف، تتبعها نظراته حتى اغلقت الباب خلفها، يسحب شهيقًا قويا بداخله ثم يخرجه بحالة من التشتت، لا يدري ما هي، يفعل اشياء دون ارادته، وهو الذي ظل لفترة طويلة من عمره المتحكم المسيطر ، باتخاذ البرود والجمود واجهة تمكنه من ذلك .
كيف لفتاة مثلها ان تذيب الجليد بأقل فعل منها ، بل بنظرة واحدة قادرة ان تفقده صوابه، كما حدث منذ قليل، لقد كبح بصعوبة ذراعيه عن ضمها اليه، وعن ثغره….. في تقبيلها .
يبدوا انه في مأزق لم يحسب له حسابا.
❈-❈-❈
خربتها وقعدت على تلها، ياكش تكون استريحت يا حيلة امك.
هتف بها خميس بتوبيخ نحو اكبر أبنائه، فصدر رد زوجته باعتراض؛
– وايه دخل امه بقى يا سي خميس؟ كنت انا اللي مشيتها مثلا؟
تشدق بعصبية:
– لا يا درية بس كان لازم توقفيها، تجبري ابنك الاهطل ده ياخد بخاطرها، بدل ما البت خدتها من قاصرها المرة دي ووصلت الموضوع لأهلها، اهي وسعت والبت اخدها اخوها اللي مكدبش خبر هو التاني ، يعجبك كدة؟
مصمصت بشفتيها ، تردف باستهجان ردا له:
– ما هو لو لقى الكبير، كان عمل حسابه وراعى الاصول، لكن انت بقى راجل مش فاضي ، محدش يلومك يا اخويا.
قالتها بإشارة نحو اهتمامه بهيئته الجديدة واختفاءه بالساعات في عيادة الطبيب لتكملة المتبقي لزرع الشعر بالصلعة الكبيرة وسط رأسه
– شوف الولية .
تمتم بها بغيظ يكتمه، ليقارعها بطريقته:
– واسم النبي حارسه ابنك كان عيل صغير بقى يا ستى ومحتاج اللي يتصدرله، ممنعهوش هو ليه بقى؟ ها يا سي سمير ، ممنعتش نسيبك إنه ياخد اخته ليه؟
حينما توجه بالاخيرة نحو ابنه الذي اجاب بعنجهية يصب اللوم عليها:
– ما هو نفسه كان جاي متحمل، وكأنه كان مستنيها، بت الجزمة شكلها كانت معبياه عليا من زمان.
– من حقها يا سمير .
تدخل بها سامر يواصل نحو شقيقه:
– البت من ساعة ما اتجوزتك وهي شايلة ومعبية وساكته، كتر الضغط يولد الانفجار، وهي جابت اخرها منك ومن عمايلك .
احتقن المذكور وانتفخت اوداجه بعدم احتمال هاتفًا بشقيقه:
– اتلم يا سامر ، انا مش ناقص تناحتك انت كمان، يا إما وعهد الله لا اكون مطلع عليك غلب اليوم كله.
– طب قوم وريني يا حبيبي، ولا انت مقدرتش ع الحمار جاي تتشطر ع البردعة؟
هتف بها الاخر يستفز شقيقه، والذي زمجر في استعداد لخوض الشجار بالفعل، لتأتي صيحة والدهم الغاضب نحوهم بلطمة قوية على سطح الطاولة امامه؛
– نفس تاني هيطلع من اي حد منكم ، وعهد الله ما هيبات فيها .
اجبرهم بتهديده على الصمت، ثم نهض الكبير ولحق به الاخر، يغادران المنزل كل نحو وجهته، فعقبت درية في اثرهم بلؤم نحو زوجها:
– ايوة كدة وريهم العين الحمرا، دول ملهمش غير اللي يردهم.
انتفخ صدره بزهو ، يطربه قولها، ف ارتفعت يده اعلى رأسه نحو الجزء المزروع حديثا من الشعر بصلعته، وكأنه يطمئن انهم مازالوا موجودين، لتلوي هي فمها باستنكار وضيق ، فجاء قول ابنتها المتابعة منذ البداية بصمت:
– كل اللي حصل ده بسبب بوز الاخص اللي اسمها بهجة، لولا قعدتها معانا في نفس البيت، مكانش سمير فضل كدة متعلق بيها.
عبس خميس ملوحًا بكف يده في الهواء بعدم اكتراث، اما والدتها ، فقد ضاقت عينيها بتدبير تديره برأسها ، تعتزم تنفيذه. في اقرب فرصة
❈-❈-❈
حينما خرجت من غرفته ، ظلت على وضعها بهذه الحالة العجيبة حتى من عدم الفهم لما يحدث معها، حتى انها لم تنتبه لهذه المدعوة لورا ولا حتى بالنظر اليها،
لتعود الى مكتبها، تتلاعب بشاشة الحاسوب دون ان تفهم ولو كلمة واحدة مما هو مكتوب امامها، تعيد برأسها هذا اللقاء الذي تم منذ قليل ، رافضة وبكل قوتها هذه المشاعر التي اصبحت تعبث بغباء داخلها.
– مينفعش، اكيد مينفعش ، دا ايه الغباء اللي انا في ده؟ اكيد فاهمة غلط اكيد.
صارت تردد بها داخلها ، حتى تفوهت بها بفمها دون ان تشعر، لتثير دهشة من يشاركها العمل بتلك الغرفة.
حتى أتى اتصال الهاتف برقم تعرفه، لتفتح سريعًا في الرد عليها بقلق:
– الووو…. ايوة يا دادة، مدام نجوان……… ليه مالها ؟
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
يبدع في اصدار الصفير بفمه، كأداة نداء لمحبوبته، صوت خفيض ولكنه مميز ، تعرفه هي فقط
وكأنه عاد مراهقًا، في مشاكسة ابنة الجيران ، والتي أتت بخطواتها الخفيفة على أطراف اصابعها ، من داخل غرفة ابيها والتي تدخلها كاللصوص في غياب الرجل، من اجل مقابلته، داخل الشرفة المجاورة لشرفته،
بعدما غافلت اشقائها وجميع من في المنزل؛
– صباح الخير يا استاذ شادي.
القت بتحيتها الهامسة، تميل برأسها نحوه بشقاوة لا تتخلى عنها في حضوره مهما حاول معها .
التف اليها بأعين تضيق بنظرات مفهومة لها :
– صباح الخير يا استاذة صبا، يارب تكوني بخير .
يضغط على حروف كلماته برسميه اضحكتها، ليلوح بقبضة يده نحوها بابتسامة مستترة قابلتها بمثلها ترتد للخلف محذرة:
– خواتي الولاد في الصالة، ممكن يحسو بأي حركة ويطبوا علينا، ساعتها هيبجى منظرك زي العيال .
ضغط على شفته السفلى يردد خلفها بإقرار:
– وهو انتي اللي يرتبط بيكي يبقى فيه عقل؟. انا فقدت اتزاني والشعور بالعمر من وقت ما شوفتك، مش عارف هتوصليني لأيه في الاخر يا بنت ابو ليلة؟
رفعت كفها تداري على فمها تدعي شهقة مصطنعة:
– انتي هتغلط كمان في الحج ابو ليلة، لااا انا مسمحلكش يا استاذ .
هذه المرة لم ينطق ببنت شفاه، وفضل الصمت متأملا لها، تلك الحيوية والاشراق وجمالها الفاتن، لا يصدق حتى الاَن هدية الله اليه بها ، وقد اقترب الميعاد، وحلمه بها على وشك التحقق.
– إيه ساكت ليه؟
خرج السؤال منها بتوجس لصمته، فما كان منه سوى ان يهديها ابتسامة رائقة قائلا:
– ساكت عشان بفكر يا صبا، العفرتة والشقاوة دي لما تبقي معايا في عشنا بكرة وبين ايديا هيحصل ايه؟
شهقة بإجفال حقيقي صدر منها هذه المرة، وقد اكتست الحمرة وجنتيها على الفور مرددة بخجل :
– يعني هيحصل ايه يعني؟ انا الحج عليا اللي سيبت اخواتي والبيت المليان بالحبايب عشان اجي اجابلك مع انك تجدر تكلمني بالتلفون،
– تلفون!
– ايوة تلفون، وبطل تتنمر على لهجتي يا شادي.
يعلم ان هجومها سببه الاساسي هو ان تغطي على خجلها منه، فهذا اسلوبها وقد حفظه منها، واعتاد ان يجاريها بمشاكسته ايصًا:
– طب واتنمر ليه بس يا بنتي وانا عجباني الكلمة اصلا؟ دا حتى تلفون لايقة اكتر على تليفون .
– تاني يا شادي، طب انا ماشية وسيباك.
قالتها وتحركت اقدامها على الفور، وقبل ان تغلق باب الشرفة بذهابها للداخل تمتمت بالاخيرة امام ابتسامته:
– وخليك انت كدة مع نفسك يا متنمر.
اطلق ضحكة مجلجلة اطربت اسماعها، وابصاره منصبة على طيفها من خلف الستار الذي اغلقته مع الباب الزجاجي للشرفة، يعلم انها هي ايضا تضحك، لحظات الترقب في انتظار اليوم الموعود على قدر صعوبتها، لكن ما أجملها:
– خلاص هانت يا صبا، هااانت كلها يوم وليلة بس وتبقى في حضني .
تمتم بها بصوت مسموع وصلها دون جهد، لتضع يدها على موضع قلبها تحاول تهدئة الضربات التي تتقافز به، باتساع السعادة داخلها لقرب الوصال بمحبوبها.
❈-❈-❈
ليس على طبيعته، حتى ومعاملته الرسمية تبدو امامها بصورة عادية لا يشوبها شيء، لكنها تجزم بداخلها انه متغير من ناحيتها، حتى وكتلة البرود التي يتحلى بها دائمًا تظهر عكس ذلك، لكنها ليست غافلة عن شخصيته التي تعرفها جيدا.
– الورق يا لورا
صدرت بصوت عالي منه تفيقها من غمرة شرودها، اثناء انتظارها لأخذ التوقيع منه على بعض الملفات التي قامت بمراجعتها، لتنتصب بوقفتها، ثم اقتربت تتناولهم منه، وعيناها منصبه نحوه تستجدي نظرة لا يريحها بها ابدا ، تبا له من قاسي.
تبسمت تعيد حساباتها بتغير منهجها في التعامل معه، علُه تكسب نقطة في الطريق اليه:
– رياض باشا، قبل ما امشي انا حابة اعتذرلك .
– تعتذريلي عن ايه؟
تسائل مستفهما يضع القلم بجيب سترته العلوية، لتفاجأه بضعف غريب عنها وهي تقول :
– حضرتك بعترف اني زودتها في الموضوع الاَخير، بس انا مكنتش قاصدة اطرد العمال ولا اهين بهجة، هو بس الصوت العالي اللي ازعجني، وكانت لحظة غضب وانفلتت اعصابي فيها.
مط شفتيه بابتسامة غامضة يتقبل اعتذراها بسخرية:
– مشكورة طبعا يا لورا على رقتك، بس ان جينا للحق الأسف ده من الواجب يروح لصاحبة الشأن مش انا .
برقت عينيها بصدمة، لا تصدق فحوى ما يرنو اليه ، ان تعتذر لهذه الملعونة، وكأنه كان يقصد التلاعب بها ، لطف يخفف عنها بمكره:
– اطمني يا لورا، انا مش هطلب منك تعتذريلها طبعا، بس ياريت تحاولي تنجنبيها، بهجة بقت شيء مهم للست الوالدة دلوقتي، بالظبط زي نبوية، وانتي عارفة اللي يخص والدتي ، بتبقى مكانته ازاي عندي
مازال تأثير الصدمة يلون ملامحها، ليتها ما فعلت ولا اعتذرت من الأساس ، لقد غلبها بخبثه، جعل منها أضحوكة امام نفسها ، وقد وضح مكانة هذه الملعونة بالنسبة اليه، وهذا ما نطق به فمه، فما بالها بما يدور بداخله.
– روحي على شغلك خلاص يا لورا ، انا اعتبرته موقف وعدى ، لحظة غضب زي ما بتقولي .
أومأت بملامح ممتقعة، مستأذنة بصوت بالكاد خرج ، لتجر اذيال الخيبة وقد ذهبت منها النقطة التي تقصدها لصالح هذه الملعونة.
اما هو فقد نهض فور خروجها، ليستقر ببصره خارج النافذة يشرد بتلك البهجة التي طغت برقتها ووداعتها تلون ظلمة قلبه الصدئ، ولا يعلم نهاية هذا الجرم الذي يفعله بنفسه، وقد اقسم قديما الا ينال منه الحب ولا يضعفه.
❈-❈-❈
عدة ايام مرت بهم معه؛ وكأنه يطير بها على خيمة وردية، تلامس طيور السعادة بيداها، يغدق عليها من عشقه حتى ترتوي من فيض حنانه وأكثر، وهو لا يكل ولا يمل من القرب منها، يشعرها بأنوثة كانت ضائعة بمفهوم ترسخ بعقلها القديم، والذي نضج حديثًا على يديه ، معه فقط عرفت معنى الكمال.
كانا الاثنان في هذا الوقت يستمعتان بعطلتهم داخل مياه البحر التي يسبح بها بمهارة، وهي بملابس البحر المحتشمة تسبح محلها، بعدما سحبها معه على غير ارادتها، تحاول مجارة عبثه من تحت الماء ، حيث كان يداعبها على حين غفلة منها كل دقيقة، قاصدا مناكفتها .
– بس يا عصام، وربنا هخرج لو مبطلتش.
ضحك يخرج رأسه المبتل من اسفل المياه غائظا لها:
– طب ما بدل ما تخرجي وتسبيني، انزلي تحت واغلبيني، ولا انتي لزقتي مكانك في المية .
دفعته بكمية من الماء بيدها تنهره:
– انا برضو اللي مش عارفة اعوم، ولا انت اللي عاملي زي تعبان البحر، كل ما ابلبط بدراعي حبتين الاقيك لفيت حواليا ، ومش عارفة الاقيها منك، احوش الايد والرجل ولااااا……..
سحرها بضحكته ينثر شعر رأسه الناعم بعض الشيء، يدفعه نحوها يزيدها تأفافا،:
– ما انتي اللي كسلانة وبصراحة صيدة حلوة للواحد يتسلى عليها جوا المية
بابتسامة مستترة صارت تدفعه عنها تتصنع الضيق وهو يتقبل منها بصدر رحب، مواصلا مشاكستها:
– يا بنتي انتي بتضربي ولا بتهرشي، طب شوية كدة ع الضهر بقى، ولا تحت بطاطي هاتي احسن تحت بطاطي .
استطاع بخفة ظله ان يجبرها على الضحك، رغم انهزامها في كل مرة تدخل معه تحدي.
بعد قليل وحينما شعرت بالاجهاد همت ان تسبقه بالخروج قائلة:
– طب انا هروح اسبقك، واحضرلنا سندوتشين ناكلهم، حكم انا جوعت اوي.
– تمام وانا هحصلك على طول ،
اتخذت طريقها للخروج من امامه، لينقلب هو بمهارة يكمل جولة الاستمتاع بالمياه، حتى ارتفعت ابصاره نحوها فجأة، ليتفاجأ بأحد الشباب المستهرتين من جهة قريبة الى حد ما في هذا الشاطيء الهاديء بعدد افراده القلائل.
يرمقها بنظرة متفحصة وقد كانت غافلة هي بما تفعله، عن نظرات شهوانية لا يفهمها سوى رجل مثله، يضغط بأسنانه على شفته السفلى بفجر تام ، جعل الدماء تغلي بأوردة الاخر، ليخرج اليه على الفور يفاجئ هذه الشاب بهجوم مباغت، وقبضة قوية حطت على فكه ، ليصرخ معبرا عن اعتراضه بالسباب والشتائم نحو هذا الرجل الذي يتعدى عليه دون ان يعرفه:
– ايه ده؟ ايه ده يا بن الكلب؟ انت قد الحركة.
صدر رد عصام على الفور يجذبه من عنقه:
– انا حضرة الظابط عصام يا حيوان، وهعلمك الادب كويس دلوقتي عشان تحرم تبص على اي حاجة تخصه ولا تخص غيره.
سارت الهرج والمرج على الشاطيء بتجمع الافراد حولهم ، وقد الاشتباك بين عصام الذي يريد الفتك بالشاب العابس ، مهددًا بمهنته، وهذا الشاب الذي يصارع من اجل البقاء من بين يديه، بالصراخ وادعاء المظلومية امام الاشخاص التي اشتد بأسها لتخليصه من ايدي الظابط المتعجرف بوجهة نظرهم
وهي التي وقفت محلها بصدمة واضعة كفها على فمها ، لا تصدق هذه العدوانية المفاجأة منه، جاهلة بالسبب الحقيقي وراء تبدله من حالة الاستمتاع معها داخل المياه الى هذا الوحش المفترس.
❈-❈-❈
– ممكن افهم يا عصام ايه اللي قلبك كدة وخلاك تهجم ع الراجل وهتموته في ايدك من غير سبب .
.هتفت بها فور دخولها خلفه غرفة الفندق الخاصة بهم، بعد فترة طويلة من الصمت، طوال طريق عودتهم، لتفاجأ به ينقض عليها قابضًا على ذراعها يهدر بوحشية اهتز لها جسدها من الخوف:
– انتي تخرصي خالص يا أمنية، عشان لولا نظرة الحيوان السافلة ده ليكي، مكنتش انا خرجت عن شعوري ولا حصلت الفضيحة دي على الشط، انا بقيت قدام الناس الظابط المفتري على خلق الله وانتي السبب، انتي السبب يا امنية.
ارتجفت بصدمة وعدم استيعاب، تترقرق بعينيها الدموع:
– انا يا عصام، طب ايه ذنبي؟ ما انا كنت معاك في البحر وهدومي حشمة عن اي واحدة هناك، انت نفسك معترضتش عليها.
صاح بها يدفعها بيده:
– عشان مكنتش واخد بالي، كل حاجة كانت في عيني تمام التمام لحد ما شوفت نظرته عليكي، والهدوم اللي لزقت من المية والهوا فصلت جسمك ، عقلي طار مني ، ان حد يبص لملكي ولا يلمسه انا ببقى عايز اصور قتيل
– يلمسه!
تمتمت بها بضعف تبتلغ الغصة التي مررت حلقها، لقد عرفت الاَن وتأكدت ان هجومه بهذه الشراسة على هذا الشاب، لم يكن سوى غضب مكبوت ينفس عنه، وقد رأى بهذا المتعوس صورة الفاسد سبب كل ما يحدث معها الاَن.
لتشيح بوجهه عنه، بل وتعطيه ظهرها، لتزرف الدموع بصمت ، مما زاد من جذوة غضبه ليهدر حاسمًا، احنا من النهاردة نلم هدومنا، انا كرهت القعدة هنا ومش قاعد فيها، جهزي نفسك.
صرخ بالاخيرة ليدلف نحو المرحاض يتركها تسقط على الفراش تندب حظها وتغرق في موجة من البكاء الحارق ، لماذا تعطيها الدنيا السعادة مغموسة بألاَم الماضي؟ لماذا لم يكن هو نصيبها من البداية؟ لماذ؟
❈-❈-❈
اصدر القاضي حكمه بما توفر لديه من اوراق وبراهين، هذا ما بيده وما يتم الحكم على اساسه، لا يعلم ان خلف حكمه تضيع في بعض الاحيان حقوق وتطمس على اثره حقائق، بفضل شياطين من الإنس تجيد تزوير الدلائل بل وقلبها ناحية المظلوم ، يعميها حب المال فتتخذ من المهنة دفاع لمن يدفع، وليس لمن يستحق.
هذا ما تم في الجلسة حينما قلب هذا المحامي الفاسد الموازين وجعل القضية لا تزيد عن خصومة وشجار ، فلا يوجد من يثبت حقيقة القتل قديما، ولا شهادة محققة عن الخطف، سوى كلام الخصم. وهذا ما لعب عليه بدقة متناهية ، ولكن مهما طال الزمن او قصر حق الله اَت لا محالة .
لتصدح اصوات الزغاريد وتعج القاعة بالصخب فور انتهاء الجلسة:
– مبروك يا ابراهيم، ربنا ظهر الحق يا قلب امك .
تفوهت بها سميرة تمسك بالسياج الحديدي للقفص المحبوس بداخله، وفمها هي وعدد من النساء والرجال من أقاربها والمعارف لا يكفون عن الصيحات بحيا العدل بحيا العدل
ليعقب اليها ابراهيم والذي صار يضحك بعدم سيطرة مع تهاني الرجال ومباركتهم له :
– الله يبارك فيكي ياما يا غالية، فينه ابويا يعرف ان الحق ظهر، وانه كان ظالمني، وربنا ما هفوتها له دي،
– يا خويا خلي قلبك ابيض، كفاية اهو نفعنا بفلوسه وخلاص، انت عايز ايه اكتر من كدة
قالتها سميرة بتباسط ليتدخل معها المحامي المغوار بزهو:
– اه يا ست سميرة، واديكي عرفتي ان الفلوس مترمتش في الارض ، طلعتلك ابنك براءة من حنك السبع ، عشان تعرفي اني قد الكلمة اللي باقوله.
تمتمت له هي بامتنان ليضيف عليها ابراهيم بفرح :
– ايوة انت عمنا وسيد الكل، انا مش هسيبك ابدا، مدام بتعرف تجيبها كدة.
سمع المذكور ، يزداد انتشاءًا بكلماته اما هو فغمغم بداخله:
– ومدام بقى ليا ضهر طول ما الفلوس موجودة، اعمل انا اللي على كيفي بقى،
❈-❈-❈
داخل الشرفة الواسعة، وقد كانت جالسة بالقرب منها تراقب اندماجها على جهاز اللوح اللاليكتروني، حيث كانت تحرك اصبعها على الشاشة، تحارب بالبطل الرئيسي في تلك اللعبة في محاوله منها لأن تهزم الاشرار، بعد ان تعلمتها من شقيقتها عائشة، والتي زاد تعلقها بها ، حتى تجعلها تصر على الذهاب اليها كالاطفال ، كما حدث منذ ايام حينما جعلت الدادة نبوية تهاتفها اثناء العمل وتطلب منها الذهاب معها ضروري الى عائشة بعدما نفذت طاقتها من الحاحها.
تنهدت بقنوط تربع ذراعيها مستسلمة لنسمات الهواء العليلة والتي كانت تطير حجابها كل لحظات وهي تحاول السيطرة عليه ، حتى وقعت عينيها في الأسفل،
نحو موكب السيارات التي توقفت امامها، وهو يترجل من احداهما، وابصاره في الأعلى نحوها، وكأنه يعرف انها في انتظاره، وقد تعودت عليه هذه الايام ، يأتي في ميعاد محدد بعد استلامها لنوبة عملها،
تلتقي عينيها به ، رغم محاولاتها الحثيثة للهروب منه، لا تريد الاستسلام لهذه المشاعر التي اصبحت تجتاحها بوجوده، لقد اغلقت على باب قلبها بمفتاح صديء منذ سنوات عديدة، منذ فسخ خطبتها بابن عمها الذي لم تعرف معه معنى الحب من الأساس، لا بل قبل ذلك، منذ مراهقتها ومشاعر الاعجاب العادية من الفتيات نحو الشباب ، ابدا لم تصل لهذه المرحلة ودقات القلب التي اصبحت تعزف الحانًا له هذه الايام،
لا يجب ولا يصح، ولكن لا تستطيع منع نفسها عن التفكير به، ولا عن افعاله التي تبدو مكشوفة في بغض الاحيان، مثلما حدث منذ يومين
حينما التسعت يدها من كوب الشاي الذي كانت تعده لتفسها في المطبخ، وانفلت من يدها ليقع على الرخامة ومنه ما وصل لظهر يدها، فصدح صوت صرخة منها كرد فعل طبيعي منها، في غياب العاملين في المطبخ بذهابهم لمنازلهم على موعد التاسعة.
وقبل ان تستقيم بجسدها جيدا وجدته امامها بلهفة يسألها:
– بهجة ايه اللي حصل؟ حرقتي نفسك ازاي بس؟
صدر سؤاله الاَخير بعدما انتبه لحرق يدها،
– الشاي، الشاي انكب عليا
تمتمت بها كإجابه ، فلم ينتظر ثانية بعدها، ، ليتناول يدها على الفور فيقربها نحو صنبور الماء ،
– ااه اه، خلاص خلاص، خلاص يا فندم.
رمقها بنظرة لن تنساها، ليظل ممسكا بها حتى هدأت قليلًا، ثم اغلق الصنبور، وتحرك بها ، ليجلسها على احد المقاعد المرتصة نحو الطاولة الصغيرة بالمطبخ، يخاطبها بحنو غريب عنه:
– معلش استحملي شوية.
اومات باستجابة رغم اتجاف يدها بالوجع، فذهب من جوارها، ليأتي لها ببعض الاسعافات بعد لحظات قليلة، يضعهم على الطاولة، ثم يجلس هو الاخر مقابلا لها، يجفلها بتناول يدها مرة اخرى دون استئذان، لتلجمها الدهشة عن الاستفسار، بعدما باشر في اسعاف يدها بتجفيفها من الماء برقة متناقية، يطمأنها بنبرته الدافئة، يشير على احدى علب العلاج:
– الكريم دا سحري ، انا جايبة معايا من رحلتي في السويد ، عايزك بس تتحملي الخطفة الاولى .
– يعني ايه؟
ما كانت تتفوه بها حتى باغتها بوضع كمية على موضع الحرق صرخت على اثرها، حتى كادت عيناها ان تدمع.
– اااه ااه اااه دا بيحرق ….. دا بيحرق اوي.
حاولت جذب يدها ولكنه تشبث بها يهادنها:
– معلش…. اتحملي هي ثواني بس يا بهجة.
امام اصرارها اضطرت ان تتحمل هذه الثواني، والتي لم تدوم كثيرا كما قال، وقد اصبح الالم يخف تدريجيا، حتى سكنت مقاومتها ، ليلاحقها بسؤاله:
– هدأ الالم دلوقتي صح ..
اومأت بهز رأسها دون ان تتمكن من الرد، فتابع بباقي الاسعافات ليلفها بالشاش الطبي بلطف مبالغ فيه، يبثها الامان بقوله:
– من هنا للصبح ان شاء الله مش هتحسي بأي حاجة، حمد لله ان حرق خفيف، وانتي اكيد حمولة يا بهجة ولا ايه؟
ابتعلت رمقها امام هذا القرب، والذي لم تشعر به سوى الاَن، يدها المحتجزة بين كفيه، رغم انتهائه من مهمته،
وهج بندقيتيه اللتان تحدقان بها ، بطريقة عجيبة تأسر من أمامها،
– ما هذا الذي يحدث؟
– وما ذلك الشيء الذي تتأثر به جميع حواسها حتى تشعر به داخل معدتها؟
لقد صار الوضع اكثر من تحملها ، لتحاول نزع يدها بخفة منه ، ولكنه ابى متابعًا حديثه:
– لو حاسة بألم حقيقي قولي متتكسفيش، مش معنى ان بشكرلك في العلاج يبقى لازم اكون انا على حق.
– لاا يا فندم، انت فعلا والله على حق،
رددت بها بارتباك، لتتمكن هذه المرة من نزعها منه مستطردة
– وانا لازم امشي دلوقتي…. اه
صدر تأوه منها مرة أخرى، لتتطلع له باستفسار اثار تسليته:
– الحركة العنيفة هي اللي خليتك تتألمي يا بهجة مش الكريم.
اطرقت بحرج، لتثبت يدها عن الحركة هذه المرة بحرص، فتابع موجهًا لها بالامر :
– هتروحي النهاردة مع عم علي من غير تقاش، هجيبلك في الطريق معاه شوية ادوية من الصيدلية ، تساهم اكتر في الشفا بإذن الله.
حينما ظلت صامتة اردف بتشديد:
– سمعتي انا بقولك ايه يا بهجة ولا نعيد تاني؟
اومأت بحرج متزايد ، تريد الهرب من سطوته ، تريد الافلات بقلبها من شيء لا تريده، نعم لا تريده،
❈-❈-❈
وفي ناحية اخرى
بعد عودته من العمل وسماعه الخبر المشؤوم، لم يطق الانتظار حتى موعده الرسمي ليقود سيارته ، ويأتي اليها على عجالة كي يطمئن عليها، ليتوقف الاَن على مدخل الغرفة ، يتهامس عن حالتها مع والدته:
– هي كدة على وضعها من ساعة ما سمعت الخبر؟..
ردت مجيدة بأسى:
– اه يا كبد امها، انا حاولت معاها، ولينا كمان في التليفون مسيبهاش كل شوية تتصل، حتى امين كمان وعدها انه هيفتح لها ملف القضية من تاني ومش هيسكت غير لما يرجعه السجن ابن امه ده، بس هي مفيش فايدة.
تمتم ردا لها بغيظ شديد:
– ابن ال…… كانت ناقصاه هي….. خلاص يا ماما روحي شوفي انتي ايه اللي وراكي.
ربتت مجيدة على كتفه بدعم ، ثم تركته يدلف الى زوجته، كي يهون عليها مصابها:
– شهد.
هتف مناديا بإسمها، ليجيرها على الإلتفاف اليه، ولكنها انتظرت للحظات حتى جففت دموعها قبل ان تلتف اليه برأسها، فوجدته سقط خلفها على الفراش، يضمها الى صدره مهونا:
– متخبيش عني دموعك يا حبيبتي، انا حاسس بوجعك
قالها ف انطلقت هي في موجة حارقة من البكاء وكأنها كانت في انتظاره:
لتردد بعد فترة من الشهقات المتتاليه:
– حق ابويا يا حسن، حق ابويا ضاع،
لتكمل بنشيج حارق قطع نياط قلبه، ولكنه استمر في طمأنتها:
– حق باباكي راجع غصب عن الكل يا شهد، صدقيني يا حبيبتي مهما طال الزمن او قصر، حقه راجع ، دا غير ان امين اكدلي انه حاطط الموضوع في دماغه، ومسيره يرجع الكلب دا السجن من تاني، هو والمحامي الفاسد بتاعه.
هدنت قليلًا لتتجاوب في الحديث معه؛
– فاسد ولا شريف، المهم انه قدر يخرجه من القضية ، ويضيع حق الميت ويحصرنا اخنا ولاده عليه، دا يرضي مين دا بس يا ربي؟ يعني اروح اشتري مسدس واخد تار ابويا بإيدي، ساعتها الحكومة هتسيبني بقى، ولا تفتكر تنفذ القانون عليا انا بس ، اللي بدور على حق المظلوم .
حاول ان يخفف عليها بدعاباته:
– مسدس ايه يا بس يا عم الخط، استهدي بالله يا روح قلبي وخلي تكالك على الخالق، دا لوحده القادر القهار،يعني ولا مية محامي هيقدر ينجيه من عقاب ربنا ، في الدنيا قبل الاخرى ان شاء الله ، خليكي واثقة في كدة، واللي ظهر حقيقته بعد كل السنين دي، اكيد يعني مش هيبقى صعب عليه يجازيه بعمله
– ونعم بالله ونعم بالله .
صارت تردد بها وهي تندس بحضن زوجها، تنشد الراحة، لقلب احترق بنيران الظلم التي تنادي بالانتقام.
❈-❈-❈
– عائشة عائشة
– يا دي النيلة عليا.
تمتمت بالكلمات بهجة ، خلف الاخرى والتي تصر عليها الاَن الذهاب الى شقيقتها، لتحاول معها لاقناعها:
– بكرة ان شاء الله هاخدك ليها بس النهاردة ……
– عائشة عائشة.
قاطعتها تردد بنفس الاسم ، في رسالة واضحة لعدم التقيل، لتزفر بهجة بيأس ضاربة بقدمها على الارض:
– طب احلها ازاي دي بس وانتي مش قابلة حتى تسمعي.
– ايه اللي حصل يا بهجة؟ ومالك ومتعصبة كدة ليه؟
شهقت ملتفة عنه بحرج، فور ان انتبهت لحضوره، كيف يأتي في هذه الاوقات الحرجة لها
– يا مصيبتي.
لاحت ابتسامة عابثة على شفتيه لهيئتها تلك ، ليلملمها سريعًا في استجداء الجدية:
– بهجة انا بكلمك على فكرة مينفعش تديني ضهرك.
اغمضت عينيها لتعود اليه بوجهها الذي اصبح كتلة مخضبة بالإحمرار،:
– انا اسفة يا فندم، عشان بصراحة مقدرش اخدها النهاردة اصل معزومة على حنة .
– حنة مين؟
سألها بفضول اثار دهشتها ولكنها تغاضت تجيبه:
– ابن عمتي شادي، اللي شوفته قبل كدة في الخناقة، خطيبته عزمتني احضر معاها الحنة انا واخواتي.
وعلى عكس ما توقعت ، جاء رده بعد فترة قصيرة من التفكير :
– بس انتي عارفاها مدام اصرت يبقى انسي تشيل من دماغها ولا نوقف، ايه رأيك حتى لو نص ساعة تشوف الجو الجديد،، وبعدها تروح مع عم علي….. او…… ممكن اعدي انا بنفسي واخدها، هبقى اتصل بيكي توصفيلي المكان
لماذا تشعر ان خلف اقتراحه يوجد شيئًا ما من اللؤم.؟ ولكن ماذا بيدها؟
القت بنظرها نحو نجوان التي زاد الاصرار ملامحها، لتتنهد بيأس:
– ماشي يا فندم
❈-❈-❈
خرجت دورية من غرفتها بعدما تجهزت وتزينت من اجل حضور الحفل، لتفاجأ بدخول ابنتها المنزل عائدة من الخارج، بهيئة صاخبة اثارت استهجانها لتتسائل مقيمة لها من اعلى الى اسفل:..
– ايه يا بت د؟ روحتي هيبتي دا كله فين؟ وامتى لحقتى؟
اجابتها بثقة وهي تتلاعب قي خصلات شعرها.
– لحقت وعملت بسرعة ياما ، عشان كنت حاجزة من امبارح ومجهزة نفسي، بصي بقى على هيئتي كويس اجنن صح، بصراحة انا قاصدة، عايزة ابقى احلى واحدة في الحنة النهاردة، حتى العروسة.
التوى ثغر دورية بضيق عبرت:
– ولما في الحنة وعاملة كدة، امال في الدخلة هتعملي ايه؟ اتحركي يا سامية خلينا نخرج في ليلتك المهببة دي، مقطعة نفسك على حاجة مفيش منها فايدة، زبك زي اخواتك….
قالتها وتحركت تسبقها الى باب الخروج، لتتمتم هي في اثرها:
– واش عرفك انه مفيش منه فايدة، مش يمكن يحصل ولا يتم المراد حتى بعد ما يتجوز، واديني بتسلى، هو انا هخسر ايه يعني؟
❈-❈-❈
عقب مغادرة الاثنتان دورية وابنتها، أتت سيارة العم علي تتوقف امام المبنى، وقد اصبح اهل المنطقة يعتادو عليها بمعرفة ان بهجة تعمل مع صاحبتها، والتي ترجلت بفرحة تغمرها تتلقى استقبال عائشة التي كانت في انتظارهم:
– نوجة صاحبتييي.
تم اللقاء بعناق حار اجبر بهجة للتوقف امام مشهدهم، ان كان فرح شقيقتها بلقاء المرأة التي تسبقها في العمر اضعاف، نابعًا من براءة طفولتها او يمكن تذكرها بحنو الولدة التي لم تراها من الأساس، نظرا لموتها في ولادتها.
فن فرحة نجوان فهي ما تثير الدهشة بحق، هل ترى فيها بالنصف عقل المتبقي لها صديقة تشاطرها اهتمامها، ام هي الأخرى تجد بها تعويضًا عن كل ما تفتقده من حب، بعد رحيل زوجها وهوسها بعشقه، كما عرفت
– براحة، براحة شوية يا شوشو الست مش حملك
جاء التعقيب لصاحب الصوت المعروف من خلفهم، ليجبرهم على الالتفات اليه، وقد اكتملت مرحلة زرع الشعر لتعطيه الثقة الاَن في الحديث امامها، تلك الفاتنة ذات السلاسل الذهبية والتي كانت تتطلع اليه الاَن بنظرات فسرها بداخله ، انها اعجاب بهيئته الجديدة، وقد ابتاع ايضا ملابس عصرية الى حد ما، لتناسب السن وطبيعة الجسد المتكور:
– عاملة ايه يا هانم؟ يارب تكوني بخير، انتي شكلك خلاص بقيتي من اهل المنطقة.
بالطبع لم يجد ردا منها، وقد اعتلت الدهشة تعابيرها، لتزفر بهجة بنزق لهذا المشهد الذي اصبح يتكرر معهما منه، فتسحبها من يدها وتتحرك بها قائلة له بمودة زائفة وكلمات مقصودة::
– للمرة المية هقولهالك يا عمي، نجوان هانم مبتسلمش على حد .
اعترض يدب قدميه على الارض امامها؛
– وهو انتي بتديها فرصة اساسًا، ما كل مرة بتسحبيها بمجرد ما اقرب ارحب بيها ، مش كدة يا بنتي الله،
مالت رأسها نحوها باستهجان ناظرة له، متمتمة له بابتسامة صفراء:
– فرصة ايه يا عمي بس؟ ما قولتلك ترحيبك وصلها، هي كدة مبتحبش الرغي من اساسه، عن اذنك.
جذبتها من امامه تسرع بخطواتها نحو منزلهم، فتوقفت عائشة مزبهلة بالنظر الى الجديد به، لتسأله بفضول:
– عمي هو انت حاطط باروكة فوق الصلعة؟
انتفخ صدره ليجيبها بزهو:
– لا طبعا مش باروكة ولا كلام فارغ، انا زرعت !
– زرعت!
– ايوة زرعت شعري، مسمعتيش انتي عن زرع الشعر؟
تبسمت بشقاوة تتطلع اليه لعدة لحظات ، لتنطق اخيرا:
– طب حاول بقى تسقيها كويس وتراعيها لتنشف ويقع منها شعرك من تاني.
ختمت بضحكة تهرول من امامه، لينتفض هو يلمس على الجزء المزروع متمتمًا برعب حقيقي من حدوث ذلك بعد دفعه للمبلغ الضخم في سبيله
– يوقع في عينك بنت قليلة الادب ، قال يوقع قال، وجع بطنك.
❈-❈-❈
وفي شقة العروس
وقد اجتمعت النساء من اهلها الذين أتو من الصعيد والجيران والمعارف هنا لحضور الحناء، تلك الليلة المميزة في قلب كل عروس، بتباسط النساء ورقصهم معها.
وكالعادة كانت ساحرة بجمالها الخاطف بالاضافة لزينتها المتقنة ، وقد غيرت بارتداء فستان باللون النبيتي واضعة حلى من الذهب في تقليد يسير عليها وعلى باقي افراد العائلة، لتتباهي المرأة بما يأتي به اهلها له، ويدها وقدميها تزينت بالحناء الاسوانية، مع فرقة النساء التي تُحي هذه الليالي بحرفية متوارثة عبر الاجيال
سعيدة وتضحك من قلبها، ترسل كل دقيقة رسالة لحبيبها القابض على جمر النار ، بحرمانه من هيئتها المثيرة تلك ، لتغيظه وتشاكسه، ثم تشارك الجميع برقصها واغنية محمد منير الشهيرة كانت تدوي الاَن:
ايوو شمندورة منجنا بهر جاسكو مينجنا
سجرى مالا واينا مورتنا نا واينا
ع الشط أستني رايحة فين دانا ليكي بغني غنوتين
غنوة عن الآهة والحنين وغنوة لعنيكى ياحنين
آه يا شمندورة لابسة توب
يا اجمل من الصورة دوب يا دوب
يا اسمر يا سمارة دوبت دوب
يا عيون قدارة ع القلوب
آه يا شمندورة صبري طال ردي و جاوبيني ع السؤال
اندمجت نجوان ترقص مع عائشة والفرقة النوبية وكأنها طفلة مثلها، بمشهد اثار الحنين بقلب بهجة، التي بدأت تشعر بالتعلق نحو هذه المرأة النقية فلا تستغرب هروبها الى عالمها الخاص، بعيدا عن الواقع المرير
– واقفة لوحدك ليه يا بهجة؟ ما تدخلي ارقصي مع البنات .
كان هذا صوت رحمة ابنة عمتها وشقيقة العريس، التي تحضر اليوم مع الفتيات لتعيش هذه الليلة الجميلة، بفرحة تناشدها منذ سنوات طويلة لشقيقها، ليأتي اليه العوض الان بأبهى صوره .
اعترضت بهجة برقتها وابتسامة مودة لها؛
– يا حبيبتي ربنا يتمم بخير، انا خليني واقفة هنا ومبسوطة بالفرجة، الرقص نسيته من زمان.
– لا رقص ايه اللي تنسيه؟ والله لا ترقصي معايا دلوقتي، ولا اجيبلك طنط زبيدة تحلف عليكي والله لا ترجصي، ياللا يا بت مفيش اعتراض النهاردة.
سحبتها غنوة لتضعها وسط الفتيات فتجبرها على الرقص بينهم ومشاركة نجوان التي رحبت مع شقيقتها يشاركنها اللحظة. والعروس نفسها معهم.
وفي زاوية لهما وحدهما، لكزت دورية ابنتها مغمغمة من تحت اسنانها:.
– شايفة المحروسة بنت عمتك بتعمل ايه مع الزفتة بهجة، اللي ما قدرها ربنا حتى تشدنا معاهم مجاملة، مع انك انتي الاولي ، على الاقل انتي اخت جوزها.
جاء رد ابنتها بغليل يسري داخلها لما يحدث امامها:
– اسكتي ياما سبيني في حالي، انا على اخري اساسا ومش متحملة، اااه يا ناري .
❈-❈-❈
انتفض في جلسته وسط مجموعة من الشباب التي جاء اليوم يتناول معهم بعض المشروبات المسكرة، من اجل ان ينسى همومه معهم، ليفاجأه هذا الشاب المدعو اشرف بحديثه:
– بتقول ايه ياض؟ مين دي اللي عايز تتجوزها؟
اجابه الشاب بأسلوبه الفج، غافلا عن غضب الاخر:
– اسم الله ع السمع يا حبيبي، بقولك بهجة بنت عمك، موزة الشارع والمنطقة كلها، يالهوي ياما، دا انا قلبي بيرفرف كل ما اشوفها، ولا النهاردة كمان وهي متزوقة وخارجة مع الست اللي بتشتغل عندها،….. اي ده؟ ملكة جمال يابا؟
بعدم تحمل انقض عليه سمير صارخًا بهياج:
– وكمان في بتقولها في وشي ، دا انا هخلص عليك يابن الكلب
– هو انت حد غلط فيك يا عمنا؟ طب انت بقى اللي ابن ستين كلب.
صاح بها اشرف لتندلع معركة حامية ويتدخل بقية الحاضرين للفض بينهم.
❈-❈-❈
توقف ينتظرها بالسيارة اسفل المبنى الذي وصفت عنوانه، حتى خرجت اليه ترافق نجوان حتى ادخلتها لتنضم معه في السيارة بعد عناء ومحايلة ، فلم تستجيب الا بتأثير من عائشة، والتي كان يتعرف عليها لاول مرة، ليعبر عن دهشته:
– انتي بقى عائشة؟ يا نهار ابيض ، دي صغيرة اوي يا بهجة.
ضحكت له الاخيرة متمتمة:
– هي صغيرة اه بس عقلها اكبر من سنها، بدليل انها بقت تأثر على الهانم اكتر من اي حد فينا.
تدخلت عائشة بجرأة معقبة:
– عشان صاحبتها ، والأصحاب دايما يببقي دماغهم واحدة، ولا ايه يا نوجة؟
توجهت بالاخبرة نحو المذكورة ، لتجذبها من يدها وتقربها اليها مرة اخرى، لتعيد عليها عائشة بوعودها باللقاء في اقرب وقت واللعب معها .
فتوقف هو يطالع بهجته بابتسامة لا تخلو من انبهار لهيئتها الجديدة عليه تلك؟
– دي اول مرة اشوفك كدة بالمكياج والفستان يا بهجة،
كنت فاكر ان الحاجات دي من المستحيلات عندك
باغتها بجرأته لتردد مبررة بحرج:
– ما دي حنة بنات يا فندم، يعني بناخد راحتنا فيها، مكياج ولبس .
– اممم
زام بفمه ثم تمتم بما زاد من دهشتها:
– كويس انها حنة بنات وبس عشان تاخدو راحتكم، بس ياريت ما تاخديش راحتك اوي معاهم يعني.
– هااا
– ارتفعت رأسها مغمغمة بها بذهول قابله بابتسامة لم تفهمها، ليلتف نحو سيارته، يستقلها كي يغادر، ثم يرميها بنظرة اخرى بغموضه الذي اصبح يثير بداخلها التساؤلات.
– هو قصده ايه بكلامه ده؟
❈-❈-❈
بعد مدة من الوقت،
بغيظ يفتك بها، وقفت في الشرفة تراقب عودتها من ذاك الحفل اللعين الذي حضرته معها، تتهادى بخطواتها بكهن مدروس، تلفت ابصار الحوش من ابناء حارتها الأغبياء، وشقيقها الابله يتتبعها كالمنوم مغناطيسيًا، يتحين الفرصة للحديث معها
تبًا لها، لقد افسدت كالعادة فرحتها بعدما خرجت من صالون التجميل ملكة على الارض ، بفستانها المموج وشعرها الذي استغرق تصفيفه العديد من الساعات وزينة الوجه التي دفعت فيها مبلغًا من المال لا بأس به، حتى دلفت مع والدتها تنتشي بهيئتها المبهرة، وتملق العديد من الفتيات والسيدات لها واهتمام الشباب ، حتى أتت هذه الملعونة بهيئة اقل من البسيطة برفقة شقيقتها سليطة اللسان ، لتسحب منها البساط
لا تدري ما السر بها وهي ترى نفسها الأجمل والارقي بمال ابيها، عكسها هي العاملة بأجرتها .
– مالك يا بت بتاكلي في نفسك كدة ليه؟
كان هذا صوت والدتها التي انتبهت على هيئتها تلك ، لتلتف إليها بغليلها:
– وما كُلش ف نفسي ليه بقى؟ والست بهجة الزفت مخلية ولادك الاتنين يتمنو رضاها؟ يا عيني عليكي ياما، جوزتي الاول عشان يبعد عنها، قام ساب مراته وحن لها من تاني، بعد اخوه الصغير كمان ما اتشعلق فيها .
قالت الأخيرة وهي تشير بسبابتها نحو الأسفل ، لتستشيط درية، مدمدمة بحنق شديد، يا نهار مزفت ومطين بهباب ، هو انا مش هخلص منها البت دي.
زادت سامية بفحيحها تحركها نيران الغيرة:
– طب اقولك ع التقيلة ياما، اوصلي كدة لحد باب البيت واديها بصة ، ادي دقني اهي، ان ما كان الأهبل الكبير هو كمان قاعد مستنيها، دي مش هتستريح غير لما توقعهم في بعض.
– وقعة تاخدها هي وأخواتها كلهم،
هتفت درية بالكلمات وهي تتحرك بعجالة نحو ما اشارت لها ابنتها لتفاجأ بصدق ما تفوهت، بوقوف ابنها البكر في مدخل المنزل في انتظار أحدهم بالفعل، فوقفت هي الأخرى تراقب
وف الأسفل ولجت بهجة لداخل البناية لتفاجأ به امامها بهيئة غير مبشرة على الإطلاق يبادرها الحديث دون انتظار او تمهيد:
– حمد الله ع السلامة يا برنسيسة، ما كنتي اتأخرتي شوية كمان تلميلنا شوية عرسااان
استغرقت بهجة وقتا لتستوعب ما سقط من هذا الاحمق، قبل ان ترد بجرأة، تسبق شقيقتها الصغرى والتي أوشكت على شتمه.
– وانت مالك؟ اتأخر برا ولا متأخرش، والم عرسان ولا ملمش؟ ايه يخصك؟
صاح بها :
– يخصني انهم بيجوا يطلبوكي مني، اكيد دي حركات مقصودة منك عشان تغيظيني
– وانت تهمني في ايه عشان اغيظك يا بني ادم انت .
تدخلت عائشة تتخصر بذراعيها نحوه قائلة بازدراء:
– دا باين شكله عايش في الدور، فوق يا عمنا، دا انا اختي رمت طوبتك من زمان، وبقيت في نظرها زيك زي الحيطة اللي وراك.
صرخ بها هذا المعتوه وقد اوشك على ان يفقد صوابه:
– لمي نفسك يا عائشة، لاضربك قلمين، انا عامل اعتبار بس لاختك ،
– لا متعملش اعتبار، وفكر بس تعملها يا سمير .
صاحت به بهجة بدورها، ليدخل على الصوت الشقيق الاصغر سامر ، يدلي بدلوه هو الاخر، بعدما فهم الموضوع من نظرة واحدة:
– ليه بتزعقي يا بهجة؟ وانت يا سمير لم نفسك ووسع الطريق لبنات عمك .
سمع الاخير ليزداد اهتياجًا:
– اه يا حبيبي انت كمان، اعملي فيها الحنين ، ما انا عارف غرضك.
قالها بمغزى وصل جيدًا لتمتقع ملامح بهجة، ويثير استفزاز شقيقه، والذي ما ان شرع بالرد الحازم حتى قطع عليه صياح والدته المراقبة من اول الشجار:
– ايوة ايوة يا ولاد خميس، ولعوا في بعض واعملوها خناقة وفضيحة، ما هو دا غرض المحروسة، تفتنكم في بعض.
جحظت عيني بهجة بقهر تعمق داخلها، مع انتباهاها لعدد من افراد الحارة تشاهد المشهد ، فجاء الرد من الصغيرة سليطة اللسان بشجاعتها كالعادة:
– تفتن مين يا حجة؟ قبل ما ترمي بلاكي علينا، شوفي عيالك الملزقين وابعديهم عننا، احنا اساسا مش ناقصين.
شهقت درية بإجفال لوقاحة الملعونة الصغيرة ، فعقب سامر بعتب:
– انا كمان حسبتيني ملزق يا عائشة، الله يسامحك.
قلبت عينيها بسأم، تذكره ان الوضع لا يحتمل التهاون، ليعود لوالدته يخاطبها بجدية:
– من غير كلام ولا فضايح ياما ، قولي لابنك يوسع الطريق لبنات عمه عشان يطلعوا شقتهم، انا مش عايز اتعصب عليه وهو شارب دلوقتي، ليخلص في ايدي .
هم سمير ان يعترض بحماقته، ولكن نداء درية كان الاسبق:
افتحلهم الطريق يا واد، وتعالالي الشقة، لا اطين عيشتك الليلادي، اخلص .
بأنفاس لاهثة اذعن سمير يتنحى عن الطريق لتعبر بهجة التي تمتمت بحزن دفين:
– حسبي الله ونعم الوكيل
تبعتها عائشة والتي رددت بسخربة
– ايوة كدة وسع وسع، ناس متجيش الا بالعين الحمرا، يا ابن درية المستقوية
❈-❈-❈
عاد الى غرفته قرب منتصف الليل ،والظلام يخيم على الارجاء، لولا ضوء القمر الذي يأتي من الجزء المكشوف من ستار الشرفة، لطالما وصفه بالجو الشاعري في اليالي الماضية، وسعادته الجمة في وصالها
اما الاَن فقد بدى على ملامحها الباكية وهي متكورة على ذاتها، مدى الحزن وذرف الدموع قبل ان يغلبها النوم على هيئتها تلك،
لا يعلم كيف فعل بها ذلك، هي لم تخطيء ليقهرها بالذنب القديم، ولكن ماذا كان بيده؟ وغليل رأسه لم ينتهي بعد، فكرة النظرة الى شيء يخصه لا يحتملها فما باله بمن……
تنهد يرفع رأسه للسماء مناجيا الخالق بالرحمة من هذا العذاب الذي ينخر برأسه ، ما ابشعها من افكار .
عاد اليها وقد رق قلبه لها ، ليخلع عنه حذاء قدميه، ثم ملابسه ، قبل ان يندس بجوارها يسحبها الى حضنه، حتى شعرت به، تردد باسمه ما بين الغفو والاستيقاظ:
– عصام،
– ايوة انا يا امنية، نامي نامي.
وكأنه القى بتعوذيته السحرية، لترتخي سريرتها، وتربح رأسها على صدره مستسلمة لنوم عميق ، فيُقبل رأسها هو، ثم يغمض عينيه، متنعمًا بدفء حضنها القادر على ان ينسيه همومه وافكاره السوداء حتى لو مؤقتًا
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
مرت من امامه اثناء ذهابه الى غرفة مكتبه، والتي بنفس الطابق الذي يضم القسم الذي تعمل به، ومع ذلك لا يراها الا نادرا، نظرا لعدم صلتها المباشرة بعمله،
لكنه دائمًا ما يصبر نفسه بلقائها في منزله على موعد مناوبتها او يسعده الحظ برؤيتها صدفة كما يحدث الاَن، لتفتح شهيته على اليوم بأكمله.
– بهجة.
هتف بأسمها امام عدد من افراد الموظفين المارة غير مباليًا بوضعه ولا بهيبته التي تثير الرهبة في قلوبهم أجمعين، ولكن معها ، هناك دائمًا استثناء.
برد فعلي طبيعي استجابت تغير وجهتها نحوه ثم لتتبعه، بعدما اشار لها بيده نحو غرفة مكتبه، كي تلحق به، لتمر على لورا التي وقفت بالتحية له ، حتى اذا وقعت عينيها على بهجة، خبئت ابتسامتها ولم تعلق على دخولها خلفه لغرفة المكتب، وهل تجرؤ في حضرته؟
❈-❈-❈
– افندم يا رياض باشا كنت عايزني في حاجة؟
صدر منها السؤال فور دلوفها، ليجلس هو خلف مكتبه على كرسيه بهدوء يجيبها:
– خير يا بهحة متقلقيش.
صمت برهة ثم تبسم مستطردًا امام ترقبها:
– ما قولتلك خير يا بنتي، انا بس استغربت لما دادة نبوية بلغتني بغيابك النهاردة عن مجالسة الهانم الكبيرة…..
ردت بلهفة:
– ايوة يا فندم، ما انا بلغتها عشان النهاردة معانا فرح ابن عمتي شادي اللي حضرت حنة خطيبته امبارح.
– اه
اومأ بهزة من رأسه، ثم اردف سائلًا:
– وهو الفرح مينفعش بعد ما تخلصي يا بهجة؟ ولا هو هيخلص على عشرة ؟
برقت خضرواتيها في اندماج واضح للرد عليه، جاهلة عن استمتاعه بوهجها المضيء وعفويتها في موضوع محسوم من الأساس ولكنها حجة للحديث معها:
– لا طبعا يا فندم، مينفعش بعد ما اخلص، امتى هلحق اتجهز انا واخواتي، دا مشوار القاعة نفسه محتاج وقت.
– وضع كفه بتسلية سائلًا:
– ليه بقى؟ وهي دي تبقى فين على كدة؟
اخبرته بطيبتها عن اسم القاعة وعنوانها بالتفصيل الدقيق، وهو يتحاور معها وكأنه من الحضور:
– ياريتني كنت معزوم معاكم يا بهجة، بصراحة انا من زمان نفسي احضر حاجة شعبية كدة، خصوصا وانتي بتقولي ان اهل العروسة صعايدة، يعني هتبقى ليلة.
– ايوة والله عندك حق يا فندم ، اصل شادي ابن خالي تعب كتير في حياته وصبر على عيا والدته، ربنا عوضه بعروسة أدب وجمال ، هو يستاهل كل خير…..
– خلاص يا بهجة.
صدرت منه بانفعال وعدم احتمال، فقد تبدل مزاجه في دقيقة، وكأنه لشخص آخر، ليتمالك بعدها بابتسامة ملطفا بعدما شعر بحرجها:
– انا قصدي بلاش كلام ع العريس نفسه، وخلينا في الفرح، هيبقى مزمار بقى وحصان ، لو كدة اعتبريني حاضر من غير عزومة.
ضحكت بخجل نافية:
– والله ما اعرف يا فندم، انا اخري معزومة زي اي حد، بس انت اكيد تشرف اي حد بحضورك.
– تسلمي يا بهجة على زوقك.
قالها بهدوء وتباسط لتتدارك هي للوقت، فتحمحمت تستأذنه في المغادرة:
– طب انا كدة بقى اخرج اروح على شغلي ولا في حاجة تاني؟
نفى بهزة رزينة من رأسه:
– لا يا بهجة مفيش حاجة تاني، اتفضلي روحي على شغلك.
اومأت تهديه ابتسامة ساحرة، قبل ان تستدير وتغادر الغرفة، لتتركه في حالة من الانتعاش لا تكتنفه مع سواها.
اما هي وقد خرجت من عنده ودقات قلبها تعزف الحانا ونغمات تطرب اسماعها، دغدغات بمعدتها، مؤجلة صوت العقل وما يخبرها به دائما عن استحالة حدوث هذا الأمر ، وان ما يصلها لا يزيد عن لطف من الرجل لا اكثر.
التقت عينيها بخاصتي لورا والتي تفاجأت بهدوئها المريب هذه المرة، رغم عدم ارتياحها لنظراتها العدائية دائما نحوها، فتواصل هي طريقها تغمغم داخلها:
– لا حولا ولا قوة الا بالله، ولا اكني قتلتلها قتيل.
❈-❈-❈
أما عن لورا،
فقد مطت شفتيها بابتسامة خبيثة تطالع اثر بهجة في الذهاب، وهي تعيد برأسها، حديثها بالأمس حينما التقت ببهيرة شوكت في النادي الاجتماعي مع والدتها عن قصد حتى اذا التقت بالمرأة، بالطبع سوف تسألها عن رياض.
مساء الأمس،
(( – اخبار رياض ايه بقى في الشغل؟ انا بسمع عنه من مصطفى اخبار كتيرة تبهر.
– بالفعل هو كدة يا طنت، ما شاء الله في الفترة الصغيرة اللي مسك فيها المصنع عمل انجازات تأهله يبقى الاول ع الجمهورية ، وع الشرق الأوسط كله كمان في السنوات اللي، بس ااا……
– بس ايه يا بنتي؟ هو لسة تعبان مع نجوان؟
سألتها باهتمام لتتنهد هي بقنوط، فيعتلي الأسى ملامحها:
– ما هي طنط نجوان دايما تعباه، من ساعة والده ما مات وهي تعباه، ورغم ذلك عمره ما أثر على شغله، دايما بيرفكت وبيعرف يفصل كويس بين مشاعره والشغل، لكن بقى…
– لكن ايه يا بنتي؟ ما توضحى اكتر عشان افهم، اللي حاصل مع رياض؟
صمتت هذه المرة لبرهة بسيطة ، ثم تلتقط فرصتها على الفور:
– بصراحة بقى هو الموضوع له صلة بطنط نجوان…. البنت اللي شغالة مع نبوية في رعايتها……
، مالها؟
– بيعاملها معاملة خاصة.
قطبت بهيرة تتراجع برأسها للخلف مستفسرة:
– تقصدي ايه بمعاملة خاصة مع واحدة بتشتغل عنده؟ جيبي من الاخر يا لورا..
تراقصا مقلتيها باضطراب تقصده، لتواصل بث فحيحها:
– انا مش عارفة الوضع بالظبط، هناك عند طنت ايه ظروفه معاها، دي واحدة بتتشارك معاه البيت في غياب نبوية، وطنت نجوان دي في دنيا تانية، يعني الله اعلم بقى بتعمل معاه ايه، المهم انه بقى متعلق بيها ورقّاها في المصنع من عاملة على مكنة لوظيفة مكتبية، رغم عدم وجود مؤهلات، بصراحة يا طنت انا بقيت خايفة ان قصة عمو حكيم الله يرحمه مع السكرتيرة بتاعته تتكرر كمان مع رياض والبنت دي…..
برقت عينيها بغضب دفين، تطرق بعصاها على الارض بعنف قائلة:
– وتتكرر الفضايح للعيلة من تاني ، انتى ازاي ساكتة دا كله ومبلغتنيش؟
اسبلت اهدابها عنها وبصوت خفيض مزجته بالمسكنة ردت تجيبها:
– يعني انا في ايدي ايه بس يا طنت؟ لا انا خطيبته ولا ليا صلة مباشرة بيه عشان اتدخل ولا اشكي، انا يادوب موظفة عنده، وهو اساسًا مش مديني فرصة على الاعتراض، دايما بينصرها عليا، من غير ما يراعي فرق المكانة ولا الترتيب الوظيفي ولا حتى القرابة اللي بتجمعني بيه.
احتدت عيني بهيرة، ناظرة للأمام ، وقد اشتدت خطوط وجهها بتجهم غير مبشر بالخير على الاطلاق، لتطرق بعصاها على الارض قائلة:
– يبقى انا لازم اشوف الموضوع ده بنفسي. ))
❈-❈-❈
دلفا الى منزلهما الجديد عائدين من رحلة المنتجع الساحلي وقضاء اسبوعين عطلة شعر العسل، ليضع الحقائب على الارض ، وينطق فمه اخيرا بعد فترة طويلة من الصمت.
– انا هروح اطمن ع الست الوالدة واطمنهم بوصولنا، ع العموم الشقة فيها كل حاجة، يعني لو حبيتي تاكلي الاكل جاهز فى الثلاجة، ولو ليكي غاية للطبخ، كافة شيء هتلاقيها في المطبخ ، عبير قامت بالواجب قبل ما نوصل.
– كتر خيرها، انا مليش نفس وهروح انام.
خرجت منها بصوت ضعيف يكتنفه الحزن، لتستدير متوجهة نحو غرفة النوم، فزفر هو متهدل الاكتاف فور رؤيتها على تلك الحالة، ولم يقوى على منع نفسه هذه المرة من ايقافها وجذبها اليه، يحتضنها مشددًا بذراعيه، يحتويها بغمرته، حتى بللت دموعها قميصه بصمت ابلغ من الف كلمة، فيستدرك هو بحجم جرمه:
– للدرجادى زعلانة مني يا أمنية؟ طب انا اسف يا حبيبتي، ممكن بقى تصفي؟
رفعت وجهها المغرق بالدموع قائلة:
– انا عمري ما اشيل منك يا عصام، كل اللي مزعلني هو زعلك، واللي بيدور في دماغك وتاعبك من الداخل، نفسي نعيش حياتنا طبيعي، بعيد عن اي ماضي ولا شيء راح وولى، التفكير في اللي فات مابيجيش من وراه غير كل الهم ووجع القلب، ليه توجع قلبك يا عصام وتوجعني معاك؟
زفر يتأملها بقلب يتمزق لحالتها تلك، فرق قلبه، ليطبع قبلة رقيقة فوق عينيها متمتمًا بصوت متحشرج:
– بعد الشر عليكي من الوجع يا امنية، انا لو مش بحبك مكانش دا هيبقى وضعي، بس حاضر، هحاول من هنا ورايح اشيل من راسي عشان نعيش حياتنا ومنوجعش بعض.
تبسم محياها بالفرح، لتشب على أطراف اصابع قدميها، فتباغته بقبلة على وجنته مغمغمة بامتنان:
– ربنا يخليك ليا يا عصام، لو انت بتحبني ف انا بموت في التراب اللي بتمشي عليه.
– يا قلب عصام.
خرجت منه، قبل ان يدنو فجأة ويرفعها بين ذراعيه مردفًا:
– لا احنا كدة نعمل معاهدة صلح ع السريع، الكلام ع الواقف كدة مينفعش.
لاحقته ضاحكة:
– طب مش هتخرج تطمنهم بوصولك؟
قطف ثغرها بقبلة شغوفة سريعًا، ثم تحرك بها مرددًا:
– معاهدة الصلح اهم في الوقت الحالي يا امنية، اي حاجة تيجي بعدها؟
❈-❈-❈
دوى صوت المزمار في قلب الحارة بصخب، ليتجمع معظم افرادها في الطرقات وشرفات المنازل ، لاستقبال هذا المتعجرف، والذي ترجل من السيارة يستقبل التهاني والمباركات وكأنه المظفر بالنصر بعد هزيمة الخصم، تصاحبه اصوات الزغاريد من النساء ووالدته التي كانت تصيح بأعلى صوتها.
– عقبال عندكم يا حبايب، ربنا نصفه بعد ظلمه، ندرًا عليا لاكون عاملة ليلة كبيرة الكل ياكل فيها لحمة، حلاوة ان ربنا فك كربته وظهر الحق؟ زغرتو يا حبايب وفرحوا قلبي .
صدحت الزغاريد مرة اخرى بعد مطلبها، وتنطلق المباركات للمرأة ودعوات التمني:
– عقبال فرحه يا سميرة ، وتعملي ليلة اكبر منها .
– ان شاء الله يا حبايب، ان شاء الله يارب، يلا يا واد ارقص وفرح قلبي بيك .
تلقى منها ابراهيم لينطلق مع مجموعة الشباب من افراد حارته ليرقص ويتمايل معها على انغام المزمار، مندمجًا في الدور، وعيناه تدور باحثة عن والده، الفرد الوحيد الغير موجود ، ليكتم غيظه بداخله، الا يكفيه امتناعه عن زيارته طوال مدة سجنه، ليكملها الاَن بعدم اهتمامه امام افراد المنطقة.
تمتم بالعبارات المتوعدة من داخله، لكن سرعان ما تحول كل ذلك الى مرح، حينما وقعت ابصاره على ابنة خالته رؤى، والتي كانت عائدة من جامعتها في هذا الوقت، لتكن المفاجأة من نصيبها.
ليزيد هو من تمايله امام الشباب مرددًا بعبارات الكيد:
– رقصني يا عم الزمار وعلي الصوت، خلي الناس كلها تعرف بخروج ابراهيم وفك حبسته، دا الحرية حلوة اوي يا جدعان، رقصني يا عم خلينا نكيد الاعادي.
انضمت معه والدته في وصلة فجة بالابتهاج المبالغ فيه ، وقد فهمت لمقصده، تنقل ابصارها نحو ابنة شقيقتها:
– ايوة يا حبيبي خلينا نكيد الاعادي..
اما عن رؤى فقد ضاعفت من سرعة خطواتها، تخترق صفوف البشر، دون ان تعير اي فرد منهم اهتمامها، رافعة ذقنها للأمام بإباء كي لا تظهر ضعفها ولا تأثرها ، حتى اذا وصلت لبنايتها ودخلت منزلها ، زفرت معبرة عن قهرها:
– الهي تنكادوا انتوا يا بُعدا، وما تشوفوا الفرح ابدا، قادر ربنا يخسف بيكم الارض ويوريني فيكم يوم.
– بتدعي على مين يا بت .
صدر صوت والدتها من جهة المطبخ، لتخطو سريعًا فتصل اليها هاتفه بغضب:
– بدعي على اختك وابن اختك اللي عاملين ظيطة وهوليلة في قلب الشارع وعمالين يرقصوا ولا اكنه بريء بحق، صدق نفسه ونسي ان ربنا يمهل ولا يهمل.
– صوت مصمصة خرج من شفتي والدتها دون ادنى تعقيب منها، تدعي الاندماج في تقطيف ورق الملوخية الخضراء امامها على سطح طاولة المطبخ، مما استرعى انتباه ابنتها للتساؤل:
– نعم يا ست ماما، لتكوني انتي كمان صدقتي وعومتي على عومهم، والله ما هستغرب لو سمعتها منك.
التوى فمها لتقلب عينيها بتململ قبل ان يخرج صوتها بما ليس مستبعد منها:
– يا ختي انا لا بقول ولا بعيد، اديني مرزوعة مكاني اهو في المطبخ، لا خرجت ولا حتى بصيت من البلكونة، بس اهي الحكومة برئته والمحامي طلع بالدليل انه ما موتش المرحوم الله يرحمه، يبقى ندعي عليه ليه بقى؟ ونحمل نفسنا ذنوب؟
– يالهوي عليا وعلى سنيني السودة، والله كان قلبي حاسس.
صرخت بها رؤى، تستطرد بغيظ شديد:
– يعني مكدبة اخواتي البنات الاتنين واللي سمعوا اعترافه بودانهم، وصدقتي ابن اخوكي البلطجي المجرم وامه اللي شبهه…….
افتر فاهها تتوقف عن الكلام امام سلبية والدتها المفرطة لتختم بتعب:
– انا بكلمك ليه اصلا؟ وانتي مفيش فايدة من الكلام معاكي……. انا رايحة على اوضتي وسيباكي ياما.
قالتها وخرجت تنجي نفسها من شلل مفاجيء قد يأتي لها رغم سنها الصغير، فوالدتها قادرة على ذلك بشخصيتها المتذبذبة وبقوة.
❈-❈-❈
خرجت من دوام عملها ، تسرع بخطواتها، متخذة طريقًا مختلفًا عن العادي ، لتقف في الوجهة المختلفة من الطريق تشير بيدها لسائقي السيارات الأجرة حتى يقف لها احدهم .
فتفاجأ بإحدى السيارات تقف امامها ، حتى كذبت نفسها في البداية ان تكن تلك التي تعلمها، ولكنه أكد لها حينما انزل زجاج النافذة بهيئته المهيبة يخاطبها:
– عاكسة طريقك ليه النهاردة يا بهجة؟ وراكي مشوار؟
شعرت بالحرج من خلف سؤاله، رغم بالونات المرح التي كانت صارت تراها تزين الأجواء من حولها لاهتمامه:
– لا ما انا مش مروحة ع البيت دلوقتي، المستشفى اتصلوا عليا وبلغوني بتصريح الخروج لايهاب، انا الفرحة النهاردة مش سايعاني وعايزة ألحق اروح اجيبه على طول.
– خلاص تعالي اركبي معايا اوصلك .
– نعم !
تمتمت بها بعدم تصديق ، ولكنه عاد يكرر مشددًا:
– بقولك تعالي اوصلك معايا في طريقي، وبالمرة اتصلك بعم علي يوصلكم ع البيت بعد كدة.
هذه المرة اعترضت بارتباك شديد:
– لا يا افندم اتفضل انت مينفعش.
سمع منها ليصدر رده بأمر غير قابل للنقاش:
– اركبي يا بهجة وبطلي عبط، انا مش بكرر كلامي كتير.
اضطرت مذعنة لطاعته، لتنضم في الامام بجواره، منكمشة على نفسها، شاعرة بكبر المقعد عن حجمها الصغير ، او انه ليس بمكانها، بداخلها رهبة منه لا تنكرها ، رغم تلك المشاعر التي تعبث بها بحضوره، لتدخلها في صراعات لا نهاية لها، لك الله يا بهجة.
وكأنه كان قارئًا لافكارها، فور ان انهى اتصاله بالعم علي تحدث بتباسط، كي يخفف عنها:
– تلاقي الفرحة النهاردة مش سايعاكي عشان خروج ايهاب.
سمعت منه لترد على الفور بلهفة انستها التوتر وما كان يكتنفها منذ لحظات:
– اه والله يا فندم، انا فرحانة كمان عشانه، لاني سألت الدكتور، قال انه ممكن يخرج ويروح مطرح ما هو عايز، اهم حاجة يحرص على نفسه ويلبس الكمامة لحد ما يخف نهائي. انا ممتنة ليك اوي يا رياض باشا.
جاء رده بروتينية:
– مفيش داعي للشكر ولا الكلام دا من اساسه يا بهجة.
– لا يا فندم ازاي بس؟
قالتها تبتلع رمقها، مرددة:
– انا مصرة برضو انى اسدد تمن المستشفى، اخويا طوّل هناك، ودا اكيد جر فلوس كتير اوي، مش معقول يعني كل ده تتحمله لوحدك؟
تطلع نحوها بنظرة غامضة وملامح مغلقة كعادته، ولكنها طالت حتى اخجلتها لتحيد ببصرها نحو الطريق امامها حتى وصلها رده:
– احنا اتكلمنا في الكلام ده قبل كدة وقولتلك بعدين، يبقى خلاص يا بهجة بقى، المهم دلوقتي ممكن تكلميني عن الفرح اللي هتحضريه؟
قطبت باندهاش سائلة:
– هكلمك في ايه تاني يا فندم؟ هو انا لسة حضرته من الاساس؟
– خلاص يا بهجة، يبقى انا كدة في انتظار انك تحكيلي عنه بعد ما تحضريه.
رغم تفاجأها إلا انها لم تجد امامها سوى الموافقة بإماءة من رأسها، يكتسحها خجل جميل، زين وجنتيها بالورود، وتوهجت له خضراوتيها، لتزيدها سحرًا فوق السحر.
❈-❈-❈
– خرج !
تمتم بها بعدم تصديق، فور ان سمع بالاخبار الجديدة من صديقه عقب لقاءه به، ليؤكد عليه الاخر :
– المحامي الفاسد يا عصام، قدر بأساليبه الملتوية، يجمع ادلة وبراهين مزورة مكنته يقدمها للقاضي ويحكم بخروجه، اصناف قذرة.
توقف امين بعدما رأى بأم عينيه، تصلب وجه الاخر، وخطوط وجهه التي اشتدت بغضب دفين، ليوضح محذرا:
– اسمع يا عصام، البني ادم ده تشيله من مخك مهما كان الخلاف ما بينكم، سيبني الله يرضى عنك اتكتكله وادور وراه براحتي، ما انا مش هسيبه.
– ولا انا هخليه يفلت من ايدي.
طالعه امين معترضا بتشدد:
– القضية دي بتاعتي من الاول يا عمنا، خليك انت في حالك ومتدخلش الامور الشخصية في الشغل.
ضغط يطرق بقبضته على سطح الطاولة بينهم مرددا:
– اوعدك اني مش هدخل الامور الشخصية بينا، بس بلاش تبعدني عن القضية دي.
تحدث امين برفض قاطع:
– وانا رافض يا عصام، احسنلك تنفذ امر رئيسك وتنشغل في القضية المسؤول عنها، وانا لو عوزتك هبقى ادخلك تشتغل معايا.
❈-❈-❈
خرجت من حمام غرفتها، تجفف شعر رأسها بالمنشقة الصغيرة، لتتوقف امام المراَة تتأمل وجهها المتورد بالسعادة، بعد تلك الساعات التي قضتها معه في عقد معاهدة الصلح، ما أجمله من رجل في ساعة الصفا، في جموح عشقه لها ، في كلمات الغزل التي يلقيها على اسماعها يدغدغ انوثتها ويدللها،
خرجت تنهيدة قوية منها تتمنى لو يظل على هذا الحال ولا يتغير ابدا.
القت بالمنشفة تهم بتمشيط شعرها، لكن وما أن شرعت ان تفعلها حتى دوى صوت الهاتف بالاتصال ، ف اقتربت على الفور تجيب الرقم الغريب، لربما تعرفه:
– الوو…. مين معايا؟
– الوو يا قلبي، انت لساكي برضو محتفظة بالرقم القديم…….
انتفضت تلقي الهاتف من اذنها على الأرض، وكأن عقرب لسعها بهذا الصوت الغريب، لا تصدق ما وصل لأسماعها..
– الوو يا أمنية، انتي روحتي فين بعيد عني؟
اغلقت على الفور المكالمة تتبعها بحظر الرقم من الأساس، وقلبها يضرب بفزع، وهي مازالت تكذب احساسها، حتى حسمت تتناوله مرة اخرى، تتصل هذه المرة بشقيقتها:
– الوو يا رؤى…… كويسة يا حبيبتي والحمد……. معلش بس انا كنت عايزة اسألك عن الزفت ابن خالتك ابراهيم……… انا كمان سمعت؟!، سمعت ايه مش فاهماكي……. يا نهار اسود خرج….. ازاي يا رؤى؟!
❈-❈-❈
عاد من الخارج وحالة السعادة برؤيتها مازالت تغمره، كلماتها الرقيقة وخجلها حينما يضيق الخناق عليها بأسئلته الفضولية، هذه الصفة ليست به من الأساس، ولكنه يكتشفها الان معها هي فقط،
تسمرت قدميه فجأة، منتبهًا للحاضرين الجدد لمنزله، وتلك الجالسة بشموخ امامه في زيارة لا تكررها الا كل شهور تقريبا، رغم قرب المسافة ولكن تملك الحجة بمرضها ، إذاً ما سر الزيارة الغريبة؟
– بهيرة هانم عندنا! طيب مش كنتي تتصلي ولا تبلغيني يا خالتو!
قالها مرحبا، ليقترب منها يقبل وجنتها بخفة قبل ان يجلس مقابلًا لها بجوار والدته المنكمشة على نفسها بمقعدها:
تبادلت معه التحية مرددة:
– انا لقيتك مش سائل، قول اجي اطمن انا بنفسي عليك وعلى اختي الحبيبة، واللي قاعدة قدامي دلوقتي خايفة ولا اكني هاكولها.
امتدت كفه على نحو والدته يلمس عليها بحنان لتهدا، وهو يبرر ملطفا:
– لا يا خالتو ايه الكلام دا بس؟ هي ماما مش عارفاكي يعني، يا نبوية.
هتف بإسم المرأة جليستها، وما ان خرجت اليه حتى تفاجأ بشقيقتها معها، ليعبر عن دهشته:
– ايه ده؟ دي دادة وصيفة كمان معاكي!
– ايوة يا رياض باشا، شوفت بقى المفاجأة؟
تبسم باضطراب يتقبل ترحيب المرأة ومزاحها قبل ان يأمر نبوية بسحب والدته لغرفتها، ثم توجه باستفهام نحو بهيرة والتي لم تتعبه في الانتظار:
– انا جايبة وصيفة تساعد مع نبوية في رعاية نجوان، بلاها من اي حد غريب احنا مش واثقين فيه.
مازال التوجس سيد الموقف بداخله ليواصل استفهامه:
– غريبة يعني انك تستغني عنها دلوقتي، انا عارف بمعزة وصيفة عندك، بالظبط زي نبوية عندنا.
ابتسامة ماكرة لاحت على محياها مبررة بكلمات مقصودة:
– دا حقيقي، بس في حاجات بقى بتجبر البني ادم انه يضحي، ع العموم انا عندي من الخدم كتير وكلهم تحت امري، الدور والباقي بقى على نجوان…
توقفت تخرج تنهيدة من العمق مستطردة؛
– مسكينة الحب ضيعها، ياريتها سمعت كلامي ولو مرة واحدة ، دي كانت اجمل بنات العيلة، اجمل مني انا شخصيا، كل الشباب كانوا بيتمنوا رضاها وسبحان الله هي ما اختارتش غير اسوأهم، عشان تعيش معاه مهووسة بحبه مهما يعمل فيها ، وفي الاخر تكتشف بعد فوات الأوان، بعد ما تنقلب بيه العربية مع عشيقته اللي يتضح بعد كدة انها زوجته، والمسكينة تفقد عقلها…..
-لزومو ايه الكلام ده يا خالتو ؟
هتف بها بانفعال ورأس مشتعل، بعدما عبثت بمكرها، داخل هذه الدائرة السوداء برأسه، والتي دائما ما يجاهد للخروج منها، وعدم تذكرها، لتواصل هي بمراوغة:
– انا مش قصدي حاجة طبعا يا حبيبي، بس تقدر تقول كدة افتكرت……
بنظرات يملأؤها الشك، صار يحدجها يصعد ويهبط بانفعال لا يخفيه، ف استطردت هي بتملق:
– حبيبي يا رياض انت عارف اكيد بمعزتك عندي، طول عمري اقول انك ابني التالت، لا ورثت العاطفة المبالغة من والدتك ولا غدر وفشل والدك الله يرحمه.
احتدت عينيه حتى صارت كلهيب جمر محترق، فواصلت هي بالطرق على الحديد الساخن:
– انا حتى بشبهك بمصطفى لولا بس عيبه انه اتجوز الممثلة دي اللي متناسبناش في اي شيء، بس نفعاه ع الاقل بعلاقاتها وشهرتها، مش ناوي بقى تشاركه وتكبر مصنعك؟
ضرب بكف يده على ذراع الاريكة باعتراض وتشدد:
– بس انا مش عايز مساعدة من حد يا بهيرة هانم ، حتى لو كان مصطفي نفسه، مصنعي هكبره لوحدي، واسمي هيبقى ماركة مسجلة في الشرق الاوسط وفي العالم كله….
تبسم ثغرها باتساع وقد وصلت لمبتغاها لتردف:
– هو دا اللي انا بتمناه وواثقة انك هتعمله يا رياض، وساعتها يبقى اللي ناقصك حاجة واحدة بس، هو النسب اللي يشرف، واحدة كدة زي ميسون مرات عدي، نسب يشرف وولادك يفتخروا بيه لما يجوا ع الدنيا، مش يلوموك على سوء اختيارك!
هكذا وبكل سهولة استطاعت بفحيحها، النبش في ذاك الجرح الغائر بدواخله، ذاك الذي مهما مرت عليه السنوات لا يندمل ولا يشفى أبدا، مهما تناول له من ادوية او حتى مسكنات.
❈-❈-❈
صدحت زغروطة كبيرة من صباح ، جلجت في قلب الحارة فور استقبالها لبهجة وشقيقها العائد اخيرا لمنزله بعد رحلة العلاج:
– يا الف الحمد لله ع السلامة يا هوبا، نورت بيتك ومطرحك.
قابلها الاخير بابتسامة ملوحًا بكفه لها بالتحية في الهواء، الله يبارك فيكي يا خالتي ، دا انتى اللي منورانا والله .
– لا يا اخويا منوراك دا ايه؟ انا صاحبة بيت.
قالتها بتباسط وهى تضم بهجة وتهنئها بعودة شقيقها، لتردف بعد ذلك بأمر:
– ولا ايه يا بت انتي، صاحبة بيت انا ولا واحدة غريبة؟
جاء رد بهجة ضاحكة:
– لا يا خالتي دا احنا اللي ضيوف عندك.
توقفت فجأة تطالع المنزل ونظافته لتعقب بمرح؛
– بس انتي تعبتي نفسك ووضبتي البيت ليه؟ كان يكفي بس اوضة ايهاب اللي هيريح فيها .
– يا بت ما قولنا اني مش غريبة، الله.
قالتها صباح بمرح لتتناول منها ذراع ايهاب وتتجه به نحو غرفته مرددة لها:
– روحي انتي بس اطفي من ع النار وانا هدخل ايهاب على اوضته .
– يالهوي عليا، انتي كمان طبختي!
تمتمت بها بهجة في اثرها بحرج شديد، لتهرول سريعًا نحو المطبخ، تطفيء نار الموقد الغازي، وتطمئن على الطعام قبل ان تلحق بهما داخل غرفة ايهاب الذي كان يتسطح على الفراش وهي تسحب الغطاء عليه، مخاطبة له بحنان:
– ريح شوية يا حبيبي من مشوار المستشفى على سريرك، ربنا ما يغيبك عن اخواتك ابدا تاني.
– يارب يا خالتي، انا فعلا عايز اريح شوية عشان افضي للمذاكرة المتأخرة عليا.
– ربنا يعينك يا بني.
قالتها وخرجت تغلق الباب عليه بخفة حتى لا تزعجه، لتجد بهجة هي الأخرى في طريقها اليها بعد مغادرة المطبخ، قائلة:
– خرجتي بسرعة يعني؟ هو ايهاب لحق ينام؟
جلست صباح على مقعد السفرة تشير لها على المقعد المجاور:
– انا اللي قولتله يريح، تعالي انتي عشان عايزاكي في كلمتين.
اقتربت تنفذ الامر وتسألها باهتمام:
– كلام ايه يا ست الريسة؟ في حاجة في الشغل.
نفت صباح بهز رأسها وبوجه واجم سألتها:
– قبل كل شيء انا عايزة اعرف، اخواتك البنات بيغيبوا لحد الساعة كام كل يوم كدة؟
ردت بهجة قاطبة بدهشة:
– على حسب مواعيدهم، جنات حسب المحاضرات، وعائشة حسب المجموعات اللي بتاخدها، ممكن يجوا بدري وممكن ييجو متأخر، بس هو الخميس دا عندنا معروف، جنات بيبقى يومها مزحوم بالمحاضرات وعائشة بتاخد دروس لبعد العشا.
– يعني انتي بس اللي بتيجي على ميعادك الساعة التلاتة، بما ان ايهاب كمان في المستشفى يعني.
اهتزت رأسها بمزيد من التشتت:
– ايوة يا ست الريسة، لزومها ايه الاسئلة دي؟
زفرت المرأة الواضعة يدها على وجنتها، لتنطق اخيرا بما اجفل بهجة:
– بسأل يا غالية عشان اعرف الحاجة اللي لقيتها مرشوشة دي قدام البيت مين المقصود بيها، واديني اتأكدت انها انتي .
– انااا؟ ….. حاجة ايه ؟ انا مش فاهمة حاجة يا ست الريسة.
تحدثت صباح توجهها بتحذير:
– من الاخر كدة يا بهجة، انا لما جيت هنا البيت، على حسب اتفاقنا، عشان اسبقك قي توضيب اوضة ايهاب وتعقيمها قبل ما توصلي انتي بيه من المستشفى، خدت بالي يا غالية من مية غريبة مرشوشة على عقب الباب، لولا اني مجربة الالاَعيب والوساخة دي من قرايب جوزي الله يرحمه، كانت هتعدي عليا ومكنتش هاخد بالي.
– يا نهار اسود.
تمتمت بها بهجة ضاربة بكف يدها على صدرها تردد بجزع وصدمة:
– يعني كان ممكن تضري فيها انتي كمان، او اي حد من أخواتي، طب اتصرفتي فيها ازاي؟ ولا هي لساها موجودة؟
قاطعت صباح هذيانها بلمسة من يدها توقفها:
– مفيش حاجة موجودة اطمني، بقولك الحاجات دي لان ياما عدت عليا من قرايب جوزي، يعني اكيد عرفت التصرف الصحيح معاها ازاي؟ المهم انتي يا حبيبتي، تخلي بالك كويس اوي ، اللي عمل العملة دي عارفكم كويس اوي وعارف خط سيركم ومواعيدكم بالظبط.
تابعت بإشفاق:
– انتي طيبة اوي يا بهجة، بلاش تخلي حسن النية اللي عندك يضرك، المرة دي جات سليمة وربنا صدرني اشيل الاذى من طريقك، المرة الجاية مش مضمونة، حطي عينك وسط راسك يا بنتي، أخواتك ملهمش غيرك، وانتي ملكيش غير نفسك.
اطرقت بهجة بحزن تهدلت له اكتافها، لتمتم بقهر:
– طب ليه يحصل معايا كدة؟ هو انا اذيت مين عشان يأذيني كدة؟
ربتت صباح بكف يدها على ذراعها بحنو تخبرها:
– شيلي من على قلبك يا حبيبتي، وهو اللي يتجرأ ويعمل الوساخة دي محتاج تبرير ولا مستنيكي تأذيه عشان يعملها؟ لا يا بنتي، اللي بيعمل كدة، دا بيكون قلبه مليان بالحقد والسواد ناحيتك، حصني نفسك انتي واخواتك والبيت كله، داومي على أذكار الصباح والمساء وزي ما قولتلك، برضو تبقى حريصة، وقادر ربنا يرد كيدهم في نحرهم الاوساخ اللي بيعملوا كدة.
اراحتها بكلماتها ، لتطالعها بامتنان شعرت به صباح، لتشاكسها مغيرة دفة الحديث:
– المهم سيبنا من الهم ده وخلينا في الفرح، قوليلي هتلبسي ايه النهاردة في زفة ابن عمتك؟
اشرق وجه بهجة وقد أسعدها فعل المرأة، لتجاري محاولاتها للترفيه عنها، فتخبرها بلهفة عن ما تنتوي فعله……..
❈-❈-❈
في المساء،
دلفت داخل القاعة بصحبة شقيقاتها عائشة وجنات اللتان تزينتا مثلها بالجديد ، بعد تيسر حالتهم الى حد ما بمبلغ النقود الذي اكتسبته بهجة من عملها الجديد كجليسة بمنزل رياض .
وقد ظهرت اليوم في ابهى صورة، بذلك الفستان الذي ابتاعته بعد فترة من الانقطاع، لتعيش عمرها الطبيعي
بتلك الهيئة الانثوية التي خطفت بها الانظار كعادتها، لتثير في قلب الحاسدين المزيد من السخط والكره.
– يا بت اللذين……
تمتمت سامية والتي سقط العصير من فمها فور ان وقعت أنظارها على ابنة عمها ، لتلكز والدتها المندمجة في الحديث مع احدى النساء، فتلفت انتباهها.
– شايفة ياما البت بهجة واللي عملاه في نفسها النهاردة بعد ما كانت راسمة دور الحجة، اقطع دراعي ان ما كانت جاية وراسمة تلقط لها عريس من البهوات قرايب العروسة.
مصمصت درية بغل وقد ارتكزت ابصارها على ناحية اخرى:
– ياريت يا ختي يحصل، ع الاقل تغور الصعيد وتريحني من خلقتها، أخواتك الاتنين عيونهم هتطلع عليها، دول مش بعيد يقتلوا بعض عشانها، يا خيبتك السودا يا درية هو العمل مشتغلش ولا ايه؟
غمغمت بالاخيرة بصوت خفيض وكأنها تحدث نفسها، ولكنها وصلت الى ابنتها التي اقتربت منها متسائلة بعدم فهم في البداية قبل ان تلقطها بذكائها؛
– عمل ايه؟…… هو انتي عملتلها عمل ياما؟
قرصة بخصرها تلقتها على الفور من والدتها التي همست تكز على اسنانها بتحذير:
– وطي صوتك يا زفتة ولمى لسانك، هتجيبلنا المصايب.
صمتت سامية ومن قراءة سريعة لملامح والدتها الجديدة، ايقنت بصحة ما سمعته، لتتبسم بانتشاء مطيعة لها:
– عيوني ياما هخرس خالص، بس هنكمل كلامنا في البيت.
التوى ثغر دورية ولم تعلق لتعود بأبصارها نحو مصدر همها، أبنائها الاثنان ومحاولاتهم الحثيثة في التقرب من هذه الملعونة ابنة عمهما، بصورة تفضح ما بداخلهما نحوها، لتتوعد هي بداخلها:
– ماشي يا بهجة، ان ما اشتغلش ده، فيه غيره، انا مش هستريح غير لما اخلص منك.
❈-❈-❈
اما عنها فقد كانت مستمتعة بفقرات الحفل التي على وشك البدء، في جلسة تجمعها على طاولة واحدة مع رحمة ابنة عمتها وشقيقة العريس مع بعض الافراد من عائلة العروس من نساء، ليتعارفوا بها، فتندمج هي بالحديث معهن، لتتغاضى عن محاولات ابناء عمها في التقرب اليها بحجج واهية ونظراتهم المسلطة نحوها تثير ازعاجها وتشعرها بالاختناق، لتعقب عائشة بفراستها ساخرة مما تراه امامها:
– عيال عمك الملزقين فاضل بس يقعدوا ع الطرابيزة جمبنا يا بهجة عشان يهمدوا من اللف حوالينا، ولا عمي خميس.. عايش الدور بعد ما لبس شبابي وزرع الصلعة، عينه مش سايبة بنت ولا ست ، يارب يعملها عشان اشوف درية وهي بتولع .
تمكنت بطرافتها ان تثير ضحكات شقيقتها، ورحمة التي لم تقوى على التوقف مرددة:
– يخرب عقلك يا عائشة دا انتي بلوة .
ردت بهجة هي الأخرى:
– انتي شوفتي حاجة، دي على رأي ابويا الله يرحمه سحبوها من لسانها.
– الله يرحمه مكدبش.
قالتها رحمة لتلتف نحو مصدر الموسيقى والإضاءة التي تغيرت للفقرة الرئيسية بالحفل، بتوقف شقيقها في انتظار عروسه والتي دلفت بصحبة احد اشقائها، ترافقها موسيقى واغنية حسين الجسمي للزفاف
إدخلي عمري بخطوتك اليمين
إضوي أيامي وعتمات السنين
قرت عيوني بشوفك مقبلة
يا الملاك اللين العذب الرزين
إسمعي نبضي وراء صوت الدفوف
من لمحتك ضيع الشوق الحروف
إسمعي نبضي وراء صوت الدفوف
من لمحتك ضيع الشوق الحروف
نورتي نورة حياتي دنيتي
يا ضيا عيني وأغلى ما تشوف
تابعت صبا بهيئتها الملوكية الساحرة، لتنتقل من يد شقيقها الأصغر، ثم للأكبر عمرا وهكذا من يد الى يد حتى وصلت الى ابيها الذي طبع على رأسها قبلة حانية قبل ان يسلمها لعريسها الذي كاد أن يفقد رزانته اليوم برؤية جنيته الساحرة،
بمشهد اثر ببهجة واصابها بالتحسر على فقدان والديها، وحرمانها بالتأكيد من هذه اللحظة التي اثارت القشعريرة داخلها بالتوق لها، لتستعيد رشدها بعد لحظات وتستغفر ربها ، ثم تندمج في فقرات الحفل والرقص على المزمار كما توقعت في الصباح في حديثها مع مديرها رياض….. يا الهي، ترى ما نهاية حكايتها معه هو الأخر؟
❈-❈-❈
اما عنه،
فقد كان يتقلب على فراشه في هذا الوقت، وكأنه على جمر مشتعل ، رأسه يكاد ان ينفجر من التفكير ، يعمل في كل الاتجاهات، منذ متى صار بهذا الصعف؟
كيف تغيرت خطته والطريق الذي رسمه منذ سنوات لا يذكر عددها للوصول إلى هدفه؟
يعلم ان خلف زيارة بهيرة شوكت طرف دفعها لذلك، ولكنه لا ينكر صحة قولها ، لقد واجهته امام نفسه، لتعيده الى ذاته، في ظل سيطرة هذه البهجة على تفكيره، لا ينكر سطوتها عليه رغم ضعفها، رغم لطفها ورقتها ، ولكن لابد له من ايجاد الحل، لا يمكن استمراره على هذه الحالة، لابد من الحسم؟
انتفض يعتدل بجزعه، حازمًا امره في تنفيذ ما طرأ بعقله دون تراجع، وكما قال المثل العربي القديم، وداوها بالتي كانت هي الداء.
لا يوجد حل سوى بها؟ علٌه بعد ذلك يستريح من هذا العذاب.
❈-❈-❈
داخل الفندق الذى تم عمل ليلة الزفاف بقاعته، ثم حجز هذه الغرفة كهدية له ولعروسه، بصفته انشط الموظفين به، جلست هي تنتظره على تختها بالفستان الضخم، حتى ينتهي من المباركات والتهاني من اصدقائه، والذين عملوا على خدمته، لما تجمعه من مودة بينهم.
ليلج اليها بخطوات متأنية متمهلة، يسترق النظر حتى وقف امامها تماما يتأمل خجلها وتلك الابتسامة المستترة خلف شقاوة يعلمها تمامًا، حتى في هذه اللحظة!
مال برأسه نحوها يسألها بنظرات كاشفة:
– بقالي ساعة بسلم ع الزمايل برا وبتقبل التهاني منهم، وانتى قاعدة هنا على سريرك، مغيرتيش فستانك يا صبا؟
ردت تجيبه ببساطة:
– عادي يعني، لفيت على صور السيشن بتاعتنا، ع التليفون، وخدني الوجت ونسيت.
زام بفمه بمكر مرددًا:
– يعني خدك الوقت ونسيتى الليلة والفرح وكله…..
ارتفع كتفيها وانخفضا بابتسامة متلاعبة، ليفاجأها بخلع سترته على الفور، ثم يشرع في خلع قميصه مرددًا :
– خلاص يا قلب شادي افكرك انا .
برقت عسليتيها بإجفال متسائلة:
– انت بتعمل ايه؟
– بفكرك يا قلب شادي.
وما ان انهى جملته حتى القى بقميصه على التخت، لتنتفض بخجل منه ناهضة لتهرول نحو المرحاض، وقد اصبح امامها عاري الجذع.
لحق بها يرفعها من خصرها والفستان الضخم سائلًا بجوار اذنها:
– ايه يا صبا، على فين يا قلبي؟
خرج ردها بصوت مهتز، وتراجع واضح عن التلاعب به:
– هغير هدومي يا شادي، ودي محتاجة سؤال .
قهقه بصوت عالي يديرها اليه:
– لا ما دا كان الاول يا صبا، انما دلوقتي…..
– ايه؟
– سألته ببرائة لتتلقى الرد عمليًا، حينما حطت شفتيه، ترتشف من شهد ثغرها، مشاعر مختلطة عصفت بها لا تدري لها مسمى، فلا هي بقادرة على منعه، ولا بقادرة على مجاراة جموحه، لتظل على هذا التخبط حتى افلت نفسه عنها بصعوبة يتأمل خجلها الشديد، وهي غير قادرة عن مبادلته النظر بعيناها، وكأنها اصبحت قطة وديعة بين يديه، ليعقب:
– ياااه يا صبا، دا انا نفسي نسيت، وشكلنا كدة هناخد وقت كتير على ما نفتكر….
وما كاد ان ينهيها حتى رفعها بفستانها متابعا بمزاح امام صمتها :
– ايه يا صبا؟ القطة اكلت لسانك .
لم تقوى على الرد سوى بقبضة منها تدفعه بصدره، ليقهقه عائدًا بها نحو التخت:
– هو دا اللي ربنا قدرك عليه مش بقولك هناخد وقت كتير عشان نفتكر.
❈-❈-❈
في اليوم التالي صباحًا،
وفور ان ترجلت بهجة من وسيلة النقل الحكومي، وصارت في اتجاه عملها وصلها اتصال برقمه، فردت تجيبه على الفور باندهاش:
– ايوة يا رياض باشا، نجوان هانم فيها حاجة؟
– لا يا صبا دا انا اللي عايزك ، غيري طريقك وتعالي ع الجهة الشمال، انا قاعد مستنيكي في العربية.
– عربية ايه؟
تمتمت سائلة ، لتنفذ متخذة الطريق الاخر، فتجد سيارته امامها بالفعل ، فتسائلت بتوجس:
– طب انت قاعد ليه في العربية ، ما الشغل قريب ، تقدر تقعد في مكتبك.
اجابها بحزم :
– بقولك عايزك في حاجة ضروري يا بهجة ممكن .
اضطرت لطاعته، حتى اذا اقتربت تنضم معه، تحرك سريعا بسيارته ليختفي بها من قلب المكان، فسرى القلق بداخلها، لدرجة جعلتها تندم، ولكنه فجأها بالتوقف، يباغتها بقوله:
– انا عايز اتجوزك يا بهجة.
صمتت قليلًا تستوعب ما التقطته اسماعها، لتردد بعدها بلحظات بعدم تصديق:
– تتجوز مين حضرتك؟ هو انت بتهزر يا رياض باشا؟
بجدية شديدة جاء رده:
– قبل ما تحكمي اني بهزر ولا بتكلم جد، ممكن تسمعي مني الاول؟
ضاقت عينيها قليلًا بتوجس، قائلة:
– اتفضل حضرتك انا سمعاك…..
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
تسحبت على أطراف اصابعها حتى وصلت لتقف خلف مدخل باب غرفة والدتها، لتتصنت على مكالمتها عبر الهاتف، بصوتها الخفيض كالهمس، حتى لا يصل لخارج الغرفة:
– ايوة يا ست مبروكة، العمل باينه مشتغلش، خلي الشيخ يعملي غيره شالله يسترك………. يووه…….. يا ولية بقولك العيال على حالهم، لا دا كمان شكلهم زايد اوي النهاردة من ساعة ما شافوها امبارح في فرح ابن عمتهم وهي متزوقة،……… لا يا ست مبروكة هو قالي ان العمل هيشنغل في اليوم نفسه، بس دا محصلش، يبقى الفلوس اللي دفعاها انا وقعت في الارض على كدة……. يا ستي عارفة اني تعبتك معايا ، بس انتي المساعدة بتاعته ولازم تبلغيه يتصرف بحاجة تانية، حرام اكون دافعة ومكلفة وفي الاخر ميجبش فايدة………. تاني هتحدديلي ميعاد ؟ يبقى فيها دفع فلوس تاني يا مبروكة انا عارفة……… خلاص يا ست متتعصبيش حدديلي ميعاد، انا لولا بس واثقة في كرماته ومجرباه قبل كدة، كنت قولت انه نصاب…….. خلاص مش هزعل الاسياد ولا اللبخ، بس انتي استعجليلي ميعاد مقابلتي بيه، متلطعنيش ، انا عايزة اخلص من البت واطمن ع العيال الموقوف حالهم………، كدة طب انا على ما اجي بقى تكوني حضرتي الحاجة مع الشيخ…….. تسلمي يا غالية تسلمي، هجيب حلاوتك معايا حاضر………. انتي تؤمري.
ختمت بتنهيدة مسهدة فور ان انهت المكالمة ، لتلتف بجسدها، وتصطدم ابصارها، بتلك الملعونة ابنتها ، مستندة بظهرها على إطار الباب، تطالعها بنظرات كاشفة وابتسامة ماكرة تخبرها انها سمعت كل الحديث:
– يعني ظني طلع صح……. احبك يا درية لما تخططي وتكتكي في الكوتيمي.
زفرت والدتها تحدجها بغيظ شديد، لتقترب فجأة وتجذبها قابضة على عضدها بعنف لداخل الغرفة فتحذرها كازة على اسنانها؛
– اسمعي يا بت انتي، الكلام ده حسك عينك يطلع لحد، ولا حتى بينك وبين نفسك، يا اما يا سامية قسما بالله لاطلعه على جتتك…
قابلت ابنتها العاصفة الهوجاء منها بتباسط وابتسامة لم تتخلى عنها ، لتطمئنها:
– ياما متقلقيش سرك في بير، انا برضو بنتك والمصلحة واحدة، بس كنت عايزة اعرف بقى، العمل عملاه على اساس ايه؟ يجيلها المرض وتموت بيه؟ ولا تغور في داهية بعيد عننا؟
التوت شفتي درية تمصمص بشفتيها مستنكرة التجني عليها:
– مرض ايه وهباب ايه يا زفت الطين انتي، شايفاني قدامك قتالة قتلة يا بت، دا انا واحدة بتخاف ربنا ، واللي بعمله ده عشان مضطرة، عيالي هيروحوا مني بسببها اقف متكتفة بقى؟ لا طبعا، انا بس موصية الشيخ يطلعها جاموسة ولا قرد في عيونهم، عشان يكرهوها أو يغورها عننا بأي نصيبة، بس كدة .
– بس كدة ياما؟
رددت خلفها بتشكك، لتردف درية بتأكيد:
– بس كدة يا هبابة، واقطمي بقى عشان الرط يجيب مشاكل ويكشف المستور، واحنا بنقول يا حيطة دارينا.
أومأت سامية تهز رأسها بحماس مرددة:
– من عيوني ياما، ما انا قولتلك سرك في بير، بس انا سمعاكي بتقولي انك مجرباه، كنت عايزة اعرف، في ايه بقى جربتيه قبل كدة وعرفتي بكرماته؟
الى هنا ولم تتحمل درية، وقد فاض بها من تدخلها، لتكزها بقبضتها، تنهرها بوعيد:
– وانتي مالك يا زفتة؟ عايزة تحشري نفسك كمان في اللي فات، بقك دا يخرص خالص، وإياكي تنطقي بالكلام ده تاني، لا قدام غيري ولا قدامى، وابعدي بقى خليني اشوف اللي ورايا جاتك الهم .
دفعتها من كتفها وتحركت مغادرة لخارج الغرفة ، لتتبع اثرها ابنتها وبداخلها حماس لا تخفيه، بعد اكتشافها سر هذه القوة الخفية التي تمكن والدتها من فعل ما تريد، وشيطان رأسها يوسوسها للمضي في نفس طريقها.
❈-❈-❈
بصدمة تعلو ملامحها تستعيد الحديث بذهنها وتكرره عدت مرات عل استيعابها الضعيف يصل لشيء اخر، غير هذا الذي فهمته:
– نعم يا رياض باشا، يعني انت عايز تتجوزني في السر، دا حقيقي ولا انا فهمت غلط؟
تحمحم يبرر بملامح جامدة وكأنه يخبرها شيء، عادي:
– انا مش بطلب منك حاجة عيب ولا حرام عشان تتعصبي كدة يا بهجة، لأن دي مش من اخلاقي اصلا، انا عايزك وعايزك بشدة، ولذلك ملقتش قدامي غير حلال ربنا.
عايزك وعايزك بشدة، تكررت في ذهنها عدة مرات، يبرز الامر لها، انه لا يتعدى الرغبة، يعني ليست تلك المشاعر التي كانت تنشدها، لكن يا ترى هل بالفعل هي هكذا؟ ام انه ينكر احساسًا داخله، يصلها في كل همسة وكل كلمة وكل نظرة منه، قلبها الصادق لا يخطيء ابدا، لكن ما الفائدة وهو في كلتا الحالتين اظهر لها وجهه الحقيقي ونظرته الدونية لها، ولكن ما العجب، الم تكن تلك قناعتها من البداية!
تنهيدة مثقلة خرجت منها قبل ان تعقب على قوله:
– بصراحة انا مخضوضة من جرأتك يا رياض باشا، بتبلغني برغبتك فيا كدة من غير تزويق ولا لف ودوران……
قاطعها مردفًا:
– انا راجل عملي يا بهجة، وقولتلك اني مليش في الحرام، ليكي عندي ان ءأمن مستقبلك بمبلغ محترم يغنيكي انتي واخواتك عن الاحتياج…..
قاطعته بدورها:
– على كدة بقى مصاريف مستشفى ايهاب من ضمن الحساب؟
زفر نافيا بهزة من رأسه واعتراض واضح:
– دي ملهاش دعوة يا بهجة .
– لأ ليها دعوة يا باشا، مدام الموضوع كله حساب في حساب .
صدرت منها بقوة لا تدري من اين أتت، كما انها تندهش لصمودها حتى الاَن امامه، بل ومواجهته بحدة، لتستفز هذا الجزء المتعجرف داخله:
– وان وافقتك وقولت امين هتقدرى تسددي التمن وانتي رافضاني؟
سألها ليرى تأثير قسوة السؤال على ملامحها التي امتقعت بقهر نبع بداخلها، ليشفق ملطفًا:
– احسنلك تخرجيها من الحسبة يا بهجة ، عشان يبقى قرارك من غير ضغط ، انا بحط قدامك المميزات بجوازك مني، لا عايز اضغط ولا امسكك من ايدك اللي بتوجعك، فكري كويس واعرفي فين مصلحتك..
– افكر في ايه؟!
تمتمت بها وجرح مزق قلبها لأجزاء ، لتردف بصراحة كاشفة بوجهه:
– طول ما الدين بتاعك مطوق رقبتي، يبقى حضرتك مش سايبلي اختيارات، كان عندها حق لورا لما صدمتني بالحقيقة في وشي، انا اللي كنت غبية وكالعادة غلبتني السذاجة اللي ورثتها من والدي ، عشان اصدق ان حضرتك فعلا بتعمل كدة لوجه الله او كرم منك، يا خسارة.
خرجت كلمتها الاخيرة بصوت بح من فرط ما يكتنفها من الداخل، ورغم الالم الذي كان يجتاحه لهيئتها تلك، الا انه أبى الا يظهر ضعفه امامها، ليواصل بجمود يتقنه:
– تمام يا بهجة، لو حابة تخلي الموضوع كدة، رغم انه على غير رغبتي، انتي حرة، انا بحاول أوسعها في وشك على قد ما اقدر، بس انتي مصممة تاخديها بدراما انا نفسي متفاجيء منها، ع العموم كدة باقي ردك.
اوما بكف يده في الهواء امامها، يوقفها ألا تتعجل التفوه بما لا يعجبه، فور ان افتر فاهاها لتهم بالرد، ليسبقها بحنكته:
– انا مش عايزك تردي في لحظة انفعال دلوقتى….. حاولي تفكري كويس وتعرفي فين مصلحتك، معايا مش هتخسري حاجة بل بالعكس، انتي هتكسبي كتير وكتير اوي كمان.
صمتت للحظات تطالعه بنظرة قادرة على الإطاحة بكل ثباته، ليخر راكعًا امامها يطلب الصفح ويستجدي موافقتها، وبالصورة التي تريدها، ولكن ما الفائدة؟ وقد سبق السيف العزل، ولابد من مواصلة الضغط،
لتحسم هي بالترجل من السيارة دون استئذان، تصفق الباب بقوة وتغادر دون ان ينطق فمها ببنت شفاه.
ليزفر هو طاردًا من صدره دفعة من هواء مشبع بإحباطه، والم ينغز بصدره كلما تذكر صدمتها به.
❈-❈-❈
بحث بعيناه داخل ارجاء الشقة بعد استيقاظه، ليجدها الان داخل المطبخ، تعد فنجان قهوتها على ماكينة القهوة، ف اقترب بخفة ليفاجأها بلف ذراعه حول خصرها من الخلف، يطبع قبلة على كتفها مرددًا:
– مصحتنيش ليه عشان اشرب قهوتي معاكي؟
تبسمت مستمتعة بغمرته لها تجيبه:
– محبيتش ازعجك، خصوصا وانت راجع متأخر امبارح.
– امممم.
زام بفمه بعدم رضا يعقب على قولها بسخرية :
– عندك حق، ما انا جيت لقيتك سهرانة مستنياني.
ضحكت تزيد من غيظه وهي تلتف نحوه واضعة كفيها على صدره:
– وانا اعملك ايه؟ ما انا فعلا قعدت مستنياك لقريب واحدة على فيلم السهرة، بعدها محستش بنفسي غير الصبح وانا على فرشتي ونايمة جمبك، وعقلي قعد ساعة يسألني ، انا جيت هنا ازاي؟
زام بفمه مرة اخرى، يجاري لعبتها، فهو على علم تام انها شعرت بحمله لها حتى وضعها على الفراش، مما شجعه في محاولة ايقاظها بعد ذلك، ولكنه فقد الأمل حين لم تستجيب:
– اكيد بتمشي وانتي نايمة.
ضحكت مما استفزه ليضربها بخفة على جانب رأسها ، متوعدًا:
– وليكي عين كمان تضحكي، دي جزاتي اني سيبتك تنامي وتاخدي راحتك.
واصلت ضحكاتها ، لتلقي برأسها فوق عظام صدره، وتلف ذراعيها حوله قائلة بامتنان:
– انا فعلا كنت عايزة ارتاح امبارح، تعب السفر والسهر كوم عليا، نمت زي الجثة.
شدد بذراعيه عليها، وفضوله يدفعه للتساؤل:
– بعد الشر عليكي يا روح قلبي، انا مقدر لاني انا كمان كنت تعبان ، لكن اعمل ايه بقى في الجماعة اصحابي، واصرارهم الغريب في الاحتفال بيا والسهر معاهم ، ياللا بقى، المهم بقى انا بقول نقضي النهاردة اليوم عائلي ، ايه رأيك نقضيه عندكم .
ارتفعت رأسها فجأة سائلة باستفسار لا يخلو من قلق:
– عندنا فين بالظبط؟
تبسم يداعب طرف ذقنها:
– عندكم اللي هو بيت العيلة، مع مامتك واختك، هي عيلتك عندها كام بيت؟
ابتلعت رمقها برفض مبررة:
– ونبتدي ليه ببيتنا؟ ما نروح عند عبير وبابا عزوز.
اضطرابها الصريح ومراوغتها في الحديث معه، جعلته يتأكد من صحة ظنه بعلمها بخروج هذا الفاسد من محبسه، ليردف لها حازمًا:
– بس انا عندي غاية النهاردة ادوق اكل الست والدتك، وان كان على والدي وعبير، فدول هنروح منهم فين؟
تابع قاطعًا فرصة الجدال معه:
– اتصلي برؤى وبلغيها عشان تعمل حسابها ع الغدا او العشا، اللي يريحها، انا فاضي ولسة في أجازتي، يعني معايا الوقت كله.
ختم قاطفًا قبلة سريعة من ثغرها، ثم غادر بخطواته الشامخة، ليتركها في تخبطها، وتساؤل عن المغزى من خلف زيارة المنطقة في هذا الوقت، وهي تعلم تمام العلم انه علم بخروج ابراهيم من السجن، ترى هل يقصد الاحتكاك به؟
❈-❈-❈
خرج من غرفته بعد سماع الجلبة، والصوت الجهوري المميز في مخاطبة والدته، لتقع عينيه عليه جالسًا على مائدة الطعام، يتناول وجبته بنفس شهيته كعادته، بعد اختفائه بالأمس عن الترحيب به واستقباله كباقي افراد الحارة ، انه حتى لم يكلف نفسه بالسؤال عنه، بل والعجيب انه هو من اشتاق اليه، رغم كل ما يحمله من ضغينه نحوه،
ارتفعت ابصار الاخر لتلتقي به، يخاطبه ببرود:
– حمد الله ع السلامة.
– الله يسلمك.
تمتم بها ابراهبم متهكمًا، ليخطو ويقف قباله معقبَا:
– ياااه، اخيرا طلعت منك، كتر خيرك يا عم ورداني، جيت على نفسك ليه يا راجل؟ ما كان بلاها احسن.
سمع منه عابد الورداني ، فواصل تناول طعامه دون اهتمام منه ان يجيبه، ليزداد الحنق بداخل الاخر، حتى انتفخت اوداجه وازداد اللهيب المستعر بداخل عينيه، لتلحق سميرة بذكائها فتجلسه على احد المقاعد، مبررة بلؤم:
– اقعد يا ابراهيم متبقاش حمقي، ابوك كان عنده بيعة مهمة امبارح برا البلد، يعني مكانش فاضي لاستقبالك ، فهمت بقى.
زادت حدة ابراهيم في توجيه الغضب نحو ابيه مرددًا:
– افهم ايه ما انتي قولتي الحجة دي من امبارح، وانا بلعتها بمزاجي، انما اصحى دلوقتي الاقيه بيبصلي ببرود ولا اكني بايت في حضنه، جرا ايه يا عم؟ دا انا لو عدوك هتفرح بخروجي من حبستي، الناس دى ايه قلوبها اللي عاملة زي الحجارة دي ؟
خرج عابد عن صمته ليباغته بسؤاله:
– وتفتكر بقى عشان خدت البراءة يبقى انت بريء بجد؟ ولا فاكرني صدقت انا بلعبة المحامي ابن الحرام اللي امك دفعتله من فلوسي عشان يخرجك؟
شحب وجه ابراهيم متفاجًئ من حدته ، ليستطرد عابد:
– بلاش نتكلم ونفتح لبعض يا ابراهيم، انت شايل مني عشان مستقبلتكش، وانا قلبي مش راضي عليك من ساعة ما اتأكدت من مصيبتك.
انتفض عن كرسيه يلوح بسبابته امامه:
– تقدر تضحك ع الناس كلها وتفهمهم انك بريء، بس انا لا يا بني، عشان اللي ربى خير من اللي اشترى، وانا مش بس مربيك، لا دا انا خاتم على مصيبتك وحاططها في قلبي وساكت، دفعت من حر مالي عشان اخرجك ، لكن عمري ما هنسهالك، انك تخسرني صاحب عمري بقلبك الاسود وعمايلك المهببة، الا لو ربنا هداك، يمكن ساعتها انسى.
دفع بيده الطعام مستطردًا:
– وادي الاكل سايبهولك انت وامك، على الله بس تشبعوا.
قالها ثم انصرف تتبعه ابصار الاثنان، بذهول اخرس السنتهم، فهذه لاول مرة يكشف لهم عن سر امتناعه وغضبه الدائم عن زيارة ابنه الوحيد.
❈-❈-❈
بعد تململ وفترة من التقلب على فراشه، فتح عيناه للضوء الذي تسلل من الجزء الصغير المكشوف من زجاج الشرفة المغلقة، ليستوعب وضعه في الغرفة الجديدة، ليعود اليه الوعي فور ان استفاق لذراعه التي تضمها ، فيتطلع اليها جيدا، ويتبين انه لم يكن يحلم،
إذن تلك الصور الجميلة التي راودت عقله لم تكن حلمها بل واقع وحلق في سمائه منذ ساعات قليلة، الجميلة الساحرة بين يديه، تلك التي قبلت به رغم كل الفروق بينهم، وفضلته على من هو اوسم وأغنى وارقى منه، ما الذي يحدث معه؟ ما تلك السعادة التي تضخمت بقلبه حتى كاد ان ينفجر صارخًا، معلنًا بعشقها على الملأ،
هي العوض، لا بل هي الهدية الجميلة التي منَ الله عليه بها، يريد التأكد كل لحظة وكل دقيقة انه لا يحلم، وما الذ من التنفيذ عمليًا.
مال بعدم تصديق يقصد تقبيلها، ولكن وقبل ان يدنو منها جيدا ، فاجأته بفعلها، حينما عبست ملامحها بضيق، تدفع سبابته التي حركها بغرض إزاحة خصل الشعر التي تغطي نصف وجهها عنه، ليتبسم بمرح لفعلها، مقررًا التكرار بمداعبة طرف انفها، فعادت هي للعبوس مرة أخرى تدفع الهواء وكأنه ذبابة تحوم حولها.
ليزداد استمتاعًا ويضاعف من مشاكستها حتى اجبرها للاستيقاظ، تفتح عيناها للنور بضجر، فتلقفها بالتحية وقبلة خاطفة:
– صباح الجمال.
تجمدت لحظات في اللا وعي هي ايضا حتى استوعبت، لينتابها الخجل ، فتسبل اهدابها عنه دون رد، وقد لاح بذهنها كل ما حدث بالأمس.
فهم عليها ليزداد سعادة، مقبلا جفن عينيها بحنو:
– يا قلب شادي، بقيتي قطة وديعة يا صبا، امال فين الخربشة وروح الشراسة اللي بحبها فيك يا صعيدي انت يا مجنني؟
ارتفعت عيناها اليه مرددة بجرأة تتصنعها في رد له:
– ومالهم الصعايدة على اول الصبح، انت غاوي تجلب الوجه الجبلي عليك في صباحيتك يا شادي؟
جلجلت ضحكته الصاخبة تدوي مقهقهًا يردد:
– اوي يا صبا، انا حابب اوي اشوف الشراسة اللي كنت متوقعها.
أكمل بجرأة يفاجأها:
– أصل انا بصراحة كنت راسم صورة مخالفة خالص، افتكرت بقى هيبقى في خناقات، هجوم ودفاع، صد ورد، لكن الرقة دي مكنتش متوقعها ابدا من صبا.
ضاقت عينيها بغيظ منه ومن وقاحته، لتدفعه بقبضتها في رد له:
– طب بَعد.
تبسم باتساع رافضا التزحزح:
– ابعد ايه بالظبط؟ مش فاهم ، ممكن توضحي اكتر؟
اردفت بغيظ اشد تحاول الفكاك من حصاره:
– بطل غلاسة يا شادي ، احنا لسة في اول اليوم متجفلنيش منك.
– ايه؟
تمتم بها ليقع من الضحك فيزيد من ضمها، هذه المشاكسة، تدعي الضيق والتأفف حتى تخفي خجلها منه كالعادة، ولا تدري بأنه يحفظها:
– صبا انا هموت منك بجد جننتيني….
– بعد الشر عليك متجولش كدة .
قاطعته بها تجذب انتباهه وهذا القلق الذي اعتلى ملامحها، ليواصل مناكفتها:
– ليه يا قلب شادي؟ خايفة عليا؟
جاء ردها بقبضة قوية وجهتها لكتفه مردفه بحنق:
– ودي محتاجة سؤال؟ بعد عني يا شادي عشان انا اتخنجت منك بجد.
عصبيتها في توجيه الخطاب له، وقد احمر وجهها بانفعال جعله يلطف، مرخيًا ذراعيه عنها قائلًا بعشق:
– انا اسف يا قلب شادي لو زعلتك، معلش بقى قدري اني لسة غشيم فى التعامل مع القمر اللي معجون بعصبيه الصعايدة.
تبسمت لغزله، فدنى يدفن رأسه في تجويف عنقها ، يستنشق عبيرها، ثم يمرر شفتاه على بشرتها حتى وصل لثغرها ليعود ويتذوق شهدها من جديد، شاعرًا باستجابة منها على استحياء، ليردف بتأوه:
– ااااه ، يا لهوي عليك يا شادي، دا انت هتشوف الويل مع بنت ابو ليلة .
❈-❈-❈
توقفت سيارة النقل العام بالقرب من الطريق المؤدي لمنطقتها، لتترجل منه عائدة الى منزلها، فلم تملك من الطاقة ما يجعلها تمارس عملها داخل المصنع والذي هو ملكه من الأساس.
ما السبيل وحتى رزقها يأتي عن طريقه، ان استغنت عن مجالسة والدته، كيف تستغني عن عملها في المصنع؟ وهو المصدر الرئيسي لإعالتهم، انه لا يطوق عنقها فقط بالدين، انما يمتلك قوت يومها، تبا له من مغرور ومستغل.
– راجعة بدري ليه عن ميعادك يا بهجة؟
وصلها الصوت المعروف لتغمض عينيها بتعب، فهي لا ينقصها الاَن من سماجة ابناء عمها، لتواصل متجاهلة الرد عليه، لتفاجأ به يتصدر امامها ويوفقها :
– جرالك ايه يا بهجة؟ انا بكلمك، لتكوني سرحانة!
وكأنه ضغط على زر الانفجار، صاحت به مرددة:
– يا سيدي وما اكون سرحانة انت مالك؟ هو انا هلاقيها منك يا سامر، ولا من اخوك اللي مزهقني برزالته في الرايحة وفي الجاية ، ما تحلو عني بقى ، دا انا كرهت الشارع وكرهت البيت اللي ساكنة فيه عشان خاطركم، اولع في نفسي عشان استريح منكم يعني؟
أومأ بصدمة لرد فعلها المبالغ فيه، ليتراجع مرتدًا للخلف بأقدامه، ملوحًا بكل يده امامها:
– خلاص يا بنت عمي، انا اسف والله لو سألتك، سامحينى ان كنت قلقت عليكي ولا على حد من اخواتك ، انتي حقك تعملي اللي انتي عايزاه وانا ابقى مش محترم لو كررتها تاني .
كان قاصدا الضغط على عاطفتها، لعلمه جيدا بشخصيتها، والتي اكتنفها تأنيب داخلها لتلطف بتعب ممسكة بطرفي أصبعيها على أعلى انفها قائلة:
– معلش يا سامر، بس انا مخنوقة وتعبانة ومش قادرة حتى على الكلام، اعذرني في حدتي عليك .
– طب هو انا ممكن اسألك عن سبب الخنقة ؟
رمقته بحدة جعلته يتراجع على الفور:
– بلاش الخنقة، قوليلي ع اللي تاعبك وانا رقبتي سدادة، لو محتاجة دكتور او شيء انا تحت امرك .
زفرت بنفاذ صبر ترفض عرضه بزوق:
– لا يا سيدي كتر خيرك اوي، انا ماشية امدد جسمي ع السرير وان شاء الله محتاجش لأي دكتور، عن اذنك بقى عشان مش متحملة الوقفة .
وبدون انتظار رده، تحركت ذاهبة من امامه على الفور، لتمضي في طريقها، متجاهلة النظرات المصوبة نحوها من اهل الحارة والمتسائلة لعودتها من عملها في هذا الوقت من الصباح .
لتسرع بخطواتها حتى وصلت الى منزلهم، لتدفع الباب بهدوء بعدما فتحت بمفتاحها، ثم تدلف على أطراف اصابعها حتى لا يسيتقظ شقيقها الذي كان نائمًا في هذا الوقت ، بعد ليلة طويلة من السهر واستذكار دروسه، فتخطو بخفة حتى ولجت داخل غرفتها ، تخلع الحذاء، قبل ان ترتمي بجسدها على الفراش، تطلع العنان لدموع تحتجزها منذ لقاءها بهذا المغرور .
❈-❈-❈
به شيء هذا اليوم مختلف ، صفحة البرود التي يتحلى بها دائما تغيب عنه بصورة مزعجة، مع تلك النظرات التي يصوبها نحوها الاَن وهي تدلف اليه بمجموعة من الملفات المطلوب البت بها، وهو جالس يهزهز كرسيه بملامح مغلفة لا تنبيء بشيء:
– حطيهم هنا.
قالها يشير بيده على سطح المكتب بجانبه، دون ان يلتقطهم منها ويعمل عليهم على الفور كما يفعل دائمًا، ثم يفاجأها بمطلبه:
– اتفضلي اقعدي يا لورا عايزك.
قطبت بعدم فهم، تظن انها قد فهمت خطأ، ليزفر بصوت عالي يشير لها مؤكدًا:
– بقولك اقعدي يا لورا ، هو انا بتكلم بلغة مش مفهومة.
جلست على الفور متمتمة بارتباك:
– لا طبعا انا بس استغربت.
وضعت ساق فوق الاخرى مردفة بابتسامة ناعمة تلمس بكف يدها على شعرها:
– اممم انت تؤمر يا رياض باشا.
ضيق عينيه قليلًا يطالعها بصمت زاد من اضطرابها وتضاعف، حتى داعبتها الأماني والأحلام، لربما حدث وقد ما تتوق اليه وبشدة في القرب منه.
لتسبهل اهدابها بخجل تتصنعه، تتحمحم برقة:
– رياض انت مقولتش لحد دلوقتي عايزني في ايه؟
– اسمي رياض بيه يا لورا، كذا مرة انبهك متخلطيش بين القرابة وبين الشغل.
اجفلها برده الجاف حتى ارتفعت عينيها اليه بإجفال ، ليواصل بجموده، غير مكترثًا بإحراجها:
– قوليلي صحيح يا لورا، هو انتي بقالك كام سنة شغالة معايا؟
كتمت زفرة الاحباط بداخلها، لتجيبه برسمية بحتة كما يريد:
– تقريبا من اول ما مسكت انت المصنع بعد المرحوم حكيم، بتسأل ليه حضرتك؟
مال بجسده يسند مرفقيه على سطح المكتب يجيبها بغموض، واضعًا بندقيتيه صوب خاصتيها وكأنه يغوص بأغوارها:
– بسأل عشان اتأكد يا لورا ، بصراحة قاعد بعيد في دماغي، لو كنت في يوم من الايام، خلطت علاقة العمل ما بينا وبين القرابة.
امتقعت ملامحها لتعقب بحنق يسري بداخلها منه:
– حضرتك عمرك ما عملتها، بدليل الموقف اللي حصل من دقايق.
لقد اوقعها في الفخ، هذا ما تأكدت منه فور تبدل ملامحه فجأة ليردف بصوت غريب عنه، وفظاظة تثير التساؤل:
– ولما هو كدة، ومفيش ما بيني وبينك غير الشغل، بتبلغي بهجة بمصاريف المستشفى بتاعة اخوها ليه؟ انا كنت طلبت منك ذلك؟
بهتت فاغرة فمها بازبهلال، وكأن المفاجأة شلت أطرافها، لتأخذ لحظات من الاستيعاب، استغلها هو في توجيه التوبيخ لها مضيفًا:
– كون انك قريبتي دا ميدكيش الحق ابدًا في انك تتدخلي في شئوني، سواء بتصرف صح او غلط ، انتي ميخصكيش.
خرجت الاخيرة بصيحة جعلتها تستفيق لنفسها، مستعيدة بعضًا من دهائها:
– حضرتك بتلومني وكأنك متأكد، انا بقى عايزة اعرف، هي ليه تبلغك بالكلام ده؟ لو بتحاسب على اختلاط علاقة القرابة مع الشغل، يبقى نحاسب البنت دي اللي دخلت البيت تبث سمومها ولا اكنها بقت من اصحابه.
اجابها ببساطة ناسفًا كل اغراضها مما سبق:
– من اصاحبه او غريبة عنه، برضو انتى مالك يا لورا؟ انا حر في ممتلكاتي وحر اعمل اللي عايزه، انتي ملكيش في حياتي الا المسافة اللي محددها، ياريت بلاش تتعديها، عشان متخسريش شغلك قبالها، اكيد تعرفي كويس اني معنديش تهاون .
كان قاسيًا لدرجة افقدتها النطق للحظات، حتى اتجهت لسلاح الانثى الاخير، لتذرف الدموع متمتمة بمسكنة تجيدها:
– انت بتقولى انا الكلام ده؟ سمحت لواحدة زي دي تشوه صورتي قدامك، انا دلوقتي بس ندمانة لصفة القرابة اللي ما بينا، ع الاقل لو بشتغل عند حد غريب، هيراعي اكيد انه يعدل ما بين موظفينه، انا بشتغل عندك بقالي سنين ، عارفني كويس وعارف اخلاقي، مش واحدة شغالة عندك من شهور قليلة، ياريتني مت قبل ما اتعرض للظلم ده منك، ياريتني مت.
نهضت من امامه مواصلة فقرتها:
– حضرتك كمان تقدر ترفدني، ولو عايزها تيجي مني، انا مستعدة اقدم استقالتي برضو مش هعترض….. عن اذنك……
ختمت بشهقة لتكتم بكف يدها على فمها، وتركض من أمامه، منهية وصلتها، على امل التأثير بقلبه المتحجر، والذي تجمد محله، يطرق بقلمه بأعين فارغة كالزجاج، فاقدة للأحساس، حتى لو به شيء من تأنيب الضمير ، تغلبه دائما طبيعته عن التراجع، هذا هو رياض الحكيم، الذي قضى نصف عمره في بلاد الثلج مع قوم لا تهتم ولا تعطي قيمة للعواطف، والجزء الثاني كان بالصدمات المتوالية ، حتى كبر زيادة عن عمره سنوات، وزاد بقلبه الجفاء.
❈-❈-❈
توقفت السيارة اسفل البناية التي يوجد بها منزلهم، لتخرج هي اولا بحلتها الجديدة وقد صارت انثى بالمعنى الحقيقي، تشرح القلب بطلتها، لتتلقى الترحيب بلهفة من شقيقتها التي كانت تنتظرها في شرفة المنزل، لتلوح لها بكفيها في الهواء، فقابلتها هي بابتسامة رائعة، قبل ان تلتف رأسها فتلتقي ابصارها بذلك الذي برقت عينيه بذهول، لا يصدق ان تلك امنية التي كان دائما يراها عادية واقل من عادية،
بوجهها الممتليء وجسدها الذي كان يظهرها اكبر من عمرها رغم اغرائه.
كل هذا ذهب الاَن، الوجه اصبح منحوتا يظهر جمال الملامح التي كانت مدفونة، وجسدها مازال مغريا ولكن برشاقة الابطال، وهذه الهيئة الجديدة والملابس بدلتها تماما.
افترت زاوية فمه بابتسامة جانبية قابلتها بازدراء لتواصل طريقها، بعدما القت بنظرها نحو ذلك الذي كان يقود السيارة حتى ركنها في موقع جيد قبل ان يخرج، بحلته الأنيقة التي تليق به، وعضلاته البارزة تكاد تمزق السترة التي يرتديها ، بهيبة تجعل الجميع يحسبون حسابه، ثم هذه النظارة السوداء على عينيه، لتزيده غموضًا حينما وقف امام الاخر للحظات ، وكأنه يريه من هو،
قبل ان يتحرك بعد ذلك يلحق بزوجته، ليتمتم ابراهيم ف اثره بعدما جفف الدماء بعروقه :
– يا بن ال….. جاي تنفش ريشك عليا وتوريني عضلاتك، ماشي، ماشي يا سيادة الظابط….. ماشي يا امنية.
❈-❈-❈
في إحدى النوادي الاجتماعية الخاصة بالرجال، كانت جلسة الاثنان، بعدما اصر عليه كارم للخروج معه، ليستعلم ولو قليلًا عن سر جموده، وهذا الحالة الغريبة التي تتلبسه منذ لقاءه به، حتى امتنع عن مواصلة العمل، وهذا شيء من النادر أن يحدث،
اتى اليه بعبوة المشروب البارد ليلكزه مشاكسًا:
– ايه يا عمنا؟ فوق كدة واشرب وفك عن نفسك .
تناول منه يتنفس زافرا ببعض الهدوء ليرتشفها متذوقًا لذعتها ، ليتأفف معبرا عن ضيقه:
– ايه ده يا كارم دي حراقة اوي، مش تجيب حاجة اخف.
تجرع منها الاخر بتلذذ قائلا:
– وهو في احلى من الحراق؟ دي حتى طعمها يهبل ومش مسكرة على حد طلبك.
اومأ رياض مستسلمًا دون اعتراض، مما دفع فضول الاخر للتساؤل:
– بس مش غريبة دي يا رياض، ان رغم عشرتك للخواجات العمر دا كله ومتكونش بتحب البيرة ولا حتى تشربها تفاريح.
ابتسامة ضعيفة لاحت على جانب فمه قبل ان يجيبه:
– اللي يعاشر الغرب خصوصا في السن الصغير بتاعي ، أكيد هيمشي على نظامهم، وانت عارف بقى والدي ووالدتي كانوا منفتحين ازاي؟
توقف يطرد من صدره دفعة هائلة من هواء ساخن، تشبع بحزنه بعد ذكره للإثنان، ليتمالك بعد ذلك مردفًا:
– بس طبعا انا لما دخلت الجامعة واشتغلت ، شوية شوية بقيت افتح دماغي اكتر وامقت الحاجات دي من نفسي…….. وعلى رجوعي مصر كنت بطلت خالص، والتفت لشغلي.
اومأ كارم مقدرًا صعوبة الكلمات وهي تخرج من فمه، ليربت بكفه على ركبته بخفة، ثم سرعان ما غير دفة الحديث بتساؤله:
– طب قولي بقى، ايه اللي قالب حالك كدة؟
حينما ظل على صمته، واصل كارم بفراسة:
– هو انا ليه قلبي حاسس، ان ورا قلبتك دي في واحدة ست.
اعتلى الإجفال وجه الاخر، مما أكد الظن لديه، ليردف بإلحاح:
– يا عم احنا رجالة زي بعض، قولي بس لو عندك مشكلة مع واحدة منهم، صاحبك له خبرة برضو مع الصنف.
– صنف؟
تمتم بها بعدم استيعاب، ليقهقه ضاحكًا بمرواغة كي يخفي توتره، فهذا الماكر، لديه من الذكاء الحاد والقدرة على كشف اغواره:
– وربنا انت مشكلة يا كارم، ع العموم يا سيدي لما احتاج مساعدة مش هروح لغيرك، مدام انت راجل عندك خبرة.
بادله كارم الضحك والمزاح، يحترم تحفظه، ليردف مرحبًا بمساعدته:
– وانا جاهز في اي وقت يا سيدي، وقت ما تعوزني بس أشر بإيدك.
اومأ بامتنان له:
– ماشي يا باشا.
❈-❈-❈
والى بهجة التي غفت على فراشها ، بعد وصلة من البكاء والحزن، حتى استيقظت على صوت دفع الباب واقدام احدهم تلج اليها، ثم تخرج سريعًا بخطوات مرتبكه، حتى ارتطم شيئًا ما على الارض ، مما جعلها ترفع رأسها وجذعها سريعًا لتستكشف هوية الشخص الذي صار يصلها صوت اقدامه، لتخرج من غرفتها على الفور، وتفاجأ بفتح الباب الخارجي من المنزل، قبل ان يصفق سريعًا بخروج الشخص، فلاح أمامها سريعا طيف اللون الاخضر.
لتهرول كي تلحق بمن ظنته لصًا، ولكنها تفاجأت بظهر هذه المرأة التي كانت تعطيها ظهرها وتحاول الهبوط على الدرج ببعض السرعة الحريصة….. وترتدي عباءة منزلية خضراء!
فهتفت بها توقفها:
– كنت بتعملي ايه في البيت عندنا يا مرات عمي؟
انتفضت المذكورة وتشنج ظهرها برعب من كشف مصيبتها، لتجبر على الالتفاف لها، تقبض بيداها على هذا الشيء الذي اخدته من الرجل الدجال ( عمل) وقد كانت تنوي اخفاءه بين اشياءها كي يعمل هذه المرة جيدا وينفذ المطلوب، واضعة برأسها ان هذا موعد عملها، لم تحسب ابدا انها ستجدها امامها على الفراش.
ابتلعت ريقها، ترتدي قناع الجمود سائلة:
– انت بتكلميني انا يا بهجة؟
خرجت لها بهجة من مدخل المنزل تضرب كفا على ظهر الاخر مرددة:
– امال بكلم خيالي؟! انا شايفاكي بعيني دلوقتي وانت خارجة من باب البيت.
انتفضت دورية تاخذها العزة بالاثم متهكمة بفجر:
– وايه اللي هيخليني ادخل بيتكم يا عنيا، بدور على الكنز ولا اسرق الفلوس المتكومة يا حسرة؟ ما تصحي لكلامك يا بهجة وبلاش هلفطة خايبة منك.
صاحت بها مرددة؛
– هلفطة خايبة فين؟ انا بقولك شايفاكي بعيوني الجوز وانت خارجة من بيتنا، اما بقى عن السبب، فدا اللي انا عايزة اعرفه منك، ايه اللي يخليكي تدخلي بيت في غياب اهله؟
صوتها العالي جعل شقيقها يخرج من غرفته ليقف بجوارها بتساؤله، وفي الأسفل ايضا دفع سامية الى الصعود لمساندة والدتها التي كانت ترتجف من الزعر عكس ما تدعيه من قوة:
– في ايه يا ست بهجة؟ مالك يا ختي صوتك عالي ليه؟
– نقطتينا انت بسكاتك.
صرخت بها بهجة في وجه هذه الماكرة، والتي جاء تدخلها بنفعه لوالدتها التي استقوت بها:
– تعالي يا بنتي شوفي بعينك واشهدي على امك اللي نازلة من شقة ابنها في امان الله، تقوم تخرج لها دي من غير سلام ولا كلام، وقال ايه، انا دخلت عندهم، يكش يكون عندكم الابعدية وانا مش دريانة!
دعمتها ابنتها في السخرية، تتخصر امام ابنة عمها:
– عندك حق ياما والله، قال ندخل بيتهم قال، دا انتو بتكملوا عشاكم نوم .
– انتى مش محترمة وقليلة الادب.
خرجت من ايهاب يسبق شقيقته، وقد استفزه قلة حياءها والسخرية من وضعهم المادي، لتصيح متمتمة بالسباب، وكأنها تنوي الهجوم عليه، فتتمسك بها والدتها من التقدم:
– بقى انا قليلة ادب، وديني لكون موصلة الموضوع لاخواتي خليهم يربوك يا عيان يا ساقط في هدومك.
رد بقرف وشقيقته هو الاخر تمنعه من التقدم نحوها:
– كان عرفوا ربوكي انتي الاول، بدل ما هما سايبينك على حل شعرك.
– هما مين اللي سابينها على حل شعرها، ما تنقي كلامك يا إيهاب.
جاءت هذه المرة من شقيقها الاكبر والذي وصل على صوت الشجار الذي تجمع له العديد من البشر يتابعون ما يحدث.
لتلتقط سامية فرصتها تخاطبه بمسكنة:
– تعالى يا اخويا الحقنا، بنت عمك بتتبلى على امي انها دخلت بيتهم، واخوها بيقل ادبه عليا انا، ويقول اني مش متربية، انااا بنت عمه بيقول كدة اهيء اهيء.
تذرف الدموع الكاذبة ووالدتها تجاريها ايضا في رسم الدور، لتتجه ابصاره هو نحو بهجة التي علمت انه لا نفع من الجدال مع هاتين العقربتين، ولن تأخذ من المواصلة معهم سوى المزيد من الفضائح.
ليأتي صوته هو ملطفًا، بنظرات هائمة تبغضها:
– اكيد هما ما يقصدوش واللي حصل سوء تفاهم مش اكتر، ولا ايه رأيك يا بهجة؟ انا بقول نقعد مع بعض ونشوف المشكلة فين.
شهقت درية وابنتها لهذا الرد الخانع وقبل ان يأتي توبيخها، صدر الرد من بهجة التي صرخت بقهر ونفاذ صبر:
– مش عايزة حاجة من خلقتكم، لا عايزة اعرف المشكلة ولا حتى اصلها، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل .
صارت تردد بها وهي تسحب شقيقها لتدخله معها ، ثم تصفق الباب بوجههم، لتدلف مع شقيقها الذي صار يردد بتساؤلات عدة تعجز عن الرد عليها،
ماذا ستخبره؟ وقد تجمعت الخيوط برأسها، من بداية حديث عائشة حينما اخبرتها بترجيح دخول هذه المرأة الى المنزل وهي كذبتها، ثم هذا الماء المسحور الذي وجدته رئيستها صباح على باب المنزل، وعلمت منها انها المقصودة، ثم دخولها الاَن الى غرفتها ف ميعاد عملها بالمصنع .
لتذهب الى غرفتها، تضرب بذراعيها على الفراش بانهيار ، هذا اكبر من طاقتها، وقد نفذت طاقتها، الا يكفي ما يثقل ظهرها من هموم قادرة على كسرها لتأتي هذه المرأة بأفعال السحر والشعوذة والله الاعلم بغرضها .
ظلت تفرغ قهرها بالبكاء حتى استفاقت تتذكر حديثها في الصباح معه، وما قد تسبب به من الم داخلي لها زاد من اوجاعها، ولكنها ابدا لن تستمر على هذا الحال، ابدا،
اعتدلت بجذعها تجفف دمعاتها بعنف باطراف اصابعها، لتلتقط الهاتف، وتطلب رقمه، جاءها الرد سريعًا بنبرته الهادئة الباردة:
– الوو يا بهجة، انا معاكي.
استجمعت شجاعتها ليأتي ردها على الفور:
– انا موافقة.
– نعم؟
تمتم بها بعدم تصديق ليأتي التأكيد منها:
-،بقولك اني موافقة على عرضك، بس عندي شروط.
صمت قليلًا ليصلها صوته بعد ذلك:
– وانا موافق على كل شروطك يا بهجة.
جاء قولها بحدة:
– مش لما تسمعها الاول بعد كدة تقرر؟
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
قطر الحياة يسير رغم انفنا، لا يتوقف لمرض، ولا يحزن لوفاة، ونحن العالقين بداخله، ماضين في طريقنا معه، رغم كل ما نواجهه من ويلات، يدفعنا الامل في الوصول بالمثابرة والتحمل .
حتى تجبرنا الظروف على أشياء كنا نستنكرها قبل ذلك، بل ونمقت من يفعلها ، فتدور الدائرة ونجد أنفسنا بين شقي رُحى، إما التنازل والتكيف مع الواقع، وإما ان نصارع طواحين الهواء؛ في حرب بذل الجهد بلا نتيجة تذكر، او ربما هزيمة تصيبنا بالدهس تحت عجلاته.
ترى هل سيأتي ذلك اليوم ويتوقف بنا في محطة السعادة، ام هي النتيجة الحتمية والمتوقعة، ولا ينتظرنا سوى المحطة الوحيدة التي نعلمها جميعا، علّ بها نجد الراحة الأبدية من كل شيء.
بنت_الجنوب
بداخل احد المطاعم الفاخرة.
وقد اتى بها بعد اتصالها مباشرةً به، لتجلس امامه الاَن مقابلة له، على طاولة جمعتهما وحدهما في ركن مميز ومنزوي عن البشر، حتى تأخذ حريتها وتتحدث دون خجل:
– ها يا بهجة، تحبي اطلبك ايه؟
بادرها بالحديث، ينتشلها من شرود اكتنفها، وكأنها سبحت بعالم اخر، بتأملها لتلك التفاصيل الصغيرة، والمعبرة عن شيء مضاد تماما عن مغزى الجلسة، الاضاءة الخفيفة وهذه الشموع التي تزين وسط الطاولة، والموسيقى الهادئة، وكأنه يسخر منها بهذه الأجواء الرومانسية.
ابتسامة جانبية لاحت على زاوية فمها، لتلتف اليه قائلة:
– شكرا يا باشا، انا مش عايزة اي حاجة، خلينا ندخل في الموضوع اللي جينا عشانه.
اومأ ملوحًا بيده امامها كي تتريث قليلًا، لينظر للنادل الواقف بالقرب منهما، يخبره بإسم اجنبي للمشروب الذي يريده له ولها.
لتزفر هي متغاضية عن الاعتراض، وانتظرت حتى انتهى، ليعطيها اهتمامه بالكامل قائلا بابتسامة هادئة اثارت استفزازها من الداخل:
– انا طلبت لنا احنا الاتنين نفس المشروب، لأني متأكد انه هيعجبك، وان كان ع الكلام، احنا لسة في بداية القعدة.
سحب شهيقًا طويلاً قبل ان يزفره، في فعل فضح توتره، رغم اتزانه المبالغ فيه، ليستطرد:
– يلا يا ستي اتفضلي قولي شروطك.
تطلعت اليه ببعض الجمود وكأن العدوى اصابتها، لتجيبه بثبات:
– أولًا عشان نبقى واضحين من اولها، الجواز حتى لو في السر مش هيتم غير على ايد مأذون.
تحمحم يحك جانب فكه الشمال في لفتة اظهرت إعتراضًا هم بالتعبير به، ولكنها سبقته قاطعة، ناجزة، تجاهد غضبها من الداخل:
– لا حضرتك دا مش محتاج تفكير، لأن انا مبعترفش بأي حاجة تانية غيره، لا ورقة عادية ولا حتى مسجلة في الشهر العقاري، حتى لو كانت مباحة، في شرعي انا اسمها زنا وانا عمري ما كنت خاطية.
قالتها بانفعال جعلته يبرر بأسف:
– محدش قال الكلام دا يا بهجة، انا دارس برا وبشوف الحاجات عادية جدا، يعني بس…..
هم ان يتابع لإقناعها ولكن امام حدتها اضطر للإذعان يوميء على مضض:
– اللي تحبيه يا بهجة، كدة خلصنا من الاول، اللي بعده بقى.
لانت ملامحها بعض الشيء لعدم تشدده في هذه النقطة وموافقته السريعة، لكن سرعان ما عاد جمودها في التفوه بالاخر:
– ياريت المدة متزيدش عن شهر ولا شهرين، عشان منعطلش بعضنا كتير، وكل واحد يمارس حياته في…..
– استني هنا وقفي.
قاطعها سائلًا بضيق لا يخلو من ريبة:
– هو ايه اللي شهر ولا شهرين، هو احنا رايحين رحلة؟
– امال يعني هنتجوز جواز طبيعي؟
تمتمت بها، تجفله بصراحتها، لتواصل بإفحامه:
– حضرتك من الاول حددت انها رغبة وقولتها في وشي بدون تزويق، واظن يعني الرغبة دي مهما كانت قوتها مبتزيدش عن كدة، يبقى لزومو ايه العطلة ع الفاضي؟
عض على نواجزه، يكتنفه غيظ شديد، لا تعجبه هذه الصراحة الفجة منها، لماذا لا تسهل عليها وعليه الامر؟
ضاقت عينيه بزفرة قانطة ينهي هذا البند:
– اللي بعده يا بهجة خلينا نخلص.
دارت مقلتيها بتفكير سريع تجيبه:
– اللي بعده يعتبر مش شرط، اصل مدام بانتهاء العقد هينتهي شغلي في المصنع….
قاطعها سائلًا بإجفال:
– شغل ايه اللي هينتهي؟ وتسيبي الشغل ليه اصلا؟
ردت ببساطة :
– عشان مهينفعش اكمل في مكان انت موجود فيه.
تبًا، لما يشعر بالقسوة خلف كلماتها، ولما هذا الضيق المفاجيء الذي يجثم على انفاسه لمجرد الفكرة، ليكن الصمت هو رده فتابعت هي:
– ومدام كدة كدة هكمل الشهر او الشهرين دول في الشغل يبقى ارجع لقسمي القديم مع زملائي اللي قضيت معاهم احلى سنين….
– لأ.
خرجت منه سريعًا برفض تام، وقد لاح على الفور وجه هذا الفتى الذي يعمل معها وينتظر موافقتها على الزواج، والذي قد يحدث فور انفصالها عنه، بعدما تتيسر حالتها المادية، اللعنه.
تلك الافكار طرأت سريعًا بعقله لتعبث به، فيشدد هو بتعصب تام:
– رجوعك لقسم التفصيل تاني، انسيه خالص يا بهجة، عندي اقبل بكل شروطك إلا دي، اقلبي يلا ع اللي بعده خلينا نخلص.
زفرت بحنق يسري بداخلها من هذا المتسلط، يريد فرض امره حتى في شيء صغير كهذا .
– هتفضلي ساكتة كتير؟ ولا اعتبر كدة انتهينا؟
– لا طبعا مانتهيناش.
صدرت منها في رد له، بعدما اجبرها لذلك، لتبتلع ريقها ، مردفة شرطها الاخير بحرج:
– انت قولت هتأمن مستقبلي انا واخواتي بمبلغ…..
– دي مسأله مفروغ منها يا بهجة، المبلغ هيتحط في حسابك مجرد ما توافقي ونحدد الميعاد.
– طبعا ما بيعة وشروة وانت تاجر شاطر ومحدش يغلبك .
غمغمت بها وكأنها تحدث نفسها ، لتثير بداخله الفضول بسؤالها:
– بتبرطمي بتقولي ايه يا بهجة؟ سمعيني .
– مش ببرطم ولا ازفت.
رددت بها نافية بخشونة، ليعتلي التوتر ملامحها بعدها، وتردف بأمنيتها الاخيرة:
– بس انا كنت عايزة حاجة تاني غير الفلوس……. يعني لو……
– لو ايه يا بهجة؟ قولي.
تشجعت تجيبه:
– لو تقدر تشوف لنا بيت لينا انا واخواتي، يكون فيه جنينة، مش عايزاه كبير، كفاية يكون محندق علينا، وبعيد عن اي جيران تأذينا، حتى بعدها، مش عايزة فلوس في البنك ولا اي حاجة تاني، المهم يبقى أمان، بس كدة.
نبرتها الضعيفة اثارت التكهنات بداخله ليسألها بتوجس وغضب لا يعرف سببه:
– ليه يا بهجة؟ انتي حد بيضايقك في المنطقة اللي ساكنة فيها؟
– مش لازم حد يضايقني، انا عايزة امشي وخلاص
رددت بها بنفي قاطع اصابه بالإحباط، والغيظ ايضا لتكتمها الشديد في أمر كهذا يعتبره يخصه، ليعض على باطن خده من الداخل يردف:
– عايزة حاجة تانية غير البيت؟ لو هنشيل فرض الفلوس من اساسه.
اومأت برأسها بملامح تبدلت تمامًا ، بلمحة من اشراق اعتلت تعابيرها:
– نفسي في وكالة بدل اللي ضاعت من ابويا .
❈-❈-❈
والى سمير الذي مازال يتابع بأسئلته ، ينتابه الشك في حديث والدته وشقيقته واللتان لم يكفا عن القاء اللوم نحوه.
– ايوة برضو مش قادر اعقلها، ايه اللي يخلي بهجة توقف امي وتتبلى عليها؟ دي اكتر من سلام ربنا ما بتزودش غير لما احنا نلح عليها.
– يعني قصدك ان انا اللي بتبلى عليها؟ طبعا وانا هستنى ايه منك يا خلفة الندامة، دا انت وقفت قدامها وريلت زي الدهول في عز ما الخناقة قايمة، بدل ما تدافع عني وتيجبلي حقي.
دعمتها ابنتها تتهكم بسخرية:
– لا ياما ايه الكلام اللي انتي بتقوليه ده؟ هو يجيب حق السنيورة اولى، اصلها مظلومة يا عيني، واحنا الناس المفترية.
كز على اسنانه ينهرها بغضب:
– اتلمي يا سامية بدل ما اديكي كفين يعدلوكي، انا على اخري منك يا بت.
شهقت فاغرة فاهها بمبالغة تقارعه بما يشبه الردح الشعبي:
– تضربني دا ايه يا عنيا؟ كنت ابويا انت ولا كنت ابويا ، ولا هو مقدرتش ع الحمار جاي تتشطر ع البردعة .
– مين الحمار يا حمارة؟
صاح بها مندهشًا لوقاحتها، فتدخلت والدته توقفه عن الفتك بها:
– خلاص يا بت اهمدي بقى، وانت يا خويا روح لها وقويها على امك، يمكن تحن عليك وترضى، مش خدت غرضها وخربت بيتك انت عشانها .
– بيت مين اللي خربته عشانها؟
غمغم بها بعدم استيعاب، ليضرب كفا بالاخر يردف بالحوقلة:
– لا حول ولا قوة الا بالله يارب، دا انتو هتخرجوني من هدومي.
– هما مين دول يا واد اللي هيخرجوك من هدومك؟
جاء الصوت الاجش من مدخل المنزل، وقد تسائل به والده، والذي دلف بصحبة ابنه الاصغر سامر، تتنابه الريبة هو الاخر:
– هو انتو متخانقين ولا ايه؟
امتنع سمير عن الرد ينفض سترته بغضب ، فلا ينقصه تدخل شقيقه اللزج، والذي قد يستغل الفرصة لصالحه، اما سامية ووالدتها فقد تشتت تركيزهم، مع عدد الاكياس التي دلف به خميس ، يرتدي ملابس جديدة بهيئة متأنقة وكأنه اتى حالا من صالون الحلاقة للرجال .
.
انتفضت سامية سريعًا تتناول الاكياس، لتفتش عن محتوياتها بفضول:
– ايه الاكياس دي كلها؟ هو انت جبت حاجات جديدة يابا؟
تبسم يتفاخر ، رافعًا بنطاله الذي يسقط دائما منه للأعلى، لتمصمص بشفتيها زوجته، معقبة بسخرية:
– ايوة ياختي ما يشتريش ليه؟ هو صغير؟ دا كمان وشه منور ومحلو ، ايه يا خميس؟ يكونش يا خويا بتعمل ماسكات عند الحلاق وتخفف حواجبك زي العيال اللي طالعة؟
عبست ملامحه بتعالي عن سخريتها يقول:
– وماله لما اهتم ببشرتي يا جاهلة؟ دي حاجة تفيدني مش تعيبني، قال زي العيال اللي طالعة قال…. على اساس اني عجزت اصلا!…… جاهلة .
بصق كلماته وتحرك نحو غرفته ذاهبًا، حتى اذا دلف اليها اتجه الى المراَة يتأمل هيئته الجديدة بزهو :
– يا سلام عليك يا واد يا خميس، رجعت عشرين سنة لورا، قال والبومة بتتريق عشان منور عنها ، ااااه، ياما نفسي القمر يرجع من تاني للحارة ، هي بطلت ما تيجي ليه بس ؟!
❈-❈-❈
نهض عن مائدة الطعام، يرفع كفيه بامتلاء مرددًا:
– ياااه دا انا كنت محتاج الاكل الدسم ده اوي ، تسلم ايدك يا حماتي.
ردت شربات بانتشاء وقد أسعدها اطراؤه:
– يسلم عمرك يا قلب حماتك، بس انت اكلتك ضعيفة، دا برضو كلام؟ كمل اكلك كويس يا حضرة الظابط.
جلجلت ضحكته الصاخبة مرددًا لها:
– كل ده وصغيرة، ولا انا بطني اساسا بقى فيها مكان للميا حتى، قوليلي الحق ادور على حاجة للهضم.
جاء الرد هذه المرة من رؤى:
– لا يا حضرة الظابط معلش بقى استني شوية على دوا الهضم على ما تاكل الحلو عشان يبقى بالمرة .
– كمان في حلو؟ يبقى استني، الحمام فين بقى عشان اغسل ايدي؟
– كدة شمالك على طول يا عصام، ولا استنى اروح معاك احسن.
قالتها امنية، لتلحق به وتحضر له المنشفة، حتى اذا انتهى طلب منها الانتظار بداخل غرفتها، وهي كالعادة اطاعته.
لتلج به داخلها، ترحب به:
– اهي يا سيدي اوضتي، اللي قضيت فيها طفولتي وشبابي .
خطا داخلها يتأمل كل ركن بها بأعين متفحصة، يعلق بمرح على بعض الاشياء الانثوية بها، ويسخر من بعضها كي يثير غيظها حتى جلس على تختها مرددًا بخبث:
– حلو السرير ده، خشبه متين ويتحمل .
– يتحمل ايه؟
سألته ببرائة ، لتجد الرد منه بغمزة وقحة صائحة به:
– انت بقيت قليل الأدب اوي يا عصام.
عض على شفتيه، يشير بسبابته على فمه متمتمًا بهمس:
– عيب يا بنت، صوتك يطلع برا ونتفضح، وتعالي يلا من سكات .
قال الاخيرة مشيرا لها بيده، لتعترض هي ضاحكة:
– لا وحياتك ما يحصل، بعد ما عرفت نيتك اجي برضو؟ دا انا ابقى عبيطة.
لتتحرك نحو الشرفة، تفتح شراعيها متابعة:
– وادي كمان البلكونة فتحتهالك، عشان تلم نفسك بالمرة.
عض على شفته السفلى بغيظ في رد لها:
– ماشي يا امنية، لينا بيت يلمنا.
ضحكت متكتفة الذراعين شامتة به، لينهض مكررا لها بالوعيد، واقدامه تتقدم نحوها ، حتى دلف داخل الشرفة يسبقها في النظر للخارج، عيناه تدور في كل زاوية بالحارة وكأنه يقيمها، حتى وقعت ابصاره على المقصود ، وقد كان جالسًا يدخن الشيشة على احد مقاعد القهوة المقابلة لهم، ف انتبه له الاخر، ليغمغم بحنق، من بين دخانه الكثيف الذي يخرجه بفمه:
– وبعدين بقى في رزالة امك دي ع المسا، غاوي تجر شكلي ولا ايه؟ دا انا على اخري.
أما امنية والتي انتبهت هي الأخرى للحرب الباردة بين الطرفين،
درءًا للمشاكل سحبت زوجها من ذراعه تعود به للداخل قائلة:
– عصام يا حبيبي، بلاش تخليني اصدق ظني في انك قاصد تجر شكله.
رد بتعالي يليق به:
– وهو مين دا كمان عشان احطه في مخي؟ فسحي يا امنية خليني ادوق الحلو، حكم نفسي انفتحت اوي عشان احلي.
تابعت ذهابه امامها تتنهد بيأس ، تتضرع الى الله كي يمر الامر على خير.
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي كانت تقلها في طريقها للعودة الى منزلها، وقد كانت صامتة معظم الوقت، على عكسه هو الذي لم يمنعه صمتها في الحديث وسؤالها حتى على اشياء تافهه، فتجيبه باقتضاب، وكلمات محددة، ليس لديها طاقة لأي شيء.
عيناها لخارج النافذة، شاردة فيما يحدث وما آل اليه حالها كي توافق على شيء كهذا، مع رجل أملت فيه خيرا ان يعيد ثقتها في جنس الرجال اجمعهم، ليعيدها بموقفه الى نفس النقطة بل اكثر، وان كانت وافقت على بيع نفسها له، من اجل الامان لها ولأخوتها، فهي تبصم بالعشرة انها لن تكرر هذا الأمر بالزواج من غيره.
– أكمل بيكي لحد فين بالظبط يا بهجة؟
انتبهت لقوله، لتستدرك قرب مرور السيارة من منطقتها، فهتفت به بجزع:
– لا وقف هنا طبعا، وقف حالا يلا .
امتثل لرغبتها وتوقف حيث اشارت، ليلتف اليها بابتسامة مطمئنًا:
– خلاص يا ستي وقفنا متقلقيش.
اومأت تهم بالترجل، ولكنه منعها ممسكًا مرفقها:
– استني يا بهجة، على طول كدة ماشية!
نزعت يدها ناظرة له باستفهام:
– وهستنى ليه؟
– تستني يا ستي عشان تسمعيها مني، وتعرفي اني مبسوط اوي بموافقتك، مبسوط لدرجة اني مش عارف اعبر بالكلام.
قالها بصوت غريب عن بروده المعتاد، نبرة تتخللها الحرارة، حرارة الاحساس ، ياللعجب.
هذا ما تهكمت به داخلها، فكان ردها إيماءة على مضض، قابلها بابتسامة عابثة وكأنه قرأ أفكارها:
– انا عارف ان انتي لسة مشتتة، وعقلك بيروح في مية حتة، بس احب اكدلك، ان عمرك ما هتندمي على قرارك، خليكي واثقة في كدة.
هذه المرة قابلت قوله، بابتسامة صفراء مرددة له:
– ماشي يا باشا، عن اذنك بقى؟ مش عايزة اتأخر على اخواتي.
❈-❈-❈
دلف الى المنزل ليفاجأ بأصوات التذمر من والدته، وتحايل الدادة نبوية لها، هي وشقيقتها؛
– حبيبتي طب كُلي الاول وبعد كدة اعملي اللي انتي عايزاه.
– يا مدام نجوان حرام عليكي نفسك بقى؟
– ايه في ايه؟ هي مالها؟
تمتم بالأسئلة فور اقترابه منهم، ليصعق بهيئتها المزرية، وهي منكمشة على نفسها، بحزن تجمدت به قسماتها، وقبل ان يعاود استفساره، جاءه الرد من نبوية :
– تعالى يا رياض يا بني وشوفها بنفسك، من امبارح قالبة الدنيا على بهجة اللي غايبة عنها بقالها يومين، حتى وصيفة اللي كانت بتحبها زمان، رافضة اي تعاون منها، كل اللي على لسانها بهجة او عائشة ، انا بصراحة احترت معاها.
تدخلت وصيفة بحزن هي الأخرى:
– شكلها مش متقبلاني بدل اللي اسمها بهجة دي، ياريتني ما سيبت مكاني ولا جيت من اساسه، وانتو برضو استعجلتوا على طرد البنت.
انتبهت نجوان على العبارة الاخيرة، لتلتف نحو ابنها بنظرة متسائلة بغضب، قابلها هو نافيًا:
-اهدي يا ماما ، انا مطردتهاش، بهجة متطردتش يا جماعة، هي بس كان عندها ظروف منعتها تيجي النهارده.
عادت لتلتف اليه فتطوعت نبوية باقتراحها:
– طيب ممكن تتصل بيها تيجي دلوقتي؟
وقبل ان يرد زامت والدته بتذمر تضرب الارض بقدمها:
– عائشة، عائشة.
– اه دي عايزة العيلة كلها بقى.
عقبت بها وصيفة ساخرة ليأخذ هو القرار على الفور، ليهاتفها، فجاءه الرد بعد مدة من الوقت، بنبرة متسائلة لا تخلو من ضيق:
– الووو….. ايه في ايه تاني؟
لملم بصعوبة ابتسامة لاحت على جانب فمه، ليستجدي الجدية في الرد عليها :
– معلش يا ست بهجة هنتعبك معانا، بس احنا عايزينك في طلب ضروري.
زاد التوجس داخلها، لتردد متسائلة:
– طلب ايه؟
❈-❈-❈
في غرفتها السابحة في الظلام منذ ساعات لا تذكر عددها، كانت منزوية بها، تعيش كاَبتها بعد الذي حدث منه، على امل اتصال منه، او ترضيتها عن قسوته في توبيخه لها، ولكن طال الانتظار دون جدوى، لتهبط عزيمتها ولا تجد سبيلا امامها الا بالنوم كحل جيد للهرب؛ لتأتي الاَن والدتها محملة بطاقة من الغضب، تزيح الستائر بقوة ، حتى تدخل ضوء النهار الى القلب المظلم ، قلب ابنتها؛
– اصحييييي، اصحي بقى، ايه؟ دا كله ولسة مشبعتيش، نوم؟ هتفضلي فيها لحد ما تموتي وتعفني مكانك؟
تذمرت ترفع رأسها عن الوسادة، تغطي بكفها على عيناها:
– طب خففي الضي دا شوية الاول، عيني مش عارفة افتحها.
رفضت المرأة بتصميم تام تجلس على جانب فراشها:
– لا يا حبيبتي مش هخفف، انا عايزاها كدة قوية، تدخل عينك تشيل الغشاوة اللي عليها، او تنزل لجوا قلب وتنضفه من كل الرواسب المعلقة فيه.
تمتمت لورا بإحباط، لتعود للنوم ضاربه بقبضتها على الوسادة:
– رواسب ايه بس يا ماما؟ انا الغلطانة اللي حكيتلك.
قالتها بإشارة عن موقفها مع رئيسها في العمل رياض الحكيم، لتنتفض المرأة بضيق متعاظم:
– بقى هو دا اللي وصله تفكيرك المحدود؟ دا بدل ما تلومي نفسك، اللي وصلتك لحالتك دى مع راجل زي ده، بارد المشاعر ومعندوش احساس، ما تخلي عندك كرامة وتسبيه يحتاس مع نفسه، يمكن ساعتها يعرف قيمتك.
– اسيبه وابعد عنه؟
تمتمت بها، لترتمي على الفراش مرة اخرى تغمغم باسف:
– ياريت كنت اقدر كنت عملتها ومستنتش، بس اعمل ايه بقى؟ وانا عارفة ومتأكدة انه حتى لو ملقاش غيري يسد مكاني، برضو مش هيغلب ومش بعيد كمان يقوم هو بنفسه بكل حاجة، دا زي القطر ما بيوقفش غير في محطته ويدوس في طريقه على غيره بكل سهولة، والغلط ع اللي يوقف في وشه.
زفرت المرأة تردد خلفها كازة على اسنانها:
– يعني عارفة كل العيوب دي فيه، وبرضوا باقية عليه ومتمسكة؟ لا دا انتي مريضة بقى وربنا يشفي عنك.
نهضت عن التخت مغمغمة بيأس منها:
– انا قايمة قبل ما اتشل منك ولا اتجلط ، صبرني يارب.
قابلت عاصفة والدتها بهدوء تام تردد بهذيان:
– انا فعلا مريضة بيه، وبرضوا دوايا هو.
❈-❈-❈
ترجلت من السيارة بفرحة، تندفع نحو البناية السكنية بلهفة، لدرجة جعلتها تترك يد نبوية التي صارت تلحق بها بقلق، امام ابتسامات العم علي سائق السيارة ، والذي اعتاد على اهل المنطقة من تعدد ارتيادها:
– استني يا هانم، لا تدخلي في حد بلهوجتك دي….. يا نجوان هانم استني .
حمدت الله حينما وجدتها تدلف داخل البناية بسلام وما همت بدخولها هي الأخرى، حتى تفاجأت بالرجل المتصابي الذي تعرض لهم من قبل يشهق بفرحة امامها فيسد عنها الصعود الى الدرج .
– يا نهار ابيض يا ولاد، يدوب افتكرك من دقايق، قوم اتفاجأ دلوقتي والاقيكي في وشي ولوحدك كمان من غير عزول، دا يوم الحظ بالنسبالي ولا ايه؟ يا ريتني افتكرت جوازة بالمرة .
لحقت نبوية لتفعل بجسدها حاجز بينها وبينه، منتبهة للزعر الذي اصاب سيدتها، حتى خشت من رد فعل غير محسوب منها.
– في ايه يا استاذ انت؟ مش ملاحظ المدام مخضوضة منك؟ ابعد بقى عن وشها الله يرضى عنك.
تشدق خميس وكأنها اخطأت في شخصه الكريم:
– مخضوضة مني انا؟ ليه يا ختي شايفاني عفريت ولا شايفاني عفريت، دا انا راجل ملو هدومي، الارض بتتهز تحت رجليا مع كل خطوة بخطيها.
اصاب نبوية الذهول وهي تتطلع اليه، بفم منفرج، لا تصدق هذه الثقة التي يتحدث بها:
– يا استاذ محدش غلط فيك ، انا بس بقولك خليها تعدي، الست هانم خايفة منك بجد والله، مش شايف حالتها؟
– مالها حالتها؟ ما هي زي القمر اهي، شعر اصفر ولا الخواجات، وبشرة بيضة ولا بت اربعتاشر…..
باشر يوجه باقي الكلمات نحو نجوان التي وجدت ملاذها بالتمسك بنبوية والاحتماء بها:
– تصدقي بالله يا هانم، انتي احلى من البت سامية بنتي واللي يشوفك يديكي اصغر منها، رغم انها حلوة، ومش زي البومة امها لكن برضو فرق السما والارض ما بينكم .
– هي مين دي اللي بومة يا خميس؟ هاا؟
صدر الصوت الجهوري من الأعلى، ليشهق هو بفزع، جعله يرتد بظهره خطوات، حتى كاد ان يسقط على المسكينة نبوية لترتد بخطواتها مرددة:
– يا نهار اسود، ما تخلي بالك يا راجل انت.
تمتم خلفها يحدث نفسه وعيناه منصبة على تلك التي تهبط نحوه بهيئة لا تبشر بالخير:
– استني انتي كمان، ولا خديلك ساتر، روحت في شربة مية يا خميس.
وصلت درية بشرارها ونارها، تلقي بحريق نظراتها نحو زوجها وتلك المرأة الجميلة والتي كان يتغزل بها زوجها، لتردف بغضب:
– والله عال يا سي خميس، بقى بتغلط فيا انا وتقول عليا بومة عشان دي؟ دا انا هخلص عليكم انتو الاتنين .
جاء رد زوجها والذي كان ملتصقًا بالحائط:
– يا روح قلبي انتي اكيد فهمتي غلط، انا عمري ما اغلط فيكي، ما تقوليلها انا كنت بقولك ايه؟
ردت نبوية والهاتف بيدها تحاول مهاتفة شخص ما:
– اقول ايه ولا اعيد ايه انت كمان؟ انا غلطتي اني ما اتصلتش بالست بهجة اول ما وصلت.
– الوو يا بهجة، انزلي الحقينا الله يرضى عنك ، احنا في مدخل البيت.
هتفت بكلماتها الاخيرة حينما جاءها الرد من الجهة الاخرى، لتترك الباقي لها. وتعطي انتباهها لتلك المرأة التي صارت تهلل بعدم اكتراث:
– نعم يا حبيبتي، خليها تنزل لنا الامورة وتورينا هتعمل ايه؟ يعني مش كفاية موقفة حال ولادي الرجالة، عشان تجيب اللي يشغل ابوهم كمان ، لا ده انا اطين الدنيا على راسكم كلكم.
هبطت على اثر كلماتها بهجة لتتولى زمام الامور في رد مفحم لها:
– يعني هي حصلت كمان تتعرضو لضيوفي وللهانم اللي بشتغل عندها……..، لا بقى يا مرات عمي، انتي تروحي تشوفي مشكلتك عند واحد شيخ، يحل عقد الولاد، ومشكلة ابوهم اللي بيدور على شبابه اللي راح منه مع واحدة زيك .
بتلميحها المبطن استطاعت بالفعل الجامها، لينعقد لسانها بإجفال جفف الدماء بعروقها، وكأنها تهدد بفضحها امام زوجها الابله، والذي وقف يراقب ابنة اخيه تسحب نجوان وتصعد بها هي ومساعدتها نبوية، امام زوجته التي اصابها خرس غريب، يثير التعجب بحق ، ولكنه كان فرصة ليهرب هو الاخر من امامها ، خارجا من البناية.
❈-❈-❈
في الأعلى وبعد ان صعدت معها، اكتفت نجوان بالجلوس مع عائشة وتجاهل شقيقتها الكبرى رغم محاولاتها الدائمة في الحديث معها:
– يا نوجة يا قمر، معقول تكوني شايلة مني للدرجادي؟
تبسمت نبوية شارحة لها، ما انا قولتلك من الاول، هي زعلانة عشان غايبة عنها بقالك يومين، وشبطتها النهاردة في عائشة .
سمعت منها بهجة لتشاكس الاخرى بمزاح:
– يعني انا الحق عليا اني نزلت اجيبك بنفسي؟ طب ما كنت بعت عائشة بقى عشان تشبط في درية بالمرة، مدام كدة كدة هتفضليها عني.
عقبت الاخيرة بانفعال ليس غريب عنها:
– انتي بتقولي فيها يا بيبو، وربنا لولا بس البت جنات حاشتني ما انزل ما كنت سكت، لساني بياكلني اقسم بالله، نفسي افش غليلي فيها الست دي، ولا عمك سبع الرجال اللي فاكر نفسه رجع عيل صغير.
تنهدت بهجة قائلة:
– معلش يا عائشة، ربنا يفرجها علينا ونسبيهالهم خالص، يمكن حالهم يتصلح لما نمشي، مدام احنا السبب في كل المصايب اللي بتحصل لهم.
وصل نبوية غصة المر في نبرتها، لتربت بكفها عليها بحنو مهونة:
– معلش يا بنتي ربنا كريم، قادر ربنا يزيح عنكم، صعبة اوي الاذية لما تيجي من القريب .
– اوي يا دادة نبوية اوي .
تمتمت بها بهجة، تسبقها دمعة خائنة، لم تقوى على كبتها، فحاولت ازاحتها بسبابتها، لتتظاهر بالقوة كعادتها، لتفاجأ بنجوان التي تركت شقيقتها ، لتجلس بجوارها بصمت، فتجذبها اليها، وتضمها الى صدرها بغمرة اطاحت بالبقية الباقية من ثباتها، لتفرغ في حضنها دموع القهر ، وتبكي بحرقة طفل صغير ، وجد في صدر والدته المأوى، كيف يحدث هذا ؟ ومع هذه المرأة! لا تعلم
❈-❈-❈
في المدينة الساحلية،
وداخل جناحه بالفندق الذي استقر به منذ مساء الأمس ضمن سلسلة الفنادق التي يعمل بها، يقضي الاَن أجازة شهر العسل مع عروسه، يخطفا اوقاتًا جميلة بعد عذاب الانتظار وشقاء السعي الدائم .
استغل الاَن اختفائها عنه في المرحاض ليهاتف شقيقته ويطمئن عليها هي ووالدته:
– ايوة يا رحمة عاملة ايه انتي والولاد……….. يا بت اهمدي وبطلي قلة حيا…..
قهقه لجرأتها في الحديث معه ، ليواصل حديثه:
– يا بت كويسين وعال العال والحمد لله، كفاية عليكي كدة……… ايوة اضحكي يا اختي، انا هحاسبها ع الصور اللي نزلتها، عشان جابت لنا الكلام من امثالك……… حبيبتي ربنا يخليكي ليا، عارفك والله فرحانة طبعا، المهم بقى طمنيني عليها…….. يا نهار ابيض ، هي كمان شافت الصور، يادي الفضايح…….. يا بت بطلي ضحك لاخنقك…… خلااااص يا بت اقفلي خليني افضى للي ورايا.
قال الاخيرة، لينهي المكالمة بالفعل ، بعدما انتبه لخروج جنيته من المرحاض، بمنامة جسمت الجسد المتناسق، تجفف بالمنشفة الشعر المبلل، ونضارة الوجه الندي تأسر النظر نحوها، وتضعف العزيمة عن حسابها وتوعده لها.
– جفلت ليه مع رحمة، كنت خليني اكلمها.
سألته ببراءة، وقد تناست ما ارتكبته يداها، لتستدرك لنظراته المتوعدة نحوها، وعينيه التي ازدادت ضيقًا، بصورة جعلتها تتذكر، لتتسائل بشقاوة:
– ايه مالك يا شادي؟ بتبصلي كدة كأنك متحلفلي؟ لتكون البت رحمة فتنت ما بينا، هنبتدي بجى شغل الحريم والكلام الفاضي…
قالتها بدراما مصطنعة، ليردد من خلفها وهو ينهض عن مقعده، يقترب منها بخطوات رتيبة متمهلة،
– شغل الحريم والكلام الفاضي اااه……. امال شغل العفاريت يبقى ايه ها؟
صدرت الاخيرة وهو ينقض عليها، يحملها بذراع واحد يسقطها على التخت، ليردف بتوعده وسط ضحكاتها التي صارت تدوي في قلب الجناح:
– بتنزلي صورتي بلبس البحر يا صبا وتشيريها في جروب العيلة، شادي الراجل العاقل الراسي، جايباه بيلعب في الرملة مع العيال الصغيرين وبيبلبط في المية بنصه العريان.
بصعوبة صارت توقف ضحكاتها وتجيبه بمهادنة، بعدما كتف ذراعيها، مانعًا اي حركة منها بجسده:
– طب وفيها ايه بس يا حبيبي؟ هو انا صورتك في الحمام…… دا احنا كنا ع البحر، وانت باين بعضلاتك، يعني مش اي كلام .
– مش أى كلام ايه يا مجنونة؟
هتف بها يضغط ليهزهزها بالتخت، فتزداد مرحًا امام غيظه:
– دا انا بتكسف اقلع التيشرت قدام امي، تقومي تطلعيني قدام العيلة بالبل…… بوكسر، استني هنا….
تذكر فجأة ليسألها بتوجس:
– لتكوني كمان نزلتي الصور الغبية اللي كنت بطلع فيها لساني، وعمايل الفلتر اللي كنتي بتعمليها على وشي معاكي؟
زمت فمها بصمت لم يدم سوى لحظات، حتى انفجرت ضاحكة، تجيبه بهز رأسها، لينطلق هو صارخًا:
– كمااان دي طلعتيها، هخلص عليكي يا صبا، انا هخلص عليكي النهاردة يا صبا.
قالها ليبدا معركة استرداد الكرامة، ولحظات من الشد والجذب اللذيذة، وهي لا تقصر بأفعالها الطفولية، لتخرج منه شقاوة كانت غائبة عنه، ومرح لا يتوقف، حتى ينتهي الامر بها، متنعمة بدفء حضنه، وهو يتنهد بعدم تصديق، لهذه السعادة التي اصبحت تجتاحه بقربها .
❈-❈-❈
دلفت اليه تحمل بعض الملفات ، تتعامل بعملية وجمود ، وكأنها انسان آلي، لا تخفي غضبها من كلماته القاسية بالأمس ، ليفتر فاهه هو بشبه ابتسامة ملطفًا:
– كنت خايف لمتجيش النهاردة يا لورا، بعد ما شديت معاكي امبارح، بس انتي طلعتي احسن مني.
مطت شفتيها المطليه باللون الأحمر الداكن، لتعقب بسخرية:
– كتر خيرك يا فندم ع المجاملة الرقيقة دي، ع العموم انا عارفة ان في الف حد يسد مكاني.
رفع عيناه اليها بنظرة خاطفة عن المستند الذي بعمل به، ثم قال وكأنه يُراضيها:
– لا يا لورا، انت محدش يسد مكانك، مش كل يوم الواحد هيعتر على موظفة نشطة وممتازة زيك.
اعتدل يوجه ابصارها مباشرة لها:
– بس انتي اكيد عرفتي طبعي خلاص، وقت الغضب مبشوفش قدامي.
همت تجادله بفتح الموضوع ذاته :
– ايوة حضرتك بس انت مدتنيش فرصة اوضحلك ولا اشرحلك عن البنت دي اللي حاولت…..
اوقفها برفع كفه امامها، ليردف حاسمًا:
– خلاااص يا لورا، مفيش داعي نفتح ونرغي في موضوع اتقفل، اللي عدى وفات خلاص ننساه.
توقف برهة ليستطرد بنبرة تحمل في طياتها الشد واللين:
– خلينا اولاد النهاردة يا لورا، انتي مش موظفة عادية عندي، تاريخك معايا يشفعلك اغفر واتغاضى دلوقتي، بس دا بشرط عدم تكرار الخطأ طبعا.
اومأت رأسها بإذعان لتنصرف من عنده خالية الوفاض، لا هي التقطت منه ما يرضيها بحق، ولا وجدت منه ما يجبرها على الإبتعاد، انه بالفعل مراوغ .
❈-❈-❈
والى بهجة التي كانت تمارس عملها بجدية رغم تخبطها وشرود عقلها الملازم لها هذه الايام، وقد اندمجت في الأجواء الجديدة في العمل المكتبي، وزملائها رويدا رويدا بدأت تعتاد عليهم ويعتادو عليها، ويرجع الفضل بالطبع لرئيسها الرجل الطيب عبد الفضيل، والذي شاكسها بلطف وقد انتبه لشرودها:
– بهجة النهاردة هادية من الصبح، شكلها اطبعت بطباع الموظفين في التكشير والبوز ابو شبرين.
تبسمت لمزاحه مرددة:
– يا نهار ابيض، ليه بس يا عم عبد الفضيل؟ دا الموظفين احسن ناس، وحلوين وزي العسل
قالت الأخيرة بإشارة نحو زميلاتها الاخريات، والتي عبست احداهما بعدم تقبل ، عكس الثانية فقد تقبلت الأمر ضاحكة، لتتشارك معهما المزاح بعد ذلك ، قبل ان يأتي الاتصال المفاجيء لبهجة،
وفور ان فتحت تجيبه، جاءها رده:
– انزلي على طول بهجة وتعالي، انا مستنيكي تحت فى العربية.
عارضته بحرج:
– انزل فين انا لسة يومي مخلصش.
– وانا صاحب الشغل يا بهجة وبقولك انزلي، مش عايز انتظر كتير..
انهى المكالمة بعدما اجبرها بحزمه ، لأن تستأذن بحجة اختلقتها لرئيسها كي تغادر، ومن داخلها تمتم بالسباب نحو هذا المتسلط، واصراره على لقاءها في اوقات العمل ، ترى ماذا يحمل في جعبته اليوم.
❈-❈-❈
اوقف السيارة امام احدى البنايات الجديدة ، ليلتف إليها ويأمرها:
– انزلي يا بهجة.
القت بنظرة سريعة من النافذة، لتعود اليه سائلة بعدم فهم:
– انزل فين؟ اللي انا شايفاه قدامي دا هو المقصود، ولا اللي وراه ولا ايه بالظبط؟
ترجل يسبق ويجيبها بجديته:
– هو بذاته يا بهجة، انزلي بقى؟
بعد قليل كانت بداخل المنزل بصحبته، يرافقهم مالك المنزل، والذي دار بهما على جميع الغرف، يعرفهم على كل ركن به ، حتى توقف بهما داخل الحديقة التي كانت حلمها، ووجدتها ع الحقيقة، لا تصدق انه تم بالفعل، المنزل الصغير المختصر دون جيران تزعجهم، وحديقة ممتلئة بالانواع العديدة من الزهور، رغم ضيق مساحتها، كيف عثر على طلبها بهذه السرعة؟ وهي التي ظنت انها قد تكون فرصة لمراجعة نفسها او تراجعه هو عن التنفيذ والزواج من الأساس، انه بالفعل رجل الإنجاز
– بهجة الراجل بيكلمك.
جاء صوته الأجش كتنبيه ينتشلها من شرودها، فتلتف نحوه ونحو صاحب المنزل الذي كان يخاطبها؛
– انا كنت بسألك يا هانم عن البيت لو عجبك.
ااومأت بتواضع:
– الله يعزك يا عم، هانم ايه بس؟ حلو اوي البيت وتنظيمه، ما شاء الله يعني .
– كويس اوي.
كان هذا رد رياض والذي اردف نحو الرجل:
– خلاص يا عم عزت، جهز العقود وانا هخلص على طول معاك .
تمتم الرجل بكلمات الامتنان والشكر لعدم مجادلته في السعر الذي لم تعرفه بهجة، ليثني على كرم الاخر، قبل ان يتركهما ويذهب نحو وجهته
ويأتي سؤالها هي على الفور:
– هو اتفق معاك على كام؟
ابتسامة خفيفة لاحت على زاوية فمه، ليجيبها بعملية :
– مش كتير يا بهجة متقلقيش، هو اصلا كان مسكون قبل كدة، بس الراجل هيهاجر مع عيلته وتقريبا مش راجع ع البلد تاني، خلينا في المهم .
– مهم ايه؟ انت لحقت تجيبه ازاي اساسا وبالسرعة دي،
هذه المرة توسعت الابتسامة حتى شملت عرض وجهه، ليردف بثقة:
– انا قلبت الدنيا وانا بفتش وابحث، مقدرتش انام امبارح اصلا غير وانا باعت للراجل، وان كان ع الوكالة، ف انا برضو اتفقت مع صاحب مخزن فاضي قريب من هنا، ومن مهرك تمليه انتي بالبضاعة، وكدة ابقى نفذت
كل اللي انتي عايزاه،
اطرقت رأسها بحرج، تنتظر باقي الحديث والذي جاء يفوق المتوقع:
– جهزي نفسك بكرة كتب كتابنا يا بهجة؟
رفعت اليه خضرواتيها بإجفال وعدم تصديق:
– كتب كتاب ايه دا اللي بكرة؟ واجهز نفسي لإيه بالظبط؟ حضرتك اكيد بتهزر، انا لسة ممهدتش لاخواتي ع البيت ولا لسة انتقلنا ولا حطينا رجلينا فيه من اساسه……
– كل دا ممكن يتم من النهاردة ومن بكرة يتم الانتقال لهنا، وبرضو كتب الكتاب هيتم بكرة يا بهجة، ومتخافيش انا برضو هديكي فرصتك ، بس يوم او يومين مش أكتر .
قال الاَخيرة بمغزى فهمت عليه، لتسبل اهدابها عنه بخجل شديد راقه هو، اما هي فكانت تتمتم بالسباب لجرأته في الحديث المباشر معها دون حياء او مراعاة.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
– شوفي يا ختي اللي كنا بنقول عليه عاقل وراسي، صحيح، ياما تحت السواهي دواهي.
تمتمت دورية بالكلمات اثناء تطلعها بالهاتف، توجهها نحو ابنتها المشغولة بوضع قناع البشرة على وجهها امام المراَة، ليدفعها الفضول عما تتحدث عنه والدتها بالسؤال:
– تقصدي مين ياما؟
مصمصمت بشفتيها دورية لترفع امام عينيها شاشة الهاتف، تجيبها بتهكم صريح:
– على الغالي ابن عمتك يا غالية، البت الصعيدية اللي اتجوزها لحست عقله باينها، شوفي واتأكدي بعينك، عشات تعرفي ان العيب فيكي انتي يا خايبة .
اقتربت على الفور تتناول منها الهاتف، لتصدم بصورة ابن عمتها الانيق دائمًا بهيئته الرسمية او حتى في المنزل، وهو الآن بملابس البحر، يضحك بملأ فاه على الشاطيء والرمال في المدينة الساحلية المشهورة ،
وبغل يفوق الوصف صارت تمرر الشاشة على باقي الصور، لترى الأفعال البلهاء التي يفعلها هذا المعروف برزانته المبالغ فيها، اصبح الاَن مع هذه الفتاة وكأنه طفل صغير
فتعقب والدتها بغيظ:
– شوفتي يا ختي اللي كنتي مموتة نفسك عليه، وبقالك سنين بترسمي من غير فايدة ، اهي جات عصفورة من الصعيد الجواني لطشته منك، ياريت بقى تتنيلي وتصحي نفسك،
انتفضت تدفع الهاتف على التخت جوارها بغيظ متعاظم هاتفة ردًا لها:
– وايه هو بقى ان شاء الله اللي اصحى نفسي ليه؟ اكيد قصدك الدهل ابن صاحب جوزك، لأ ياما، الواد البرشامجي دا الا بقبله ولا بطيقه، يعني اصرفي نظر.
عقبت دورية بنفاذ صبر منها:
– خلاص في داهية سيبك منه، خدي العريس اللي جابته خالتك، اهو جيرانها وعارفاه بقالها سنين، لا ليه في البرشام ولا النسوان
– ولا في اي حاجة.
صاحت بها باستهزاء لتردف بعدم تقبل:
– دا ديكي النهار كنت عند خالتي، سمعت امه وهي بتهزقه، وهو مردش بكلمة، هو انا ناقصة كمان اخدلي واحد شخشيخة، دا ايه القرف ده؟
نهضت دورية عن التخت تكز على اسنانها بغيظ تخاطبها:
– يعني مش عاجبك المطيع المؤدب، ولا عاجبك اللي مقطع السمكة وديلها، نقعد بقى نحط ايدنا على خدنا نستنى اللي يدخل مزاجك، ياختي جاتك نيلة، ما ترضي بأي حد بقى، بدل ما انتي تقعدي في قرابيزي، وساعتها لا تبقي طولتي لا عنب الشام ولا بلح اليمن
دفعتها في الاخيرة بقبضة على كتفها من الخلف، لتتحرك وتترك لها الغرفة.
فتغمغم سامية بحقد:
– يعني ما بقاش قدامي غير البرشامجي ولا دلدول امه، وشادي اللي كنت حاطة املي عليه ، خطفته غراب البين صبا، ماشي يا صبا.
❈-❈-❈
– انتي بتتكلمي جد يا بهجة؟ احنا بجد بقى لينا بيت تاني وهنعزل فيه؟
كان هذا رد عائشة والتي هتفت مهللة به تسبق اشقائها، بعدما اجتمعت بهم بهجة لتخبرهم بأمر المنزل الجديد ، بعد اختلاقها قصة من بنات عقلها، كي تقنعهم بالأمر، رغم الصعوبة التي تواجهها في الحبكة.
– ايوة يا بنتي امال انا بتكلم فيه ايه بقالي ساعة؟ كام مرة هشرحها يا عائشة؟
تدخل ايهاب بعدم استيعاب هو الاخر رغم فرحته:
– اعذريها يا بهجة، لما انا نفسي لحد الاَن مش قادر اصدق، معقولة مكافأة التعويض اللي مستنينها من المصلحة اللي كان شغال فيها بابا وبقالنا سنين بنسعى عليها في المحاكم، اتقبلت فجأة، وانتي صرفتيها ولحقتي تجيبي البيت؟ طب ليه مفرحتناش من ساعتها، ع الاقل كنا ساعدناكي في البحث او هيصنا وعملنا هوليلة.
ابتعلت ريقها بتوتر تجاهد اخفاءه في تبريرها له:
– ما هو مكانش ينفع يا ايهاب، انا كنت عايزة اعملها مفاجأه، وبصراحة مكنتش ضامنة ان اصرف الفلوس منهم بجد بعد ما كسبت القضية، وبرضوا كنت خايفة لعمي ولا مرات عمي يشموا خبر دول ما اضمنش رد فعلهم،
– يعني كان هيعملوا ايه؟ هو لا منهم ولا كفاية شرهم.
رددت بها جنات باستهجان، ليأتي الرد. من شقيقها الاصغر بتهكم ساخر:
– الكلام دا على اي حد غير عمك يا حبيبتي، دا مش بعيد يقولنا نصيبي من ورث اخويا، ولا يطلع علينا ديون من شراكة الوكالة عشان ندفعها.. والله ما مستبعد منه.
اومات بهجة رأسها بموافقة، وغصة مؤلمة مررت حلقها فحديثه بالفعل حقيقي :
– انت هتقولي، ما هو حصل فعلا لما جيت اطالب بحقنا في الوكالة، وطلعلي ديون على ابويا بالفعل، الله يرحمه بقى، كان طيب زيادة اوي عن اللزوم..
رددت خلفها جنات بلهفة:
– الله يرحمه، بس احنا كدة عايزين نشوف البيت ده ونشوف ايه اللي ناقصه.
تبسمت شقيقتها الكبرى تخبرها بمرح:
– انتي مش هتشوفيه بس، دا احنا من بكرة هنبقى فيه، انا أنفقت مع عربية نقل كبيرة هتيجي من الفجر ، تسحب كل العفش وتروح معانا ع البيت ، انا مش هستنى دقيقة تاني جمب عمك ولا مرات عمك ولا حتى عيالهم.
– الله اكبر عليكي يا بيبة
صرخت بها عائشة بابتهاج جعل الحماسة تدب بقلب الباقين ، بتجفلها بهجة بإخراج الهاتف:
– طب شوفي الصور اللي لقطها منه بالمرة عشان تعرفي اللي احنا هنسكن فيه.
وقبل ان تصل عائشة كانت جنات وشقيقها اخذين وضعهم ملتصقين بها ، ليسبقوها بالمشاهدة، فصرخت تقفز وسطهم:
– وربنا ما انتو شايفين حاجة قبلي .
التقفتها بهجة لتضعها بحجرها بتدليل لها وكأنه في الثانية من عمرها وليست طفلة كبيرة على الحمل:
– اقعدي يا باشا، هو عندنا كام عائشة بس.
ضحكت لها، ثم تحولت الاصوات لشهقات متتالية مع مشاهدة كل صورة، معبرين عن اعجابهم ، وتساؤلات مختلفة عن الموقع واشياء اخرى تخصهم.
❈-❈-❈
حين أتى ميعاد النوم، ووضعت رأسها على الوسادة، بعدما انتهت من تجهيز الحقائب والاشياء الضرورية المطلوبة لها ولأشقاءها الذين كانت تملأهم الحماسة ، حتى لم يخطر على بالهم التركيز في بعض التفاصيل عن القصة التي حكت بها، تدفعهم الفرحة والذهاب للسكن بعيدا عن اذية اقرب الأشخاص اليهم،
إذن لما تخبرهم وتعكر صفو فرحتهم؟ لما يعرفوا بالثمن اذي سوف تدفعه مقابل تأمين مستقبلهم؟
حتى لو انكشف الامر بعد ذلك لن تندم مهما حدث، يكفيها العوض بهم، يكفيها غلق باب قلبها امام كل غازي يُذهب عنها الراحة، هي فقدت الثقة قبل ذلك في صنف الرجال، والاَن فقدت المعنى من هذا الشيء التافه الذي يدعى بالحب، مدام قلب القاسي لم يهتز لعشقها، إذن…… لكن هو حقا لم يهتز بعشقها،؟
اجابة لا تريد البحث فيها ولا ان تشغل عقلها بها، ما دامت الحياة في نظره؛ هي بيع وشراء….. وقد تقدم لها بالثمن وهي قبلت…..
– ماشي يا رياض يا حكيم ، ماشي
تمتمت بالاخيرة داخل عقلها، قبل ان يغلبها الإرهاق وتستسلم للنعاس.
❈-❈-❈
اما عنه فقد كان في حالة من النشاط الغير عادي، حتى انه ظل في صالة الالعاب يتمرن على الأجهزة ويشعل مشغل الموسيقى بالصوت العالي، يدندن خلف الاغاني بمرح.
يجتاحه شيء واحد ، وهو السعادة لقرب الوصال اليها، علُه يستريح بعد ذلك ، بعدما سيطرت على تفكيره واشعلت مشاعر افتقدها منذ سنوات طويلة.
لم يندم على قرش دفعه لها، هو الكريم مع الجميع، فما باله مع امرأة مثلها ، تستحق ما هو اكثر وأغلى .
نعم تستحق وأكثر، ولكن هذا اقصى ما يمكن ان يقدمه لها، ربما لو كانت في حالة اجتماعية مختلفة، لكان اختلف وضعها معه.
❈-❈-❈
في الصباح الباكر ، استيقظ خميس وزوجته على اصوات الجلبة والدبدبة المتواصلة فوق رأسهم، حتى اجبرت، لينهض عن فراشه ويسبقها في استكشاف الامر:
– يا ساتر يارب، هو البيت حصل فيه زلزال ولا ايه؟
نهضت هي الأخرى تلحق به:
– روح يا خويا شوف، ليكون نسايبك جم يلموا عفش بنتهم، وابنك الأهبل ما صدق، ما انا عارفاها دا احب ما عنده.
سرى بداخله القلق بعد سماعه ما تفوهت به، لينهرها بحنق:
– اعوذ بالله منك ومن لسانك، دا ايه فال يطلع منك كدة على بداية اليوم.
وقبل ان تردف متهكمة ردا له، انتبهت لوقوف ابنتها في مدخل المنزل، حيث الباب المفتوح على آخره، وكأنه تراقب عرضا ما، ليباغتها والدها بتساؤله:
– ايه يا بت اللي موقفك كدة ع الباب ، وايه الناس طالعة نازلة…. يا نهار اسود…
قطع في الأخيرة وقد انتبه لبعض الأساس الذي يحمله الرجال ليردف لزوجته بفزع:
– يا بوز الفقر يا دورية، دا فالك طلع صح، والعفش اللي نازل ده عفش ابنك.
هتفت به ابنته تصحح له:
– مش عفش ابنك يابا ، انتي مخدتش بالك انه قديم؟ دا عفش ولاد اخوك، اصلهم معزلين هيسيبو البيت، دا اللي عرفٌه سامر اخويا لما سأل الراجل صاحب عربية النقل.
– انتي بتتكلمي جد يا بت.
صدرت من دورية بفرحة لم تخفيها، ليعقب زوجها الذي لم يعنيه الامر بانتباه:
– طب هو اخوكي فين دلوقتي؟
رفعت سبابتها للأعلى مرددة:
– اخويا اما عرف وهو طلع لهم على فوق، ومن ساعتها منزلش ، الله اعلم بيعمل ايه؟ ان كان بيشلهم العفش ولا يترجاهم ما بيبعدوش.
قالت الأخيرة بسخرية جعلت ناقوس الخطر يطرق بعقل دورية والتي تمتمت بهلع:
– نهار اسود ليكون التاني كمان معاهم، دا اهبل وممكن يعملنا فضايح.
رددت سامية بتقليل:
– ياما التاني نومه تقيل، والخبط تحته، مش زينا كان فوق راسنا ، خلانا صحينا من احلاها نومة،
– برضو انا لازم اروح اتأكد بنفسي
قالتها لتسحب سلسلة المفاتيح على الطاولة القريبة من الباب الخارجي، وتتحرك قدميها للخروج مغمغمة:
– لازم اعمل حسابي قبل ما بحس.
هتف زوجها من خلفها :
– رايحة فين يا ولية ؟
التفت اليه قائلة بأمر:
– متشغلش نفسك، انت روح للواد التاني ، جره من قفاه وخليه ينزل ، مش ناقصين عمايله هو كمان.
قالتها واستدارت تصعد الدرج ذاهبة نحو شقة ابنها في الطابق الأعلى، كي تتأكد من عدم خروجه بأغلاقها عليه من الخارج بنسخة المفتاح التي تملكها.
اما خميس والذي توقف لحظات بتردد، لم يملك في الاخير الا ان يطيعها، رغم كم الاسئلة التي تدور بعقله ، عن سبب مغادرة ابناء اخيه، والي ابن سيذهبون؟
❈-❈-❈
– انا اللي عايز اعرفه دلوقتي، انتي ازاي يا بهجة ما بلغتيناش؟ حتى لو في مشاكل ما بينا، احنا برضو مهما كان عيلتك، مش اغراب عنك، دا الغريب بيتعمله حساب لما يبقى جارك، في ايه يا بهجة.
كانت هذه نبذة من وصلة الانفعال التي يتفوه بها الابن الاصغر سامر،، نتيجة الصدمة التي استيقظ عليها من دقائق، بمعرفته بمغادرتهم المنزل هكذا وبدون استئذان او حتى إنذار مسبق.
بهجة والتي لم تقاطعه ولو مرة واحدة، تركته يفرغ ما خلده، ليأتي ردها ببرود وتحكم تحسد عليه في ظل انشغالها بمتابعة العمال التي ترفع اثاث المنزل، واستعداد اشقائها للخروج:
– قرايب ولا جيران يا سامر مش فارقة، احنا ربنا وفقنا في حتة كويسة وهننقل لها، انت ايه اللي مزعلك بقى؟
– كل ده وايه اللي مزعلني؟ دا انتي قلبك حجر يا شيخة.
كان صوته عالي لدرجة لفتت انتباه الرجال العاملين على نقل الأساس، حتى اصابها الحرج ، فتدخل شقيقها والذي خرج من الغرفة بحقيبة كبيرة تحمل ملابسه، لينوب عنها في الرد عليه:
– في ايه يا عمنا؟ اللي يسمع يفتكر ان ليك حق علينا، ما نعزل ولا نهاجر حتى، انتو ما لكم بينا، ولا احنا ملزمين كمان نقدملكم تقرير بخطواتنا
وكأنه وجد وجهته وما سيفرغ به غضبه، ثار متوجهًا بغضبه نحوه:
– انت كمان بقى ليك صوت يا ايهاب، جاي تبجح في وشي على اساس انك راجل وليك كلمة، مش اختك هي اللي ممشياك وانت عامل في ايدها زي الدلدول.
– احترم نفسك انا مقبلش
هتفت بها هي ردا له، وقد اثار غضبها بحق، اما ايهاب والذي استفزه الامر من الداخل فقد ابى ان يعطيه غايته، ليقابل سبته بابتسامة هادئة يردد ببرود كاد ان يجلط الأخر:
– اه يا سيدي انا دلدول اختي ومش مكسوف منها، لا دا انا كمان فخور بيها، سيبتلك انت الشخصية والمرجلة لابوك واخوك….. يا بن دورية.
– يا بن ال….. وكمان بتغلط في امي .
تمتم بها بحماقة فاقدا السيطرة على نفسه ، ليتقدم نحوه يبتغي الهجوم عليه، ولكن سبقه احد العمال، ليمسك به قبل ان يصل اليه، موجها كلماته بما يشبه التوبيخ:
– صلي ع النبي يا عمنا، هو انت حد جه ناحيتك، الناس معزلة وسيبنهالكم خالص ، ايه اللي يزعل في كدة؟
سمع منه ليصيح به كالثور الهائج، يحاول الافلات منه، وقد احتجزه الرجل بين ذراعيه
– وانت مالك انت كمان؟ اوعي سيبني، اوعى سيبني بقولك.
– ايه في ايه؟ ايه اللي بيحصل هنا؟
كان هذا صوت خميس الذي اتي ليجفل على هذا الوضع، ليأتي الرد من ابنة اخيه، وندبة في القلب تشعر بألمها كلما رأته امامها في كل المواقف التي مرت بها بسببه:
– خد ابنك يا عمي ، وخليه يلم اذاه عننا، احنا ماشين وسابينها مخضرة، سيبنا حقنا عند ربنا هو مخلص الحقوق، يبقى ياريت بقى تكفونا الشر الاذية لحد كدا.
هو ليس بالغبي حتى لا يعي بسهام كلماتها التي وجهتها له مباشرة قبل شكوتها من ابنه، والذي كان بحالة من الهياج، جعلته يهذي نحوه:
– مشي كلمتك عليها ومتخلهاش تمشي، انت عمهم وكلمتك فوق رأسهم دي الأصول، يا اما تصالحهم وتديهم حقهم في ورث ابوهم في الوكالة…..
– يا ابن الكلب.
عند هذه النقطة ولم يقوى خميس على الاستماع اكثر من ذلك، لينقض عليه يتناوله من الرجل بقوة ويسحبه معه الى الخارج عنوة، قبل ان يفضحه بغباءه، متابعًا له بالسباب والتوبيخ:
– طب ناس بيعزلوا، انت مالك بيهم يا قليل الادب والتربية، عايزهم يقولو خميس معرفش يربي، خلي عيال عمك يشوفوا مصلحتهم فين وبلاش تقف في طريقهم ولا هي بلطجة وخلاص.
❈-❈-❈
فزعت دورية وهي تشاهد ابنها يجره والده بعنف هابطًا الدرج للأسفل وسط مقاومة من الاخر، حتى خشت ان يأذيه، لتنتظر حتى ولج به داخل المنزل، لتغلق بابه عليهم وتستشكف الأمر:
– اوعى سيبني، انت جارر في ايدك بهيمة، انا سيبتك تمسكني عشان بس مقلش منك قدام ولاد اخوك والاغراب.
دفعه خميس بقوة يوقعه على الارض، مرددًا بفحيح:
– تقل من مين يا ابن الكلب؟ هو انت خليت فيها احترام اصلا،
دنى يتناول سكينة صغيرة من طبق الفواكه، ليردف بتهديد ووعيد:
– انا هاين عليا دلوقتي افتح كرشك بالسكين دي عشان اخلص منك ومن قرفك.
شهقة هلع بصوت عالي خرجت من دورية، قبل ان تهجم على زوجها تتناول منه السكين مرددة:
– يخرب بيتك يا راجل، انت اتجننت ولا ايه؟ اخزي
الشيطان وابعد عن الواد ، هو كان عمل ايه يعني؟
صاح بها ساخطًا :
– عمله اسود ومهبب بستين نيلة يا ختي، عاملي فيها غضنفر فوق وقال ايه عايزاني امشي كلمتي عليهم وامنعهم يمشوا، يا كدة يا ايدهم ورثهم من الوكالة، شوفتي الخيبة.
ضربت بكفها على صدرها، وقد اصابها الهلع هي الأخرى
– يا مصيبتك السودة يا دورية، انت اتجننت يا سامر، بقى دي عمايل ناس عاقلين، ليه كدة بس يا بني تزعلنا منك ، هو احنا كنا ظلمناهم يعني؟ ما كل واحد بياخد نصيبه، ودلوقتي عايزين يعزلوا احنا ايه ذنبنا؟
سمع منها ليصرب بكفه على الارض بعجز، يصيح بجنون :
– ولما هو كدة؟ هما ليه دايما كارهنا؟ ليه دايما بيحسوسنا ان ليهم حق ضايع عندنا؟ بتلم اخواتها وتعزل بيهم من البيت الملك ليه؟ دي حتى مدتنيش فرصة اعرف عنوان الجديد.
– وهو دا اللي تاعبك.
غمغمت بها بتهكم، لتتناول كفه وتساعده على النهوض، تخاطبه بمهادنة، وقد استسلم لها لتذهب به نحو غرفته:
– تعالي يا بني ربنا يهديك، بتزعل وتقهر في نفسك ع الفاضي، لا هي حساك ولا عمرها هتفكر فيك، انت في نظرها زيك زي اخوك، محدش يفرق معاها، امتى بس يا ولاد بطني تعرفوا مصلحتكم؟
سقط خميس في اثرهم على كرسيه بثقل وارهاق، ليزفر انفاس خشنة متحشرجة، بوجه يحمل الهم ، وقد استفزه الامر، بل وجسم على انفاسه، لو كانت ابنة اخيه وافقت منذ البداية على ذلك المبلغ الذي اقترحه ترضية لها، او حتى رضخت تمم الزواج من ابنه فيتكفل هو بمصاريف اخوتها معها ، ما حدث كل ذلك.
انما اصرارها على اقتسام الوكالة بينهم وبينه هو ما زاد الامر تعقيدا، لقد كاد ان يصاب بجلطة حينما رددت بذلك امامه، الوكالة التي عمل عليها وعلى تكبيرها، يقتسم مالها بينه وبينهم، لاااا ابدا هذا لن يحدث، ابدااا.
❈-❈-❈
خرجت اخيرا دورية من غرفة ابنها وقد هدأت الاصوات وسكنت الحركة على الاطلاق، حتى زوجها غادر، فلم يتبقى سوى ابنتها والتي قابلتها بابتسامة منتشية تهزهز اقدامها بتسلية .
مما جعل والدتها تقطب لفعلها سائلة:
– مالك يا محروسة؟ البيت مولع وانتي الوحيدة اللي مبسوطة فيه.
مالت عليها ابنتها فور ان جلست بجوارها، لتطلق ضحكة النصر تخاطبها:
– وانتي كمان لازم تفرحي ياما، ما هو لولا شطارتك واللي عملتيه مكنش دا حصل….
غمزت بعين واحدة تشير بإبهامها بطريقة لم تفهمها والدتها، لتهمس لها بصوت خقيض تملوئه الفرحة:
– انا قصدي ع العمل اللي عملتيه ياما، عشان يغورهم، اتاري الشيخ بتاعك سره باتع .
تذكرت درية لتردد خلفها بتفكير:
– اه تصدقي صحيح يا بت، وانا اللي كنت فاكره انه فسد وروحت عملت واحد غيره، بس معرفتش احطه في اؤضتها، يا رتني صبرت.
– اه والله يا ماما، ياريتك صبرتي.
تمتمت بها ابنتها من خلفها، وشيء ما يدور برأسها، بعدما علمت بالطريقة الناجزة والتي تعمل بها والدتها، والتي انتفضت فجأة من جوارها:
– يا لهوي دا كنت هنسى اخوكي والباب المقفول عليه
، اروح افتحله قبل ما يصحى، حمد لله ان نومه تقيل.
.
❈-❈-❈
وفي المنزل الجديد
هبطت عائشة عائدة من فوق السطح، لتلج الى اشقاءها المنهمكين في ترتيب الاثاث ووضع كل قطعة في المكان المناسب لها، فتجفلهم هي بهتافها:
– السطح فوق يجنن ونضيف، يعني انا ممكن اذاكر فيه براحتي، من غير ما اقرف من ريحة الفراخ ولا الدبان اللي كان بيهش عليا من كراكيب دورية اللي مبتخلصش.
ضحك ثلاثتهم لقولها، وروح الحماس التي اشعلها السكن الجديد، ليردف ايهاب:
– انتي عبيطة يا بنتي انتي، تذاكري ع السطح واوضتك موجودة ، دا بدل ما تخليه للعلب في وقت البريك عشان تستمعتي بالجو النضيف
عارضته جنات هي الأخرى:
– انا بقى اخترت مكاني، كل مذاكرتي هتبقى في الجنينة الصغننة اللي تحت دي، استوعب على ريحة الزهور والوان الفراشات.
– يا حبيبي ع المزاج، انتي يا بت تطلعي رسامة عشان نستغل بالمرة.
عقبت بهجة التي صارت السعادة لا تسعها لفرح اخوتها، بعدما ظهر الارتياح جليًا على ملامحهم بابتعداهم عن اذى عمهم وأولاده وزوجته.
لتسقط بتعب على احد الكراسي المتاحة قائلة:
– طب انا هلكت بقى، بقول نفكر الاول وبعدين نكمل.
ترك ايهاب هو الاخر ما بيده، ليجلس على احدى الحقائب المغلقة والتي مازالت لم تفتح بعد، ليضيف عليها:
– وانا برضو بقول نفطر دلوقتي عشان نكمل وننجز في يومنا، انا متاح النهاردة بس ، من بكرة ان شاء الله استعد لمعركة الامتحان والمذاكرة اللي تهد الحيل، يعني مفيش وقت .
– خلاص انا هروح اطلعلنا طبقين من الكرتونة واحط فيهم حاجة خفيفة والكتل بالمرة عشان الشاي
هتفت في اثرها بهجة:
– متتعبيش نفسك فيهم، انا بس ارجع من مشواري، وارجع ارتب المطبخ على كيفي .
– انتي مش قولتي انك واخدة اليوم دا اجازة من الشغل عشان توضيب البيت .
كان هذا سؤال اخيها والذي اجابت عنه بشرود:
– هو كدة فعلا، بس انا عندي مشوار ضروري لازم اقضيه ، واحدة صاحبتي لازم ازورها، مينفعش أاجله لاي يوم تاني.
هللت عائشة بمرحها كالعادة:
– انا بقى يا عم كفاية على اؤضتي، عمو النجار نصبلي السرير والدولاب، مش فاضل غير بس ارتب هدومي والديكور اللي فيها…… بقولك ايه يا بهجة، انا عايزاكي اول اما تفرج عليكي كدة، تغيري لونها عشان تبقى زي اوضة باربي .
كان رد بهجة بشهقة مبالغ فيها، لتتناول الوسادة القريبة منها ، تضربها بخفة مرددة:
– كمااان باربي ، انتي مبتشعيش، انتي مبتشعيش يا بنتي
لتقهقه عائشة بصخب يرج في قلب المنزل الجديد مع مزاح اشقائها وضحكاتهم ايضا، اسرتها الصغيرة والتي لا تجد سعادتها الا معهم رغم كل ما تقابله في ايامها من ويلات.
❈-❈-❈
على مائدة الطعام وقد نزل بعد استيقاظه في وقت متأخر من النهار، نظرا لسهره حتى الثانية صباحًا، ليجلس الاَن ويتناول وجبة الإفطار وحده، بعدما انصرف الجميع الى وجهتهم ولم يتبقى سوى شقيقته الصغرى سامية والتي اتخذت مقعدها مقابلا له، تتحرق شوقًا لرد فعله حين يعلم بالأمر:
– صحيت متأخر اوي النهاردة يعني يا سمير.
رمقها بنظرة عابسة يتناول طعامه بنهم، فلم يكلف نفسه بالرد عليها، لتواصل هي القاء الكلمات حتى تصل لغايتها:
– انا عارفة انك بتيجي متأخر وبتصحى متأخر من ساعة ما اسراء سابت البيت وراحت عند اهلها .
ارتشف دفعة كبيرة من الماء ليتجشأ غير مباليًا، رغم غيظه من ذكر اسم زوجته، اما هي فقد تبسمت باتساع وهي تسترسل بالأهم:
– اكيد مستغرب كلامي وقعدتي قدامك على طرابيزة السفرة، بس انا بصراحة كنت صاحية بدري اوي وزهقانة ونفسي اتكلم مع أي حد ع اللي حصل.
ضاقت عيناه منتبهًا لعبارتها الاخيرة، ليتسائل بنزق:
– وايه هو اللي حصل بقى يا غالية؟ جيبي اللي في بطنك عشان انا عارف ان لسانك بيحرقك دلوقتي عشان تذيعي اخر الاخبار ، اتفضلي ياختي الميكرفون معاكي، بس انجزي
– بهجة
– اشمعنا.
– هي وأخواتها لموا هدومهم وعفشهم وسابوا البيت .
توقفت عن تلويك الطعام بفمه، برد فعل اولي، لكن سرعان ما عاد يكذبها ساخرا منها:
– وهجوا على فين ان شاء الله؟ الكويت ولا دبي؟ بت انت انتي انا مش فاضي لقصصك الهبلة دي ع الصبح، وغوري روحي شوفي وراكي ايه؟
ردت بلهفة وابتسامة تجاهد لإخفاءها:
– والله زي ما بقولك كدة، دا حتى سامر طلع عندهم واتخانق هو وابويا عشان يحكم عليهم ميمشوش، بس هي بقى كانت عاملة حسابها ، كل حاجة كانت مجهزاها هي وأخواتها، ومسافة ساعة بس كل عفش البيت كان في العربية ، ورحلو ومحد عرف لهم طريق.
نفض رأسه بعد استرسالها ، ليستشف صدق حديثها والذي شعر بجديته، ليصيح بها مهددًا:
– عليا الحرام يا سامية ما تطلع قصة من خيالك بعد الحلفان اللي حلفتيه لاكون مرقعلك سداغك النهاردة ومحد هينجدك مني.
ارتفع كتفيها وانزلتهم سريعًا، لتجيبه متكتفة الذراعين:
– وانا مالي يا اخويا، ما تروح تبص بنفسك ولا اتصل على اخوك ولا ابوك، دا انت لو سألت اي عيل في الشارع هيقولك ع العربية اللي لمت العفش وطفشو معاهم.
انتفخت اوداجه لمجرد التخيل ، لينتفض ذاهبًا للخارج ولسانه يتمتم بالوعيد :
– عليا الحرام ما يطلع جد الكلام ده، لا اكون مطينها فوق راس الكل، بتطفش هي وأخواتها يسيبو البيت ، ليه مفيش رجالة؟
افتر فاهاها في اثره تمصمص بشفتيها المطلية بسخرية لا تخلو من حقد:
– وتطينها على راس الكل كمان، ليه بقى ان شاء الله؟ انا مش فاهمة، هما محسسني ليه ان اللي سابت البرنسيسة ولا يمكن هي بتصرف عليهم….. ياللا بقى، اهي كويس انها غارت في داهية هي واخواتها،
❈-❈-❈
عاد الى المنزل بشراره ونيرانه ، يهتف نحو ابيه فور ان وقعت عينيه عليه يتناول وجبة الغداء مع زوجته وابنته:
– بنت اخوك راحت فين يابا، سيبت لحمك ومن غير ما تسأل حتى ولا تعرف عنوانهم؟
نزلت ملعقة الأرز من يد خميس قبل ان تصل لفمه، ليلتف اليه يطالعه بغيظ مرددًا:
– انت بتلقح على مين يا بن الكلب انت كمان؟ هو انا مش هخلض منكم النهاردة يا خلفة الندامة .
ضربت دورية هي الأخرى كفيها ببعضهما مرددة بغضب :
– ايوة يا خويا خد دورك، ما احنا خلاص مبقاش لينا سيرة غير عن المحروسة وخروجها من البيت.
تقدم نحوها بانفعال وهياج:
– اه ياما ملناش غيرها، دي بنت عمي وأخواتها، يعني مسؤلين مننا، يبقى لازم نسأل عليهم ونشوف أراضيهم فين؟
تهكم خميس يردد خلفه بسخرية:
– اه يا حيلتها ما انت راجل اوي وبتعرف في المسؤولية، طب لما انت دكر كدة، مسألتش ليه عن مراتك وابنها اللي في بطنها، مش دول الاولى برضو؟.
تلجلج ببعض الخزي وقد اصاب والده في رمي سهامه، ليبرر متجنيًا على زوجته:
– وهي حد قالها تمشي وتسيب البيت، دي اتفرعنت باخوها اللي اخدها من غير استئذان، خليه ينفعها .
جاء رد خميس بصيحة غاضبة؛
– هو دا اللي ربنا قدرك عليه؟ طب غور من وشي ، جتك الهم ، واياك اسمع صوتك تاني عن بت عمك ولا غيرها، غووور جاتك الهم، خلفة تعر..
زفر سمير بقوة حين لم يجد فائدة من والده، ليحرك اقدامه وينصرف تاركًا المنزل، مغمغمًا بالكلمات الحانقة،
تجاهلها والده ليلتف نحو زوجته وابنته اللتان تشاركنه الطعام، ليتوجه نحوهم بالسؤال:
– الواد التاني غار فين؟ من الصبح هو كمان ماشوفتش، اياك يكون بيدور عليها هو التاني؟ ما انا عارفه دلدول ابن كلب
❈-❈-❈
وكما توقع والده ، وقف سامر يراقب العمال الخارجين من المصنع في موعد مناوبتهم، علُه يلمح طرفها بينهم ، ولكن للأسف خابت ظنونه، حتى كاد ان ييأس او يدفعه الجنون لاختراق المصنع والسؤال عنها في ادارته، ولكن برؤيته لصباح رئيستها في القسم، تلك المرأة البدينة والتي دائما ما تتردد عليها في زيارات للمنزل، تحرك داخله الامل، ليتخذ طريقه نحو وجهتها، مسرعًا بالخطوات حتى تصدر لها يوقفها:
– انا اسف يا ست صباح، بس لو ممكن دقيقة بس اسألك.
حدجته بحنق لا تخفيه، فهي تعلمه وتعلم أسرته جيدا، لذلك لم يكن غريبًا ان تعامله بضيق:
– وانا ايه بيني وبينك يا خويا عشان توقفني كدة ولا اكنك واخد عليا ، في ايه يا جدع انت؟
اجابها سريعًا حتى يتجنب الصدام معه:
– انا اسف في الطريقة وحقك عليا، بس انا قلقان على بنت عمي وأخواتها، وعايز اعرف هما عزلوا وراحو فين ؟ انت صاحبتها واكيد…….
قاطعته بحدة منتبهة لكلماته:
– مين هما اللي عزلوا يا جدع انت؟ انت هتكلمني بالالغاز.
– والله ما بتكلم بالالغاز يا ست صباح، انا زي زيك اتفاجأت بعد ما صحيت الفجرية على صوت العربية اللي بتلم العفش، حاولت اعرف رايحين على فين، لكنها رفضت واخوها شيبط فيا وكان هيتخانق معايا، شكلك انت كمان خبت عنك زي ما عملت معانا .
سهمت ابصار صباح ، وقد لاحت عليها الصدمة، هذه اول مرة تخفي عنها بهجة امرا بهذه الأهمية، منذ متى كان التعامل معها كالغريبة؟ ولما فعلت ذلك، وهي التي تضعها في معزة ابنتها التي لم تنجبها.
شعر سامر بالأسف على هيئة المرأة، ليلطف قائلا:
– طب انا بلغتك يا ست صباح، وحياة اغلى ما عندك، اول ما تيجي المصنع اعرفي منها وطمنيني عليها ، دي مهما كان برضو شرفي وعرضي.
اومأت بهزة من رأسها ، حتى اذا انصرف وتركها، اخرجت هاتفها من الحقيبة تتصل عليها على الفور، لتخاطيها بحدة فور ان سمعت صوتها:
– الوو يا بهجة،، انتي فين يا بت انتي؟ وازاي اسمع انك عزلتي من غير ما تقوليلي:
جاءها الرد من الجهة الاخرى:
– ايوة يا ريسة سامحيني لو خبيت عنك، اول ما اشوفك هفهمك كل حاجة، انا بس مشغولة دلوقتي، .
– اسامحك ليه؟ انت عملتي ايه يا بت؟
– يا ريسة بقولك هفهمك بعدين، معلش هقفل دلوقتي…..
– استني يا بت….
تطلعت صباح بصدمة نحو الهاتف ، تشاهد انتهاء المكالمة وهذا الفعل الغريب من بهجة، لتغمغم بقلق اصبح يسرى داخلها:
– يا لهوي، هي البت دي هببت ايه ومخبياه عني؟
❈-❈-❈
والى بهجة، والتي اضطرت لانهاء المكالمة مع رئيستها، فور ان ترجلت من السيارة ، لتقف امام البناية التي تقصدها، بعدما هاتفت صديقتها، تطلب منها الانفراد في الحديث معها ، فلم تجد الأخرى خيرا من مكتبها الجديد لتلتقيا به،
لتتطلع هي الاَن لواجتهه، تقرأ اليافطة المدونة عليها الاسم بالخط العريض
مكتب صفية محروس للمحاماة.
❈-❈-❈
وفي منزل رياض
وقد كان يتحدث في هذا الوقت مع شريكه في العمل اثناء خروجه من غرفة المكتب:
– ايوة يا كارم، يا راجل بقولك مشغول ومش هقدر احضر معاك النهاردة……. يا سيدي انت الخير والبركة، نوب انت عني وانا واثق فيك……. وافرض يا سيدي صعبين، هو انت في حد يقدر عليك برضو؟….. انا رايق!….. وماله يا سيدي لما ابقى رايق؟ هي دي عجيبة يعني،……. حبيبي ربنا يخليك، انا هبقى اتابع معاك ع الفون، بالتوفيق ان شاء الله.
انهى المكالمة ليُقابل بوجه والدته امامه مباشرة، تطالعه بنظرات غير مفهومة، وكأنها مندهشة لتغيره اليوم، وقد اختفى التجهم الدائم، وحل هدوء غريب جعله، يتقدم ليجلس بجوارها سائلًا ليطمئن عليها:
– عاملة ايه يا ماما النهاردة؟
لم تجيبه وظلت تطالعه بنظراتها فقط ، مما جعله يميل نحوها بنظرات كاشفة ، فهو ايضا يعرفها ويشعر بتحسنها:
– حاولي تجاوبني في مرة يا ماما، انا عارف انك بدأتي تتنبهيلي وتفهمي اللي بيدور جواليكي، ابنك مش غبي .
اشاحت بوجهها عنه ناظرة للأمام مما جعله يستطرد:
– انا مش عدوك يا ماما، حاولي تنسي اللي فات عشان نعيش مع بعض حياة طبيعية.
وكأنها لم تسمع شيء ، تناول جهاز اللوح اللاليكتروني، تأتي بهذه اللعبة التي تعلمتها من عائشة لتمرر بإصبعها على الشاشة، وتندمج في اللعب، مما جعله يفقد الامل، لينهض من جوارها:
– ماشي يا ماما زي ما تحبي.
ولكن وما هي سوى خطوتين ابتعد بهم عنها ، حتى اوقفته بسؤالها المقتضب، وكأنها بالفعل على معرفة بكل شيء
– بهجة.
التف اليها بابتسامة مسترخية يجيبها:
– معلش يا ماما، بهجة مش هتقدر تيجي النهاردة، هي اتصلت بدادة نبوية وبلغت اعتذارها لسبب يخصها
توقف يستشف رد فعلها بهذه النظرة التي كانت تطالعه بها، ولكنها قطعت سريعًا تعود لما تفعله باللعب على الجهاز الذي تمسكه بيدها، وكأنها لم تسأل عن شيء
❈-❈-❈
مساءً
وداخل منزل اخر يمتلكه، ليجعله مسكنا لهما معًا ، كانت الجلسة بحضور رجل الدين الذي كان يعقد عقد زواجهم، والحضور يقتصر عليه، واثنين من رجاله شهود ، وهي قد أتت بصديقتها الوحيدة كما اخبرته، تحفظ السر وتدعمها في هذه اللحظة الفارقة معها .
وقد وافق حينما اخبرته بأمانتها ولكنه تفاجأ بعد ذلك بالمهنة التي تمتهنها، لتجعل نوعا من التسلية يسري بداخله،
ولكنه كان كالعادة متزنا بشكل يفوق الحدود ، يردد خلف الرجل ويطالعها برزانة ، رغم مشاعر الصخب التي كانت تدور برأسه، لقد كانت جميلة بصورة مؤلمة ، رغم نبرة الحزن التي كانت تتخلل صوتها، رقيقة وناعمة كقطعة السكر التي تذوب بالفم ، كيف له الصبر يومين اخرين كما وعدها؟
بعد انتهاء رجل الدين وقد اصبحت زوجته رسميًا، وانصراف الرجلين، لم يتبقى سوى هذه الفتاة صديقتها، تقف معها الاَن وتدعمها، رغم النظرات العدائية التي كانت توجهها نحوه ، فهو ليس بالغبي حتى لا يعرف بما خلف الابتسامة المزيفة التي كانت ترسمها امامه، ليظل جالسًا بأريحية على اريكته في انتظار انصرافها.
– خليكي شوية تاني يا صفية، او استني نمشي مع بعض .
تبسمت الاخيرة بحنو لطيبة صديقتها المفرطة، والتي تستهين بما اوقعت نفسها به، ولكنها ان لم تنجح في اثناءها اليوم عن فعلتها تلك، فهي ابدا لن تتركها .
نظرت نحو الخاتم الذي وضعه هذا المتعجرف بأصبعها، وكأنه يعاملها كعروس حقيقية ، مهر ومنزل ووكالة صغيرة، ياله من مشتري جيد،
تنهدت بقوة، لتضغط على كفها بمؤازرة، وتشديد وتنبيه:
– زي ما قولت وأكدت عليكي قبل سابق، انا تحت أمرك في أي وقت لو عوزتي اي مساعدة، اينعم انا كنت رافضة وما زلت، بس برضو هفضل في ضهرك مهما حصل.
سمعت منها بهجة لتلقي بنفسها عليها وتحتضنها بشدة:
– تسلميلي يا صفية، تسلميلي اوي، انتي مش مجرد صاحبة وبس، لا دا انتي اختي.
لم تبخل عليها صفية ايضًا بدعمها حتى تطمئن وتهدأ سريرتها، فهي الاعلم بما تمر به الاَن.
طال عناقهم حتى اثار سخط هذا الغيور، ليتحمحم بجلافة تحسب عليه، فيهدي صفية ابتسامة مكشوفة حينما اتجهت برأسها اليه، يتحدث بكذب:
– منوارنا يا سيادة المحامية المخضرمة، ايه رأيك تيجي معانا نتعشى في المطعم القريب من هنا.
بادلته صفية بابتسامة صفراء:
– متشكرين يا رياض باشا، الجيات كتير، نخليها مرة تانية ان شاء الله، مش عايزة ابقى عزول.
قالت الأخيرة بابتسامة حقيقية لصديقتها، قبل ان تستأذن وتغادر امامها، برفقة احد الحراس، وهي تتابعها بعينيها حتى اختفت خارج المنزل الذي اغلق عليها وعليه، لتجفل بذراعه التي التفت حول خصرها من الخلف فتجد وجهه مقابلا لها يخاطبها بمرح:
– حلوة اوي حلوة حركة المحامية دي، حركة زكية.
كتمت شهقتها لتعقب بثبات تدعيه:
– ما انا قولتلك من الاول انها جاية بصفة صاحبتي، مش بصفة عملها، وان كان على حقي او العقود، ف انا برضو دارسة حقوق وعارفة كويس بالقوانين.
– جميييل.
لا تعلم بأي صفة وجه الكلمة، ان كانت سخرية او اثناء على ذكائها، ولكنها عادت للإجفال مرة أخرى، حينما قربها اليه بشدة حتى انتفض جسدها بين يديه، لتعبر عن اعتراضها:
– ايه في ايه؟ انت مش قولت انك هتديني فرصتي، يومين
تبسم بمكر يردد بمراوغة:
– طبعا قولت، بس كمان ما قولتلكيش انك زي القمر النهاردة، وانك تاخدي العقل و….
-و ايه؟
هتفت بها مقاطعة له، لتنفضه بعيدا عنها بحركة مباغتة، ولكنه اعادها سريعًا لترتطم بصدره فتجد نفسها محاصرة بين ذراعيه، وانفاسه الخشنة تلفح بشرتها بعدما قرب وجهه منها بشدة، ليردد بصوت مبحوح وعيناه ارتكزت على ثغرها:
– ما انا قولت حاجات كتير وانتي كمان، بس دي مشاعر بتيجي فجأة من غير حساب، وانا برضو بقيت جوزك رسمي ولا انتي مش واخدة بالك؟
انتفضت تحاول الإفلات من بين يديه مرددة:
– لأ واخدة بالي، بس انا مش جاهزة بجد، ولا انت كلامك في الهوا.
بعبارتها الأخيرة استطاعت ان تحرك ذلك الجزء المتعجرف به، ليحل ذراعيه عنها فجأة قائلا بحنق لا يخفيه:
– رياض الحكيم عمره ما يقول حاجة في الهوا.
زفرت بارتياح حينما تركها، وقد علمت الاَن بهذه النقطة التي تستطيع استغلالها في شخصيته، لتعدل من فستانها الذي تجعد، قائلة بتملق زائف:
– انا برضو كنت عارفة، وعشان كدة بقول ان اروح دلوقتي احسن ليا وليك ، عن إذنك.
قالتها لتتحرك مغادرة دون انتظار رد منه، وما ان استدارت لتنصرف نحو وجهتها، حتى وجدت نفسها تعود بسرعة البرق الى وضعها السابق، وقبل ان تستوعب باغتها، لتحط شفتيه على ثغرها هذه المرة تكتم اعتراضها ، في قبلة شغوفة، تخوض تجربتها لأول مرة بين يدي خبير، ذهب بها الى عالم اخر لا تعلمه، ما بين لهفة وتمهل ليسحب استجابة امتزجت ببراءتها التي كادت ان تطيح بعقله، ويتخلى عن وعده، حتى تركها بصعوبة تلتقط انفاسها، لاصقا جبهته بجبهتها، ليردف بصوت يخرج بصعوبة:
– دي بس عشان مش جاهزة.
اصابها الخجل بشدة حتى لم تقوى على رفع عينيها اليه، لتملك زمام امرها في الاخير، ف ابتعدت حينما ارتخت ذراعيه عنها، وبتصميم غبي على المغادرة، فجعلته يزفر مقلبًا مقلتيه بقنوط، ثم امسك بها من رسغها يوقفها، فتجاهلت خجلها لتطالعه قائلة بانفعال:
– ايه تاني؟ مش قولت خلاص.
اجابها ببساطة حتى تكف عن تشنجها:
– هنتعشى مع بعض يا بهجة، ولا دي كمان عايزة تجهيز ؟
ترددت برهة بتفكير، لكن سرعان ما اتخذت قرارها بالرفض مبررة:
– لا طبعا مينفعش استنى دقيقة هنا، انا مضمنش!
اخفضت في الاخيرة رأسها حتى فهم ما تقصده، ليطلق زفرته الأخيرة بخشونة يردد بيأس وهو يتناول سلسلة مفاتيحه من فوق الطاولة:
– احنا هنتعشى في مطعم برا يا بهجة، يعني مفيش داعي للقلق.
حينما نظرت إليه تسشف صدق قوله، أسر خضراوتيها ببندقيته مستطردًا بنبرة جديدة عليها:
– مش عايزة اتعشى لوحدي النهاردة، عايز احس يونسك معايا، ممكن.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
غير طريق عودتها للمنزل ، لتفاجأ به يوقف السيارة من الخلف حيث السكون الذي يخيم على المنطقة الهادئة من الأساس، وعدد المارة القلائل في هذا الوقت، حتى غلبها الفضول لتساله وهي تتفقد الأجواء من النافذة المجاورة لها:
– وقفت ليه من الخلف، قدام البيت في نور لكن هنا ضلمة.
بابتسامة واثقة تناول كف يدها، لبجيبها بهذا النبرة التي لم تعتاد عليها بعد، تلك التي يتخللها الدفء عكس البرود الملازم له:
– وقفت هنا عشان اودعك براحتي، وانتي كمان عشان متقلقيش، اينعم المنطقة هنا مختصرة بالف مرة عن الحارة اللي كنتوا ساكنين فيها، بس برضو الامر مايسلمش.
اومأت بملامح يعتليها الضيق، ثم سريعًا ما استدركت للكلمة العابرة التي سقطت منه اثناء حديثه:
– تودعني ازاي يعني؟ هو انت مسافر؟
اومأ بهز رأسه، ليضغط على كفها المحتجز داخل كفه الكبير :
– ورايا شوية حاجات عايز اخلصهم تبع الشغل، يدوب
، هحاول اجي بأسرع وقت عشان اتفاقنا.
فهمت على ما يقصد لتسبهل اهدابها عنه بخجل زاده اضعاف حين اردف بمشاكشة:
– كان نفسي طبعا الوداع دا يبقى في بيتنا، كان هيبقى افضل واحسن بالنسبالي مية مرة.
حاولت نزع يدها باعتراض وعدم تقبل لجرأته، ولكنه زاد بفرض قبضته عليها ، يردف بهيمنة:
– حاولي تبقى هادية عشان ميطورش العند معايا، وبدل مسك الايد يبقى مشهد ساخن في قلب الشارع.
شهقت رافعة عينيها نحوه بإجفال:
– معقول يا رياض انت ممكن تعملها صح؟
تبسم باتساع فمه، فهذه اول مرة يسمعها تخاطبه بإسمه مجردًا، ليزيد بمشاكستها:
– انا بنبه بس عشان تعرفي اني على تكة، بس حلو الاسم منك تصدقي بقى، انا من اكتر الحاجات اللي كنت بكرهها في حياتي هو اسمي، عشان دايما بحسه تقيل وقديم، انما دلوقتي، فدي اول مرة اعرف انه لذيذ، بعد ما سمعته منك.
– اللي هو ايه ده؟
سألته بتركيز ذهب ادراج الرياح، فحالة الارتباك التي تلفها في حضوره، تنادي بالذهاب وفقط، دون الانتباه لأي شيء اخر،
اما هو والذي يعجبه الامر، فقد واصل بتسلية:
– انا بتكلم عن اسمي يا بهجة، عاجبني اوي منك.
اومأت رأسها بمهادنة، ثم حاولت الفكاك من حصاره حتى تغادر، ولكنه ابى، ليحبط محاولتها من البداية:
– اثبتي بقى يا بهجة، دول مش مستاهلين دقيقتين.
– دقيقتين!
تمتمت بها ساخرة، لتكتم داخلها زفرة الإحباط، تستسلم لإصراره قائلة برجاء:
– اديني سكت وهمدت عن الحركة اهو، ياريت بقى عشان خاطري تستعجل، انا حاسة قعدتنا كدة في العربية غلط من اساسه.
– مستعجلة اوي على بعادي يا بهجة؟
ما هذا السؤال الذي اجفلها به؟ حتى ارتفعت خضرواتيها، لتصطدم بهذه النظرة الغريبة، وكأنها تحمل احتياجًا، تحمل دفئًا، تحمل…..
– انتي عارفة ان دي اول مرة من سنين، ابلغ حد بسفري غير اللي بشتغل معاهم!
للمرة التي لا تذكر عددها ، يصدمها بأشياء جديدة عن شخصيته، لا تستوعبها.
– معقوول، ازاي يعني؟
سألته ببرائتها، فجاء رده بابتسامة لا تحمل شيئًا من مرح:
– عشان طول عمري وحيد يا بهجة، وحيد ابويا وامي، وحيد في بلد ناسها بتتكلم بلغة غير لغة بلدي…
لقد اسرها بقوله، ليتابع معانقًا ابصارها، وقد التمس بها عاطفة الحنان التي تغلبها مهما كان غضبها:
– انا نفسي انفتحت بجد النهاردة يا بهجة وانا بتعشى معاكي، كنت اتمنى لحظاتنا دي تطول، زي ما انا بتمنى دلوقتي اخدك في حضني واروح بيكي على بيتنا….. لكن اكيد طبعا مش هعمل حاجة على غير رغبتك.، الا اذا انتي غيرتي رأيك.
على الفور اهتزت رأسها برفض تام وارتجافة شعر بها، ليلملم ابتسامة ماكرة مردفًا:
– مفيش داعي للقلق يا بهجة، انا بقول لو غيرتي رأيك، يعني سايب حرية الاختيار في ايدك، حتى لو الشوق لوصالك هيجنني .
كيف السبيل لها في المقاومة، امام اجتياحه الكاسح بسحر كلماته، يدك حصونها برقته، يستجدي عاطفتها بحديثه، وقد تأثرت بالفعل لضعفه، ذاك الذي يخفيه خلف كتلة البرود والجمود التي يتخذها واجهة.
لقد ضاعت الكلمات في جوفها، وأصبحت كالمتلقي بصمت، وهو يغزو مشاعرها البريئة بسيل عاطفته، لتروي جفاء ارضها المهجورة منذ سنوات عدة، لترتوي وتشبع حد الامتلاء ، رغم خوفها وقلقها وكل شيء.
واصل هو يقبل ظهر كفها بحنو مردفًا:
– حاولي لما اتصل بيكي في اوي وقت تردي، عشان اكيد انا هكون عندي رغبة شديدة اكلمك.
اومأت بطاعة وقد عصف بها الاضطراب، لتلملم اشياءها وتترجل هاربة من حصاره وهذه المشاعر التي يجفلها بها، حتى انها لم تعترض حينما خطف قبلة من وجنتها، قبل ان تغادر وتتركه في انتظارها حتى دلفت من الباب الخلفي من المنزل، لترمقه بنظرة سريعة قبل ان تدفع الباب وتغلقه.
ثم توقفت اقدامها عن السير، بحالة من التشتت تكتنفها:
– لماذا يخبرها الاَن بحاجته اليها ، لماذا يوهمها بقيمتها عنده؟ بعدما جعل الموضوع لا يزيد عن رغبة، ومهمة بيع وشراء بينها وبينه…… تبًا، هي لا تريد هذا الوجه منه، تريد الاحتفاظ بالصورة التي طبعتها في ذهنها عنه، حتى تستمد القوة دائمًا للاستغناء عنه في اي وقت.
زفرت تنفض رأسها من هذا العبث الذي اصبح ينخر فيها كالسوس، مذكرة نفسها بالاتفاق المبرم، والوعود التي قطعتها على نفسها، من اجل مستقبلها هي واخواتها، فلا يوجد شيء آخر يستحق، نعم لا يوجد.
❈-❈-❈
في اليوم التالي
استيقظت قبل الجميع كعادتها، ليجتعموا معها على تلك الطاولة التي جعلتها مائدة الطعام، حتى الانتهاء من ترتيب باقي المنزل اليوم،
عبارات المرح والارتياح للمنزل الجديد لم تخلو من مزاح :
– يا سلام يا بيبو لما صحيت كدة واول حاجة وقعت عليها عيوني من الشباك هو منظر الخضرة تحت، حاجة كدة تشرح القلب وتفتح النفس على يوم جديد، انا حبيت البيت ده اوي، ربنا يخليكي لينا.
كان هذا قول جنات ليعقب على قولها شقيقها الاصغر:
– ايوة بقى يا ست الفنانة، بس انا اللي عاجبني اكتر بقى هو الهدوء، الواحد هنا يقدر يذاكر ويستوعب براحته، بعيد عن اصوات الخبط والرزع اللي مبيبطلش من الجيران لا صبح ولا ليل.
– ولا تصطبح بخلقة حد من ولاد عمك ولا مرات عمك الحيزبون ولا عمك نفسه، دا دي اهم ميزة يا عمنا .
هتفت بها عائشة لتصدر الضحكات من الجميع، فتعقب شقيقتها الكبرى:
– انتي بلوة كبيرة يا عائشة، رغم ان مكنتيش راحمة حد فيهم، بس بصراحة مكذبتيش، انا كنت مخنوقة وتعبانة في البيت ده رغم انه ريحة ابويا وامي وذكرياتي معاهم…… يلا الحمد لله.
– الحمد لله، طب انا كدة هروح جامعتي ازاي يا بيبو؟ انا لسة محفظتش خط سير المنطقة الجديدة.
– هعرفك يا جنات، احنا هننزل مع بعض دلوقتي، انا وانتي وعائشة، اما ايهاب فدا لسة قدامه مذاكرة، وهو مش محتاج اصلا حد يوجهه، ولا ايه يا باشا؟
رد ايهاب بثقة:
– طبعا يا باشا.
❈-❈-❈
اما هو فبعد ان انهى مهامه اليومية على عجالة من اجل رحلته السريعة، وجد نفسه يهاتفها دون تفكير، وكأن شيئًا ما ينقصه قبل ان يتناول حقيبة الملابس التي اعدتها الدادة نبوية من اجل سفرته،
كانت هي في هذا الوقت، داخل الوسيلة العامة للمواصلات، بعدما اوصلت عائشة لمدرستها، وعرفت جنات الطريق الذي تتخذه للجامعة، فكانت مفاجأة ان تجفل باتصاله، وفي هذا الوقت وبين هذه المجموعة الكبيرة من البشر .
كادت الا تجيب وتؤجل المكالمة، ولكن خشت ان يسافر قبل ان تلحق الاتصال به، فجاء صوتها كالهمس:
– الوو… صباح الخير.
– صباحك فل يا بهجة، متصلتيش ليه تطمني ولا تسألي عن سفري؟
هكذا ومباشرة يعاتبها، وهي تعلم بالفعل انها قصرت ، ولكنها ايضا مازالت تضع الحواجز، ولم ترفعها بعد، لأنها حتى الاَن لا تستوعب، وقد ترسخ بعقلها، انه ليس زواجا عادي، إذن فكيف تفعل؟
تحمحت تجلي حلقها بخفة لتبرر وتجيبه بنبرة هامسة، حتى لا يصل الصوت الى المرأة التي تجاورها؛
– معلش عدت عليا، بس كنت هتصل لما اوصل الشغل….
– وانتي فين دلوقتي؟ وليه صوتك واطي؟
زاد حرجها مع انتباهها للمرأة التي اصبحت ترهف السمع معها، لتغمغم سائلة لها بفضول:
– دا جوزك ولا خطيبك؟
اومأت لها على مضض دون ان تريحها بإجابة وافية، ليصدر ردها نحو الاخر ببعض الضيق، فهي ليست معتادة على هذه المحادثات امام الملأ:
–
انا في الاتوبيس، وخلاص قربت اوصل الشغل.
كاد ان يستمر في مشاكستها ولكن عند ذكر هذا الاخير تغيرت لهجته ليرد بحدة:
– وتركبي ليه اتوبيسات وتتبهدلي، ما عم علي موجود يا بهجة، مش انا قولتلك في اي وقت اتصلي بيه من سكنك الجديد والراجل مش هيقصر..
قابلت حدته ببعض التماسك حتى لا ينفلت الامر منها وتنفعل عليه:
– حضرتك وانا قولت تمام، بس دا في مواعيد الشغل عند مدام نجوان، غير كدة مينفعش، عم علي راجل كبير و انا مش هانم عليه عشان اقلق راحتو وقت ما احب في اي وقت.
استطاعت بتلميحها البسيط ان تجعله يستدرك صواب قولها، وصحة موقفها، لذلك لم يجد سوى ان يلطف، معبرًا عما يعتريه في هذه اللحظة:
– هتوحشيني يا بهجة
هل ما سمعته كان حقًا؟ وان هو كذلك بالفعل، كيف يسعفها لسانها في الرد؟
– بهجة انا بكلمك.
– ايوة ايوة واخدة بالي والله.
تمتمت ردًا له، وقد تلونت وجنتيها بالإحمرار، ولفها الارتباك بشدة، والذي يبدو قد وصل اليه، فأبى الا يثقل عليها في هذا الوقت الغير مناسب لها، لينهي بنبرته الرخيمة:
– هبقى اتصل بيكي اول ما اوصل.
ابتلعت ريقها هذه المرة تتمكن من إجابة بدت في طريقتها عفوية وبسيطة بصوتها الرقيق، لكن لا تعلم بحجم تأثيرها على رجل مثله:
– تروح وتيجي بالسلامة ان شاء الله.
– وانتي بألف سلامة يا بهجة.
❈-❈-❈
تصدر سمير بمدخل البناية، يوقف شقيقه عن الخروج هاتفًا به:
– على فين العزم يا غالي؟ على شغلك بقى اللي لسة مبداش؟ ولا ع المصنع؟
حاول سامر دفع ذراعه عنه وتخطيه مرددًا باستنكار:
– مصنع ايه وكلام فارغ ايه؟ ابعد كدة من وشي يا عمنا مش عايز اقل منك وانت اخويا الكبير.
سمع الاخير لتثور ثائرته، يصيح به غير عابئًا بصوته العالي :
– لا يا حبيبي اتشطر وخليني اشوف هتقل مني ازاي؟ وانا مبقاش راجل، لو معرفتكش مقامك، بتروح المصنع لبنت عمك تسأل عليها هناك ليه ياض؟ تخصك في ايه عشان تروح تسأل عنها بعد ما مشت وسابت البيت؟
لم يستغرب سامر علم اخيه بذلك الامر، فهو على معرفة تامة بخط سير ابنة عمه منذ انفصاله عنها، لكن ابتعادها الاخير بهذه الصورة دون ان يأتيه خبر به، وهو ما شكل صدمة له، لذلك لا يستغرب حالة الهياج التي هو عليها الاَن، لكنه ايضا لن يسكت عن حقه:
– وافترض روحت لها وسألت عليها عشان اعرف مطرحها، دا يخصك انت في ايه؟ ولا تكونش يا حبيبي عايش لسة في الوهم انها على زمتك؟.
وكأنه كان في انتظارها ليفرغ به شحنة الغضب المكبوتة به منذ الأمس، ليكز على اسنانه، ويدفعه بكفيه على صدره بعنف متحرقًا لبدء مشاجرة:
– اه بقى هو كدة بالفعل، عايش في الوهم انها على زمتي، يعني مفيش حد هيقدر يقرب منها غيري، واللي هيسترجل ويتحداني، يبقى الموت اقرب له منها.
قابل سامر تهديده، بوعيد اكبر، يزجره بعنف:
– طب ان كنت راجل اعملها، وانا صدري مفتوح اهو، شوف هتقدر ولا لا؟
– يبقى انت اللي طلبتها .
صرخ بها الاخر لينشب بين الاثنين شجار كالمعركة بين الطرفين، في حرب اثبات الذات وكأنهما قد عادا للعصر الحجري، قبل ان يلحق شباب الحارة ويفصلا الخصمين، حتى وصل الامر لوالدهم، فجاءت اللحظة المنتظرة امام والدهم الاَن ، بوصلة من توبيخ لا تخلو من شتائم بأفظع الالفاظ:
– بتفضحوني يا ولاد الكلب قدام الحارة وتقصروا رقبتي، ياريتها كانت بركت عليكم وفطستكم يا خلفة الندامة، بتقطعوا بعض وتفرحوا الناس فيكم، وانتو الواحد منكم قد الشحط ويفصلوا منه اتنين، هتعقلوا امتى يا جوز البهايم؟
جاء الرد المباشر من ابنه الاصغر، في دفاع عن نفسه:
– انت عارف يا بابا اني اخر واحد يعمل فضايح ولا مشاكل، بس ابنك الكبير هو اللي استفزني من غير سبب واجبرني اتخانق معاه، انا راجل كنت رايح على مصلحتي، هو اللي وقف في وشي يمنعني، باينه كان شارب شوفو حالته بنفسكم.
هتف سمير يبرر باندفاعه الاحمق غير ابها بالعواقب:
– انا برضو اللي بجر شكلك من غير سبب، طب خلي عندك انت الشجاعة وقولها يا دكر…….. اسمع يا بابا، قول لابنك يتلم ويبطل يروح لبهحة الشغل، ولا يدور على عنوانها، انا حالف لاصور فيها قتيل لو اتجرأ ولا عملها تاني.
جاء الرد من درية الواقفة خلفهم تسبق زوجها بلطمة على صدرها:
– نهار اسود عليكم ومنيل بستين نيلة، هو احنا مش كنا خلصنا من بوز الاخص دي اللي اسمها بهجة، ولا انتوا عايزين تخلصو علينا احنا بعمايلكم!
هدر خميس يغلق باب الجدال والمناقشة من اولها:
– اسمع ياد انت وهو، انتوا الاتنين دلوقتي تحلو عن نفوخي، وما اسمع بعد كدة ان اي حد فيكم قرب من شغلها ولا حصل خناق ما بينكم تاني بسببها لاكون طاردكم من بيتي طردة الكلاب، هو انا معنديش شغلانة غيركم يا ولاد الكلب، امشي وغور انت وهو ، كل واحد يروح فيكم على شغله.
سمع الاثنان ليضطروا للإذعان له صاغرين، ينصرفا من امامهم، فيغادرا المنزل، امام ابصار والدتهم، التي صارت تولول وتندب حظها، وابنتها التي التوى ثغرها بازدراء تتابع ذهابهم، لتربت على ظهر والدتها وذراعها بدعم :
– معلش ياما اهدي كدة لا تجيبي المرض لنفسك.
خميس والذي تخصر بذراعيه، بغيظ يفتك به، دب بقدميه ينهرها بحنق قبل ان يذهب هو الاخر ويلحق بهم:
– قفلي انتي كمان يا درية، مش ناقص انا حزن في البيت، جاتكم الهم كلكم، تقصرو العمر.
– هم لما ياخدك انت، ما انت كمان من ضمن الهم.
غمغمت بها درية بغيظ خلف زوجها الذي صفق الباب بقوة وهو يغادر المنزل.
لتجفلها ابنتها:
– اما انتي لازم تروحي عند الشيخ اللي غورها، يشوفلك صرفة بسرعة عشان ولادك يتهدو بقى، واحد يرجع لمراته والتاني يتجوز واحدة تنسيه اسمها .
طالعتها والدتها بدهشة لذهنها الخبيث الحاضر ، تعلق ردا لها:
– وهي مقابلة الشيخ كدة سهلة يا ختي، دي لسة عايزة مواعيد وعلى ما يجي دورنا ، دا غير الفلوس اللي هيطلبها.
بحماس يثير الذهول، ردت بلهفة:
– ومالوا يا ماما، انتي تتصلي بالست مبروكة وتعكميها قرشين تسهل مقابلتك بيه، وان كان ع الفلوس فدي اسهل حاجة عندنا، المهم بقى تاخديني انا معاكي المرة دي.
نهرتها درية باعتراض:
– اخدك فين يا بت؟ هو انتي اتجننتي ولا ايه؟
وكأنها طفلة صغيرة تعلقت برقبتها، تتحايل بلهفة:
– لا ياما متجننتش، بس انتي خديني معاكي، شالله يارب ما يتم المراد غير لما تاخذيني معاكي.
❈-❈-❈
بأعين يملؤها الفخر، وقفت تطالعه وهو يرتدي الملابس الرسمية امام المراَة، فبدا لها اجمل ما يكون، تريد ان تظل هكذا بالساعات ولا تمل من تأمله ابدا.
انتبه اليها في غمرة اندماجه في تصفيف شعر رأسه بالفرشاة، ليلتف اليها، فيهديها ابتسامة رائقة مشاكسا، وقد راقه وقفتها بذلك الميل وهي مستندة على إطار المدخل، بتلك البيجامة الملتصقة بمنحنياتها البارزة، بصورة اظهرت اغراءً هي تغفل عنه:
– ايه؟
تسائلت خلفه بعدم فهم:
– ايه ايه؟
اجابها بغمزة وقحة، ونظرات ذات مغزى:
– دا اول يوم رسمي ليا النهاردة من بعد الاجازة، بالشكل ده هتخليني اغير رأيي.
– يا نهار…….
قطعت عبارتها بحرج كسى ملامحها، لتعتدل بوقفتها تتصنع الغضب وابتسامة فضحتها، لتردف بكلمات متقطعة:
– انت…. انت فعلا بقيت قليل ادب يا عصام……. قال وانا اللي جاية اقولك ان الفطار جاهز…… خليك مع نفسك…… هروح افطر لوحدي….
قالت الأخيرة وتحركت مغادرة من امامه، ليلحق بها، يتمتم ضاحكًا:
– وايه يعني ما انا ممكن احصلك، وبرضوا اعمل اللي في دماغي .
فضلت عدم الرد لتأخذ جلستها على المائدة كي تسبقه، وما همت بوضع احد اللقيمات بفمها حتى وجدته يقبض على كفه، ويلتقطها بفمه، ثم يلوكها مردفا بمكر:
– حسيتها من ايدك هتبقى احلى، ولا ايدك هي اللي أحلى.
اكتنفها الخجل حتى حاولت نزع كفها، ولكنه ابى ليزيد من ضغطه ويرفعها اليه، يقبل الاصبعين ثم باقي اليد حتى سرت بداخلها القشعريرة، لتهتف برجاء:
– عصااااام.
توقف فجأة وبنبرة ينضح منها الخبث اجابها:
– ايه؟
سحبت يدها سريعًا منه، قائلة بحنق تخفي به اضطرابها، وقد شتتها بفعلته:
– انت كدة فعلا هتتأخر على شغلك.
استقام بجذعه يعدل من هيئتها، ليرد بحسم لا يخلو من تسليته:
– لا ما انا لو قعدت دقيقة تاني مش هروح الشغل فعلا، عشان كدة بقول اروح افطر مع امين باشا في مكتبه .
دنى يختطف قبلة سريعة من وجنتها، ثم تحركت اقدامه على عجالة، ليلقي اليها قبلة اخيرة في الهواء بادلته اياها ترافقها بقلب كبير وابتسامة اعتلت محياها حتى بعد انصرافه، لتتنهد بسعادة جعلتها تنسى الطعام وشهيتها اليه، وقد ارتوت بعشقه وشبعت حد التخمة .
خرج عابد الورداني من غرفته، يلقي ببعض التعليمات على زوجته قبل سفره لخارج العاصمة، من اجل جلب البضائع وقد توسعت تجارته في الشهور الاَخيرة، بفضل تركيزه به، وقد وجد به الشيء الوحيد الذي يستحق الاهتمام:
– لما يجي الواد جابر اديله مفاتيح المخزن والدكان، انا وصيته امبارح عشان لما اوصل بالبضاعة الجديدة يبقى مستنيني.
كان ابراهيم في هذا الوقت مضطجعًا بجلسته على الاريكة التي تحتل وسط الصالة، منشغلا بالهاتف، لم يعتدل ولا يعير مرور الرجل اهتمامًا، والاَخر يرد بالمثل في ان يتخطاه دون ان يلقي حتى تحية الصباح، الامر الذي استفز سميرة، لتعترض بمكر تجيده:
– الله يا حج والواد جابر يمسك شغلك ليه دلوقتي وابنك موجود؟ دا آخره حتة صبي لا طلع ولا نزل، ولا ايه يا ابراهيم؟
توجهت بالاخيرة نحو المذكور لتلكزه بيدها، كي يرفع عيناه وينتبه، يعطيها استجابة تدعم قولها، ولكنه سهم بصمت ابلغ من الكلام، لتبزغ ابتسامة جانبية ساخرة من ابيه، فيعطي رده الحازم لزوجته:
– متنسيش تبعتي المفاتيح لجابر، واياك حد يزعله بأي كلمة، دا ايدي اليمين دلوقتي..
القى كلماته وذهب يصفق الباب خلفه بعنف اظهر غضبه المكتوم، ليخلو المنزل على سميرة وابنها الذي صاحت به تنهره:
– مش تتكلم يا ابن الخايبة وتدافع عن حقك، بقى الغرب يمسكوا مال ابوك وانت هتفضل راقدلي ع الكنبة زي الفرخة اللي راقدة ع البيض.
استفزه الوصف لينهرها صائحا:
– الله انتي اتعديتي منه ولا ايه؟ ما تنقي الفاظك ياما، بدل ما تخليني اتعصب عليكي.
بغيظ متعاظم، جذبته من قماش قميصه تهزهزه متمتمة بفحيح:
– هو دا اللي انت فالح فيه، بقولك الغرب بقوا ماسكين مال ابوك، وهو مديهم دقنه وواثق فيهم اكتر منك، هتستنى انت بقى لما يسرقوه؟
نفض قماش قميصه عنها ليعقب بعدم اكتراث:
– وافرض حصل، ما هتبقي غلطته مش غلطتي، بلاش تكبري الموضوع ياما، انا ممكن في اي وقت اطرد جابر ، دا آخره صبي عندنا زي ما قولتي، لكن مدام بقى نافعنا وماشي بأجرته خلاص بقى….. دا انا مصدقت شايلني من دماغه، بعد ما كان بيهزقني ع الطالعة والنازلة ويغصبني ع الشغل معاه..
هتفت تكز على اسنانها:
– عشان خلاص حط صوابعه في الشق منك، وانا شكلي هعملها قريب، روح يا ابرهيم يا ابن بطني ربنا يهديك.
صرخت بالاخيرة، لتتركه وتذهب من امامه نحو غرفتها ، تغمغم بالألفاظ النابية التي لم يبالي بها ، ليعود لهاتفه مرة أخرى في محاولة للاتصال برقم اخر باءت بالفشل كالعادة مع حظرها لكل الارقام الغريبة عنها، ليحدث نفسه هذه المرة بتوعد:
– ماشي يا امنية، بلاها تليفونات، وانا هعرف برضو اجيبك لحد عندي، ومبقاش انا ابراهيم لو ما حصل.
❈-❈-❈
انهت عملها سريعًا حتى اذا جاء موعد الاستراحة، تركت مكتبها وخرجت سريعًا الى رئيستها التي شددت عليها منذ الصباح من اجل الالتقاء بها.
فخرجت اليها بداخل الحديقة الشاسعة حيث كانت تنتظرها بناءًا على رغبة بهجة في هذا المكان المنزوي اسفل الشجرة، حتى تنفرد بها بعيدا عن الجميع،
لتجدها الاَن جالسة على الاَريكة الخشبية، متربعة الذراعين تطالعها بحدة قابلتها بهجة بالابتسام والمزاح:
– يا ساتر يا رب، طب انا كدة اصبح ولا امسي ازاي بس مع التكشيرة دي .
ردت صباح بسخرية لا تخلو من حزم:
– انا لا عايزة صباحك ولا مساكي يا اختي، بت انتي احنا مش لسة هنتساير، اترزعي يلا .
رددت خلفها بهجة بادعاء القلق، وهي تتجه لتجلس أينما اشارت لها:
– يا لهوي، لا هنتساير ولا نسلم، امال هترزع قدامك ليه؟
– عشان احقق معاكي.
قالتها صباح بجدية لا تقبل النقاش، لتجبر بهجة كي تتخلى عن المزاح، فهي لن تتقبله اليوم، لتحاول الأخرى التلطيف معهما:
– في ايه بس يا ريسة؟ كل دا عشان عرفتي اننا عزلنا، طب ما هو دا كان شيء متوقع، انتي عارفة انا من زمان نفسي فيها الخطوة دي عشان ابعد عن عيلة عمي واذاهم لينا .
– عارفة يا بهجة، بس ازاي دا حصل بقى؟ وازاي قدرتي تخبي عليا؟ دا اللي انا عايزة اعرفه يا غالية.
حاولت بهجة التبرير بحجج واهية رغم علمها بذكاء رئيستها التي لا تفوتها التفاصيل الدقيقة:
– ااا اتصرفت، كسبت القضية اللي كنت رافعاها على مصلحة ابويا بقالنا سنين ومن المكافأة اول ما قبضتها، جريت على طول اشتريت البيت قبل عمي ما يحس، عشان كدة فضلت يبقى الامر كوتيمي، لكن طبعا كنت هقولك .
– دا بعد ما تعزلي! ليه يا حبيبتي؟ هو انا كنت من عيلة عمك يا بت؟
صدرت من صباح بقوة جعلتها تُصلح على الفور:
– لا والله يا ريسة، انا كان قصدي ع الكل، مش عليكي انتي مخصوص، والله ربنا بس العالم بمعزتك عندي.
طالعتها صباح بصمت، مضيقة عينيها بريبة زادت من توترها، لتردف حازمة لها:
– بهجة بلاش لف ودوران عليا، جيبي من الاخر معايا دا لو ليا عندك معزة زي ما بتقولي، عشان انا عارفة كويس ان انت موقفة القضية بقالك اكتر من سنة، ولا نسيتي ان المحامي كان من طرفي وابن منطقتي، ومعرفني كويس اوي استحالة انك تكسبيها.
هي بالفعل نست ذلك او تناست او ربما هي السرعة وعدم التركيز من جعلاها في هذا الموقف امام امرأة المحنكة وشديدة الذكاء كصباح، بل وتفهمها.
– سكتي يعني يا بهجة؟ لو مش عايزة تقولي انتي حرة.
حينما ظلت بهجة على ترددها، نهضت فجأة تجفلها:
– شكلي زودتها، انا بقول اسيبك احسن مع نفسك يا بنتي.
– لا استني يا ريسة.
هتفت بها بهجة توقفها فور ان تحركت للمغادرة، لتردف لها برجاء:
– هقولك على كل حاجة، بس وحياة الغالين، بعد ما تعرفي لا تبكتيني ولا تضري نفسك ولا تضريني.
رددت خلفها بعدم فهم:
– وتضريني انا ليه؟….. انتي هببتي ايه يا بت؟
❈-❈-❈
وفي منزل ناصر الدكش
حيث دوى صوت جرس المنزل، حينما كانت نرجس تعمل على اعداد الطعام في مطبخها، وقد خلى عليها وحدها، بعد ذهاب ابنتها رؤى إلى جامعتها وزواج البقية، لتجفف يدها بالمنشفة وتتحرك نحو مدخل الباب في ظن منها انها احدى جيرانها، لتفاجأ باخر ما كانت تتوقعه، فتبرق عينيها بذهول تصلب له جسدها، عن اي رد فعل
مما اثار التسلية داخل الاخر، ليبادرها معاتبًا:
– ايه يا خالتي مالك؟ شوفتي عفريت؟ ولا نسيتي وش ابراهيم ابن اختك، معلوووم…… عندك حق ما انتي بقالك شهور ما طليتي عليا ولا شوفتيني، حتى بعد ربنا ما كشف الحقيقة وظهرت برائتي، برضو مهنش عليكي تواجهيني ولا تحطي عينك في عيني ، وتقولي معلش يا ابن اختي .
هي في الاصل لا تعرف التصرف في اتفه الامور، فما بالها في موقف كهذا، وهذا الماكر يعاتبها، بل ويرمي عليها ذنب ما حدث.
تلجلجت بارتباك لتلطف بحماقتها كي ترضيه، بكلمات غير مترابطة:
– ابراهيم ابن اختي…. الف مبروك يا حبيبي خرجت من السجن ، عامل ايه دلوقتي؟
تبسم بمكر ساخرًا يقول::
– طب بذمتك ينفع السؤال على باب البيت، ولا انتي كمان عومتي على عوم شهد بنت جوزك زي بناتك وهتقطعي رجلي من بيتك؟ قوليها يا خالتي ، ما هو دا كان غرضها من زمان، ما كانش العشم.
تحركت على الفور تنزاح بجسدها من امامه، تردد بترحيب لا يخلو من تردد:
– اا اتفضل اتفضل، اصل انا افتكرتك وراك مشوار يعني، ولا مش هتقبل تخش البيت بعد اللي حصل.
تقدم يدلف ويسبقها نحو الجلوس وكأنه مالك للمنزل، يواصل عتابه ولومه:
– ما انا فعلا حقي ما ادخلش بعد البهدلة اللي شوفتها على ايد بناتك، ودا طبعا بأوس من وش المصايب شهد اللي بتكرهني كره العمى، بقى انتي تصدقي فيا يا خالتي اقتل عمي ناصر؟ انا، انااا
سهمت بنظرها نحوه، لا هي بقادرة على تصديقه ولا هي تملك الجرأة على تكذيبه، هذه هي نرجس دائما ما تنتظر رد فعل الآخرين لتنساق خلف الجهة الغالبة وتنساق معها ، لا تحدد ولا تقرر من نفسها ابدا.
– ااا انا مليش دعوة بيهم يا بني، كذا مرة اقولها، ابراهيم مصدقش عليه يعمل كدة، معقول ابن اختي يقتل راجلي ولا ييتملي عيالي ، مش معقول طبعا، ولا ايه يا ابراهيم؟
كانت تتحدث ببلاهة ولكنها اصابت الهدف، حتى طغى عليه ارتباك خفيف استطاع السيطرة عليه سريعًا ليحاول ابتلاع ريقه الذي جف بكلماتها:
طب انا كنت عايز اشرب يا خالتي عشان عطشت، ولا كمان اتحرم عليا اتعامل حتى معاملة الضيف العادي.
انتفضت تبرر وكأنها مخطئة بالفعل:
– لا يا ابني طبعا، انا هروح اعملك كوباية عصير مانجة بسرعة ورجعالك.
صمت ينتظرها حتى ذهبت الى مطبخها لتعد له كأس العصير، فدارت عيناه في المنزل الذي كان يحتله قبل ذلك، يفرض الشروط ويملي الأوامر وكأنه مالكه، قبل ان تغلبه هذه الملعونة شهد وتقلب الأخرى عليه، امنية .
عند خاطره الاخير تذكر غرضه من الزيارة، ليعود ببصره نحو الهاتف الملقي على احد الارائك بإهمال، فتحرك سريعًا يتناوله ثم بحث داخله حتى وجد اسمها، ليضغط مهاتفًا لها، فجاء ردها سريعًا بالطبع:
– الوو يا ماما، عاملة ايه؟
ظل صامتًا ليستمع باقي استرسالها:
– الوو يا ماما…. انتي اتصلتي وروحتي فين؟
– مامااا ، انتي فين؟ …… يووووه بقى، انا هقفل على ما تتصلي تاني وتنتبهيلي، عايزة اروح اخلص اللي في ايدي عشان الحق اجهز نفسي قبل عصام ما يرجع من الشغل واروح معاه نتعشى عند عيلته، يلا بقى سلام.
انهت المكالمة بعدما اخذ هو غرضه بسهولة ، ليترك الهاتف محله، ثم يعود الى المقعد الذي جلس عليه سابقا، تعتلي ملامحه ابتسامة خبيثة، فيبدو ان الايام القادمة سوف تحمل له المزيد من المرح دون توقف، وقد عثر اخيرا على مدخله اليها…. عبر والدتها الساذجة.
❈-❈-❈
ركضت سريعًا كي تلحق بها في الممر الطويل قبل ان تخرج من البوابة الرئيسية للعمال، وتذهب الى منزلها وتغادر، لتجذبها من ذراعها وتوقفها قائلة برجاء:
– هتمشي وانتي لسة زعلانة مني؟
حاولت صباح نفض ذراعها منها لتنهرها بغضب:
– سيبي دراعي يا بهجة.
زادت من تشبثها لتسحبها معها الى زاوية بعيدة عن الممر ، تردف بتوسل:
– ابوس ايدك يا ريسة، اوعاكي تزعلي مني ولا انزل في نظرك ،دا انتي اللي عارفة كويس بظروفي .
اخرجت المرأة تنهيدة مطولة ، لتتكتف لها بذراعيها وقد رق قلبها لها، ولكنها مازالت حتى الان غاضبة:
– من حبي فيكي لازم ازعل يا بهجة، ازعل واغضب كمان، دا انتي زي بنتي يا بت، ومفيش واحدة ترضى دا لبنتها.
تبسمت بهجة تأثرًا بقولها لتلقي بنفسها داخل حضنها، وكأنها ملجأ الأمان لها:
– وانا عارفة ومتأكدة يا ريسة، وعشان كدة السر دا مقولتهوش لغيرك ولصاحبتي المحامية.
– صاحبتك المحامية؟
رددت بها صباح ساخرة، وعقلها مازال حتى الاَن لا يستوعب زواج بهجة من رئيسها وصاحب المصنع الذي تعمل به، هذا الشاب الجامد المتجهم والذي لا يبتسم إلا نادرًا،
كيف هي قبلت؟ وكيف هو تخلى عن كبرياءه وعنجهيته لينظر لواحدة مثل بهجة حتى لو كانت جميلة وتستحق من هو افضل منه، وزواج في النور، ولكنها تعلم بطبيعته، واصله الارستقراطي المستفز في التمسك بالعادات المتوارثة عبر اجيالهم، حتى لو كان زواج بالسر ، هذا الرجل يحمل شيئًا ما بداخله نحو بهجة، ولن تصدق ابدا ما ذكرته لها عن رغبة وكلام اهبل،
نعم فهذه الخارقاء تظن انها مدة وتنتهي، ولا تعلم بأنها سقطت في الفخ .
زفرت بضيق وقد ملت من التفكير، لتتضرع بقلب الام:
– ربنا يسترها معاكي يا بهجة، ويبعد عنك اي شر ، ويحميكي من اذى اقرب الناس ليكي لو الموضوع اتعرف .
فهمت على قصدها لتعقب مستفهمة:
– وهما ليهم ايه عندي تاني؟ انا كدة كدة مقررة ما اعيدهاش ولا اكرر الجواز من اي حد تاني بعد ما تنتهي مدتي مع رياض.
– تاني مدة يا بهجة؟
رددت بها صباح بابتسامة ساخرة ، لتلتف مقررة الذهاب:
انتي مش خلاص خدتي غرضك مني، ابعدي يلا يا شاطرة خليني اروح والحق اتوبيس الشغل ، مروحة معايا انتي كمان ولا ايه ظروفك؟
– لا انا رايحة لمدام نجوان.
قالتها بهجة لتقابلها الاخرى بنظرة حادة، جعلتها تبرر على الفور بعفويتها:
– مسافر والله ، مش موجود اساسا في البلد.
التوى ثغر صباح بابتسامة غيظ مرددة:
– وانا مسألتكيش عنه يا هبلة.
❈-❈-❈
في مدينة الملاهي، وبعد قضاءهما معظم الوقت بها، خاض معها معظم الالعاب، حتى تلك الخطرة والتي تتطلب الشجاعة، اضطر ان يجاري اندفاعها ويخوض التجربة معها،
غرفة الرعب وتلك الاشياء المرعبة كانت تضحكها هي عكسه هو الذي كان يجاهد الثبات بصعوبة حتى لا يظهر خوفه الطبيعي كباقي البشر،
لينتهي بهما الوقت الاَن امام كشك المثلجات ليشاركها التناول معها،
عدة ايام مرت وكأنها الخيال، نال فيهم الفرح والسعادة حتى نسى بهم كل شقاء السنوات،
– هتاخد واحد ايس كريم زيي يا شادي، مش هتنكسف؟
قالتها بمشاكسة لا تكف ابدا عنها في حضوره، ليجاريها بقوله:
– قصدك يعني عشان انا مدير فندق ومحترم، فمنظري هيبقى مش لطيف قدام الناس اللي تعرفني من رواد الفندق او الموظفين صح؟
اومأت بهز رأسها، ليردف هو بالعد على اصابعه:
– يااا شيخة، يعني هي جات ع الايس كريم، بعد ما لبستيني القميص المشجر، وصورتيني بالشورت ع البحر وانا مطلع لساني، لا والتاني اللي مركبالي فيها الودان دي بتاعة الارنب، انتي خليتي فيها مدير يا صبا!
اصبحت تقهقه بالضحكات غير قادرة على التوقف، ليلطمها بخفة على جبهتها مرددًا بحزم:
– خلاص بقى اتلمي، فرجتي علينا الناس، ادي عيب اللي ياخدك معاه في مشوار تاني يا صبا .
تخصرت تقارعه بتحدي:
– والله، دا على اساس انك جاي تجضي شهر العسل لوحدك، انا رجلي على رجلك يا شادي، سواء هنا، سواء هناك، او في اي حتة، على جلبك يا شادي والله ما هسيبك .
تقولها بلهفة تجعل قلبه يتراقص داخل صدره، ليته يمتلك الجرأة مثلها تلك المجنونة، لكان احتضنها الاَن وكسر اضلعها بشوقه، حتى لا يكف عن تقبيل هذا الثغر الذي نطق بتلك الكلمات .
ولكن للأسف، هو مازال حتى الاَن يحتفظ بجزء من عقله، وقد طار معظمه خلفها،
صبا القلب، هي روحه التي وجدها اخيرا.
❈-❈-❈
امام المراَة كانت تصفف لها شعرها، فتخاطبها بغزل ، وقد لاحظت شرودها منذ ان حضرت:
– ايه رأيك بقى في التسريحة الحلوة دي، مع انك صراحة مش محتاجة.
تبسمت لها نجوان هذه المرة ، توميء رأسها برضى، لتفاجأها بتناول الفرشاة ، ثم تشير لها بالجلوس امامها، فهمت بهجة لمقصدها لتعترض ضاحكة :
– لا مش معقول ، انتي قصدك تسرحيلي شعري انا؟ مينفعش.
نهضت تفاجأها لتدفعها للجلوس محلها، فلم تملك بهجة امام اصرارها سوى الإذعان والطاعة، فتنزع عنها طرحتها، ثم تطلق الشعر الطويل ، لتمرر نجوان فرشاتها فتتخلل الخصلات بنعومة، من الاعلي للإسفل، وكأنها تستمتع بذلك، تعدل مجموعة في الامام على الجهتين، تظهر جمال الوجه البهي، فتشرد بطلتها حتى ظنتها بهجة ذهبت لذلك العالم الأخر في عقلها،
لتفاجأها بقولها:
– انتي حلوة .
ضحكت بهجة بعد حالة القلق الذي سيطرت عليها منذ لحظات، لتردد خلفها :
– تاني حلوة، نفسي افهم غرضك ايه من المعلومة دي؟
قالتها وهي لا تنتظر اجابة، كمعظم الحديث معها، ولكن ما حدث من الاخرى اجفلها، حينما دنت فجأة، تهمس بأذنها على حين غرة.
– قصدي انه مش هيسيبك.
توسعت عينيها بذهول، لا تستوعب ما وصل لاذهانها منها، حتى وقفت تسألها:
– هو انتي بتتكلمي زينا، ومين دا اللي مش هيسيبني؟
وكأنها كانت تسأل نفسها ، عادت البراءة تلون وجه الاخرى، لتتلاعب بالقصة الجديدة لشعرها، بعدم انتباه لها، حتى ظنت بهجة انها توهمت:
– يا مدام انا بكلمك، ما هو مش معقول يكون دا بيتهيألي…… ردي ابوس ايدك عايزة اعرف مين المقصود…..
دوى صوت الهاتف فجأة، باتصال دولي بإسمه، لتجد منها ابتسامة غير مفهومة، ثم تحركت نحو العابها وهذا اللوح الإلكتروني، تشغل نفسها به، مما استفز بهجة لتتحرك تاركة لها الغرفة، ثم تضغط على الشاشة وتجيبه:
– الووو.
– الوو يا بهجة عاملة ايه؟
اجابته بتشتت:
– كويسة والحمد لله، انت اللي عامل ايه دلوقتي؟
وصلها الصوت الرخيم يزلزل كيانها:
– انا كويس دلوقتي يا بهجة من بعد ما سمعت صوتك، مش هما ساعات بس اللي مروا عليا في بعدي عن البلد وعنك؟ لكن انا بقولك اهو، وحشتيني يا بهجة، وحشتيني اوي.
ما هذا الذي يحدث معها، جرعة من الغزل تسبقها جرعة من الجنون، كيف توفق بين الاثنين؟
– الوو يا بهجة انتي روحتي فين مني؟
تنهدت تستعيد توازنها، لتستجيب باقتضاب قائلة:
– وانت كمان.
وصلها رده بمكر:
– انا كمان ايه يا بهجة؟ وضحي.
ضغطت تغلب خجلها، حتى تستريح من الحاحه:
– وانت كمان وحشتني.
صمت ولم يجيبها على الفور ، ولكن وصلها صوت انفاسه، ليردف بعد ذلك:.
– الله ، اهو انا دلوقتي مش عايز اي حاجة بعدها، اصبر نفسي بيها على ما ارجعلك يا بهجة، ياريت كان في طيران دلوقتي، مكنتش فضلت دقيقة تاني بعدها.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
ذاك الواجب الثقيل المُلزم به، تلك المسؤلية التي تطوق عُنقك ، ولا تجد منها مناصًا ولا يصح منها الهرب، فهو ماضيك وان تنصلت منه، تخليت عن ذاتك.
هذا هو ما كان يشعر به الاَن، وهو يقف خلف السور السلكي، يراقب ذلك الصغير وهو يركض بالكورة مع عدد من فريقه، كي يلحق ويسجل بها هدفا ضد فريق الخصم، لقد كبر عن اخر مرة قد رأه بها منذ سنة تقريبًا، يتكفل برعايته ويرسل المال شهريا ومع ذلك لا يعرفه عن نفسه ولا يتصل به اتصالاً مباشرًا، وكيف يفعل؟ ومن اين يجد العزيمة لمواجهة الاثر المتبقي من الماضي الأليم.
– كنت عارفة انك هتيجي المرة دي. ما هو مش معقول يعني تقضي في البلد يومين ومتشوفش اخوك.
ضغط على عينيه بغضب خانق، يكبت سعيرًا من نيران تسري بداخله؛ بعد سماع صوتها الذي دوى في اسماعه كفحيح الأفعى ، وتذكيره بالحقيقة التي يود ان يطمسها من تاريخة، ولكنه يعجز عن ذلك.
التف اليها بعد مدة من الوقت، ليُقابل بهذه الابتسامه الساخرة، متوقعة ان تجد منه الانبهار، بملامح الوجه التي زادت عليها بعدد من التعديلات كنفخ الشفاه وبعض الاجزاء من بشرتها، كي تزيد من انوثتها وفتنتها، وكل هذا طبعا من مال ابيه الذي يرسله من اجل شقيقه، وهي كالعادة تبدده بإسرافها،
ليرد على سخريتها بمقت:
– انا فعلا جاي اشوف اخويا، واشوف بالمرة الفلوس، بتوصله، ولا بتروح على عيادات التجميل الخاصة بوالدته.
عبست ملامحها بإجفال لتلميحه السخيف في نظرها، لترد بحدة؛
– وافرض بيروح جزء منها على عمليات التجميل لوالدته، ما هو انا ليا حق برضو، مش كفاية اني قابلة على نفسي ان اكون منفيه عن بلدي واتلقي صدقتك ليا ولاخوك كل شهر.
رد يفحمها بفظاظته:
– بلاش ترسمي دور الضحية، عشان النفي دا كان اختيارك من الاول يا ناريمان، انتي فضلتي تبعدي، وتخدعي الناس بأنك موتي عشان غضب عيلتك، تعيشي هنا في احلى مستوى بالحرية اللي انتي عايزاها بفلوس بتجيلك كل شهر من غير تعب……..
زفر انفاس خشنة اطلقت دخانا من انفه بتهديد خفي هي فقط من تعلمه:
– حاولي تحافظي كويس على اَدم وتاخدي بالك منه، عشان دا الخيط الوحيد اللي مخليني صابر على كل أخطاءك، لو طاله أي اذى حتى لو كان نفسي، انا مش هرحمك، والحنفية اللي مفتوحالك مش هتطولي منها مليم واحد بعد كدة.
– انا مسمحلكش يا رياض، لأني لا بغلط ولا بعمل اي حاجة تضر ابني، ولا انت عايز تلاقيلي أي حجة وخلاص؟
هتفت بها مدافعة، ليقابلها مرددًا باستهزاء:
– لا انا مش عايز اخدها حجة لاني مش هحتاج اساسًا وقت ما احب انفذ اللي في دماغي، انا بتكلم ع الغراميات، مع ناس موظفين وطلاب جامعة….. طب حتى اعملي حساب انك كنت متجوزة واحد من نسل الباشوات، ازاي الواحدة ترخص من نفسها كدة؟
لقد صفعها بفظاظته، حتى شعرت وكأنه مطرقه اهتزت لها رأسها، تبًا له من قاسي لا يعرف الرحمة بنقده ولا بتقدير وضعها كامرأة وحيدة، ولكنها ليست بالهينة حتى تصمت على اهانته:
– يعني انت جاي تحاسبني عن علاقه انتهت من ٦ اشهر مع مدير البنك اللي كان هيموت ويتجوزني لولا انا مرضيتش عشان خاطر ابني،
اما بقى عن طالب الجامعة، فدا مسكين ابن جارتي ، اعمله ايه؟ بيحبني وبيموت فيا رغم فرق السن، انا طبعا مدتلوش ريق حلو، لكنه بيطادرني في كل حتة ومبيزهقش، مش ذنبي اني جميلة يا رياض، جميلة وصغيرة كمان، انا مفرقش عنك غير سنة واحدة لو تفتكر، يعني في عز شبابي.
عندما ظل على جموده يحدقها بصمت، تابعت هي كي تؤثر في عاطفته:
– انا يمكن بيضيع كل فلوسي في اللبس والمظهر، عشان اعوض حرماني من اهلي وبلدي، ولا دي كمان هتعتبرها تمثيل؟
عقب ببساطة ينزع عنها هذا الغطاء الذي تحتمي به:
– محدش ضربك على ايدك يا حبيبتي، من النهاردة اطلعلك باسبور وترجعي ع البلد دا لو عندك الشجاعة.
ردت بابتسامة تتصنعها لتعقب بصفاقة ليست بغريبة عنها:
– وماله يا قلبي، اخد حبة الشجاعة وارجع اواجه اهلي، وبالمرة كمان اعرف نجوان هانم ان ليها ريحة من المرحوم…… اااه.
صرخت بالاَخيرة حينما باغتها بالقبض على رقبتها ، يضغط عليها بقوة، وعيناه اصبحت كتلة ملتهبة من الجحيم:
– حاولي تكرري تهديدك تاني يا ناريمان، وانا هخليكي تحصلي اللي راح.
حرباء متلونة، حتى وهي في اقصى لحظات ضعفها، وروحها بيده، تبسمت رغم الالم الذي يحيط برقبتها:
– لو تقدر اعملها يا رياض، هبقى مبسوطة اوي انى اموت على ايدك.
– انتي ايه؟ شيطانة، اموتك بجد عشان اريح البشرية منك؟
mama-
صدر النداء ليدق ناقوس الخطر برأسه، لينزع قبضته عنها بعنف والتف نحو الفتى الصغير ذو السبع سنوات، والذي توقف عن اللعب ليقف مواجهًا له، يفصل بينهم السور السلكي، بنظرة سريعة قطعها على الفور ليحرك اقدامه ويغادر هذا المكان برمته.
حاملا فوق ظهره هذا الهم الثقيل، بفضل هذه المرأة التي كانت السبب في ان يخسر والديه، وقبلهم نفسه.
❈-❈-❈
أسفل الشجرة التي اصبحت مكان التقائهم في وقت الاستراحة، حضرت صباح تحمل بيديها عدد من الشطائر المعدة بمنزلها لانها تفضل ذلك، مع كوبين من الشاي أتت بهم من كافتيريا المصنع، لتشاركها هذه الجالسة بشرود بهم .
تهتف نحوها بصوت واضح كي تلفت انتباهها:
– الشاي، الشاي والسندوتشات يا منيلة روحتي فين؟
استجابت لها بهجة بابتسامة تتناول الكوبين الساخنين. منها كي تضعهم على المقعد بينهما، وتجلس الأخرى وتضع الشطائر بجانبهم، تدعوها بأمر لا يخلو من مزاح:
– كلي معايا يا بت والهي نفسك بحاجة بدل الفكر اللي خلاكي خسيتي في يومين بس .
شهقة أجفال مكتومة برقت بها عينيها نحوها، لتتحول الى خجل شديد، زحفت على اثره السخونة لوجنتيها، فتدرجت بهم الحمرة ، بعدما فهمت على قصدها، لتنهاها بارتباك:
– ايه اللي بتقوليه دا يا ريسة، مش خايفة حد ياخد باله من البنات .
ضحكت لتضع الشطيرة بحجرها مرددة:
– لا يا ختي مش خايفة، انتي اللي شكلك متاخدة، وواضح اوي.
– يالهوي انتي بتتكلمي جد هو انا باين على شكلي اوي كدة؟
تمتمت بها بهجة برعب تنقل ابصارها نحو البشر المارة من حولهم، لتشفق عليها، رغم شعورها بالتسلية، فتعلق بمشاكسة:
– باين ايه يا بت؟ هو حد يعرف حاجة، كلي كلي دا انتي جبانة اوي واي حاجة بتصدقيها.
اذعنت لتقضم من الشطيرة قطعة صغيرة مغمغمة:
– الله يجازيكي يا ريسة بتتمألسي عليا عشان متوترة حبتين .
تأثرت صباح رغم غضبها المكبوت من الطريقة، ولكنها لا تقوى على التنصل من مسؤوليتها نحوها:
– تتوتري ليه يا ختي وانا جنبك؟ اي حاجة نفسك تسألي فيا، او اي مساعدة انا موجودة، ها، هيوصل النهاردة من السفر؟
اومأت بهز من رأسها وصوت بالكاد يخرج منها:
– محددش الساعة كام بالظبط، بس قالي جهزي نفسك واستعدي النهاردة ليلتنا.
– دا جريء اوي.
غمغمت بها صباح بدهشة تتعدى الذهول، لا تتخيل ان ابن الحكيم يخرج منه هذا الحديث، ولكن لما العجب، فهو بالنهاية رجل وهي امرأة فاتنة حتى لو بشيء قليل من الاهتمام، فما بالها لو تزينت واخذت حقها من الدلال، ولكنها بريئة بشدة وهذا ما يثير خوفها،
لذلك سارعت في طمأنتها:
– ارفعي راسك يا بهجة وبصيلي، انتي النهاردة هتبقي مسؤليتي.
❈-❈-❈
حينما عادت معها الى داخل المبنى، كانت المفاجأة من نصيبها، وهي تراه امامها يلج من الناحية الأخرى للمبنى، ترافقه اصوات العاملين بالتحية، والتهنئة بعودته من السفر، فكان يأتي رده اليهم باقتضاب كعادته وهو يواصل طريقه، فتلتقي ابصارها بخاصتيه، في انسجام بصري دام للحظات، حتى اكتنفها احساس انه على وشك القدوم نحوها وخطفها بين ذراعيه.
بالطبع كان هذيان صنعه عقلها ، بدليل قطعه لهذا الحبل الوهمي، ليتوقف امام مصعده، فتنهدت هي بيأس، ذاهبة لمصعدها، المصعد الخاص بالموظفين زملائها، فتذكر الفرق بينها وبينه وتعود لعقلها،
غافلة عن ابصاره التي تعلقت بها من الخلف، حتى اختفت داخل المصعد وصعد بها، اما عنه، فقد كان في حالة من الشوق، تكاد ان تفضحه،
منذ متى تخللت هذه الفتاة روحه وجعلته متعلقا بها بهذه الصورة؟ كيف استطاعت ببرائتها اختراق القلب الجليدي بعد سنوات من تركه متجمدًا ، حتى عادت هي تبث الروح به وتعيده للحياة، حينما يراها يفقد اتزانه ويفقد السيطرة على مشاعره، يومان مروا وهي بعيدة عنه، يتواصل معها عبر الهاتف كلما غلبه الشوق اليها كما يحدث الاَن وقد زاد لأضعاف برؤيتها، قد يتوقف قلبه ان لم يعانقها الاَن وفورا
حينما وصل لطابقه، كانت هي قد سبقته في الخروج من مصعدها متجهة الى الناحية الأخرى في عملها، ليحرك اقدامه سريعًا نحو مكتبه، فتقابله بالطبع لورا التي وقفت على الفور تستقبله بلهفة واضحة:
– رياض بيه حمد الله ع السلامة، امتى وصلت؟
بادلها الرد بابتسامة يتصنعها واقدامه تعرف طريقها نحو غرفة مكتبه، لتلحق به هي ايضا:
– الله يسلمك يا لورا، انا نازل حالا من المطار، يدوب غيرت هدومي وجيت هنا على طول، اخبار الشغل ايه؟
كان في الاخيرة قد جلس على كرسيه خلف المكتب، فجاء ردها اليه بحماس:
– كله تمام وبيرفكت، كارم بيه بيجي يطل يخلص المطلوب وانا اكمل الباقي بمعرفتي.
برغم ارتياحه لقولها الا انه كان يجاهد بصعوبة للرد باتزان فعقله المتشتت لا يرى شيئا الاَن غيرها:
– عال عال، انا كنت متأكد اني سايب ورايا اللي يسد، ان كان كارم، ولا انتي يا لورا، كل يوم بكتشف قد ايه تستاهلي ثقتي فيكي.
سمعت منه لتغمر الفرحة قلبها، هذا الفظ حينما يرفق عليها بأقل كلمة ثناء يقلب كيانها بالفعل، فما بالها لو حدث ما تتمناه وتحول للغزل؟
– تحب حضرتك اجيبلك حاجة تشربها، ولا اخليك تطلع على جدول بكل اللي تم وانجزناه في غيابك؟ انا من رأي ترتاح شوية الاول احسن.
سألته بحماس اشتعل برأسها كي تثبت جدارتها اكثر وتنال مزيدا من الاستحسان، ولكنه صدمها بقوله:
– لا يا لورا اجلي كل حاجة دلوقتي وابعتي لبهجة خليها تحضر حالا.
رفرفت اهدابها تستوعب ما التقطته اسماعها، هل هو بالفعل قد اتى بسيرة هذه الفتاة الان؟
– بهجة! بهجة مين حضرتك؟ احنا بنتكلم ع الشغل.
اعتدل بظهره لخلف الكرسي يجيبها بثبات وتحدي:
– وانا بتكلم عن بهجة عايز اطمن منها ع الاهم، وانتي فاهمة طبعا .
افحمها بالرد لتغلق فمها عن الجدال، بعدما اوصل لها انه يريد الاطمئنان على والدته اولا من هذه الملعونة المرافقة لها، لتذعن راضخة لأمره، ثم تخرج الى مكتبها وتطلبها بصفة رسمية.
أتت بهجة بعد لحظات على اثر استدعائها، تهديها ابتسامة صفراء قائلة:
– بلغني ان المدير باعتلي يا أنسة لورا.
اومات تشير بكفها نحو مدخل الغرفة بعنجهية وتعالي دون ان تكلف نفسها عناء الرد، فتحركت بهجة نحو ما اشارت لها، تكتم سبة بذيئة، لتطرق بخفة على الباب المثقل فأتى قوله امرًا على الفور:
– ادخل.
سمعت منه، لتدفع الباب وتدلف الى داخل الحجرة الضخمة، فتواجهت معه مباشرة وقد كان واقفا بجوار النافذة، تخاطبه برسمية:
-افندم حضرتك عايزني في حاجة؟ حمد ع السلامة الاول.
اومأ برأسه واقدامه تتحرك بتأني نحوها،
– الله يسلمك يا بهجة، انا فعلا عايزك، عايزك اوي.
قال الاخيرة وقبل ان تستوعب وجدت ذراعيه التفت نحوها فجأة بضمة هي الاقوى، يقبلها بشوق جارف، حتى انها تخشبت في البداية بين يديه لا تعي بما يفعل، لكن سرعان ما استعادت وعيها لتحاول دفعه عنها، ولكنه كان كالمغيب، يرتشف من شهد ثغرها وكأنها قبلة الحياة، تنعش قلبه ليضخ الدماء مرة اخرى، حتى صار كالمغيب، غافلا عن مقاومتها حيث كانت تضرب بكلتا كفيها ليحل وثاقه عنها، ويتركها تلتقط انفاسها،
حتى اذا ارتخت ذراعيه قليلًا نزعت نفسها منه، ودفعته عنها فجأة لتبتعد بمسافة كافية للأمان، فتمُلك اخراج صوتها اخيرا بالاعتراض، رغم عدم انتظام انفاسها بعد:
– انت ازاي تعمل كدة؟…. وفي المكتب!
تقدم خطوة تراجعت قبالها خطوتين للخلف، حتى صدر رده لها بضيق:
– وفيها ايه يا بهجة هو انا غريب عنك؟ ولا انتي نسيتي صفتك ايه بالنسبالي؟
– لأ منسيتش، بس برضو ميصحش.
تمتمت بها سريعًا لتعدل من هيئتها تردف بنبرة ضعيفة اظهرت حزنها رغم اعتزاز شخصيتها:
– الأمر بالنسبالك ممكن تاخده عادي، بس انا مينفعش ومقبلش، انا مراتك على سنة الله ورسوله، مش واحدة…
قاطعها على الفور بصرامة مردفًا:
– بس متكمليش .
هذه المرة كان الاسبق ليلتقطها سريعًا من ذراعها ويقربها منه قائلا بنبرة يتخللها الصدق:
– انتي أغلى واحدة على قلبي يا بهجة، وانا كنت مشتاقلك اوي ومازلت…. مسافر عنك بقالي تلت ليالي ويومين كنتى عايزاني استقبلك ازاي اول ما اشوفك؟.
خجلت لتطرق برأسها ، ولكنه أبى إلا ان يخاطب زمردتيها، ليرفع وجهها اليه من ذقنها قائلا:
– بتخبي عيونك عني ليه؟ انا بسألك تجاوبيني، ولا انا موحشتكيش زي ما وحشتيني؟
تاهت الفتاة بعدما اسرها بمعسول كلماته، وكأنه يلقي عليها تعويذة من السحر، يخطفها من عالمها الى شيء اخر بعيدًا عنها، ذلك العالم الجميل الخفي، محدود العدد عليها وعليه فقط، فيعود اليها مُلحًا بالسؤال:
– عايز اسمعها منك يا بهجة، وحشتك زي ما وحشتيني ولا لأ؟.
بماذا تخبره؟ وهي يكتنفها العجز في حضرته، تريد التعبير عما يعتربها بقوة ولكنها دائما ما تصطدم بهذه الحقيقية المؤلمة، الغرض الأساسي من زواجهم،
اذا لماذا هو يتطرف بعيدا عن هذا الاتفاق، ويضعها في هذه المتاهة؟
– لدرجادي السؤال صعب يا بهجة؟
اعادها اليه بصوته الرخيم وانامله تمر بنعومة على وجنتيها تفقدها المقاومة وتزيد من تشتتها، لتزيح كفيه عنها قائلة بتعب:
– رياض باشا معلش اعذرني….. المشاعر دي غريبة، والظرف نفسه بتاع الجوازة يخليني….
– مستغرباها؟
اومأت بهز رأسها:
– اه بصراحة، لأن انت من الاول محدد الغرض من الجوازة.
صمت قليلًا ثم اجابها بهدوء وهو يجلس على ذراع المقعد ليُقابلها بعدما اجلسها على طرف المكتب:
– وافرضي هو كدة زي ما بتقولي، هو دا يمنع اننا نشتاق لبعض ونقول كلام حلو كمان؟
– لحد ما تنتهي الرغبة.
قالتها كإضافة على قوله، لم يعلق عليها، بل ظل صامتًا لتردف هي:
– وبعد ما يعدي الشهر او الشهرين، نفترق وكأن ما في شيء كان، صح؟
مال بجذعه نحوها سائلًا:
– ومين اللي قال شهر ولا شهرين؟ كتبناها شرط في كتب الكتاب مثلا؟
صارت تطالعه بازبهلال قابله هو بابتسامة متابعًا:
– بلاش نحط ارقام والحاجات دي يا بهجة، سيبي الأمور تمشي.
– لحد ما تنتهي الرغبة.
عادت بها وكأنها تذكره بها وتذكر نفسها، لتلوح ابتسامة متسلية على طرف فمه دون ان يعلق.
فتستعيد هي بأسها وتحاول النهوض للانصراف:
– انا بقول كفاية كدة عشان اشوف شغلي ولا انت عايزني في حاجة تاني؟
نهض هو الاخر وقبل ان تتحرك بخطوة كان هو الاسبق، ليهمس بجوار اذنها:
– اعملي حسابك هتخرجي من الشغل على بيتنا على طول، عم علي هيستناكي وياخدك ، وهناك هتفهمي كل حاجة .
بحرج صارت تسيطر عليه بصعوبة:
– ومدام نجوان؟ ما هي ممكن تسأل عن سبب غيابي.
اقترب منها قائلا بصوت يذيب الحجر:
– متشيليش همها انا هلاقيلها حجة كويسة، المهم زي ما قولتلك.
وقبل ان تجادل مرة اخرى، اجفلهما فتح الباب ، وصوت كارم يدوي:
– انا جيت على طول اول ما قالولي انك رجعت من السفر و……
قطع الكلمات على طرف لسانه وكأنه ظبطه بجرم ما رغم عدم وجود ما يبرهن ذلك، لكن درجة القرب بين الاثنان هي ما جعلته يتوقف، ولعلمه التام بشخص رياض المتحفظ، والذي امتقعت ملامحه، ليطالعه بغضب مكتوم يأمرها:
– خلاص روحي انتي يا بهجة واعملي زي ما قولتلك .
تحركت على الفور تتوجه نحو باب الخروج امام ابصار كارم والذي رافقها بعيناه حتى غادرت، غير منتبهًا لذلك الذي كان يعض على نواجزه غيظًا وتعقد حاجبيه بغضب يجاهد لإخفاءه، حتى انتظره ليقترب معانقًا له عناقًا رجولي، تقبله بشيء من عنف لم يخفى على ذاك الداهية، ليتبسم ويلاطفه بمكر :
– براحة يا عم، هو انت لدرجادي مشتاقلي؟
ابتسامة صفراء ارتسمت على ثغره في رد له:
– الظاهر كدة فعلا، بس انت مقولتليش انك في المصنع كنت جيتلك بنفسي اسلم عليك؟
جلجلت ضحكة صاخبة من كارم وهو يجلس مقابلا له :
– ما انا لسة واصل يا عمنا، وعلمت بس لما وصلت، اندفعت افتح الباب من لهفتي عشان اسلم عليك، حتى ما استنتش استأذن لورا، شكلك وحشتني بجد يا صاحبي.
رد في محاولة لمجاراته:
– وانت كمان يا كارم، عرفت من لورا انك مكنتش مقصر، انا بجد بشكرك.
– لا مفيش داعي للشكر يا سيدي، احنا شركا، يعني دا شيء عادي ما بينا.
غمغم بها كارم، ثم عض على شفته السفلى مردفًا بفضول ماكر:
– بس دي اول مرة اشوف حد من الموظفين عندك.
كان متوقعًا سؤاله، ورغم غضبه الشديد، الا انه استطاع السيطرة عليه، ليجيب بنبرة جعلها عادية:
– لا دي بهجة مش موظفة عادية، كنت بسألها عن ماما.
– بتسأل على مامتك ليه؟….. ايه ده؟ لتكون دي جليستها الجديدة اللي قولت انها من عمال المصنع.
اومأ بضجر ، يكتنفه الندم الشديد لذكر هذا الامر
امام شخص مثل كارم، والذي واصل بابتسامة رائقة:
– بس بصراحة انا استغربت، البنت شكلها ميدلش خالص انها بتشتغل، حلوة اوي زيادة عن اللزوم بالنسبة لواحدة في ظروفها.
– متتكلمش عنها كدة يا كارم احترم نفسك.
صدرت منه بصيحة بضربة قوية بكف يده على سطح المكتب اجفلت الاخر، لكن سرعان ما اثارت ابتسامة متسلية داخله ، ليخفف بمزاح:
– ايه يا باشا انا مغلطتش، انا بس بقول رأيي .
– متقولش يا كارم، عشان انا مبقبلش بالكلام ده خالص، لا عليها ولا على غيرها.
صدرت منه بحدة جعلت الأخر يصمت على الفور، وبداخله يجزم ان هذه الفتاة لها مكانة خاصة لدى هذا المتحفظ الغامض، اخيرا قد وجد له صلة ما بصنف النساء، لقد كاد ان يراوده الشك في هذا الأمر.
❈-❈-❈
بنسخة يملكها، وضع المفتاح في مغلق الباب الخارجي، ليدفعه بعد ذلك بعدما تمكن من فتحه، ثم يلج داخل الشقة التي هلت منها رائحة ما فور دخوله، ليواصل تقدمه متأففًا بضجر، وعيناه تجوب على الاثاث والوضع الكارثي الذي حل به من اهمال، حتى صار يثير الازدراء.
أعقاب سجائر منتشرة على الارض في كل مكان يدعس عليها بأقدامه أثناء سيره، عدد كبير من اكواب الشاي احتلت الطاولة امامه ، ملابس هنا وهناك.
تتبع مصدر الرائحة النتنة حتى ساقته قدميه الى المطبخ، ليصطدم بجبل الاطباق المتسخة في حوض الغسيل، وفي جانب ما على الارض، اكتظت سلة المهملات بالقمامة وبواقي الطعام الملقاة بها، حتى اختمرت وتجمعت حولها الحشرات.
لم يحتمل اكثر من ذلك ليرتد باقدامه للخلف ، ضاغطًا بإصبعيه على أعلى فتحتي منخاره مغمغمًا:
– اف، الهي يقرفك يا بن الخايبة خلفة تعر.
توجه بعد ذلك على الفور نحو غرفة النوم التي كانت مفتوحة من الاساس، ليجد ابنه كما توقع غافيًا على تخته كالأموات.
نائمًا على وجهه بالعرض بجذعه العاري يرتدي فقط البنطال البيتي، والفوضى تعم الغرفة في كل شيء،
ليهدر بصوت عالي بغرض ايقاظه:
– قوم يا زفت الطين، هتفضل نايم لحد العصر.
انتفض سمير معتدلا بجذعه على الفور، ليُفاجأ بوالده امامه متخصرا بجسده القصير البدين، وملامح مكفهرة زادت من هلعه:
– في ايه يابا؟ ايه اللي حصل؟
ردد خلفه باستهجان:
– اللي حصل؟! هو انت كمان بتسأل يا روح امك، نايم في زريبة ولا البهايم، وجاي تسألني ع اللي حصل، انت ياض انت حلوف ما بتحسش، مستني ايه عشان تعدل من حالك وتبقى راجل زي باقي الرجال؟
صار يطالعه بعدم تركيز، يستنكر وصلة الشتائم تلك من داعي، ليعقب بضجر:
– جرا ايه يابا لدا كله؟ مصحيني على وصلة تهزيق معتبرة، ليه يعني؟ مش راجل في ايه بقى؟
صرخ به بانفعال يقارب الهياج:
– انا بتكلم على مراتك يا زفت، البت على وش ولادة وانت قاعد هنا وسط البيت اللي خليته عفن بإهمالك ولا معبر، مستني ايه تاني ياض؟ لما تولد وابنها يروح المدرسة ولا نسيتها من اساسه.
ازاح بأبصاره عنه يغمغم بكلمات غير مفهومة زادت من استفزاز والده:
– بتبرطم بتقول ايه يا زفت؟ النهاردة تتصل باخوها وتشوف معاه حل، الواد عايز يعمل قيمة لاخته معاك، على الاقل خده على قد عقله لحد ما ترجع البت ولا عاجبك حالك كدة؟
لم يعلق واكتفى بالصمت فهو لا يملك النية من الأساس لإرجاعها وهذا ما يعلمه والده، ولكنه عاد يؤكد مرة اخرى:
– اللي في دماغك تنساه يا بن درية، نفذ اللي بقوله واتصل على اهل مراتك، وشقتك شوفلك حد يرتبها، على الاقل تعيش زي باقي البني أدمين.
– واشوف حد ليه يابا؟ ما مراتك وبنتك قاعدين، كلم انت واحدة منهم تشفق على ابنك الغلبان.
– الاتنين مش فاضين يا اخويا، امك راحت السوق، وأختك خرجت تزور واحدة صحبتها .
بصق كلماته وخرج من حيث ما اتي، ليعلق سمير في اثره:
– صحاب مين؟ هي سامية بتعرف تصاحب اساسًا؟
❈-❈-❈
– اتفضلي يا حبيبتي، سيدنا الشيح قدامك اهو.
قالتها المرأة وهي تدلف بها داخل الغرفة الشاسعة والتي تدخلها لاول مرة، رغم زيارتها للمنزل منذ ايام، تشير لها بيدها نحو الرجل الذي اخذ موضعه متربعًا على اريكة صغيرة تخصه وحده، يختفي وجهه اسفل شاش طويل يغطي جانبي وجهه، وقد ظهر امامها لحيته الطويلة السوداء، يمسك بيده مسبحه، يتمتم بكلمات لا تصل اليها،
تتقدم نحوه برهبة وخوف يتملكها فهذه الأجواء تثير بقلبها رعبًا رغم طمأنة حالها انه خوف وقتي وسيمر، فوالدتها مرت به قبل ذلك كثيرا واعتادت عليه في تنفيذ ما تريده،
– قدمي رجلك شوية يا سامية وتعالي يلا قولي حاجتك.
انتفض جسدها مع سماعها للصوت الأجش الذي صدر منها، لتبتلع ريقها وتخطو سريعًا حتى وصلت اليه، فجلست مكان ما اشارت لها المراَة مساعدته، لتصبح مقابله.
فتحققت من ملامح الوجه الذي يملأه الشعر دون تهذيب ، رجل اربعيني، النظرة اليه فقط تثير الرعب بقلبها، والذي ازداد اضعاف حينما رفع عينيه اليها:
– اهلا يا سامية، عايزة ايه يا بنتي؟
حُشرت الكلمات داخل جوفها، حتى اصبحت تبحث عن صوتها للحديث كي تجيبه، فهتف يطمأنها بسخرية:
– ايه يا بنتي، هو انا للدرجادي شكلي يخوف؟
تدخلت على الفور مساعدته:
– لا يا سيدنا تخوف دا ايه؟ هي بس من الرهبة، دي حتى امها كذا مرة تيجي عندك، يعني مش غريبة عننا .
– عارفها طبعًا، مش برضو امك درية؟
اهتزت رأسها عدت مرات، وقد تشجعت بذكر والدتها:
– ايوة ايوة يا شيخنا، انا بنتها بس النهاردة جيالك من غيرها عشان حاجة تخصني.
صمت يحدقها بعيناه العميقة قليلًا وكأنه فهم على المقصد من زيارتها، ليقول:
– اتفضلي يا سامية، قولي على طلبك، وانا اوعدك ان اللي عايزاه هيحصل.
شهقت بلهفة انستها الرهبة والخوف من الرجل:
– صحيح يا شيخنا، هتنفذلي صح اللي انا عايزاه؟
بوجه جدي اشتد فجاة، ليعود بها بنفس الرهبة الاولي:
– لو محتاجة أاكدلك على قدراتي، مستعد اثبتلك دلوقتي يا سامية.
حركت رأسها بعدم فهم للمغزى المقصود من خلف كلماته، فتحدثت في محاولة لتملقه كي ينفذ لها ما تريد:
– مش محتاج تثبت يا شيخنا، انا شوفت العمل اللي جاب نتيجة مع امي، دلوقتي بقى عايزة اللي يخصني انا، واللي تؤمر بيه يا شيخ انا تحت امرك .
مط طرف فمه بابتسامة غير مفهومة، يعقب على كلماتها:
– رغم اني عارف طلبك، بس برضو هسمع منك، قولي يا سامية باللي انتي عايزاه، متخليش في نفسك حاجة.
❈-❈-❈
زغروطة كبيرة صدحت في قلب المنزل من رحمة، في استقبال شقيقها وعروسه بعد العودة من رحلة العسل، في حضور زوجها ووالدتها، ووالدي العروس مسعود ابو ليلة وزوجته زبيدة التي مازالت تتشبث باحضان ابنتها وعيناها تغيم بالدموع:
– اتوحشتك جوي يا بتي، اول مرة تبعدي عني كدة يا مضروبة الدم .
علق ابو ليلة يدعي الضيق:
– شوف يا خوي شغل الحريم، دا على اساس انها كانت هتجعد العمر كله جدامك، ما معروف من زمان البت مكانها فاضي، ولا انتي اول مرة تجوزي بنته؟
– لاه مش اول مرة، بس دي اخر العنقود، واكتر واحدة جعدت معايا منهم، خدت الغلاوة كلها المضروبة.
ضحك الجميع على قولها بما فيهم شادي الذي كان ملتصقًا بوالدته هو الاخر:
– معلش يا حماتي، اهو البيت قصاد البيت، يعني مش هتلحق توحشك اصلا.
صمتت زبيدة بحزن فتكفل زوجها بالرد:
– لا ما احنا راجعين ع البلد يا غالي.
شهقت رحمة متسائلة:
– ليه يا عم ابو ليلة؟ ما انتوا قاعدين جمبنا والحال عال العال .
– خلاص بجى هنجعد ليه؟ نرجع لبلدنا نراعي الارض ونريح شوية من شغل الشقا بين العيلة والاحفاد.
صدر الاعتراض من صبا رغم علمها بالقرار مسبقًا:
– وانا هتسبوني لوحدي هنا، ما جولتلك يا بوي، ياجوا هما خواتي هنا ويسكنوا معانا، ولا هيا العيشة متنفعش غير في البلد.
زفر ابوليلة يغمغم نحوها:
– شوف البت، تفكر غير في مصلحتها، يعني يا جلعانة انجل عيلة سالمة من مطرحهم، لمكان مش متعودين عليه عشان خاطر جنابك؟ يا بت حتى ان كنتي أتجوزتي، برضوا مش عايزة غير تنفذي اللي في مخك؟
ضحك زوجها يربت على ظهرها بدعم في رد له:
– معلش يا عمي، انت قولت عليها من الاول انها دلوعة، وانت عودتها على كدة، ع العموم يا صبا انا برضو جوزك موجود وعيلته هي عيلتك ولا ايه يا ماما؟
– طبعا يا قلب امك. دي نن العين من جوا.
قالتها والدته لتعلق رحمة بسماحتها كالعادة:
– وبصراحة بقى هي من حقها، يعني ان مكانش القمر بتاعنا يدلع، من يحقله غيرها؟
جاء رد زبيدة في تعقيب على قولهم:
– ربنا يديم المودة ويبعد عنهم العين، ويريح جلبهم ويرزقم بالخلف الصالح يارب .
تمتم الجميع من خلفهم، واولهم شادي الذي اصبح يتحرق داخله لرؤية ثمرة الحب بينه وبين حبيبته.
❈-❈-❈
خرجت من الباب الخلفي للمصنع تقطع الطريق القصير حتى وجدت امامها سيارة العم علي فى انتظارها، يوميء لها بابتسامته كالعادة، بادلته هي بحرج، رغم علمها بمعرفته بالزواج، بل وكان شاهدا عليه،
ترجل باحترام يفتح لها الباب الخلفي، معلقًا لها بمزاحه:
– اتفضلي يا هانم، والله لما قولت انها تليق عليكي ما كدبت.
اومأت بحرج وابتسامة تغتصبها بصعوبة:
– ربنا يخليك يا عم علي دا من زوقك.
عاد الرجل الطيب الى مقعده ليتحرك بالسيارة، مستمرًا في الحديث معها:
– والله دا انتي اللي زوق وعسل، بقولك ايه، احنا مينفعش نمشي كدة سكيتي، تحبي اشغلك ايه بقى؟ بتحبي القديم ولا الجديد.
اومأت بهزة من كتفيها، فهي ليست بمزاج يسمح لها بالسماع من الأساس، عقلها المشوش، يدور بلا هوادة، لا تصدق بما قادمة على فعله الاَن، على الرغم من انها اصبحت زوجته رسميًا.
قابل الرجل صمتها بمزيد من المزاح، يخلق حديث من الهواء، كما أنه اشغل المزياع ليطرب اسماعها، كي يخرجها من حالة الشرود التي تعصف بها، فمر عليها الطريق بسهولة،
حتى توقف بها امام احدى صالونات التجميل الشهيرة ، والتي لطالما رأت اعلاناتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقبل ان يصدر سؤالها، اجابها بعملية:
– دي اوامر الباشا يا هانم، انزلي بقى عشان نلحق ميعادنا .
رددت خلفه بسأم:
– تاني هانم، ما بلاش منها دي يا عم علي.
ترجل الرجل يسبقها، ثم توقف بجوارها، يفتح لها باب السيارة بكل احترام قائلًا:
– هانم وست والهوانم، انزلي بقى يا برنسيسة.
استجابت لتترجل مرددة خلفه باستهجان:
– كمان برنسيسة، ما قولنا بلاش يا عم علي .
ضحك يسبقها بخطواته مرددا بتصميم:
– قولي براحتك، وانا برضو هقول براحتي.
بعد لحظات كان يقدمها الرجل لامرأة تبدو وكأنها اجنبية، تحدق بها من اعلى لأسفل بتقيم لم يعجبها، لكن سرعان ما اجفلتها بابتسامة عملية تحدثها وبلغة عربية لا تتقنها:
– اتفضلي معايا يا هانم .
توجهت بهجة بسؤالها نحو العم علي:
– اتفضل معاها اروح فين؟ هي عايزاني في ايه الست دي؟
تبسم الرجل قائلا بتسلية:
– يا ستي روحي معاها، دي هتعاملك معامله ملوكي، انا افهم ايه بقى في حاجات الستات عشان اشرحلك، يلا بقى، عايز اروح اشوف مصالحي، وقت ما تخلصي هتتصل بيا، سلام يا ست العرايس.
قالها وذهب يتركها في حوزة المرأة، لتردد من خلفه بتوعد، قبل ان تستجيب للذهاب مع المرأة :
– ماشي يا عم علي.
تحركت مع المرأة بعد ذلك لتمر بالعديد من المراحل التي ولأول مرة تخوضها او تسمع عنها من الاساس، واشياء لم تعمل لها حسابا قبل ذلك. لتنتهي من كل شيء اخيرا ، بارتداء هذا الفستان الذي تفاجأت به والعديد من القطع ف انتظارها، لا تدري متى أتى بهم، وكأنه تم صنعه خصيصا لها .
فتقف الاَن امام مراتها، لا تعرف نفسها.
❈-❈-❈
وعند نرجس التي كانت عائدة من السوق، تحمل سلة كبيرة، حشرت بداخلها العديد من المشتريات، حتى اصبحت تحملها بصعوبة، والثقل يؤثر على سيرها نحو بناية سكنها بخطوات متأنية، لتفاجأ برفعها فجأة من فوق كتفها، وصوت ابراهيم يدوي :
– رايحة فين يا خالتي بس بالشيلة التقيلة دي؟ مش خايفة لتقسم ضهرك ولا يجيلك الغضروف منها .
بدهشة فاقت الارتباك، تطلعت اليه لا تصدق فعلته، فهذه اول مرة يفعلها، ولكنها لا تملك الان الا الامتنان لفعله:
– تشكر يا حبيبي تشكر، انا مش عايزة اتعبك.
رفعهم بسهولة ليحملهم عنها فوق كتفيه، مرددًا بمروءة جديدة عليه:
– تعب ايه بس يا خالتي؟ هي دي حاجة مستاهلة.
وقبل ان ينبث فمها ببنت شفاه، فوجئت بسحب هاتفها من يدها من احد الفتيان التي تركض سريعًا بالدراجة ليطلق هو صيحته:
– يا بن الكلب… مش هسيبك، امسكي يا خالتي جايلك حالا.
ترك السلة على الارض وهرول خلف الفتى، يتركها في وسط الطريق، بحالة من التشتت، تتطلع هنا وهناك، وذهول يكتنفها عما حدث .
اما هو فقد وصل بعد لحظات، لبجد الفتى في انتظاره، في جانب ما من الطريق ، بعد ان ابتعد بمسافة كافية عنها، ليعطيه الهاتف بعمليه قائلًا:
– اتفضل يا ريس، كله تمام.
تناوله منه يسأله بمزيد من التأكد:
– يعني عملت المطلوب منك ياض.
لوك الفتى بالعلكة داخل فمه قائلا:
– ما قولتلك يا ريس كله تمام ، يعني كل اللي في تليفونها بقى عندك، انت بتكلم الجينيس.
لطمه بكف يده على رأسه من الخلف مرددًا بمزاح ثقيل:
– انت هتعملي فيها بيل جيتس، على تليفون صغير هكرته، اخفي من وشي دلوقتي بقى يا ظريف.
– امرك يا ريس.
قالها الفتي وانطلق بدراجته، ليتناول هو الهاتف ويعود به نحو الأخرى بابتسامة شقت فمه مرددًا بانتشاء:
– كدة ماشين صح اوي، احب انا التكنولوجيا.
❈-❈-❈
كانت الساعة تقارب السابعة حينما تفاجأت بالخادمة تخبرها بوجوده في انتظارها في الحديقة، لتنهي محادثاتها عبر الهاتف مع رئيستها صباح التي لم تتوقف منذ ان تركتها.
لتغادر الغرفة التي لم تفارها من وقت ما وصلت برفقة العم علي، والذي لم يقصر معها بالمزاح ولا بالثناء على حسنها بعدما ارتدت الثوب الذي يليق بها بحق، ثوب الهوانم كما يشبهها .
لتخرج اليه الاَن عبر الممر الداخلي للحديقة، فتفاجأ بالانوار والشموع المنتشرة بكثرة وبحرفية مقصودة لتجعله جوا شاعريا رومانسيا، وهو يقف في استقبالها، يرتدي فقط القميص الابيض على بنطال يشبهه، وهيبة تخطف الانفاس،
ماذا فعلت بنفسها؟ ليتها ما وافقت على القرب منه من الاساس.
– قمر يا بهجة، واحلى من القمر كمان.
قالها فور ان اقتربت منه، ليلتقط يدها ويقبلها، وعيناه لم تفارق تفصيلة صغيرة منها.
من زينة وجهها الناعمة، والتي زادتها بهاءًا، والشعر الحريري بقصة رائعة جعلته متموجًا على جانبي وجهها وظهرها من الخلف، ثم هذا الفستان الذي اختاره بإحساسه، ضمن مجموعة انتقاها خصيصًا لها،
منسدلا على الجسد الممشوق، يضيق على بعض المناطق لتزيد من فتنتها في عينيه، وخجلها امامه، ثم ندمها حينما اطاعت المرأة في ارتداءه.
– ايه مالك؟ مكسوفة؟
اومأت بارتباك يعصف بها:
– بصراحة اه، خصوصا مع الجو ال……. انا شايفة انه مش ضروري على فكرة .
تبسم لإصرارها المتعمد في تذكيره بهذا الامر الذي اصبح يمقته من كثرة سماعه منها، ف اقترب يباغتها بلف ذراعه حول خصرها من الخلف، ليضمها اليه فجأة، ويأمرها بصرامة:
– ممكن تشيلي اي فكرة من دماغك وتركزي بس في لحظتنا مع بعض؟
تمتمت بحرج شديد وكلمات متقطعة، فقربه المهلك يقبض على معدتها ويجعلها تتلوى بالداخل:
– لحظتنا ازاي يعني؟ انا مش فاهمة احنا واقفين هنا ليه اصلا .
تبسم باتساع، مستمتعًا بإرباكها، ثم وبحركة سريعة ضغط على جهاز التحكم عن بعد لتشتعل موسيقى اجنبية رومانسية كانت تعلمها قبل ذلك، ولكنها الاَن لا تستطيع التفكير ولا تذكرها حتى، بعدما سحبها فجأة ، يراقصها قائلا:
– انا بقولك سيبي نفسك يا بهجة، ركزي بس معانا وفي لحظتنا، انا عايز اعيش اللحظة دي معاكي دلوقتي، انسى العالم وانسى نفسك ومفتكريش في غيرك، انتي وبس .
تطلعت اليه بتشتت، عيناها تحمل الف سؤاا، وجسدها اصبح يتناغم مع خطوته، يخطفها بسحر كلماته ولكن عقلها الدئوب يفيقها من تلك التعويذة في كل لحظة، لماذا هي من دون الجميع؟ لماذا يختصها بتلك المشاعر وذلك الاتفاق؟ ليتها تعلم حتى تستريح.
قطع فجأة يوقفها:
– انا شايفك لسة سرحانة برضو، تحبي نتعشى الاول ولاااا.
– ولا ايه؟
سألته ببرائة تقارب الغباء، ليًقابل ردها بابتسامة ماكرة قائلا:
– انا بقول نأجل العشا شوية وندخل على طول في ولااا
لم تعي ما الذي حدث بعدها، كيف انتقل بها من الحديقة الى هنا بداخل غرفته.
يضمها اليه بقوة وقبلاته لم تتوقف سوى حينما انزلها على اقدامها ، ليغمغم بنبرة لامست قلبها:
– تعرفي النعيم يا بهجة؟ انا دلوقتي بس عرفت ايه النعيم ، قربي منك هو النعيم اللي ممكن استغني بيه عن العالم كله .
لم تجد صوتها لترد ، وقد ضاع كما ضاعت هي في بحر عشقه، لتتوه داخل امواجه، فلا تدري اين ترسو بها، الى بر النجاة، ام تبتلعها ظلمته.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
تلك السعادة اللي نحيا على حلم الوصول اليها، ذلك الفرح الذي ظل دائمًا غائبًا عنا، وحينما أتى……. أتى ناقصًا، هل كان سوء حظ منا؟ ام هي الاقدار التي تتلاعب بنا؟
#بنت_الجنوب
بحرص تام نهضت من جواره، بعدما استيقظت لتجد نفسها داخل أحضانه، ذراعه تطوقها، وانفاسه مازالت تشعر بها على بشرتها،
خطت حتى وصلت الى المقعد الوحيد بهذه الغرفة الشاسعة، فسقطت عليه بثقلها، تضم ركبتيها الى صدرها، فتتأمله باضطراب وخوف، لا تصدق ما حدث، لقد أصبحت زوجته بالفعل.
هذا الرجل الغافي امامها باسترخاء، اصبح زوجها قولا وفعلا، كيف سحبها بمعسول كلماته وجعلها تحلق في سماء عشقه؟ حتى غاب عقلها وتاهت ف بحوره،
هل كانت مغيبة العقل؟
لا لم تكن مغيبة، بل كانت سعيدة ومستجيبة للمساته، وقد كان هو كالساحر معها، يدلل انوثتها، ويشعرها بقيمتها كامرأة فاتنة لم تجد الاهتمام الكافي لتنال ما تستحقه،
لقد قال كثيرا من كلمات الغزل وعاملها بنعومة تفوق الخيال،
لتنام في النهاية قريرة العين، منعمة بدفئ حضنه، ورائحة عطره التي تغمرها بقربه الشديد، ثم يهل صباح اليوم الجديد، وتستفيق على حقيقة وضعها، بعدما انقشعت السحابة الوردية التي كانت تطير بها في عالمه الجميل .
– انتي صحيتي امتى من جمبي وسبتيني؟
انتفضت ينتشلها الصوت الرخيم من غمرة شرودها، لتلتف اليه وتجده مضجعًا بجذعه العاري امامها على قائم التخت، فتتهرب بأبصارها عن النظر اليه مباشرة، وتجيبه بكلمات متقطعة من فرط خجلها:
– ماا… دي عادتي….. دايما بصحى بدري.
تبسم ثغره باتساع، مستمتعًا بلون الحمرة الذي كسى بشرتها وحيائها الذي كلفه كثيرًا من الصبر والتروي بالأمس حتى نال السعادة بوصالها في نهاية الأمر،
ليزيد بمشاكستها الاَن:
– مش معقول يا بهجة تكوني لسة مكسوفة بعد اللي حصل ما بينا؟
برقت خضرواتيها بإجفال تأثرًا بجرأته، لتعض على شفتيها بارتباك شديد ظهر في حركة جسدها وهي تزيد من ضم اقدامها اليها، فتنكر ببلاهة، ومزيدا من التلعثم:
– لاااا مش مكسوفة ولا حاجة، ااا…. دا حتى انا بقول….. اقوم احسن واروح امشي.
في الاَخيرة كانت تنزل بقدميها على الأرض، لتستقيم بجسدها وتشرع في التحرك، فهتف هو يوقفها معتدلا بجسلته:
– تقومي تروحي فين يا بهجة؟ استني هنا.
اذعنت لأمره تجيبه:
– واستنى ليه؟ الساعة زمانها داخلة على سبعة، الحق اروح بيتنا ، وانت ممكن تريح الساعة دي، او تروح الشغل في الميعاد اللي تحبه.
– ومين قالك اني رايح الشغل اساسا النهاردة؟
تمتم بها ثم نهض يقف مقابلا لها، ليقترب وتمتد ذراعه ليزيح بيده شعرها للخلف، مردفًا:
– طب بذمتك، تبقى صباحيتنا النهاردة واسيبك واروح الشغل، حد يجيله قلب يسيب الجمال ده؟
دنى برأسه نحوها، حتى كاد ان يقبلها ولكنها تراجعت بحدة قائلة:
– بس انا مينفعش اتأخر عن اخواتي، امبارح اتحايلت بمدام نجوان وقولت انها لوحدها، لانك مسافر والدادة مش معاها، النهاردة هقول ايه؟
بحزم لا يخلو من لين جذبها فجأة اليه، يقنعها بهدوء:
– طيب وجودك عندهم دلوقتى ايه لزمته؟ مش دا برضو ميعاد شغلك في المصنع ولا انتي ناسية؟
سهمت نظرتها باستيعاب قائلة:
– ايوة بس انا متعودة احضرلهم فطار و…
قاطعها يقربها اليه مرة اخرى مرددًا:
– وايه يا بهجة؟ اللي اعرفه ان اخواتك مش صغيرين ولا اطفال عشان تجري تفطريهم قبل ما تروحي الشغل…. ولا انتى عايزة تهربي مني؟
– ها….. طب وشغلي في المصنع؟
تمتمت بها تطالعه بتيه، بعدما مال بوجهه نحوها، حتى اصبحت انفاسه تلفح بشرتها مردفا بهيام:
– مصنع ايه كمان يا شيخة بس؟ وهو دا وقته؟ بقولك صباحيتنا وانتي عايزه تجري وتسبيني.
رفعها فجأة من خصرها من الخلف، يعتقلها بذراعيه حتى لم تعد اقدامها تلامس الارض، شفتاه عرفت طريقها، لتطوف على كل جزء تصل اليه من بشرتها، حتى وصلت لمبتغاها، في قبلة عاصفة اذابت البقية الباقية من مقاومتها،
حتى سقط بها فوق الفراش، ليعتدل، كي يحل ربطة المئزر الذي كانت ترتديه وقد عقدتها عدة عقدات، ليعقب بضجر:
– انتي امتي لحقتي تلبسي الروب ده وتتكلفتي بيه كدة؟
وجدت صوتها بصعوبة تجيبه:
– وانت نايم، عشان مكانش جايلي نوم.
ضحك بخبث مرددًا وهو ينزعه عنها:
– ويعني جالك نوم لما لبستيه، طب انا هطيره منك خالص النهاردة.
❈-❈-❈
وفي منزلهم الجديد،
كان الثلاثة على مائدة الطعام يتناولون وجبة الإفطار التي أعدتها جنات سريعًا، قبل ذهابها الى الجامعة هي الأخرى، بعد اتصال شقيقتها بها منذ لحظات تخبرها بالذهاب الى عملها وعدم استطاعتها للحضور في هذا الوقت، فكانت هي تقوم بدورها الاَن:
– خلص أكلك كله يا ايهاب عشان تركز وتستوعب، وانتي يا عائشة، متسبيش حاجة في اللانش بوكس بتاعك، لازم تاكلي عشان تكبري.
بابتسامة ساخرة ردت الاخيرة :
– حاضر يا ابلة، مش هسيب ولا حاجة عشان اكبر.
-‘بتتريقي عليا يا عائشة؟
– لا يا ستي، وانا اتريق ليه بس؟
تمتمت بها تنفي ببراءة ردا على شقيقتها، ليتدخل ايهاب هو الاخر يعقب بدوره:
– عندها حق يا عائشة، بلاش اسلوبك ده يا مصيبة احنا فاهمينك.
– انا برضو؟ والنعمة مظلومة.
قالتها بدراما اضحكت شقيقيها، قبل ان تنهض فجأة وتسألهم:
– طب انا خلصت وعايزة اروح مدرستي، مين فيكم اللي هيوصلني مدام بيبو مش موجودة؟
تطوع ايهاب والذي انهى طعامه هو الاخر:
– اوصلك انا يا ستي، خليها تعرف انها سايبة وراها رجالة .
ايوة بقى يا هيبو يا جامد.
هللت بها جنات وهي تتابع مغادرتهم، لتعلق عائشة بمزاحها كالعادة:
– دا راجل دا ؟
على الفور نالت جزائها، بلطمة خفيفة على رأسها من الخلف، يظهر لها حزمه:
– راجل غصب عنك يا مقصوفة الرقبة، امشي يا بت انجري قدامي، امشي.
لتذعن بطاعة تتقدمه، امام ضحكات جنات التي لا تتوقف لمشاكسات الاثنان.
❈-❈-❈
ولجت الى غرفة زوجها صباحًا تحمل فنجان القهوة عقب انهاءه الافطار سريعًا من اجل تلك المكالمة الهامة التي قام بها مع شريكه الجديد، يدفعها الفضول لسؤاله:
– القهوة يا قلبي زي ما طلبت.
رد يجيبها اثناء ارتداء ملابسه:
– تسلم ايدك يا قلبي، بس انتي كلفتي نفسك ليه؟ ما كانت جابتها واحدة من الشغالين .
وضعتها على الطاولة الصغيرة التي تحتل جانبا من الغرفة، لتقول بمكر تجيده:
– وانا روحت فين لما واحدة من الشغالين تجيبها؟ كيمو حبيبي اخدمه بعيوني.
التف اليها فاغرا فاهه، قاطبُا حاجبيه للحظات بتفكير وتوجس، فتقابله هي بهذه النظرة البريئة لتثير تسليته، ف اقترب وتناول فنجان القهوة مرددًا:
– تسلم عيونك يا جميل ، اكيد المحلسة دي وراها طلب مخصوص، قولي على طول يا رباب ومن غير مقدمات، جوزك مستعجل.
– ليه بقى مستعجل، انت ميعادك اساسا تسعة.
ارتشف يتلذذ بطعم المشروب الساخن قبل ان يجيبها:
– ما انا ناوي اروح المصنع اطل عليه الاول، رياض اتصل بيا وقالي انوب عنه عشان النهاردة مش موجود.
سمعت الاسم ليعود اليها الفضول:
– حلو اوي مدام جيبت سيرته، مش هتحكيلي بقى حكايته؟
– احكيلك حكايته دلوقتي يا رباب؟ وانا بقولك مستعجل.
وضع الفنجان وتحرك مسرعًا ليرتدي سترته، فلحقت به تلح :
– وحياتي عندك يا كارم، انت كل مرة كدة تعلقني، تقولى كلمتين عن الغامض بسلامته وتسيبني بقى اضرب والف في التخمينات، انا عايزة اعرف بقى النهاردة سر عزوفه عن الستات.
تطلع الى هيئتها وهي تضرب الارض بقدمها وكأنها طفلة وليست زوجة وام، فقال لها ليزيدها شغفًا:
– طب مدام كدة بقى، خدي الجديدة عشان تتعلقي اكتر، رياض الحكيم شكله واقع لشوشته مع البنت الجديدة جليسة والدته.
اصدرت شهقة عالية برقت لها عينيها لتتشبث به بإصرار:
– دا بجد؟ وحياتي لو بجد لتحكيلي دلوقتي حالا، حالا يا كارم وحياتي عندك.
اطلق ضحكة مجلجلة لينزع كفيها عنه ثم يهرول من امامها مرددًا بمرح:
– لما ارجع من الشغل بقى يا قطة، دا لو افتكرت اصلا .
استمر بضحكاته حتى اختفى لتعلق هي في اثره:
– ماشي يا كارم، وديني ما انا سيباك المرة دي.
❈-❈-❈
والى مجيدة التي خرجت من غرفتها مجفلة على صوت الشجار الصباحي بين ابنها وزوجته:
– طب انا قولت مش هتخرجي النهاردة يا لينا، يعني مش هتخرجي، وريني بقى هتكسري كلمتي ازاي هاا؟
– طب مدام انت وصلتها لكدة، يبقى عند بعند وانا خارجة يا امين، وخليني بقى اشوف تحكمات حضرتك دي هتوصل بينا على فين؟
– هتوصل للطريق المعروف يا حبيبتي، تحبي اقولك هو فين ؟ ولا على ايه اهو المأذون في الشارع اللي ورانا، انا اجيبهولك دلوقتي عشان نختصر.
– باااااس
صرخت بها مجيدة توقف هذيان ابنها امام زوجته المتمردة بغباء رغم طيبة قلبها التي تشهد بها، واقتربت بأعين حمراء توجه خطابها بحزم نحو الاثنين:
– لحد هنا وتوقفوا ستوب انتوا الاتنين ، انا اسكت وافوت على كله، لكن توصل لطريق الماذون اقطع رجليكم انتو الاتنين، شغل العيال بتاعكم يمشي في كل حاجة إلا دي .
اطرقا الاثنان بخزي امامها، شاهدين على أنفسهم بالخطأ، ليدافع ابنها مبررًا:
– هي اللي بتطلعني عن شعوري يا ماما بعمايلها، كل كلمة تراجعني فيها، لا بتسمع كلام ولا حتى بتقدرني.
رفعت لينا رأسها اليه بخضة تشير بسبابتها نحو نفسها بعدم تصديق:
– بقى انا مبقدركش يا أمين؟ طب ايه اللي عملته عشان يثبت كلامك ده؟
ثار بها:
– والخناقة اللي بنتخانقها دي بسبب ايه؟ مش عشان جناب حضرتك مش قابلة توقفي يوم واحد من غير شغل، حتى وانتي عارفة بالعزومة اللي عاملها النهاردة لعصام ومراته.
دبت بقدمها على الارض صارخة:
– بقولك عندنا اجتماع مهم ، يعني لازم احضر، دا غير ان العزومة بالليل، يعني اقدر ارجع بعد ما اخلص الاجتماع على طول واحضر العزومة، دول نفرين بس ياناس، هو احنا هنعمل وليمة؟
– اه يا حبيبتي وافرضي نفرين، طب انا بقى عايز اعملها وليمة بجد.
صاح بها فجاء الرد من والدته:
– خلاص يا حبيبي فهمنا، انت عايز وليمة تشرفك قدام صاحبك، وانا بقى لزمتي ايه في البيت هنا؟ دا غير انها قالتلك انها على ما ترجع من شغلها، يعني هتنجز معايا ان شاء الله، انت بقى مش ليك وليمة تشرف وخلاص.
– وانا هساعد معاكي يا ماما.
كان هذا صوت شهد التي خرجت من غرفتها على صوت الصياح، ليأتي رد زوجها بحنق هو الاخر:
– وانتى قاعدة مكانك على الكرسي يا شهد، وكمان مش كتير عشان ضهرك .
– كتر خيرك يا بشمهندس مش عايزين نتعبك معانا
قالها امين بنبرة ساخرة قابلها شقيقه بوجهه العابس:
– دا عشان العريس والعروسة يخصونا احنا كمان يا حبيبي، مش عشانك .
تبسمت مجيدة لمشاكساتهم التى لا تنتهي لتتوجه نحو ابنها صاحب المشكلة:
– وكدة يبقى فاضل الحلو ودا على انيسة من امبارح موصياها عليه، عندك اعتراض تاني يا غالي؟
تهللت ملامحه بابتسامة ينفي:
– لا خلاص يا ماما، مدام في حلو من حماتي العزيزة، يبقى تغور مطرح ما هي عايزة تغور.
اجفلت لينا بقوله، لياتي ردها على الفور، تضرب بقبضتيها على ذراعه وصدره:
– ايه تغور دي؟ ايه تغور دي ؟ مش تحسن الفاظك يا حضرة الظابط المحترم، في حد يقول كدة لمراته ام ابنه اللي جاي في الطريق؟
امسك بقبضتيها داخل كفيه، يتمتم غائظًا لها:
– وان محسنتش هتعملي ايه؟
– ااه ايدي بتوجعني يا امين وانت قارص جامد.
تأوهت بها تعبر عن المها، مختلطًا بعتبها ونعومتها حتى تأثر بضعفها ولانت قبضته :
– طب بطلي انتي تستفزيني الاول ، وانا مش هقرص عليكي .
نزعت يدها منه قائلة بنبرة يشوبها الدلال :
– انا برضو اللي بستفزك ولا انت اللي قاسي وبتحب تيجي عليا .
– اناااا؟ شالله تعدميني لو قاصد .
– بعد الشر عليك .
مصمصمت مجيدة المتابعة بشفتيها، لتغمغم بغيظ منهما:
– شوف يا اخويا قلبو ازاي في ثانية، دا انتو اللي داخل ما بينكم خارج .
عقب ابنها الاخر بعبوس:
– دلع مريء يا ماما.
استدارت كي تعقب على قوله، ولكنها تفاجأت به منشغلًا في الحديث مع زوجته يهمس في اذنها هو الاَخر بصوت هامس يجعلها تضحك، لتغمغم هي عائدة لغرفتها:
– يا ولاد المجنونة، بقيت انا زي العزول وسطيكم.
❈-❈-❈
متكئًا على الاريكة الوحيدة بداخل شرفته، ينفث الدخان من سيجارته وكوب الشاي الساخن يرتشف منه بتلذذ وهو يرهف السمع لصوت تسجيلات المكالمات التي استطاع الحصول عليها بتهكير الهاتف الخاص بخالته، غير مراعيًا لحرمة القرابة او الحلال او الحرام، او حتى مروءة تمنعه من التنصت على الأحاديث الخاصة بالنساء.
منذ الأمس وهو ينتظر على احر من الجمر، تلك المكالمة التي تجمع بينها وبين ابنتها العزيزة التي تمردت عليه ونالت الحظ لتصبح امرأة اخرى، غير تلك التي كان يتحكم بها، ويخضعها بأقل مجهود،
وقد أتت الاَن ليستمع بتركيز شديد لكل جملة قد يأتي من خلفها فرصته:
– ايوة يا امنية، البت رؤى مطلعة عيني ع الرحلة اللي بتزن عليها، يرضيكي يعني تبات ليلتين في بلد غريبة ملهاش اهل؟
دوي صوت ضحكتها في البداية ثم جاء ردها:
– يا ماما بلد غريبة ايه بس؟ دي بتقولك الغردقة، وهي اساسا طالعة تبع الجامعة ووسط اصحابها متقلقيش عليها انتي، خليها بس تيجي بدري تاخد الطقم اللي كانت مكلماني عليه، عشان انا مش مسئولة لو جات وملقتنيش موجوده.
– ليه يا بت رايحة فين؟
– يا ماما ما انا قولتك، عندنا عزومة عند طنط مجيدة، امين صاحب عصام عازمنا ع العشا، دا غير اني لازم اخرج الاول اشوف حاجة البيت والناقص في المطبخ.
– امممم يعني شهد هي اللي عازماكي، اخص، ومهانش عليها تعزمني انا واختك معاكم؟ كنا هنتقل عليهم يعني ولا معندهمش مقدرة لنفرين زيادة؟
– ماما انتي سمعاني بقولك ايه؟ شهد ملهاش دعوة، امين هو اللي عازمنا، بلاش طريقتك دي الله يخليكي، ومتنسيش تنبهي على رؤى زي ما قولتلك، بنتك بتنسى وانا معنديش خلق لقمصتها، سلام بقى.
– سلام يا ختي، ما انا عارفة مليش بخت معاكم.
– الله يسامحك يا ماما، هسيبك بقى وهقفل.
❈-❈-❈
وفي داخل المصنع حيث كانت منهمكة بعملها كالعادة في هذا الوقت، في انتظار قدومه كي يطلع على ما انجزته بمهارتها كالعادة،
وكانت المفاجأة حينما صعقت لقدوم شريكه الاخر، يلقي التحية بعمليه:
– صباح الخير يا لورا، هاتيلي الملفات المطلوبة بسرعة على المكتب ورايا .
تجمدت لمدة من الوقت، حتى ملكت زمام امرها، لتلحق به بعد ذلك، تدلف خلفه الى المكتب، ثم تضع الملفات امامه برسمية قائلة:
– الملفات يا فندم.
تمتم ممتنًا يطلع عليهم على الفور:
– شكرا يا لورا، اما اخلصهم هنهدلك على طول.
كاد ان يغرق بالتركيز فيهم، ولكن حينما وجدها لم تتحرك رفع رأسه اليها باستفسار:
– في حاجة يا لورا؟
تشجعت بجرأة تسأله:
– انا بس مستغربة انك تحل محل رياض باشا النهاردة من غير ما يبلغني.
تبسم يجيبها بهدوء:
– لكنه اتصل بيا انا وبلغني احل محله يا لورا، ولو مش مصدقة روحي اتصلي واسأليه .
بدى عليها الحرج وهي تبدي أسفها :
– انا بعتذر يا فندم، مش قصدي ابدا اي حاجة وحشة.
– مفيش داعي للأسف يا لورا اتفضلي روحي شوفي شغلك.
قابلت امره هذه المرة بطاعة لتخرج على الفور تاركة غرفة المكتب، ليعود هو للاطلاع على الملفات مرددًا بضحك:
– حتى مديرة مكتبك نسيت تبلغها بغيابك يا رياض، اقطع دراعي ان ما كنت بتلعب بديلك يا خلبوص.
أما عنها وفور ان حطت بجسدها على كرسي مكتبها حتى صارت تهاتفه العديد من المرات، ومحاولاتها تبوء بالفشل مع استمرار الرسالة التي تخبرها بغلق الهاتف، حتى فاض بها لتغمغم بحنق:
– يعني قافل تليفونك في وشي انا وتتصل على شريكك عادي! ماشي، ما شي يا رياض.
❈-❈-❈
خرجت اليه، بعد ارتدائها قطعة من تلك الملابس التي تمتلئ بها الخزانة، بنصف كوم وتصل الى اسفل ركبتيها، لم ترى ابدا في نعومة قماشها، ولا بأناقتها رغم انها بيتيه، حتى بدت عليها وكأنها امرأة اخرى، تشبه اللاتي تراهم في التلفاز وعلى شاشات الهاتف.
وان كانت هي شعرت بذلك فما بالها بذلك الخبير الذي صار يتطلع اليها بانبهار، لم يكن خاطئًا حينما راهن على رقيها وفتنتها التي كانت تدفنها اسفل الملابس الباليه والباهتة.
هتف يستقبلها من خلف طاولة البار للمطبخ الضخم:
– ايوة بقى، طلي كدة ونوري دنيتي من تاني، انا بقالي ساعة مستنيكي، كل دا في الشاور يا بهجة؟
ردت بحرج وصوت رقيق:
– معلش ما انا سرحت شعري كمان.
غمز بعيناه يغازلها:
– ما انا خدت بالي يا قلبي، بس مش كنتي استنيتي اسرحولك بنفسي؟
خجلت ان تعطيه رد فدهشتها به لا تتوقف، ليطلق ضحكة صاخبة يشير اليها لتنضم معه، حتى اذا دلفت اليه بداخل ذلك الشيء الضخم والذي يشبه الغرف بمساحته الشاسعة.
حينما اقتربت ضمها اليه يقطف قبلة خاطفة من وجنتها، ثم أجلسها على احد المقاعد امام الطاولة التي تتوسط المطبخ، يدللها قائلا :
– انتي تقعدي هنا زي البرنسيس على ما احطلك الاكل اللي عملته بإيدي.
– عملته بإيدك!
رددت بها بدهشة قابلها هو بضحكة صاخبة مرة اخرى ليردف :
– سخنته يا ستي، بس على فكرة انا فعلا ناوي في مرة ادوقك اكلي، ما انا كنت ساكن لوحدي لفترة طويلة وكان من ضمن هواياتي الطبخ.
مازالت تلفها حالة الانبهار والاندهاش، هذا الرجل الغامض الذي يعاملها الاَن كأميرة، يظهر لها مواهبه وبساطته في الحديث وكأنها بالحق اصبحت شيء هام له.
وضع امامها عدد من الاصناف، وبحماس شديد وضع لها قطعة كبيرة من صنية المعكرونة التي أمامها، معلقًا:
– عايزك بقى تدوقي النجرسكو الاول، دا انا جايب جوليا من بلدها مخصوص عشان تعملهولنا، اصلها ممتازة فيها.
تسائلت بدهشة اعتلت ملامحها:
– انت قصدك ع البنت اللي شوفتها امبارح؟ انت بجد جايبها من بلدها عشان كدة؟!
ضحك للمرة التي ما تعد تذكرها، يقول بمرح:
– يا ستي هي كانت جاية مصر اصلا، وانا لما سألت مدير مكتب التشغيل دلني عليها، اشترطت عليه تكون بتعرف تعمل كل اصناف المكرونة الإيطالي لأني بعشقها، هي والنجرسكو طبعًا، وبصراحة البنت طلعت ممتازة، دوقي كدة.
قال الاخيرة يضع بفمها، شوكة ممتلئة من طبقه، تناولتها لتلوك بها داخل فمها، تتزوق الطعم الرائع، حتى ابدت إعجابها:
– هي فعلا عاملاها حلو اوي، بس انا مستغربة صراحة انك تجيب واحدة اجنبية تخدمنا ولا عشان…..
اقترب بكرسيه يلتصق بها، مردد بصوت تغيرت نبرته:
– عشان ايه؟ قصدك يعني عشان متعرفش تطلع خبر جوازنا، تصدقي ممكن يكون صح، رغم انها كان ممكن تكون مصرية برضو عادي، اصلا انا مش بشغل عندي أي حد، بس انا لما جيبتها مكانش دا غرضي…… انا كان غرضي ساعتها الاقي الأكل اللي بحبه في المساحة اللي اخترتها عشان ارتاح فيها……. معاكي يا بهجة.
كان قريبا بوجهه منها حتى يزيد من ارباكها حتى انها لم تكن لديها القدرة لتجاريه رغم عدد التساؤلات الكثيرة بداخلها، وهو كان خبيرا في سرقة تركيزها معه، يطعمها بيده كما أنه لا يتوقف عن مداعباته، وعقلها لا يستوعب اكتشاف شخصيته الجديدة منه.
❈-❈-❈
وفي منزل خميس الذي خرج من غرفته بوجه متجهم يغمغم بالكلمات الحانقة والبذيئة، يلعن البيت وساكنيه، وقد فاض به منهم على حسب قوله :
– مصيبة تاخدكم كلكم، ولا نفر فيكم يفتح النفس.
فور ان صفق الباب بقوة وغادر، تحركت سامية تاركة الشرفة التي كانت تتنصت منها، لتركض متجهة نحو والدتها داخل الغرفة.
هتفت بالسؤال فور ولوجها، ورؤية المذكورة جالسة على كرسيها، بهيئة كانت خير دليل على سخونة الأجواء؛
– ماما، شوفت ابويا وهو خارج من عندك بيزعق، ايه اللي حصل؟
زفرت تشيح بوجهها عنها قائلة:
– روحي يا ختي اسأليه هو، انا روحي في مناخيري، ومش طايقاه ولا طيقاكم معاه.
مالت نحوها بميوعة تقصد المزاح معها:
– طب مش طايقاه هو، مالنا احنا بس يا درية؟ غلطنا فيكي مثلا ؟ ولا هو يطلعهم عليكي وانتي تطلعيهم علينا يا دردر.
نزعت ذراعها الذى تطوقها به، تنهرها بحدة:
– لأ يا ختي مش بطلعهم عليكي ولا بتبلى، عشان انتو السبب فعلا، اخواتك اللي هاجين على روسهم يلفوا على مقصوفة الرقبة اللي غارت وطفشت، واحد سايب مراته على وش ولادة، والتاني ما حد عارفله طريق، بيجي البيت زي الغريب ، ياكل بس وينام .
– يعني انا الوحيدة اللي عاقلة فيهم.
صاحت بها:
– انتي اكتر واحدة فيهم معوجة، الراجل صاحب ابوكي كلمه تاني ودا مصدق، جاي راجع من عنده يبخ فيا، ان انا السبب في دلعك المريء، واني لو ست زي باقي الستات، كنت عرفت ازاي اخليكي توافقي ، عشان يخلص ع الاقل من همك.
عبست سامية بملامح مكفهرة:
– يعني هو يقرف من خيبة الولاد يقوم يجيبها فيا، ما انا نصيبي قاعد وفي اي وقت ممكن يحصل.
– امممم.
زامت بها درية بفمها بسخرية لتمصمص بشفتيها معقبة:
– دا على اساس انه هيحصل بجد، وانتي باصة في العليوي، ومعلقة نفسك بالحبال الدايبة.
– لا ياما مش دايبة، وهيحصل ان شاء الله قريب.
كان الرد بصمت ونظرة مستخفة زادت من تصميمها ، لتردف بحزم:
– استهزأي يا ماما براحتك، بكرة افكرك بكلامي ده، المهم دلوقتي عايزين نروح نبارك لشادي بعد ما رجع من شهر العسل.
اصدرت صوتًا مستهجنًا تعبر عن رفضها:
– شوف يا اخويا اقولها ايه تقولي ايه؟ بت انتي عايزة تروحي روحي لوحدك يا اختي، انا لا عندي مرارة ليه، ولا لأي حد يفرح قدامي، طول ما انا مرزوعة في الهم بسببكم.
نهضت تمطرها بالقبلات ، لتلح عليها وترجوها:
– وغلاوتي عندك ياما، روحي معايا ان شاءالله حتى المرة دي وبس، ع الاقل عشان تتباهي قدام عمتي وناس العروسة بطقم الدهب اللي جبتيه قريب، ويعرفوا مين هي درية مرات الحج خميس .
❈-❈-❈
ترجلت صباح من الحافلة الخاصة بالعمل ، لتحط بأقدامها على قارعة الطريق المؤدي الى منزلها داخل الحارة الضيقة، برشاقة تناقض حجمها الضخم، فهي لا تظل محلها ابدا، تنهك نفسها بالعمل وخدمة البشر من الجيران والاقارب والاحباء، حتى لا تستسلم لوحشة الوحدة بعد وفاة زوجها وخلاء المنزل عليها وحدها، دون ابناء انجبتهم، ولا اخوة رزقها الله بهم.
– ست صباح ست صباح.
دوى الصوت المنادي بأسمها وقبل أن تستدير لصاحبه، وجدته يقف مواجها لها:
– انا اهو قدامك يا ست صباح.
صاحت به غاضبة:
– انت هتعملي زي فرقع لوز يا جدع انت، وكل مرة الاقيك تتصدر طريقي، خلي بالك المنطقة هنا كلهم حبايبي، يعني لو بس أشرت هتلاقيهم كلهم هجموا عليك دلوقتي.
– اطرق برأسه يبدي اسفه:
– عارف اني غلطان يا ست صباح اعذريني ، بس انا قلقان ونفسي اطمن، ولاد عمي معرفش مكانهم ، وبهجة، كل ما اروح استناها عند المصنع ما بشوفهاش، مش فاهم انا بتستخبى مني دي ولا ايه؟
عند ذكر بهجة، طغى ارتباك خفيف يعتلي ملامحها، لكنها سرعان ما استطاعت السيطرة عليه، لتظهر الحدة في حديثها:
– وافرض بتستخبى منك ولا مش عايزاك تشوفها اصلا، ما تحترم رغبتها، سيبوها بقى ترتاح هي واخواتها، دول اغلب من الغلب، هو انتوا لا ترحموا ولا تسيبو رحمة ربنا تنزل.
صدرت الكلمات بعفوية منها حتى شعرت بالندم حينما رأت تأثيرها عليه، لتعود ملطفة بعض الشيء:
– لمؤاخذة يا اخينا، انا كدة ست اللي في قلبي على لساني، ولساني دا مالهوش رابط.
– ولا يهمك يا ست صباح، ع العموم انا مش هسألك تاني، بس برضو مش هسكت غير بعد ما اطمن عليهم، عن اذنك.
سحب اقدامه وتحرك مغادرًا من امامها، لتغمغم هي في اثره:
– اذنك معاك يا خويا، شكلك كدة فيك حاجة طيبة بس عايزة تتنضف.
❈-❈-❈
انهت جولتها بعدما ابتاعت عددا من المشتريات ، وكانت في طريقها للذهاب، توقفت على اول الطريق، تبتغي إيقاف سيارة تقلها الى منزلها، فتوقفت احدى السيارات القريبة سريعًا امامها.
تبسمت بارتياح تدخل المشتريات اولا ثم هي من الخلف، تخاطب السائق بامتنان:
– متشكرة اوي، جتلي بسرعة ووفرت عليا الوقت.
جاءها الرد بنبرة ليست غريبة عنها.
– العفو يا هانم انتي تؤمري.
اصابها الهلع، تكذب اسماعها ولكنه أكد، يلتف اليها فيخلع الشارب والذقن المزيفان، والنظارة التي كانت تخفي العينين، متمتمًا بوعيد:
– ايه رأيك في المفاجأة يا امنية؟ وحشتيني، قولت لازم اشوفك.
رغم الخوف الذي كاد ان يوقف قلبها، إلا ان رؤيته وتلك الذكريات التعيسة التي خلفها بداخلها كانت لها الفضل في شحن قوتها من الداخل، لتهدر به بازدراء :
– وحش ياكلك، انت اتجننت يا حيوان انت؟ ولا مش واخد بالك انا متجوزة مين دلوقتي؟
اصدر ضحكة قميئة يفوح منها العفن القابع في نفسه الخبيثة:
– قصدك على حالظابط عصام اللي قبل يتجوزك حتى بعد ما قولتله اللي فيها، وع العمايل اللي كنت بعملها معاكي في المخزن؟ لا بصراحة طلع راجل اوي .
– راجل وغصب عنك، بس انت هتعرف الكلمة دي منين؟ وهي ابعد من خيالك المريض اصلا، وقف العربية حالا، لاتصل بجوزي يسحلك ع السجن ويخليك تمسح حماماته.
كز على اسنانه ليضغط على مقود السيارة يزيد من سرعتها بعدما صعد بها نحو الطرق السريعة، مرددًا بغيظ:
– طب خليه يعملها ولا يوريني مرجلته وانا كنت اسلط عليه الجماعة اللي اتلميت عليهم في السجن، يدفنوه حي.
ضحك بجنون مستمتعًا برعبها:
– انا عضمي بقى ناشف اوي، والفضل طبعا يرجع ليكي يا غالية، انتي والسنيورة شهد .
زاد من حدة السرعة حتى ايقنت بقرب النهاية لتضرب بقبضتها على كتفه وظهره:
– وقف العربية خليني انزل، بقولك خليني انزل.
– ليه بس يا وحش؟ لتكوني خوفتي كمان؟
الى هنا ولم تعد بها قدرة على المواصلة لتسقط للخلف فاقدة وعيها تماما، حتى انتبه عليها في المراَة الامامية:
– ليوقف السيارة على جانب الطريق، ثم ترجل ليرى ما بها في الخلف، كان نصف جسدها كان مسطحًا على، الكنبة الخلفية، فظهر له وجهها وجسدها بصورة سال لها لعابه، ليبتلع ريقه برغبة واضحة، رغم قلقه من هيئتها، فدني يربت بكفه على خدها، وعيناه تجول عليها بوقاحة:
– بت يا امنية، انتي اغمى عليكي صح ولا بتمثلي زي عوايدك؟،…. انتي يا بت، شكلك بتمثلي زي عوايدك.
استقام فجأة مقررا امرا ما برأسه، زينه بعقله شيطانه، ظنا منه انها قد تصبح فرصة للانتقام، واخضاعها بعد ذلك، ولكن صوت سرينة البوليس التي دوت فجأة عن قرب جعله، يركض سريعًا، ويترك المكان برمته هاربًا الى وجهة ما.
❈-❈-❈
شرودها هذه المرة كان مختلفًا، حالة غريبة من السكون، لأول مرة تشعر بها الدادة نبوية، هذه ليست تلك المرأة التي كانت تغلبها في الركض والبحث عنها، اما عن الحزن، فهو اصبح كالوشم يزين ملامحها الجميلة.
اقتربت لتجلس مقابلة لها في الشرفة التي تلتزم الجلوس بها منذ ساعات :
– مدام نجوان القمر، تحب تطلب حاجة اعملهالها؟
استجابت تلتف اليها بابتسامة، وصمت دام للحظات، قبل ان يخرج ردها :
– بهجة.
تبسمت نبوية بمرح:
– بهجة، ما انا قولتلك من شوية ان عندها ظرف طارئ يمنعها تيجي النهاردة كمان، يبقى نديها عذرها بقى.
اومأت برأسها تعود للنظر نحو الحديقة مرة اخرى، دون ان تضيف بأي شيء، فواصلت نبوية حثها على الكلام، بفتح مواضيع شتى، ولكنها لم تستجيب.
❈-❈-❈
اما في شرفة اخرى ومكان اَخر، كان يقف هو خلفها يشير لها بطول ذراعه:
– شايفة يا بهجة، اهي الارض اللي هناك دي كلها أرض بابا الله يرحمه، بس هو مكانش مهتم بالزراعة، ولا الكلام ده، كل اللي كان همه شغف الموضة والأزياء ، كان مجنون على رأي ماما، ودا اللي حببها فيه.
التفت اليه تعقب بصدق ما تشعر به:
– اكيد مش الجنان بس اللي حببها فيه، اللي بيحب ما بيشوفش عيوب حبيبه اصلا ، دي حاجة بتبقى من عند المولى .
ظل صامتًا لفترة من الوقت يلامس نعومة بشرتها بأنامله، او يزيح خصل الشعر الحريري للخلف، بنظرة غير مفهومة جعلتها تحسم مردفة:
– على فكرة انا لازم اروح، مينفعش اتأخر عن كدة.
زفر يقلب عينيه بسأم يعقب ردا لها:
– تاني برضو بتفكريني؟ دا انا ما صدقت اني فصلت عن العالم كله بقربك، انا مشبعتش منك يا بهجة.
لماذا تتغير نبرته حينما يتحدث معها في هذا الشأن ، يجعلها تشعر باحتياجه اليها، وكأنه طفل وجد امانه بقربها، لكن وما ينتظرها من مسؤوليات، ماذا تفعل بها؟
– مينفعش اتأخر اكتر من كدة، مش عايزة اخواتي يقلقو .
تنهد هذه المرة باستسلام ليضمها اليه بشدة، وكأنه لا يريد تركها ابدا:
– شوفيلك حل، انا لازم في اقرب وقت اخدك واروح بيكي رحلة تستمر لأيام، انا حاسس الوقت عدى ثواني، ولا مش ساعات ولا دقايق.
استسلمت لغمرته لها، غير قادرة على التعقيب او الجدال، فها عقلها قد عاد اليها، بعدما حطت على ارض الواقع ، تفكر فيما ينتظرها من مواجهة لأشقائها، رغم عدم علمهم بزواجها، ولكنها تحسب حساب الكذب الذي اعتادت عليه هذه الايام .
❈-❈-❈
وقف خلف حجرة الكشف يراقب الطبيبة وهي تفحصها، بغضب يحرق كل خلية من جسده، دماءه كلهيب بركان خامد، ينتظر الفرصة ليحرق الأخضر واليابس .
زوجته هو تتعرض لهذا الموقف، خطف واغماء داخل سيارة اجرة بوسط الطريق ، يقسم متوعدًا لمن فعل ذلك بأشد عقاب يناله، لن ينتظر حكم قاضي او محكمة، حتى او اضطر لارتكاب جريمة.
– ايه الاخبار، فاقت ولا لسة؟
كان هذا صوت امين الذي فور ان علم بما حدث، ترك ما بيده من عمل، وأتى على الفور .
أومأ يجيبه بصوت مختنق:
– الدكتورة اديتها حقنه مسكنة، وقالتلي اصبر عليها على ما تهدى.
– ساله بحرج:
– طيب هي فحصتها كويس؟ اتأكدت انها كويسة عضويا ولا اتعرضت لاي…. اعتداء، من أي نوع.
– لا الحمد لله ، المجرم اللي خطفها ملحقش يعمل معاها اي حاجة ، الاغماء كان طبيعي نتيجة الخضة والانفعال ، انا مش عارف حصل معاها ايه، بس تفوق وتقدر تتكلم، ساعتها هعرف اتصرف .
ربت امين بكفه على ذراعه العضلي بدعم ومؤازرة، ليتدارك هو ويسأله:
– صحيح ياريت تتصل بالجماعة وتديهم اي عذر عن حضور العزومة، بس بلاش تقلقهم، انا حتى متصلتش بوالدتها ولا اهلي، مش عايز لمة ووجع دماغ.
– حقك يا حبيبي، متشلش هم، كل حاجة هتمشي تمام وزي ما انت عايز.
قالها امين بمهاودة، وعقله يدور في ناحية واحدة، فهو على علم تام ان عصام ابدا لن يغفل عنها، ولكنه كتوم كالعادة.
❈-❈-❈
عادت لمنزلها ووسط شقيقتيها، ولكن تلك التغيرات التي حدثت ببشرتها التي كانت محرومة من الاهتمام ، جعلتها محل اهتمام لهما الثلاثة، وقد بدت لهما وكأنها تبدلت،
فما كان منها سوى اكمال الصورة لكي تجيد حبكتها، بعدما اصر هو الاخر على اخذها لعدد من الهدايا والملابس التي أتى بها اليها، كي ترتديها في حياتها العادية، وليست فقط معه:
– الله يا بهجة يعني انتي دخلتي مركز تجميل وكمان كل الهديا دي بتاعتك انتي؟ طب ليه مقولتليش كنتي روحت معاكي واخترتلك؟
ابتلعت ريقها تجيب عن سؤال جنات التي شغفها الحماس:
– يا بنتي ما بقولك، انا قبضت المكافأة من هنا، وست الريسة اصرت تاخدني من ايدي على البيوتي سنتر، والمول المشهور في وسط البلد، رأسها والف سيف اني اجدد من نفسي، وابقى انسانة تانية، الحمد لله ان الهدوم عجبتكم وشكلي بان عليه النضافة.
قالت الأخيرة بمزاح، لتزيد عليها عائشة:
– بان عليكي بس، دا انتي بقيتي طبق بنور ، ما تاخدينا انا والبت الغلبانة دي نقرب من حلاوتك شوية يا بيبو ، وبالمرة تبقششي علينا ونزيط احنا كمان.
ضحكت بهجة في رد لها:
– وهو انتي محتاجة تجميل يا مقصوفة الرقبة في سنك ده، بس لو ع الزيطة ، نظيطك عادي، ياللا شالله ما حد حوش.
– ايوة بقى .
هللت بها الاثنتان، يواصلن معها الحديث المرح، حتى عاد شقيقهم الرابع، والذي ما ان وقعت عينيه على بهجة حتى عبر عن اعجابه:
– ايه الحلاوة دي يا بيبو، لا تكوني روحتي لبنان واحنا مش دريانين.
– يا لهوي حتى انت يا ايهاب!
❈-❈-❈
وضعت رأسها على الوسادة اخيرا، بعد انتهائها من سرد مجموعة الأكاذيب التي اصبحت تجيدها امام اخواتها، كي تبرر لهم التغيرات التي تحدث معها ومعهم.
غير راضية عما يحدث ، ولكن تصبر نفسها انها فترة وستمر، بعدها ستنسى الزواج والرجال وكل شيء ، كل شيء،
اخرجها من شرودها صوت الهاتف الذي دوى فجأة برقمه، لتتوقف لحظات بتفكير عن سبب اتصاله في هذا الوقت المتأخر من الليل، قبل ان تحسم وتجيبه:
– الوو….
جاءها صوته كنغمة هادئة تطرب الاسماع:
– الوو يا بهجة قلبي، انتي نمتي ولا لسة؟
تمالكت تجيبه بصعوبة بعدما بادرها بغزله:
– لا طبعا لسة منمتش، انا يدوب مخلصة رغي مع اخواتي وحاطة راسي ع المخدة، يعني عشر دقايق بس، وكنت هروح في سابع نومة،.
– يا بختك.
توقفت تصلها صوت انفاسه، ثم واصل بنبرته الدافئة:
– انا بقى مش قادر يا بهجة، عمال اتقلب ع السرير، بمين وشمال ، وكل حتة فيا بتصرخ بإسمك، مش قادر انسى قربك ولا حضنك، انا هموت واضمك دلوقتي يا بهجة.
ازبهلت بحالة من التيه، تلجم لسانها لحظات حتى قالت :
– انا مينفعش اجيلك طبعا، حتى لو ينفع، ما اقدرش اسيب اخواتي.
وصلها صوت ضحكة خافتة منه ليردف:
– يا بهجة متقلقيش انا مبطلبش منك تيجيني.
– امال انت عايز ايه؟
تمتمت بها بحيرة:، فجاء رده المباغت لها:
– كفاية ابقى معاكي ع التليفون يا بهجة، تتكلمي ولا حتى تقعدي ساكتة، كفاية احس بنفسك معايا لحد ما اقدر انام، فاهماني يا بهجة؟
– فاهماك طبعا فاهماك.
رددت بها في استجابة له، وبداخلها تغمغم:
– دي باينها ليلة طويلة.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
الصباح
هو الفكرة الجميلة في عقولنا، يوم جديد، يحمل املًا جديد، شروق الشمس التي تفرد ضياءها على بقاع الأرض، ونسمات الهواء الرقيقة، مع الهدوء الذي يعم الأجواء، لتبعث في القلب الحماس للإنجاز وفعل المستحيل.
ليت باقي اليوم يصبح على هذا المنوال، فلا يصيبنا فتور ولا ضجر ولا إحباط.
#بنت_الجنوب
تحدثت بهجة بلهفة وهي تدور داخل المحل الجديد، تشرح على كل زاوية ما ستقوم بفعله مع اخوتها الذين أصابهم الانبهار بدورهم:
– وبكدة يبقى حققنا حلم ابويا وعملنا وكالة بدل اللي ضاع حقنا فيها، ايه رأيكم يا عيال؟
عبرت عائشة عن فرحتها:
– ايوة يا بيبو يا جامد، انا خلصت امتحاناتي، ايدي على ايدك من بكرة، همشيهولك زي المسطرة.
ضحك الثلاثة على قولها لتعلق جنات:
طبعا وتاخدي فرصتك على خلق الله في طولة اللسان، كدة ضمنت انك هتطفشي الزباين .
عبست عائشة بضيق جعل الثلاثة يعودون للضحك حتى توجهت بهجة بالسؤال نحو شقيقها الوحيد الصامت منذ ولوجهم، رغم انبساط ملامحه هو الاخر :
– ايه يا عمنا، انت الوحيد اللي متكلمتش، بتضحك وبس، ولا كأنك قايم بدور المتفرج وسطنا.
خرج صوت ابهاب بابتسامة مرح يفاجأها بقوله:
– اصل بصراحة رغم انبهاري، لكن عندي رأي مختلف، اخاف اقوله متقبليش.
ردت تحفزه بمشاكسة رغم اندهاشها:
– وافرض يعني مختلف ، قول يا سيدي واحنا يا ناخد بكلامك، يا نرميه ورا ضهرنا، دي حاجة اسهل منها ما فيش.
– ماشي يا ستي، تشكري على زوقك، بس انا بتكلم جد، اصل شايفك متمسكة بموضوع الوكالة رغم ان احنا منفهمش اوي فيها، يعني فرص نجاحها مش مضمونة، بدليل ان بابا نفسه الله يرحمه كان مدي مسؤولية ادارته لعمي اللي طمع في كل حاجة لنفسه بعد كدة .
اسنرعى انتباهها بكلماته، لتتخلى عن عبثها وتشاركه الجدية:
– عندك حق، بس دا المشروع اللي على قد فلوسنا، اي حاجة بعد كدة، هتبقى فوق مقدرتنا، وانا بصراحة…. عايزة مصدر دخل مفتوح عشان كمان شغلي مش مضمون…. وو.. ممكن اسيبه في أي وقت.
تقطعها بالكلمات الاخيرة جعلها الشك يتسلل اليهم ، والتساؤلات اصبحت على افواه ثلاثتهم:
– تسيبي المصنع يا بيبة، طب ليه ؟
– وطنط نجوان، هتسبيها هي كمان؟
– استنوا انتوا الاتنين، فهمينا يا بهجة، انتي قصدك ع المصنع ولا نجوان؟
– الاتنين.
قالت تشير بأصباعيها السبابة والوسطى، لتوضح أكثر:
– مش عيب فيهم، بس انا زهقت وعايزة يبقى ليا حاجتي الخاصة، افتح واقفل وقت ما انا عايزة مبقاش تحت امر حد.
وجهة نظرها كان بها من المنطق ما جعل الثلاثة يقتنعون بها، رغم حزنهم على ترك نجوان، ليأتي التشجيع من ايهاب الذي عبر عما يدور برأسه:
– حلو اوي، طب ايه رأيك بقى بمشروع بتكلفة اقل ومضمون ان شاء الله، بدل الوكالة نفتح كافيه، ع الاقل انا ليا خبرة فيه، بحكم شغلي في الاجازات، دا انا مجرب الشغل في كذا واحد، وعارف الدنيا بتمشي ازاي، دا غير انى مستعد اكلم اصحابي يساعدوني في تجهيزه بأقل الإمكانيات وفي نفس الوقت يبقى في احسن صورة .
الموقع هنا حلو اوي ، وليكي عليا لما نيجي تشغله بعد كدة، تبقى الدنيا اسهل والذ بكتير، ها ايه رأيكم؟
بصوت واحد خرج رد جنات وعائشة.
– انا موافقة،
– وانا كمان موافقة
– كدة متبقاش غيرك يا بهجة، ايه رأيك؟
ابتسامة ساحرة أطلت على ملامحها الرقيقة، يغمرها الاعتزاز لنضج شقيقها الصغير في التفكير وتحديد الهدف المناسب، فلا تملك الا رفع يدها في تأييده هي الأخرى:
– وانا موافقة بالثُلث.
❈-❈-❈
هبط الدرج قادمًا من غرفته في الطابق الثاني، ليخطو نحوهم بوجه مشرق لفت ابصار نبوية التي كانت تطعم في هذا الوقت والدته، يغمرها الاندهاش برؤية هذا التغير الذي طرأ عليه، ليختفي التجهم ويحل محله الاشراق بصورة يراها الاعمى، وليس البصير فقط، حتى القى بالتحية نحوهما، بابتسامة زادت من وسامته:
– صباح الخير يا حلوين.
هللت المرأة في ردها له:
– يا صباح النور ع البنور، عيني عليك بارده النهاردة يا رياض باشا.
ازداد اتساع ابتسامته حتى أطرق بشيء من خجل، ليسحب احد المقاعد ويشاركهم الجلسة حول طاولة الطعام، في مقابل والدته التي كانت تلوك الطعام بتأني وابصارها منصبة عليه، ليبادلها النظر مردفًا:
– دا عينك انتي اللي حلوة يا دادة، عاملة ايه يا نجوان هانم؟
لم تجيبه بالطبع ، وظلت تتابع طعامها وكأنها لم تسمعه،
تدخلت نبوية تتكلف بالرد بحرج:
– دي ما شاء الله عليها، اليومين دول بقيت احسن بكتير اوي عن اللي فات، هي بس دلوقتى صاحية مقريفة عشان لساها صاحية، تحب احضرلك تاكل معاها؟
اومأ يصرفها بلطف حتى يستطيع الانفراد بوالدته:
– لا يا دادة الف شكر، روحي انتي وانا هاكل من نفس الطبق اللي بتاكل فيه ماما..
سهمت المرأة ببصرها، فاغرة فاهها بدهشة، لا تستوعب العبارة، حتى عاد عليها مكررًا:
– ما خلاص يا دادة بقولك، روحي بس اعمليلي فنجان قهوة .
تحمحمت نبوية بحرج لتجر اقدامها وتذعن لأمره ذاهبة، ف اقترب هو اكثر بكرسيه نحو تلك الشاردة، يتناول من يدها اللقيمة التي كانت على وشك الدخول الى فمها، لتحط بفمه هو، يلفت انتباهها قائلا:
– اظنك مش هتمانعي اكلها من ايدك ، زي ما كنا بنعمل زمان.
استطاع بلفتته ان يسحب منها استجابة لحديثه على غير ارادتها، لتتوقف عن الطعام وتنصب ابصارها نحوه، فتبسم وقد وصل لهدفه قائلا:
– مدام انتبهتي، يبقى انتي اكيد افتكرتى، ودي في حد ذاتها تقدم كبير اوي.
اشاحت بوجهها عنه بشيء من ضجر وكأنها لا تريد التذكر، فواصل هو :
-،براحتك يا نجوان هانم، ع العموم بمناسبة انتباهك دا ، انا حابب افرحك، مصطفى عزام ابن اختك وحبيبك ، مراته خلفت من يجي اكتر من شهر في لندن بعد عذاب سنين في الانتظار، اكيد لازم تفرحيلهم، ما انتي كنتي الوحيدة اللي مسانداه في جوازه منها عشان بيحبها.
لم يفوت عليه انها ظلت بحالة الصمت ترهف السمع، بعدما جاء بذكر مصطفى، وقد تأكد له الاَن انها حطت بأقدامها على ارض واقعهم، بعد سنوات من الشرود ف عوالم اختلقتها، لتنزوي بها بعيدا عن الجميع.
نهض فجأة ينفض يديه من اثر الطعام، ليميل برأسه نحوها فجأة يهمس بمكر:
– على فكرة هو رجع امبارح والدنيا عندهم قلبان بمناسبة الحدث السعيد، انا حابب اخدك معايا لو تقبلي يعني؟
قالها وتحرك مغادرًا، ودون ان يلتف ببصره نحوها، وقد تيقن داخله بحسن استيعابها للحديث. وكأنه رأى بأم عينيه، ملامح الأسى التي اعتلت تعابيرها من خلفه.
❈-❈-❈
وفي ناحية اخرى
استيقظت تلك الجميلة، تتحسس برودة الفراش وقد خلى مكانه بجوارها، بعدما نهض وتركها منذ وقت لا تعلمه، لتنهض باحثة عنه، فوقعت عينيها عليه، داخل الشرفة جالسًا بشرود، هذه اول مرة تحدث منذ زواجهم ، الا يوقظها هو على كلمات الغزل ولا مداعباته في تدليلها، وإعطاءها الثقة في انوثتها .
ثم تجده الاَن بهذا الشرود في جلسته، لفت كتفيها بالشال الثقيل لتذهب اليه وتبادره بإلقاء التحية الصباحية.
– صباح الخير على اللي صحي من جبلي وسابني.
التف يجيبها بابتسامة مختلفة عن تلك اللهفة التي تقابلها منه كل صباح:
– صباح الخير يا قلب شادي، تعالي اقعدي جمبي، الهوا هنا يرد الروح.
اقتربت بالفعل وفتور حل بها لتجلس في المكان الذي اشار عليه ، فتسائلت على الفور بقلق:
– شادي هو انت في حاجة مزعلاك؟ شكلك ميطمنش.
تحمحم ينفي برأسه لكنه عاد سريعًا يجيبها:
– مش عايز اقلقلك ، بس انا فعلا مضايق، التليفون كنت عامله بوضع الصامت قبل ما انام امبارح، الصبح لقيت كذا محاولة اتصال من رحمة، خوفت لتكون حاجة حصلت لماما، قولت اتصل واشوف، لقيتها بتقولي انها راحت على بيت حماها امبارح مع جوزها يزورهم، عشان خالي خميس مضايق على رأيها ومخنوق، المهم انها عرفت هناك ان ولاد خالي خليل عزلو وسابو البيت من غير ما يبلغوا حد بمكانهم.
توقف يزفر انفاس خشنة بصوت وضح ما يعانيه، يشيح ابصاره للناحية الأخرى، مما اجبرها للتساؤل:
– يعني هو دا اللي مزعلك، انا اعرف ان بهجة عاجلة واخواتها كبار يعني ان شاء الله ميتخافش عليهم.
عاد اليها بملامح يكسوها الحزن:
– انا عارف كل اللي بتقوليه يا صبا، لكني برضو مخنوق، بهجة واخواتها مش هسيبوا بيتهم الملك، وبالصورة دي، الا اذا كان فاض بيهم، خالي خميس ومراته وولاده قادرين يطفشوا قبيلة بحالها، اشحال المساكين اليتامى….. قلبي بيتقطع مية حتة من جوا يا صبا، للمرة الثانية اعجز عن حمايتهم.
صدرت الاخيرة بانفعال، صدح من قلب الكبت، وكأنه كان في انتظارها ليخرج صرخته:
– نفسي اعرف عملوا ايه معاهم عشان يوصلوهم للدرجة دي؟ انا مش فاهم دلوقتي، اروح أمسك في خناق خالي خميس اللي سابهم من غير ما يعرف حتى المكان اللي هيعزلوا فيه، ولا احاسب ولاده على تناحتهم، دمي بيغلي ومش عارف اعمل ايه.
امتدت يدها لتقبض على كفه الكبيرة، تحاوطها بدفء كفيها الاثنان، تهون بحنان:
– لا دا ولا دا يا شادي، انت هدي اعصابك ودور عليهم ، شوف راحوا فين واسألهم الاول عن السبب، عشان تعرف بعدها تحدد موقفك.
رد بقلة حيلة:
– ما انا مش عارف يا صبا، بتصل برقم بهجة مقفول، باينها غيرت الخط كمان ، حاسس مخي كأنه مشلول .
– بعد الشر عليك من الشلل، اهدى انت كدة الاول ومن غير عصبية ولا توتر، اكيد هتلاقي حل يوصلك لعنوانهم.
تمتم بتمنى خلفها وقد ساهمت كلماتها في التخفيف عنه:
– يارب يا صبا يارب .
تذكر فجأة يخبرها بما اذهب عنها السكينة:
– اه صحيح نسيت اقولك، مرات خالي درية وبنتها جايين النهاردة يباركوا رجوعنا من شهر العسل .
عبست ملامحها فجأة ليرتفع طرف شفتها باستهجان مرددة:
– يا سلام، وهما اصحاب واجب جوي يعني، ولا شهر العسل كمان بجي مناسبة!
لا يدري كيف تحول مزاجه من غضب وسخط شديد، الى تسلية وضحك متواصل، لا يستطيع التوقف عنه، خلف تعقيبها العفوي، وتذمرها الذي اصبحت تعبر عنه بالضربات المتتالية على ذراعه ، تتمتم بالكلمات الحانقة.
❈-❈-❈
دلف بها داخل الغرفة بخطوات وتيدة، وبحرص تام وضعها على الفراش، ليريحها قليلًا، بعد قضاءها ليلة كاملة ونصف يوم تحت الرعاية الطبية المكثفة في المشفى، بعد محاولة الخطف الفاشلة والاغماء.
كان صامتًا طوال الوقت، أو بكلمات مقتضبة يحدثها ويسألها عن صحتها، حينما يريد أن يطمئنها، حتى وهو قد اتى بها الى المنزل الاَن، مازال على حالته، مازل على وجومه، ولكن هي لن تكست على الصمت اكثر من ذلك:
– عصام، انت ساكت ليه مبتتكلم؟
رد يجيبها منشغلا بخلع سترته، ثم يشرع بخلع الباقي:
– واتكلم اقول ايه يا امنية؟ وانتي لسة تعبانة؟
تحاملت لتجلس بجذعها عن الفراش :
– بس انا عايزة اسمعك وتسمعني، دا انا حتى اتوقعت ان حد منكم، انت او امين يجي يحقق معايا، لكن محصلش.
مازال محتفظًا بتلك النبرة الهادئة:
– وهنحقق معاكي ازاي بقى وانتي تعبانة وواخدة مهدىء؟ نامي يا امنية نامي، ولا استني صحيح.
قال الاخيرة ليخلع اخر جزء من ملابسه، ويستبدله بأخرى بيتيه مريحة، ثم اقترب منها، ليخلع عنها حذائها فانتفضت تبعد قدميها للخلف قائلة بحرج :
– لا ابعد انت ، انا هقلع الجزمة وهدومي لوحدي.
التقط قدمها بحزم متمتمًا:
– انا جوزك مش غريب عنك،
اضطرت في الاخير ان تستكين ، ثم ابدل لها ملابسها هي ايضا.
حتى اذا انتهى ليلقي بهم داخل سلة الملابس المتسخة، سألته مباشرة:
– عصام، سكوتك دا مش مريحني، وانا عايزة اتكلم عشان افهمك ان البني ادم اللي حاول يخطفني يبقى……
– ابراهيم
جفلت لتبرق عينيها فجأة، تتسائل كيف علم؟
– ايوة هو فعلا، ربنا ياخده كان هيعمل بيا حادثة، بالسرعة الشديدة اللي كان بيسوق بيها، انا مش فاهمة، دا جاب الغباء دا كله منين عشان يعمل معايا كدة؟ بس انت عرفت ازاي ؟
اقترب يجيبها مركزًا عينيه بخاصتيها وبهدوء يثير الريبة:
– الكاميرات جابته يا امنية وهو بيجري وبيسيب العربية، قبل ما البوليس يقفشه، السؤال بقى، انتي ركبتي معاه ازاي؟
– مكنتش اعرف ان هو اللي سايق والله يا عصام، دا كان متنكر، وانا راجعة من السوبر ماركت ومحملة، مركزتش ابص في شكل السواق.
رددت بها بدفاعية، فلم تجد منه سوى استجابة، بهز رأسه يدعي التفهم، قبل ان يشيح ببصره يتناول المنشفة قائلًا بفتور:
– انا داخل اخد شاور افك عضم جسمي.
ثم انصرف لداخل المرحاض بالفعل، وكأن الأمر ليس بهذه الخطورة، وكأنه…….
استدركت تفتح عينيها على وسعها مرددة بما وصل اليه ذهنها:
– معقول تكون شاكك فيا يا عصام!
❈-❈-❈
في مقر عمله، وقد تصادف اليوم اجتماعه بشريكه لبحث عدد من الملفات بينهما، ولكن ذهنه كان مشغول في التفكير بها ، وتحسر يسري بداخله، يجعله يشعر بالتشتت لعدم الالتقاء بها منذ الصباح، رغم ان المسافة بينهم لا تتعدى الامتار ، وبداخل مبنى واحد، وطابق واحد، ليته امتلك الجرأة ليسحبها من يدها امام كل أعضاء المكتب من موظفيه، الاَن فقط شعر بغباءه في السماح لها بالاستمرار في العمل في نفس المكان الموجود به.
ليته ذهب معها لرحلة خارج المدينة بأكملها،. يقضي شهر عسل، لينسى معها العالم، وهذا العمل الذي فقد التركيز به من الاساس، حتى انه كان يجاهد بصعوبة ليستوعب امام شرح الاخر، والذي انتبه عليه عدة مرات بفراسته حتى عبر عن استيائه:
– جرا ايه يا عم رياض بس، دي اول مرة تبقى معايا كدة؟ ايه اللي واخد عقلك يا حبيبي؟
تحمحم يعتدل بجذعه نافيا باعتراض:
– يعني هكون سرحان في ايه بس؟ تقدر تقول كدة صداع مأثر عليا، اسف لو مش مركز معاك.
– لا يا حبيبي الف بعد الشر عليك من الصداع، طب المها انا ونأجل النقاش لميعاد تاني.
اومأ بابتسامة صفراء:
– اسف لو فيها تعطيل .
– لا يا حبيبي مفيش تعطيل .
تمتم بها كارم، يلملم الملفات والاوراق، ثم يختطف النظرات نحوه بمكر مشاكسًا:
– انا قولت بعد يوم الاجازة اللي اختفيت فيه، هترجع مروق وعقلك صاحي، لكن شكلى اتوقعت غلط، وبدل ما تفوق غطست اكتر …
قطب يطالعه بعدم فهم:
– هو ايه اللي غطست اكتر؟ انت بتتكلم بالالغاز يا كارم.
تبسم باتساع لينهض عن كرسيه مغمغفا:
– لا يا حبيبي ما تشغلش نفسك، اتمنى بس الصداع ميستمرش اكتر من كدة، لتبقى حوسة، اروح انا اشوف اللي ورايا ، سلااام.
قالها ثم خرج ليزفر الاخر، يكتنفه الضيق وعدم الارتياح، للتلميحات المستمرة هذه الايام من شخص داهية كهذا، ولكن ماذا بيده؟ وماذا يفعل كي ينفي عن ذهنه هذه الفكرة، وهو يلتقطها كالصقر، فلا يحتاج حتى للتلميح.
وبدون ان يشعر، وجد يده امتدت لتلتقط الهاتف من فوق سطح المكتب يتصل بها، حتى اذا جاءه الرد منها، امرها على الفور :
– سيبي اللي في ايدك وتعاليلي حالا من الباب الخلفي للمصنع، انا مستنيكي في العربية.
انهى المكالمة لينهض، فيتناول اشياءه كعلاقة المفاتيح والهاتف والنظارة، وسحب اقدامه للخروج على الفور حتى اذا مر بمديرة مكتبه خاطبها:
– لورا انا خارج دلوقتي، أجلي أي حاجة لغاية ما ارجع بعد شوية او بكرة.
لاحقته بسؤالها قبل ان يذهب:
– طب والملفات المهمة والمطلوبة وضروري البت فيها، دا كمان يتأجل؟
مط شفتيه بابتسامة ليس لها معني:
– عادي يا لورا ابعتيلي ع الايميل، وانا هشوف اللي يستاهل الاستعجال .
– طب ما تقولي انت رايح فين عشان افهم .
صدر السؤال منها فور ان اعطاها ظهره للمغادرة، ليتوقف ويلتف اليها بهدوء لا يخلو من تحذير:
– اروح مطرح ما انا عايز، انت تسألي ليه يا لورا؟
ابتلعت رمقها بحرج شديد لتبرر:
حضرتك انا بسأل بس عشان الشغل مش عشان……
قطعت مجبرة بعدما اماء لها بكف يده في الهواء، بحزم ينهاها:
– انا مش هكرر كلامي، في حاجة مهمة تبلغيني، بعد كدة مفيش داعي لأي اسئلة تاني، سلام.
❈-❈-❈
اذعنت لتنفيذ الأمر، برغم حنقها المبالغ فيه من فعله، وما قد يتسبب به من حرج لها امام زملائها في المكتب، كي تخرج في هذا الوقت المبكر عن ميعاد الانصراف .
اقتربت من السيارة المصطفة في نفس المكان الذي وصفه لها، لتفتح الباب الامامي فتنضم للجلوس بجواره، متمتمة بضجر:
– ها ايه الأمر المهم بقى عشان تستدعيني في نص يوم العمل ؟ وتخليني انزل على ملا وشي كدة عشان اقابلك؟
اجابها بتنهيدة حارة وراسه تقترب منها:
– وحشتيني.
ارتدت بجذعها للخلف شاهقة بإجفال ، حينما انتبهت، لما كاد ان يقوم به، وقد اوشك على تقبيلها، لولا انها انتبهت على اخر لحظة ، لتبتعد سريعًا ويلتصق ظهرها بنافذة السيارة بزعر قائلة:
– انت كنت هتعمل ايه؟
ضحك بتسلية لرؤيتها على تلك الهيئة، يجيبها مرددًا:
– بقولك وحشتيني يا بهجة، يعني عادي جدا اقربلك واعبر عن اشتياقي بطريقتي..
– يا سلام، يعني وحشتك تقوم تبوسني في العربية وفي نص النهار، كدة عادي.
هتفت بها معترضة، ليباغتها الاخر مرددًا:
– عندك حق طبعا، احنا لينا بيت يلمنا .
بذهول شديد، طالعته يدير محرك السيارة، حتى كاد ان يسير بها، لتنهاه بغضب:
-تروح بيا على بيتنا ازاي يعني؟ انا لسة دوامي مخلصش، عايز رئيس المكتب يقول عليا ايه؟
– عنه ما انتهى، ما انا كمان ورايا شغل، نروح وبعدين نشوف اللي ورانا.
– وشكلي قدام الراجل، هيقول عليا ايه؟
صاحت بها علُه يستوعب ، ولكنه فاجئها كالعادة بقوله:.
– يقول اللي يقوله بقى، يعني انا اكون سايب شغل بملايين يا بهجة، وانتي جاية تسأليني على منظرك قدام عبد الفضيل! اما انتي غريبة والله.
– غريبة.
❈-❈-❈
الساعة الاَن تعدت الحادية عشر، لكن لابأس، فقد استقيظ اليوم باكرا الى حد ما عن باقي الايام السابقة، ليتحمم ويرتدي ملابسه سريعًا، ينثر عليه العطر بكثافة، متجاهلا صوت الهاتف الذي يدوي منذ ساعات ، ولكنه غير مهتم ، ولن يهتم، فلن يشغله الاَن سوى شيء واحد، بعدما عرف مساء الأمس من سائق السيارة النقل التي اقلت الاثاث بعنوانها،
سوف يصلح خطأ الماضي، سوف يظهر لها الاَن تغيرا شاملا بشخصيته، لن يصير بعد الاَن الجبان الذي لم يقوى على الوقوف امام اهله لاستعادة حقها، ف ليتحدى اباه وجبروت والدته والجميع، لقد فعلت خيرا بابتعادها، ليأخذ فرصته كاملة الاَن، ولا يعكر صفوه التدخل من احدهم، وما فشل فيه سابقُا، لن يتكرر بعد اليوم.
اغلق باب شقته ليهبط الدرج بحماس يملؤه، حركات رشيقة تنم على سعادته بما قادم نحوه، القى بنظرة سريعة على المنزل الخالي، يتنهد باشتياق، ثم توجه بأبصاره للأسفل، ليصعق برؤية ما جعله يرتد بجسده للخلف قليلًا، ولكنه سرعان ما تماسك ، ليجسر نفسه ويتصرف بطبيعية، رغم القلق الذي اصبح يسري بداخله، مع انتباهه لهذا التجهم الذي يعلو ملامح والديه، حتى الملعونان اشقاءه، تبًا، وكأنهم واقفين في انتظاره،
وفي الأسفل صاح خميس بستقبله بابتسامة ساخرة:
– اهلا اهلا بالباشا اللي صحي بدري النهاردة ، ومستناش للعصر يأدن عليه زي كل يوم، تكونش يا خويا قلبك حاسس.
عبس سمير بتوجس يرد على توبيخ ابيه:
– قلبي حاسس بإيه؟ وانتوا ايه واقفين بربطه المعلم كلكم كدة ليه؟ اللي يشوفكم يقول في مصيبة حصلت.
جاء الرد هذه المرة من والدته، التي زجرته بحدة:
– انت بتقول فيها، ما هو انت بتناحتك دي والبلالة اللي عايش فيها، هتحصل المصيبة بجد، انت ما بترودش على تليفونك ليه من الصبح يا زفت انت؟ لزمته ايه في ايدك دا من اساسه؟
القى بنظرة سريعة نحو الهاتف بعدم اهتمام قائلا:
– كنت عامله صامت ومكنش ليا مزاج ارد على حد ، ايه اللي حصل بقى؟
– اللي حصل هو ان ابنك ممكن يموت لو ملحقناهوش .
بصقت بها شقيقته الصغرى بصورة اجفلته ، ليتولي سامر التوضيح:
– مراتك حصل معاها ولادة مبكرة، والولد تعبان جدا، اهلها كانوا بيتصلوا عليك عشان تحضر معاهم، ولما يأسو منك اتصلوا على ابوك، ابنك لازم تلحقه لا تحصل معاه مضاعفات لا قدر الله وميتحملش.
بدت ملامح الصدمة جليا عليه، حتى تشوش بحيرة، ما بين الذهاب الى الوجهة التي كان يقصدها، وما بين طفله المريض، ولكن حيرته لم تستمر كثيرا، فقد حسم خميس الامر يهدر به:
– انت لسة هتفكر يا خويا، اتحرك يلا خلينا نروح نشوفهم، ع الاقل نوري وشنا اللي اسود من عمايلك، وانت يا سامر اتولى شغل الوكالة النهاردة لحد ما نرجعلك.
❈-❈-❈
– بتعملي ايه يا بهجة؟
هتف بها عقب خروجه من المرحاض، حينما وقعت عينيه عليها ترتدي ملابسها على عجالة امام المراَة، فالتفت نحوه بإجفال تجيبه وبيدها تلف الحجاب حول رأسها :
– يعني هكون بعمل ايه؟ بلبس طبعا عشان امشي .
سمع منها ليزفر بضيق متوجها نحوها، ينزع عنها الحجاب بيده قائلا بضيق:
– وكنتي ناوية بقى تمشي من غير ما تقولي، ولا حتى تنتظريني على ما اخرج من الحمام؟
طالعته بأعين متسائلة، تخطف النظرات نحو الحجاب الذي كان ممسكا به، ثم القاه من يده ليسحبها اليه بعد ذلك يردف بنبرة تحولت للدفء:
– دا احنا حتى ملحقناش لسة نقعد ساعة على بعضها.
قالها ثم صار يمسد بأنامله على جانب وجهها ويزيح شعرها للخلف، بنعومة تثبط من عزيمتها، حتى خرج صوتها برجاء:
– ارجوك بقى، انا مينفعش النهاردة كمان اتأخر على نجوان هانم، غيبت عنها كتير الايام اللي فاتت.
اقترب يدفن انفه بين خصلات شعرها الكثيف، يتمتم بوله، وهو يستنشق عبيرها:
– طب اعملك ايه؟ وانا ما صدقت الاقيكي بين ايديا، مش قادر اسيبك ولا ابعد عنك يا بهجة، عايز اليوم كله ابقى في حضنك وبس، شوفي بقى حظي ، وانا معاكي في نفس المبنى، وميفرقش عننا غير حاجة بسيطة، ومع ذلك مش قادر اطولك، ولا احتى اجيلك مكانك في مكتبك واطل عليكي واكلمك،
مكنتش اعرف ان شغلك جمبي هيتعبني بالشكل ده، يا ريتني ما وافقت على الشغل من اساسه بعد ما اتجوزتك.
ابتعدت برأسها تتمعن النظر بوجهه لتستشف صدق حديثه،
هذا الرجل سيفقدها عقلها بالفعل، ان لم يكف عن هذه الرقة المبالغ فيها، وإظهار اللهفة وتلك المشاعر التي يبثها لها في لحظات الوصال.
أم ان هذا امر طبيعي، وهي الوحيدة التي ليس لديها من الخبرة ما يجعلها تتقبل ذلك، وتبادله اياه، حتى لو كان الزواج بغرض ال….
نفضت رأسها لتستعيد بأسها واضعة النقط على الأحرف:
– انا لو بطلت شغل من عندك ، يبقى هبطل من كله والتفت للمحل بالمرة، الشغل دلوقتي هو الحجة اللي بخرج من خلالها عشان اقابلك على ما……
– ما تكمليش بقى.
قاطعها بنزق يشدد من احتضانها، مرددًا بضجر:
– هو انتي حرام تعدي اللحظة من غير ما تفكريني، سيبيلي عواطفك ولو لدقايق، عشان خاطري يا بهجة، عشان خاطري.
ماذا تفعل؟ ومن اين تجد القوة لرفض ذاك البحر الهائج من المشاعر، حتى وهي تقاوم بكل قوتها، تغلبها امواجه العاتية، فتبتلعها بداخلها على غير ارادتها.
بعد قليل
نزل بها للطابق الأول. وما زال يضمها اليه بذراعه، يغمرها بدفئه ورائحة عطره المميزة، غير عابئًا بالوقت الذي يؤرقها هي، ولكنها تصبر نفسها، حتى لا تزعجه بالتذكير المستمر كما اوضح.
– انا كنت عايز اخرج بيكي نتغدى في اي حتة برا النهاردة……..
فور ان افتر فاهها للإعتراض، تابع يوقفها:
– بس عشان عارف انك مشغولة طبعا شيلت الفكرة من دماغي…… أو بمعنى أصح أجلت…..
زفرت قليلًا بارتياح ثم قالت:
– كويس اوي، لأن انا مخي مش معاك اساسا، وبصراحة بقى حاسة بعدم ارتياح .
توقف يبعدها عنه قليلًا يسألها بنبرة يتخللها الحزن:
– ليه يا بهجة؟
ابتلعت تجيبه بصراحة:
– اولا عشان منظري في الشغل طبعا، كتر الانصراف هيثير التساؤول والفضول، وانا بصراحة مش عايزة حد يقول نص كلمة عليا .
ضاقت عينيه بتفكير سريع:
– خلاص يبقى ننظمها،…… انتي كل يوم تخرجي على ميعادك، وتيجي على هنا تقضي الوقت اللي فاصل من دوامك مع الست الوالدة، مع اني شايف انك تتخلي عن واحدة فيهم دلوقتي، وتوفري وقتها ليا انا…..
سهمت بنظرها نحوه تستوعب معنى الاخيرة، مع انها بدت واضحة كوضوح الشمس ، يريد منها اكبر وقت للتفرغ اليه، اللعنة، ايريد منها الغرق اكثر من ذلك!
لترفض قاطعة؛
– لا طبعا مينفعش، هقعد ف البيت هنا لوحدي في انتظارك اعمل ايه؟ خليها زي ما هي ماشية كدة،
اومأ بحاجبيه:
– براحتك يا بهجة، يبقى كدة خلينا في الحل الأول.
اومأت باستسلام، وتنهيدة خرجت من العمق:
– ماشي
❈-❈-❈
من يريدك بحق او يخاف عليك، سيفعل المستحيل حتى يجدك.
وهذا ما فعله، فلم يهدأ له بال منذ بداية اليوم، ظل يبحث حتى عثر على احدى الخيوط التي اوصلته الى فرد منهم.
جنات والتي كانت خارجة من جامعتها في هذا الوقت، في طريقها للعودة الى المنزل، لتفاجأ بالصوت الأجش من خلفها، مناديًا بإسمها:.
– جنات ممكن دقيقة.
التفت اليه، تهديه ابتسامتها المعتادة، لتعلق بمرح:
– ايه ده ؟ شادي العريس؟ لا مش معقول .
اقترب منها يصافحها بغيظ:
– انا برضو اللي مش معقول؟ ولا انتوا اللي هجيتو من غير ما تبلغوا حد بمكانكم، دي عمايل برضوا يا جنات؟
بدى جيدا من حجم العرق الذي يغطي جبهته وقميصه، طول الوقت الذي قضاه في انتظارها، ليخرج ردها باعتذار:
– انا اسفة يا شادي، ان كنا قلقناك، بس انت مكنتش فاضي عشان شهر العسل طبعا، لكن احنا اكيد عمرنا ما كنا هنخبي عنك المكان اللي عزلنا فيه جديد.
زفر بشيء من الارتياح، ليتخصر قائلًا:
– بداية مبشرة اوي يا ست جنات، بس انا عايز اطمن بنفسي، واعرف الظروف اللي خليتكم تعملوا كدة، وامتى وازاي دا حصل؟
أومأت بترحيب:
– خلاص يبقى تتفضل معايا على بيتنا، وانا افهمك كل حاجة في طريقنا .
– تمام اوي، يبقى اوصلك بعربيتي بالمرة.
❈-❈-❈
وجدتها كما وصفت لها الدادة نبوية، داخل الحديقة تتأرجح بالارجوحة، بشرود اصبح ملازمًا لها كما علمت من المرأة، فاقتربت منها لتجلس بجوارها، تتحدث بعفوية كما اعتادت عليها في الفترة الأخيرة ، بعدما تطورت العلاقة بينهم ، لتصبح اكثر دفئًا وتفهمًا عن السابق:
– الحلو اللي قاعد سرحان وفي حاله، ايه اللي شاغل باله؟
خرجت من شرودها نجوان تطالعها بصمت دون رد فتابعت بهجة بالمزاح كي تستجيب لها:
– اه يا عم بتتمرجحي، الدنيا تضرب تقلب ولا هامك، والله برافو عليكي
لم يصدر منها اي رد فعل سوى انها كانت تتمعن النظر اليها وفقط، عيناها تحمل الكثير والكثير، ولكن لا تنطق ولا تربحها بذرة استجابة، حتى هتفت بها بهجة:
– انتي فيكي حاجة غريبة النهاردة، زعلانة عشان غيبت عنك، ولا في ايه بالظبط؟
ايضا لم تنطق لتفقد بهجة فيها الامل وتنهض فجأة قائلة:
– ع العموم انا جمبك هنا في أي وقت تعوزيني او تعوزي أي حاجة .
ما ان اعطتها ظهرها وخطت خطوتين حتى وصل لاسماعها:
– شبهه.
التفت اليه بتسأؤول:
– انتي قولتي حاجة؟
استقامت واقفة عن الارجوحة تمتم بلها بما يثير الريبة:
– شبهه، شبهه.
قالتها وتحركت تذهب من امامها، لتزيد من زهول بهجة في تفسير ما حدث:
– هو مين اللي شبه مين؟ هو انتي ايه حكايتك يا نجوان هانم معايا بالظبط في الالغاز.؟
ظلت لمدة من الوقت تتابع اثرها بتساؤلاتها وحيرتها، حتى شعرت بأنامل تداعب وجنتها، لتلتف اليه متفاجئة بحضوره:
– انت هنا من امتى؟ مش قولت وراك مشوار مهم تبع العملا.
تبسم يفرد نفسه امامها:
– ما انا فعلا ورايا مشوار مع عميل مهم، بس بصراحة مقدرتش ادخل اغير من غير ما اطل عليكي، كنت واقفة بتكلمي نفسك ليه؟
تنهدت بحيرة تخبره:
– مش عارفة اقولك ايه؟ بس مدام نجوان عليها طلعات وكلام مش مفهوم بصراحة
قطب يسألها بتوجس:
– هي قالتلك ايه؟
– بتقولي شبهه، شبهه، قصدها ايه مفهمتش.
سمع منها لتتبدل ملامحه فجأة، يزفر بخشونة وغضب مكبوت:
– سببك منها يا بهجة ومتركزيش معاها.
اومأت بطاعة، رغم الفضول الذي يجتاحها لمعرفة القصد من كلماتها .
فتماسك هو يزيح عنه الغضب، ليداعبها ممازحًا:
– بس انتي شكلك زي القمر هنا، ايه رأيك اعتذر عن ميعاد العميل واقضي باقي اليوم معاكي .
شهقت تتحرك من امامها تغمغم اثناء ذهابها:
– هنا في البيت، دا انت ناوي على فضيحة بجد ، انا ماشية وسيباك .
قهقه من خلفها، ليصلها الصوت المحبب لهذه الضحكة التي لا تسمعها منه الا حينما يكون معها فقط.
❈-❈-❈
في المنطقة عشوائية، وداخل احدى المنازل المصنوعة
من الصفيح اضجع بجذعه على الاريكة اليالية يتحدث مع زميله في المحبس سابقا بكل ثقة:
– ياض زي ما بقولك كدة متخافش، انا معايا محامي عقر، يعني حتى لو قفشوني متلبس هخرج منها صاغ سليم ، هو بس كرشه واسع شوية وبياخد فلوس بالهبل
اومأ بتفهم ذاك الشاب النحيف، بملابسه الضيقة وحلاقة الشعر المرتفع للأعلى بصورة تثير الاستفراز ، ليجلس على الكرسي المقابل له، معبرا عن مخاوفه:
– ماشي يا عم هيما مقولتش حاجة، انا اهم حاجة عندي ان متلطش معاك، المسألة مش محتاجة عوق، عشان الشغل ميقفش، المعلم بتاعي صعب ومبيرحمش.
اصدر ابراهيم من فمه صوت استهجان يتمتم بسخرية:
– دا على اساس انك موظف في الحكومة يا اخي، امال لو تاجر كبير، ولا ديلر عليك القيمة كنت عملت ايه؟ دا انت اخرك بياع برشام ع الطريق ومساحيق مضروبة، اسمع ياض، ليك فلوس اغرقك فيها ، وحماية لو اتطور الأمر، فهمت بقى يا عزوز الكلب
– اه
تمتم الاخير بها، ليتذكر السبة فيهدر معبرا عن استيائه:
– طب من غير شتيمة طيب، انا هاديك الامان بفلوسك،
طول ما بتصرف هتلاقيني تحت امرك، انما يوم ما توقف ، معلش بقى يا زميلي اعذرني، اصل بصراحة بقى جيتك كدة فجأة مكنتش عامل حسابها.
ردد ابراهيم من خلفه:
– ولا انا وحياة غلاوتك. كنت عايز بس اهددها واجيب اخرها، لكن الحظ بقى قلب فجأة ، بعد ما كل حاجة كانت ماشية بالتمام .
– عشان ضميرك الوسخ.
تمتم بها عزوز بصوت خفيض اثار استرابة الاخر ليهدر به:
– بتبرطم بتقول ايه ياض؟
نهض عزوز نافيا:
– مبقولش حاجة يا رياسة، خد راحتك انت وانا هروح اشوف شغلي، بس معلش في دي السؤال، كنت عايز اعرف يعني الباشا هنفضل مستضيفينه لحد أمتى؟
– مش كتبر يا اخويا، هي يس الليلة لزوم التكتيك، ومن بكرة هشوف المحامي يقولي ايه، ياللا غور بقى من وشي، حضرلي حاجة اكولها، اتحرك ياللا بلاش تناحة.
تحرك الشاب مزعنا لأمره، وفمه يغمغم بالسباب الوقح، على هذا المتبجح الذي اتى بدون استئذان يحتل البيت ويتأمر عليه.
❈-❈-❈
انتهى اليوم المزدحم، لتعود الى منزلها، موطنها، وواحة الدفء التي تجد بها امانها وسكينتها ، فتحت الباب لتلج المنزل على صوت الضحكات الصاخبة من اشقاءها،
فتضع الاكياس الكثيرة من يدها على الارض تود المشاركه معهم، مبادرة بالقاء التحية،
، مساء الخير….
توقفت عن الاكمال متفاجئة بالضيف الجديدة، والذي استقبلها بابتسامة غير مفهومة:
– مساء الخير يا بهجة، البيت روعة ما شاء الله، مبروك عليكي المكافأة اللي جابته
شحبت بوجه انسحبت منه الدماء متسائلة عن القصد من تلميحه، تعتب على اشقاءها ذكر هذا الأمر امامه، وهو الذي شهد بنفسه توقف الصراع في محاكم الدولة، بفشل حصولها عليها وانتصار الخصم.
لتضرع داخلها للخالق
– استر يارب
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
لذة الوصول
هل أتى عليك الوقت وشعرت بها؟ تلك الخفقة القوية التي تنتابك في تحقيق الحلم، وامتلاك الشيء الذي تذوقت مرار الصبر في سبيله، رجفة الأطراف حينما لامسته او امسكت به بين يديك.
ما أصعبه من احساس وما أجمله؛ حين يمر عليك شريط الذكريات وما مررت به من مصاعب حتى وصلت لتلك اللحظة
اذاقكم الله واذاقنا حلاوة الوصول اليها .
#بنت_الجنوب
رغم مرور اكثر من شهر على مولده، وحمله له عدة مرات ، الا انه حتى الاَن مازال تغلبه العاطفة بفرحته، فلا يقوى على كبت تلك الدمعة التي تفر من عيناه تأثرا بمجيئه الى عذا العالم، قطعة غالية من حبيبة قلبه حصل عليها اخيرا، بعد عناء ومشقة وعذاب في انتظار المستحيل، ولكنه حدث في الاخير بفضل الله وكرمه.
– تاني يا مصطفى برضو بتدمع؟ انا الأحسن اني احرم عليك ما تشيلو بعد كدة .
قالتها نور، وهي عائدة بعبوة الحليب التي اعدتها للطفل، لتأخذ مقعدها بجواره ، تجلس متربعة على الفراش، فتدعي الحزم وهي تتناوله من ذراعي ابيه بحرص، والذي ظهر التأثر في صوته وهو يشاكسها:
– لو تقدري اعمليها، او امنعي انتي نفسك من العياط لما
يسهرك طول الليل وميرضاش ينام.
فغرت فاهاها باستنكار وذهول:
– بتتريق عليا يا مصطفى، طب عقل انت ابنك الاول وخليه يهدى عن جنان الليل وانه ميتعبش مامته في الوردية اللي بيستلمها عليها.
قهقه ضاحكًا بصخب، ليعقب بمرح كلما خرج منها هذا الحديث:
– حاضر من عيوني، بطل تتعب مامتك يا ولد.
صدرت الاخيرة مخاطبًا لطفله لتتبسم هي قائلة:
– يا سلام عليك يا مصطفى، انا كدة ضمنت انه سمع الكلام، الف شكر بصراحة لسيادتك.
اومأ واضعًا كفه على صدره:
– العفو يا قلب مصطفى، مفيش داعي للشكر اساسًا.
انفجرت ضاحكة، لتميل برأسها على صدره، ويضمها بذراعه هي والطفل الذي تطعمه، يستمتع بدفء عائلته الصغيرة ، في لحظات يسرقها من الزمن، يهرب فيها من التزماته وأعماله التي لا تنتهي حتى في وقت نومه
❈-❈-❈
كما توقعت ورغم انه استمر طويلا في جلسته مع اشقاءها، وهي حاولت التصرف بصورة طبيعية معه، تجاهد لإخفاء الارتباك في حضوره، الا انه استطاع في الاخير ان ينفرد بها داخل الحديقة الصغيرة عقب استئذانه في الذهاب وقيامها هي بتوصيله، ليقف الاَن مواجهًا لها، يطالعها بصمت ابلغ من الف كلام،
ورغم التوتر الذي كان يعصف بها، الا انها ابدت ثباتًا يثير الاندهاش امامه، مما شجعه على الأستفسار مباشرةً:
– ليه كدبتي على اخواتك يا بهجة، والبيت دا اساسه انتي جبتيه ازاي؟
حينما صمتت قليلًا اردف :
– انا عارف اني مليش حق في السؤال، بس انا مش قادر يا بنت خالي، الخوف اللي طير مني الراحة من ساعة ما عرفت بعزالكم من البيت، هو نفسه الخوف اللي عاصر على معدتي دلوقتى، وانا دماغي هتشت ورايحة في مية اتجاه، من بعد ما عرفت بقصة المكافأة اللي اتحكم فيها من زمان لصالح الخصم .
استمرت لبرهة اخرى من الوقت قبل ان تحسم قرارها من الداخل قائلة:
– بس انت متأكد، وعارف بأخلاقي كويس.
– دي مسأله مش محتاجة سؤال، انتي بس اتكلمي واي حاجة هتقوليها انا هصدقها، المهم تريحي قلبي يا بنت خالي، فلوس البيت والمحل جات منين يا بهجة؟
– من جوزي
اجفل يستوعب الجملة القصيرة، لتعيد عليه هي بتأكيدها:
-،ايوة يا شادي، انا متجوزة في حلال ربنا، واحد مقتدر فوق ما تتخيل، هو اللي مكني بفلوسه اشتري البيت والمحل، ولو طلبت هيديني تاني كمان، بشرط اني احتفظ بجوازي منه في السر
– في السر!
ردد بها بصدمة وعدم تصديق، لتتجاوز هي غصتها في شيء مخزي كهذا امامه، فتأكد:
– ايوة يا شادي، انا بقولك الحقيقة اهو ، حتى وانا عارفة ان ممكن انزل من نظرك ، بس انا معملتش حاجة حرام، ولولا ثقتي فيك، ما كنت ابدا هقولك
أطرق برأسه يحاول التريث واستيعاب المفاجأة، حتى لا يغلبه غضبه في إفساد الأمر، وقد اعترفت له بالحقيقة التي اخفتها عن اخوتها جميعا، ليعود اليها متماسكا بصعوبة:
– وليه مقولتيش ع الاقل حتى لاخواتك يا بهجة؟
اجابته بثبات:
– مقدرتش،…… مقدرتش اهز صورتي في عيونهم ، مقدرتش اعرضهم للاختيار ما بين موافقتهم على جوازي والانتقال لهنا بعيد عن اذية عمي ومراته ، وما بين رفضهم ورفض كل شيء يجي من ناحية جوازي.
زفر يغمض عيناه بألم، رافعًا رأسه للأعلى بخزي، كيف يلومها؟ ومن اين يجد الجرأة وقد تركها تواجه رياح الظلم وحدها، حتى حينما حاول حمايتها، كاد ان يزيد بالمس بسمعتها نتيجة سوء الظن الذي تعرض له من ابناء عمها ، حتى تنقطع قدمه من الصعود اليهم ولا حتى التدخل في شئونهم.
– شادي انا اعترفتلك عشان واثقة فيك.
قالتها بغرض التخفيف عنه، جاهلة ان بفعلتها قد زادت عليه، ليرد بعتب:
– لو كنتي واثقة فيا كنتي بلغتيني يا بهجة، كنتي ووقفت معاكي حتى لو ضد رغبتي ، المهم كنت حاولت، ان مقدرتش احوله لجوز بأشهار ع الاقل كنت عرفته انك مش لوحدك.
اطرقت بخجل وقد اصاب بقوله، ولكنها حاولت التبرير على تردد:
– هو انسان كويس، وبيعمل كل حاجة عشان يسعدني، بس عنده ظروفه اللي تمنعه ما يشهر جوازنا.
رد بعنف:
– مهما كانت الظروف ، مفيش حاجة تمنع اعلان جوازه منك لو بيحبك بجد، او حتى كان أجل على ما تتحسن الدنيا معاه يا بهجة، ليه اخطف سعادة منقوصة في السر وانا ممكن اخدها كاملة بشوية صبر؟
ابتسامة صغيرة لاحت على زاوية فمها بسخرية
فقال، ابن خالها يتحدث عن الحب والصبر، ولا يعلم بالحقيقة المرة في الاصل من هذا الزواج، بعدما اخبرها قاسي القلب صراحةُ انها مجرد رغبة، حتى لو افعاله كانت غير ذلك بعد الزواج ، لكنها ابدا لن تنساها او تعلق نفسها بوهم حب قد يهلكها، وهو جعلها مسألة بيع وشراء، وهي وافقت على هذا الأساس، حتى تنتهي مدة هذا الاتفاق، وتخرج ع الاقل سليمة القلب .
وحتى ذلك الوقت، لن تخبر احد بالحقيقة المرة، تحتفظ بها لنفسها، اما ابن خالها فيكفيه الاطمئنان على على مصدر المال ولا اكثر من ذلك .
– رياض الحكيم صح؟
انتفضت بإجفال بعد ذكره الاسم لتبرق عينيها نحو باستفهام، فاستطرد هو بفراسة:
– مش هو برضو مدير المصنع اللي اتكفل بعلاج اخوكى على نفقة المستشفى المساهم فيها، انا مش غبي يا بهجة عشان ماخدتش بالي من نظراته ليكي ساعة ما شوفته في المستشفى،
لم تتمكن من الرد لتسبل اهدابها عنه بخجل شديد، اكد له صحة ظنه، ليردف بغيظ:
– اقسم بالله لو شوفته قدامي دلوقتي، لاباركله من قلبي بلوكامية تظير صف سنانه.
❈-❈-❈
عاد الى المنزل محملا بمزيد من التعب والهم، وقد اعتقد ان بالعثور عليهم ومعرفة محل سكنهم سيرتاح، ولكن ما حدث هو العكس تماما ، فبلقاءها ومعرفة السر الذي تخبئه عن الجميع، يشعر انه لن يعرف طعم الراحة بعد اليوم في القلق عليها، حتى ترسو على بر اَمن.
– شادي، اخيرا جيت .
كان هذا صوت زوجته والتي اقتربت تهمس بالكز على اسنانها:
– كدة برضو تعملها فيا يا شادي؟ ساعة بحالها اتصل بيك ومتردش.
القى بنظرة نحو شاشة الهاتف فتأكد من العدد الهائل من المكالمات منها، ليبرر بأسف:
– معلش مخدتش بالي، بس ليه الاتصالات دي كلها؟
ضربت قدمها بفعل طفولي تهمس بحنق شديد اثار التسلية بداخله رغم ارتيابه، حتى اوضحت:
– بتصل عشان جوز البلاوي اللي مستنينك، جال ايه عشان يباركوا، على اساس انهم اصحاب واجب جوي، انا من مخنوجة منهم ومش طايجة نفسي.
– هما مين؟
تمتم بها وقبل ان تجيبه، وصل لأسماعه صوت الضحكة الرقيعة من ابنة خاله خميس، لتيقن الان من السبب الاساسي لغصب زوجته:
– هي سامية قاعدة هنا من امتى؟
ردت على مضص:
– بقالها يجي ساعة هي وامها جوا، وانا رايحة جاية عليها بالعصاير والحلويات عشان مش طايجة اجعد معاهم
تبسم بحنان يهادنها:
– معلش حقك عليا، انا هروح اغير هدومي واروحلهم، هما عند ماما جوا صح؟
اومأت بهز رأسها، ليخطف قبلة سريعة من وجنتها، ثم تحرك صوب غرفته، لتتناول هي صنية العصائر وتدخل بها اليهم، بداخل حجرة والدة زوجها
– العصير يا جماعة.
– تعالي يا حبيبتي اقعدي بقى كفاية، هما الجماعة اغراب يعني.
قالتها والدة زوجها تشير لها لتجلس بجوارها على الفراش، تلك المرأة الحنونة، والتي تتعامل مع الجميع بطيبتها، رغم علمها الجيد بنوياهم:
– منورة يا مرات اخويا،
درية وقد اشتعلت عيناها بالحقد وذلك التوافق بين اخت زوجها وزوجة ابنها، لتتمتم بتصنع:
– البيت منور بأهله يا حبيبتي، عندها حق يا صبا احنا فعلا مش اغراب .
اومأت لها الاخيرة تغتصب ابتسامة صغيرة في رد لها، ثم تسأل بانتباه:
– ربنا يديم الود يا خالتي، هي فين سامية صحيح مش شايفاها؟
جاء الرد من والدة زوجها:
– استأذنت تدخل الحمام، اصلها مزنوقة.
سمعت صبا لتغمغم داخلها بحنق وتوجس:
– مزنوقة برضو ولا راحت تزود ع المكياج عشان تعجب. ابو برودها
وبداخل المرحاض كانت المذكورة تقف في وسطه بحيرة، تبحث بعيناها عن هذا الشيء الذي امرها الشيخ الدجال بإحضارها،
فقد كان كل شيء نظيفًا من حولها، المناشف المعلقة والستائر وو…. هنا توقفت ابصارها على سلة الملابس ، لتركض نحوها وتبحث داخلها، ملابس نوم وأخرى داخليه له ولها، يبدو أنها تم خلعها اليوم، ليزداد الغل بقلبها، على تلك السعادة التي كانت لابد ان تكون من نصيبها
اخرجت المقص الصغير من الجيبة التي ترتديها، كم ودت لو مزعت به تلك المنامة الى قطع صغيرة، ولكنها بذلك سوف تلف الانظار ، لذا لم تجد امامها، سوى قص شريط طويل منها ، لتضعه في كيس بلاستيكي ، ثم تدفسه داخل جيب جيبتها، وتخرج من المرحاض فتلتقي ابصارها به يدلف الى الغرفة التي تجمع النساء،، فتتنهد متمتمة:
– مسيرك تبقى ليا، هانت .
❈-❈-❈
بحث عنه في عدة اماكن يعلمها، كما سأل العديد من الأصدقاء المشتركين بينهما ، حتى تمكن اخيرا من معرفة المكان الذي يتواجد به، قهوة عتيقة ، تناسب المثقفين والفنانين، الأشخاص الذين يبتغون الهدوء او السرية كما يرى الان، بجلوسه في احد الاركان يتهامس مع احد الأشخاص….. لم يتمكن من معرفته وقد نهض فجأة يغادر من الباب الثاني للقهوة.
ود امين ان يركض خلفه، ليعلم بهويته ولكن الفتي كان سريعا بخطواته والاخر ايضا قد انتبه لحضوره، ليستقبله بابتسامة يجيدها بشكل مستفز:
– امين باشا حاضر المكان ، دا ايه النور ده.
صافحه الاخير على مضض ليجلس على الكرسي المقابل له يبادره الحديث:
– اعمل ايه يا خويا وانت بتخفتي زي الزيبق ومحد بيعرفلك طريق جرة، بتهبب ايه من ورايا يا عصام؟
سمع منه ليرسم دور البرائة:
– انا يا باشا؟ يعني هكون بهبب ايه بس؟ دا انا حسيت نفسي مخنوق وقولت اجي اهدي اعصابي وسط الشعرا والفنانين ، زي ما انت شايف اهو، حاجة في منتهي الرقي والحلاوة.
– اممم
اصدر امين صوت استهزاء، ليعلق بسخرية:
– اه صحيح عندك حق، جاي تروق نفسك بعد اللي حصل للمسكينة مراتك، واللي لسة تعبانة من اللي حصلها .
امتقعت ملامح وجهه بغضب جامح، وقد استطاع الاخر بقوله ان يخرجه عن دور البرود الذي يرسمه، فخرج صوته بعتب:
– وايه لزوم الكلام دا بس يا باشا؟ ما انت عارف ان فيا اللي مكفيني.
هدر بع امين يكز على اسنانه بالهمس:
– عشان عارفك كويس وعارف دماغك، والسكون المبالغ فيه دا منك اكيد وراه مصيبة،
– مصيبة ايه بس يا باشا؟ ما احنا ماشين في الإجراءات القانونية وبندور ع الزفت ده وعلى يدك، يبقى ساكت ازاي انا بقى.
قابل امين انفعاله بتأكيد :
– ما دا اللي انت عايز تقنعني بيه يا حبيبي، اوعى تكون فاكرني بلعت حكاية عربية الشرطة اللي ظهرت فجأة تنقذ امنية من ايد الحيوان ده، انت تحت ايدي بقالك سنين يابني، يعني حافظك اكتر من نفسك ..
بملامح مكشوفة رغم انكاره، ردد نافيًا:
– والله براحتك يا باشا لو مش عايز تصدقني، انا راجل قانون وماشي في حق مراتي بالقانون، مبمعملش اكتر من كدة.
– يا راجل .
تمتم بها امين بملامح متشككة:
– اطلبلي حاجة اشربها ياللا، بدل ما اطلع غل الصداع اللي في دماغي عليك دلوقتي، ما هو مش هيبقى قرف في البيت، وقرف في الشغل وبرا الشغل،
ضحك عصام يشير للنادل:
– عنيا يا باشا اطلبلك اللي انت عايزه، تعالي يا بنتي هات قهوة مظبوط للباشا .
❈-❈-❈
والى امنية التي كانت تتحدث مع شقيقتها شهد عبر الهاتف، بأسى وحزن:
– معاملته مش مريحاني يا شهد، حاساه بيشك فيا بس مش لاقي اثبات، دا مش عصام اللي انا عارفاه.
تنهدت شقيفتها عبر الهاتف بحزن معقبة:
– لو بيشك فيكي مكانش قعدك في بيته ثانية ولا بقى عليكي، جوزك اكيد متأثر باللي حصل ، ومحدش يلوم عليه صراحة، ابن الكلب ابن خالتك هبب الدنيا الله يخرب بيته، انا مش فاهمة دا امتى هيتهد؟
– ابراهيم الغل هو اللي بيحركه يا شهد، دا بني ادم بيزعل لو شاف حد سعيد، اسأليني انا من ايام ما كنت معمية على عيني وبحبه، وانا عارفة فيه الصفة دي ، ودلوقتي هو بينتقم مني عشان خرجت عن مساره، وربنا كرمني باللي اعلى منه، حسبي الله ونعم الوكيل.
– عارفاه يا امنية من غير ما تشرحي، ان شاء الله يموت بالسم اللي جواه ، قومي انتي صلي وخلي تكالك على الخالق، دا مفيش احن منه .
– ونعم بالله، بس انا تعبانة اوي يا شهد، عضمي كله واجعني وحاسة نفسي عايزة انام وبس.
– الكلام من ساعة الحادثة
– لا بصراحة من قبل، عشان مكدبش
استرعي انتباه شهد كلماتها، لتصمت للحظات بتفكير، قبل ان تعقب قائلة:
– طب بقولك ايه، انا عايزاكي توصفيلي الاعراض اللي عندك بالظبط.
❈-❈-❈
في احدى النوادي الاجتماعية وقد التقى به، ليرفها عن انفسهما من ضغط العمل المستمر، ليتبادلا اللعب على طاولة البلياردو، فكان الحديث الدائر بينهما :
– مصطفي شكله هيعمل حفلة كبيرة بمناسبة رجوعه من لندن وفرحته بالمولود العزيز، يا سلام بقى ع الطفل المحظوظ، هيورث الشهرة من والدته وامبراطورية مصطفى عزام .
تبسم رياض وهو يصوب بالعصى الخاصة باللعب على الكرة حتى اسقطها في حفرة الطاولة المخصصة لذلك ، فاعتدل بجذعه يعقب على كلمات الاخر:
– مش شرط يا كارم ، ممكن تبقى الدنيا كلها تحت رجليك وبرضو مش سعيد ولا حاسس انك محظوظ، واسألني انا.
توقف الاَخير متكئا على عصاه، المستندة على الطاولة، وقد استرعت انتباهه الكلمات لتجعله يتأمله بتفكير قائلًا:
– انت بتتكلم عن نفسك صح، مع اني اعرف ان والدك كان منفتح جدا ع العالم ووالدتك كمان، ايه اللي كان بيمنعك يا حبيبي عن الانبساط وانت في بلاد الحرية، سهر وشرب وستات وسهولة في التعليم كمان، فين المشكلة فين بقى؟
وعلى عكس ما توقع من غضب يجده منه في كل مرة بتطرق لهذه المواضيع الشائكة، ازداد اتساع ابتسامة الأخر، ليردد مًقرا؟
– وانت مدام حصرت السعادة في الشرب والحرية والستات، تبقى المشكلة فيا انا يا عم كارم، مش كدة برضو .
– اكيد طبعا .
قهقه ضاحكا ليشجعه على المزيد من التدخل، في لحظة الصفا التي لا تأتي كثيرا:
– خلاص يبقى نسيبنا من كل ده ونركز بس مع الحب، انا نفسي جربت كل حاجة، بس اللي وصلت ليه في الاخر، هو ان قعدة واحدة مع مراتي حبيبتي بالدنيا كلها، انت بقى محسيتش بالحاجات دي.
لم يجيبه، ليلهي نفسه بإسقاط الكرات، رافضًا التعبير عن مكنونات صدره، حتى فهم عليه كارم ليشاكسه:
– مدام سكت يبقى جربت ودوبت كمان، بس اشطة يا باشا، انا مش هزود عليك ، لكن ساعة ما تحتاجلي ولا تحب تسمع نصيحة انا موجود يا عم ازودك بخبرتي
هذه المرة جلجلت ضحكته ليردد ساخرًا:
– يعني يوم ما احتاج النصيحة اجيلك انت يا كارم!
– والله لمصلحتك، دا انا استاذ ورئيس كمان، تحب احكيلك عن انجازاتي .
❈-❈-❈
دلفت درية داخل الوكالة بأنفاس لاهثة لتجلس على على احد المقاعد، حتى اذا انتهى ابنها من صرف اثنين من الزبائن، اقترب ليجلس قبالها متحدثًا بحنق:
– خلصتي مشوارك ياما، مع ان مكنش ليه لزوم والله واحنا في الظروف دي
ردت والدته باستهجان:
– وانت كنت شوفتنا رقصنا يعني،، دي زيارة عادية لابن عمتك وبالمرة شوفنا اخوك وعياله….. مقولتليش بقى، ابوك ولا اخوك حد اتصل فيهم .
– اه ياما اتصل ابويا، بيقول ان الواد حالته ميطمنش، والاكيد انهم هيباتو النهاردة يشوفوا ايه اخرتها مع الدكاترة،
قالها سامر بانفعال جعل القلق يسري بقلب درية لتعبر عن مخاوفها:
– ليه يا دي الحوسة؟ هو ايه عنده بالظبط؟
اجابها بضيق يضع مجموعة من النقود داخل الخزانة:
– انا عارف بقى، جوزك بيتكلم من طرف مناخيره وابنك مانع الكلام خالص، وانا هنا موحول لا عارف اروح وراهم ، ولا اسد هنا مكانهم…….خلي البت سامية تجهزلي لقمة انا عايز اقفل بقى لحد كدة، تعبت
ردت وهي تنهض بتأثر بعد معرفتها بما يحدث لحفيدها والذي تعشمت بمولده ان يزيد بربط ابنها من زوجته، فتعود الى منزلها مرة اخرى بسببه:
– خلص وتعالى هجهزلك انا، هي استأذنت مني، وراحت لواحدة صاحبتها.
صرخ بها يدفع من يده القلم الذي كان يقيد به في الدفتر الكبير:
– دلوقتي ياما، والساعة داخلة على عشرة، طب هترجع امتى؟ البت دي معدتش صغيرة ، اقرصي عليها شوية بقى، كتر الدلع هيبوظها واحنا مش ناقصين
مطت شفتيها بامتعاض مرددة:
– اهي عندك اهي، لما تيجي اقرص عليها انت براحتك، انا اصلا بصدع منها لما تيجي تتحايل عليها، وما بصدق اخلص من زنها
غمغم سامر، ناظرا في اثرها :
– ويعني عشان تخلصي من زنها تقومي توافقيها على كل اللي هي عايزاه، الله يسامحك ياما.
❈-❈-❈
اما عنها فقد كانت في هذه اللحظة جالسة امام المدعو بالشيخ، يتأمل القطعة التي قصتها من المنامة يتحسسها بيده وكأنه يستلهم منها شيئًا ما ، وابصاره يخطفها نحوها كل دقيقة، بنظرات غير مفهومة يخبرها:
– شكلك بتعزي البنية دي اوي، خدت منك حاجة كنتي هتموتي عليها.
ردت تصدقه:
– ايوة والله يا سيدنا، هي خطافة رجالة اصلا، تستاهل كل اللي يحصل فيها .
افتر فاهه بضحكة قميئة، وتلك النظرات الغير مفهومة يقول:
– انا عارف يا سامية من غير ما تقولي، وهعملك اللي انتي عايزاه، بس انتي كمان مش تتعبينا في اللي نطلبك منك.
– عيوني
هتفت بها تشير بالسبابة على الاثنتان، فاتسعت ابتسامته قائلا:
– تسلم عيونك، روحي وتعالي بكرة ، اكون جهزت الحاجة اللي انتي عايزاها.
انتفضت بلهفة وفرحة متمتمة:.
– ربنا يخليك يا سيدنا.
لترحل بعد ذلك تاركة ذلك الرجل ينظر في اثرها، ويتلاعب بانامله على الذقن الطويلة بتفكير .
❈-❈-❈
متسطحة على الفراش، متكورة على ذاتها، تذرف الدمعات بعدم توقف، تشعر بالخزي لصورتها التي اهتزت امام ابن عمتها الذي طالما كان يحترمها، وعدد الكذبات التي اصبحت تتقنها امام اخوتها، وهي ابدا لم تعتاد على ذلك ،
حتى حزنها الاَن لا تملك التعبير عنه امام احد، لمن تشكو وهي المذنبة في حق نفسها وحق الجميع.
وكأنه اتي على التفكير به، اضاءت شاشة الهاتف امامها برقمه لتغمص عينيها بتعب:
– مش وقتك خالص يا رياض .
حينما لم يتوقف عن الدوي اضطرت للإجابة على مضض:
– الوو…..
– الوو يا بهجة قلبي ، اخبارك ايه دلوقتي؟
ردت بحزن ظهر في نبرة صوتها:
– كويسة والحمد لله
– كويسة ازاي يعني؟ الصوت دا بيقول ان في حاجة، وحاجة كبيرة كمان.
لم تقوى على الصمود اكثر من ذلك، لتشهق غير قادرة على وقف دموعها، مما زاد من قلقه عليها، فصار يردد متسائلًا:
– يا بنتي ليه بتعطي؟ اتكلمي بقى يا بهجة متعصبنيش.
ردت بعد مدة من الوقت بصوت بالكاد يسمع:
– حاسة نفسي مخنوقة، صوتي منحاش وصدري طابق عليا، مخنوقة يا رياض والله مخنوقة
زفر بصوت عالي ، حتى شعرت بأنفاسه تخترق اسماعها ليهتف امرا.
– طب البسي اي حاجة وانزلي حالا قبليني
رددت بعدم اسنيعاب:
– اانزل اقابلك فين بالظبط؟
– انزلي قبليني تحت بيتكم في الشارع الخلفي يا بهجة .
قالها بجدية لم تتقبلها لتعترض رافضة:
– لا طبعا مينفعش الساعة دلوقتي داخلة على عشرة، انت بتتكلم ازاي ؟
– وانا قولت انزلي يا بهجة، انا خلاص داخل على شارعكم بعربيتي.
– يا نهار اسود ، يعني مصمم وبتتكلم جد كمان، لا رياض مش نازلة.
صمت قليلًا فأعتقدت انه قد اقتنع حتى سمعت صوت قوي لصرير سيارة ، فقال هو:
– انا تحت بيتكم دلوقتي، يا تنزلي انتي من سكات، يا هتلاقيتي طالع عندكم، والحجة موجودة، نجوان هانم طلباكي عندها ضروري.
– يخرب بيت جنانك
تمتمت بها ، لتهرول نحو اقرب نافذة تؤدي للخلف فوجدته بالفعل في انتظارها، وعينيه مصوبة نحوها .
واقفًا بهيبته، يضع كفه في جيب بنطاله، اسفل السترة والاخرى يمسك بها الهاتف، بهيئة تصلح صورة لإحدى مجلات موضة، شعرت بقلبها يكاد ان يغادر قفصها الصدري، وقوة خفقانه على غير المعتاد تسمع للغرفة المجاورة، لتزبهل تطالعه بصمت حتى صرخ بأذنها:
– مستنية ايه تاني يا بهجة بقى، ولا انفذ تهديدي
❈-❈-❈
تطلعت حولها مزبهلة لعدد كبير من اليخوت، تزين ذلك المرسى الذي اتت اليه مرافقة له، بعدما اجبرها بجنونه لتنزل من منزلها في هذا الوقت ثم يطير بها بسيارته، حتى توقف هنا.
– انت جايبنا هنا ليه؟
تبسم باتساع ، ليترجل من السيارة ثم يلتف اليها ويفتح الباب المجاور لها يأمرها:
– انزلي من العربية.
اعترضت برفض:
– لنزل فين يا رياض؟ الساعة عشرة دلوقت…..
– بهجة انزلي..
هتف بها بمقاطعة حادة جعلتها تطيعه، ليصعد بها بعد ذلك الى داخل احدهم، وهي مازالت بحالة من التشتت، تراقبه يذهب إلى قمرة القيادة ، ليشعل المحرك ثم يعود اليها بابتسامته الساحرة فتتمتم بقلق وتوتر:
– يا لهوي عليا، دا بيمشي في النيل، انت رايح بيا على فين .
جذبها اليه، يضمها بقوة لا تخلو من حنو، يهمس بأذنها بصوت دافيء:
– ممكن تنسى كل هموك معايا الساعة دي، انا مش هتأخر بيكي، ليكي عليا ارجعك قبل اتناشر المهم انك تسيبلي نفسك، ونعيش مع بعض اللحظات الجميلة دي
ابعدها عن حضنه قليلًا يطالع الوجه البهي ، وقد انعكست الانوار عليه حتى يزيدها فتنة، ليمسد عليه بانامله بحنان مردفا:
– انتي جميلة اوي يا بهجة، وانا تقريبا ما شوفتش واحدة بجمالك، انك تحتفظي بجمال روحك مع جمال الشكل اللي وهبهولك ربنا ، دي حاجة متحصلش غير قليل اوي، وانا حاسس اني محظوظ ان لقيتك، بتكلم بجد ، الكلام دا طالع من القلب.
للمرة الالف يسرقها من حالها بسحر كلماته، وحتى تلك الكراهية التي تشحذ بها ذاتها في كل مرة كي تقاومه، ينثرها بلمسة حانية منه، فتطير كرماد يختفي مع الهواء.
لماذا يفعل كل ذلك؟ لماذا لا يجغل الامر يسير كما رتبت في ذهنها حتى لا تخرج بخسائر
– مالك سرحانه في ايه؟
سألها لينتشلها من حالة الشرود، فاضطرت للإجابة تتحمحم حتى يخرج صوتها:
– مش عارفة يمكن متلخبطة، او يمكن الجو نفسه مأثر معايا، هو اليخت دا تبعك.؟
علم ان بسؤالها الاخير، هناك نية واضحة للتهرب من الاجابة عن ما يريد معرفته منها، لذلك فضل ان يجاريها ولا يضغط عليها،
ابعدها قليلًا ليتناول كفها، ثم يسحبها، ويصعد بها حتى وقف بها على سطحه موجها ابصارها نحو النيل وذلك الجو الساحر الذي يبعث على الطمأنينة حتى انساها بالفعل حزنها،
يضمها بذراعيه، يهمس بصوته الهاديء:
– اليخت دا انا وارثه عن المرحوم والدي، يعني تحت امري في اي وقت، المرة دي متتحسبش يا بهجة، المرة الجاية لازم تبقى رحلة لعدد أيام كاملين اخطفك من العالم، وتبقي ليا لوحدي
وفي اي وقت تحسي انك مخنوقة ولا مضايقة، تعاليلي وانا عمري ما هرفض اسمعلك يا بهجة.
التفت برأسه اليه بأعين ترقرقت بها الدموع، ماذا تصف وماذا تقول، يرحب بها لتلجأ اليه، وهي في الاصل السبب الاساسي لتعبها.
وبدون ان تتفوه ببنت شفاه وجدت نفسها ترتمي بحضنه الامن ، تود ان تصرخ بها، تلك الكلمة العالقة بجوفها تنتظر منها فقط الاشارة ، لتتنطق بها امام الملأ، ولكن العقل اليقظ دائمًا يلجم اللسان على التفوه بها
…بحبك
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
كم يتعبنا الصراع ما بين القلب والعقل
الاول يندفع مباشرة نحو العاطفة حتى لو أدى بنا إلى الهلاك
والثاني يُحجم، ويمنع، حتى لا نقترب ونتأذى، ربما هو بذلك قد يحمينا، ولكن شيئا ما من المغامرة واتباع المتهور، قد يأتي بالسعادة التي نرجوها……. حتى لو كانت منقوصة
#بنت_الجنوب
بوجه مشرق، وابتسامة تزين محياها الجميل، دلفت لداخل المبنى الذي تعمل به، وكأنها ترى العالم بصورة اخرى، غير تلك تعرفها،
فبعد ليلة الأمس، وما فعله من أجلها، حتى يراضيها ويخفف عليها من الحزن الذي كاد يوقف قلبها كمدا، ليأتي هو ويسمعها ويغدق عليها من حنانه، حتى كانت على وشك ان تنطقها بوجهه مباشرةً وتخبره بها، تلك الكلمة التي كانت تصرخ داخلها، ولكن الخوف من القادم هو من اللجم اللسان حتى يظل محله ولا ينجرف الى التهور.
ولكنها حسمت الأمر بداخلها، ان تعيش اللحظة كما يخبرها دائمًا، تريح هذا العقل عن التفكير قليلًا، على الاقل تحتفظ بذكريات تعيش عليها بعد ذلك.
ولجت لداخل المصعد في طريق ذهابها الى مكتبها في الطابق الاعلى، لكن وقبل ان يتحرك للصعود تفاجأت بتلك المتعجرفة تنضم اليها، تلهث بعض الشيء وقد بدا انها جاءت مهرولة ربما لتأخرها، فما تعلمه هو انها تأتي باكرا عن الجميع.
صمتت بهجة تدعي عدم الاهتمام تجنبًا لها، ولكن الأخرى لم تفعل ، فقد تركزت ابصارها بها فور ان التقطت انفاسها، لتطالعها من الأسفل الى الأعلى والعكس بتقيم اثار استياء بهجة واستغرابها ايضًا، وقد رأيت بوميض عينيها نظرة غامضة لم تفهمها ، حتى عبرت هي بلسانها :
– هو انا ليه حاسة انك متغيرة؟
ردت بهجة باستهجان لهذه النظرات المتفحصة لها:
– متغيرة ازاي يعني؟ مناخيري متحركة من مكانها الطبيعي مثلا.
سمعت منها لورا لتسخر بضحكة خافتة:
– دمخك خفيف، لأ وصدقتي نفسك كمان .
كتمت بهجة زفرتها تقلب عينيها بملل:
– لا حول ولا قوة الا بالله يارب، امال عايزاني ارد عليكي بإيه بس؟
– لا ترودي ولا تزفتي، انا اصلا غلطانة اني بصيتلك من أساسه.
تمتمت بها بقرف لتشيح بوجهها نحو باب المصعد في انتظار وصوله، وتغمغم بهجة من خلفها:
– لا اله الا الله، طب حد كان كلمها دي يا ربي؟
بعد لحظات توقف المصعد ، لتهرول بهجة كي تغادر وتتنفس هواء نظيفا، غير ذلك المشبع برائحة العطر الثقيل لهذه المتعجرفة.
ولكن وما ان تطلعت امامها حتى وجدت المصعد المقابل لها من الناحية الأخرى يفتح على مصراعيه، ويخرج هو منه، فتتقابل ابصارهما في ذلك التواصل الجميل، فينسى نفسه ويبتسم لها باتساع فرحًا لرؤيتها، وهي تبادله بخجل ذاهبة في طريقها المعاكس له،
غافلين عن تلك التي كانت خلفهما، وقد جمدتها المفاجأة، رياض الحكيم، ذلك المغرور المتكلف، والذي
يعمل الف حساب لهيبته مع الأشخاص العاديين، فما باله بالموظفين لديه، ينزل من علوه فيتواضع مع هذه الفتاة! بل وتظل ابصاره معلقه بها حتى اختفت من امامه نحو وجهتها، تقسم داخلها ان قدميه كانت على وشك ان تغير مسارها لتلحق بها، هذا ما شعرت به
هزهزت رأسها لتستفيق، تغمغم بتساؤول والحديث مع نفسها:
– دا حتى مخدتش باله مني وانا وراها؟ لدرجادي يا رياض؟!……
❈-❈-❈
بوجه متجهم وملامح، مكفهرة واصل طريقه بذلك المشفى الحكومي، يبحث بعيناه عن ذلك الاحمق ابنه الأكبر، مصدر همه وتعبه، والذي استيقظ قبله ليسبقه الى هنا
وصل الى الردهة المجاوره لغرف الحضانات ، وجده جالسًا واحد من مقاعد الانتظار، متربع الذراعين بشرود .
تقدم ليجلس بجواره يغمغم بحنق:
– يعني مهنش عليك تستناني على ما اصحى واجي معاك، طب اديك وصلت بدري عملت ايه بقى؟ اكيد مدخلوكاش اساسًا؟
زفر سمير يخرج كلماته بنبرة متعبه :
– على الاقل حصلت الدكتور وسألته عن حالة الولد، لكن انت زعلان ليه بقى؟ مكنتش حافظ عنوان المستشفى ولا غريب عن البلد؟
لكزه خميس بقبضة يده بغيظ قائلا:
– لا دي ولا دي يا خويا، انا كان نفسي بس تعمل بأصلك وتحضرلي اي لقمة افطر بيها، بدل ما اصحى ع العيش الفينو اللي نشف في الهوا ومعدتش ينفع يتاكل…. انزل على لحم بطني واقعد ادور ساعة على عربية فول افطر عليها، وجع قلب .
بسأم شديد تطلع اليه سمير يعبر عن اعتذاره:
– معلش يا بويا امسحها فيا المرة دي، نزلت وانا مش مركز.
عبس بوجهه غافلا عن ذلك الحزن الذي غلف ملامح ابنه العابث، يردف بسخط:
– امسح ايه ولا ايه؟ عن الوكاله اللي سايبها من امبارح في ايد اخوك الحمار، ولا على المرمطة اللي واقع فيها من امبارح مع سعادتك، حد يصدق اني انا ابات ليلتي في لوكاندة درجة تالتة هنا، عشان ملقتش حتة تاويني، بعد ما كان نسايبي بيشلوني من ع الارض شيل، اوضة اخر راحة واكل معتبر ميبطلش طول ما انا قاعد عندهم، وكل ده ليه؟ مش بسبب استهتارك، ورميتك لبتهم في عز ازمتها، خليت الناس كرهونا وانا وشي بقى قد السمسة قدامهم…..
– ما خلاص يا بابا الله يرضى عنك .
صرخ بها في وجهه بعدم احتمال، حتى يكف على تأنيبه، وهو الذي لا يعلم بما اصابه منذ الأمس، بعد رؤية ابنه على هذه الحالة الضعيفة، وكأن الله يجازيه على الاهمال نحوه.
ارتفعت عيناه فجأة نحو تلك الاصوات التي صدحت بالقرب منهما بمدخل احدى الغرف، ليجدها امامها تخرج بحالة من الانهيار والبكاء، مسنندة على ذراعي امرأتين ، يقمن بسحبها الى الخارج وشقيقها قد اتى فجأة من العدم، ليتلقفها منهما، ويصبح هو سندها.
– براحة على نفسك يا ختى مش كدة.
انتفض سمير بنغزة على خصره من ابيه الذي غلبه الفضول:
– دي مراتك اللي خارجة من الحضانات، ايه اللي قومها من سريرها وهي تعبانة وبالحالة دي؟
اغمض عينيه يجيبه على مضض:
– وصلت عشان ترضع الواد يا بابا، استغفر الله العظيم يارب.
غمغم بالاخيرة لينهض يتبعها وخلفه لحق به والده:
– اسراء
التفت اليه بوجه مغرق بالدموع تخاطبه:
– عايز ايه؟ وايه اللي جابك اساسًا؟ انا قولت من الاول محدش يتصل بيك، عملوها ليه؟
توجهت في الاخيرة بنظرة عاتبة نحو اخيها، الذي تنهد بتعب لحالتها، فقال سمير :
– ميتصلوش ازاي يعني؟ لهو انا مش ابوه؟ انتي بتقولي ايه؟
ضحكت بسخرية تردد خلفه:
– ابوه! كتر خيرك والله انك قولتها، على العموم ريح نفسك، الواد حالته متسروش وممكن يروح فيها، اهو تبقى اتخلصت من الخيط اللي رابطك بيا وتخلص مني بالمرة، اكيد دي دعوتك من جواك دلوقتي، انا قلبي حاسس
صارت تردد بها لتزداد انهيارا ثم فقدت الوعي، فتقدم هو من اجل ان يراها، ولكن شقيقها نهره بغضب:
– اقف عندك، وفر على نفسك، انا دراعي شديد واختي اشيلها في عيني لحد اخر يوم في عمري.
قالها ليرفعها عن الأرض بين ذراعيه، ثم بركض بها، امام ابصار زوجها، الذي غمغم بسبه، ثم هرول بخطواته خلفهما.
اما والده فقد تيبست اقدامه امام تلك الجميلة التي كانت تحمل اشياء زوجة ابنه حقيية اليد وحقيبة المولود، تمصمص بشفتيها مرددة كلمات الأسى:
– يا عيني عليكي يا بنت عمتي، غلبانة وحظك قليل من يومك.
همت لتتبعهم، ولكنه تصدر امامها يوقفها معرفًا عن نفسه:
– انا حما اسراء، جيت على ملا وشي لما عرفت باللي حصل، الا انتي تبقيلها مين، اصل دي اول مرة اشوفك.
ردت بأسى:
–
– انا بنت خالها صفاء اللي كنت ساكنة في الصعيد مع جوزي ، بس هو ربنا يرحمه بقى دلوقتي، عشان كدة رجعت تاني لأهلى
برقت عيني خميس بحماس شديد مرددًا:
– جوزك مرحوم، ودا جاله قلب ازاي يموت ويسيب شابة حلوة زيك.
تبسمت تغطي على فمها بخجل:
– يووه يابا الحج، ما قولتلك الحظ بقى، حكم بنات عيلتنا كلهم حلوين بس حظوظهم منيلة
تغضنت ملامحه بضيق ينهيها:
– ما بلاها منها ابا الحج دي، انا صغير وفي عز شبابي ميغركيش الواد سمير جوز اسراء دا البكري اللي خلفته وانا عشرين سنة، يعني تلاقيني مكملتش الخمسين بس انا مش بحسب.
عادت المرأة لهذه الضحكة الخجلة مرة اخرى، لتجاربه بمكر:
– معلش متأخذنيش ، دا حتى واضح من هيئتك انك صغير.
اطربه كلماتها، ليملس على شعر رأسه المزروع حديثًا، والمصطبغ بالاسود، يردف بثقة:
– لا يا ستي ولا يهمك، انا اصلا بتظلم كدة دايما من الناس، بسبب الحلوف ابني، اكمنه شكله اكبر من سنه
اومأت رأسها وقد شعرت انها اطالت معه ، لترد بعجالة:
– اهو كل واحد بياخد نصيبه، عن اذنك بقى اللحق اسراء
كادت ان تتحرك ولكنه عاد يوقفها بقوله:
– طب استني اخد رقمك الاول عشان اطمن عليها، حكم هي واخداني بذنب ابني ومش بترضي ترد عليا، لكن ربنا العالم، انا بعمل ايه مع الجبلة ده عشان اجمعهم على بعض، دا غير اني مستعد ادفع للعيل عشان يتعالج من الف لمية الف واكتر كمان….
بس كنت عايز اللي يتوسط ما بينا ، ايه رأيك يا؟… معلش لو فيها تعب، ممكن تقولي اسمك تاني.
قال الاخيرة بنبرة يتخللها المرح بعض الشيء، وجاء ردها سريعًا وهي تخرج هاتفها بلهفة وقد جذبتها عبارة النقود الكثيرة التي تفوه بها بفخر:
– ما قولتلك من الاول، اسمي صفاء ، همليك رقمي ترن عليه، اصل انا معنديش رصيد، بس اسجلك بإيه؟ انا كمان معرفش اسمك.
تبسم بملء فمه حتى ظهر صف اسنانه الامامية كلها ليجيبها بابتهاج:
– اسمي خميس، خميس الرواي يا صفاء اشهر تاجر في المنطقة عندنا.
❈-❈-❈
اختلقت حجة من الهواء كي تأتي إلى داخل غرفة الأرشيف وترى الوضع على الطبيعة مع هذه الفتاة المتلونة، يساورها شعور غريب من ناحيتها لا تعلم له صفة، ولكنه مقلق وخانق، وهي لن تستريح ابدا ما دامت تلك الفتاة موجودة بقربه، وتنعم بما لم تجده هي منه:
– صباح الخير يا عبد الفضيل .
القت بالتحية فور ان حطت قدمها داخل الغرفة لتجد الترحيب من الثلاثة في غياب بهجة والتي لم تجدها كما توقعت في هذا الوقت لاستراحة الموظفين، والذي استغلته الأخرى في الالتقاء بأصدقاءها القدامى من العاملين .
– اهلا اهلا يا لورا هانم، اتفضلي واؤمري باللي انتي عايزاه .
تنهدت تخطو لتجلس على الكرسي المقابل له، ترد التحية للسيدتين الاتي فغرت افواههم بالتطلع اليها بانبهار، لتردف للرجل المسالم:
– متشكرة اوي يا عبد الفضيل، عاملين ايه يا ستات وانتوا واخدين الجمب المريح هنا بعيد عن الدوشة ووجع الدماغ.
– تمام اوي يا لورا هانم ، ربنا يحفظك من كل سوء،
احنا فعلا عندنا الهدوء يعني لو عايز تروقي اعصابك في اي وقت تعالي واتفضلي عندنا.
قالتها احداهم، لتبادلها بابتسامة مصطنعة قبل ان تذهب بعيناها نحو المكتب الفارغ ، تسأل بفضول:
– ما هو الهدوء دا في ناس مش مستحملاه، بدليل انهم ما بيصدقوا وقت البريك يجي عشان يجروا ويروحوا للدوشة.
مصمصمت المرأة تعلق بغيظ، وكأنها وجدت الفرصة:
– وهي بتقعد اساسا، دي كل شوية اجازة، غير خروجها بدري عن المواعيد الرسمية، حظوظ بقى.
اعتدلت لورا بحلستها بشر معلقه:
– ليه يعني؟ وانتوا ازاي ساكتين اساسا على الفوضى دي؟ هي كانت شركة اهلها.
لحق عبد الفضيل على الفور يوضح:
– يا هانم مش لدرجادي، في كل مرة البنت بتبقى معاها حجتها، يعني منزودهاش بقى؟
توجه بالاخيرة بحزم نحو الموظفة زميلته، كي يلجمها عن زيادة اللغو مع هذه المتحاملة من الاساس ، ليعود اليها مردفا:
– مقولتبش بقى يا لورا هانم، كنتي جاية هنا ليه؟
تحمحت تستعيد برأسها الحجة التي أتت بها، لتجيبه بعقل يزداد سخونة بالأفكار التي تتناطح داخله:
– هقولك يا عبد الفضيل هقولك.
❈-❈-❈
والى بهجة التي كانت جالسة مع رئيستها الان اسفل الشجرة العتيقة، بعيدًا عن جمع الموظفين، والتي اصبحت مكانهم الاساسي، نظرا للهدوء الكبير بها، لتأخذ راحتها في الحديث معها:
– لف بيا النيل يجي اكتر من ساعة ونص، واليخت مقولكيش بقى، حاجة كدة ملوكي، بيقولك وارثه عن ابوه ، وخصني انا عشان يفسحني فيه، بعد ما لاقاني زعلانة وحزينة وانا بكلمه في التليفون، رطب على قلبي يا ريسة بحنيته، كان نفسه يقضي اكتر وقت معايا بس انا رفضت وخوفت، سمع كلامي ومردضاش يضغط عليا، ورجعني فعلا قبل اتناشر،
كانت تتحدث بحالمية لم تخفى على رئيستها التي تسمع لها بانتباه شديد، لقد حدث ما كانت تخشاه، والفتاة اصبحت متيمة به، رغم كل ما تدعيه من حذر ، ولكنها وقعت في المحظور.
– مالك ساكتة ليه يا ريسة؟ ما تردي عليا وكلميني .
تنهدت بعمق تعقب على قولها:
– يعني هقول ايه بس يا بنتي؟ ربنا يهنيكي، وانا اتمنالك ايه غير ان قلبك يرتاح .
تلقت عبارتها الاخيرة لتردف بتمني:
– اه يا ريسة، قوليها دي من قلبك ، نفسي اوي تحصل، نفسي قلبي يرتاح .
رفعت صباح كفيها للسماء:
– ربنا يريح قلبك يا بنتي، ويسعدك ويعطيكي كل اللي بتتمنيه وتحلمي يا بهجة، دي دعوة بدعيها في صلاتي مش بس قدامك.
– حبيبتي يا صبوحة.
قالتها بهجة لتنهض بعفوية وتقبلها من وجنتها المكتنزة
– الله يا عم ع الغراميات، وانا اقول واخدين جمب لوحدكم ليه؟
صدرت من زميلها القديم تميم، والذي جاء بالصدفة على مشهدهم هذا ، قاصدا الانضمام اليهما، قابلت صباح قوله بمرح لترد على مزحته، عكس بهجة التي شعرت بالتوتر في وجوده، لما تعلمه جيدا من مشاعر يحملها لها.
– عاملة ايه يا بهجة؟ خلاص معدتيش تيجي عندنا القسم،
أومأت بابتسامة مجاملة لتنهض وتجيبه:
– في نعمة والله يا تميم ربنا يخليك، انا همشي بقى معلش اشوف شغلي .
واقفها بصدمة:
– تمشي كدة فجأة يا بهجة اول ما انا حضرت، دا حتى البريك لسة فاضل عليه نص ساعة .
بررت بارتباك:
– وانا ههرب منك ليه بس يا تميم؟ بقولك ورايا شغل، عن اذنكم.
قالتها وانصرفت على الفور، ليظل هو متعلق بابصاره في اثرها لعدة لحظات حتى نهرته صباح:
– هتفضل كدة متنح في ضهرها كتير، ما تختشي يا واد على دمك .
التفت اليها مبررا:
– والله ما قصدي اللي في دماغك خالص يا ريسة، انا بس متفاجيء ، هي مالها كدة بتتهرب مني؟
عبست ملامحها بضيق مرددة هي الأخرى :
– ما هي قالتلك وراها شغل، ولا انت بس عايز تعملها حكاية، يا باي عليك يا تميم، اوعي كدة انا كمان ورايا شغل .
قالتها لتنهض هي ايضا وتتركه .
❈-❈-❈
بناءً على طلبه دلفت اليه بداخل الغرفة التي يجتمع بها مع الجميع من زبائنه، لتلقي التحية بلهفة قائلة:
– الست مبروكة قالت انك مصر تشوفني بنفسك يا شيخنا، لهو انت مخلصتش المطلوب.
رفع رأسه بشيء من ملل، فثرثرتها احيانا كثيرا ما تزعجه:
– اقعدي الاول يا سامية وبعدها اتكلمي، مش كله مرة واحدة وانتي واقفة
اذعنت لتجلس على الفور على المقعد. الذي وجدته مقابله، وقد كان امامه مباشرة، والمسافة ليست كبيرة، فتجعله يتحقق منها جيدا بنظراته المتمعنة، التي تثير الرجفة بداخلها بعض الاحيان، ولكنها دائما ما تجد التفسير، برهبتها منه، نظرا لما يمتلكه من قوة، في تسخير الجن والانس، على حسب ظنها.
تكلم بعد فترة من الصمت زادت من توترها:
– كنت عايز اعرف منك يا سامية بعد ما تاخدي غرضك ويتم المطلوب في البت اللي انتي قصداها هتعملي ايه؟ …. يعني هتعرفي ترجعي اللي لطشته منك ازاي؟
– ها
تمتمت بها بدون تركيز تردف بعدها:
– ودي محتاجة سؤال، اكيد هي لما تغور هيعرف قيمتي ويجيني من غير تعب، لهو انا قليلة عشان ما يبوصليش.
لاحت بعينيه نظرة خاطفة غامضة لم تفهمها بغباءها كالعادة، قبل ان يعقب لها:
– لا انت ست الستات يا سامية، بس انا عايز اسهل عليكي، بدل ما تفكري وتتعبي ولا هو يفاجئك بفعل غير متوقع، انا من رأيي انك تيجني، وانا هعرف اعلقه برباط المحبة وساعتها تبقى نولتي اللي انتي عايزاه ، خدتي بالك بقى يا سامية .
شهقت بفرحة والحماس يطل من عينيها:
– خدت بالي اوي، ربنا يخليك يا شيخنا، جميلك ده فوف راسي من فوق، وليك عليا ازودك اضعاف اللي دفعته المرة دي، على فكرة انا جيبت اللي طلبته كله للست مبروكة، حتى اسألها .
رد يتلاعب بسبحته:
– مش محتاجة اسأل يا سامية ، وع العموم لما تيجي المرة الجاية هنبقى نتفق.
– اكيد يا مولانا .
قالتها وانتفضت واقفة لتسأذن:
– طب اقوم انا اخد الحاجة من الست مبروكة، فوتك بالعافية يا شيخنا.
– الله يعافيكي يا سامية
تمتم بها بصوت خفيض وابصاره منصبة عليها وهي تغادر من امامه
❈-❈-❈
– جاي ليه يا سمير؟
كان هذا سؤالها الموجه له للمرة التي لا تذكر عددها، حتى بعدما جاء خلفها الاَن ليتحدث معها على انفراد داخل غرفتها بمنزل عائلتها التي استقبلته على مضض من اجل ابنتهم، والتي كانت في حالة يرثى لها الاَن، جعلته يتجاوز عما تتفوه به، ليرد بعنجهية رجولية ترفض الاعتراف بالذنب:
– بلاش سؤالك المستفز اللي عمالة تكرري فيه دا يا اسراء، انا ماسك نفسي بالعافية عن غلطك وقلبة اهلك وقلة زوقهم معايا انا وابويا بسبب اوهام في دماغك انا مش مسؤول عنها.
طالعته بأعين يفيض منها الالم مرددة خلفه بتساؤول:
– يعني بذمتك هي اوهام بجد ، طب ياريته كان كدة فعلا ، على الاقل مكنتش حصرت قلبي والزعل اثر على ابني هو كمان…… ابني…..
قطعت تعود لنوبة حارقة في البكاء مرددة:
– ربنا يسامحك يا سمير، خلتني احس بالنقص واني قلبلة، حرقت قلبي بالجري وراك وانت بتجري ورا اللي راح..
– يووووه
تمتم بها ينفض سترته بضيق ، داخله يعلم انها محقة، ولكنه مصر على عدم اظهار ذلك، ليستطرد على نفس المنوال من التكبر:
– مش هنفضل احنا في نفس السيرة اليوم كله بقى، الواد عايز علاج غالي والمستشفى الحكومي هنا مفيهاش إمكانيات، انا لازم دلوقتي اخده واروح بيه القاهرة عندنا….
– ابني مش هيتحرك خطوة من غيري، فاهم يا سمير؟
صاحت بها بهلع، ليسارع هو في طمأنتها:
– مش هاخده من غيرك يا اسراء، شدي حيلك انتي واجمدي شوية على ما اشوف انا المستشفى المناسب ، واتفق مع عربية مجهزة بحضانتها، مفيش وقت للانتظار، الوقت مش في صالحنا اصلا.
❈-❈-❈
بداخل صالة الالعاب الرياضية التي كانت تدخلها لاول مرة بصحبته في منزلهم الخاص، وقد جعلها ترتدي ملابس الرياضة مثله، ليدربها على بعض الالعاب معه، وتنال حظها من كلمات الغزل التي لم يتوقف عنها منذ ان وقعت عينيه عليها، بهذه الملابس الضيقة والتي تحدد الجسد بأكمله، ليأتي الاَن الدور على اللعبة المفضلة لديه، وقد وضعها مخصوص كشيء مختلف للترفيه بعيدًا عن الأجهزة الرياضية، طاولة البلياردو.
ليشرح لها الاًن بتركيز شديد والتنفيذ العملي :
– شوفي كدة يا بهجة، تنشني بتركيز شديد ، في لحظة تضربي، وبعدها زي ما انتي شايفة كدة اهو من واحد ورا واحدة في الاخير …… تسقط الكورة .
هللت بتشجيع لمهارته؛
– يا حلاوة دي فعلا زي ما بتقول، بس انا عمري ما جربتها .
اعتدل بجذعه يحفزها بقوله:
– يا بنتي ما انا عارف، وعشان كدة جايبك تتعلميها عشان تشاركيني اللعب، تتعلمبها وتبقي ممتازة فيها، وبرضوا اغلبك، واغلبك.
دوت ضحكتها بمرح وصخب، ضحكة صافية خاليه من تحفظها الدائم ، لتعقب على قوله:
– الله عليك يا ديكتاتور، يعني جايبني تعلمني عشان تغلبني ، انا بجد منبهرة بصراحتك.
طالعها بهيام لا يخفيه مرددًا بمكر:
– ولسة هتنبهري اكتر لما تتعلمي، وريني بقى شطارتك.
سمعت منه لتميل بجذعها للأمام تركز بعصا اللعبة، ثم تصوب على احدى الكرات التي اصطدمت بأخرى فتحركت على اثرهنا عدد اخربات، فتنال حظ المبتدئين وتُسقط الكورة في جب الطاولة، لتهلل هي وتقفز بمرح؛
– سجلت زيك اهو ومن ضربة واحدة، احنا جامدين يا عم مش أي كلام
كانت تهلل بحماس وهو يطالعها مبنسما بخبث لم تنتبه عليه إلا متأخرًا والى ما ينظر ، لتهتف معترضة وهي تلملم الفتحة الواسعة لكنزتها الرياضية في الاعلى كي يرفع عيناها عنها.
– انا بقول في ايه وانت في ايه……..
قطعت فجأة متذكرة ميلها في تصويب الكورة ، تتخيل الصورة الكاملة لما تكشفه الكنزة بهذا الفتح الكبير، لتصرخ
– نهار اسود ، دا انت طلعت خبيث اوي يا رياض
جلجل ضاحكًا وقد راقه غضبها المختلط بخجلها الشديد منه، ليرد من بين ضحكاته:
– دا على اساس اني غريب عنك والحاجات دي مشوفتهاش قبل كدة .
– متحسسنيش اني مغفلة بقى الله يخليك .
قالتها بضعف اثر به، ليقترب، ويضمها اليه، ثم يلطف بنعومة يراضيها:
– سلامتك يا قلبي من التغفيل، بس انتي لازم تعذريني ، باللبس الرياضي اللي انتي لابساه ده شكلك يجنن ، احلى حتى من النجمات التي بيتباهو بجسمهم على صفحات السوشيال ميديا .
– مش لدرجة النجمات يعني، هو احنا قدهم الناس دي.
قالتها بمكر الانثى التي تريد المزيد من الاطراء: وهو ابدا لن يبخل او يبخسها حقها:
– انتي احلى منهم كلهم ، وانا لولا اني بحبك وبغير عليكي كنت نشرت الصورة، عشان كل واحدة تعرف حجمها قصادك، يا بهجة قلبي انتي .
ازبهلت باندهاش تطالعه بانشداه، وسؤال يدور بخلدها عن صحة ما سمعته، ان كان اعتراف حقيقي ام كلمات عادية بفمه، كوصلة الغزل التي يطرب اسماعها بها ، ولكن وقبل ان تجد الفرصة لتستفسر كان هو يشتتها بمهارته كالعادة.
ليخطف قبلة على وجنتها، ثم كررها على جبهتها وبعض المناطق الأخرى على بشرتها ، ليستقر على ثغرها وتطول القبلة وتتحول للمسات ، حتى اجلسها على طرف الطاولة، وكاد ان يزيد بجموحه، لولا صوت الارتطام الذي دوي فجأة، فالتف بأنفاس لاهثة ، نحو المصدر، ليجد العاملة الايطالية وقد اشاحت بوجهها للناحية الأخرى تخبره باللكنة العربية الغير متقتة:
– مسيو رياض، انا اسف .
زفر يعدل من هيئته بغضب، يبتعد عن بهجة حتى تنزل عن الطاولة هي الأخرى، وقد اصابها الخجل الشديد، ولكنها اشفقت على المرأة بعد ذلك حينما اجفلها بصيحته الغاضبة:
– كان لازم تستأذني الاول يا جوليا، انا معنديش تهاون ولا تسامح مع اللي يتعدى على خصوصيتي
اومأت المرأة برأسها، تعيد الاعتذار:
– اسف مرة تانية مسيو رياض ، ولكن سائقك الشخصي العم علي، هو من اجبرني بالبحث عنك، من اجل امر هام يريد اخبارك به.
قطب بقلق مرددًا خلفها:
– امر هام لايه، ربنا يستر لتكون حصل كارثة .
❈-❈-❈
دلف بخطواته السريعة يلج الى داخل المنزل، بعد لحظات قليلة من اخباره عما استجد، ليتم استدعائه على وجه السرعة من اجل هذا الامر الجلل، وهو التعب الشديد الذي حل بوالدته كما اخبرته الدادة نبوية، والتي كانت جالسة الاًن على الفراش بجوارها، لترمقه بلهفة واستجداء فور ان وقعت عينيها عليه بداخل الغرفة:
– رياض يا بني انت جيت.
تقدم ليأخذ مكانه على الجانب الآخر من الفراش ، ليمسك كف والدته ويسألها:
– هي مالها؟ وايه اللي حصلها فجأة كدة؟ انا كنت سايبها كويسة.
اومأت المرأة بحرج تجيبه::
– والله يا بني كانت حلوة وزي الفل، انا بس دخلت الحمام، خرجت بعد كدة لقيتها اختفت ، قعدت ادور عليها وفي الاخر اكتشفت انها في البدروم.
– بتعمل ايه في البدروم، وايه اللي دخلها اساسا هناك ؟
هتف بعصبية زادت من صعوبة الامر على المرأة التي اطرقت برأسها تردف بحرج:
– لقيتها ماسكة حاجة المرحوم، وعمالة عياط ولا اكنه مات جديد، وانا مش عارفة هي وصلتلها ازاي اساسا؟ دا متخبية عنها بقالها سنين.
احتدت ابصاره في النظر اليها بصمت ، وغضب دفين، يحاول كظم انفجاره بصعوبة حتى على يزيد عليها ويجرحها، هذا خطأ لا يغتفر، ولكن كيف هي عرفت بمقتنيات الراحل لتتذكرها الاَن؟
– مساء الخير يا جماعة.
اجفل من شروده ليلتف نحو مصدر الصوت والذي تأكد من صاحبه فور رؤيته بمدخل الغرفة ، ليصعق بمن تدلف بصحبته:
– بهجة
تمتم الاسم بعدم استيعاب وهي تدلف مهرولة بقلق نحو والدته لتطمئن عليها ، وهذا المتحذلق يتبعها قائلا :
– الف سلامة عليها نجوان هانم، ايه حصل لها؟
– تعالي شوفها يا دكتور هشام دي تعبانة اوي .
تكلفت نبوية بالرد امام صمت الاخر والذي ارتسم العبوس على ملامحه ليغمغم كازا على اسنانه، دا ايه اللي جابه ده؟ وانتي ايه اللي جابك معاه؟
انتفضت بهجة لتنهض من جواره تجيبه بصوت هامس :
– صدفة والله، قابلته وانا داخله على هنا.
وقفت تبتعد عن الفراش مع اقتراب الطبيب منه وهو ينصت لحديث نبوية التي اسهبت بلهفة تشرح الوضع، وهو يختطف النظرات نحو بهجة، امام تجهم الاخر بصورة مكشوفة، يحجم نفسه عن الفتك به:
– انتي سريعة اوي في الشرح يا دادة، بس دا اكيد من التوتر، ما تساعديها يا بهجة باللي تعرفيه عشان افهم الوضع كامل.
توجه يالاخيرة نحوها لتهتز رأسها بعدم فهم ، فحسم رياض بجلافة:
– هتشرحلك ايه بهجة وهي مكانتش موجودة اصلا، ما تركز انت مع الدادة وانت تفهم .
قابل الطبيب انفعاله بهدوء متناهي، وهذه الابتسامة التي تثير استفزازه:
– ما انا قابلتها وانا نازل من العربية وعرفت انها واصلة حالا، بس برضو اكيد هي عندها من المعلومات اللي ممكن تفيدنا مع كلام دادة نبوية، بما انها متعلمة، ولا ايه يا سيادة المحامي المستقبلي، انا واثق انك هترجعي تكملي من تاني
– هي مين اللي هترجع……. هو انت كمان عرفت بمستوى تعليمها….
قالها بصدمة لينفض رأسه بعد ذلك كي يستفيق لمرض والده فهدر:
– خليك في حالة المريضة دلوقتي وانتي يا بهجة استني برا الأوضة .
أذعنت لتركض للخارج على الفور، هربا من هذا الوضع المربك، فهيئته كانت غير مبشرة على الاطلاق
اما الطبيب فقد كان على وشك الاعتراض ، حتى اجفل بالنظرة الحادة والوجه المغبر من هذا الذي تحولت ملامحه الى الإجرام، حتى جعله يردف باستسلام وتعلثم:
– ااا طب ماشي…. احكي واتكلمي انتي…… عن ظروف الحالة يا…. دادة نبوية
❈-❈-❈
فتحت احدى الفتيات الصغيرات من ابناء رحمة باب المنزل لترا من الطارق في هذا الوقت بعد ذهاب خالها وزوجته اليوم الى العمل بعد انتهاء شهر عسلهم، لتجد عمتها امامها بوجهها مهللة:
– ازيك يا منوش، انتي قاعدة هنا وسايبة امك لوحدها فوق يا بت .
رفعتها تقبلها من وجنتها، لترد الصغيرة:
– قاعدة مع ستو يا عمتو، هو انتي جاية عندنا؟
انزلتها على الارض تدلف لداخل المنزل دون انتظار تخبرها:
– اه يا حبيبتي هدخل اقعد مع التيتة شوية الاول، اطلعي انتي فوق لو عايزة تلعبي مع اخوتك .
هللت الصغيرة:
– وانا هروح اقول لماما كمان انك جاية عندنا
– ياللا يا ختي انطلقي
بالفعل ركضت الفتاة ليخلو المنزل عليها وعلى والدة شادي التي جاء صوتها من غرفتها باستفسار:
– مين اللي ع الباب يا منة؟
تقدمت لتدخل اليها تجيبها:
– انا سامية يا عمتي جيت اقعد معاكي شوية قبل ما اطلع عند اخويا ومراته.
وبطيبتها الزائدة استقبلتها المرأة:
– اتفضلي يا حبيبتي اقعدي معايا، والله فيكي الخير يا سامية انك بتسألي.
خطت تميل عليها بمحبة، لتقبلها من وجنتيها قائلة:
– انتي حبيبتي يا عمتي وانا الود ودي اقعد تحت رجليكي ما سيبكيش ابدا.
تبسمت المرة تبادلها:
– حبيبتي يا محلى كلامك، ربنا يديكي على قد نيتك ويعطيكي لحد ما تستكفي، اقعدي يا بت اقعدي.
خلعت عنها حقيبة اليد لتجلس امامها بأريحية امامها مرددة بابتسامة منتشية:
– اقعد يا عمتي ومقعدتش ليه؟ هو انا غريبة
❈-❈-❈
خرج من غرفة والدته بعد فحص الطبيب ومعرفة كاملة عن حالتها، على ملامحه يسود الوجود والاخر مازال مندمجًا في القاء التعليمات ووصف المستجد تطورات للحالة.
– زي ما قولتلك يا رياض باشا، هي كدة كل يوم بتثبت انها بتعود للواقع، وانهيار النهاردة دا اكبر دليل ، اكيد هتاخد وقت عشان تتعافى، لذلك انا بطلب منكم الصبر عليها، وتطولوا بالكم، هي اكيد موصلتش لكدة من فراغ، واحنا لازم نبقى على قد المسؤولية بدل ما تحصل انتكاسة.
اومأ يظهر تفهما وعقله يشرد فيما مضى وكيفية التصرف السليم معها الاَن لاستعادتها، رغم جراح الماضي وما تحمله من وجع كان هو من ضمن أسبابه.
– بهجة انتي هنا؟
عبارة صغيرة ولكنها كفيلة لانتشاله من غمرة شروده،، والعودة لحالته الاولى للغضب مع هذا البارد، والذي تبسم محياه، لمجرد رؤيتها برفقة العم علي في ردهة المنزل، والتي ردت بعفوية وقلق على المرأة.
– انا قاعدة مستينة عشان اطمن على حالة نجوان هانم،
هم يجيبها الطبيب ليسهب كعادته، ولكن الأخر قطع عليه من البداية بحزمه:
– ادخلي عندها جوا يا بهجة ودادة نبوية هتفهمك، ياللا بهجة.
هتف بالاخيرة بصيحة ازعجتها، ولكنها اضطرت لتتغاضى حتى تجنبًا لغضبه، وهذه الحالة الغير طبيعية التي يبدو عليها، اما الطبيب والذي اصابه الاحباط، فقد رمقه بشرز وكره جعله يستأذن مغادرًا على الفور:
– انا قولت بما فيه الكفاية، عن اذنكم بقى؟
– اذنك معاك يا خويا.
غمغم بها رياض بصوت مكتوم ، ليجأر بصوته نحو سائقه:
– روح معاه وصله يا عم علي .
❈-❈-❈
والى مكان اخر، داخل المنزل الصفيحي، ينظر من شرفة نحو الكم الهائل من الخرابات، في تلك المنطقة العشوائية، يستمع الى حديث والدته له عبر الهاتف الجديد، وقد استغني عن الاخر وجعله مغلقًا حتى ينتهي مما هو فيه، فيستفيق للعب مرة اخرى:
– ايوة ياما، زي ما بقولك ابعتي الفلوس على حساب الكاش اللي بقولك عليه…….. ياما ما تقلقيش بقولك ، انتي بس راضي المحامي الزفت وهو هيقوم بالواجب….. نعم نعم،، وجوزك رافض ليه ان شاء الله؟ هي الفلوس دي هيحوشها لمين؟ ما كله هيرجعلي في الاخر ولا هو ناسي…… مليش فيه بقى اتصرفي، انا مطلوب في فلوس على وجه السرعة…… ماشي يا ستي نستنى على ما يرجع من سفريته، مع اني بقيت اتوغوش على فكرة من كتر سفرياته دي،……. طب متزعليش ياما، المهم زي ما قولتلك ما تنسيش الفلوس توصل في اقرب وقت .
انهى المكالمة ليلتف نحو هذا الشاب المدعو عزوز والذي كان متكئا على الجدار يرمقه بعدم رضا قائلا:
– شكلها فيها انتظار تاني، انا بقول تشتغل وتجيب الفلوس من عرقك احسن يا غم هيما، بدل الشحططة ووجع القلب.
سمع منه لينهره بسخط :
– هو مين ياض اللي يشتغل ولا يهبب؟ ما تصحى لنفسك يا عزوز الكلب، مكانش يومين دول اللي قعدتهم عندك .
زفر الشاب يطوح كفبه بعدم اكتراث:
– ماشي يا عمنا انت حر، اخرك بس لبكرة عشان ابقى عملت اللي عليا، لو الفلوس وحق قعدتك هنا مجاتش، يبقى بقى ما تزعلش لما رجالة المعلم يرموك هيلة بيلة او يستفردوا بيك ، المنطقة هنا محمية طبيعية ملك المعلم الكبير ، يعني كل حاجة بامره، وانا مجرد خادم انفذ وبس، سلام يا بوس
خرج يتمايل في خطواته بكيد فيه، ليبصق الاخر من فمه مخرجا سبة وقحة :
– ابو شكلكم عالم اوساخ
❈-❈-❈
والى امنية التي خرجت من المرحاض تمسك بطنها وجبهتها بألم الدوار الذي كانت تسيطر عليه بصعوبة لتحفظ توازنها، او تهرب منه بالنوم معظم اليوم ، وجدته بداخل الشرفة يدخن بشراهة وشرود كالعادة، تقدمت لتجلس على اقرب مقعد يقترب من الشرفة تخاطبه:
– عصام انت مش خارج النهاردة؟
التف اليها ليقترب منها قائلا :
– لا خارج بعد شوية، بس انتي مالك؟ كذا مرة تدخلي الحمام في ساعة واحدة.
ردت تمط شفتيها بعدم معرفة او تدعي ذلك :
– باينها باطني بتوجعني، ع العموم انا هروح اريح شوية ع السرير احسن.
شرعت لتنهض فعلق من خلفها بسخرية:
– انتي اليوم كله ع السرير تقريبا، ايه الحكاية؟
ارتفع كتفيها وسقطا سريعًا لتعبر عن استيائها:
– مش عارفة بقى، يومين ويعدوا ان شاء الله.
تحركت لتذهب نحو غرفتها فخاطبها قائلا:
– طب خلي بالك بقى عشان طنت مجيدة مصرة تيجي تطمن عليكي، مش بعيد تلاقيها بكرة فوق راسك .
التفت له برأسها:
– تيجي تأنس وتشرف هي محتاجة استئذان اصلا ، عن اذنك بقى، عشان النوم كابس عليا .
❈-❈-❈
بملامح تملأؤها الأسى كانت بجوارها تلمس بيديها على خصلات الشغر الاصفر الحريري ، بعد ذهاب نبوية التي كادت ان تسقط من التعب، لتأخذ هي دورها، وتظل بجوارها، لا تريد تركها،
هذه المرأة الرقيقة ، تتعجب عما يصيبها؟ لماذا الطيبيون مصيرهم الدائم للجراح، حتى مع امرأة فاتنة مثلها، تملك من النعم ما يجعلها اميرة متوجة ومع ذلك تصاب بالمرض حزنا وكمدا نتيجة الخيانة.
– بهجة
جاء صوته بهذه النبرة الضعيفة ليقترب ويجلس على الجانب الآخر من الفراش ، يقبل رأس والدته العافية بفعل الحقن المهدئة، ليسأل عن حالتها :
– عاملة ايه دلوقتي؟
اومأت تجيبه بإشفاق لحالته هو الاخر :
– ان شاء الله تبقى كويسة زي ما قال الدكتور، بس الصبر، واحنا جنبها بنحبها مش هنسيبها ان شاء الله غير وهي راجعة لطبيعتها.
اومأ بهز رأسه لينهض يجر اقدامه، ليخرج من الغرفة وكأنه يريد الإبتعاد حتى لا ترى المزيد من ضعفه ، ولكنه ابت ان تتركه .
لتنهض من جوار والدته وتلحق به، وقد جلس بوسط الصالة مطرقه رأسه بألم واضح ، اقتربت لتضم رأسه بحضنها ، تغمرها بحنانها:
– اطمن يا حبيبي، كل حاجة هتكون تمام وعال تلعال ان شاء الله.
شعرت بدموعه الساخنة على بلوزتها، وهو يشدد من من ضمها اليه، وكأنه طفل صغير وجد ملجأه:
– انا خايف عليها اوي يا بهجة، وخايف كمان من اللي جاي ، والدتي جرحها مكانش في بابا ولا الخيانة وبس، انا كمان كنت ضمن الدايرة، بس والله ما كان بخاطري. انا اتحطيت في وضع جبرني اكدب عليها، والكدب اتحولت لكارثة بعدها، عشان اتحمل الذنب طول عمري.
– لا انت عملت ايه كمان معاها
عمغمت بتساؤول لم يجيبها عنه، فقد كان منغمسًا في ذكرياته السوداء، يبوح بما يحمله بداخله:
– كان نفسي تسمعني وتفهمني وقتها، لكنها كانت منهارة ومصدومة فيا زيي زيهم ، ضمتني في كفة الخيانة وانا يشهد ربنا ببرائتي، راح عقلها ومستحملتش وانا فضلت في مرار الماضي ، ودايرة مقفولة خنقاني،
رغم جهلها بكل ما حدث وفضولها في المعرفة الا انها شعرت بواجبها في الا تزيد عليه ، لتعطيه الفرصة يعبر ويخرج المكبوت بداخله وهي تسمع وتهون ، حتى يعترف له بنفسها، او ربما تعرف الحقيقة من صاحبة الامر نفسه، تسأل الله ان يشفيها عن قريب:
– اهدى يا حبيبي اهدى، ان شاء الله تطمن قريب وتريح قلبك من ناحيتها ، انا واثقة ان قلبها كبير .
– ياريييت يا بهجة يا ريت .
صار يشدد بذراعيه، ولا يريد تركها ابدا،
❈-❈-❈
في منزل شادي والذي كان واقفا بجوار زوجته التي اصبحت تأن بألم غير محتمل وهي ترفع رأسها عن المغسلة التي حاولت افراغ ما ببطنها به، ولكن للأسف لم يحدث
– ااااه اااه، بطني بتوجعني جوي يا شادي.
شدد يمسح بالمنشفة على جبهتها ثم يضمها اليه مهونا:
– معلش يا حببتي، بس انا مش عارف اعملك ايه تاني ، انتي لا البرشام نفع معاكي ولا الحاجة السخنة ، طب اخدك واروح بيكي ع الدكتور احسن .
رفضت بهزة من رأسها:
– لا عايزة اروح لدكتور ولا زفت، هروح انام احسن، يمكن ارتاح .
زفر باستسلام اذعانا لرغبتها ليحسبها حتى الفراش، يسطحها عليه، ثم يشد عليها الغطاء ليغطيعا بأكملها ، فخلع عنه سترته لينضم معها، وما ان شعرت به يريد ضمها اليه حتى عبرت عن رفضها :
– معلش يا شادي ممكن تبعد حاسة نفسي مش حاملة اي نفس جمبي .
تطلع اليها بصدمة مغمغما:
– حتى نفسي انا يا صبا.
لم ترد عليه، وهو ابتلع الغصة، يتمتم بالاستغفار، يرجع الحجة لمرضها، ليتضرع الى الخالق :
– ربنا يشفي عنك يا حبيتي .
طبع قبلة فوق جبهتها ولكن ملامحها التي تغضنت بضيق جعلته، ينهض على الفور من جوارها ،
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
وتظن انك قد ملكت زمام امرك، ولا شيء يستطيع أيقافك، حتى يأتي من يسرق النوم من عينيك ويُحرم عليك الراحة، فيتبدل حالك من النقيض للنقيض .
ومن أقوى منه، ذلك الذي يفرض سلطانه، ويجعلك ترضخ على غير اردتك لرغبته.
يُضغفك، نعم هو يُضعفك……. ذلك القلب المتمرد على كل حسابات العقل والمنطق، هو سيد الأمر مهما ادعيت غير ذلك او تجاهلت….. سوف يهزمك في الأخير.
#بنت_الجنوب
خطت تحمل على يدها مشروب الفواكه الطازجة، تتقدم نحوها داخل الحديقة التي أصبحت ملجأها منذ ان استفاقت من غفوتها وأصبح الوعي يعود اليها تدريجيا، ولكن مقابل ذلك كسى الحزن ملامحها بصورة واضحة وكأن جراحها فتحت من جديد،
الكلمات القليلة التي كانت تتكلم بها، زادت عن معدلها بقليل ولكن ليس في كل الأوقات ، فرص التحدث عندها نادرة ولكن حين تخرج منها تفاجأهم،
دائمًا تثير قلقهم بشرودها، ومع ذلك يصر الطبيب انها تسير على الطريق الصحيح.
تفوهت بهجة كي تنتبه اليها:
– اتفضلي العصير يا نجوان هانم
دنت اليها بكوب المشروب البارد والذي رمقته الاخيرة لعدد من اللحظات قبل ان تمد كفها وتتناوله منها.
تجرأت بهجة لتجلس على الكرسي المقابل لها، كي تتحدث معها:
– معلش هعزم نفسي واقعد معاكي، ممكن القمر تسمحلي ولا اقوم من سكات احسنلي.
ايضا رمقتها دون ابداء أي رد فعل، لتشيح بوجهها عنها بعد ذلك، وترتشف من الكوب.
ولكن بهجة لم تستسلم لتميل اليها قائلة:
– تعرفي بقى ان انا حاسة براحة دلوقتي بعد ما اتأكدت انك بتسمعيني، ولسة كمان منتظرة لما تاخدي وتدي معايا وتأمريني،…..
توقفت تطلق تنهيدة من العمق لتردف:
– حتى ابقى مطمنة عليكي لما اسيبك….
في الاخيرة توجهت اليها نجوان بنظرة لم تفهمها، لا تعرف ان كانت استنكار او عدم تصديق، أو غير ذلك، اصبحت تثير حيرتها بحق، لتسألها بفضول؛
– ايه يا نوجة؟ هتشتاقيلي لما اسيبك؟
هذه المرة تحولت ملامحها للعبوس قبل ان تدير وجهها للناحية الأخرى مرة اخرى، وتتكتف ذراعيها بضيق ملحوظ، حتى همت بهجة ان تشاكسها لولا قدومه المفاجيء، وصوته الذي دوى ينبئهم بمجيئه:
– مساء الخير
ردت بهجة بالتحية تتبادل معه نظرات يسودها التفاهم امام صمت نجوان ووجومها، حتى اقترب منها واضعًا قبلة اعلى رأسها، مخاطبًا لها بلطف:
-،عاملة ايه يا نجوان هانم النهاردة؟.
بنفس الوتيرة اصبحت تحدجه صامتة، يزيدها حدة تلوح في الافق، هو فقط من يفهم عليها، ليستطرد واضعًا عيناه نصب عينيها:
– اتكلمي يا ماما وطلعي اللي في قلبك، حتى لو عايزة تشتميني، انا مستني اللحظة دي من زمان اوي يا نجوان هانم، بس اسمع صوتك وانتي كمان تسمعيني.
نهضت بهجة تستأذن للذهاب ، وقد شعرت بالحرج، أو ربما تود اعطاءهم الخصوصية.
لم ينتبها الاثنان لانصرافها، فلم تحيد ابصارهما عن بعض، ليردف هو:
– مهما استمريتي في عنادك، أكيد هيجي اليوم اللي تحني ولا تضعفي فيه وتتكلمي، انا في أشد الاشتياق للمواجهة دي، على الاقل ساعتها تسمعيني وتقرري، بدل العذاب اللي عايش فيه بقالي سنين .
مال يقبلها على وجنتها قائلا:
– انا في انتظارك يا ماما.
ثم ذهب كما جاء ، وظلت هي تنظر في اثره بشرود كالعادة
❈-❈-❈
أمام مراَتها وقفت تتأمل هيئتها بملابس الخروج، لتلامس بكفها على البطن التي اصبحت تحمل بأحشائها ثمرة الحب وارتباطها برجل حياتها الأول والاخير، والذي مَن الله عليها به، بعد سنين العذاب والتوهة داخل علاقة سامة كادت تودي بحياتها، أو تعيش بمر الحقد على اقرب الناس اليها.
– امنية خلصتي لبس ولا لسة ؟ انا مستعجل وممكن اسيبك وامشي.
كان هذا صوت حبيبها الذى دوى صوته كمنبه لها كي تستفيق لتأخر الوقت، فتتناول حقيبتها سريعًا لتخرج اليه، فتجده كالعادة منشغلا بالحديث عبر الهاتف مع أحد الأشخاص، مشتتًا عن التركيز معها وما تمر به من تطورات لهذا الحمل العزيز عليها، كم ودت ان تبقي الامر سرًا ولا تخبره، حتى لا تقابل بهذه الفرحة العادية، والخالية من اللهفة التي توقعتها..
حتى الاَن لا تعلم السبب الحقيقي لاستقبال شيء هام كهذا منه ببرود تستغربه، رغم علمها انه يحمل حبًا عظيمًا بداخله لها، حتى لو كف عن التعبير عنه، او ربما منعه العقل المشتت عن ذلك.
– انا خلصت يا عصام .
قالتها ليلتف اليها، فترى في عينيه تلك الومضة السريعة في اظهار اعجابه، قبل ان تخبو ايصا سريعًا، ليسبقها مرددًا بروتينة:
– تمام، ياللا بقى عشان نلحق السبوع من أوله.
اوقفته فجأة تجذبه من ذراعه قبل ان يخرج:
– عصام انت مش فرحان لحملي ولا فكرة السبوع دي لأحفاد الست مجيدة محركوش جواك الحنين؟
تجمد فجأة قبل ان يستجيب ويلتف مركزًا ابصاره بها :
– وايه اللي يخليني مفرحش يا امنية؟ هل شوفتي عليا رد فعل يثبت عكس ذلك.
تقربت منه تقول بنبرة حانية، لتصل بها الى غرضها في المعرفة دون ان تثير انفعاله:
– انا مش بتكلم انك مش فرحان، انا بتكلم على رد الفعل، اصل انا كنت متخيلة فرحة وصريخ ، يمكن اكون هبلة في تخيلي، بس الفرحة مفيهاش عيبه ولا ليها كبير ولا صغير.
نصف ابتسامة ساخرة لاحت بزاوية فمه يعقب على كلماته:
– اه بقى دا على اساس انك كنتي مدياني فكرة من الاول، مش الست مجيدة اللي جات وفضحت الدنيا بفرحتها.
– مكنتش لسة اتأكدت يا عصام .
قالتها بحرج شجعه على مواصلة العتب:
– انا بتكلم عن الترجيح يا امنية، كل الاعراض اللي كنتي بتمري دي تخلي اي واحدة ست تفكر ، انا نفسي شكيت بس شيلت من دماغي لما لاقيتك واخدة الأمر انه تعب عادي
لقد قلب الامر بحنكته، وأتى بالحجة عليها، ولكنه لا يعلم بأنها هي ايضا ليست على ما يرام، فما يتسلل بداخلها من مخاوف وهواجس تمنعها من التفكير السليم في بعض الاوقات، بل وتذهب عنها الفرحة كلما تذكرته. اللعنة عليك يا ابراهيم، وبما تسببت به من اضرار في العلاقة بينها وبين زوجها،
القت بنفسها داخل حضنه تفاجئه، في تعبير عن اسفها، أسعده فعلها، وتقبلها يصدر رحب رغم نزفه:
– القميص الابيض يا ست، يقولوا عليا ايه لما يلاقوا الروج عليه.
ضحكت لتردد بدون ترفع رأسها التي استراحت علي صدره:
– قولهم دا اثبات لحب مراتي ليا.
❈-❈-❈
أنهت مناوبتها وكانت في طريقها للمغادرة ، بعدما أطمأنت على نجوان ، وخلودها للنوم مبكرا،
أبصرت بعيناها ضوء غرفة المكتب الخافت، فاتجهت لتطل عليه بداخلها، فتطرق بخفة وعلى تردد قبل ان يأتيها صوته المرحب وكأنه علم بها:
– ادخلي يا بهجة.
دفعت الباب تخاطبه برقتها:
– لو مش فاضي ممكن امشي.
اشار اليها بيديه، يفتح لها ذراعيه الأثنان، معبرا عن احتياجه الشديد لها، وكأنها أتت على نداء قلبه،، لتلبي سريعًا، وتهرول بخطوتها السريعة اليه، فيضمها من خصرها بلوعة قائلا:
– انا مشتاقلك اوي يا بهجة، ومخنوق جدا عشان مقدرتش اجي على ميعادنا ولا اشوفك النهاردة
– انا عارفة ان عذرك معاك.
تمتمت بها تلمس على شعر رأسه بحنو، لتدخل اناملها الرقيقة بين البصيلات فتدلك من بينها، فتفعل بالراس المتعب الافاعيل، حتى اصبح يغمض عيناه مستسلمًا لسحر اللحظات، ليردد باسترخاء:
– اه يا بهجة اه، التدليك دا حلو اوي، كأنه بينزع عني الاجهاد والتعب.
تبسمت قائلة:
– دي عادة ابويا الله يرحمه عودنا عليها، كنا نتسابق عشان نحط راسنا في حجره ويعملها معانا وهو بيتفرج ع التليفزيون، محدش كان بيصمد ولا بياخد وقت في النوم معاه.
تبسم معقبًا:
– والله كنت هسألك لأن انا فعلا حاسس اني هنام من ايدك دلوقتي، حاسس نفسي مرتاح عليها اوي ، ومش عايزك تبطلي ابدا .
– لا مدام فيها نوم، يبقى اشيل ايدي انا احسن.
قالتها لترفع يدها عنه بالفعل، فعبست ملامحه بالضيق يخاطبها:
– ليه يا بهجة رفعتي ايدك ؟
ردت بمرح وهي تبتعد عنه:
– ما انت ممكن تنام في ايدي بالفعل، وابقى انا عطلتلك عن الشغل اللي في ايدك، ويمكن تيجي تاني يوم تحاسبني.
زفر يدفع الملفات نحوه بضجر مرددًا:
– لا يا ستي مش هاحسبك ولا اكلمك، بس منكرش اني ورايا شغل بالفعل.
عاد يخاطبها وابصاره منصبه نحوها:
– النهاردة مضيت عقد مهم اوي يا بهجة، مع اهم عملا في المنطقة، بكرة منتجات مصنعنا، تغرق سوق الوطن العربي ، انا مبسوط اواي عشان كل يوم بقرب من حلمي.
شعرت بالسعادة من أجله حتى رددت بتمنى من قلبها:
– ربنا يبسطك كمان وكمان يا حبيبي وتحقق كل اللي نفسك فيه.
– على فكرة انا مش ناسيكي
قالها ليخرج من جيب بنطاله علبة مخملية صغيرة، وفتحها يخرج منها سلسالًا صغير، يتوسطه قلب ، فرفعه امامها لتسأله باستفسار أبله:
– – ايه ده يا رياض؟
نهض عن مقعده ضاحكًا يجيبها:
– يعني هيكون ايه بس يا روح قلبي، مش باين انها سلسلة؟ ارفعي الطرحة بقى خليني البسهالك.
وبفعل غريزي ارتدت بقدميها للخلف معترضة:
– لا بلاش
– بلاش ليه؟
بماذا تجيب سؤاله ؟ وقد حصر مكافئتها وامتنانه لها بشيء عيني رغم كل ما يحدث من تقارب بينهما، لدرجة تجعلها تنسى الاتفاق اللعين، ولكن ها هو ذا، يذكرها عمليًا به:
– بهجة انتي تنحتي ليه؟ انا عايز اللبسك السلسة بس على فكرة
همت تتحجج بشيء ما ولكن اندفاع الباب فجأة جعلها تنتفض مجفلة نحو مدخل الغرفة، فتصعق عينيها متفاجئة بما تراه، وكان هو الأسبق في رد فعله:
– ماما انتي لابسة كدة ليه؟
سألها بإشارة نحو ملابس الخروج التي كانت ترتديها بأناقة سيدة مجتمع لم تغب عن عالمها يومًا
ولكن امام صمتها وعدم اجابتها تسائلت بهجة أيضًا:
– نجوان هانم انا سيباكي نايمة من يدوب نص ساعة، امتى لحقتي تصحي وتلبسي؟
ردت بعملية ودون تطويل:
– هنروح للدكتور .
– دكتور مين يا ماما؟
تمتم مستفسرًا، لتأتي اجابتها المباغتة له:
– دكتور هشام
– هشام مين؟
غمغم بها لتأتي على الفور صورة هذا البغيض، ليردف بانفعال:
– وايه اللي فكرك بيه الزفت ده دلوقتي؟ انتي عارفة الساعة كام؟ استني للصبخ وانا اوديكي لأحسن دكتور.
تجاهلت وكأنها لم تسمعه لتتجه نحو بهجة وتأمرها:
– ياللا يا بهجة عشان تروحي معايا.
سمع منها ليصيح بها متخليًا عن بروده المعتاد:
– بهجة مين اللي تروح معاكي عند الزفت ده؟ هي اساسا كانت ماشية عشان متقدرش تتأخر عن اخواتها، لكن مادام انتي مصرة اوي كدة ، هاخدك انا اروح بيكي.
بتحدي واضح تجاهلت للمرة الثانية ترمقه بهدوء يزيد من غضبه:
– وانا رافضة اي حد تاني يروح معايا غيرها، ياللا يا بهجة.
خرجت منها الاخيرة بحزم امام غضب الاخر، والذي خشت الاخيرة من تحوله الغريب كل ما ذكر اسم الطبيب، لتبرر ملطفة بعفويتها بين الام وابنها:
– معلش ياااا رياض باشا، هي اساسا مكملتش لسة تسعة، انا هروح مع الهانم وابقى اتصل بيهم ابلغهم…..
– اسكتي انتي….
صرخ بها مقاطعها بحدة، وقد بدا انه على وشك الفتك بها ليزيد على خوفها كازا على اسنانه بنظرة ارعبتها:
– مسمغش صوتك خالص يا بهجة دلوقتي انا على اخري.
اومأت بإشارة نحو غلق فمها تهادنه، وتجنبًا لغضبه، فجاء الرد العملي من نجوان:.
– انا هسبقك ع العربية، حصليني يا بهجة.
قالتها وتحركت مغادرة على الفور ، مما اضطر بهجة للحاق بها، تبدي اسفها امام صدمته:
– هروح احصلها، انا مينفعش اسيبها لوحدها.
قالتها وهرولت ذاهبة من امامه ، ليزمجر من خلفها يدفع الكرسي الثقيل بقدمه، غير ابهًا بالألم، ثم تناول سترته ليلحق بهما مغمغما:
– ماشي يا نجوان هانم، اما اشوف اخرتها معاكي ايه؟
❈-❈-❈
في زاوية مظلمة بطرف الشارع، وقف ينفث الدخان الكثيف من فمه، من تلك السيجارة المحشوة، يخرج بهما ضجره وغيظه، يستنكر ما ال اليه حاله ، ان يُصبح موزعًا لهذه الأشياء التي كانت تأتيه واضعا قدما فوق الاخرى.
بل ولسخرية القدر ان يصبح هو تابعًا لهذا الاحمق الذي اصطبغ شعره باللون الاخضر ، ليُصبح مقاربا بهيئته تلك وملابسه الغريبة، لصوره الضفدع طبق الاصل.
يخطف النظرات نحوه ويراقبه بلؤم كل لحظة ، وكأنه سوف يفر ويذهب بهذه المصائب التي يحملها بجيبه، كي تلتقفه الشرطة في اول لجنة تقابله ، ولحظه البائس اصبح مطلوبا امام القانون، بفضل هذه الملعونة التي تتنعم بحياتها الان، وهو سرقت منه الراحة ولبس قضية، قبل حتى من ان ينال غرضه منها ويشفي غليله، لكن لا بأس، فهو ابدا لن يستسلم .
اما عن اييه، فلن ينسى ابدا له هذا الموقف المخزي، بأن يتخلى عنه، ويرفض صرف المال من اجل نجدته من هذه المصيبة ، يقسم ان يجعله يدفع ثمن هذا الخطأ، ولن يتوانى او يتهاون .
استفاق من شروده على هزيز الهاتف بجيب بنطاله، وقد. علم المتصل من نظرة واحدة نحو هذا الاحمق عزوز ، والذي توجه له بالأمر فور ان فتح المكالمة:
– ركز يا اسطى كدة واصحى، في زبون جايلك حالا دلوقتي
اغلق المكالمة ليبصق من فمه، متمتمًا بسبة وقحة، لاعنا هذا المدعو عزوز والزبون اللذي سوف يستلم منه ومعلمه صاحب المحمية التي جبر على العيش فيها، ولكن هذا الأمر لن يستمر طويلا
❈-❈-❈
فتحت أنيسة تستقبلهم داخل المنزل الذي كان ممتلاءًا بعدد الافراد المدعوين ، بصخب على قدر ما يثير الازعاج، على قدر ما يثير البهجة داخل القلوب،
– اتفضلوا يا حلوين، المرة الجاية يبقى الدور عليكي انتي يا قمر
تقبلت امنيه عناق المرأة تبادلها التهنئة والمباركات ، ثم تدلف خلف زوجها الذي لم يترك يدها، لتقع عينيهم اول الامر على مجيدة التي كانت توزع هدايا الاسبوع على الأطفال، تطاليهم بالغناء لأحفادها وهم لا يقصرون،
فتحت ذراعيها لامنية ، فور ان وصلت اليها هي وزوجها، لتحتضنها وتقابل زوجها بالمزاح:
– عقبالك يا سيادة الظابط لما تتلبخ زي صاحبك.
قالتها في إشارة نحو ابنها الذي كان يحمل طفلته وبهدهدها حتى تكف عن البكاء.
لينتبه عليها هو الاخر فيعلق ساخرًا:
– ايوة بقى يا ست مجيدة خليه يفرح في ابنك اللي اتهزت هيبته من حتة عيلة قد عقله الصباع .
اقترب منه عصام ليقبل الطفلة على وجنتها الصغيرة يغمغم بانبهار:
– حقها يا باشا، بسم الله ما شاء الله بدر منور في ليل تمامه، تعمل ما بدالها بقى .
قابله بابتسامة صفراء ينقل بنظرة سريعة نحو زوجته الجالسة مع صديقتها شهد وعدد من النساء، وقد استراحت بالقاء مسؤوليتها عليه، ليردد بغيظ :
– اه يا خويا حقها، ما هي مش هتجيبه من برا ، نفس الخلقة ونفس الزن، دي كأنها عملت استنساخ لنفسها، يا ساتر يارب، انا كنت قادر على واحدة عشان تجيني الصورة التانية منها
هذه المرة جاء الرد من مجيدة لتتناولها منه بخفة قائلة:
– وانت تطول يا واد، هات هات، دي هتبقى قلب ستها ونور العين من جوا، هي الباشا ريان ابن المهندس، يا اختي عليك وعلى جمالك انتي، خدي بوسي يا بت امنية حور القمر بتاعتنا، ولا تشيليها احسن.
– ما بلاش يا خالتي
قالتها امنيه ببعض الخوف لتحثها مجيدة بحزم:
– امسكي يا بت متخافيش على الاقل تدربي نفسك .
تلقفتها منها بإيدي مرتعشة وقلب يخفق برهبة لحمل هذه القطعة الصغيرة، ذات العيون الفيروزية كوالدتها ،
والتي رغم صغرها لا تكف عن تذمرها والرفص بأقدامها وذراعيها، لتجبرها على الضحك مرددة بانشداه امام زوجها المنبهر هو ايضا:
– بسم الله ما شاء الله، تبارك الرحمن على جمالها وحلاوتها، بس هي فعلا اثبتت انها بنت لينا .
تبسم عصام باتساع لفعل صديقه، الذي عبر يصطنع اليأس وقلة الحيلة:
– انا ربنا يكون في عوني.
بعد قليل
كان المنزل امتلاء لأخره، أصدقاء وصديقات، جيران احباب ، حتى كانت المفاجأة بقدوم رئيس لينا في العمل مع شريكه
– جاسر الريان معقول
كان هذا رد فعل شهد التي تعرف الرجل بمشروعاته الهائلة، وقد تقدمت صديقتها تستقبله وترحب به مع زوجها ووالدتها وقد قدم بصحبة طارق صديق العائلة
ورئيسها في العمل.
عقبت امنية تشاركها الحديث الهامس في زاوية تجمعها مع شقيقتيها الاثنتان.
– دا مش جاي لوحده كمان، دا معاه مراته زهرة محروس اللي كانت ساكنة في الشارع اللي ورانا ، والحلوة التانية اسمها كاميليا يا حلاوتهم
ضحكت شهد لتتدخل بينهم رؤى معلقة هي الأخرى :
– اني مبلمة بتبص عليهم يا عيني بانبهار، تلاقيها افتكرتهم تبع نجوم السيما اللي بياجو في التليفزيون.
ضحكتا الشقيقتان على مزحتها، حتى اتى حسن ليشاكسهم :
– بتتدودو مع بعض تقطعوا فروة مين؟ وانتوا واخدين جمب لوحدكم.
ردت شهد ببرائة:
– احنا يا حسن، تعرف عننا برضوا الكلام ده؟
– يا شيخة ، دا انتي ام الكلام ده.
تمتم بها في رد لها قبل ان يسحبها من يدها مردفا:
– تعالي بقى سلمي ع الناس بتسأل عليكي يا ام ريان.
قال الاخيرة بغمزة غمرت قلبها بالبهجة، لتبادله اللقب الجديد:
– ماشي يا ابو ريان، صحيح هو فين؟
شهق يوبخها بدراما:
– اخص ، بقى دا سؤال تسأله ام في يوم سبوع طفلها، ايه الاهمال ده؟
ضحكت حتى اصبحت تميل بسيرها، لتجاريه مزحته:
– ما انا اصبحت زوجة افسدها الدلال بقى، تعمل ايه؟
تأوه ضاغطًا على شفته:
– اااه يعني انا اللي جيبته نفسي، يبقى اتحمل.
اومأت بهز رأسها، ليضمها اليه من كتفيها مرددًا:
– على قلبي زي العسل يا قلب حسن ، ع العموم انا غيرتله وحطيته في سريره يريح شوية بعد هز الغربال وعمايل الست مجيدة، دا هيشوف على ايديها ايام عنب
تضرعت شهد تدعو من قلبها:
– ربنا يخليهالو يارب.
❈-❈-❈
بوجه مكفهر وملامح ممتقعة كان جالسًا خارج غرفة الفحص مع الطبيب الملعون بعدما اجبرته والدته للخروج وعدم التحدث عن حالتها في حضوره، وبإصرار عجيب فرضت رأيها بمرافقة بهجة، لينسحب هو على مضض امام شماتة هذا الاحمق به
ويظل محترقًا بأعصابه في الانتظار وقد تعدى الوقت النصف ساعة، حتى بدى بوضوح على تصرفاته الغريبة في اهتزاز قدميه، والجلوس والوقوف بصورة تثير الانزعاج، ثم يفرك بكف يده على ذقنه النابتة بشكل متكرر ، جعل التوجس يتسلل الى قلب الممرضة التي اصبحت تتابعه بقلق، ليزيد بلطمة قوية على ذراع المقعد الذي يجلس عليه فتتنقض المسكينة وهو يهدر بها:
– وبعدين بقى؟ هي الجلسة الزفت دي بتستمر لحد امتى؟ دي هتكمل الساعة دلوقتي، هما بيعملوا ايه جوا؟
دافعت الفتاة بخوف:
– يا فندم دي جلسة نفسية يعني ملهاش وقت محدد، ان كان اقل من نص ساعة ولا ساعة…
– ساعة….
صرخ بها مقاطعا ليقف بطوله امامها يردف بأعين تلونت بالاحمرار:
– انا على اخري ومعنديش وقت ، الزفت اللي جوا دا ميعرفش ينهي ويخلصنا في ام الليلة دي، هو ناوي يقعدنا لحد كام بالظبط عشان افهم، ولا هي العيادة دي مفيهاش وزباين غيرنا
– لا فيها يا فندم والله، بس احنا مواعيدنا الاصلية انتهت من زمان والدكتور هشام مرضاش يكسف مريضته رغم انه هلكان شغل من الصبح، من المستشفى للعيادة
– لا يا ختي كان كسفها، ع الاقل ساعتها كنت اشوف اغيره بدل القرف ده.
هتف بالكلمات ردا لها ، ليتركها بعد ذلك، ويعود للسير بعصبية امام باب غرفة الفحص، وكأنه ينتظر الفرصة للهجوم عليها
فتتعلق ابصار الفتاة به فاغرة فاهها بذهول ، لا تصدق الاسلوب الحاد الذي يتحدث به عن الطبيب ووصفه بالزفت ، متخليًا عن وقاره المعروف، واناقة التحدث باتزان ، انه يبدو على وشك الانفجار،
دفع باب الغرفة فجأة لتطل والدته عليه ترمقه بنظرات يشلمها الاستهجان وقد بدى واضحًا صورته الغريبة امامها، فيتجاهل هو عن عمد وينتقل بأبصاره نحو بهجة التي تحدثت بريبة تأثرا لهيئته:
– ااا الدكتور غير لها معظم الأدوية، وخفف لها يدوب على نوعين تلتزم بيهم .
هدر باندفاع رد لها:
– انا بقالي ساعة مستني، كل دا كان بيكشف عليها.
همت بهجة ان ترد ولكن الطبيب كان الاسبق والذي كان خارجًا بالصدفة، بابتسامة متسعة ينظر في الساعة :
– ياه دا احنا فعلا اتأخرنا والوقت خدنا، انا اسف طبعًا يا رياض باشا، الوقت مع مدام نجوان بيمر هوا
قال الاخيرة وابصاره منصبة على بهجة ليزيد من استفزاز الأخر، والذي ردد من خلفه بغيظ شديد :
– مدام نجوان برضو….
زفر انفاس خشنة خرج صوتها بوضوح، ليغمغم بتوعد:
– شكلي كدة هخزقلك عينك يا دكتور الغبرة،
– مش نمشي بقى
توجه بها نحو بهجة ووالدته التي كانت واقفة باتزان عجيب تتابعه، وكأنها تستمتع باحتراقه، ليعود اليها ضاغطًا على اسنانه:
– نجوان هانم، مش ناوية تتحرك بقى ولا انتي عجبك القعدة هنا .
ابتسامة خفيفة لاحت بزاوية ثغرها الصغير، لتهم بالتحرك وتسبقه فجاء صوت الطبيب من خلفها:
– نجوان هانم متنسيش تتابعي ع التليفون معايا تطمنيني على حالتك، ولا تخلي بهجة احسن تبلغني ع الوتس ، انتي عارفة رقمي طبعا يا سيادة المحامية المستقبلية..
الى هنا ولم يقوى على الصمت ليزمجر مندفعا نحوه، وقد كان على وشك الفتك به، لولا تصدر نجوان التي أتت من العدم تطالعه بتحدي حتى يفعل، ليستمر هذا الحديث القصير بالنظرات بينهم، قبل ان تقطعه هي بنفسها:.
– ياللا بهجة العم علي مستنينا .
قالتها وتحركت الاخيرة لتلحق بها ، فيمسح هو بكفه على صفحة وجهه، يناجي نفسه التحلي بالصبر ، ثم تحركت قدميه بخطوات سريعة، ليلحق بزوجته، التي كانت على وشك الخروج من المركز العلاجي للطبيب ، فيوقفها بجذبها من ذراعها:
– استني عندك هنا، انا عايزة اعرف دلوقتي، الزفت ده عرف بموضوع الجامعة وسايبانك ليها ازاي؟ انتي بتاخدي وتدي معاه يا بهجة.
اجفلت لطريقته الحادة في الحديث معها ، لتنفي على الفور:
– لا باخد ولا بدي والله، دا كان سؤال عابر منه عشان يعرفني ع الأدوية المستوردة اللي كانت بتاخدها نجوان هانم في البداية، وطريقة التعامل بها ، انا برد على قد السؤال وبس .
شعر بفظاظته في توجيه السؤال لها، ليتراجع ملطفًا:
– انا مش قصدي اجيب اللوم عليكي، انا بس بتخنق من بروده وطريقته الواضحة اوي في الكلام، البني ادم ده لازم اغيره.، هي قالتله ايه بالظبط ولا كانت بتتكلم عن ايه؟
مطت شفتيها تصدمه بردها
– مقدرش اتكلم ولا اقول حاجة، مدام نجوان تزعل مني، عن اذنك بقى.
قالتها وتحركت من امامه ذاهبة، فتتسمر اقدامه بعدم تصديق مرددًا:
– يعني الاسرار بقيت عليا انا بس! هو ايه اللي بيحصل بالظبط؟
انتهى حفل الاسبوع للطفلان، فغادر معظم الحاضرين، ليظل فقط اقرب الاقربين كجاسر الريان وطارق الذي كان مستمرا بمزاحه:
– اللهلوبة كبرت وبقت ام يا جاسر، القردة اللي كانت تتنطط على حجرنا بقت ام، والله ما انا مصدق يا ولاد .
قالها لتصدح الضحكات من الجميع، فردت هي بغيظ منه كالعادة:
– ما هو كل واحد بيكبر يا سي طارق ، بدليل انت هو قربت تبقى عجوز.
شهق يدعي الهلع وقد صار صوت الضحك يصل إلى الخارج، يردد بحنق ويدفعها بوسادة الاَريكة الخفيفة:
– عجوز في عينك يا قليلة الحيا، اسمعي يا بت، عشر ايام خصم ليكي، مكافأة الولادة وطولة لسانك .
– شوفي الظالم بيعمل ايه؟ ما تشوفي جوزك يا ست كاميليا اللي بيخلط بين الشغل والحياة العادية.
ردت الاخيرة والتي كانت تتماسك بصعوبة هي الأخرى:
– ما انتي لسانك يا لينا هو اللي جايبهالك، اعملك ايه انا بقى؟
بس بصراحة منكرش اعجابي الشديد واندهاشي في نفس الوقت، من شخصيتك اللي بتتحول لمية وتمانين درجة من لينا مديرة المكتب الجادة في الشغل، وبين لينا اللي قاعدة قدامنا دلوقتى بلسانها اللي طوله قد كدة،
واشارت بطول ذراعها لتزيد من مشاكستها فتدخلت زهرة تلطف قبل ان تثور الأخرى:
– انها تفصل بين الشخصيتين، دا دليل انها محترفة يا حبيبتي، سيبك منهم يا لولو ميهكميش،
– قلب لولو
رددت بها لينا تفعل بأصابع يدها الرمز المشهور ، لتبادلها هي الأخرى، فيأتي رد جاسر مخاطبًا لهما:
– ايه يا ست انتي وهي، ما تراعوا مشاعرنا الاتنو الاتنين ، قلوب قلوب، وفري يا ختي مشاعرك دي لجوزك ، وانتي يا زهرة لمي نفسك .
سمعت منه الاخيرة لتكتم بكفها على فمها كي تخفي ابتسامتها، وقد اصابها الخجل الشديد، اما امين والذي اندمج هو الأخر:
– لا انا خلاص اتعودت، حكاية القلوب والمشاعر دي مع واحدة زي لينا تبقى……..
توقف بنظرة ذات مغزى نحوها لتردد هي بتهديد واضح:
– تبقى ايه يا سي امين قول…… خلي بالك الاتنين دول ماشين، وانت بس اللي هتفضل قصادي.
شهقت مجيدة بادعاءء التحذير هي الأخرى تؤازر ابنها:
– هيمشوا هما، امه قاعدة يا حبيبتي، ولا انتي تقدري تكلميه وانا موجودة.
تراجعت على الفور تردد بتغزل وتملق لتكسب ودها:
– اخص عليكي ، وانا اقدر اقربله برضوا وهو في حمايتك، بس سيبك يا ميجو، انتي الحتة اللي في القلب من جوا.
– يالهوي، لا طالما دلعتيني، يبقى خلاص بقى، انتوا أحرار، وهو يستاهل اساسًا الشدة معاه، حكم انا مقرصتش عليه وهو صغير.
قالتها مجيدة بخفة ظلها لتشترك في المؤامرة على ابنها الذي صاح بدراما:
– في ثواني بعتي ابنك يا مجيدة، والله راحت هيبتك يا حضرة الظابط.
– عشان تعرف بس الستات لما يتفقوا يا حبيبي.
قالها طارق يتضامن معه، ليجاريهم جاسر في الحديث ايضا بالمزاح الذي استمر لفترة من الوقت، حتى تحول الحديث الى الجدية مع ذكر العمل ومعرفتهم بمهنة المهندس وزوجته المقاول ، ليعبر جاسر عن دهشته:
– دا بجد، يعني انتي فعلا اشتغلتي مقاول يا شهد؟
ردت تجيبه باعتزاز:
– مكتب ابويا، كنت هسيبه للغريب يطمع فيه.
– برافو عليكي
قالها طارق في تعبير عن اعجابه، ليضيف عليه زوجها:
– ما هي مهنتها كانت سبب في معرفتنا ببعض، رغم استغرابي في البداية زيكم ، لكن حبة حبة وقعت في غرامها واكتشفت انها اجدع من مية راجل مقاول .
– واحلى مقاوول.
قالتها زهرة هي الأخرى، ليأتي العرض المفاجيء من كاميليا:
– خلاص احنا لازم نشتغل مع بعض في الايام اللي جاية ، شغل شركتنا كله متعلق بالمباني والانشاءات، حتى لو هنبتدي بشغل صغير على قد مقدرة المكتب، وشوية شوية تبقى اكبر شركة مقاولات…. ايه رأيك يا جاسر؟
وافقها الاخير باقتناع تام:
– طبعا معاكي، هو احنا هنلاقي فين في مهارة المهندس ولا جدعنة شهد، ع الاقل هما يبقو اهل ثقة.
– هاااااي
صرخة صدحت داخلها ، حتى كادت تنطلق بها امامهم، لولا صوت الحكمة الذي يدعوها للإتزان، تتبادل نظرات الفرح مع زوجها الداعم الاول لها ، واسرتها العزيزة المكونة من مجيدة وصديقتها وشقيق زوجها، قبل ان تجيبهما:
– أكيد دا شيء يشرفني.
❈-❈-❈
اطمأنت عليها حتى سطحتها على الفراش مرة اخرى، قبل ان تستأذن منها كي تغادر منزلها، لتخرج الى العم علي المكلف بمهمة توصيلها في هذا الوقت.
لتبحث يعيناها عنه حينما لم تجد سوى السيارة امامها، حتى همت ان تسأل افراد من رجال الحرس عنه، قبل ان يجفلها بنداءه بإسمها من داخل السيارة التي ذهب بها معهما، ثم خرج منها ليعيد عليها قائلًا:
– مستنية ايه يا بهجة؟ تعالي بقولك
اذعنت تقترب منه وتجيبه بتشتت :
– انا بدور على عم علي، هو راح فين واختفى الساعة دي؟
– انا مشيته.
– نعم
– بقولك انا مشيته يا بهجة، تعالي اركبي ياللا هوصلك
قالها ليعود الى الجلوس خلف عجلة القيادة، ثم توجه اليها بحزم ، حينما ظلت على جمودها:
– وبعدين يا بهجة بقى؟ بقولك اركبي هوصلك
استجابت هذه المرة تدلف بجواره في الامام، رغم حرجها من وجود الحراس وخشيتها من انتباههم لها، لتعبر عن اندهاشها بعد ذلك، حينما ابتعد بها عن المنزل بأكمله:
– ايه اللي خلاها تطق في دماغك؟ هو دا مش وقت نومك برضو؟
رد يتناول كف يدها يطبق عليه بكفه الحرة، ليقول بوضوح:
– انا مقدرتش انزل من العربية اصلا يا بهجة ، قلبي مطاوعنيش اروح من غير ما اطمن عليكي، لسة برضو زعلانة مني؟
نفت بهز رأسها وابتسامة خلابه تزيد من سحرها في هذا الوقت والضوء الخافت ، لترد ببعض العتب:
– مش زعلانة، بس واخدة على خاطري منك، انت اتعصبت عليا من غير سبب، لدرجة انك خوفتني منك .
تبسم لبرائتها ثم يردف ببعض الهدوء:
– يعني انتي بعد كل اللي حصل ده يا بهجة، وبتقولي من غير سبب، لا يا قلبي السبب موجود، وحرق دمي كمان.
تطلعت اليه بنظرة كاشفة ليردف قائلا:
– ايوة يا بهجة ، انا بتعصب من الزفت ده لاني راجل وافهم كويس في نظرة الراجل لواحدة جميلة زيك، ودا غبي موضحها اوي .
قالها بانفعال جعل ابتسامة رائقة تبزغ على شفتيها لتبرر موضحه موقفها:
– بس حتى لو كان زي ما بتقول، انا برضو مليش دعوة ، هو حر وانا برضو……
– لا مش حر.
قالها بانفعال أشد ليواصل:
– ولو بصلك تاني او شوفت منه اي نظرة مش عجباني هخزق عنيه الجوز ، عشان اتوبه عن الصنف خالص.
تصلبت باندهاش ناظرة في عروقه النافرة وملامحه التي اشتدت في لحظة ، لتنكمش على نفسها بخوف ، انتبه عليه هو ليعود الى عقله يلطف:
– انا اقصده هو اكيد يا بهجة، مش انتي ابدا.
رفع كفها اليه يقبلها فجأة مستطردًا بتغزل:
– انتي قلبي من جوا ، الحتة البيضا والبريئة في حياة رياض الحكيم، انتي حياتي يا بهجة.
عاد ليُقبل كفها مرة أخرى عدة مرات وعيناه تتابع الطريق اثناء قيادته، فتتجمد هي محلها بنفس السؤال المُلح داخلها، عن مصير هذا الحب الذي يتشدق به، الى متى سيظل في الظلام، وبعيدًا عن النور؟
– احنا خلاص وصلنا ، حالا كدة الطريق خلص .
تمتم بتساؤله ليلفت انتباهها، فتتخلى عن شردوها وتستفيق اليه، استعدادًا للمغادرة، حتى اذا توقفت السيارة وهمت للترجل ، شدد على يدها قائلًا:
– بهجة انا عايز اخطفك ونقضي يومين مع بعض في اي مكان بعيد عن الناس والعالم كلها
صمتت قليلًا بتفكير، توزنها في عقلها، ما بين الرغبة في ارضاءه، وما بين الصعوبة في فعل ذلك، لتعبر عما في رأسها:
– ودا هيحصل ازاي؟ انا مينفعش اغيب عن الشغل كدة من غير سبب، ولا ينفع اسيب اخواتي لوحدهم، دا غير ان مفيش حجة ابرر بيها اساسًا.
زفر يترك يدها بإحباط، موجهُا أبصاره للأمام متجنبا النظر البها، حتى شعرت بشيء من الذنب تجاهه، لتحاول ترضيته:
– يا رياض ااا
– خلاص يا بهجة…. انا مش زعلان.
تمتم بها مقاطعًا لها، ثم توجه مردفًا:
– كان نفسي بس تاخدي وقت اكتر في التفكير في حل، بدل الرفض كدة مباشرةً
ها هو يضغط على نقطة الضعف الخاصة بها، وهي العاطفة، ولكنها ايضا دائما ما تُحكم العقل، إذن ماذا تفعل في هذا الوضع؟
– طب أجلها شوية على ما اشوف طريقة…. أو حل.
عاد يتطلع اليها ولكن بملامح ارتخت قليلًا عن البداية، يظهر استجابة :
– ماشي يا بهجة، وانا في الانتظار، بس ياريت متأخرين.
عادت اليها الابتسامة تقول بمرح:
– ان شاء الله يكون قريب، تصبح على خير بقى .
– وانتي من اهله يا بهجة قلبي، المهم خدي دي قبل ما تنزلي
قال الاخيرة يتناول تلك العلبة المخملية من جيبه، ليضعها في كفها، ثم مال نحوها، وقد بدا انه على وشك ان يخطف قبلة من وجنتها ، ولكنها انتبهت سريعًا، تترجل من السيارة، قبل ان يخرج احد من اشقاءها ، ويكشف الامر.
لتلوح له بكفها على حرج:
– معلش بقى ، كدة احسن، سلام
ردد متمتمًا خلفها بغيظ:
– سلام
❈-❈-❈
صباح اليوم التالي
وعلى طاولة الطعام كان الأشقاء الاربعة يتناولون وجبة الإفطار قبل ذهابهم الى وجهاتهم ان كانت الدارسة او العمل، والحديث بينهم الاَن كان عن نجوان.
– انتي بتتكلمي جد يا بهجة؟ يعني نجوان بقت عاقلة وبتتكلم زينا دلوقتي،. وانا لو قعدت معاها، هتاخد وتدي معايا فى الكلام؟
كان هذا استفسار عائشة التي مازال عقلها لا يستوعب ما تتفوه به شقيقتها بهجة والتي ردت بمرح:
– يا بت امال انا بتكلم في ايه من الصبح؟ نجوان بقت حاجه تانية غير اللي تعرفيها، او ع الأصح، هي رجعت لطبيعتها، هانم بجد، حتى لو نفسيتها لسة تعبانة وجروحها مطابتش لحد دلوقتي
تدخلت جنات تستفهم:
– طيب ولما هي تعبانة فاقت ازاي؟
أومأت بهز كتفيها تجيبها:
– معرفش والله دا حصل ازاي؟ ممكن تكون بإرادة منها ، او ممكن تكون صدمة لما شافت حاجة جوزها، بس في كل الحالات بيبقى الشفا من عند ربنا، ومتنسوش طبعا انها ماشية على علاج بقالها سنين
عقب إيهاب برجاحة عقله:
– السر مش في العلاج، ما احنا ياما بنسمع عن مرضى بيتعالجوا بقالهم سنين لحد ما ربنا يفتكرهم، انا اعتقد ان موضوع نجوان حصل بإرادة منها.
– وانا كمان مقتنعة بوجهة نظرك، برافو عليك يا دكتور ،
قالتها بهجة بابتسامة فخر واعتزاز بشقيقها الذي تبسم بامتنان لها
– طب انا عايزة اشوفها ، هي مبتسألش عني؟
قالتها عائشة بنبرة يتخللها الحزن، لتسارع بهجة على الفور بالتوضيح لها:
– لا طبعا أكيد بتسأل…. بس مش زي الاول عشان ابقى صريحة، هي اساسًا معظم الوقت سرحانة، وكأن عندها اولويات في دماغها، انا نفسي أحيانًا بفتكره انها لسة على حالها القديم، تقوم هي وعلى غفلة كدة، تفاجئني بطلب ولا حاجة عايزاها مني، ليدي وهانم ابًا عن جد، مكدبش عليكم انا بنبهر وببقى عايزاها تطول في كلامها.
تبسم الثلاثة مندمجين مع حديثها لتعبر جنات بعاطفتها:
– حبيبتي يا نوجة، انا كمان اشتقالتلها اوي
اضافت على قولها عائشة:
– يارب تيجي تزورنا، نتمرجح انا وهي ع المرجيحة في الجنينة او نجري بالطيارة الورق على سطح البيت
فغرت افواه اشقائها واتسعت عيناهم بدهشة عبر عنها ايهاب:
– بقى عايزة نجوان هانم، اللي رجعت ليدي زي ما بتقولك بهجة تجري ع السطح زي العبيطة، يا بنتي استوعبي بقى، معدتش تلعب ولا تنطط زي ما كانت بتعمل معاكي الاول ، عشان خلاص دريت بنفسها وبمقامها
ابتسامة باهتة لاحت على شفتي الصغيرة تصدمهم بقولها:
– تيجي بأي صفة طيب، المهم انها تيجي، ع الاقل احس في ناس بتسأل علينا ، غير اصحابنا او زمايل بهجة في المصنع، دا حتى عمي مفكرش يسأل على عنوانا واحنا ماشين.
تجمد ثلاثتهم بدهشة لما تفوهت به الصغيرة، مستدركين حزنها الشديد وشعورها باليٌتم رغم كل القوة التي تتحلى بها امامهم، واغداقهم عليها بالحنان والدلال الا ان هذا يبدو لا يكفي
تحمحمت بهجة تخفي غصتها لتُحثها على التغاضي:
– وافرضي حتى محدش بيزورنا خالص، احنا الاربعة قوة مع بعضينا، ووحدتنا تغني عن العالم كله.
اضاف على قولها ايهاب:
– وزيادة على كدة يا ستي، احنا خلاص دخلنا في مشروعنا الجديد ، كلها يوم ولا يومين وتلاقينا افتتحنا الكافيه، مش هتلاقي وقت تفكري اساسًا، هتبقي حاضرة مع اي حد فينا بس عشان تسلي نفسك وتلعبي، دا جو الكافيهات دا حاجة روعة وبكرة تعرفي.
استطاع بلفتته البسيطة ان يحول مزاجها سريعًا لتردد بالحماس واللهفة
– ايوة بقى واحط ايدي على خزانة الفلوس، واكل في الايس كريم على راحتي.
– اه يا مفجوعة، هو دا اللي همك
قالتها جنات، ليعود المرح مرة اخرى في حديثهم معًا
❈-❈-❈
تطلع برأسه من مخرج الغرفة، يبحث يمينًا ويسارًا بعيناه، خشية مرور احد ما، فيسمع لنص المكالمة الهامة التي يتحدث بها الاَن
حينما اطمأن ، عاد للمواصله:
– أيوة يا صفصف زي ما بقولك انتي بس ظبطي الدنيا عندك وانا ان شاء الله اكون عندكم النهاردة……… بجد يا صفصف، يعني هتوقفي معايا وتخلي اهلك يوافقوا…….. ايوة امال ايه انا راجل مقتدر وجاهز بالاف والمية الف……… ايوة يا قلبي اتكلمي بقلب جامد خطيبك قادر ومقتدر …….. يااااه، دا انا مستني اوي اليوم ده…… انا وانتي نتجمع مع بعض تحت سقف واحد……. بطلي ضحك عشان انا اعرف اتكلم بقى……… يا بت بقولك بطلي ضحك……
– هي مين اللي تبطل ضحك.
جاء الصوت المباغت من خلفه ليُجفل منتفضًا، يلتف للخلف نحوها برعب جاهد لعدم اظهاره، فيختلق كذبة سريعه يجيبها، وهو ينهي على الفور المكالمة:
– دي منة بنت ابني، خدت التليفون من ابوها ومش مبطلة مسخرة عشان اجيبلها لعبة حلوة لما اروحلهم.
بملامح استنكارية عبرت عن امتعاضها:
– وتجيبلها انت اللعبة ليه؟ ما ابوها بيكسب قد كدة، ومراته كسبانة من الناحيتين، منه ومن اخوها اللي بيكسب بالدولار من شغل الفنادق.
– اهو بيصرفهم على مرض مراته، اتهدي بقى يا درية
هتف بها بضجر، ثم التفت نحو خزانة ملابسه، يبحث عن شيء يرتديه للخروج الى عمله، مصمصمت هي بشفتيها من خلفه، لتردف بعد ذلك بتهكم:
– ماشي يا حنين يا للي صعبان عليك ابن اختك ، انتبه كمان ان ابنك النهاردة عنده مشوار مهم اوي للمستشفى لابنه، تحليل واشاعات طالبها الدكتور،
سمع منها لتتغضن ملامحه بالأسى مرددًا:
– استغفر الله العظيم يارب، هو الطفل الصغير دا يتحمل المرار ده كله، تحاليل واشعة ومرمطة روحة وجاية ،كان مستخبيلنا فين ده بس ياربي؟..
عقبت هي الأخرى بشيء من سخط :
– كل واحد بياخد حظه بقى، واحنا حظنا عرفناه.
طالعها بضيق ليزفر مخرجًا من درج الكمود الذي فتحه بمفتاح يخفيه اسفل وسادة النوم، يُخرج منه عددًا من لفات النقود ذات الفئة العالية يخبرها:
– اتفضلي خدي اديهالوا، وانا ابقى اتصل بيه اطمن عليه، اصل هغيب اليوم كله برا المحافظة، ومش بعيد مرجعش غير ع اليوم التاني
تناولت تسأله باسترابة:
– وايه اللي يخليك تبات لليوم التاني؟ انت رايح فين بالظبط.
انفعل يجيبها بجلالة:
– شغل، شغل يا درية، طلبيات متفق عليها ولازم اروح استلمها بنفسي اوصلها المخزن، فهمتي بقى يا ام العريف؟
❈-❈-❈
داخل غرفتها القديمة التي عادت اليها منذ ايام، بعد عذاب اسبوعين قبلها، نامت قريرة العينين حتى أتت والدتها الاَن لتوقظها :
– صبا ، جومي يا صبا، جوزك مستينكي برا
فتحت عينيها تجيبها بتعب:
– بتصحيني ليه يا ما؟ وجوزي يستناني ليه اساسا دلوك ؟ انا عايز انام.
عبست ملامح زبيدة بضيق واضح ، اختلط بحزنها على حال ابنتها التي تبدلت من زهرة متفتحة، لهذا الشحوب الذي يثير الشفقة:
– معلش تعالي على نفسك شوية وجومي عبري الراجل ، النوم مش هيطير يا بتي
اضطرت صبا تتحامل على ارهاقها الجسماني والتعب الملازم لها، لتنهض معتدلة بجذعها ، ثم تنزل قدميها على الارض حتى كادت ان تقع بفضل هذا الدوار الذي اكتنفها على الفور ، لولا ذراعي والدتها التي التقطتها لتسندها، :
– مالك يا بتي بس؟ ايه اللي صابك؟
ابعدت يديها عنها لتحفظ توازنها بنفسها، ثم تتحرك الى الخارج متمتمة:
– انا راحة اشوفه بسرعة عشان ارجع اكمل نومي.
مصمصمت زبيدة بشفتيها في اثرها، بأسى يسحق روحها على حال صغيرتها، تتضرع الى الخالق بدعوات الشفاء لها ولما اصابها
وفي الخارج كان نفس الامر من زوجها، الذي كان يتطلع اليها وهي خارجة من غرفتها تجر اقدامها، بملامح ناعسة، بشرة شاحبة،خالية تماما من الدماء والحمرة الطبيعية للون الخمري الذي تميزها،
لقد تبدلت لامراة اخرى لا يعرفها، ليست تلك زوجته، وما هذا المرض الذي لا يعرف له اسما حتى الاَن ليجعلها بهذه الهيئة.
– صباح الخير
– صباح النور .
هم ان يقبلها على وجنتها في رد التحية، ولكنها ابتعدت سريغًا بصورة اظهرت عدم رغبتها، تماما كما كان يحدث في الايام الماضية، ليكتم غضبه من الداخل، يتمتم بالاستغفار ومناجاة الخالق الصبر، ثم خطا ليجلس مقابلا لها، يبادرها الحديث بالسؤال عن حالها:
– عاملة ايه النهاردة يا صبا؟ علاج الدكتور الاخير جاب نتيجة معاكي؟
نفت بهز رأسها :
– ولا أي نتيجة، اهو جاعد يتحط جمب اخواته، كلهم مفيش فايدة منهم، ووجع البطن مازال على حاله.
تنهد بأسف، مقلبًا عينيه بسأم لهذا الفشل المستمر في ايجاد حل يوقف الالم الدائم معها، ليعود اليها مهونا:
– معلش يا حبيبتي، اكيد هتلاقي الدكتور اللي يفهم لحالتك، انتي بس متحطيش في نفسك وتزعلي كدة، فوقي يا صبا، وارجعي لحبيبك.
ردت تصدمه بكلماتها:
– ارجع فين يا شادي؟ ما تزعلش مني بس انا الأوضة دي مش هدخلها تأتي.
هتف بها بنفاذ صبر:
– تاني يا صبا، ما تستهدي بالله يا بنت الناس، انا مطول بالي عليكي، لكن متخلنيش اطلع عن شعوري بقى.
وكأنه ضغط على زر الانفجار، لتصيح به بعدم احتمال:.
– لا متصبرش يا شادي، عشان انا جولتها الف مرة وانت مش مصدجني، جلبي بيتجبض، بحلم بكوابيس تشيب الراس، الم البطن بيزيد اضعاف، انت مش مصدجني يبجى انت حر
أتت على صراخها زبيدة لتحتضنها وتحاول التلطيف معه:
– معلش يا ولدي، هي بس عشان تعبانة، ادعيلها بالشفا وبكرة ترجع وردة مفتحة ان شاء الله، وتنسوا الايام الغبرة دي
صوت شهقاتها في البكاء كان يقطع نياط قلبه، منذ متى كانت بهذا الضعف؟ ما يعلمه جيدا هو ان زوجته قوية، مهما حدث معها .
– عين وصابتكم يا بتي، ربنا يبعد ولاد الحرام والنفوس الخبيثة عنيكم.
❈-❈-❈
انتهت من اطعام طفلها، بعدما ابدلت ملابسه لأخرى، غير تلك التي كان يرتديها، لتلف طرحتها حول رأسها، فتتناوله بهدوء حتى لا يستيقظ من غفوته السريعة، فيرهقها بالصراخ كالعادة،
استلت حقيبتها الكبيرة لتضعها على كتفها ثم تخرج الى زوجها المنتظر في خارج الغرفة، ليرتدي حذائه فور رؤيتها استعدادًا للذهاب إلى وجهتهم، تحدثت تخبره بقلقها:
– مش عايزين نتأخر النهاردة، الواد المرة اللي فاتت تعب اوي ومكنش قادر حتى يحرك جسمه.
رد بصوت مختنق، فكل شيء تتفوه به عن طفله يضيف على ظهره المزيد من العجز وقلة الحيلة:
– معلش ربنا يسترها معانا ان شاء الله، انا هعمل المستحيل عشان نروح ونرجع بسرعة، مدي رجلك عشان نلحق.
نهض يضع محفظة النقود والهاتف بيده ليتحرك بعمليه يسبقها، وهي من خلفه تدور العديد من الاسئلة داخلها، ولكن يكتنفها الحرج عن النطق بها ، تعلم بقرارة نفسها ان سبب رجوعه اليها هو الطفل المريض، لكن يا ترى هل مازال متمسكا بحلمه القديم، بابنة عمه والارتباط بها؟ ام نسيها؟ ام ينتظر الفرصة في شفاء طفله حتى يعود إلى محاولاته للتقرب اليها، اللعنة فليحدث ما يحدث، حتى لو تزوجها عليها ، لن تعترض ف الاهم هو شفاء ابنها، ليته يتعامل معها بنفس المنطق.
❈-❈-❈
انهت مناوبة عملها ، لتنضم الى سيارة العم علي يقلها الى مسكنها الزوجي، تلك اللحظات من السعادة التي يختطفانها من الزمن، لم تعد تضع إطارًا لها، فالتقضي اوقاتها الجميلة معه، حتى اذا ابتعدت، احتفظت بعقلها بشريط من الذكريات تعيش عليها…..
استقبلتها العاملة الايطالية تخبرها عن تجهيز كل ما أمرتها به عبر الهاتف، فتتولى هي سريعًا اعداد وجبه الغذاء التي سوف تجمعها معه، حتى اذا انتهت في اقل من نصف ساعة ، لتصعد سريعًا وتزين نفسها بارتداء قطعة جميلة تزيد من اظهار جمالها الخلاب، تصفف شعرها المتماوج والذي لا يحتاج لمصفف شعر نظرا لطببيعته المميزة ،
تنثر عطرها ، وتضيف فقط بعض الرتوش من مساحيق التجميل، حتى اذا انتهت وشعرت بالرضا عن نفسها، اتاها صوت السيارة من الخارج، لتنزل الدرج سريعًا فتكن في شرف استقباله على مدخل المنزل بهيئتها تلك وابتسامة تذيب البقية الباقية من توازنه
فلا يدري بنفسه إلا وهو حاملها من خصرها يحتضنها امام العاملة الايطالية التي اصبحت تعتاد الامر ، لا يُخفي فرحته امامها ، وجنيته بين يديه تضحك بابتهاج لفعلته، ورغم خجلها من المرأة، إلا انها لا تنكر سعادتها بالأمر .
– بس بس كفاية لحد كدة نزلي ، الست تقول علينا ايه بس؟
– ما تقول اللي تقوله، دي حاجات عادية عندهم، حتى ده….
قال الاخيرة يقتطف قبلة سريعة من ثغرها، شهقت على اثرها لتُحاول دفعه عنها مرددة:
– طب بس بس خلاص كفاية، انا كدة أتأكدت انها هتقول علينا مجانين .
– يا محلى الجنان، انا عندي استعداد اثبتلها اكتر. حتى شوفي .
قال الاخيرة يحاول معها مرة اخرى، وهي تحرك رأسها على الجانبين بالرفض وشعرها يتناغم مع حركتها في عدة لحظات من المرح ، وجوليا تتبسم لفعلهم،
حتى تمكنت من الفكاك منه، لتسحبه من يده، وتعرض عليه الاصناف التي قامت بإعدادها سريعًا بفضل مساعدة جوليا التي جهزت كل شيء ، ليثني على فلعها بالتغزل في الطعام وصانعة الطعام، وجمالها الذي ابهج قلبه المظلم، ليتناوله معها بشهية افتقدها منذ سنين، وهي ايضا لا تقل عنه، وقد اعطت لرأسها هدنة من التفكير المُزعج، كي تعيش لحظاتها الرائعة معه..
غافلين عمن تجمدت داخل سيارتها، منذ ان رأت بأم عينيه استقبالهما الحافل على مدخل المنزل ، من مسافة بعيدة في الخارج، بعد أيام من المراقبة الدائمة كي تصل الى النتيجة المحققة من شكوكها طوال الفترة الماضية
لتصل وتتأكد من استنتاجها، فتصعقها الصدمة لمدة لا تعلمها من الوقت حتى تمالكت اخيرا زمام امرها، تحدث نفسها بقهر :
– يا بنت الجزمة، لحقتي تعمليها ازاي في كام شهر قليلين؟ وانا اللي قدامه بقالي سنين مطولتش حتى النظرة، والله ما طلعتيش ساهلة يا بهجة
❈-❈-❈
والى شادي الذي عاد من عمله بوجه مكفهر غاب عنه المرح والسعادة التي ذاقها في قرب حبيبته ، ليعود الى البؤس والحزن الذي يكسو ملامحه ، ما بين القلق عليها ، وما بين العتب والغضب الذي يشعر بها كلما لمس منها الجفاء وعدم الرغبة في العودة اليه .
اكتنفه الاستغراب فور ان حطت قدميه داخل المنزل ، وقد وصل الى انفه رائحة الطعام الشهي، ظن في البداية ان شقيقته من هي بداخل المطبخ ، ليخطو متوجها نحوها، ولكن خاب امله حينما رأى ابنة خاله تخرج احد الاصناف من الفرن ، والتي ما ان انتبهت اليه حتى استقبلته بلهفة.
– حمد الله ع السلامة انت جيت يا شادي، كويس اوي، انا سخنت صنية المعكرونة بالبشاميل، تعالي اتغدى معانا بقى انا وعمتي .
بملامح منزعجة، جاهد الا يثور بها او يعنفها حتى تكف عن أفعالها وزيارتها الدائمة بحجج الاطمئنان على والدته قليلة الحيلة عن صدها ايضا، فهو ليس بغبي عن افعالها.
– متشكر يا سامية انا مليش نفس اساسًا.
قالها ليستدير ذاهبًا نحو غرفة نومه، خرجت من المطبخ تلحق:
– طب حتى كُل معانا عشان تفتح نفسها ، دي يا حبة عيني تعبانة وحالتها لا تسر عدو ولا حبيب.
– ويعني الاكل هو اللي هيخففها، كُلي انتي معاها، انا هخش اصلي العصر وبعدين ادخلها قبل ما اخرج، البيت بقى غير محتمل القعدة فيه.
قالها بفظاظة صدمتها، لتتاملك بعض الشيء ثم تحدث نفسها:
– لاا دا انا كدة ممكن تروح مني الفرصة لو ملحقتش ، لازم من بكرة اروح للشيخ زي ما قالي، يكمل بقى جميلة معايا عشان انول المراد بالقرب، بركاتك يا شيخ
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
مرار العشق….. ذلك الذي يستنزف روحك في الركض خلف سراب، تُُعطي من قلبك، لتستجدي نظرة رضا من قلب قاسي، تحترق من اجل وصاله…… وهو لا يكترث بشيء.
فما بالك بمن احببته وأحبك، كنت انت وهو كالجسد الواحد، كالنفس الواحد، كنت كل شيء وهو ايضًا كان لك الدنيا وما فيها، لتصطدم الاَن بجفاء هجرانه، وما بينكما اصبح كبُعد المشرق والمغرب، وكأنك لم تكن تعني له شيئًا يومًا ما.
#بنت_الجنوب
فُتح باب المصعد لتخرج هي اولهم منه، وخلفها والدها ووالدتها ورحمة ايضًا، عائدين من إحدى العيادات الطبيبة في رحلة البحث عن العلاج لهذا الداء الذي اصابها.
اصطدمت ابصارها به، وقد كان واقفًا بتحفز خارج باب منزله في انتظارهم على ما يبدو، وكعادتها مؤخرًا ازاحت بعيناها عنه بلا مبالاة زادت من احتراقه، ليتوجه بغضبه نحو والديها اللذان كسى الوجوم وجوههما، فتُلقي زبيدة بالتحية نحوه على حرج بعد موقف ابنتها المُخزي واصرارها على عدم ذهابه معهم الى الطبيب ثم تجاهلها الاَن له:
– مساء الخير يا شادي يا ولدي .
– اهلا يا خالتي زبيدة
خرجت منه فاقدة الحياة، لينتبه الى زوجها الذي اقترب يربت على صدره بدعم ومؤازرة، عله يخفف عنه ولو قليلًا، وخلفه رحمة التي فتحت باب المنزل ترحب بالرجل، بصوت يتخلله التوتر:
– تعالي اتفضل يا عم ابو ليلة..
سمع منها الاَخير ليسحب زوج ابنته معه، قائلا بعشم:
– ماشي يا ست البنات، اعمليلنا بس انتي كوبايتين شاي نظبط بيها الدماغ، ولا انت عايز حاجة مختلفة يا شادي يا ولدي؟
بارتباك يشويه التوجس، نفى بهز رأسه ينقل بأبصاره نحو شقيقته بتساؤول، والتي بدا من امتقاع ملامحها، مدى صعوبة القادم، فيتأكد من صحة ظنونه بعد قليل ، وسماع حديث والد زوجته:
– بتقول ايه يا عم ابو ليلة؟ تسافر ازاي يعني؟
صدر تساؤوله، بحالة من التشتت وعدم الاتزان، ليزيد بانفعاله:
– وهي البلد عندكم فيها دكاترة اصلا؟ دا الناس بتيجي من عندكم للقاهرة عشان تتعالج.
ابتلع الرجل غصته ليرد على قوله بأسف موضحًا:
– يا ولدي مش موضوع دكاترة ولا كشف، مع ان برضك احنا عندنا دكاترة وكفاءات، بس انا بتكلم ع النفسية، البت شابطة تروح معانا البلد، وانا بجول ميضرش لو خدناها وسط اخواتها واهلها تغير جو، يمكن ترجع لطبيعتها وربنا يشفي عنها
صاح به بقلب مذبوح، وكل كلمة تضيف على المزيد من جروحه:
– وانا يا عم ابو ليلة هقعد مستنيها لحد امتى؟ شهر، شهرين ، سنة…… هو انتوا ليه محسسني ان انا سبب مرضها؟ انا عملتها ايه صبا عشان تنفر مني ومتبقاش طايقة حتى تشوفني؟ مرض ايه دا اللي يخلي الزوجة مطيقش جوزها ولا حتى تطيق المكان اللي كان بيجمعها بيه؟
زفر مسعود يضرب بكف يده على ذراع المقعد الجالس عليه يغمغم بقلة حيلة:
– والله ما انا عارف، دا انا جربت اصدج كلام التخريف اللي بتهلفط بيه زبيدة عن الحسد وعيون الناس اللي مش سايباكم،
بصوت بح من فرط ما يجتاحه من الداخل سقط جالسًا يتمتم بقنوط:
– حسد وكلام فاضي ، اهي كلها شمعات بنعلق عليها الحجج بتاعتنا.
تغاضى مسعود عن الرد عليه، شاعرًا بما يؤلمه، لينهض فجأة يستأذن بحرج:
– اسيبك انا يا ولدي تفكر براحتك، وفي الاول وفي الاخر هي مرتك، وكلمتك تمشي عليها.
لم يقوى حتى على الرد عليه، ليتطلع في اثره مغمغمًا بانهزام:
– مرتي ! وكلمتي تمشي عليها! هو انا بقى ليا دور في حياتها اصلا ؟
انتفض ظهره على لمسة حانية من شقيقته التي ضمته اليها بدعم تهون عليه:
– معلش يا حبيبي، قادر ربنا يفك الكرب ويزيح الغمة.
– امتى بس يا رحمة امتى؟ انا طول الوقت بدعي في صلاتي وفي سجودي ، ومع ذلك كل يوم بتسوء اكتر، ليه بيحصل لي كل ده مع الست الوحيد اللي حبيتها وحبتني….. طب يعني معقول ان كل اللي فاتت ده كان سراب او وهم انا عايش فيه لوحدي، ولا هي الدنيا استكترت عليا الفرحة…
توقف غير قادرًا على المواصلة، حتى لا يزيد بخطأه فليحق على الفور باستغفاره. ، وشقيقته التي تتظاهر بالثبات، تلتقط بإبهامها الدموع المتساقطة سريعًا، حتى لا يراها شقيقها وتزيد على همه.
❈-❈-❈
– يا الف هنا، شرفت ونورت يا خطيب بنتي
هتفت بها المرأة ترحيبًا به، بعد مشاورات ومحادثات طالت عبر الهاتف مع ابنتها التي مهدت له الأمر في البداية، بعدما سحبت منه الوعود التي تجعلها توافق على رجل يكبرها في العمر بعشرون عامًا على الاقل،
وقد بدت في شرعها فرصة تلتقطها وتستغلها أتم استغلال، أما عنه فقد اشرق وجهه وكأنه فاز بجائزة اليانصيب، امرأة جميلة بالكاد تتخطى الاربعين ، ولكنها تملك من صفات الجمال ما يجعلها فتنة في عيناه
بشرة بيضاء كالحليب، وخصلات شعر صفراء تظهر من تحت الطرحة التي تكشف بسخاء عن العنق المرمري، وجنتين مكتنزتين وشفاه وردية كحبة الكريز.
شابة في عزها كما يصفها بداخله دائمًا، سوف تعيد له شبابه الذي ضاع بالركض خلف لقمة العيش وادخار النقود من اجل تأمين مستقبل اولاده وزوجته المتسلطة،
وزواج في الخفاء في محافظة أخرى، ومتماشيًا مع رغبته وظروفها التي اضطرتها للتقبل، كم يود القفز من الفرح الاَن، او خطفها في عش السعادة الذي سوف يجمعهما معًا ف الغد، وقد تم الاتفاق على كل شيء فهذه الزيارة الثانية له، بعد جلسة التعارف الاولي
– اااه ياما انتي حلوة اوي صفصف
تفوه بالكلمات فور خروج والدتها من غرفة التي تجمعها معًا .
تبسمت المذكورة تبدي الخجل، في رد فعلها امامه:
– يوه بقى يا خميس متكسفنيش بكلامك الحلو اللي يدوخ ده.
قهقه بببلاهة وقد راقه الامر، ليتابع بزهو:
– وانت لسة شوفت حاجة يا جميل؟ دا انا ناوي اكتب قصايد شعر، اه امال ايه؟ محسوبك كتلة مشاعر واحاسيس محبوسة جوايا ونفسها تطلع، تنفجر وتلعلع، وانتي بجمالك تنطقي الحجر ، طب اسمعي دي وانت تصدقي .
توقف بتفكير متعمق كي يفصح مواهبه المدفونة، ولكن خانه التركيز ليشعر بصعوبة الأمر، بعد صمت دام للحظات، امام ترقبها، وكأن الافكار قد هربت منه، ليتحمحم مردفًا بتقطع
– يالوز مقشر يااا يستاهل المزمزمة……. ااا ومنجة عويسي تستاهل ال ااااا.
– اللغوصة
تمتمت بها بقرف، لتغير دفة الحديث حتى لا تنفعل عليه، فتستعيد مرونتها سريعًا، لتركز على هدفها، وتطلق ضحكة مائعة تزيده اشتعالا بدلالها، قائلة:.
– يا خويا من غير ما تقول ولا تشعر ولا تتتعب نفسك ، كلامك واصلني وحاسة بيه كمان، المهم خلينا في المطلوب ، بكرة تحضر فلوس المهر قدام عم عيد وعم سعيد
– مين عيد سعيد ده؟
– بقولك عم عيد وعم سعيد ، ركز بقى يا خميس الله،
انا مش عايزاهم يفرحو فيا اه ، لازم يتأكدو ان ربنا نصرني بعد ما رفضت كل العرسان اللي جابوهم .
كانت تتحدث بعصبية جعلته يبتلع ريقه بتوتر، ليسارع في طمأنتها:
– حاضر حاضر بس متتعصبيش يا صفصوفتي، انا اساسا جاي وعامل حسابي وواخد الاجازة كمان ، هو انا اقدر برضو ارجع في وعدي معاك يا جميل.
اهتز كتفيها تعود إلى لهجتها في الدلال :
– ايوة بقى قول كدة وطمني، مش كفاية وافقت انك تيجي وتقعد عندي، بدل ما تشتريلي شقة ليا لوحدي.
– ما انتي اللي قولتي عشان ظروفك يا صفاء، لاجل ما تبعديش عن ولادك، دا غير انك خدتي المقابل بالمهر اللي هيتدفع الضعف، بدل مية الف ، ميتين الف.
قالها بحرقة شعرت بها، ولكنها كالعادة استطاعت ترويضه على الفور بعتبها :
– لا تكون مستخصرهم فيا يا خميس، قول يا خويا لو هو كدة، نفضها من اولها……
قاطعها على الفور مرددًا:
– لأ نفضها دا ايه؟ اهدي كدة يا بنت الناس ومتخليش الشيطان يدخل ما بينا، انا بس برد على كلامك، ، انما طبعا موافق على كله، على كله طبعا.
❈-❈-❈
حاملة علبة الحلوى والشوكولاته تدور بها داخل قسم تفصيل الملابس مقرها الاول ، بعدما اعطت لزملائها في المكتب ، تريد الجميع ان يشاركها فرحة افتتاح المحل الجديد، الخطوة الحقيقية في تأمين مصدر رزق حقيقي لها ولأشقائها،
ترافقها الداعم الاول لها صباح والتي توزع معها، وتتكفل بالرد عنها أحيانًا حينما تتكابل عليها الاسئلة الفضولية عن مصدر المال ، وكيف؟ ومتى؟ حتى ضجت منهم، لتنسحب سريعًا قبل ان تفسد فرحتها، ولكن كان هناك من نبت بداخله الامل ليتبعها كي يذكرها بطلبه:
– بهجة استني عندك يا بهجة.
هتف مناديًا يوقفها بوسط الرواق الفاصل بين قسم الملابس والأقسام الأخرى، لتجبر على الالتفاف نحوه، تجيبه بابتسامة يتخللها التردد:
– نعم يا تيم، في حاجة؟
اقترب يلوح امام عيناها بقطعة الحلوى، يردد بعتب رغم ابتسامته:
– انا جاي ابارك بنفسي رغم انك اتجاهلتيني ومخدتش حلاوة الافتتاح منك .
ردت تجامله بابتسامة على حرج:
– معلش بقى، ما انت عارف العدد كبير جوا، اكيد مخدتش بالي، بس انت مش غريب.
راقه اجابتها ليتشجع قائلا:
– انا فعلا مش غريب، ومش هزعل رغم اني كنت اتمناها تيجي منك، بس مش مهم، دا كفاية انها بشرة خير، واهي حاجة تنعش من جوايا الامل من تاني .
– امل في ايه؟
سألته قاطبة بعدم فهم، لتبزع ابتسامة صافية على ملامحه يجيب الكلمات بمغزى واضح:
– الامل في حاجة انتي عارفاها كويس يا بهجة، حاجة بقالي اكتر من سنتين بزن عليها ، وشكلها هتفرج قريب، مدام الحال اتحسن زي ما انا شايف ، ولا ايه؟
بماذا تجيبه؟ جف حلقها في البحث عن شيء تتحايل به ككل مرة ، فلم تجد سوى التهرب:
– ااا على فكرة انا اتأخرت اوي ، وشكل الاستاذ عبد الفضيل المرة دي مش هيعتقني؟ عن اذنك بقى لاخد جزا .
قالتها ولم تنتظر رأيه ، لتحرك قدميها مغادرة على الفور، تصعد الدرج بالركض، حتى لا تعطيه الفرصة في توقيفها ، وما ان انتهت تصل للطابق التالي حتى تفاجأت بتلك المتعجرفة امامها ، تستند على السياج الحديدي للدرج، لتفاجأها بابتسامة غريبة عنها ، تخاطبها بود ليس من طبعها:
– مبروك يا بهجة، بتلفي ع الجميع تعطيهم حلاوة افتتاح الكافيه، وجات عليا انا ووقفت.
– نعم انتي بتكلميني انا؟
تمتمت بهجة بالكلمات بدهشة لتتذكر بلاهتها حينما ضحكت الأخرى تقارعها:
– وهو في حد في المصنع كله اسمه بهجة غيرك.؟
اكملت بضحكتها تزيد من زهولها وغيظها ايضًا، فتقترب منها بالعلبة التي على وشك الانتهاء، تعرض عليها :
– معلش يا ستي العتب ع التركيز، اتفضلي بقى لو حابة.
مدت يدها تتناول منها احدى القطع مرددة:
– طبعًا حابة، امال انا بباركلك ليه؟ دا انا ممكن كمان اجيب صحابي ونيجي نقضي وقتنا فيه، اكيد الخدمة هناك هتكون كويسة.
هذه المرة تبسمت بهجة بمرح تخبرها:
– طبعا الكافيه يزيده شرف بوجودك ، بس مفتكرش انه من مقامك انتي وأصحابك، حكم دا حاجة ع القد وفي بداياته كمان، مش فايف ستارز زي اللي بتدخلوها.
رمقتها بنظرة لم تفهمها، لتعقب على قولها:
– وماله يا بهجة لو في بداياته، المهم انك توصلي، وانتي شاطرة وعرفني تخلقي من العدم ، انا بهنيكي بجد، بس الرك ع اللي يضحك في الاخر، عن اذنك بقى اشوف شغلي،
تحركت خطوتين لتردف ؛
– ومرسي اوي ع الشيكولاتة، رغم انها مش من نوعي المفضل، بس هحتفظ بيها .
وذهبت تطرقع بكعب حذائها الرفيع على الارضية، لتصدر صخبًا يعادل ما يدور برأس بهجة، والتي انتقل اليها شعور بعدم الارتياح للمغزى المبطن من خلف كلماتها .
لتزفر بضيق متمتمة:
– استغفر الله العظيم يارب، حرقت دمي من غير ما اعرف قصدها ايه؟ دا ايه هو ده؟
استدركت فجأة لتتحول ملامحها للمرح تتمتم مع نفسها:
– ياللا بلا لورا بلا زفت، خليني اشوف اللي ورايا والأفتتاح اللي مستنيني،..
هرولت بخطواتها، كفراشة تطير بخفة حتى وصلت الى غرفة مكتبها تستأذن من مديرها المغادرة من أجل هذا السبب الهام، والرجل لم يتأخر ، لتلملم اشياءها نحو وجهتها الى المصعد الذي نزل بها الى الطابق الارضي، لتتخذ طريقها الى الخارج على الفور
في هذه الأثناء، كان هو عائدًا مع شريكه في العمل والذي كان يقود السيارة بنفسه يتحدث بعمليه كعادته، بعد ذهابهم الى احد الاجتماعات الهامة لمديري احدى الشركات:
– شوف يا باشا، الناس دي مكسبها فل، يعني حتى لو اتنازلنا معاهم شوية في البداية ميضرش، عارف ليه؟ لأن اللي هيجي من وراهم كتير اوي، دا كفاية العلاقات، وانت شوفت بنفسك الأسماء اللي بيتعاملوا معاها، واخدلي بالك.
اومأ له بعدم تركيز فقد كانت عيناه منشغلة في التطلع نحو الخارج، وهذه الجميلة التي تغادر عملها الاَن في هذا الوقت المبكر، مما جعل عقله يدور بالظنون، حتى اذا توقفت السيارة ترجل على الفور يستأذن رفيقه:
– معلش يا كارم دقيقة.
قالها ولم ينتظر الرد، فقد تحركت اقدامه بخطوتين مبتعدا عن السيارة ليوقفها بندائه:
– بهجة.
على الفور التفت اليه على النداء قبل ان تصل الى بوابة الخروج من محيط المصنع، لتذعن وتغير اتجاهها نحوه، وقد توقف بجوار سيارته المصطفة من البداية، ليباغتها باستفساره فور ان وصلت اليه:
– خارجة ورايحة على فين بدري كدة؟ دي الساعة مجاتش احداشر حتى؟
انتابها الحرج الشديد، وعيناها تدور يمينًا ويسارًا، نحو الأشخاص التي تتطلع الى المشهد الغريب، بوقوف صاحب المصنع المهيب مع احدى العاملات في مصنعه، الم ينتبه هو ايضًا لصورته؟
يبدو كذلك بالفعل وقد انفعل مكررًا سؤاله:
– بهجة انا بسألك مبتروديش ليه؟
ابتلعت تجيبه بإجفال:
– رايحة على المحل بتاعنا والله، النهاردة افتتاح الكافيه واخواتي التلاتة واصحابهم والدنيا مقلوبة، عايز اروح اساعد معاهم، مينفعش اتأخر
ارتخت ملامحه ولكن بدا عليه الضيق في تعقيبه:
– ولما هو كدة مقولتليش ليه يا بهجة؟
– ويعني لو قولتلك كنت هتيجي؟
صدرت منها بدون تفكير، حتى شعرت بتأثيرها عليه، ليبرر اسفًا:
– حتى لو مش هقدر، ع الاقل ابعتلك بوكيه ورد اباركلك.
تبسمت برقة تلطف قائلة:
– اعتبره وصل.
هل شعر بلمسة من الدلال وهي تنطقها؟ ام هو يتوهم وقد راقه هيئتها بخجلها وارتباكها اللذيذ، انعكاس الشمس على خضار العينين بصفائهم المميز، وهي تحاول تغطيتهم بكفها؟
ماذا يفعل امام هذه الفتنة المتحركة؟ كم ود ان يسير خلف اهوائه الحمقاء ويخطفها الاَن بسيارته، فيبتعد بها بعيدا عن العالم اجمع.
– رياض باشا.
صدر النداء بإسمه كمنبه يفيقه من شروده بها، وقد طال صمته بتأملها، ليتحمحم مجليًا حلقه، يلتف للخلف نحو شريكه المتكئ بجسده على السيارة، متربع الذراعين، والنظارة السوداء تغطي على عينيه، ولمحة من المكر تعلو ملامحه، يراها بوضوح قائلا له:
– ثواني يا كارم حاضر.
ردت هي تعفيه من حرجه:
– خلاص روح شوف البيه شريكك، انا ماشية عايز مني حاجة تاني.
نفى بهز رأسه لتتحرك من امامه ذاهبة للخارج، تتبعها ابصار كارم الخبيث وابصاره هو ايضا، يكتنفه شيء من العجز بتركها لقضاء حاجاتها والسعى في الحياة دون اللجوء اليه، ليس له أدنى دور، حتى شيء رائع كهذا لا يعلم عنه الا بالصدفة.
– رياض يا حبيبي انت هتفضل سرحان كدة كتير؟ البنت مشيت
كان صوت كارم وقد اقترب هذه المرة، يخبره بنبرة متلاعبة يعلمها جيدًا، ليبرر بالكذب كرد له:
– كنت بسأل البنت على حاجة تخص الشغل يا كارم، السرحان كان في حاجة في دماغي ملهاش دعوة بيها.
– اه طبعا يا حبيبي انا واخد بالي وفاهمك.
قالها كارم ليتابع بمكر:
– مش هي دي برضو الجليسة بتاعة طنت نجوان؟
كنم زفرته، ليرد بغيظ شديد:
– انت لساك فاكرها، ذاكرتك قوية اوي يا كارم؟
– وهو الوش دا برضو يتنسي.
قالها متبسمًا بتسلية زادت من حنق الاخر والذي امتقعت ملامحه وأصبح ينفث الدخان من فتحتي منخاره واذنيه، ينهاه بعنف:
– يا كارم انا نبهت عليك المرة فاتت، اني محبش الكلام ده ولا بقبله.
تبسم باتساع ليتحرك ويسبقه مرددًا:
– الله يا عم متدقش بقى وفوت لصاحبك، ويلا بقى عشان نشوف شغلنا.
كان كالقنبلة الموقوتة خلفه، لتتحرك اقدامه ويلحق به، ولولا تذكره لوضعه لكن انفجر به غير عابئًا بشيء، وليحدث ما يحدث بعدها
وفي الاعلى كانت الأخرى لا تقل عنه اشتعالا، وقد راقبت بأم عينيها مشهده وهو يخرج من السيارة كالابله ، يوقف هذه الملعونة ويتحدث معها غير عابئًا بهيئته،
صارت تطرق بمقدمة حذائها ، ودائرة التفكير التي تدور بها مستمرة منذ اكتشافها الأمر، حتى الاَن تلتزم الصمت والهدوء، حتى تصل الى ما تريد دون ان تترك أثر ، لن تكن غبية هذه المرة وتتصرف بعاطفتها التي جعلتها تبدو كالحمقاء امامه، ومكنت هذه الملعونة منه
❈-❈-❈
دلفت اليه بخطوات متلهفة، تلقي التحية وتسترسل بكلماتها السريعة:
– سلام عليكم يا مولانا، انا بقالي يجي اسبوعين دلوقتي اجي وامشي من تاني من غير ما اشوفك، كل مرة مبروكة تنيمني بحجة .
التف اليها بملامح منزعجة، يشير اليها لتجلس على الكرسي المقابل له، كي تتوقف وتذعن لأمره ، فانصاعت على الفور لتصبح امامه ، تلهث بتوتر ووجل اعاد اليه الثقة، ليخاطبها بهدوء:
– براحة يا سامية، مش كل حاجة تيجي افش، اكيد يعني انتي عارفة من الاول اني عندي زباين كتير غيرك،
خففت من لهفتها تبرر:
– بس انا كدة ممكن المصلحة تطير مني يا سيدنا، عايزة اللحق اربطه بيا بقى، قبل ما يشوف واحدة غيري واتحسر انا بقية عمري
رد يقارعها بمكر:
– ما انتي اللي غرتك ثقتك بنفسك يا سامية ومجتيش على طول نكمل اللي بدأناه، انا قولتلك من الاول، ان رباط المحبة يكمل الشغل اللي فات، بس انتي بقى اتأخرتي، اعملك ايه انا؟
ابتلعت ريقها بتوتر لتبرر بأسف:
– سامحني يا مولانا، بس انا برضو مقعدتش كتير ولا طولت عن شهر، لكن مبروكة زودت بتأجيل دخولي عندك، الأكلة استوت وفاضل بس اللمسة الاخيرة، وانت هتساعدني مش كدة .
قالتها برجاء جعله يخرج عن طوره المتماسك، لتصدر منه نظرة غير بريئة ولكن بغبائها لم تنتبه لها ، فما يشغل عقلها الاَن، يلهيها عن اي شيء..
زفر بخفة يعود لوقاره وطمأنتها:
– خلاص يا سامية، مفيش داعي تقلقي نفسك، كل حاجة تحت السيطرة، واللي انتي عايزاه هيتم .
– صحيح يا شيخ؟ يعني هفوز بيه عن قريب؟
تساءلت بها بأمل اشرق بملامحها، ليردف لها بثقة:
– اكيد يا سامية، تخرجي من هنا تستني مبروكة والورقة اللي هتهدالك، تنفذي كل المطلوب اللي فيها، وتيجني يوم الجمعة اعملك الرباط اللي يمكنك تطولي اللي انتي عايزاه
تبسمت باتساع وقد اسعدها بوعوده، ليعيد اليها الاحلام الوردية مرة اخرى ولكنها تذكرت شيئا:
– بس انا اعرف ان يوم الجمعة اجازة
صحح لها على الفور:
– مش في كل الاحيان يا سامية، انا قاصد كدة عشان اخفف من الزحمة في اليوم المبارك ده، فهمتي بقى؟
اومأت بتهز رأسها بطاعة تامة:
– تمام يا مولانا.
❈-❈-❈
داخل المحل الذي كان صاخبًا بالحركة، وقد بدا من معظم اعمار رواده الصغيرة، سبب مجيئهم اليوم الافتتاحي، شباب وشابات اصدقاء جنات في الجامعة ، وشباب كثُر اصدقاء شقيقها ايهاب، والذين توزعوا ما بين الخدمة معه ومساعدته، وما بين الجلوس على الطاولات، اما عائشة فحدث ولا حرج، فقد كانت مثل الفراشة بين اقرانها، تعطي الاوامر في بعض الأحيان ، وباقي الوقت ترقص وتلعب او تأخذ الصورة التذكارية.
راكبالي عربية دلع بنات
ماشية فى الاميرية دلع بنات
عملالي اجنبية دلع بنات
كله دلع بنات دلع بنات
يا شاويش امسكها يا بوليس احبسها
يا ناس يا هوه شوفوا دلع البنات
يا حضرة العمدة الحقني يا شيخ الغفر حوش عني
يا ناس الحقوني من دلع البنات
دلفت الى المطبخ على كلمات الاغنية التي تدوي في الخارج، تحمل على يدها علبة كبيرة مغلفة ، لتلقي التحية بمزاحها:
– ايه اللي عاملينه برا دا مجانين، دا مسموش كافيه، احنا نسميه حاجة تانية بقى نايت كلاب مثلا .
التف اليها ايهاب يفاجأها بيونيفرم العمل الرسمي، والذي تم تصميمه في وقت قياسي للعاملين بالكافيه، وقد طبع على مقدمة الصدر في الاعلى الاسم الذي كانت تظن انه تم الاستقرار عليه ( بالعائلة)
لتفاجأ الاَن بشيء مختلف تماما، فتعبر عن دهشتها:
– ايه ده يا مجانين؟ انتو لحقتو امتى تغيروا الاسم……. ولا انتوا اساسًا عاملينها كدة من الاول وبتفاجأنو يا ولا ال…….
– هااا اوعي احنا من نفس الاب لو تفتكري يعني،.
تمتمت بها جنات قبل ان تُلقي بنفسها داخل احضانها ، تقبلها وتخبرها بفرحة:
– دي اقل حاجة تتعملك، ان المحل يبقى على اسمك يا بهجة.
اقترب ايهاب هو الاخر يأخذ مكانه بضمها اليه قائلا :
– حتى يبقى وشه حلو علينا زيك كدة .
لكزته بقبضتها بخفة توبخه:
– انت اقعد ساكت يا مصيبة، ما هو كل حاجة من ترتيبك، وانا اقول اليافطة متعلقتش لحد دلوقتي ليه، وكنت جاية احاسبك، احتفال ايه ده اللي يبقى من غير يافطة؟
ضحك يسحبها من كفها، يتحرك بها للخارج متمتمًا:
– ما هو كل كان في انتظارك يا جميل، تعالي كدة وشوفي بنفسك.
وصل بها الى الخارج ، ليلوح لها الى الأعلى نحو اصدقائه الذين يظبطون اليافطة ذات الشكل المميز بالاسم المحبب ( بهجة )
غامت عيناها بالدموع وهي لا تجد من الكلمات ما يسعفها في الرد عليهم ، لتردد بما اختلج به صدرها:
– لو كنتوا قولتلولي من قبلها، كنت هرفض واشوفها افورة من غير داعي، لكن دلوقتي وانا شايفة اليافطة…… مش عارفة اعبرلكم باللي حاسة بيه…….
– يا ستي من غير ما تعبري واصلنا
قالها ايهاب وهو يضمها من كتفيها ، ليراقبا الانتهاء من تعليق اليافطة، لتضمها جنات من الناحية الأخرى، فتبقى عائشة التي لم تنتظر الدعوة لتأخذ مكانها ملتصقة بشقيقتها وقد لفت ذراعيها حول خصرها تتابع معهم اللحظة الهامة، فتتدخل بعفويتها التي جعلتهم يضحكون لقولها كالعادة:
– الكافيه الجاي هنسميه عائشة
❈-❈-❈
عاد من عمله بحالة من التشتت، شيء ما يجعله شاعرًا بالذنب او التقصير لا يعلمه، او ربما يحاول اخماده، مراعاة لظروف السرية التي صار عليها العهد، بأي صفة يحق له مشاركتها اول خطوات النجاح لها؟
يعلم انه لا يصح، نعم لا يصح
– رياض
جاء صوتها الحاد ينتشله من أفكاره ليلتف اليها فيجدها بكامل اناقتها ليخرج منه السؤال على الفور:
– ماما انتي لابسة ورايحة على فين؟
ردت ببساطة رافعة رأسها للأعلى:
– رايحة لبهحة.
– نعم !
– بقول رايحة لبهجة، دعتني احضر معاها الافتتاح، ياللا اديني مفتاح عربيتي مش عايزة اعطلك.
قالتها ببساطة كادت ان تصيبه بأزمة قلبية:
– تسوقي فين؟ انتي عايزة تسوقي عربية يا ماما؟ انتي بتتكلمي ازاي؟
رفعت ذقنها للأمام، تضع النظارة على عينيها تذهله بحسمها:
– خلاص اوقف اي عربية أجرة توصلني ، عن اذنك .
تحركت على الفور دون انتظار ليصرخ في اثرها بعدم استيعاب، راكضًا خلفها:
– يا نهار اسود، انتي رايحة فين تعالي هنا.
❈-❈-❈
اما بداخل المحل الذي ازداد صخبًا وازحامًا بالمهنئين، والرواد الذين أتو من اجل الاحتفال أيضآ، صوت السماعات يدوي بأصوات المهرجانات، والعمل رغم قلة الخبرة في التنظيم الا انه كان يسير على اروع ما يكون،
اكتمل عدد الحضور من الأصدقاء ولم يتبقى سوى اقرب المحبين، وذلك ما حدث بحضور شادي رغم الحزن الذي يتخلل روحه، إلا انه لبى الدعوة ليأتي بصحبة شقيقته يشارك ابناء خالهم الفرحة، والتي ازدادت اضعاف بمجيئهم ، وذلك ما ظهر في استقبال الاربعة لهم .
– مبروك يا بهجة، ربنا يجعلها فاتحة خير يا بنت خالي .
– ربنا يبارك فيك يا شادي، والله نورتيني بحضورك انت ورحومة، مجاتش صبا ليه معاكم؟.
سألته بسجيتها لترى تأثير السؤال عليه بملامح وجمت وابتسامة باهتة، اظهرت مزيدا من الحزن لتتكفل رحمة بالرد :
– مراته تعبانة يا بهجة، مرض غريب مسك معدتها ما حدش منا عارفله حل، ادعيلها ربنا يشفي عنها.
– امين يارب، بس دي زي القمر، امتى مسك فيها المرض، دا انتو يدوب متجوزين ملحقتوش .
خرج صوته بصعوبة ممتنا لها:
– متشغليش نفسك انتي يا بهجة، خليكي في احتفالك، قادر ربنا يشفي عنها .
عقبت بفضول:
– طب ما تحكولي طيب هي ايه الاعراض اللي عندها طيب، مرض ماسك المعدة وبس ، مفيش دكتور باطنة يفهمها؟
اسئلتها البريئة تزيد من ثقل ما يشعر به، ليغير دفة الحديث حتى لا يفسد عليها فرحتها:
– بعدين يا بهجة هبقى احكيلك، المهم خلينا في احتفالنا.
تدخلت عائشة بمرحها:
– حظك حلو يا عم شادي، هتحضر معانا تقسيم التورتة .
– تورتة ايه؟
لم يكد ينهي سؤاله حتى تفاجأ بجنات تخرج اليهم بكعكة كبيرة مزينة بقطع الفاكهة والشوكولاته، تهتف بصخب وخلفها صديقاتها بالاطباق، لتضعها على طاولة في الوسط :
– تورتة الاحتفال يا شباب ، مين هيحضر عشان يتصور معانا .
تجمع عدد الأصدقاء على الفور، وسحبت بهجة بيد ابن عمتها وشقيقته ليتجعلهما في المقدمة بجوار عائلتها، وما همت ببدء الاحتفال، حتى ظهرت امامهم تلك الجميلة من مدخل المحل بابتسامتها الخلابة ، لتصرخ عليها عائشة:
– نوجة حبيبتي.
ركضت لتحضنها من خصرها، والاخرى لم تقصر في ضمها اليها بحنان امومي، تقبل اعلى رأسها. فتردد الصغيرة بمشاعرها البريئة:
– انا بحبك اوي يا نوجة.
سمعت منها، لتُكور وجهها بين كفيها تقبل الوجنة:
– وانا بحبك اوي اوي
صرخت عائشة لتزيد من احتضانها مرة اخرى ، لتتقدم بهجة نحوها للترحيب بها، ولكن تجمدت خطواتها فجأة حينما رأته امامها بطلته المهلكة وكأنه ظهر من العدم يحدثها بابتسامة رائقة:
– الف مبروك يا بهجة،
كادت ان تسقط بقدميها التي شعرت بارتخائها فجأة، هل هذا حلم؟ ام هو وهم يدور بخلدها؟
ولكن صوته ثم كفه التي امتدت تصافحها بالتهنئة لتتأكد من لمسه انه حقيقة، لقد جاء يشاركها الاحتفال.
– الله الله يبارك فيك يااا يا رياض باشا…. دا رياض باشا رئيس المصنع اللي شغالة فيه
تلعثمها الواضح في الكلمات ، ثم هتافها، لتقدمه الى الجميع بفخر، لتسحب اهتمامهم نحوه، حتى اكتنفه احساس بالذنب، فلولا التصرف المجنون من والدته، كان تجاهل ولم يأتي .
اجفل من شروده على كف كبيرة امتدت نحوه مخاطبًا بصوت يجمع بين الحدة والبأس:
– شرفت ونورت يا رياض باشا، انا شادي
– ابن خالي اللي شوفته قبل كدة.
رددت بها بهجة تسارع في التوضيح له، ثم تعرفه على باقي اشقائها ورحمة التي تطلعت اليه بانبهار لم ينتبه اليه، فقد اخذه الاهتمام بهذا التواصل البصري الذي كان يحدث بينه وبين هذا المدعو شادي، يرى في اسلوبه شيء لا يريحه
ولكنه تغاضي لينتبه لفقرات الاحتفال التي تبدأ بتقطيع التورتة، ثم التقاط الصور التذكارية، والمعبرة عن مدى سعادة الجميع بهذا الحدث الرائع
❈-❈-❈
خرجت من المطبخ بعدما اعدت وجبة العشاء، وكانت في طريقها للتحضير، ولكنها تذكرت عدم وجود زوجها أكبر فاتح للشهية نظرا لنهمه المتواصل في التهام الطعام، عكس ابناءها، ممكن يفضلون الاكل في الخارج او بدون عشاء كما تفعل سامية ابنتها حتى لا يزيد وزنها، والتي لزمت غرفتها منذ ساعات تتصفح الهاتف ووسائل السوشيال ميديا في متابعة اصحاب المحتوى والاغاني والافلام الهابطة،
لتبحث هي عن ونيسها الوحيد الاَن، ابنها الاوسط والذي اللتزم غرفته هو الاخر على غير عادته ، ان يعود باكرًا، ويختفي بها كل هذا الوقت .
دفعت الباب المفتوح لتجده جالسًا بوجه واجم فهتفت تلفت تلفت انتباهه:
– واد يا سامر، هتيجي تتعشي معايا
تطلع اليها بصمت دام للحظات ليجيبها اخيرا بجمود :
– لأ….. مليش نفس.
– ومالك بتقولها كدة وانت قرفان، انت حر يا اخويا
قالتها درية لترتد بقدميها عائدة للخارج، فتتركه هو لشروده، وحالة من الحسرة تسكنه ، لقد رأى بأم عينيه اليوم الاحتفال بافتتاح محل الكافيه لابناء عمه، لقد تخطوهم ومَن الله عليهم بالنجاح والمال ،
الجميع كان حاضرًا الا هم ، اصدقاء واناس اغراب وشادي وشقيقته وتلك المرأة الجميلة ذات الشعر الاصفر وابنها رئيس العمل لدى بهجة كما علم
لم ينقصهم حضور احد منهم، بل الأصح هم استراحوا منهم ، عمها، وزوجته، والأبناء المزعجين
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي
انتهى من ارتداء ملابسه في استعداد للذهاب إلى عمله المعتاد في هذا الوقت، تنفس بهدوء، يحاول السيطرة على دقات قلبه التي تصرخ بالألم، وكأن في انتظار انتزاع روحه من جسده بسفرها المحدد اليوم مع عائلتها الى الوجه القبلي وبلدتهم.
نظر الى ساعة يده شاعرا بأن الوقت تأخر عن الميعاد الذي ذكره له العم ابوليلة، ومع ذلك لن يتصل او يستعجلهم حتى لو اضطر للغياب من عمله اليوم او حتى فصله، على امل تراجعها والعودة الى عقلها وحبيبها الذي ذابت اعصابه واحترقت خشية عدم رجوعها اليه مرة اخرى، او نسيانه واعتباره صفحة وانطوت من حياتها..
دوى صوت جرس المنزل فجأة يفصله عن شروده، ليبتلع ريقه، ويجسر نفسه بالآيات القرآنية ليتماسك، ثم ينهض كي يفتح الباب، فيصطدم برؤيتها امامه، حتى كاد ان ينبت الامل بداخله، لولا تدخل والدتها تقطعه من البداية:
– صباح الخير يا شادي يا ولدي، احنا جايين نلم حاجة صبا في الشنطة لاجل ما نسافر، معلش لو اتأخرنا عليك.
ابتلع غصته ليومي برأسه ، فينزاح بجسده مشيرا بذراعه للداخل:
– اتفضلي يا خالة زبيدة، انتوا مش محتاجين عزومة، دا بيتك اصلا يا صبا، ولا انتي نسيتي ؟
توجه بالاخيرة بقصد نحوها، ولكنها تجاهلت، وقد بدا من هيئتها عدم اتزانها، لتدفعها والدته فتدخلها بصعوبة داخل عتبة المنزل ، تردد لها بتحفيز:
– اتحركي يا صبا، مش هجعد اليوم كله اتحايل فيكي.
خرج صوتها هذه المرة باهتزاز وارتجاف:
– وتتعبي وتحايلي ليه؟ ما انا جولتلك لمي اللي تلاجيه في الشنطة وخلاص.
حزمت زبيدة لتجذبها من يدها وتسحبها معها للداخل:
– عايزاني اهبش وخلاص في حاجتك والهدوم ، جولتلك مية مرة، محدش هيعرف حاجتك اكتر منك، اتحركي يا غلب السنين اللي مستنيني،
استطاعت بقوتها ان تصل بها لداخل غرفة النوم، فيسقط هو بثقله على الاريكة التي كان جالسًا عليها من البداية، شاعر ببرودة تجمد أعضائه، زوجته الحبيبة تدخل غرفتها مرغمة،
ما الذي حدث لتصل الامور بهم الى هذه الحالة المأساوية؟ وكيف يأتي الامل مرة اخرى برجوعها اليه.
في غمرة شروده، دلفت شقيقته، لتدعمه كالعادة بحزن سكن داخلها من اجله، تمنع دموعها بصعوبة، لتُقبل خده ثم تتحرك الى مكان وجودهم، حتى تراهم وترى زوجة شقيقها قبل السفر .
القت التحية وقد وجدت صبا واقفة على قدميها بتوتر، تشير فقط بإصبعها نحو والدتها التي رصت على الفراش عدد من ملابس ابنتها بكافة الأنواع، وأشياء انثويه تخصها، استعدادًا لوضعهم داخل الحقيبة.
– صباح الخير يا خالتي زبيدة، صباح الخير يا صبا عاملة ايه النهاردة؟
قالت الأخيرة تقترب منها وتضمها اليها بسماحة، رغم ما تحمله من عتب نحوها لحالة شقيقها.
اومأت صبا ترد بصوت خفيض مبحوح، فقد كانت تكتنفها حالة من التوتر غير عادية:
– الحمد لله على كل حال، كويسة.
– ونعم بالله .
تمتمت بها رحمة، قبل ان تلتف نحو زبيدة تعرض عليها:
– تحبي اساعدك في حاجة يا خالتي.
اومأت لها المرأة بموافقة، لتتحرك نحو الزاوية الفاصلة بين خزانة الملابس والجدار ، تسحب السلم الحديدي قائلة:
– حاجة بسيطة خالص يا حبيبتي، عايزاكي بس تمسكيلي السلم اجيب شنطة السفر الكبيرة، من فوق الدولاب .
اقتربت رحمة تعترض:
– لا يا خالتي، خليكي انتي وهطلع انا .
– والله ما يحصل، هو انتي فاكراني كبرت يا بت؟
قالتها زبيدة بإصرار لتصعد دون انتظارها، فتضطر رحمة لتسنده على الفور بذراعيها مرددة:
– يا باي على دماغ الصعايدة، هو انا جيبت اساسا سيرة السن يا ولية انتي؟ ولا عايزة بس تركبيني الغلط؟
ضحكت زبيدة لتشب بجسدها الهزيل، تتناول الحقيبة من فوق سطح خزانة الملابس، فتحاول جذبها اليه حتى لهثت بياس من ثقلها:
– دا انا شكلي كبرت صح، بجى حتة شنطة اغلب فيها يا ناس.
عقبت رحمة بشيء من ثقة:
– ما قولتلك يا ست، انزلي انزلي وانا اطلع اجيبها.
– وانا جولت لاه، اثبتي انا هجرب تاني
رددت بها زبيدة، وقد غلبتها روح العناد لتجدد رفضها وتحاول مرة اخرى، حتى مالت بوقفها وكادت ان تسقط لولا تشبثها بحافة الخزانة، لتصرخ عليها رحمة:
– يا خالتي الله يخليكي، براحة على نفسك بقى انا قلبي خفيف ميتحملش، انزلي بقى، وبطلي عِند.
– سلامة جلبك يا حبيبتي، معلش مش هتعبك تاني ان شاء الله و…
قطعت زبيدة وقد شعرت بشيء ما ملتصقًا بحافة الخزانة، لتركز حتى خلعته من مكانة تتطلع به داخل كفها متمتمة بهلع نحو ذاك الذي اللي كان ملتصقًا بسطح الخزانة. .
– ايه اللي في ايدك ده يا خالتي؟
كان هذا سؤال رحمة التي هالها الجزع الذي ارتسم على ملامح المرأة بوضوح، لتميل اليها تعطيه لها بيدها كي ترى ما عثرت عليه بالصدفة، فتنقل بنظرة متحسرة على ابنتها التي كانت ترتجف والدموع تهطل منها بغزارة،
– خدي وشوفي بنفسك يا بتي.
تناولته رحمة وكان اول رد فعل لها، بأن لطمت بكفها على صدرها، وصرخة زعر تصدر منها:
– يا مصيبتي….. دا عمل.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
لم أكن أبدًا مخيرًا
ولم أملك الارادة للتغير
أجبرتني قوة ما على فعل ما لا أطيق، وما لا أريد
كم حاولت التنصل والهروب ولم أتمكن
ربما كان خوف، وربما كان سوء تقدير، وربما كانت مراعاة لشيء عزيز!
ولكن في النهاية كنت انا الخاسر الأكبر
تلك الخسارة التي استمرت معي حتى حينما وجدتها،
اخترت الفوز بها في الظلام، ليتضح لي ان معارك الابطال لا تصلح إلا في ضوء النهار.
#رياض_الحكيم
#بنت_الجنوب
❈-❈-❈
داخل غرفته، استيقظ من نومه العميق مجفلًا على صوت المرأة التي نادرًا ما تدخل اليه، رغم طول عشرتها لأهل المنزل، تلهث في ندائها عليه بما يظهر الامر الجلل:
– رياض يا بني، قوم الله يرضى عنك، قومي يا حبيبي شوفي المصيبة اللي شكلها هتحط على دماغنا لو ملحقتاش، استر يارب .
اعتدل بجذعه لوح بكفه امامها متسائلًا بصوت متحشرج، وملامح اصابها الجزع:
– في ايه؟ ايه اللي حصل؟
ردت نبوية تستند على قائم السرير واضعة يدها على موضع قلبها تجيبه بصوت متقطع:
– نجوان هانم يا بني، لا موجودة في اوضتها ولا في أي حتة، دولابها مفتوح، وشكلها لبست هدوم الخروج، وخرجت مع نفسها.
تمتم بانفعال ينهض منتفضًا
– مع نفسها ازاي يعني؟ انتي بتقولي ايه؟
لم تعد تتحمل المرأة التي ظهر عليها الاعياء لتسقط جالسة على الفراش :
– والله ما اعرف، انا تعبانة اصلا من امبارح ، والهانم والدتك محدش بيعرف اللي في دماغها ، حتى بعد ما خفت، انا رجلي مش شايلاني والله، ومش حمل ادور تاتي عليها، روح انت يا بني، واسأل الحراس يمكن حد فيهم لمحها، انا لفيت البيت كله مع الخدم حتى البدروم، مسبناش حتة.
أظلمت ملامحه بغضب مخيف، كم ود ان يصب غضبه بها بتهمة الاهمال، ولكن هيئتها هي ما اجبرته للتغاضي، اشفاقا عليها، ليتناول هاتفه متجهًا نحو الخارج متمتمًا:
– هروح ادور انا كمان وانتي كلمي عم علي يروحك ، ترتاحي، أكيد هنلاقيها، هتكون راحت فين يعني؟
❈-❈-❈
والى بهجة التي كانت تنظف مع اخوتها المحل الجديد في مواصلة للتنظيم وفعل الأفضل، في هذا الوقت المبكر من الصباح، استغلالًا للعطلة الاسبوعية لها من العمل .
وفي ظل انهماكها في العمل اتاها اتصاله، حتى انها تحركت تبتعد عن اشقائها، حتة اجفلها بسؤاله، ليخرج صوتها بهلع:
– لأ مجاتش عندي والله……. يا نهار ابيض، يعني كمان مش موجودة عندكم في الفيلا؟! مال هتكون راحت فين بس؟……. طيب ، طيب انا جاية حالا عشان اطمن عليها بنفسي .
انهت معه المكالمة لتتحرك نحو حجابها ترتديه على الفور، ف التف اشقائها حولها بالأسئلة الفضولية:
– مين يا بهجة اللي ضاعت؟ وانتي رايحة فين دلوقتى؟
اجابتها بملامح ارتسم عليها الزعر:
– نجوان هانم، بيقولوا مش عارفينها راحت فين؟ انا رايحة اطمن عليها بنفسي، مش هقدر اقعد واستنى .
وما همت بأن تتحرك ، حتى تشبثت بها عائشة:
– انا كمان هروح معاكي، لازم اطمن على نوجة بنفسي.
اعترضت بهجة رغم الشفقة التي اصابت قلبها حينما رأت حزنها شقيقتها ورعبها :
– مينفعش يا عائشة، حد فيكم يفهمها الله يخليكم
توجهت بالاخيرة نحو شقيقيها الاخران، فتحركت على الفور الصغيرة التي سالت عيناها بالدموع:
– روحي يا بهجة واحنا هنبقى نتابع معاكي اول باول.
سمعت منها لتتحرك نحو الذهاب، وفور ان امسكت بمنقبض الباب حتى التفت اليها تطمئنها:
– خير ان شاء الله، طمني قلبك يا عائشة، نجوان دلوقتي غير بتاعة زمان، اكيد خرجت وهي محددة وجهتها كويس اوي، بس انتي قولي يارب
– يارب
تمتم الثلاثة وعائشة خرجت منها بالدموع.
اما عن بهجة والتي اتخذت طريقها على الفور نحو منزله، لتصل بعد اقل من ربع الساعة، لتتفاجأ به، على وشك ان يستقل سيارته، وفور ان ابصرها بعيناه توقف ينتظرها حتى أتت اليه، تسأله بلهفة:
– عرفتو مكانها؟
زفر يرد بصوت مختنق:
– اركبي يا بهجة، انا رايح اجيبها
– ليه؟ هي راحت فين طيب؟
عبس بصجر ليدلف الى السيارة يأمرها:
– بقولك اركبي يا بهجة ولا عايزة تستني هنا براحتك .
قالها وهم بإشعال محرك السيارة، لتنضم هي على الفور بجواره، فينطلق سريعًا للخروج من المنزل والذهاب الى وجهته، ثم قال
– الحراس الاغبية، شافوها بتخرج بالعربية ومحدش فيهم قدر يمنعها، لولا انا عملت اتصالاتي بإدارة المرور مكنتش ابدا هعرف هي راحت فين؟
– فين يعني؟ طمني الله يخليك
سألته للمرة الثانية، بعد وقت من الصمت التزمت به بصعوبة، لتتفاجأ بامتقاع ملامحه، يزفر بعنف وبهيئة لا تبشر بخير
❈-❈-❈
بداخل ذلك القصر العظيم
خرجت من غرفتها تتعكز على عصاها، بخطوات بطيئة وتيدة ، نظرا لمجموعة الامراض التي اضاعت صحتها،
تبحث بعيناها يمينًا ويسارًا حتى وجدتها امامها، جالسة بهيئتها الفاتنة ، مصففة شعرها الحريري ترتدي ملابسها الراقية، تذكرها بهيئتها الطبيعية من قبل سنوات مضت ، وكأن العمر لم يمر عليها ولم يترك اثرن كما فعل معها.
وصلت اليها لتردد بدهشة:
– معقول! دا انتي فعلا يا نجوان، انا مصدقتش البنت الشغالة لما قالتلي عن هويتك
ابتسامة باهتة اعتلت محياها ، لتعقب على قولها:
– لا صدقي يا بهيرة، انا خلاص رجعت للدنيا، ولحقي منها.
شددت بالاخيرة عن قصد، لتقطب بهيرة وهي تجلس عل الكرسي المقابل لها مرددة:
– دي شيء يسعدني اكيد، انك ترجعي وتكلميني زي ما بكلمك كدة، من غير ما تكشي في نفسك ولا تخافي، بصراحة منظرك كان مزري اوي طول السنين اللي فاتت .
لم تتغير، هي شقيقتها بطبيعتها القاسية، والغير مبالية لن تتغير أبدًا، هذا ما طرأ بعقل نجوان اثناء حديث الأخرى، ليأتي الرد منها بسخرية:
– ياااي تلاقي منظري كان بشع، شعر منعكش بقى وتصرفات مجانين،
زمت بهيرة فمها بضيق واضح، فطريقتها ف الحديث، لم تعجبها، تذكرها بالشخصية القديمة وعنادها الدائم معها، فتباغتها بقولها:
– خدتي قصر بابا وعايزة تعمليه مقر لجمعياتك والمنظر الاجتماعي المقرف بتاعك ليه يا بهيرة؟
– منظر اجتماعي مقرف!
تمتمت بها المذكورة بعدم تصديق تردف:
– الظاهر ان عقلك لسة مخفش كويس يا نجوان، ايه الوصف المستفز ده؟ شوفتيني بعمل حاجة مخلة؟ ثم كمان تعالي هنا، مين اللي قالك الكلام ده من اصله؟
ابتسامة جانبية لاحت بطرف ثغرها تجيبها بغضب مكتوم:
– انا مش مستنية حد .يقولي، لأني روحت بنفسي وشوفت الشغل في قصر المرحوم بابا، الورث ما بيني وما يينك، ولا اليافطة المحطوطة في جمب لوحدها في الجنينة ، لجمعيات الواجهة الاجتماعية الزائفة،
بدون فايدة حقيقية للبشر، بتستغلي ظروفي الصحية يا بهيرة وتورثيني بالحيا
زفرت الاخيرة لتطرق بعصاها على الأرض الصلبة بعنف:
،-،وقفي شوية بقى واديني فرصة اكلمك، ثم كمان انتي مالك بيه؟ هو انتي كنتي عايزاني افصل سيباه كدة مهجور والغربان تعيش فيه، انا عملت كدة اجدده وارممه، وارجع العهد القديم لشوكت باشا ، ولا انتي بابا كان ايه في زمانه؟
– انا مش فاكرة غير واحدة بس يا بهيرة، جمعيات البر والتقوى بتاعتك تقدري تنفذيها في اي مكان من املاك المرحوم جوزك، او تشتري انتي في الحتة اللي تعجبك، لكن تستغلي انتي اسم بابا، عشان تفتخري بأصلك قدام الناس وتحسسبهم دايما انك أعلى منهم، دا لا يمكن هسمح بيه.
اشتدت التعابير المجعدة، وقد لاخ الغضب جليًا عليها، ليصدر ردها بدهشة لا تخلو من استخفاف:
– ايه القوة دي يا نجوان؟ اللي يسمعك كدة، ميصدقش ان دي الست اللي طار عقلها لسنين فاتت عشان صدمة اتعرضت لها من حب عمرها…..
– واديكي عرفتي بنجوان الجديدة.
صاحت بها مقاطعة بحدة، تفاجأها بحزمها ، كي توقفها
عن الاستمرار في بث سمومها
فدلف على الصوت رياض يدخل بخطواته السريعة والمتلهقة نحو والدته:
– ايه اللي حصل؟ صوتك عالي ليه يا ماما؟
تلقفت بهيرة مجيئه كالنجدة لها:
– رياض حبيبي تعالى شوف والدتك، بتتعصب على سبب تافه، باينها لسة تعبانة…
– مش تعبانة يا بهيرة، انا خلاص خفيت ورجعتلك.
هدرت بها بتحدي واتفعال جعل تلك التي دلفت خلفه ، تتقدم نحوها بقلق:
– براحة على نفسك يا نجوان هانم، العصبية مش كويسة عشانك.
انتبهت بهيرة لتلك التي اقتربت من شقيقتها، تربت على يدها وتهادنها بحنان امتصت به غضبها، في إشارة واضحة لمعزة هذه الفتاة اليها وبإزدراء واضح طالعتها من أعلى لأسفل مضيقة عينيها، وكأنها تستعيد برأسها المواصفات التي ذكرتها امامها قبل ذلك لورا، لتتفوه بالاسم وكأنها تسألها:
– انتي بهجة؟!
– ايوة انا بهجة.
ردت تجيبها بدهشة بالغة تتبادل النظرات معه ومع نجوان التي تحفزت بريبة تحولت لغضب مع قول شقيقتها:
– الجليسة الجديدة اللي سمعت عنها…..
توجهت بأبصارها نحو رياض تخاطبه بتوبيخ:
– ودي صفتها ايه دي عشان تجيبها بيتي؟ لورا راحت فين؟ ولا نبوية حتى؟
أجفلت بهجة لفظاظة المرأة المتكبرة، حتى انها لم تستوعب جيدا إلا بعد الصيحة العالية التي صدرت من نجوان في ظاهرة لاول مرة تراها بها منذ شفائها، تسبق ابنها:
– وهي جاية عشان تضايف عندك ، دي جاية عشاني انا، يا صاحبة الزوق العالي، يا هانم يا بنت الأصول.
كان هذا قولها، ليضيف هو بعروق منتفضة، ضاغطًا بصعوبة على الا ينفجر:
– ع العموم احنا اسفين يا بهيرة هانم لو أزعجناكي، انا جاي اساسا عشان اخد والدتي، وهنمشي على طول، ياللا يا ماما .
نهضت نجوان استجابة له، لتشرع بالذهاب مع بهجة التي مازالت تلفها الصدمة، ف أتى قول الأخرى تلطف مع الوحيد الذي يهمها امره:
– رياض…… أكيد انت عارف بغلاوتك عندي، بس لازم تقدر موقفي يا حبيبي، ما هو مش معقول كل من هب ودب نسيبه يدخل حياتنا وياخد علينا، دي آخرها كانت استنت في الجنينة…….
– كفاية يا بهيرة هانم.
صرخ بها، يقاطعها بحدة ، ليأتي دور بهجة هذه المرة، في رد على عدائية المرأة نحوها:
– اسفة يا هانم لو وسخت لك القصر المعظم، وليكي عليا بيتك ده مخطهوش تاني .
– حقيقي انتي انسانة بشعة وعمرك ما هتتغيري؟
كان هذا رد نجوان ، لتقابلها الأخرى بابتسامة مقيتة تذكرها بجرحها القديم دون ذرة رحمة.
– وانتي عايزة تكرري قصة نريمان من تاني .
تردد الاسم بأسماعها ، لتهتز بوقفتها وكأن مطرقة ضربت رأسها، بمشهد جعل الاثنان يتوجسان خيفة عليها ومنها ايضا، حتى ثارت، تنوي الهجوم عليها وبصوت كالصراخ :
– وانتي معندكيش قلب، وعايزة الكل يبقى زيك، عشان ملقتيش اللي يحبك يا بهيرة، حتى جوزك…..
كانت تتقدم نحوها بهياج، وكأنها تريد الانقضاض عليها ، لولا بهجة وولدها الذان شكلا حاجزًا امامها، يمنعاها من الاقتراب منها، وهي تواصل:
– جوزك يا بهيرة اللي اتلخبط ما بينا في اول زيارة لبيتنا واهله مكلمينه عنك، لما شافني انا كان عايز يغير رأيه….. ومن يوميها وانتي بتكرهيني يا بهيرة عشان عمره ما حبك…… فضلتي دايمًا حطاني السبب، مع انك لو حاولتي وكنتي انسانة طبيعية زينا كان اكيد حبك، لكن انتي انسانة متكبرة، فضلتي تعامليه من برجلك العاجي لحد ما طق ومات منك……
قطعت حينما رأت تأثير الكلمات عليها، وقد تغضنت ملامح الأخرى بأسى، حتى ارتعشت ثغرها الذي تزمه كخط رفيع، وغامت العينين القاستين بدموع نادرة، لتشفق هي وترتخي ذراعيها فتردف بحزن وأسف:
– وجعتك صح، عشان تجربي وتدوقي من نفس الكاس يمكن تحسي زي بقية البشر …… مع اني منظش….
تقطعت الكلمات الاخيرة لتصمت بعدها وتقع مغشي عليها بين ذراعي ابنها الذي لحق بها قبل ان تصل الى الارض ، فصرخت بهجة بجزع:
– نجوان هانم .
❈-❈-❈
طرق على باب غرفتها، بعدما استأذن من والديها الذان تقبلا الأمر بترحيب تام، ليأتي الاَن دوره، ويدفع الباب بخفة بعدما سمع صوتها الناعم تناديه بإسمه:
– ادخل يا شادي .
دلف اليها ليجدها تنهض عن سجادة الصلاة، تضع المصحف الكبير على حامله، فتوقف هو يتأملها، وقد اضفى الاسدال بألوانه الزاهية بهاءًا على البشرة التي اصبح يعود اليها لونها الطبيعي، وينقشع عنها اللون الباهت،
مطرقة رأسها بخجل، ترفض رفع ابصارها نحوه، بعدما عاد اليها وعيها وعرفت من احاديث والدتها الأشياء التي كانت تقوم بها على غير ارادتها.
كم ود ضمها الاَن بين ذراعيه بقوة، حتى يسمع بصوت طقطقة العظام بين يديه، علٌه يخفف شيئًا من شوقه اليها، ولكن لابد من الصبر.
– عاملة ايه النهاردة يا صبا؟
سأل وأقدامه تخطو للأقتراب منها على تردد، لتأتي إجابتها بصوت خفيض:
– الحمد لله، يوم عن يوم، بتحسن اكتر.
ابتلغ يستجدي من الله الثبات امام رقتها وجمال هيئتها تلك ، مواصلا حديث روتيني:
– ااه لسة ماشية على تعليمات الشيخ، وبتنفذيها؟
اجابته بحماس هذه المرة:
– ايوة والله، وكمان مداومة على قراءة القرآن على طول، مش بس ع السور اللي نبه عليها الشيخ، انا كل ما ازود احس بارتياح اكتر .
سألها بقلق :
– طب ووجع البطن لسة برضوا ولالا
– لا الحمد لله
تمتمت بها سريعًا لتردف:
– لدرجة احيانا مش بصدج نفسي وانا باكل وبشرب طبيعي، وبنام طبيعي وبصحى طبيعي، الحاجات دي كلها كنت محرومة منها ، بس الحمد لله.
ردد خلفها بارتياح متعاظم وعيناه للسماء:
– الحمد لله، الحمد لله.
تطلعت اليه بتساؤول، اثار فضوله للإستفسار :
– ايه بتبصيلي كدة ليه؟
ردت تجيبه بحرج؛
– اصلك متكلمتش ولا جولت تعالي يا صبا….. يعني عشان ارجع بيتي.
اسعده عبارتها الاخيرة، وهي تخبره بها بنبرة عادية، دون قصد منها، ليجيب ابتسامة شملها الاضطراب:
– انتي مش محتاجه دعوة يا صبا للرجوع لبيتك، انا بس سايبك تخفي من غير ضغط، دا غير اني قاصد ااجل رجعتك
– زي ما نبهت ان محدش يجيب سيرة عن العمل واني ربنا نجاني لما انفك عني
قالتها بفراستها التي يعلمها عنها ، والتي لطالما اثارت اعجابه بها، ليوضح لها عن السبب الحقيقي:
– كدة احسن يا صبا، عشان اقدر اكشف اللي عملها، ما لو انا اهملت او سكت عن حقي، هيكررها تاني، وانا لا يمكن اكرر غلطتي.
❈-❈-❈
دلف الى داخل الوكالة التي هادئة الحركة فيها في هذا الوقت من الصباح الباكر، عائدًا من سفرته بعد اسبوع لم يكمله رغم تخطيطه المسبق في اخذ إجازة شهر عسل كامل او ع الاقل اسبوعين، وسوف يختلق الحجج في تبرير غيابه بعد ذلك ، ولكن ما حدث…..
– ايه ده انت وصلت يا بابا، حمد ع السلامة، انت رجعت امتى من سفرك؟
خرج السؤال من ابنه سامر بعدما انتبه الى وجوده، اثناء ما كان يراجع على عدد من دفاتر البيع والصرف
فجاء رد خميس بصوت كالغمغمة:
– ركبتي عربيتي خمسة الصبح يا خويا، عشان اوصل على ميعادي، ما انا عارف الهم اللي مستنيني
تعجب سامر من هذه اللهجة المتذمرة، ولكنه تغاضى انزاح بجسده عن مقعد المكتب، ليجلس خميس محله، وانتقل هو للكرسي المقابل للمكتب يتحدث بفضول:
– وعلى كدة بقى خلصت كل الطلبيات اللي كنا عايزينها مع التجار؟
– طلبيات ايه؟
هم ان يتمتم بها، لكن سرعان ما استفاق متذكرًا، السبب الذي تحجج للسفر من اجله الى خارج المحافظة:
– ااا طبعا خلصت واتفقت وكلها كام يوم وتوصل العربيات ع المخازن.
– طب كويس، بس انت قولت ان احتمال تتأخر لأسبوعين لو شبط فيك قريبك يقعدك عنده.
قالها سامر غافلا عن وجه والده الذي احتقن بالغيظ لتذكيره بالخيبة وجد نفسه عالقًا بها، لينفجر بع بعدم احتمال:
– يا خويا قولت ولا زفت، ما هو كان مجرد افتراض، لكن انا حسيت نفسي مش مرتاح، مقبلتش ابلط عند الناس ، فهمت بقى؟ قوم ياللا شوف شغلك ولا رص البضائع، دماغي قد كدة مش حمل كلام منك، قوم ياللا .
اجفل سامر من صيحته، لينهض على الفور، مذعنًا لأمره، رغم تعجبه من هذا الغضب الغير مبرر، ليرجع في الاخير ان الإجهاد الجسدي هو السبب.
اما عن خميس، ازدادت ملامحه بؤسًا، يستعيد برأسه ما صار في الايام الماضية.
منذ بداية زواجه، وبعد ان دفع المهر الغالي، وتم عقد قرانه على تلك الجميلة والتي كاد ان يطير من السعادة، يستعجل الوقت الى لحظة امتلاكها بعد خروج الجميع من الغرفة، رجل الدين واعمامها عيد وسعيد وزوجاتهم، فلم يتبقى سوى هو وهي.
(( حبيبتي يا صفصف، هاتي بوسة من الخدود اللي عاملة زي التفاح بالقشطة دي.
افلتت تبعد عن متنازل يديه تردد بدلال:
– لااا مينفعش.
– لأ ليه بس انتي هتغلبيني من أولها؟
ردد بها باعتراض يهم بالمحاولة مرة أخرى ، ولكنها اوقفته تلوح بكفيها امامه وبضحكة صاخبة بميوعة:
– يا راجل اهدى شوية……. امي هتدخل علينا وهيبقى منظرك مسخرة…..
سمع منها ليتجمد محله يعترض:
– وامك تدخل ليه ان شاء الله؟ هي ممشيتش مع عمك عيد وسعيد ولا ناوية تدخل معانا ؟
شقهة بمرح صدرت منها لتغمغم ردا على وقاحته::
– يا نيلك راجل، دا كلام برضو.
تحولت للجديد تردف وهي تنهض لتتجه نحو باب الغرفة:
– لسة الليلة قدامنا طويلة اعقل اتقل كدة، امي هتعرفك ع الولاد وهتنزل تاخدهم للدور التحتاني على طول ، عشان يخلالنا الجو
عادت اليه ابتسامته، فيتابعها بأدب تنادي على والدتها كي تأتي :
– هاتي الولاد وتعالي ياما، عشان يسلموا على عمو.
التفت في الاخيرة نحوه بابتسامة مغوة جعلت يسبهل في التطلع اليها حتى دلفت والدتها اولا تمسك طفلين صغيرين في عمر الثالثة والخامسة، فتح لهم ذراعيه فور رؤيتهم:
– حبايب قلبي ، تعالو يا ولاد.
تناولهم منها يقبلهم على الوجنتين ويضع اصغرهم على حجره ويداعب الاخر :
– يا حلاوتكم يا قطاقيطكم، حلوين اوي يا صفاء شبهك.
قال الاخيرة وراسه ارتفعت اليها ليصدم بطفلين اخرين، ولكن في عمر اكبر يقارب الثمانية والعاشرة، وقبل ان يسأل وجدها تقدمهم اليه:
– عزمي وحسين، ادخلو يا ولاد سلمو على عمي .
دلفو الطفلان يصافحانه، ليبطالعهم بدهشة، حتى اصبحت صاعقة حينما دلف الطفل الخامس او بالأصح المراهق ، والتي قدمته صفاء بأسم:
– ودا بقى بشير ابني البكري، خمستاشر سنة، يعني راجلي وضي عيني من جوا يا خميس ، سلم على عمه يا ولا .
وقبل ان يقترب الفتى صاح بها ينفض عن عقله الغفلة:
– استني هنا، هو انتي مش قولتي ان معاكي عيلين بس؟
ضحكت ببساطة تجيبه:
– يوه هو انت فهمت ايه؟ انا قصدي عيلين من الراجل التالت ، اما بشير دا من اول بختي، لكن حسين وعزمي من الراجل التاني
ارتفعت اصابعه الثلاثة امامه يردد بصدمة:
– انتي اتجوزتي تلت مرات قبلي يا صفصف؟ يعني الراجل الرابع في حياتك؟
– لا الخامس، حكم اول واحد كنت عيلة صغيرة وملحقتش اخلف منه .
بصوت ذهب منه فرد اصابعه الخمسة امام عينيها ، لتؤكد هي للمرة الثانية:
– ايوة خمسة وفيها ايه يعني؟ خدي العيال واطلعي بيهم ياما .
سمعت منها والدتها لتسحب الاطفال الصغار وتخرج معاها البقية، لتسارع صفاء في طمأنته:
– مالك يا خميس وشك اصفر كدة ليه؟ انا مش عايزك تقلق من حاجة خالص، العيال هينزلو يباتوا تحت مع امي، وانا وانت هنهيص في الدور دا لوحدنا، ايه رأيك بقى؟ اصحى بقى يا خمسينو الليلة ليلتنا .
استطاعت بدلالها ان تسحبه لحالته الاولي ، ليتحول الى طفل صغير معها، ويقضي ليلته متنعمًا بجمالها، ثم اذا اتى الصباح وانقشع الظلام، خرج الى المطبخ يفتح البراد كي يشرب، أو يصبر نفسه بشيء يأكله قبل الافطا، ليجده خاليًا الا من المياه، لا يوجد طعام ولا يوجد أي شي مما أتى به، حتى اذا صرخ بها يسأل اين ذهب الطعام وجدها تبلغه ببساطة.
– الولاد يا خميس، تلاقيهم جاعوا وطلعو ياكلوا ، دي حاجة مستهلة نباهة.
– يا نهار اسود، التلاجة كانت مليانة، فاكهة ومعلبات وفراخ ولحمة، كل دا راح فين؟ ثم كمان هما ازاي يطلعو كدة ويدخلو الشقة من غير خشا ولا حيا، افرضي… افرضي….
– افرض ايه، بلا حسرة.
قالتها لتلوي ثغرها باستخفاف وسخرية مبطنة، لتزيد من ارباكه:
– بلاش يبقى ظنك سو يا خميس، الحكاية مش مستاهلة اصلا القلق، ابعت لنا على دليفري، وشخشخ جيوبك شوية عشان ناكل احنا كمان، مش هم من كله.
وعلى هذا المنوال، استمر عدد من الايام في هذه الدائرة كلما اتى بطعام اختفى بسرعة البرق، ليلتزم بابتياع غيره، فلا يحق له الاعتراض، مقابل الدقاق التي يقضيها معها يدفع الاف الجنيهات، حتى انه اضاع حق البضاعة المتفق عليها مع التجار أكملها ليسحب نفسه اليوم من الساعة الخامسة صباحًا ويسافر قبل ان يستقيظ احد منهم ويتعرض للسانها اللازع ان اخبرها بخلاء جيوبه من المال.
فيجلس الاَن واضعًا يده على وجنته، ينعي حظه العاثر ، يتحسر على المال الذي ذهب مقابل لحظات معدودة حتى لم يعد يشعر لها بطعم الاَن.
❈-❈-❈
خارج غرفة الكشف ، يقطع الطرقة ذهابا وايابا بدون هوادة، يموت من القلق على الاولى، ويعصره الحزن على الثانية، لقد شهد بنفسه اليوم على اهانتها، وعجز لسانه عن الرد في ان يخبر خالته المتعجرفة بصفتها اليه، هي زوجته نعم زوجته، ولكنه لم ينطق بها، نعم نعم لم يجرؤ على النطق بها، لأسباب هو يعلمها، وهي ايضا تعلمها، إذن لماذا الغضب؟ لماذا هذه النيران التي تشتعل بداخله رغم؟ لماذا؟
سقط بثقله على احدى مقاعد الانتظار، يمسح بكفيه على صفحة وجهه، يزفر انفاس عالية وقوية، لم يعد يعلم بما يريد، وما كان يسير عليه قبل ذلك، لقد تغيرت خطته منذ ان رأها ، غيرت خطته وغيرت نهجه وغيرته هو نفسه…… لقد أصبح ضعيفًا، وهذا ما كان يخشاه دائمًا.
انتبه لخروج احدى الممرضات من الغرفة، وما هم ان يوقفها، حتى وقعت عينيه على المدعوة لورا ووالدتها، بخطواتها المسرعة نحوه:
– رياض، طنط حصلها ايه؟
– نجوان مالها يا بني؟
اضطر للرد على المرأة متجنبا النظر الى الأخرى:
– دلوقتي نطمن يا طنط، انتو سمعتو منين؟
– طنت بهيرة اتصلت بينا وبلغتنا، دي قلقانة اوي عليها وحزينة .
في رد صامت لها، التف بأعين تقدح شررًا، يحجم نفسه بصعوبة عن الانفجار بها، فإن كانت تظنه غافلا عن سبب العداء المباشر من بهيرة نحو بهجة والتحامل عليها من قبل رؤيتها….. فهي واهمة.
– مدام نجوان فاقت يا رياض باشا
كان هذا صوت الممرضة والتي اتت تخبره ليتحرك على الفور ويدلف اليها، ومن خلفه لورا ووالدتها، والتي بادرت الجميع تهرول نحوها وبصدق غلقه الصدق:
– حبيبتي يا نجوان، حمد على سلامتك يا قلبي، هو انتي بجد رجعتلنا، انا مش مصدقة عيني.
تبسمت الاخيرة لها بضعف، وبيدها التي اللتصقت بها ابرة المحلول، تقبلت مصافحتها، لتوميء برأسها تظهر استجابة للمرأة، التي صارت تذرف الدموع، بلوعة اشتياق الأصدقاء ، الشيء الذي انبت الامل في قلب ابنتها لتستغل بصوت واضح تريد لفت انتباهها:
– حبيبتي يا طنت نجوان، انا كمان وحشتيني اوي، ووحشتني قعداتك مع ماما، انتوا اكتر من الأصحاب.
لتنقل بنظرها نحو رياض الذي لم يعد مهتما بشيء بعد الاطمئنان على والدته، سوى التركيز مع هذه الجميلة والتي ما ان خرجت من الغرفة بجمودها وتجاهلها لها، حتى خرج هو الاخر وتبعها
– بهجة استني رايحة فين؟
هتف يوقفها بوسط الرواق ، يغلق باب الغرفة خرج منها ، لتلتف اليه تجيبه بلهجة عادية تمامًا:
– رايحة حمام السيدات
اقترب ليصبح امامها مباشرة يتمعن النظر بها جيدا وتلك الصفحة المغلفة لملامحها ، يريد ان يستشف منها أي شيء:
– طب انا عايزة اسألك الاول، انتي كويسة؟
اهتزت رأسها تدعي عدم الفهم :
– وانا هيكون مالي يعني؟ نجوان هانم هي اللي وقعت من طولها وتعبت مش انا .
علم انها ترواغه، وهذه إشارة تزيد من توتره، ليسرع في الدخول مباشرة فيما يريد الوصول اليه:
– انا بتكلم عن تصرف بهيرة معاكي، بلاش نلف وندور على بعض، هي كانت قليلة الزوق معاكي و……
– وعديمة الاحساس، ايه تاني يعني؟
قاطعته بها، لتردف المزيد للتوضيح:
– واحدة بالصفات دي حتى مرحمتش اختها اللي راجعة للحياة من تاني بعد غياب سنين، من غير ما تراعي انتكاسة ترجعها للأسوء هتوقع منها ايه مثلا؟
إجابة نموذجية اظهرت ثباتًا منقطع النظير، لتستطرد على نفس المنهج، امام التشتت الذي اعتلى ملامحه:
– على فكرة وقفتنا كدة في نص الطرقة شكلها مش حلو……..، عن اذنك بقى اروح حمامي، وانت ادخل اطمن على مدام نجوان، حتى مينفعش الناس لوحدهم، لورا هانم ووالدتها.
قالتها وتحركت على الفور، تتركه متجمدًا محله ينظر في اثرها بانشداه.
أما هي وفور ان وصلت لمرحاض السيدات، تغلق الباب عليها لتختلي بنفسها عن الجميع ، بعد وقت طويل من التماسك، ارتمت بثقلها تستند على حافة المغسلة ، تتنفس سريعًا، بصدر يصعد ويهبط بقوة، حتى اطلقت العنان لدموعها المحبوسة تتساقط دون توقف، لتكتم بقبضتها على فمها، تمنع الصوت من الخروج
الم الإهانة ليس بالهين، وما زاد عليه هو ان كل هذا كان امامه، سبب علُتها ومن بيده شفائها، كان بيده ايقاف المرأة بكلمة واحدة ، ومع ذلك لم يجرؤ
ولكن لما الحزن، اليس ما بينهم كان اتفاق، ليتها ما تم وما فعلت من الاساس، فما زادها القرب إلا وجعًا
❈-❈-❈
وفي قسم الشرطة، وبالتحديد داخل غرفة الضابط عصام والذي خرج منها مهرولًا على غير العادة والهاتف بيده:
– اوعي تتحرك من مكانك ، عينك عليه، انا جاي حالا دلوقتي.
لفت ابصار رئيسه أمين، والذي كان في طريقه اليه، ليهتف مناديًا باسمه:
– عصام انت رايح فين؟ عصااام
لم يلتفت اليه المذكور، حتى اوقف هو احد الزملاء يسأله:
– مدحت متعرفش عصام رايح على فين؟
– لا والله ما اعرف، بس اكيد طلعة مهمة يعني، مدام خارج بالشكل ده، ربنا يوفقه يارب.
اومأ له امين بصرفه بنظرة من عيناه، ليتوقف بزفر بقلق، مرددًا بما جال برأسه:
– ربنا يستر .
❈-❈-❈
والى مكان اخر
حيث كان مندمجًا في التفتيش داخل اغراض والده، بعدما وصل الى المنزل، في لحظة خاطفة متخفيًا ، يستغل غياب الرجل في هذا الوقت داخل وكالة العطارة خاصته، وبنساعدة والدته على غير اردتها ورغم توبيخها له:
– يا واد كفاية اللي خدته من درج الكمودينو، ابويا هيطين عيشتي يا ابراهيم
بأعين يكسوها الحمار، رفع رأسه عن الدرج الصغير الذي كان منهمكًا في محاولات فتحه بإحدى الادوات القاسية، يأمرها مبررًا فعله:
– هاتي ياما اي حاجة من المطبخ افتح بيها وبلاش كلامك الخايب ده ، ما هو ضعفك دا اللي خلاه ينفش ريشه علينا ويمنع عني اي قرش وانا في عز ازمتي، اقطع دراعي ان ما كان الدرج المقفول ده فيه مصيبة غير الفلوس، مدام مخبي المفتاح عنك وانتي مراته….
بنوع من التردد وقد اثار فضولها وحرك شيطان رأسها في المعرفة:
– برضو يا ابراهيم، ممكن كدة يغضب عليك اكتر، دا انا كنت ناوية ابعتله يجي يشوفك بعد ما فرحت قلبي بطلتك، يمكن قلبه يحن يا بني ويساعدك .
اصدر صوت شخير من فمه، ليردد بعنجهية رافضًا:
– وانا بقى مش عايز مساعدة ولا شحاتة منو، انا هاخد حقي من حبابي عنيه، ولا انتي فاكراني عامل المجهود كله، وجايلك متخفي زي الحرامية عشان اخد الرضا السامي من الباشا اللي بقى راميني من طول دراعه، وديني لاحصره على فلوسه عشان يمنعها عني تاني، روح هاتي سكين من المطبخ ولا مرزبة حتى، ياللا بسرعة.
صاح الاخيرة بحزم جعلها تذعن مجبرة لرغبته، لتتحرك على الفور نحو المطبخ رغم تذمرها ورفضها، ولكنها وما ان وصلت لداخل المطبخ حتى تفاجأت بدفع الباب بقوة جعلتها تخرج مهرولة لتفاجأ بهذا الضابط زوج الملعونة ابنة اختها يدلف بدون استئذان امرًا رجاله:
– خشوا دورو عليه وهاتوه حالا.
صرخت سميرة بأعلى صوتها من اجل نجدة ابنها وفي اعتراض صاخب على هجومه:
– يا مصيبتك السودة يا سميرة، هي حصلت كمان تهجموا ع البيوت من غير استئذان، هي دي اخلاقك يا حكومة، يا ناس تعالو شوفو يا ناس .
كانت تقصد من بفعلها الشوشرة والتشتيت وهو ما نجحت به الى حد ما تمنع الرجل من الدلوف نحو جهة القابع به، وهي غرفة نوم زوجها التي كان يبحث بها ابنها،
حاول عصام السيطرة على غضبه حتى لا يتهور على المرأة التي تتصرف بحماقة قادرة على أذية نفسها واذيته في عمله، ليهدر بها حازمًا:
– وسعي يا ست خلي الراجل يشوف شغله ، ولا ناخدك انتي مكانك ابنك احسن
صرخت تفرد ذراعيها الاثنان امامهم:
– اعملوها، اعمولها ما انتو قادرين، انا بقى مش هسكت وهجرسكم، عشان تنفضحوا قدام العالم يا ظلمة، يا ناااس حد يحوش الظلمة دول، داخلين على واحدة ست في بيتها لوحدها وعايزين يتهجموا عليها.
– يخربيتك، انتي اتجننتي يا ست انتي؟ ايه الهبل ده؟
صرخ بها عصام ، قبل ان يحسم برفع السلاح بوجهها هادرًا:
– ابعدي يا ست انتي من وشي بدل ، ما اخلي الامين يسحبك في ايده ، بتهمة مقاومة السلطة ابعدي بقولك.
ولكن وما انهى تهديده، حتى وصله صوت دبدبة فوف رأسه، واحد رجاله يصرخ :
– اللحق يا عصام باشا، الواد ابراهيم طلع فوق السطح .
ما كاد ينهي جملته حتى تحرك الاخير راكضًا بسرعة، يصعد الثلاث الدرجات بخطوة واحدة حتى وصل الى السطح، الشي، الوحيد التي ظهر امامه، وهو طرف قميص الاخر وهو يلقي بنفسه من احدى الجهات الاربع للمنزل، ركض عصام ليستكشف الامر، ليفاجأ بهبوط هذا الملعون على كوم كبير من الرمل، لينضم مع احد المجرمين امثاله خلف دراجة نارية ممسوحة الارقام، طارت به بسرعة البرق ، وكأنه كان على استعداد لذلك.
زفر عصام يتمام السباب والشتائم، متوعدًا في الاخيرة على القبض عليه في اقرب وقت، ولن يضيع الفرصة المرة القادمة .
❈-❈-❈
عودة الى المشفى
وقد جففت دموعها واغتسلت لتبدو في هيئتها العادية امام نجوان التي انتبهت اليها فور عودتها لتشير اليها بكفها كي تقترب امام السيدة وتلك المتعجرفة التي التقطتها فرصة للمشاركة وادعاء المؤازرة، رغم تململها، وحنقها المتزايد من تجاهل الاثنان لها.
رياض الذي لم يترك هاتفه اما بتلقي المكالمات، او الانشغال به ، اما نجوان فتلك حكاية وحدها، المرأة التي تطالعها بنظرات غامضة طوال الوقت، تصبح في منتهى الوداعة مع والدتها، او تلك الملعونة التي فتحت مدت لها ذراعها تدعوها للجلوس بجوارها وكأنها من باقي اسرتها.
– تعالي يا بهجة اقعدي جمبي
اقتربت ملبية الدعوة لتسحب الكرسي وتقربه اليها، ولكن الأخرى فاجأتها تشير بجانبها على الفراش الطبي .
– تعالي هنا يا بهجة.
هنا خرج صوت لورا فاقدة السيطرة على انفعالها:
– تقعد فين يا طنت؟ انتي عايزاها تتحشر جمبك ع السرير.
اافحمتها بفظاظة:
– اه انا قابلة.
ابتعلت لورا حرجها تنقل بنظرات ذاهلة نحو والدتها ورياض الذي اذعن لرغبتها بتفهم، رغم تعجبه الشديد من أفعالها:
– اقعدي جمبها يا بهجة، مدام هي عايزة كدة .
استجابت الاخيرة، لتصعد وتندس معها تحت الغطاء، جالسة بحذر، لتزيد من قربها نجوان وتضع رأسها على حجرها، مما اثار فضول والدة لورا للاستفسار:
– واضح انك بتعزي بهجة اوي، ولا شكلها حلت محل نبوية؟
تبسمت نجوان باسترخاء، وقد ساهمت اصابع بهجة والتي تخللت خصلاتها الحريرية بتدليك لطيف، في تهدئتها، لتخبر المرأة بثقة:
– نبوية حبيبيتي طبعا، دا متربية معايا في نفس البيت يا صفية، انما بهجة دي….
نقلت بنظرها نحو لورا بتحدي قبل ان ترسو على ابنها بنوع من الغضب المكتوم تردف:
– تبقي بنتي اللي مخلفتهاش، يعني اللي يزعلها يزعلني.
وصلت الرسالة، هذا ما استقر بداخله، فكلماتها الحادة كانت بقصد واضح له ولبهجة ايضًا التي غامت عيناها بابتسامة بدمعة تحتجزها بصعوبة، لتقبل رأسها بامتنان جلي ، زاد من حنق الأخرى، حتى صارت تغلي من الداخل، وعيناها تتابعه، تتمنى اي رد فعل منه يثلج صدرها بالاعتراض على هذه المهزلة ،
ولكنها الاخر لم يفعل، وقد اكتسى وجهه بشيء من حزن لم تفهمه، حتى قرر الانسحاب ، يستأذن الذهاب:
– طب انا هخرج اشوف الدكتور المسؤول عن حالتك، خليه يصرح لينا بالخروج عشان نروح .
قالها وتحرك نحو مخرج الغرفة، وما هم بفتح الباب ، حتى تفاجأ باندفاغه فجأة ودلوف اخر شخص يتمنى رؤيته في هذا الوقت.
– مساء الخير….. نجوان هانم ايه اللي حصلك بس؟
على الفور اعتدلت تستقبله بلهفة:
– دكتور عصام، اتفضل انا محتاجاك اوي .
– لا الف سلامة عليكي يا هانم، انتي تؤمري.
ردد بها متجها نخوها الى الداخل، ولكن الاَخر اوقفه،
– استنى عندك ، انت عرفت منين؟ ومين اللي بلغك اساسا.
تطلع الطبيب هشام الى قبضته على رسغ يده بقوة بتعجب، وتولت نجوان الرد:
– انا اللي بلغت الدكتور يتصل بيه؟ هو الوحيد اللي يعرف حالتي اكتر من اي حد
اهتزت رأسه بتشنج وغيظ يكتمه بتعاظم:
– يعني هو الوحيد اللي يعرف، هي المستشفى الطويلة العريضة، معقولة مفيهاش دكتور بيفهم، عشان….. عشان نزعج الدكتور ونخضه على حضرتك
تبسم المذكور بسماجة ينزع قبضته عنه، يرد. باستفزاز له:
– مفيش ازعاج طبعا، دي مدام نجوان دي عشرة عمر .
دلف يتبختر امامه يلقى التحية على السيدات ثم على بهجة التي تبسمت رغمًا عنها:
– اهلا بالهوانم اللي نورور المستشفى بطلتهم، وانتي بهجة عاملة ايه النهاردة يقى؟
ردت تجيبه بشيء رغم النظرات الحادة من الاخر لها، يحركها مكر الانثى التي تلتقط الفرصة في رد حقها:
– تمام يا دكتور، ربنا يخليك ع السؤال .
توسعت ابتسامة المذكور ليأخذ مقعده نحو الجهة التي تجلس بها بهجة، ليأخذه الحماس في ممارسة دوره الطبي، وإلقاء على الأسئلة على المريضة التي كانت تجيبه باستفاضة، وتستحيب لمزاحه، وكأنها تستمتع باحتراق الاخر امامها، والذي اصبح امامها كأسد محتجز في قفصه ، شاعرًا بالعجز امام صلفها المتعمد، غير ابها بهيئته امام المرأتين ، والدة التي كانت تستغرب افعاله، ولورا نفسها الي كانت لا تقل عنه احتراقًا، بهذه الغيرة المكشوف امامها
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
أخطأت، نعم أخطأت
حين سلمتك قلبي وأنا اعلم بمكانتي عندك.
حين ضعفت فازداد تملكك
حين ارتخت حصوني وسمحت لك باقتحام اسواري
حين قبلت خوض معركة……… كنت أنا لست أهلًا لها.
لأرفع لك الراية البيضاء الاَن؛ اعترافًا بهزيمتي
#بهجة
#بنت_الجنوب
❈-❈-❈
طوال طريق عودتهم، لم يحيد بعينيه عنها، داخله غليل مستمر، من وقت التقاءهم بهذا ال……. المدعو هشام وتباسطها مع حديثه ومزاحه على اتفه الأشياء، مستغلًا الدفاع المستميت من والدته عنه، وتمسكها به، مع وجود المرأتين في زيادة للضغط عليه، ومراعاة صورته امامهم، ليظل على حالته من الغضب المكتوم، يصبر نفسه، حتى سمح لهم الطبيب المتابع لحالتها بالخروج من المشفى.
ليأتي بها الاَن وتصعد هي معها حتى دثرتها في الفراش واطمئنت عليها حتى استسلمت لسلطان النوم بفعل الأدوية المهدئة ونامت.
وجاء وقت انصرافها، لتجده في انتظارها في الاسفل، بهيئة متجهمة تعلمها جيدًا، كما انها لم تكن بغافلة عن احتراقه طوال الساعات الماضية.
– خلاص اطمنتي عليها ونيمتيها؟
خرج السؤال بحدة واضحة، تغاضت عنها لتجيبه بنبرة عادية وهي تكمل سيرها للخارج:
– اه الحمد لله، العلاج المهدئ جاب مفعوله معاها، ياللا بقى خليها ترتاح وانا اروح اشوف اللي ورايا .
كانت على وشك ان تتخطاه ذاهبة ولكنها سبق ليجذبها من ذراعها بعنف ما يعتمل بصدره:
– استني هنا هتروحي فين وتسبيني؟
شهقت بخضة جراء فعلته، لتجد ظهرها التصق بالجدار من خلفها، وهو امامها بهذا القرب، وبصدر يصعد ويهبط بعنف، جراء تسارع الانفاس بداخله، وبصوت بدى كالفحيح:
– بتهزري وتضحكي مع دكتور الغبرة يا بهجة، وانتي عارفة كويس اني لا بطيقه ولا بطيق انك تردي عليه من الاساس .
تمالكت الشجاعة امام هجومه لترد بالمثل:
– وايه اللي يخليك مطيقهوش؟ ولا هو عمل ايه اساسًا عشان انا مردش عليه لو كلمني ولا هزر باحترام معايا ؟
– بلاش تستفزيني يا بهجة.
صاح بها بانفعال أشد، حتى خشت هي المواصلة لتصمت امام ثورته:
– يعمل ما يعملش انتي لا تردي ولا تستجيبي لهزاره، واللي عليكي تسمعي الكلام ومن غير مناقشة…..
ليه عايزة توصليلي انك مش فاهمة ولا حاسة بالنار اللي بتقيد جوايا امام اي حد يبصلك ولا يكلمك لغرض انا عارفه كويس بنفسه…… مية مرة اقولك اني راجل ، وافهم في نظرة الراجل اللي قدامي كويس اوي.
تبسمت بسخرية حين التمست الضعف في كلماته الاخيرة ، لتقارعه بالمنطق:
– لا واصلني اللي انت حاسه كويس اوي على فكرة، بس انا للي عايز افهمك، ان من حق الدكتور اي حاجة من اللي قولت عليهم ، مدام في إطار الاحترام والادب….. طول ما هو شايفني متاحة ومش مرتبطة، مش يمكن قصده شريف….
قاطعها ضاغطًا بكفه التي حطت على رقبتها، وقد كان فاقد السيطرة:
– اخرسي يا بهجة بدل ما اخلص عليكي، انا على اخري.
توقفت برهة امام عنفه لتردد بعد ذلك بصوت تهدج بألم :
– وانا قولت ايه غير الحقيقية، عايزه لو سأل عن حاجة تخص الهانم اعمل نفسي معرفش وانا اقرب واحدة ليها، انا الجليسة لنجوان هوانم لو تاخد بالك يعني؟
– خلاص يبقى بلاها.
نزلت ذراعيه لتضمها هذه المرة مردفًا برجاء:
– بلاها الشغل هنا ولا هناك يا بهجة، انتي تفضلي في مكانك ملكة وانا مستعد اعوضك باللي انتي تطلبيه.
– بس انا مقدرش ابعد عن نجوان.
– يعني ايه؟
جاء تساؤله بصدمة، لتجيبه هي:
– يعني انا خدته عهد على نفسي افضل مراعياها الفترة دي لحد اما يجي ميعاد البعد الحقيقي، ساعتها امشي ع الاقل وانا شبعانة من حنيتها ومطمنة عليها.
– البعد الحقيقي بتاع ايه؟
بدا امامها متناسيًا تمامًا لما يؤرق نومها ويمنع عنها الراحة، لتفيقه من غفلته، تنزع ذراعيه عنها مرددة:
– الافتراق المنتظر ما بينا يا باشا، ولا انت نسيت ان جوازنا مرتبط بمدة معينه ومش جواز طبيعي.
قال الاخيرة بحدة تقصدها، حتى اثارت شياطين رأسه، ترا الجنون يتراقص داخل عيناه، متوقعة رد فعل عنيف منه، على الرغم من انها قالت الحقيقة، ولم تخطيء بشيء، لتأتي النجدة من مدخل الباب، حيث صدح صوت دخول احد الأشخاص، لتظهر امامهم الدادة نبوية بخطواتها اللاهثة من أجل الاطمئنان على رفيقتها، فتقع عينيها عليهما، وتفاجأ بهذا الوضع المريب، بهجة ملتصقة بالحائط وهو الذي كان قريبًا بوقفته منها ، تراجع على الفور بخطوتين يبادر المرأة بأسئلته:
– مدام تعبانة، جيتي ليه بس يا دادة؟
– ما انا مجيتش وراها المستشفي، قلبي واكلني عايزة اشوفها بعيني.
رددت بها المرأة ولكنها لم تغفل عن لمحة الارتباك التي طغت عليه، ولكنه تدارك سريعًا يعود لطبيعته الباردة، أما بهجة والتي بدت بثبات التي لا يعنيها شيء، فقد تحدثت بنبرة واثقة:
– كويس انك جيتي يا دادة، هي كدة ساعة وهتصحى بعد ما ينتهي مفعول المهديء ان شاء الله، ياريت تتعشي معاها وتفتحي نفسها ع الأكل، هي أكيد هتقوم جعانة.
اومأت المرأة تجيبها بابتسامة مودة، تظهر ثقتها بها:
– من عيوني يا حبيبتي، روحي انتي ارتاحي، أكيد تعبتي اليوم كله.
– فعلا يا دادة…. تعبت اوي .
قالت الأخيرة بنظرة خاطفة بطرف عينيها نحوه، لتتخذ طريقها الى الذهاب مباشرةً، وظل هو ثابتًا محله، يراقب انصرافها بتجهم، وبداخله شيء لا يستطيع تفسيره، شعور يبدو…. وكأنه تلقى صفعة منها
❈-❈-❈
عاد من عمله يتجه بخطواته السريعة مباشرة نحو الطابق الاعلى حيث جنته ومصدر الراحة في حضن زوجته وصغيره؛ الذي اشتاق الى مداعبته بشدة، لكن وقبل ان يصل إلى الدرج استوقفه الاضاءة الخافتة داخل الردهة القريبة من غرفة والدته ، ليتفاجأ بشبحها على احد المقاعد التي كانت جالسة عليها، بصمت تام دون أدنى حركة وكأنها تمثال شمعي فاقدًا للحياة.
على الفور غير اتجاهه نحوها يحادثها بقلق:
– مساء الخير، مالك يا ماما قاعدة هنا في الضلمة لوحدك ؟
سمعت بهيرة ولم ترفع رأسها اليه إلا بعد برهة من الوقت، بملامح ازدادت تجعدا وعينان ذابلتان، يطل منها ضعف ابعد ما يكون عن شخصية والدته القوية دائمًا، والمتعجرفة في بعض الأحيان.
اهاله مشهدها، ليسقط على الكرسي المجاور لها يتابع استفساره عن السبب الذي أدى بها الى ذلك:
– ماما انتي ايه اللي جرالك؟ في حاجة تعباكي طيب ولا حد زعلك؟
خرج صوتها اخيرًا بنبرة خافتة يتخللها الحزن الشديد
– خالتك كانت عندي النهاردة يا مصطفي.
سألها بعدم تركيز
– خالتي مين؟
ابتسامة غريبة لاحت بثغرها وهي تخبره:
– خالتك نجوان يا مصطفى، ما هي فاقت ورجعت لعقلها من تاني ، متعرفش انت المعلومة دي؟
– انتي بتتكلمي جد؟ خالتي رجعت لعقلها من تاني! انا مش مصدق، معقول دا حصل وانا معرفش، معقول يا يا ماما انتي مش بتهزري معايا صح؟
ردد بها يظهر حماسه الشديد، لتعقب هي بشيء من ضيق:
– ايوة يا مصطفى خالتك اللي كنت بتحبها اكتر من أمك رجعت من تاني.
– ايه اللي بتقوليه دا يا ماما بس؟ اينعم انا بحب خالتو نجوان، بس مهما كانت معزتها يعني، عمرها ما هتبقى أغلى منك طبعا
لم تقتنع بإنكاره، فتاريخ الأخرى معه ومع كل من أحبتهم هي يثبت العكس، لقد كانت مستحوزة على حب الجميع، كل من يراها يقع بعشقها حتى الرجل الوحيد الذي اردته هي وكان من نصيبها، اولادها منه ، حتى الخائن زوجها، ايضًا كان يعشقها ولولا لحظة ضعف امام امرأة بجمال ناريمان لكانت استمرت زيجتها به وسعادتها معه، اما هي فقد كانت الخاسرة دائمًا امامها.
ضربت بالعصا على الارض بعنف تأتي باللوم عليه:
– خالتك اول ما فاقت للدنيا، فاقت عليا ، جاية تحاسبني على ترميم القصر ومضايقة اني عايزة احوله لجمعية خيرية، ما هو انت لو كنت اشتريت نصيبها من ابنها كنت قدرت اواجهها بقلب مليان، لكنك فضلت تماطلني وادي النتيجة.
اهتزت رأسه بعدم استيعاب، معبرا عن استيائه:
– ماما انتي بتقولي ايه؟ زعلانة عشان خالتو رجعت لعقلها من تاني وبتدور على حقها…. لا وبتأنبيني كمان ان منفذتش رغبتك، هو انتي مش فرحانة لرجعتها؟ معقول لقاءك بيها بعد السنين دي كلها وهي مغيبة عن الواقع كان كلام ع القصر وخناق على تحويله لجمعية……
صمت برهة يحدق بالملامح المغضنة بشيء غير مفهوم، ان كان غضب شديد او حزن، ليسترسل بعاطفة الاشتياق الشديد لها:
– مغلبكيش الحنين تحضنيها يا ماما؟ تسمعي لكلامها اللي بقالنا سنين محرومين منه؟
لا تنكر في قرارة نفسها انها بالفعل تاقت لكل ذلك وبشدة، ولكن شيئا ما منعها، ذلك الشيء الذي يجعلها دائمة التحفز امامها، فيسيطر على انفعالاتها معها، ولكنها ايضًا تشعر بالغيرة في كل يتفوه به ابنها الاَن.
– خلاص يا مصطفى، اديك عرفت ان والدتك قلبها قاسي حتى على اختها الوحيدة، استريحت دلوقتى.
قالتها تشيح بوجهها عنه الى الجهة الأخرى، وبكبرياء لا تتخلى عنه،
فنهض عن مقعده يردد بأسف من خلفها:
– مش مهم انا، المهم انتي يا ماما اللي تستريحي.
قالها وتحرك متابعًا طريقه، ليذهب من امامها، ويتركها في تلك الحالة التي ترفضها من داخلها ولكنها لا تستطيع السيطرة عليها، الحزن!
❈-❈-❈
في قسم الشرطة وداخل غرفة رئيسه، كان يتلقى الاَن التوبيخ منه بعد الخطأ الذي اوقع نفسه به:
– دي عملة تعملها يا عصام، كان لازم تنبهني من البداية وابقى على علم، بتنفذ وتخطط مع نفسك، فاكرني نايم على وداني ومش عارف بعيونك هناك، طب اهو بتسرعك دا كان سبب لهروبه، استريحت كدة بقى؟
غلبه الحماس يردد بتصميم ووعيد:
– لا طبعا مستريحتش ولا هستريح غير لما اجيبه واحطه في الحجز بإيدي، دا عهد عليا يا فندم ولا يمكن هتخلى عن تنفيذه.
عض امين على نواجزه، يكتنفه الغضب الشديد من أفعال تلميذه، رغم تقديره للحالة التي يمر بها ، ولكنه لا يستطيع التهاون مع شيء قد يضره ، ولن يسمح، ليصمت برهة يدور حول مكتبه حتى جلس على المقعد، يضع قدما فوق الاخرى يأمره:
– طب وان قولتلك شيل ايدك وسلم القضية لظابط تاني غيرك.
رد بالرفض سريعًا:
– اسف يا فندم مش هقدر ، القضية قضيتي وحقي وحق مراتي مش هتنازل عنه، حتى لو اضطريت اخلع البدلة الميري والبس مدني.
بانفعال شديد وقد اخرجه عن طوره المتماسك، ضرب على سطح المكتب بهدر به:
– وتضيع مستقبلك يا غبي، انت بتفكر ازاي يا بني آدم انت؟
تنهد بعنف يُقر غير ابهًا بأي شيء:
– تقدر تعتبرني كدة بالفعل يا فندم، غبي… لكن برضو مش هتخلى عن طريقة تفكيري اللي مش عجباك، وع العموم القرار في إيدك تقدر تعاقبني باللي سيادتك تشوفه صح، وانا مش هعترض.
لقد حسمها ولا سبيل لإقناعه، يُقدر ان معه الحق، ولكنه ايضًا يخشى اندفاعه، وصفة الانتقام التي تغلغلت به، لن يستطيع السيطرة عليها بعد ما حدث، سوى بالنيل من هذا الفاسد. ليعض على شفته السفلى بغيظ شديد يأمره.
– امشي غور من وشي يا عصام، امشي ياللا .
بابتسامة مسترة قام الاخير بتأدية التحية يجيبه بطاعة:
– تمام يا فندم.
قالها وتحرك ذاهبًا على الفور من امامه، يتركه في تخبطه والبحث في خطة بديلة للقبض على الفاسد الاخر الان .
❈-❈-❈
بداخل المنزل الصفيحي، صار يضرب بقدميه كل ما تقع عليه عيناه
– ابن الكلب كان قاعد مستنيني ومتربصلي ، وديني ما هحله من دماغي، دا انا ابقي مرا لو سيبته، بقى انا، انا ابراهيم ابن الورداني انط من ع الحيطة زي الحرامية، ولولا كوم الرمل كانت رجلي راحت فيها، وكل ده بسبب مين؟ بسبب الواد الطري ده
توجه بالاخيرة نحو هذا المدعو عزوز والذي كان متكئًا على الجدار بهدوء منقطع النظير ، يمسح بأظافره على سترته الجلدية المهترئة، ليرد بشيء من السخرية:
– طب براحة يا عم الجامد، حتتين العفش اللي عمال تكسر فيهم دول معنديش غيرهم، انا ابويا مش عطار كبير زي جنابك، انا ابويا معرفش طريقه اصلا.
كز على اسنانه ليهجم عليه بقبضتيه ممسكًا بياقتي سترته، وبفحيح ووعيد يعبر عما طرأ برأسه:
– ما هو انا لازم احط غلبي في حد دلوقتي، ومقدميش غيرك، ليه بقى؟ عشان حركة النهاردة تثبت ان الظابط ده عنده عيون هنا، في محمية الزفت بتاعتكم، الخيانة عند مين يا عزوز؟
صاح الاخير يدفع ذراعيه عنه، يظهر وجهه الحازم امامه:
– لا يا حبيي اصحي وفوق لنفسك، مش عاجبك العيشة هنا ولا شاكك في حد فينا، يبقى مع السلامة وطريقك أخضر، ما انا مش هتحمل تهزيقك ولا عنطزتك دي واسكتلك، دا انا ادب صباعي في عينك، انت مش كاسر عيني بحاجة، لا عنيا دا العكس، هنا مش امك اللي مدلعاك ولا ابوك اللي رمى طوبتك.
بذهول شديد ردد بعنجهية يسبه:
– انتي بتعلي صوتك عليا يا ابن الكلب.
– كلب ياكل مصارينك.
صاح بها عزوز ليتجه نحو الباب يفتح على مصراعيه يطرده بطول ذراعه:
– والباب اهو يفوت جمل، ياللا غور كدة ووريني عرض قفاك.
شرع ابراهيم بالتحرك والخروج بالفعل، ولكن الاخر استرسل يذكره:
– بس خليك فاكر، اللي بيخرج من هنا ملهوش راجعة، والمعلم الكبير معندوش ياما ارحميني في اللي يخرج عن طوعه بعد ما خلاص عرف سره.
ابتلع ريقه بخوف حتى برزت تفاحة ادم بحلقه، ليردد بدفاعية:
– بس انا مش هتكلم ولا اطلع سره، ولا انت ناوي تقلبه عليا يا عزوز ، ما انا عارفك واطي.
ضحك المذكور باستخفاف:
– ماشي انا واطي يا بن الأصول وسيبتلك انت التربية العالية، ع العموم الباب اهو مفتوح قدامك لو عايز تمشي، وانا جيبتلك الناهية، اما بقى لو هتعقل وتشغل عقلك كله برضو لمصلحتك، انا ماشي بقى عشان خلتني حرقت معاك كتير، عن اذنك بقى يا بن الورداني.
سحب نفسه وخرج على الفور، بعدما القى بالتهديد الذي يكبله ويقيده عن الاعتراض، وقد غرزت اقدامه في منطقة ألا رجوع .
❈-❈-❈
دلفت المحل الذي اصبح مزدحمًا بعدد الرواد مما اثبت لديها نجاح الفكرة ، بروح الحماس التي صارت تجدها من اشقائها في ممارسة العمل المحبب به، لتطفو السعادة على ملامحها وهي تتابع حركتهم بنشاط في مخاطبة الزبائن او الاشراف على العاملين معهم، لتلوح بكفها نحو شقيقتها جنات والتي كانت تدون طلبات احدى الطاولات، ثم واصلت نحو شقيقها الذي كان مندمجًا مع احد اصدقائه في مناقشة امر ما، لتقترب وتجلس بالقرب منه، حتى اذا انتهى التف اليها يعطيها انتباهه:
– اهلا بالبرنسيس، اتأخرتي يعني يا بيبة، هي نجوان هانم لسة تعبانة؟
أومأت بهز رأسها:
– لا الحمد لله اتحسنت طبعًا، بدليل ان الدكتور كتبلها على تصريح خروج، بس طبعا عايزة متابعة لان الانفعال مش كويس عشانها، وهي النهاردة اتعصبت اوي .
– ليه حصل ايه؟
سألها باستفسار فجاء ردها بإرهاق:
– يا عم سيبك بقى، اللي حصل حصل، حمد لله ربنا سترها وان شاء الله ياخد بإيدها، المهم دلوقتي البت عائشة فين؟ مش شايفاها يعني معاكم؟
تبسم يلتف بجذعه للخلف، ليشير بذقنه الى أحد الزاويا البعيدة يجيبها:
– اهي قاعدة هناك مع ابن عمتك شادي .
– شادي.
انتبهت بالفعل لوجود المذكور، لتستقيم بجسدها عن المقعد الذي كانت تجلس عليه في استعداد للتحرك نحوه:
– ودا من امتى هنا؟
– من يجي نص ساعة، سأل عليكي ولما عرف انك مش موجودة اضطر يستناكي.
– يا نهار ابيض طب مش تقول من الصبح .
قالتها بحرج لتتوجه نحوه مباشرة، والذي ما ان انتبه اليه نهض يستقبل مصافحتها:
– شادي باشا مشرفنا، المحل نور بحضورك. يا عم.
تبسم يتلقى مجاملتها بمودة:
– المحل نور بأصحابه، ربنا يجعلها عتبة خير ، انا شايف ان البداية مبشرة.
– بجد عجبك؟
سألته بلهفة، ليسارع بطمأنتها وعيناه تدور في الأجواء:
– بسم الله ماشاء الله، حاجة تفرح، وانا مش بقول كدة مجاملة على فكرة.
– ربنا يطمن قلبك
تمتمت بها بارتياح، لتنضم للجلوس معه ومع عائشة التي سارعت بسؤالها
– طمنيني على نوجة، عاملة ايه دلوقتى؟ انا كان نفسي اجي المستشفى، بس محدش فيهم رضي يوصلني من اخواتك.
قالتها بحنق طفولي اثار ابتسامة بثغر شقيقتها، وانتباه شادي الذي ضاقت عيناه بتساؤول:
– نوجة دي….. الهانم اللى حضرت الافتتاح، صح ولا انا غلطان؟
اومأت رأسها بموافقة ليتابع باستدراك:
– ووالدة…..!
توقف بمغزى فهمت عليه، لتتوجه نحو شقيقتها تخاطبها:
– نجوان هانم روحت بيتها وهي زي الفل دلوقتي، استني بس على ما تصحى من نومها وليكي عليا اتصلك بيها تكلميها بنفسك، مبسوطة يا ستي؟
– مبسوطة اوي.
تلقفت عائشة ردها بحماس، لتصرفها شقيقتها بعد ذلك وتختلي هي بالجلوس مع ابن عمتها، حتى يتمكن من الحديث معها براحة.
– انا قومت عائشة عشان عارفاك، وحاسة ان عندك كلام عايز تقوله.
تنهد بضيق يستجيب لمصارحتها:
– صح يا بهجة مع اني كنت جايلك في موضوع تاني يخصني بس بصراحة في حاجات تجبر الواحد انه يعترض، انا مش فاهم انتي ازاي قابلة تشتغلي عند والدته جليسة وفي نفس الوقت تبقي مراته، هو قابلها ، انتي راضية ازاي؟
تقبلت نقده بصدر رحب، لتجيبه؟
– هو مش قابل، انا اللي مُصرة، لأني بحبها، بحبها اوي، بالظبط زي عائشة كدة اللي متعلقة بيها .
زفر بتعب سائلًا لها:
– طب وبعدين؟ اخرتها ايه يا بهجة؟ الوضع ده لا يمكن يستمر على كدة.
– ما هو مش هيستمر اصلاً
كادت ان تبوح بها امامه ولكن امسكت لسانها لتجيد الرد عليه بالتهرب وبابتسامة تتصنعها:
– يا سيدي سيبها على الله، محدش عارف بكرة كاتب ايه؟ المهم خلينا في موضوعك انت؟ هي مراتك عاملة ايه الاول؟
تبسم معجبًا بمراوغتها:
– وبقيتي تعرفي تحوري كمان يا بهجة، ع العموم ماشي يا ستي مش هزنق عليكي، ولو ع الموضوع اللي عايزك فيه، فهو مرتبط بسؤالك عن مراتي .
– مالها مراتك؟
اعتلى تعابيره اضطراب واضح ليحسم بقوله:
– عايزة اكلمك عن حاجة حساسة يا بهجة، يمكن الاقي عندك حل، بس قبل ما انطق بحرف طالب السرية منك.
رددت على الفور بقلق انتقل اليها:
– سرك في بير طبعا يا بن عمتي، اتكلم وانا اكيد هفهمك ان شاء الله.
❈-❈-❈
– انا جيت يا عم الشيخ
صدح صوتها في داخل الغرفة التي تمتليء برائحة البخور الكثيفة، بعدما لبت دعوته وأتت بالفعل في ذلك اليوم الذي كانت تظنه إجازة، ولكنها اكتشفت غير ذلك ، حينما رأت عدد قليل جدا من الزبائن، يبدو ان لهم وضع خاص مع الرجل ليستثنيهم في هذا اليوم مثلها.
حتى انها انتظرت دورها لتدخل اليه الاَن وتلقي التحية، فيلتف اليه برزانته المعهودة يشير الى المقعد المقابل له كي تجلس عليه دون صوت،
أذعنت بطاعة تجلس مكان ما اشار اليها، بلهفة اعتلت ملامحها، تطالبه على الفور بعدم الصبر الذي يميزها به:
– هاا يا شيخ، حضرتلي المطلوب، انا مش عايزة اعوق عشان بقوا يزنقو عليها .
تبسم يمسح بأصابعه على اللحية الطويلة مرددًا:
– يا سلام عليكي يا سامية، مفيش فايدة فيكي، الاستعجال عندك حاجة غريبة
ابتلعت ريقها بيأس مرددة:
– خلاص يا سيدنا مش هستعجل، هسكت واستنى اهو .
عاد لابتسامته الغريبة لينهض مسمتعًا بطاعتها، فيغير جلسته، منتقلا الى الكرسي الاقرب اليها، ثم فتح كفه يده نحوها يأمرها:
– هاتي ايدك كدة يا سامية.
اذعنت بتردد تعطيها كفها ليقبض عليها داخل يده ثم رفع الأخرى ممسكًا بقلم ليدون بها على ظهر كفها عدد من العلامات التي لم تفهمها لتسأل بعدم فهم :
– اي ده يا سيدنا؟
رفع رأسه اليها قائلًا:
– مش انتي نفذتي كل اللي المكتوب في الورقة اللي عطيتهالك مبروكة المرة اللي فاتت ولا نقصتي منها حاجة؟
اجابت على الفور:
– كل والله يا سيدنا، ما نقصت ولا حاجة منهم.
بابتسامة جانبية ردد خلفها :
– خلاص يا سامية، يبقى الدور عليا انا دلوقتي، سيبني اكمل، ولا انتي عايزة توقفي؟
ورغم تعجبها الشديد لهذه العلامات الغير مفهومة، إلا ان الإجابة صدرت منها بالموافقة وبدون ان تشعر:
– كمل يا سيدنا.
❈-❈-❈
– يا نهار اسود عمل.
تمتمت بها بجزع وبصوت واضح خرج على غير ارداتها، ليسارع هو الى تنبيهها:
– وطي صوتك يا بهجة، انا كنت منبه عليكي من الاول بإيه بس؟
ابتعلت تتذكر تحذيره، لتخفض صوتها في التعبير عن صدمتها:
– متأخذنيش يا شادي، بس انا اتخضيت والله.
ردد بسخرية من خلفها:
– انتي اتخضيتي من مجرد السمع، امال انا ومراتي نعمل ايه؟ دا احنا شوفنا الويل يا بهجة، من اول ما العمل الشيطاني اشتغل علينا، ولحد ما لقيناه بالصدفة، اقسم بالله مسكته في ايدي ومكنتش مصدق، ولا مستوعب ان حاجة زي دي تحصل معايا انا واهل بيتي ، انا راجل ماشي في حالي اذيت مين عشان يردلي كدة؟ حسبي الله ونعم الوكيل.
ردد بها بحرقة شعرت بها لتسأله بفضول:
– طب وعرفتو تتصرفو ازاي بعد ما اكتشفتوه؟
– جيبنا شيخ ازهر يا بهجة، راجل مشهور عنه السمعة الكويسة والقوة، هو اللي ادانا التعليمات نتصرف ازاي معاه وساهم في علاج مراتي بالقرآن.
– طب وصبا عاملة ايه دلوقتي؟
– لو هنقارنيها بحالتها من اسبوع ، يبقى فرق السما من الارض، الحمد لله على كل حال، بس انا مش هسكت يا بهجة عن اللي عمل معايا كدة، ولازم اكشفه واخليه عبرة، المهم اعرفه، وعشان كدة شددت على الجماعة محدش فيهم ينطق بحرف؛
– طب انت شاكك في حد؟
ظهرت الإجابة بوضوح تعتلي ملامحه، في الرد عليها:
– بصراحة اه، اصلها واحدة بس اللي كانت بتدخل في غيابي انا ومراتي عن البيت غير اختي رحمة، ودي طبعًا بعيدة عن الشك.
– مين؟
– سامية بنت عمك.
توقع المفاجأة، توقع اعتراض منها، توقع دفاع عنها، اي شيء غير هذا البرود في تلقيها الشك منه في اقرب الناس اليها بصلة الدم، مما زاد من شكه:
– بهجة هو انتي كنتي عارفة ان البنت دي ماشية في الكلام ده؟
رغم عدم رغبتها في البوح، إلا ان اضطرت للإجابة تفصح عن السر الذي تحفظه بقلبها، علًه يأخذ احتياطه كما فعلت.
– انا معرفش سامية تعمل كدة ولا لأ يا شادي، لكني مستبعدتش عشان والدتها هي السبب الرئيسيي لتطفيشنا من البيت، بعد ما اتأكدت، وشوفت بنفسي الدليل، زي اللي انت مسكته في ايدك.
سمع منها ليردد بحرقة:
– يا ولاد ال…….. استغفر الله العظيم يارب، هي الناس دي متتعرفش ربنا، وانتي ازاي متقوليليش؟
– ويعني لو كنت قولتلك كنت هتعمل ايه يا شادي؟ المهم خليك انت في نفسك دلوقتي، والله انا لو بإيدي لاحبس مرات عمي وشيح الشوم اللي بينفذلها، قادر ربنا ينتقم منه.
– هو انتي تعرفيه؟
سألها بتحفز وانتباه شديد، ليجدها تجيبه ببساطة كادت ان تتسب له بأزمة قلبية:
– ما هو مفيش غيره يا شادي، الزفت اللي ساكن في الشارع اللي ورانا، دا راجل مربي سمعته ع النصب والدجل ولاقي من امثال مرات عمي كتيرر.
ظل لمدة من الوقت يطالعها بصمت وفقط، يكبح لسانه ع الانفعال عليها، لا يصدق الهدوء الذي تتحدث به في امر كهذا، شيء بمثل تلك الإهمية لا يقبل ابدا التهاون به، ليعود لعقله مقررًا بداخله التصرف بعمليه، ممسكا بهاتفه:
– قوليلي اسمه بالكامل يا بهجة بدل ما اتشل منك
طالعته يأتي بأحد الارقام يتصل عليها، لتسأله بعدم تركيز:
– طب وانت مالك بإسمه، وبتتصل بمين اساسا؟
لوح بقبضته امامها يضغط عليها بشدة، ثم يخبرها حتى تكف عن الجدال:
– هتصل بواحد معرفة في الداخلية، يخلص تاري بالقبض ع الراجل النصاب دا وفورًا، اما عن مرات خالي وبنتها فدول ملهمش دخلة عندي تاني، اللي يمشي في الكلام ده، حتى الكلام معايا متحرم عليه .
❈-❈-❈
مسطحة على الارض امامه، مستسلمة استسلام تام اليه، وهو يتابع بكتابة الأحرف الشيطانية على بشرتها ، والتي غيبتها عن الواقع واصبحت في عالم اخر لا تعلمه
كان قد انتهى من ذراعيها والجزء الاعلى من جيدها، يواصل على ساقها بتركيز تام، رغم تشتيته احيانا من أفعالها،
وقد اشتعلت بها الرغبة تمسح بكفيها وتناظره باستجداء، ليتبسم لها بتسلية:
– حاضر يا سامية هريحك خالص، بس نخلص بقى عشان منبوظش الشغل، ويبقى ارتباطنا للأبد .
وهذا ما كان برأسه ان تصبح ملك طاعته، حتى لو نفذ اليها رغبتها، يساعده جهلها على ذلك، هي وغيرها، هو لم يذهب اليهم، هم من أتو اليه، إذن فعليهم بدفع الثمن ، بوعيهم او بدون، في كل الحالات واحد، الم يعرفون من البداية هو مع من يتعامل؟!
وصل لأسماعه فجأة بعض الاصوات الغريبة من خارج الغرفة، وقبل ان ينهض ليستكشف الامر وجد الباب يدفع بعنف للداخل، ويدلف عدد من رجال الامن، فصدر التعليق باستغراب من اولهم:
– انت بتهبب ايه يا بني أدم انت؟
❈-❈-❈
مساءً
وحينما وضعت رأسها على الوسادة من اجل النوم، نظرت بهاتفها الذي اهملته عن عمد منذ عودتها من هناك، حتى لا تشغل بالها، او يحركها احساس الذنب كما حدث الاَن وقد رق قلبها لسماع صوته عبر الهاتف، تبًا.
اصبحت تعرف بنوبة غضبه ساعة التجاهل، ولكنها ايضًا لم تغفر له حتى الاَن موقف الصباح، إهدار كرامتها من قبل هذه المرأة المتعجرقة واهانتها امامه.
تعرف انها لا تملك الحق في عتابه بفضل هذا الاتفاق اللعين ولكنها ايضًا لا تستطيع التجاهل او التغاضي، نفسها العزيزة والتي كانت سبب بلاءها في الماضي، حينما وقفت امام عمها والمدعو زوجها على الورق، للقبول بربع حقها من ميراث والدها .
هي ايضًا ما تمنعها الاَن من الرد عليه، او ادعاء شيء من المصالحة لا تستطيع الشعور به، أذن فليحدث ما يحدث.
عند خاطرها الاخيرة، ابعدت الهاتف الصامت منذ ساعات، لتضعه على الكمود في الناحية البعيدة عن نومها، تغطي عليه بإحدى الوسادات الصغيرة حتى لا يزعجها اضاءة الهاتف بورود المكالمات التي لا تتوقف.
فتعتدل بجانبها بعيدًا عن جهته وتشد الغطاء حتى رأسها، ولتنعم بنوم هانئ قريرة العينين
❈-❈-❈
وفي الجهة الأخرى، كان هو كالموقد سريع الاشتعال، لا يكف عن محاولات الاتصال بها للمرة التي لم يعد يذكرها بعد ، بغيظ شديد، يضغط على الشاشة التي تأذت بعض الشيء لعنفه، وهو يردد بالسباب، وبرغبة قوية لتعنيفها ردًا على هذا التجاهل، من هي لتتحداه؟ لابد ان يعاقبها حتى لا تفعلها مرة اخرى، ولكن كيف يفعل وهي لا تستجيب حتى على رد الرسائل .
زمجر بغضبه يلقي الهاتف بطول ذراعه، ثم ينهض عن التخت الذي يتقلب عليه منذ اكثر من ساعة بدون أدنى فائدة للنوم، وقد طار منه النوم والراحة بسببها.
كم ود لو يملك السلطة الاَن لدفع باب منزلهم وسحبها من شعرها وبداخل غرفتها، لتذعن بالاسف امامه قبل ان يقرر بعقابها، ولكن كيف يفعل؟
شد بأصابعه على شعر رأسه للخلف حتى كاد ان يخلعه من منبته، هذه اول مرة يقابل بهذا التجاهل، لقد كان غرضه من البداية استرضائها، ولكن بفعلها ذلك حولت كل طاقته نحوها للعكس،
ليضرب بكفه على ذراع المقعد متمتمًا بوعيد:
– ماشي يا بهجة ماشي، انا ان ما كنت اربيكي ع الحركة دي ما بقاش انا .
اغمض عينياه قليلًا يتذكر معناته منذ قليل مع النوم ، بفضل التفكير بها وقد احتلت رأسه، ليدفع تلك الاباجورة ذات الاضاءة الخافتة بيده على الارض بعنف مردفًا بحديث نفسه :
– لكن انام ازاي دلوقتي انا؟ انام ازاي؟
❈-❈-❈
في اليوم التالي صباحًا
وقد استيقظ مؤخرًا عن ميعاده اليومي، بفضل التفكير الذي استولى على معظم ليلته بالأمس، حتى انه حاول استغلال الوقت بالعمل، ولكن بفضل ضياع التركيز منه، لم يستفيد بشيء
فلم يطال النوم سوى قرابة الفجر لينال منه تعب السهر ، فيأتي الاَن الى مقر عمله متأخرًا في سابقة لا تحدث ابدا سوى بالانشغال بأعمال اخرى،
بملامح مكفهرة، اَثار السهر وضحت جليًا عليها، ليدفع باب المصعد بعنف، ثم يغادر بخطواته السريعة منه نحو الجهة التي لم يمر بها إلا نادرًا، فيتحرك متوجها مباشرة نحو مكتب الأرشيف والذي ما ان طل بمدخله حتى اثار الرهبة بقلب الرجل العجوز والذي كان اولهم في الانتباه عليه، ثم ردد يستقبله، امام دهشة الجميع وزهولهم:
– رياض بيه! اهلا اهلا يا فندم نورت المكتب.
دلف بخطوتين داخل الغرفة، موزعًا ابصاره على الجميع ثم توقفت عليها بنظرة واضحة، لتستدرك لجلوسها وحيدة خلف مكتبها الصغير، وقد وقف الثلاثة الباقين احترامًا له ورهبة، فتضطر بارتباك شديد، تجبر اقدامها التي تيبست من الصدمة للوقوف مطرقة رأسها امامه، شاعرة بنصل سهام عينيه تخترقها، رغم محاولات الثبات التي يدعيها مخاطبًا الرجل:
– اهلا يا عبد الفضيل، ايه الاخبار؟
جاء رد الرجل سريعًا بقلق:
– الاخبار فل وعال العال يا فندم، والشغل ماشي زي الساعة، بس دي اول مرة تشرفنا حضرتك، في حاجة.
تبسم بخفة يجيبه باقتضاب لم يريح الرجل:
– مفيش أي حاجة يا عبد الفضيل اطمن.
توقف ينقل بطرف عيناه نحوها يلقي امره اليها :
– تعالي ورايا يا بهجة عايزك .
قالها ثم التف بقدميه للخارج، بدون أدنى تفسير مما اجبر الجميع على التساؤول حتى عبد الفضيل الرجل المسالم:
– بهجة، هو انتي عملتي ايه؟ عشان الراجل يجي يطلبك بنفسه؟
– ودا يعرف اسمها منين اساسًا ولا صفتها؟
قالتها احد المرأتين من زميلاتها، لتضيف عليها الأخرى بقلق:
– دا شكله ميطمنش يا بهجة، اوعي تكوني غلطتي يا منيلة تخسري وظيفتك
كتمت زفرتها تسارع في التوضيح لهم وهي تتحرك للذهاب:
– يا جماعة لا كدة ولا كدة، انا بشتغل عند الست والدته اصلا، تلاقيه بس هيسألني عنها.
قالتها وهي تسارع بخطواتها للخروج حتى تتجنب المزيد من الاسئلة والتي ازدادت اشتعالا بخروجها.
❈-❈-❈
أما عنها، فقد اصطدمت ابصارها به فور خروجها من الغرفة، تتفاجأ بوقفته متحفزًا وهذه الحدة التي تطل من عينيه نحوها، غير ابهًا بفضول الموظفين بالنظر اليه، ولا بهيئته المتجهمة
ليغمرها التوتر الشديد وهي تقترب منه، قائلة بأدب جم :
– افندم حضرتك.
عض على شفته بغيظ شديد، يحجم نفسه عن افعال كثيرة يود التعبير بها عما يكتنفه نحوها، حتى وصلها صوت انفاسه الخشنة ليأمرها كازًا على اسنانه:
– ورايا ع المكتب حالًا.
تمتم بها ثم استدار بقدميه يسبقها بتغطرس وكبرياء، جعلها تغمغم بسخرية من خلفه:
– وكان لزمتها ايه الوقفة بقى؟ فاكر نفسه هيخوفني؟
سحبت شهقيًا طويلا تتبعه، ثم تجسر نفسها بالدعاء.:
– انت المعين يارب.
❈-❈-❈
انتبهت لورا على قدومه لتنتفض واققة باحترام في استقباله:
– صباح الخير يا رياض باشا.
– صباح النور، بهجة جاية دلوقتي حالًا، خليها تدخل ورايا على طول.
قالها على عجالة قبل ان يفتح باب مكتبه، ويختفي بداخله، فتتسمر هي بعدم استيعاب:
– بهجة مين؟ هو انا سمعت صح؟
– بهجة انا.
انتبهت لورا لصاحبة الصوت، تجدها امامها، وبابتسامة صفراء لها:
– معلش يا لورا مضطرة ادخل على طول ، اصل رياض باشا طالبني حالًا.
بذهول تام، تطلعت الاخيرة في اثرها، غير قادرة على منعها، لتتركها، تتجه نحو الغرفة وتفتح بابها، وكأنها داخل منزلها، ثم تدلف اليه، لتسقط هي على كرسيها بقهر تشعر به:
– يا بت ال…….
❈-❈-❈
أما بداخل الغرفة
وفور ان ولجت اليه، ذهبت الشجاعة ادراج الرياح، وذلك الاستخفاف الذي اتخذته منهجًا منذ الأمس في التعامل معه، ليحل محلهم الخوف والرهبة.
وقد تمثل امامها كطاقة من الشر لابد من الحرص والحذر التام في التعامل معها، العروق النافرة ، وهذه الملامح المشتدة، وعيناه….. تبًا، منذ متى كانت حمراء؟
ليقترب نحوها ببطء فهد بري في التعامل مع فريسته ، قائلا بهدوء ما يسبق العاصفة:
– بتصل عليكي من امبارح فوق المية مرة، وانتي تتجاهليني يا بهجة ومتعبرينيش.
حاولت ابتلاع رمقها الذي جف في حضرته، لتدعي زيفًا برأئتها:
– انااا يا رياض؟ ازاي بس؟
حينما برقت عينيه بخطر نحوها، وازدادت ملامحه قتامة، استدركت على الفور لضعف موقفها، لتسارع على الفور بالتوضيح:
– انا اصلي ما شوفتش الرنات، روحت ع البيت وكنت هلكانه من تعب، يدوب أكلت لقمة سريعة مع اخواتي في الكافيه،… وبعدها مشيت ع البيت على طول، حتى نسيت التليفون في الكافيه، والصبح قومت ع الشغل، ما شوفتش الرنات غير قبل ما تدخل عليا تناديني بالظبط.
مواصلا تحقيقه، يجاري كذبتها؛
– والتليفون بقى فضل قاعد في الكافيه؟ وانتي مسألتيش تاني عنه؟ ولا حد من اخواتك نبهك على اتصالي بيكي يجي خمسمية مرة .
– هما مش كانو مية من شوية
قالتها بداخلها قبل ان تلحق بباقي تبريرها:
– التليفون كان معمول صامت ، دا غير اني مسجلالك من غير اسم، هيعرفوا ازاي ان انت اللي بتتصل؟……
شهقت بصرخة كتمتها على الفور حتى لا يخرج صوتها ، وقد باغتها فجأة يقبض على ساعديها، ضاغطًا:
– بلاش تحوري وتلعبى معايا يا بهجة، الحركة اللي اتعلمت امبارح دي لا يمكن اعديهالك، سمعاني؟
اصابها الفزع حتى ندمت بداخلها على الاستهتار بغضبه، ولكنها كانت معذورة، لينهار تماسكها امام حدته:
– براحة يا رياض، دراعي هيتخلع منك .
رق قلبه لضعفها ولكن حريق صدره كان اقوى من أي شيء، ليستمر بضغطه، حتى سالت دموعها امام عينيه، لترتخي ذراعيه عنها، وتتلف حولها في ضمة قوية يهددها بصوت خشن، يدعي الحزم:
– بس بقى بلاش عياط ، عشان انتي اللي استفزتيني أصلًا:
ظلت على وضعها للحظات، يمسح على ظهرها وراسها حتى استكانت قليلًا، وقد شدد ذراعه حولها، ونسي الوضع والمكان، عكسها هي، وقد استدركت سريعًا،
لتسحب نفسها من ضمته اليها بهدوء، وتبعد ذراعيه عنها، فعقب هو باندهاش:
– في ايه؟
جاء ردها برسمية تذكره:
– ميصحش حضرتك، لو حد دخل علينا المكتب كدة فجأة هيقول ايه؟ انا لازم احسب حساب لسمعتي برضو.
– سمعتك!
– ايوة سمعتي، مش كفاية اسئلة الزملا ليا في المكتب قبل ما اجيلك، اللحق بقى اخلقلهم قصة يمكن يقتنعوا، عن اذنك بقى.
قالتها وتحركت ذاهبة ليوقفها بحدته:
– استني هنا هتبرري لمين؟ وهما مالهم اصلا، ثم انا كمان ملحقتش اقعد معاكي.
ردت بوداعة ويدها حطت على مقبض الباب:
– الكلام دا تقولو انت حضرتك، لكن انا ملزمة اني اخاف على صورتي قدام الناس، عن اذنك بقى عشان لو اتأخرت اكتر من كدة كمان، برضو الكلام هيكتر اكتر. سلام .
❈-❈-❈
انتهت اسراء من اعداد عبوة الحليب لاطعام طفلها ، واتجهت نحو الشرفة، حيث تركته مع والده، لتتوقف امام مشهدهم.
زوجها الذي كانت تعده فاقد الاحساس والشعور، يضم طفله اليه بحنو، يهدده برقة بالغة، ربما تأثرا بمرضه، ولكنه يفعل، ليتها لمست هذا الجزء به منذ البداية، تعرف انه لم يكن سيئًا، ولكنه كان ضعيف الشخصية امام والديه، وحين اراد التمرد؛ بدأ بها ، ولكنه عاد الاَن وهذا هو المهم.
– نام الواد؟
توجهت بالسؤال كي يلتف اليها، ليؤميء لها بعيناه كي لا يصدر صوتًا ويزعجه،
– وانا اللي حضرتله الرضعة، ياللا بقى .
تمتمت بها، لتضع عبوة الحليب على الطاولة، ثم تتقدم بهدوء وتتناوله منه بخفة، فاقترب وجهها منه حتى كادت ان تصطدم انفها بذقنه، لولا انتباهها،
لتلتقي عيناها بخاصتيه، يطالعها بنظرة ما لاول مرة تجدها منه، حتى نزلت عيناه على باقي تفاصيل وجهها ، ثم تتوقف على ثغرها، وقد اختلطت انفاسه بأنفاسها، بلحظة لم تكن متعمدة منها او منه.
ولكن يبدو أنها قد أتت بأثرها عليه، ليقترب منها، ودنى امام صمتها وربما توقها لذلك، وما كادت ان تعانق شفتيه شفتيها، حتى انتفضا الاثنان على صوت صراخ يأتي من الأسفل، بالتحديد من منزل والديه.
نهض كي يرهف السمع من الشرفة ليتأكد من صح ظنه ، فيردد بجزع:
– الصوت جاي من تحت ، شكل البت سامية والواد سامر شابطين في بعض، بس دي بتصرخ صريخ جامد ، دا هيخلص عليها دا ولا ايه؟
– انا رايح اشوفهم الحيوانات دول هيجبولنا الفضايح.
قالها وتحرك ذاهبًا من امامها، لتتابع اثره حتى خرج يصفق الباب من خلفه، ثم يصلها صوت ركضه على الدرج، فيخرج صوتها اخيرا بإحباط:
– يعني هما حبكت يتخانقوا دلوقتي؟ …. جات الحزينة تفرح.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
نزل الدرج سريعًا يدفع الباب بكتفه بعدم انتظار لطرقه ولا بقرع الجرس، فأصوات صراخها كانت تشق الأذان بصورة فاضحة، يرافقها صيحات جهورية لسامر ووالديه في الجدال معه لتخليصها من يده كما رأى بأم عينيه فور ان اقتحم عليهم، ليجد المشهد امامه.
شقيقه كالمجنون بهيئة اجرامية لم يعهدها عليه قبل سابق ابدًا، ممسكًا بالحزام الجلدي يضرب به في الهواء نحوها، يريد أن يصل اليها، وقد كان والديه يمثلان حاجز بينها وبينه لعدم الفتك بها، على الرغم من تمكنه منها عدة مرات، وهذا ما ظهر على هيئتها التي افزعت شقيقه، ولكن غليله لم يهدأ بعد.
– ايه يا حيوان اللي انت عامله في اختك ده؟ وانتو ازاي سيبتوه يعمل فيها كدة؟
قالها يلتقط شقيقته ويضمها اليه بين ذراعيه، فالتف الثلاثة وتوقف سامر يضحك بسخرية متهكمًا نحو والديه:
– دا جاي يسألني بعمل فيها كدة ليه؟ البيه قاعد في شقته وميعرفش الدنيا اللي اتقلبت حوالينا، وسيرتنا اللي بقت على كل لسان بسببها.
– سيرتنا اللي بقت على كل لسان!
ردد بها سمير يدفع شقيقته عنه يوجه لها السؤال بتوجس:
– الواد ده بيقول ايه يا بت؟ هببتي ايه يا سامية.
انتفضت تتراجع عنه برعب ان تأخذ دورها منه ايضًا لتردد بهذيان:
– والله ما كنت بوعيي، والله ما كنت بوعيي .
انتفض امامها بأعين جحظت بارتياب صارخًا بها، وقد ذهب ظنه لما هو أفظع من خلف كلماتها:
– الله يخرب بيت ابوكي، عملتي ايه يا بت؟
صرخت درية هذه المرة تتمسك به شارحة بلهفة:
– يا بني مش اللي في بالك، الموضوع حاجة تانية خالص، بس حظها زفت واخوك كمان مزودها، الله يخرب بيتكم فضحتونا .
جاءها الرد من سامر:
– أحنا برضو اللي فضحناكي ياما، ثم حظ ايه بالظبط ايه اللي بتتكلمي عنه، بتك لولا البوليس ما دخل ونجدها من ايد النجس ده اللي عامل فيها شيخ، الله اعلم عمل كان يعمل معاها ايه؟ ادي اخرة الدلع يا ماما ، ادي آخرة الدلع يا بويا.
خرج صوت خميس مدافعًا عن نفسه:
– وماله ابوك يا خويا، واحدة طويلة وشحطة، يعني عارفة الصح من الغلط، هقعد قبالها انا بقى، واعد عليها خطواتها، امال امها لازمتها ايه؟
– ما كفاية بقى يا خميس، هو انت اللي عليك امها امها، خلفتها لوحدي انا بقى؟
– بااااااااس
كانت هذه صرخة سمير الذي تشتت عقله بالذهول مما يسمعه، دون توضيح جيد لمغزى ما يتحدثون فيها، ليلقي نظرة نحو شقيقته التي جلست بزاوية وحدها تنتحتب وتبكي، ليستطرد بغضبه:
– انا عايز اعرف دلوقتي بتتكلمو عن ايه بالظبط وتشرحولي بهدوء .
❈-❈-❈
عادت معه هذه المرة في السيارة، بعد لقاءهم في عش الزوجية، وقد تصالحا ونسيا في غمرة الوصال زعل الأمس وقلق الغد، هي ليست غافلة حتى لا تعرف بمقدار عشقها في قلبه، حتى وان كانت تجربتها الاولي في الحب، وحتى وهي لم ترى من الرجال غيره حبيبًا، هو فرحتها الحقيقية وسر عذابها ايضًا،
كانت معه في السيارة، كفها الصغير داخل قبضته يرفعها اليه اثناء القيادة كل لحظة ويقبل ظهرها، وكأنه يطمئن نفسه دائما بوجودها معه.
كان قد اقتربا من منزل والديه، ف انتبهت تذكره:
– رياض وقف هنا، لحد من الحراس يشوفنا .
فاجأها بإصراره:
– لا انا هدخل وانتي معايا وفي داهية الحراس .
شعرت بشيء من السعادة كانت تكبتها من الداخل، حتى لا تظهر لهفتها امامه، وتتركه يكمل احاديثه المستمرة:
– شوفي بقى، انتي تحاولي تلاقي صرفة وتسبيلي نفسك لو حتى يومين، نفسي يا بهجة أختلي بيكي عن العالم كله، اللحظات اللي بنخطفها دي مبقتش تكفيني، انا عايزك على طول معايا.
– وايه مانعك؟
همت ان تتفوه بها ولكنها وعدت نفسها الا تنطق بها ابدًا ، فلابد ان تأتي المبادرة منه.
توقفت السيارة داخل محيط المنزل، لتترجل هي وتسبقه:
هروح انا اشوف مدام نجوان على ما روحت انت ركنت العربية في الجراج
اومأ لها بعيناه وتحرك مغادرًا، لتتخذ هي طريقها نحو المنزل، وبداخلها امل ينمو نحو إمكانية تغيره، لتدلف داخل المنزل فتُزهل بضحكات نجوان التي كانت تصدح بصوت عالي جعلها جعل الفضول يتأكلها، لتتبع الصوت حتى وجدتها في وسط البهو تحمل طفلا ما، وبرفقتها رجل شديد الهيبة ومعه امرأة…… ينتابها الاحساس انها رأتها قبل ذلك في التلفاز؟.
– تعالي يا بهجة، انتي هتفضلي واقفة مكانك.
كان هذا صوت نجوان التي انتبهت اولهم عليها ، لتدعوها بفرح:
– تعالي يا قلبي متتكسفيش، دا ابن اختي مصطفى احب الناس على قلبي، ودي مراته الممثلة المشهورة.
– عرفتها مدام نور .
قالتها بهجة مشيرة بسبابتها نحوها، وقد تأكدت من صدق حدسها، فضحكت الأخرى تؤكد لها بلطفها المعتاد:
– ايوة انا هي يا ستي، عرفتيني ع الطبيعية؟
اقتربت منها بلهفة تصافحها:
– طبعا عرفتك على الطبيعة، دا أنتي قمر على الشاشة وعلى الحقيقة، انا في خيالي مكنتش اتخيل انك بالجمال ده .
تتحدث بعفوية جعلتها تتقبلها بمحبة، فتعلق نجوان وتعرفها لهم:
– دي بقى بهجة يا جماعة، اجمل بنوتة تشوفوها هنا، يعني تعتبرها بنتي اللي مخلفتهاش.
– يا نهار ابيض للدرجادي
قالها مصطفى لتمتد يداه نحو بهجة قائلا بتقدير:
– دا احنا كدة نحسدك يا ست بهجة، محدش يقدر ياخد المكانة دي في قلب خالتو الا اذا كان غالي اوي .
– وأغلى مما تتصور
قالتها نجوان لتمسكها من كفها وتجلسها بجوارها ، مما اخجلها في التعامل معهم وكأنها واحدة منهم، فتواصل بطريقتها لأدماجها معهم:
– شايفة يا بهجة، شايفه الأمور ده، يبقى ابن مصطفى ونور، ايه رأيك بقى؟ جميل زيهم، صح.
❈-❈-❈
أما عنه فقد بدت ان المفاجأة لم تكن سارة له على الإطلاق، وهذا ما ظهر على ملامحه التي انكمشت فور ان وقعت عينيه على أبن خالته رجل الاعمال النجيب، مع زوجته الممثلة المشهورة وبهجة تحمل طفلهما وكأنها…….
– مساء الخير.
صدرت منه التحية بصوت خشن لفت انظار الجميع اليه، لتلتقط نظرته نحوها بلهفة قابلها بجمود وهو يتقدم نحو ابن خالته يرحب به وزوجته قبل ان ينضم مجبرًا للجلوس معهم،
– منور يا مصطفى، مفاجأة مكنتش اتصورها بصراحة.
لاح في نبرته شيء ما لم يريح والدته، فجاء رد الاخير بسجية:
– مفاجأة ليه يا اخينا؟ اينعم انا مشغول اربعة وعشرين، بس دا ميمنعش اني ان اخلق الوقت عشان اجي واطمن على خالتو بعد ما عرفت برجوعها لينا، ولا ناسي بمعزتها عندي؟
استمر بطريقته وابصاره تتجه نحو بهجة كل لحظة بضيق شعرت به:
– لا طبعا انسى ازاي؟ ما هي كمان بتحبك
❈-❈-❈
انتهى سامر من سرد ما حدث، ووصف الخزي الذي شعر به اثناء ذهابه إلى قسم الشرطة لاستلامها، وقد كانت في حالة من الاوعي تُمكن أي شخص حتى لو بدون عقل ان يستغلها، ولكن الله كان رؤوف بهم وجاءت معه سليمة
في كلمات وجيزة ولكنها كانت كفيلة لتجعل الدماء تصير كاللهيب في عروق الاخر، وبصدمه يستشعرها كمطرقة حطت على رأسه ليستفيق من حال الامبالاة التي يتخذها منهجًا امام صلف والديه معه في اي قرار يريد تنفيذه، لينتفض فجأة نحوها وقد ظلت على جلستها في زاوية الغرفة تبكي وتنتحب دافنة رأسها في ركبتيها التي تضمهما بذراعيها.
ليقبض على ذراعها يهدر بفحبح :
– رايحة عند الراجل الوسخ دا ليه يا سامية؟
– اااه
صدر صوت توجعها ليزيد بضغطه امام صمت الثلاثة وقد نال منهم الاجهاد:
– رايحة تعملي عمل يا بت؟ ومين اللي عرفك على سكته من الاساس؟ قولي،
صرخ بالاخيرة لتنتفض والدته على أثرها ، وقد لاحت من ابنتها نظرة نحوها فهم منها الإجالة ، ليتوجه بالكلمات المقصودة:
– طب انا هعيد تربيتك من اول وجديد يا سامية، واللي مقدرش عليه ابوكي وامك، هقدر انا عليه أن شاء، وابقى الاقي حد فيهم يعترض وانا اسف يعني؟
ردد خميس من خلفه بسخرية خالية من اي مرح:
– وانا هعترض ليه يا حبيبي؟ اعمل اللي انت عايزة ، انا خلاص حطيت صوابعي في الشق منكم كلكم، جاتكم البلا، دا انتو تقصروا العمر.
سمع ليلتف نحو والدته بتحدي ونظرات كاشفة:
– وانت ياما، ليكون عندك اعتراض بعد اللي حصل؟
– هو انت ناوي تعمل فيا ايه؟
صرخت سامية تسبق والدتها، والتي جاء ردها ببعض الجدال رغم توترها من تلميحاته:
– ايوة صحيح، انت عايزاني اقول امين من غير ما اعرف هتعمل في البت ايه؟.
تبسم يجيبها بمكر؛
– مش حاجة وحشة والله ياما، الواد سامر ماسك ايده من الوجع من كتر ما ضربها، انا بقى هقصر المسافات واجوزها، حتى الحمد لله العريس جاهز مش محتاجين تعب .
وقبل ان يصدر السؤال من كلتاهما اردف يجيبهم:
– طلال ابن عم منعم صاحبك يا بابا .
صرخت سامية بالرفض امام جزع والدتها:
– نهار اسود، اللحقيني ياما، دا عايز يجوزني للبرمشاجي، اللي لا شكل ولا هيئة.
.
وعلى عكس المتوقع تلجمت درية ليست بقادرة على دعمها او الرفض، عكس خميس الذي تهلل وجهه، وانتقض يستغل الفرصة:
– حلو اوي يا سمير، اهم حاجة يفتح بيت وهو ناصح في الحتة دي، انا هروح ابلغ منعم يفرح ويحددو ميعاد اللي هيجوا فيه.
قالها خميس وهرول من جوارهم لتصرخ سامية:
– اللحقي جوزك ياما، دا ماصدق، الواد دا مبيطقهوش وربنا ما بطيقه.
– اخرصي يا بت مسمعش صوتك خالص، دا انتي تبوسي ايدك وش وضهر لو هو رضي بيكي.
صدرت الصيحة من شقيقها سامر بحزم جعل درية نفسها تنكمش على نفسها، اما سامية فلم يتبقى لها سوى معاودة الندب تلطم على خديها بحسرة على ضياع الحلم لينقلب إلى كابوس طلال
❈-❈-❈
داخل السيارة التي تقلهم للعودة إلى المنزل، كان الحديث الدائر بينهم، لتعبر زوجته عما تشعر به بعفويتها كالعادة:
– انا فرحانة اوي يا مصطفى بزيارة طنت نجوان ورجوعها لينا، بسيطة وطيبة وبتحبك وبتحبني في نفس الوقت يا مصطفى.
ضحك مرددًا خلفها بمشاكسة:
– فرقت معاكي اوي دي يا نور، انها بتحبني وبتحبك، والله انا كمان محبتكيش من شوية.
تبسمت بحرج لتلكزه على ذراعه موضحة:
– بطل غلاستك دي يا مصطفى، انا قصدي مش بتتعالى ، ما انت عارف نظرة مامتك الطبقية ليا، حتى وانا نجمة كبيرة وليا جمهوري
استاء بالفعل لقولها، ولعلمه التام انها لم تكذب، ليتخلى عن عبثيته مبديًا اعتذاره:
– معلش يا قلبي، هي كدة اعملها انا ايه؟
– لا يا سيدي متعملش حاجة، ما انا خلاص اتعودت بقى، المهم خلينا في ابن خالتك ده، انا كنت حاسة انه مش طايقنا.
عاد للضحك مرة اخرى مرددًا بسخرية:
– حاسة بس، طيب ما هو فعلا مش طايقنا؟
توقف يسحب نفسًا قويًا ليردف بجدية:
– رياض ابن خالتي وانا اكتر واحد عارف باللي في دماغه، هو متخطاش الماضي اللي انا كنت جزء منه، لذلك أنا دايما بديله العذر، اللي مر بيه مكانش قليل، هو يستاهل الحب، بس لو يدي لنفسه الفرصة ويشيل العقد اللي مكلبشاه ساعتها هيرجع انسان تأني خالص.
صمتت زوجته تستوعب الحديث، وتوافقه الرأي، فأتت فجأة صورة بهجة بذهنها لتقول بلهفة:
– على فكرة انا لاحظت حاجة غريبة النهاردة، نظرات رياض للبنت القمورة جليسة طنت نجوان مكنتش طبيعية، مش عارفة ليه دخل في قلبي احساس كدة لما لقيته مركز فيها
– قصدك انه يكون بيحبها ولا معجب بيها؟
مطت شفتيها، توضح بعينيها انها لا تستبعد، مما جعله يردف بما شعر به هو الاخر:
– تصدقي عندك حق .
❈-❈-❈
بداخل المكتب كان معطيًا ظهره، واضعًا يده في جيب بنطاله، ينظر من خلال الحائط الزجاجي إلى الحديقة بوجوم تام حينما دلفت اليه حاملة فنجان القهوة الذي تكلفت تصنعه بيدها لتأخذها حجة وتراه، بعد اختفاءه كل هذا الوقت منذ مغادرة مصطفى عزام وزوجته المنزل .
– القهوة اللي بتحبها .
قالتها برقة لم يعيرها اهتمامًا وقد التف اليها بوجه ممتقع الملامح وغضب غير مفهوم، يحدجها بنظرة نارية وكأنها قامت بجرم ما، ليلقي بنظرة خاطفة نحو القهوة فيجلس زافرًا بصوت عالي انفاس قوية، ليزيد بداخلها التوجس حتى عبرت عنه:
– ممكن افهم انا زعلتك في ايه بالظبط عشان ابقى فاهمة بس؟
أجاب بعد فترة من الصمت:
– ومين قالك اني زعلان، شوفتي ايه عليا يخليكي تفتكري كدة؟
لم تحتمل مراوغته في الحديث ، لتنفعل هاتفه به:
– رياااض بلاش اسلوب اللف والدوران معايا، انا مش غبية عشان مفهمكمش، انت متغير من ساعة ما شوفت ابن خالتك والممثلة المشهورة مراته مع مدام نجوان، شكلك كان واضح عليه اوي انك مخنوق، بسبب خلافات بقى ولا مشاكل قديمة، لكن انا ايه ذنبي…..
– بتشيلي ابنهم ليه؟.
اجفلها بها مقاطعًا بحدة جعلتها تقطب بعدم فهم:
– وفيها ايه يعني؟ دي مدام نجوان كانت فرحانة بيه اوي وهي اللي شيلتهولي؟
– وانتي ليه تجاريها؟ هي فرحانة عشان دا ابن الننوس الغالي حبيب العيلة كلها، انتي ليه قعدتي معاهم اصلا؟ ادخل انا الاقيكي شايلة لولد وكأنك ما بينهم……
قطع فجأة ليصلها المعنى على الفور، فشخصت ابصارها بصدمة مرددة:
– قصدك خدامة؟ شايلة ابنهم وكأني الخدامة بتاعتهم .
– اخرصي يا بهجة، انا مقولتش كدة .
نهرها كي تتوقف، ولكنها لم تبالي لتواجهه بتحدي:
– لأ مش هخرص عشان انا مش غبية عشان مفهمش قصدك، بس لعلمك بقى، انا مزعلش منها دي ولا تهمني، انت بقى مش متحمل مجرد الفكرة، يبقى نفضها سيرة من اساسه، وانت تقطع من الخدامة اللي هتعر الباشا ابن الباشا.
نهض من جلسته لينفض عنه الذهول الذي اكتنفه بسماع حديثها القوي، وازدادت عيناه اشتعالا نحوها ليقبض على ذراعها مرددًا بتحذير:
– بطلي كلامك المستفز يا بهجة، انا على اخري اصلا، ومش حمل اي تفسير سخيف منك، ولا عايز ارتكب جناية بسببك.
نفضت ذراعه عنها لتقارعه بغضب:
– بلاش انا تفسيري السخيف يا باشا، وقولي انت عن السبب الحقيقي لقلبتك، انا عايز اسمعك اهو قول.
ظل على جموده في الصمت لتكرر في طلبه بانفعال:
– كذب كلامي بقى واقول اني فهمت غلط، مستني ايه يا باشا؟
اخرج تنهيده من صدره، طاردًا دفعة كبيرة من الهواء، ليتحرك من جوارها عائدًا نحو مكتبه يتكلم بصوت يتخلله الألم:
– انا اللي جوايا كتير يا بهجة، وانتي لا يمكن هتفهميني.
ردت بعدم رضا تجلس امامه:
– ليه بقى؟ شايفني مبفهمش؟
رمقها بحنق قائلًا:
– الموضوع مش زي ما انتي فاهمة، الحكاية ان في تفاصيل كتير انتي متعرفهاش، تفاصيل عدى عليها سنين كتير، كتير يا بهجة.
بشبه ابتسامة لم تصل لعيناها عقبت :
– وانت بقى هتفضل حابس نفسك جوا السنين دي؟ الدنيا كل يوم في حال، واللي النهاردة كويس معاك ، من الجايز بكرة تلاقيه وحش، والعكس كمان، المهم اللي احنا فيه دلوقتي.
حديثها كان به شيء من المنطق لكنه لم يقتنع به، ليأتي رده بتقليل:
– انتي بتقولي كدة عشان دنيتك محدودة، ما شوفتيش نص اللي انا شفته، مش بقولك مش هتفهميني .
نهضت من امامه تردد بيأس احتل معالمها، وقد فاض بها منه:
– عندك حق، انا فعلا مش فاهماك ولا عمري هفهمك يا رياض.
قالتها وخرجت على الفور تتركه في وحدته، يصارع ذكرياته القديمة، في تلك الحقبة اللعينة
بعد ان انهى دراسته الجامعية في الخارج وأتى إلى هنا مع والدته، ليستقرا مع والده الذي سبقهم قبلها بسنوات في تأسيس مصنع الملابس والازياء الحديثة حلم حياته، فيحتك هو بالعالم الواقعي هنا المخالف تمامًا عما نشأ عليه.
عالم المظاهر المبالغ فيه، مال واعمال وعائلة ارستقراضية يختلف تمامًا عما نشأ عليه مع والدته المتواضعة لدرجة السذاجة رغم اصلها النبيل، والده الذي كان يعده قدوة اكتشف مع الوقت سفاهة معظم قرارته، والتي كانت تكلفه الكثير من خسارة الأموال.
على العكس تمامًا مع زوج خالته الهمام وابنه النجيب، نجاحات متتالية دون توقف، يعرف بها القاصي والداني، انجازات تتغنى بها بهيرة في كل اجتماع او مناسبة
وفي المقابل فشل والده المستمر في إدارة مصنعه، حتى قرر المساعدة بالعمل معه كي يصبح له ذراع يمنى كمصطفى عزام ووالده،
ولكن اكتشف مع الوقت المصيبة الحقيقية لتأخر الرجل ، تلك الأفعى التي كانت تشغل عقله بعشقها وأنوثتها الطاغية، يصرف عليها ببذخ، غير مراعيًا لفرق العمر بينها وبينه، مما تسبب له في العديد من الخسارات، الشد والجذب والخلافات المستمرة معه خشية وصول الأمر إلى تلك الغافلة والهائمة بعشقه،
محاولاته في كشف هذه الأفعى، والتي غلبته بمكرها حتى خلقت ضغينة بين الاب وابنه واضعة بعقله تلك الفكرة التي لم تخطر له على بال ، انه يحاربها من أجل الحصول عليها لنفسه.
كان احمقًا لا يعرف بأساليب النساء، ليظل متخبطًا لا يعرف وجهة صحيحة يستند عليها، حتى جاءت القاسمة بحادث السيارة وما تلاها من فضائح تصب المزيد عليها ، قصتهم اصبحت علكة بين الافواه لتظهر الفرق الشاسع ما بين الأسرة الملتزمة والناجحة ، وبين اسرته الفاشلة .
ايام سوداء لن ينساها ولن تنمحي من ذاكرته، ولكنها خلفت في قلبه جروحًا لن تندمل، رغم النجاحات التي حققها، ليكون ندًا للأخر حتى وثروته لا تصل لنصف ما يملك ولكنه اثبت نفسه، رجل ناجح وأسرة مستقرة وزوجة……..
توقف عند الاخيرة يغلق على عينيه بتعب، فقد وقع في نفس الفخ، ومع ذلك يأبى الخروج منه.
❈-❈-❈
منذ تلقيه اتصال صديقه ضابط الشرطة يخبره عن الوضع بعد القبض على الشيخ الدجال، ثم ذكره لاسم ابنة خاله والحالة التي وجدت عليها ساعة القبض على هذا المدعي، شيء مخزي جعل الغضب يتصاعد داخله، وشيء يتعدى الأسف الاف مرات، لما تعرض نفسها لهذه الإهانة؟ لما الاذية له ولزوجته؟ ومن اجل ماذا ينسى المرأ دينه بالاتفاق مع الشيطان فيخسر الدنيا والآخرة؟
ظل شادي لفترة ليست بالقصيرة يصلي ويتضرع إلى الله بالمغفرة والحفظ له ولعائلته
حتى اذا انتهى وذهب إلى والدته قص عليها جميع ما حدث:
– شوفتي بقى يا ماما، عشان انا من الاول كنت شاكك وسبحان الله لما جيت اتأكد انكشف كل شيء، انا مش بأنبك والله، لأنه كله بإيد ربنا، لكني عايز اعرفك بس ان سبب بلاء الطيبين في الدنيا دي هي طيبيتهم .
– سامحني يا بني، انت فعلا عندك حق في كل اللي قولته، ربنا يهديها،،قد صدمتي فيها، قد زعلي عليها ، دي مهما كان بنت اخويا وعرضها يمسني.
لن يلوم والدته على تعاطفها مع تلك الملعونة، فهو ايضًا اكتنفه هذا الشيء ورغم قهره منها ومن بجاحتها ووقاحتها، إلا انه يفضل لها الستر دائمًا .
– انا قايم اشوف مراتي يا ماما، هي اكيد قلقانة من قلة اتصالي بيها من الصبح .
قالها ونهض يهم بالخروج ولكن والدته أوقفته:
– واد يا شادي، مش كفاية كدة بقى ورجعها، ومدام عرف السبب بطل العجب.
تبسم يجيبها بتأكيد:
– هيحصل يا ماما، ما انتي قولتيها بنفسك، معدتش في سبب يمنع والحمد لله.
تمتم بالاخيرة وذهب، نحو من ما ملكت فؤاده، واشتياقًا يحرق صدره إلى رؤيتها، ألا وقد حان الوصال اخيرا بعد الهجران وعذابه.
❈-❈-❈
كأمواج متلاطمة يعلو بها الى عنان السماء مرة، ثم وعلى حين غفلة منها، يهبط بها سريعًا في العمق حتى يكاد ان يغرقها، كم ودت ان تصل معه إلى بر يريحها او حتى بدونه لو استحال الأمر، ولكنه لا يعطيها فرصة، تبًا له من أناني.
دفعت الباب لتكمل السهرة مع اخوتها داخل محل الكافيه الذي اصبح مقرهم الاساسي الان، نظرا للعمل به ، ولأنه ايضًا مكان جيد للترفيه
وقعت عينيها في البداية على شقيقها الذي يتعامل بجدية مع احد الزبائن، حتى همت ان تنادية او تلفت نظره، ولكنها تفاجأت تبصر اعز صديقاتها امامها وكأنها كانت في انتظارها
لتهرول اليها متمتمة بإسمها :
– صفية .
❈-❈-❈
خرج بها اخيرا بعد فترة طويلة من الانشغال بقضية عمره، قرر اليوم اخذ استراحة محارب، يريح عقله قليلًا من التفكير ، ويرفه عنها، شاعرًا بذنب اهماله لها في الفترة الأخيرة، على الرغم من عدم شكواها، مما زاد من تقديره لها.
ليسألها فور الجلوس على طاولة تجمعهما وحدهما بذلك المطعم المختص بتلك اللقاءات .
– قوليلي بقى يا أمنية؟ عجبك المطعم؟
ردت بابتهاج يعتلي تعابيرها:
– اوي، عجبني اوي، إضاءة هادية ومزيكا جميلة، اقدر اسميه عشاء رومانسي ده يا عصام؟
– انتي لسة هتسألي يا أمنية؟ ولا انتي مش مصدقة اصلا ان جوزك يطلع منه الحاجات دي؟
قالها بعفوية ليجد الرد على ملامحها المتبسمة، فيردف معبرا عن استيائه:
– اما صحيح ستات غدارة، عاملين زي القطط تاكلو وتنكروا
– أحنا يا عصام.
تمتمت بها ضاحكة ليستطرد هذه المرة متغزلا:
– طبعا عشان حلوين وليكم حق.
اعجبها اطراءه فتابعت بغريزة الأنثى تريد المزيد:
– يعني شايفني حلوة يا عصام؟
تناول كفه يدها يقبل ظهرها مجيبًا:
– دا انتي قمر مش حلوة وبس، انا عارف اني مقصر معاكي كتير، وانتي متحملة وساكتة، لا بتنكدي ولا بتشتكي، اوعي تفتكري اني مش واخد بالي منها دي، دا انا ابقى راجل غبي لو مقدرش
قالها بامتنان وصل اليها لتعقب بما زاد من سعادته:
– بعد الشر عليك يا حببي من الغباء، زي ما انت مقدر ، انا كمان مقدرة، لا يمكن ازيد على همومك، ربنا يخليك ليا، كلمتينك دول معناهم كبير اوي عندي وربنا العالم
قبل يدها مرة اخرى قائلًا بانتعاش:
– دا انتي اللي تستاهلي الدنيا كلها تحت رجليكي، شوفي بقى، انا قابض وجيبي مليان النهاردة، اطلبي اللي انتي عايزاه، وشاله ما حد حوش .
❈-❈-❈
في تلك الزاوية المظلمة، والتي يقوم بها بدوره في الاستلام والتسليم مع الزبائن المعروفين لديه، كان عقله
منصبًا في التركيز مع هذا الفتى، الذي لا يتوقف عن اللعب في الهاتف بيده، وقد سمع عنه الكثير وعن مهاراته في الاختراق وأشياء كثيرة .
تقدم يتخذ مقعده بجواره، ليفتح معه حديثًا:
– بيقولوا انك شاطر اوي في التليفونات وبتعرف تهكر اي حساب يا عويضة.
رد الفتى باعتزاز:
– طبعا امال ايه، انا مفيش حاجة تصعب عليا، وبكرة تسمع عني لما تلاقيني بهكر حسابات بنوك، انا ماشي في السكة دي وهوصل
– يعني على كدة تعرف تهكر اي حساب أدلك عليه؟
رد الفتي بحماس، وقد اشتعلت رأسه بالتحدي:
– دلني ع الحساب اللي انتي عايزه يا عم إبراهيم وانا بعون الله هعرف .
– طب قولي ازاي؟
سأله بفضول ، ليجيبه على الفور:
– مش مستاهلة تعب، هو لينك تبعته عن مسابقة مثلا ولا حاجة تغري صاحبها بفتحه، المهم نعرف راجل ولا ست عشان نقدر نحدد اللي اهتمامات الزبون وعلى هذا الأساس نشتغل يا باشا .
نالت الفكرة استحسانه، وقد شعر بفائدتها قبل ذلك مع والدتها، فما باله لو صارت التجربة معها، يبدو ان التسلية ستكون افضل بكثير في الايام القادمة، ليقترب منه يغريه بعرضه:
– طب شوف بقى، لو عرفت تهكر الرقم اللي هكتبهولك دلوقتي، ليك عليا الفين جنيه تاخدهم كاش ايه رأيك بقى
– دا الفل الفل يا عم إبراهيم، هاني الرقم اللي انت عايزه وانا هشتغل عليه يوماتي لحد ما اجيب قراره.
❈-❈-❈
لم تحبذ الجلوس معها داخل المحل المزدحم، رغم كم المرح والفرح الذي يغمرها به، بمشاهدة اشقائها وحماسهم في العمل، إلا ان حالتها المزاجية هذا اليوم جعلتها تتلقف لقاء صديقتها كالغريق، لتسحبها معها على الفور وتأتي بها الى هنا داخل المنزل،
فتختلي بها بعيدا عن الجميع في جلسة داخل غرفتها، يستعدن ذكريات المراهقة وجلسات النميمة والأحاديث اللذيذة،
ولكن اليوم كان حديثهم في شيء آخر، ذلك الذي اتعبها وارهقها بكثرة التفكير فيه:
– يعني ايه يا بهجة؟ انا عايز افهم اكتر منك، بيحبك ولا ما بيحبكيش؟
ردت بما تأكد في قلبها:
– لو عندي ذرة شك واحدة بس انه مببحبنيش، عمري ما كنت هقعد ولا استمر معاه ثانية واحدة تاني .
– ولما انتي متأكدة اوي كدة يا حبيبتي من حبه ليكي، تقدري تقوليلي ميعلنش ليه؟ في الضلمة بحبك وبموت فيكي ، وفي النور لا سوري معرفكيش، انا اسفة في صراحتي يا بهجة .
تبسمت متقبله نقدها :
– لا والله ما ازعل منك، عشان عارفة ومتأكدة بصحة كلامك، بس اعمل ايه؟ ما هو ده سبب تعبي معاه يا صفية، ساعات بحس انه في احتياج شديد ليا ودا اللي بيقيدني اخد موقف شديد معاه، وساعات تانية بكرهه واكره جوازنا واكره الظروف اللي اجبرتني على جوازي منه والدنيا كلها .
تنهدت صفية بياس، شاعرة بحجم المعاناة التي تعيشها صديقتها، وبداخلها تريد مساعدتها بأي صورة.
– طب واخرتها يا بهجة
تبسمت بسخرية تعقب:
– تصدقي نفس السؤال ده اتسألته من شادي ابن عمتي، لدرجادري انا موضوعي شاغلكم .
ردت صفية بجدية:
– جدا يا بهجة وانتي عارفة بكدة، وبتكابري وبتهزري،
صمتت تنتظر ردها والذي جاء بعد برهة:
– انتي قولتي بنفسك اني بكابر وبهزر، لكن اكيد مش هفضل كدة كتير، ان كان قلبي النهاردة في مساحة انه يحن، فتأكدي يا صفية ان المساحة دي يوم عن يوم بتضيق، والحل اكيد في ايده هو يا نستمر في النور، يا كل واحدة يروح لحاله، وانا شايفه ان الميعاد قرب اوي
– ميعاد ايه؟
– ميعاد تحديد المصير يا صفية، انا وعدت نفسي من زمان اني لا يمكن هطلبها منه، ان مكانش يعلنها هو من نفسه يبقى بلاها احسن وكل واحد يروح لحاله.
❈-❈-❈
سحبها من يدها، لتدلف بخطوات مترددة داخل المنزل الذي كان عشها السعيد في أيام زواجها الأولى به، تبتلع ريقها بتوتر يصل اليه، ليواصل حثها بالمزاح والمشاكسة:
– روقت ومسحت ورشيت المعطر وخليت البيت فلة، بصي بقى كويس، وقولي ايه رأيك في شطارتي؟
ضحك وجهها الصبوح، لتشرق في قلبه انتعاشًا واملا في عودتها لطبيعتها، صبا الجميلة الساحرة، والتي صارت تطوف بعيناها على ارجاءه تتبسم بمرح، تخفي من خلفه بعض الرهبة التي مازلت تستوطن داخلها، نتيجة ما مرت به في الفترة الصعبة لزوجها به.
تبتلع ريقها وتجاريه في المزاح:
– حلو ومش بطال يا مستر، بس يجي منك صراحة يعني مكدبش
– يجي مني؟
اومأت رأسها تذكره بشقاوتها المحببة:
– امال يعني اكسفك واطلع العيوب، ما نخليها يجي منك احسن.
سحب شهيقًا طويلًا يتخلى عن اتزانه، وقد غلبه
اشتياقه ليضمها فجأة ويرفعها عن الأرض مرددًا بلوعة:
– اااه يا صبا، وحشتيني وحشتيني، حاسس قلبي هيوقف من فرحتي بروجعك
شددت هي ايضًا بذراعيها، تبادله بدموعها:
– وانت كمان يا شادي، ويمكن اكتر والله، أنا روحي اتردلتي برجوعي ليك .
– يا قلب حبيبك انتي.
شدد يعصرها بين ذراعيه، وهي تبادله، تستمد منه الدفء، تستمد منه امانها الذي افتقدته بابتعادها عنه
اخرجها بعد فترة ليست بالقليلة ليكوب وجهها بين كفيه، يتأمل ملامحها الجميلة متغزلا:
– وحشني اوي عيونك الحلوة دي يا صبا، انام بعد ما اشبع من البص فيهم، وأصحى على نورهم، اللي أدفى من نور الشمس، في بعدك لا كنت بعرف انام ولا كان ليا نفس أصحى، كل الايام واحدة وملهاش طعم في غيابك.
سالت دماعاتها مرة اخرى لتردد برجاء:
– كفاية يا شادي، انا كدة والله هكره نفسي .
– لا يا ست تكرهي نفسك دا ايه؟ دا احنا ما صدقنا.
قالها ليجذبها من يدها يتابع بمزاح:
– انا بقول نأجل كلامنا شوية، تسلمي على ماما، وبعدها نكمل ونكره بعض براحتنا.
استسملت له لسحبها حتى دلف بها الى داخل غرفة والدته، والتي فور ان رأتها، فتحت ذراعيها لها تتلقفها في احضانها، تعبر عن اسفها:
– سامحيني يا بنتي، غبائي هو السبب في كل اللي حصلك .
– خرجت من احضانها تنهاها:
– لا خالتي متجوليش كدة، دا في الاول والاخر نصيب، مش ذنبك انك اَمنتي لاجرب الناس ليكي، العيب ع اللي يستغل ومراعاش القربة ولا صلة الرحم، وعلى رأي شادي، الطيبة في الزمن ده بجت بلاء على صاحبها،
اومأت المرأة توافقها الرأي، لتتبادل معها حديث قصير ، قبل ان تخرج مع زوجها تتوجه إلى غرفة النوم التي كانت في بعض الأيام، تمثل اسوء كوابيسها.
مما ارتد بأثره الاَن على خطواتها التي ثقلت رغم تشجيع نفسها والحماية في زوجها الذي كان يصله احساسها ، حتى اذا دلفت داخلها تفاجأت بخلوها من الأثاث ، لتلتف اليه سائلة بإجفال :
– اوضة النوم فين يا شادي؟
– اتصرفت فيها .
قطبت عاقدة حاجبيها بعدم فهم:
– نعم!
لم يزيد في الحديث، ولكنه باغتها، ليقوم بإخراجها متوجهًا بها إلى غرفة اخرى، فتحها امامها لتفاجأ بغرفة نوم جديدة ومختلفة عن السابقة بل واجمل، تطالعها بانبهار وقبل ان تسأل، وجدته يجيب استفسارها:
– شوفي يا ستي انا اتصرفت في القديمة واتبرعت بيها، محبتش يتبقى اي ذكرى وحشة تفكرك باللي حصل، عايزها تبقى صفحة وانطوت ما بينا يا صبا، ايه رأيك فيها بقى؟ عجبتك؟
– جوي ، عجبتني جوي
تمتمت بها ضاحكة وقد ذهب عنها القلق وحل محله الإعجاب التام، تتأمل كل ركن بالغرفه، خزائن الملابس المتلئة بملابسها وملابسه، اشيائها النسائية العديدة من مستحضرات تجميل وعطور ارتصت بنظام على تسريحة المراَة، وفراش التخت المرتب، ليصدر تعقيبه على الآخير :
– معلش بقى، كنت عايز اعمل قلوب وحاجات بالورد الاحمر والشموع بس بصراحة معرفتش، حسيته هيبقى مسخرة، روحت لميتهم في الكيس اللي هناك ده، اهو جمب الدولاب .
وأشار بسبابته نحو احد الأركان، لتهتف هي به، وقد بلغت مشاعرها العنان:
– شااادي
– نعم
وما كاد ينهيها حتى وجدها تلقي بنفسها على صدره وتضمه بقوة:
– بحبك جوي يا شادي
ردد من مستوى طولها بلهجة تشوبها السخرية:
– بحبك جوي، هي دي اللي ربنا قدرك عليها يا صبا.
نزعت ذراعيها عنه قائلة بعدم فهم؛
– امال انت عاوز ايه؟
مال نحوها يجيبها بعملية، مقتطفًا ثغرها بقبلة قوية جامحة، بادلته تستجيب بشوقها اليه، ليرفعها بين ذراعيه بعد ذلك متوجهًا بها نحو التخت مغمغمًا:
– عرفتي بقى باللي انا عايزه، والله وهنعيد أمجاد شهرنا عسلنا من تاني يا صبا.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
تتبع الأمل وتدفعك غمغامة العشق على مواصلة الصبر.
حتى وانت ترى بأم عينيك نهاية الطريق الذي تسير فيه؛ تكذب عينيك.
تغلق أذنيك عن سماع النصائح.
تعطي أعذار وتكتم على غصتك.
فتعيش على الوهم
لكن مهما طال تحملك ثق ان لحظات الانفجار سوف تأتي لا محالة
فهي ابدًا لا تكون من فراغ .
❈-❈-❈
قامت صباحًا تؤدي روتينها اليومي في اعداد الإفطار ثم ايقاظ اشقائها لتتناول معهم احب الوجبات في هذا الهدوء من الصباح، قبل الذهاب الى عملها والذي كانت تتجهز له في هذا الوقت .
تلف حجابها بالطريقة العصرية والذي بدأت تتكيف عليها لتتناسب مع الملابس التي اصبحت مع التركيز هذه الأيام تجيد اختيارها، لتليق مع منصبها كامرأة عاملة على مكتبها في وظيفة يتمناها عدد لا بأس به من الشباب
انتهت من اللمسات الاخيرة لتهم بالذهاب، وقبل ان تتناول حقيبتها، دوى هاتفها بتلك الرسالة اليومية منه، لتبتسم وهي تقرأ بتأني الكلمات.
– (( صباح الجمال على الملكة المتوجة على عرش قلبي ))…… (( مستنيكي في عيشنا الجميل النهاردة متتأخريش))
وضعت يدها على موضع قلبها تسمع لصوت الخفقات التي تضرب داخل صدرها بقوة، بقدر ما تسعدها كلماته، بقدر ما يتعبها السؤال، إلى متى؟
لتسحب شهيقًا ناظرة إلى السماء متمتمة بتضرع إلى الخالق:
– يارب .
بعد قليل خرجت إلى أشقائها لتأخذ مجلسها وسطهم، تتناول لقيمات صغيرة وسريعة، فتشاركهم المزاح:
– براحة الدنيا مطارتش يا بيبة، الأكل لازم ياخد وضعه
علقت بها عائشة تشاكسها، فتستجيب لها ضاحكة، لتقول:
– خلاص كبرتي يا شبر ونص وهتشوفي نفسك علينا.
– سبيها يا بيبة تعيش الدور، دا انتي لو تشوفي عمايلها
كمان في الكافيه، دي بتعاملنا كأننا شغالين عندها .
قالتها جنات، وعلق ايهاب هو الاخر:
– ايوة بقى متفكرنيش، انا لولا بقول لاصحابي انها اختي الصغيرة، لكانوا قفشوا هما كمان وسابوا الشغل من تحكماتها عليهم، مش فاهم انا، بتجيب الجبروت دا منين؟ والمصحف ما هي واصلة لحد صدري حتى .
ضحك الثلاثة لينالوا الرد من عائشة:
– يا حبيبي انا طولي مناسب لسني، انت اللي سارح لفوق بشكل غريب عن البشر، العيب فيك يا بابا .
قالتها لتعلو الضحكات مرة اخرى حتى نهضت بهجة، تقبل وجنة شقيقتها بعجالة قائلة:
– ولا تزعلي يا قلب اختك، انتي تؤمري وتتأمري، وهما اللي شغالين عندك، وجزاء للواد ابو طويلة ده، هو اللي هيلم الباقي من الاكل دلوقتي، والبنت الناعمة اللي جمبه هتغسل المواعين.
صاحت جنة معترضة:
– طب وانا ايه ذنبي يا عم؟ هو شايف نفسه بطوله، انا نعومتي بقى ضرتكم في ايه؟
قالتها بدلع جعلت عائشة ترفع طرف شفتها بغيظ زاد من تسلية اشقائها، لترد بهجة:
– اهو كدة بقى ، عشان تخشني شوية بدل المياصة اللي انتي فيها دي يا ناعمة، بنات اخر زمن .
تحركت بعد ذلك ترفع حقيبتها لتغادر ولكن اوقفها إيهاب يخبرها:
– صحيح يا بيبة نسيت اقولك، الواد عصام صاحبي بلغني امبارح ان بنت عمك سامية اتخطبت للواد طلال ابن صاحب ابوها.
– مين طلال…..
تمتمت بها، لتتذكر سريعًا، فهتفت بأعين متوسعة:
– اللي كان مسمي نفسه شيكاغو المنطقة.
ضحك يؤكد لها:
– هو بعينه والله، سبحان الله كانت اكتر واحدة تتريق.
❈-❈-❈
أما هو فقد خرج إلى والدته التي استيقظت باكرًا لتسقي بيدها الورود في الحديقة ، تذكره بعادتها قديمًا، والدته الجميلة والبهية، ليتها تعود لطبيعتها معه ايضًا:
– هتفضل تبصلي كدة كتير؟
توجهت له بالسؤال تظهر له انتباهها لنظراته المصوبة نحوها منذ البداية ، ليأتي رده بابتسامة رائقة:
– معلش بقى، سحرني مشهد الهانم وهي بتسقي الزرع بإيديها، حاجة كدة يسجلها فنان متمكن في لوحة تشبه جمالك، صباح الجمال يا نجوان هانم .
تبسمت ساخرة رغم إعجابها بإطراءه:
– وبقيت تعرف تقول كلام حلو كمان يا بن حكيم ، على العموم مرسي .
ذكرها لاسم والده كانت له إشارة ليست جيدة على الإطلاق ليزوم بفمه قائلًا:
– اممم ، على العموم يا نجوان هانم انا عبرت باحساسي ساعة ما شوفتك، الجمال بيجبر العيون تبصله وتعجب بيه.
فغرت فاهها بابتسامة غير مفهومة لتقول:
– عندك حق الجمال دا شيء رائع، انا نفسي حسيت بإحساسك ده لما قومت وطليت على ازهاري، كنت مشتاقة اوي أراعيهم واهتم بيهم، لأنهم يستاهلو ، الوردة بتحب اللي يراعيها، وتفرح باللي يفرح بيها فتزيد جمال على جمالها، وتعيش اكتر كمان.
قطب مستغربًا لتعبيرها الاخير، حتى هم ان يسأل عن مقصدها، ولكنها تجاهلت لتذهب بخرطوم المياه نحو جهة اخرى من حوض الزهور.. ليضطر في الاخير ان يذهب يمط شفتاه بعدم فهم.
❈-❈-❈
وصلت إلى مقر عملها، لتقع عينيها على أبن عمها سامر واقفًا في إحدى الزوايا وكأنه في انتظارها،
ليتوفق برؤيتها ولأول مرة منذ انتقالها إلى منزل اخر، وتتقابل عينيها بخاصتيه، لقد علمت من صباح بمجيئه إلى هنا عدة مرات للسؤال عنها ولكنه كان يرجع خالي الوفاض دون الحصول على معلومة مفيدة، اختفى بعد ذلك حتى ظنته نسي ان لها ابناء عم من الاساس، ولكنه ها قد عاد،
وعلى عكس ما توقع بهروبها من امامه، فاجئته هذا اليوم لتقترب بخطواتها نحوه تبادره بحديثها؛
– ايه الحكاية يا بن عمي، لتكون مستني؟ ولا جاي تسأل على حل.
تبسم بعدم تصديق انها هي من جاءت لترحب به، وامتدت كفه يتلقى مصافحتها بلهفة، ويجاري مزاحها:
– والله انتي ادرى باللي جيت كذة مرة اسأل عليها، وانتظرت كمان بالساعات وبرضو مقدرتش اشوفها، وكأنها بتختفي زي الزيبق من قدامه
تبسمت بحرج تتقبل عتابه :
– معلش بقى هي جات كدة، بس اكيد يعني لو شوفتك في وشي زي النهاردة، مكنتش هتهرب منك ولا من الكلام معاك، انت برضو في الآخر أبن عمي وانا ما شوفتش حاجة وحشة منك.
تنهد بارتياح وقد اسعده كلماتها، ليعبر عما يكتنفه من الداخل:
– متعرفيش يا بهجة كلامك ده بيأثر فيا ازاي؟ انا عارف انك شايلة يا بنت عمي وليكي حق، ولذلك انا مرديتش أضيق عليكي ولا ازعجك ، حتى لما عرفت بعنوان بيتكم والكافيه، فضلت ان اطمن من بعيد لبعيد ، لحد ما القلوب تصفى ، مع ان كان نفسي أحضر افتتاح الكافية واتعزم زي شادي ورحمة عيال عمتي.
رمقته بدهشة:
– يا نهار ابيض، يعني انت كنت حاضر يوم الافتتاح، طب ليه مجتش يا سامر، طب والله كنا هنرحب بيك
لاحت بزاوية ثغره ابتسامة باهتة يخبرها:
– انا عارفك هترحبي بيا، بس كنت هبقى زي الضيف يا بهجة، وارجع اقولك برضو ان مش عاتب عليكي ، لا انتي ولا اخوتك
كان يتحدث بسجية معاتبًا وهي تقبلت عتابه ترضيه بكلمات رقيقة ومحسوبة في حديث سريع دار بينهم قبل ان تدخل لنوبة عملها، غافلين عن نفس خبيثة توقفت بسيارتها بمسافة بعيدة إلى حد ما، ولكن تمكنها من الرؤية جيدا والتقاط الصور ايضًا، ربما أتت من خلفها بفائدة؛ تتحين الفرصة لها منذ وقت طويل تراقب وتجمع المعلومات، في انتظار هفوة ولو صغيرة منها، تساعدها لتتقدم في تنفيذ ما تريد.
وظلت محلها حتى انصرف الاثنان، كل إلى وجهته، بهجة إلى مقر عملها في المصنع، اما هو فقد اتخذ طريقه في الجهة المعاكسة للمغادرة،
قادت سيارتها تتبعه حتى انعطف في طريق اخر مختصر قليلًا قبل ان يصل إلى العمومي، فواصلت حتى اقتربت منه تبطء من سرعتها، ونادت من نافذة السيارة.
– انت يااا يا اسمك ايه؟ يا حضرت ياااا.
انتبه اخيرًا ليلتف نحوها ويشير بسبابته نحو صدره:
– انتي بتكلميني انا
– اه بكلمك، ممكن خدمة لو سمحت؟
اضطر للتوقف لينتظرها حتى توقفت بمكان جيد إلى حد ما للوقوف بالسيارة ثم ترجلت منها تقابله في وقفته متحدثة بلطف ورقة تتصنعها:
– اسفة لو خضيتك، بس انا بصراحة لما شوفتك واقف مع بهجة زميلتي في المصنع، شدني الفضول عشان أسألك، هو انت تبقالها ايه بالظبط؟
قطب مستغربًا السؤال :
– انا ابقالها أبن عمها، بس انتي ليه يشدك الفضول يعني عشان تعرفي بصفتها ايه عندي؟
تحفزت كل خلاياها لتواصل بمزيد من التأكيد:
– يعني انت أبن عمها اللي كان كاتب كتابه عليها؟ او طليقتلك بمعنى أصح.
لا يعلم ما الذي طرأ برأسه وقتها؟ ربما الارتياب،، ربما التوجس، ولكنه وجد نفسه ينطقها وبدون تفكير:
– اه انا في حاجة بقى؟
انتعش داخلها حتى كادت ان يظهر على ملامحها، وقد تيقنت انها أصابت هدفعا بعد اعترافه بما كانت تتمنى، لتتمالك فرحتها مذكرة نفسها بالطرف الاخر والذي تضعه احتياط لوقت استعماله في خطتها وها قد أتى وقته، فترتدي ثوب المسكنة في الرد عليه:
– انت ليه حضرتك متعصب عليا؟ انا بسألك لغرض جوايا، اصل بهجة دي بتصعب عليا اوي، ونفسي بجد الاقي اللي يساعدها في محنتها، بس انت شكلك معندكش وقت ، او يمكن هي عايزة تخبي عليك، انا آسفة……
– استني هنا
صدرت صيحته فور ان استدارت عنه، ليلتف مقابلا لها ، وقد أشعلت رأسه بقولها:
– انا عايز اعرف بالظبط بتتكلمي عن ايه؟ بنت عمي انا مالها ؟ وايه المحنة اللي هي فيها .
اعتلى الأسى ملامحها، وقد اجادت تصنعه بجدارة، لتجيبه بدراما:
– انا طبعا هضطر اقولك عشان اتوسمت فيك خير، بما انك أبن عمها وطليقها سابقًا فاأكيد مش هيرضيك اللي بيحصل معاها، بهجة يا حضرة طول الوقت بتتعرض يوميا للمضايقات، من واحد بيشتغل معاها في نفس المصنع ، بيفرض نفسه وعايز يتجوزها بالعافية ، لكن هي مضطرة للسكوت عشان لقمة عيشها متتقطعش من المصنع وتضيع هي وأخواتها ..
أشتدت ملامحه بصدمة،
– مضايقات! مضايقات يعني ايه بالظبط؟
– ممصايقات يا اخينا، متعرفش يعني ايه مضايقات؟ دي بتوصل احيانا لتحرشات
– تحرشات…. انتي بتقولي ايه يا ست انتي؟ حضرتك فاهمة معنى كلامك ده ايه؟
ازعجها اسلوبه الحاد نحوها، ولكنها اخفت لتبدي تعاطفها:
– انا عارفة ان الكلام ضايقك، وعندك حق، امال اتكلمت معاك ليه؟ على العموم لو مش مصدقني، روح واتأكد بنفسك، اسأل عن واحد اسمه تيم كان زميلها في قسم التفصيل قبل ما تطلب نقلها لشغل إداري عشان تخلص منه، لكنه برضو مش عاتقها ، قابله واتكلم معاه وانت تفهم لوحدك، على العموم انا عملت اللي عليا، عن اذنك حضرتك .
قالتها وتحركت تستقل سيارتها لتعود بها وعيناها في المراَة منصبة عليه ، تراقبه عن كثب، بعدما القت برأسه جذوة الفتنة، شرار عينيه مازال مسلطًا عليها وعلامات الشك والغضب تعتلي ملامحه، تقود ببطء شديد في انتظار تحركه، والذي لم يطل كثيرا، لتتهلل اساريرها حين وجدته، يندفع عائدًا بخطوات سريعة، يبدو جليًا تحفزه، وكأنه على وشك الدخول إلى معركة،
هذه هي فرصتها في التسبب لها بفضيحة، عراك بين طليقها وحبيبها الحالي في قلب محل عملها، فتصبح علكة في الافواه، تتشوق جدا لمشاهدة رد فعل رياض، حين يرى المرأة التي اغوته وهي تتلاعب بقلوب رجال غيره.
❈-❈-❈
في لحظات قليلة
كان سامر قد وصل الى المصنع عائدًا اليه، ولكنه هذه المرة اتخذ خطواته نحو الداخل ، متخليًا عن تحفظه المعتاد ، يريد التأكد منها عن صحة ما سمعه ، وان صدق حديث الأخرى، سوف يلقن هذا التيم درسًا لن ينساه
كانت هي قد سبقته في الوصول، فراقبته من بعيد وهو يسأل ويقدم مبرراته إلى رجال الأمن كي يسمحوا له بالدخول إلى ابنة عمه، فسار معه احدهم حتى توقف به اسفل المبنى الذي تعمل به بهجة، فيأمره بالانتظار حتى صعد اليها يطلبها، فنزلت بعد لحظات قليلة بهلع عن سبب عودته .
إلى هنا ولم يعد هناك وقت للانتظار، تحركت سريعًا نحو قسم التفصيل، لتجد العمال على وشك البدء في العمل، وهذا المدعو تيم يتسامر كعادته مع صباح وبعض العاملات الاتي يتناولن معه بعض الشطائر للإفطار
دلفت اليهم تتبختر بخطواتها توجه الحديث إلى صباح، بانتقاد كالعادة حتى تجعل دخولها يبدو طبيعي:
– ما شاء الله، لساكم بتفطروا يا صباح وشيفت العمل عدى عليه خمس دقايق .
انتفضت صباح تبرر لها والطعام في فمها:
– اديكي قولتيها يا لورا هانم خمس دقايق بنفطر فيهم، وادينا هنشتغل على طول .
– اممم
زامت بفمها ثم تابعت تلقي بأمرها وتوصل ما تبتغيه:
– ماشي يا صباح، متنسيش بس تعدي عليا النهاردة عشان عايز اخد منك شوية معلومات عن التوريدات الجديدة، وعلى العموم خدي راحتك، ما هو غيرك حولها لمشاكل شخصية، انا جاية دلوقتى شوفت الست بهجة واقفة مع طليقها باينهم بيتخانفوا في قلب المصنع.
– طليق مين؟ هي بهجة متجوزة اصلا؟ انا اعرف ان كان مكتوب كتابها وانفصلت على كدة .
ردد بها تيم بعصبية في استجابة سريعة وقد ابتلع الطعم، لتصحح صباح بما تعلمه:
– ايوة فعلا كان كتب كتاب، بس هو ايه اللي هيجيب سمير هنا وهي عزلت اساسا من عندهم؟
– بتقولك بيتخانق معاها يا ست صباح ، انا رايح اشوف العيل التنح ده.
قالها متحركًا للخروج سريعًا وتبعته بالطبع صباح لتمنعه عن التهور:
– استني يا بني لما نفهم الأول.
تبعها عدد من الفتيات ليستطلعن الامر، فتطالعهم هي بمرح، غير عابئة بمصلحة العمل التي دخلت تتغنى بها فتوقفهم، بل وتحركت خلفهم بانتشاء ، لتعود إلى محلها وتراقب من علو ثمار خطتها.
❈-❈-❈
اما عند بهجة والتي كانت بحالة من التشتت وعدم الفهم، في تفسبر اندفاع الاخر وأسألته الغريبة الموجهة اليها:
– يا بهجة بسألك عن اللي اسمه تيم ده، مبتجاوبيش ليه؟
– أجاوبك اقولك ايه؟ انا اساسا مخضوضة منك ومن سؤالك عنه، تعرفه منين عشان تيجي تعمل تحقيق عنه، وليييه؟
– من غير ليه يا بهجة، انا سمعت ان الجدع ده بيضيق عليكي وعايز يتجوزك بالعافيه، انا عايز اتأكد منك قبل ما اروحله واكسر دماغه لو طلع الكلام صح.
– تشلفط مين؟ تيم مغصبش عليا في حاجة؟
– طب يعني انتي موافقة على جوازك منه؟
– يا نهار اسود ، جواز ايه بس؟ انا مقولتش حاجة، انت جيبت الحوار دا كله منين اصلا؟
في هذا الوقت وصل المذكور يجدها تبرر بانفعال، جعله يتدخل على الفور:
– مالك متعصبة ليه يا بهجة؟ هو اخينا دا جاي يضايقك في حاجة؟
وقبل ان يصدر ردها لتصرفه، سبقها سامر:
– ايه اخينا دي كمان، وانتي مين اساسا عشان تدخل ما بينا؟
– انا تميم زميلها هنا .
– يا حليوة وجايلي برجلك .
تفوه بها سامر في رد سريع ليباغته على الفور، ممسكًا بتلابيب قماشه هادرًا به، يجفله ويجفل بهجة ايضًا:
– لأ وليك عين كمان تيجي في وشي وتبجح، دا انت نهارك مش فايت .
وكانت البداية للشد والجذب والشجار بين الاثنان وبهجة الضحية تحاول الفكاك بينهم ، حتى تدخل عدد من الرجال للفصل.
فقدم هو في هذه الاثناء منتبهًا لهذا التجمع قبل ان يلج داخل المصعد، حتى اذا وصل لطابقه تلقفته لورا من وسط الطريق:
– رياض باشا انت وصلت؟
وجه لها الحديث بعصبية:
– ايوة وصلت يا لورا وشوفت المهزلة اللي تحت، انزلي وشوفي مين المسؤول عن الخناقة دي وحاسبيهم، احنا مش في شارع هنا.
– مش محتاجة اشوف يا باشا، الخناقة اصلا على بهجة.
توقف في وسط الطريق المؤدي الى غرفته، فور ان دوى الاسم بأسماعه ليلتف اليها بنبرة مخيفة مرددًا:
– الخناقة على بهجة ازاي يعني؟ انا عايزة افهم.
بقلب يرقص فرحًا في الداخل، رسمت الجدية لترد بمهنية خالصة:
– دا الكلام اللي داير يا فندم بين العمال ، طليقها السابق جاي يتخانق مع تميم زميلها بعد ما وصلو الكلام عن علاقة حب تجمع ما بين الاتنين، وانهم بيخططو للجواز.
هل رأت الجحيم بعيناه الاَن، نعم تجزم بذلك، وقد تبدلت ملامحه حتى توحشت بشكل لم يسبق ان رأته منه سابقًا على الإطلاق، وبدون ادنى استفسار اخر ، ارتد بأقدامه نحو المصعد الذي خرج منه توًا ، ليهبط مرة اخرى ويرى بنفسه، غير مباليًا بوضعه من الاساس.
– المهزلة اللي هنا دي تنفض دلوقتي فورا، والمسؤولين عن الخناقة يتحركو حالا مكتب شئون الموظفين مع مدير المكتب نفسه.
كانت هذه صيحته الجهورية، التي اصمتت الجميع وجعلت اعداد المتجمعين تنفض شيئًا فشيئًا حتى صفصفت على أصحاب الشجار، سامر والذي كان يلهث من فرط انفعاله، وتيم الذي تمزق جزء كبير من القميص الذي يرتديه وصباح تقف في الوسط كحاجزًا لعدم عودة العراك، اما بهجة فقد خارت قواها لتسقط جالسة على احدى درجات السلم الضخم الذي كانت تقف بجواره، غير قادرة على مواجهة غضبه، شاعرة بتحطمها لأشلاء لا حصر لها، وكأنها كانت تنقصها هذه الفضيحة لتصب مزيدًا من التوتر في علاقتها معه.
❈-❈-❈
داخل غرفتها التي اصبحت تلتزمها منذ ايام، في تعبير عن رفضها واعتراضها على ما تم اتخاذه من إجراءات غير عادلة في حقها من وجهة نظرها، بفضل شقيقاها اللذان استغلا ما حدث أسوء استغلال
وكأنهما كانا في انتظار الفرصة لينتقما منها،والدتها التي كانت الداعم الاول لها دائمًا اصابها الخرس وقلة الحيلة عن الدفاع عنها،
والدها الذي ركض إلى صديقه والذي بدوره لم يكذب خبر وقدم هو وابنه في نفس اليوم لقراءة الفاتحة، اللعنة على هذا الكابوس، الا يكفي احساس المهانة وما سمعته من توبيخ على لسان الضابط المسؤول وتوجيه النصائح لها لتعود عن طريقها الى طاعة الخالق، وكأنها الوحيدة من فعلت هذا الأمر، والفضل يرجع بالطبع لهذا الشيخ الغبي والذي طمع في جمالها وشبابها رغم تعامله الدائم مع والدتها، ولكن لسوء حظها حدث ذلك.
جمالها الذي اغوى الشيخ وجعل طلال الاحمق يظل متمسكًا بها رغم رفضها، لم يؤثر في الرجل الوحيد الذي ارادته
– اه يانا يا حسرتي.
تمتمت بالكلمات بصوت مسموع لنفسها، قد خسرت حتى المحاولة مرة اخرى، بعد اتصال شادي واخبار والدتها انه عرف كل شيء وغير مرحب بأي فرد يبتغي الاذية لعائلته الصغيرة وقد استرد مرة اخرى زوجته بعد ان ذهب منها السحر وشفيت تمامًا.
– يا بنت المحظوظة
– مين هي دي اللي محظوظة يا بت؟
صدر السؤال من والدتها التي عقبت به مستفهمة وهي تلج اليها.
فالتوى ثغر ابنتها لتجيب ضاربة بكفها على ظهر الاخر مرددة بحنق:
– اهي واحدة وخلاص، ناس ليها شادي وناس ليها طلال.
غمغمت الاخيرة بوضوح وصل الى درية، لتمصمص بشفتيها بعدم رضا وتجلس بجوارها على التخت مرددة:
– ايوة يا ختي، ما الدنيا صفصفت ع الرجالة ومبقاش فبها غير سي شادي، ما تصحي يا بت الهبلة، واعرفي ان بعد عملتك الاخيرة اي امل ناحية المحروس خلاص بح، يعني فوقي لنفسك وافتكري عريس الهنا اللي اتقرت فاتحتك عليه من يومين .
صاحت بها بغيظ:
– انتي بتبكتيني ياما، طب سيبي الكلام ده لولادك وجوزك، اللي فرحانين فيا وماصدقو، دا بدل ما يقفوا جمبي ويطبطبوا عليا بعد اللي حصل، فاكرين انهم هيكسروا عيني لكن لا وربنا ما هسكت بعد كدة، انا اتاخدت على ماشمي اول امبارح لما سبتهم يقروا فاتحتي على الواد الأهبل ده، بقى انااا سامية اللي امشي على الارض اخبل الناس بجمالي اتجوز ده طلااال.
صدر صوت استنكار من درية لتردف بسخرية:
– اسم الله عليكي وعلى حواليكي يا ختي، اهدي يا عين امك ومتسوقيش فيها، فرعنتك دي كانت تمشي الأول، انما دلوقتي اخوتك متحلفنلك وابوكي شايل ايده، وانا خلاص بوقي اتخرس، بعد اخوكي سمير ما فهمها، يعني لو اتكلمت بأي حرف هيفتحلي القديم والجديد وكله بسببك….. عشان لو كنتي خدتي شورتي من اولها مكنش المنيل ده طمع فيكي .
سمعت منها لتغمرها غبطة بغباء تفكيرها:
– اديكي قولتيها بنفسك، الراجل اللي طول عمره ماشي تمام معاكي، جاه ومقدرش يمسك نفسه معايا، عشان انا حلوة واستاهل حد قيمة وسيمة، مش طلال اللي مبهدل في نفسه وشكله يعر.
– يا ختييييي
تمتمت بها درية لتمسك بطرف قماش بلوزتها مرددة بنفاذ صبر:
– هتموتني في هدومي منك لله يا بت الهبلة، نقول طول تقولي احلبوه، نقول طلع ديله نجس تقولي عشان مقدرش يتحمل جمالي، طيب يا عين امك ، انا جيت ابلغك ان عريس الهنا جايلك المسا عشان يقعد معاكي النهاردة وابوكي قالي ابلغك تجهزي نفسك، كدة بقى اشوف اللي ورايا واجهزله حاجة ياكلها
قالتها لتنهض من جوارها ، فتعلق سامية باستهزاء:
– اجهز نفسي، لا كمان احط له مكياج ولا البس حاجة نضيفة، هو كان يطول اصلا
❈-❈-❈
وبداخل غرفة شئون العاملين كان الجدال المحتدم بين شقي الشجار بحضور المتشاجربن مع صباح والرجل المسؤول عن التحقيق معهم، وبهجة الجالسة على مقعدها، وكأنها في كابوس تتمنى الاستيقاظ منه؟
– حضرتك انا اتفأجات بالراجل ده وهو بينفعل على بهجة، وأدخلت عشان مش حقه اساسا يجي هنا .
– وانت اللي من حقك تضيق عليها وتتحرش بيها هو الجواز بالعافية
– الكلام دا تقوله لنفسك مش ليا، انت اللي فارض نفسك عليها وهي رافضاك
تدخلت صباح امام انهيار المسكينة، والتي فقدت النطق تقريبا ولم تعد بها طاقة للتحدث:
– ممكن انتو الاتنين تسكتو ، يمكن تفهمو، اولا يا تميم يا بني، دا يبقى ابن عمها بس، اخوه هو اللي كان متجوزها، وانت يا استاذ سامر، لازم تفهم ان كلامك كله عن تميم غلط، هو لا عمره ضيق ولا اتحرش بيها، واللي فهمك الكلام دا واحد عايز يوقع ما بينكم .
صاح سامر:
– يعني ايه؟ صاحبتها اللي بلغتني كانت بتكدب عليا؟ طب ما انا شوفت بعيني اهو، والواد ده جه واتهجم عليا .
دافع تميم عن موقفه:
– انا متهجمتش انا كنت بس بردلك عشان تحل عن بهجة، اقسم بالله هو اللي ابتدا الخناق مش انا ، قوليلهم يا بهجة.
بالطبع لم ترد، فقد فقدت الرغبة بالتحدث عن أي شيء بعد الذي حدث .
ليصدر تعقيب صباح:
– استنوا هنا، انتوا الاتنين ، انا عايزة افهم دلوقتي، مين من زميلاتها اللي بلغتك يا سامر؟
وقبل ان يجيبها جاء النداء من مدخل الغرفة من احد السعاة:
– الآنسة بهجة تحضر فوق، رياض باشا طالبها بنفسه
وكأنها كانت في انتظاره، نهضت على الفور تتحامل على اقدامها التي كانت تحملها بصعوبة ناظرة نحو الرجل تبلغه:
– ماشي يا عم إبراهيم، انا طالعة حالا .
عقب سامر :
– وهو يطلبها ليه لوحدها؟ هي متخانقتش اصلا.
– ايوة صح، لو عايز يحاسب، يحاسبنا كلنا .
قالها تميم هو الاخر، لتطالعهم بابتسامة ساخرة تملؤها المرارة وكأنها سمعت مزحه منهما، اما صباح فقد ربعت ذراعيها امام صدرها تتنهد بغيظ نحوهم قائلة:
– سيبوها في حالة بقى لحد كدة وخليكم في نفسكم، روحي يا بنتي شوفي اللي وراكي، دول مش هيفضوها سيرة النهاردة.
اذعن الأثنان لرغبة المرأة واضطرا للسكوت لتخرج بهجة، وحديث نفسها من الداخل:
– لقد اَن الأوان، فهذه هي اللحظة الفارقة في علاقتها به، والتي كانت تنتظرها من البداية وها قد جاء موعدها.
لا تستهين بامرأة قد يراها البعض ضعيفة لصفتها انثى ولا يعلمون ان قوتها تكمن في ضعفها.
تمتلك الشجاعة ولكن تنقصها الحكمة بعض الأحيان في اتخاذ القرار.
قادرة على الاستغناء ولكن قلبها الضعيف هو من يقيدها.
فهذا سبب كبوتها.
ولكن حينما يتحول هذا القلب إلى عدو ويتعارض مع كرامتها…. تستطيع الدعس عليه مهما أوجعها الألم.
❈-❈-❈
صعدت اليه في الطابق الذي يجمع غرفتها مع زملائها من جهة، والجهة الأخرى تضم غرفة مكتبه مع مديرة مكتبه الخاص
والتي فور ان التقت عينيها بخاصتي بهجة، وقفت تستقبلها بابتسامة منتشية، وكأنها كانت في انتظارها،
وها قد حققت مبتغاها ولم يبقى الا اللمسة الأخيرة، ليتها تجد الوسيلة لترى ماذا سيحدث بينهما الاَن داخل الغرفة المغلقة:
– اهلا يا بهجة، متأخرتيش يعني.
رمقتها بهجة بشك وتعجب لهذه الحفاوة التي تستقبلها بها، ولكن صرفها سوف حالتها المزاجية عن التركيز معها، لتتمتم ردًا لها بفتور:
– ياريت كمان تدخليني على طول، ومتخلنيش انتظر.
– لا يا حبيبتي تنتظري ليه؟ ادخلي حالا اهو.
قالتها لتتقدمها وتفتح لها باب الغرفة، تنبه الاَخر لوجودها:
– بهجة يا رياض باشا.
اتخذت طريقها تتطلع نحوها باسترابة، قبل ان تلج الى داخل الغرفة الضخمة، وينغلق عليهما بابها.
فتجده جالسًا خلف مكتبه، بسكون تعرفه جيدًا، ذاك الذي يسبق العاصفة، عاقدًا حاجبيه بتعبيرات مشتدة، يتبع خطواتها بأعين ضيقة ونظرات تضيف اليها الرهبة، وربما تفسيرات أخرى…. سوف تتأكد منها الاَن، لتسحب شهيقًا قويًا داخلها، فتقف مرفوعة الهامة امامه قائلة برسمية:
– اتفضل حضرتك طلبتني.
طفى على ملامحه شيء من الإجفال تأثرًا بثباتها، ثم ما لبث ان يعود لجموده لينهض عن كرسيه قائلًا؛
– اه فعلا حضرتي طلبك، ما هو شيء طبيعي يعني، لما الواحد يعرف عن موظفة عنده انها اتسببت في خناقة كبيرة لرب ألسما، بين اتنين، واحد منهم كان طليقها اللي مكتوب كتابها عليه، والتاني زميلها اللي كانت عشمته بجوازه منها….. ولا ايه يا….. مدام بهجة.
شدد في الاخيرة بشكل ملحوظ وهو يجلس على طرف المكتب امامها، فيكن مقابلا لها، مربعًا ذراعيه، بنظرات رغم هدوئها لكنها قادرة على حرق من امامها، ولكن هل سيظنها ستخاف؟ بعدما ظهر من طريقته، انه قد حكم بالظاهر، ولم ينتظر نتيجة التحقيق،
لتقارعه بحدة معقبة على كل ما سبق، وتذهله بجرأتها:
– اولا مش هعلق على كلمة مدام دي لان انا فعلا مدام وانت الأدرى، اما بقى عن الاتهامات التانية ف انا مقبلهاش، لأني وبكل بساطة معملتش حاجة غلط، لا علقت تميم في غرامي ولا كان ليا دخل باللي وقفت ابن عمي في الشارع تبخ له بكلام عن تحرش زميلي بيا في العمل، يعني رد فعله لما يجي يتخانق معاه طبيعي جدا.
– طبيعي جدًا
ردد بها من خلفها كازًا على اسنانه رغم احتفاظه بهذه اللمحة من البرود يحجم نفسه بصعوبة أن لا ينفجر بها، فيردف بسخرية وصوت بدى كالفحيح، وقد اعماه الغضب والغيرة الشديدة حتى تشوهت الصورة بكاملها امامه:
– طبيعي ان ابن عمك اللي كان كاتب كتابه عليكي يقف لك كل يوم عند المصنع ويستناكي حتى بعد طلاقك منه، ولا التاني اللي حاطط عينه من زمان وانتي عارفة، يتخانق عشانك ويجازف بعمله عشان خاطر عيونك.
على صوت انفاسه وصدره يصعد ويهبط امامها ليكمل بما شطر قلبها لنصفين، وقد لاح بعقله صورة الأخرى، تلك الملعونة التي شتت اسرته الصغيرة وتسببت له بالماَسي والندوب التي لم يشفى منها حتى الآن:
– هما لو لقيو منك وش خشب يا هانم ولا رفض قاطع، كان هيفضل جواهم الأمل ويستانوكي، ولا يكونش دا قصدك من البداية والغبي اللي قدامك كان عايش في وهم انك بتحبيه؟
صدمها، لا لم تكن صدمة، هذا شيء تعدى الكثير والكثير، هذا صوت قلبها التي تسمع أنينه الاَن، كيف له ان يتحول هكذا للصورة البشعة؟ لقد حكم عليها دون ان يسمع منها او يرى ما يثبت برائتها، ايتوقع ان تعترف بخطأها ام تترجاه كي يصدق دفاعها عن نفسها ، لا والله لن يحدث
بقوة لم تعرف أتت من أين، ابتلعت غصتها كي تنهي كل شيء:
– انا شايفة انك كونت الفكرة وبتتكلم على أساسها، ومدام انا وحشة كدة في عينك وظهرت على حقيقتي قدامك، انا بقول يبقى كفاية كدة احسن .
انتفض مستقيمًا بجسده فور سماعه لكلماتها، لتزداد ملامحه قتامة، وخطا يدور حولها كالفهد بخطوات بطيئة تبث بقلبها الرعب، قبل ان يسألها بلهجة هادئة خطرة
– قصدك ايه بكفاية؟ كملى وقفتي ليه؟
ابتعلت تشجع نفسها على مواجهته، علُها تحل نفسها من هذا الاتفاق الخانق، لتركز ابصارها به دون خوف:
– مش محتاجة اكمل يا باشا احنا اتفاقنا كان على مدة محددة وكل واحد يروح لحاله، وافتكر يعني الكام شهر دول كانوا اكتر من المدة اللي كان عليها اتفاق…..
توقفت باضطراب يعصف بها، مع انتباهها لهيئته الغير مبشرة على الإطلاق، تستطرد بتردد:
– انا عايزة اسوي حاجتي في الشغل، وامشي بقى واروح لحالي، المحل عندنا محتاج اللي يراعيه، وانت كمان يا باشا اكيد هتلاقي غيري كتير…
– يعني عايزة تقولي انك شبعتي ومعدتيش محتاجة خلاص؟ وطبعا حالك ده اللي هو ابن عمك، او المغفل التاني، ما هم الاتنين قاعدين مستينيك؟
تمتم بها، وقد ضاقت عينيه، ليباغتها فجأة قابضًا بكفيه على ذراعيها يضغط بعنف، هادرَا :
– وليكي عين تقوليها في وشي يا بجحة، دا انت باينك اتهبلتي ولا عقلك طار منك، ولا نسيتي انا مين؟ وصفتي ايه بالنسبالك اصلًا؟
صرخت بدورها:
– لأ منستش، بس انت كدة كدة هتسبني، فيها ايه بقى لما اتجوز ابن عمي ولا غيره؟ ولا انا يعني هفضل من بعدك مترهبنة؟…
– بمزاجي، انا اللي احدد إمتى النهاية، وفي الوقت اللي انا عايزه.
صاح بها بأعين يكسوها الحمار، وبصورة ادخلت الرعب في قلبها، ليُضيف بشراسة اختلفت تمامًا عن طببعته الهادئة لدرجة البرود احيانًا:
– انا صاحب الكلمة العليا ، وانا اللي احدد ان كان في نهاية ولا لأ من اساسه، لان انا اللي اشتريت وانتي قبلتي، فاهمة معنى الكلام ده؟ ولا محتاجة افهك اكتر؟
حاولت نفض قبضتيه عنها لتضيف مما زاد من هياجه:
– لا مش محتاجة افهم، لأني تعبت ومعدتش قادرة، ابقى مراتك وحبيبتك في الضلمة، لكن في النور لا، غيرة وشك وفرض أوامر من غير تقدير لوضعي ولا لصورتي قدام الناس ولا اللي ممكن يظنوه فيا، بتتهمني ان معشمة الاتنين، ما انا لو لقيتك معترف بيا كزوجة محدش فيهم اصلا كان هيبصلي اصلا، انا بقى اللي بقولك زهقت، وخلينا نخلص من اللعبة البايخة دي، ارجع يا باشا للوسط بتاعك وشوف اللي تناسبك فيهم، وسيب بهجة تلاقي برضو اللي يناسبها.
– دا انا اموتك احسن، ولا اسيبك تروحي لحد غيري .
قالها وقد ازداد جنونه، ليهزهز جسدها بعنف زاد أضعاف، عقله يرفض استيعاب كلماتها من الاساس:
– عمرك ما هتكوني لحد غيري يا بهجة
وكأنها شجرة يقتلعها من جذورها ، لم ينتبه أنه تمادى إلا حينما سقطت منه, ليتلقفها على صدره بهلع مرددًا:
– بهجة، مالك يا بهجة؟ انا اسف يا قلبي اني اتعصبت عليكي
حملها بين ذراعيه حتى سطحها فوق الكنبة الجلدية في جانب الغرفة، يحاول افاقتها، يربت على كفها ووجنتها بخفة:
– بهجة، قومي يا بهجة، قومي يا بهجة متخلنيش اكره نفسي ارجوكي.
حينما ظلت على وضعها، انتفض من محله يركض إلى لورا مناديًا بجزع كي تأتي وتفيقها، فترى بأم عينيها ضعفه وخوفه، وترقبه بلهفة حتى فتحت عينيها على اثر الرائحة القوية للعطر التي اخترقت حواسها، فتهلل وجهه:
– هي كدة بتفوق صح؟
بغيظ شديد اغلقت على زجاجة العطر تبعدها عنها قائلة:
– ما هي فتحت عيونها اهي، يبقى اكيد فاقت يعني؟
وهي ايه اللي خلاها اغمي عليها اصلا؟
– تعبت ووقعت من طولها يا لورا، محصلتش معاكي قبل كدة، قومي قومي من جمبها خليها تاخد نفسها:
– اجيبلك دكتور يا بهجة؟
استعادت وعيها جيدًا تنتبه على سؤاله، وراسه اعلاها بشيء بسيط ، وتلك المتعجرفة ترمقها بمقت وغل، لتحاول النهوض بجذعها متحاملة على ألمها الجسدي والنفسي:
– انا كويسة والحمد لله
هتف مشيرا بكفيه يحاول منعها:
– لا استني يا بهجة، انا طلبت الدكتور وزمانه على وصول
ردت بجمود ورسمية:
– متشكرة حضرتك، دول اكيد شوية ضعف مش مستاهلة قلق.
حطت بقدميها على الارض، بعد ان ابتعدت عنها لورا، والتي اصبحت تمثل حاجزًا بينهما، حتى لا تمكنه من الاقتراب منها في كل محاولة منه نحوها :
– يا بهجة استني، انتي مش قادرة تصلبي طولك
ردت بإباء وقوة:
– لا اطمن يا رياض باشا، انا لو اتهزيت في وقفتي، برجع اثبت بسرعة عشان مقعش، لان عارفة ان محدش هيسندني غير نفسي، عن اذنك .
– طب استني هوصلك.
قالها يتراجع سريعًا نحو مكتبه فيتناول سلسلة المفاتيح من فوقها لتلحقه لورا على الفور تذكره:
– واجتماعك مع العملا، انت وكارم بيه هتعمل فيه ايه؟
– يتأجل يا لورا
صدرت منه بدون تفكير، لتثير على ثغرها ابتسامة ساخرة لم تصل لعينيها:
– وانا مقبلش يا رياض باشا انك تعطل نفسك، حمد لله رجليا شيلاني ومش محتاجة مساعدة حد.
قالتها بهجة وتحركت تغادر من امامه على الفور، غير قادرًا على اللحاق بها، بعد احراجه امام لورا التي تحدثت بعملية:
– انا رايحة اجيبلك الملفات المتأخرة، حضرتك من الصبح ماشتغلتش على اي ملف فيهم، عن اذنك.
زفر بقنوط ، يلقي المفاتيح من يده، ثم يرفع الهاتف إلى اذنه طالبًا سائقه:
– عم علي، اسمعني كويس .
❈-❈-❈
اما عنها فقد اتخذت طريقها للذهاب على الفور من الباب الخلفي، متجنبة المدخل الرئيسي وما يتبعه في المرور على صباح والأثنان المتشاجران، واي فرد قد يعرفها في المصنع، حتى العم علي الذي وكل بتوصيلها، دخل بنفسه ليأخذها ويخرج بها، ولكن حينما لم يجدها اضطر للسؤال عنها حتى وصل الامر إلى صباح، والتي ضربت بكفها على صدرها بهلع خوفًا من اختفائها المفاجيء، فخرجت تتخذ طريقها للذهاب إلى منزلها ومعها ابن عمها، حتى ود تميم ايضًا الذهاب معهم ولكن منعه الحرج وجلافة سامر الذي كان وشك ان يقتله حينما تفوه عارضًا الامر
❈-❈-❈
امام المراَة وقد تصدرت بجسدها امامه، تتمايل بشقاوة وتغير بلفات الحجاب الذي كانت تتعمد فرده كل لحظة بمشاكسة لهذا الواقف خلفها يبحث عن جزء ولو بسيط يهندم من خلاله ملابسه، حتى فاض به من أفعالها:
– يا بنتي بقى اهمدي، عايز اشوف القميص مظبوط ولا مش متنيل، مش شايف حاجة خالص
التفت اليه تستمر في تمايلها:
– وانا اعملك ايه يا مستر شادي؟ حد جالك تنجي مراية صغيرة في أوضة النوم الجديدة ، كنت بحبحها حبتين واخترت مراية كبيرة.
اقترب يميل نحوها بغيظ لا يخلو من مرح في كل مرة تناكفه بأفعالها:
– ابحبحها برضو! دا على اساس اني جايبها قطع، مش اوضة كاملة، انت ناوية تجنينيني معاكي صح.
ضحكت بغنج:
– انا برضو يا مستر، عشان بس بنصحك، ليكون الراجل صاحب محل الموبيليا ضحك عليك واستخسر .
ضغط على كفها فزادت ضحكتها ليعلق بابتسامته الرزينة هو الآخر:
– لا هو فعلا ضحك عليا، بس انا بقبل بمزاجي، عندك مانع يا بنت ابوليلة؟ ولا تدفعي احسن وتسدي عن جوزك.
تدللت تلف ذراعيها حول عنقه ، وتشب على قدميها مرددة بدلع :
– لااا انت جوزي وحبيبي وكل حاجة، بس عند الدفع معرفكاش،
– طبعا وارثة النصاحة من ابو ليلة .
اومأت برأسها تقول:
– انا كنت دلوعة ابويا ، يعني عيبة في حقك لو مجلعتنيش انت زيه.
– كمان، مش بقولك ناصحة،
قالها ليقبل الوجنتين ثم يرفعها من خصرها ويحتضنها مردفًا بعشق:
– ادلعي على حس جوزك يا قلبي واعملي اللي انتي عايزاه، ربنا ما يحرمني منك ابدا يارب
– ولا منك يا حبيب جلبي .
قالتها تتشبث به هي الأخرى،
تأوه بلوعة؛
– ااه يا صبا، بحبها اوي منك والله يا جلب جلبي انتي، وشكلنا كدة مش رايحين الشغل النهاردة اللي متأخرين عنه اساسًا.
– انت اللي ماسك فيا مش انا
– والله
انزلها لتفك ذراعيها عن عنقه، عارضًا بخبث:
– ايه رأيك نضم أليوم دا كمان اجازة على الكام يوم اللي فاتوا؟ وناخده كله برا، نتفسح ونعمل كل حاجة نفسنا فيها.
اهتزت بكتفيها تدعي عدم الاكتراث، ثم تحذره:
– والله انت حر، بس استلقي وعدك بعد كدة مع المدير نفسه، دا هيشد في شعره منك.
ضحك يتناول هاتفه:
– طب احنا نعمل تيست اختبار نشوف هيسمح، ولا ناخدها من قاصرها ومنجيبش سيرة من اولها..
توقف ينتبه إلى ورود اتصال برقم غريب ، جعله يجيب على الفور حتى يعرف بهوية المتصل:
– الوو مين معايا؟…… مين؟ صباح اللي مع بهجة في المصنع؟….. هي بهجة حصل لها حاجة؟
❈-❈-❈
انتهى اخيرًا من الاجتماع الذي استغرق ساعات، مرت عليه بعذاب التفكير المستمر وعدم التركيز في اي بند، مما الزم كارم للتصرف بحنكته مع العملاء معظم الاوقات، ليأتي الان تعقيبه:
– ايه يا عم رياض؟ انت تقريبا مكنتش معانا خالص النهاردة؟
اوما يجيبه بضجر:
– انا فعلا مكنتش مركز معاك، دا غير ان كنت عايز أاجله اساسًا، وندمت اني منفذتش قراري.
– ندمت!
تمتم بها كارم بدهشة يراقبه ينهض من جواره، فيبتعد عنه ويهاتف احد الأشخاص، ثم ما لبث ان يصله الصوت بعصبية:
– ازاي يعني موصلتهاش؟….. وكمان متعرفش راحت فين؟……. انت بتتكلم في ايه يا عم علي…… لا في بيتها ولا عند أخواتها؟ ازاي يعني؟ طب اقفل طيب وانا هشوف بنفسي.
انهى المكالمة سريعًا وبعصبية ليتفاجأ بكارم بجواره يسأله بقلق:
– هي مين اللي اختفت، مش طنت نجوان خفت على حسب علمي؟
طالعه بصمت ليتحرك ذاهبًا من امامه يحادث الآخرى :
– ايوة يا صباح طمنيني على بهجة.
– بهجة!
تمتم الاسم من خلفه بعدم تصديق، مستندا بجسده على الطاولة يردف محدثًا نفسه:
– ياااه ، هي لدرجادي البنت أكلت عقلك يا رياض؟….. يا نهار ابيض، دي حاجة ولا في الخيال.
❈-❈-❈
في منزل خميس
وقد كان حاضر الان يرحب بعريس ابنته وزيارته الأولى بعد قراءة الفاتحة، يحتفي به بمبالغة كعادته, متجاهلا صوت الهاتف الذي كان يدوي صامتًا في جيب سترته
– يا أهلا وسهلا، نورتنا يا غالي يا بن الغالي، واد يا طلال بلغ ابوك اني زعلان منه، مجاش ليه الراجل ده معاك النهاردة.
تبسم المذكور وعيناه تذهب نحو الجيب الذي كان يضوي امامه كل دقيقة:
– تشكر يا عم خميس، بس هو كان هيجي على فكرة انا بصراحة اللي منعته، متزعلش مني، اصل لا مؤاخذة يعني، انا جاي النهاردة اقعد مع عروستي يجي هو بقى يقعد وسطنا عزول!
قطب يتطلع اليه بازبهلال شاعرًا بأنه حديثه فيه تلميح نحوه، صرف عن رأسه الفكرة حينما قدمت زوجته حاملة صنية العصائر والحلوى، ترحب هي الأخرى بطريقتها:
– يا أهلا يا أهلا بعريس بنتي، شرفت وأنست.
تناول منها الصنية يضعها امامه على الطاولة الصغيرة التي تتوسط الجلسة يرد بطريقته؛
– تشكري يا حماتي، بس مكنش له لازمة التعب.
ضحكت تأخذ جلستها على الكرسي المجاور لزوجها:
– تعب ايه يا حبيبي بس؟ هو انت هتسمي العصاير وحبة الكيك دي تعب.
تناول كوب العصير يرتشف منه،، موجهًا سؤاله نحو الاثنين:
– تسلم ايدك يا حماتي بس هي العروسة فين؟ ولا انا جاي اخد قعدتي معاكم؟
– هاا
تمتمت بها مجفلة لفجاجة السؤال، ولكن انقذها خروج ابنتها من الاحراج، لتردف مشيرة نحوها:
– اهي، العروسة جات اهي، عشان متقولش يا عم ان جاي تقعد معانا وبس.
قابل مزاحها ببرود قائلًا:
– لا ازاي بس يا حماتي؟ دا انتو الخير والبركة.
قالها ووقف يستقبل عروسه تلك التي صارت تتمايل وتتبختر بخطواتها امامه عن قصد، هو ليس بغافل عنه، فيستغل بمكره، يمشطها من رأسها والنصف الحجاب الذي يكشف اكثر مما يغطي من رقبتها وشعرها، زينة وجهها والمساحيق التي لا تتخلى عنها ابدًا، ثم هذا الفستان الضيق يجسم جسدها بالكامل، حتى ما ترتديه بقدميها البيضاء في ذلك الحذاء الذي يظهر الأظافر المطلية في الامام بصورة تثير الإعجاب.
ليتنهد واضعًا كفه فوق صدره ، والتي امتدت بعد ذلك نحوها فور ان اقتربت:
– يا مسا الجمال، أهلا يا عروستي
عبست بوجهها لترفع طرف كفها بتعالي، تبتغي ان تلامس كفه بقرف ولكنه كان الأسبق ليطبق على كفها بضغطة اجفلتها لتبرق عينيها بخضة نحو والديها الذان تطلعها اليه مزهولان وهو يسحبها من يدها التي مازال ضاغطًا حتى كاد ان يجلسها بجواره على نفس الاَريكة، ولكنها تشبثت في الأرض تنزع يدها عنه لتجلس على ابعد كرسي منه، ترد بصوت يتخلله الضيق:
– منور يا طلال.
عض على شفته بغيظ لفعلها، ليحط جالسًا محله يفرك بكف يده على فخذه زافرًا:
– ومالوا ما هو نورك برضو يا عروستي.
بملامح مكشوفة، تعبر عن ضجرها اشاحت بوجهها عنه، ليواصل الفرك بكف يده على فخذه متوجهًا بالحديث هذه المرة نحو درية:
– ايه يا حماتي، انا سمعت انك محضرالي عشا
للمرة الثانية يربكها بجرأته، لتنهض على الفور مرددة باضطراب:
– اه يا بني امال ايه؟ دا انا عملالك عشا ملوكي، ثواني هشوفه على النار.
تحركت ذاهبة نحو المطبخ وقبل ان يتفوه خميس بكلمة من خلفها، سبقه هو:
– ما تشوف التليفون اللي شغال يرن عليك من الصبح دا يا عم خميس، لتكون حاجة ضرروي، ولا ناس محتاجينلك..
– نااس محتاجنلي!
تمتم بها خميس يكتنفه احساس غريب، ان هذا الولد يعرف بهوية المتصلة، لينهض هو الاخر مرددًا بتلعثم:
– اا عندك حق يا بني، انا هروح اشوف مين.
– خد راحتك يا عم خميس.
قالها بصوت عالي جعلها تطالعه بذهول، غير مستوعبة الاريحية التي يتحدث بها وكأنه صاحب المنزل، ليصدمها مرة أخرى بنظراته الفجة نحوها، يمسح بلسانه على طرف شفته السفلى، يزيد من دهشتها، ويقفز فجأة تجده على الكرسي المجاور لها، مرددًا:
– عاملة ايه يا عروسة بقى؟
إلى هنا وتمالكت تنفض عنها الدهشة لتنهره بتكبرها المعهود:
– ايه في إيه؟ ما تظبط كدة يا عمنا، انت فاكرها زريبة….. ااه
صدر تأوهها الاَخير بعدما امتدت يده نحوها يقبض على لحم ذراعها ضاغطًا عليه بعنف محذرًا:
– لأ اصحي يا بت كدة ومتقليش أدبك، طولة اللسان دي ما تمشيش معايا، يعني تأدبيه من نفسك لاقصهولك
فغرت فاهها بصدمة سرعان ما استفاقت منها تحاول نزع يده من على ساعدها:
– اوعي ايدك دي عني لاصوت….
قطعت مرغمة، حينما حطت كف يده الأخرى على جانبي فكيها يضغط على الوجنتين قائلًا بفحيح:
– لأ فوقي لنفسك يا بت وحسك دا ميعلاش عليا، انا واخدك انقاذ موقف بعد فضيحتك مع شيخ الهم، ولا انتي فاكرة الكلام مطلعش وهيئتك كانت ازاي ساعة ما طب عليكي البوليس، انا مش هحقق معاكي، بس انتي لمي نفسك يا حلوة وبلاها النفخة الكدابة دي عشان مقلبش عليكي، انا صاين الود كدة وداخل بقلبي. يعني انتي كمان تراعي.
شخصت ابصارها لتتجمد امامه بصورة كادت تضحكه: فرفع كفيه الاثنان عنها ليردف بنعومة لا تليق به:
– معلش يا قلبي ان كنت خضيتك كدة من اول قعدة لينا مع بعض لوحدنا، بس انتي برضو لازم تاخدي بالك في الكلام معايا، ما هي الواحدة لازم تحترم راجلها عشان يحطها في عنيه ولا ايه؟
❈-❈-❈
اما عند اشقائها في منزلهم، وقد حل القلق على الأربعة بوجود صباح وسامر الذي لم يغادر محله منذ أتى، بعد بحثه عنها مع المرأة وعدم الحصول على نتيجة وافية حتى تجعلهم يغادرون مطمئنين، مما اجبرهم على الانتظار الان، لعلمهم الأكيد انها حتى لو تخلت واستغنت عن الجميع فهي لن تترك اخوتها ابدا دون ان تطمئنهم.
– الساعة داخلة دلوقتي على سابعة المسا، انا بدأت اخاف على بهجة لتكون حصل لها حاجة
تفوهت عائشة بالكلمات تعبر عن خوفها، لتنهرها على الفور جنات:
– تفي من بوقك يا عائشة، بلاش تفولي على اختك بحاجة وحشة
– يا جماعة انا مش بفول والله، بس قلقانة.
ردت صباح والتي انتابها الندم :
– يقطعني يا بنتي، انا اللي خوفتك، دلوقتي تتصل وتطمنا عليها.
تدخل سامر هو الاخر والذي اكتنفه نفس الاحساس ؛
– مش انتي بس يا ست صباح انا كمان غلطان، يا جماعة هي اكيد مضايقة من موقف الصبح، بس انا والله بضرب نفسي بجزمة قديمة، اني مشغلتش عقلي واتحكمت في عصبيتي ساعتها عشان أميز، لكن وربنا البت اللي لبستني العملة دي ما هسيبها، ولازم اربيها على عملتها معايا .
اشاح ايهاب بوجهه عنه مغمغمًا بضيق:
– واحنا مش هنخلص بقى من أذيتكم، حتى بعد ما عزلنا وبعدنا عنكم ورانا ورانا .
عقب سامر بحرج:
– عندك حق يا ايهاب، والله ما هلومك، على العموم يا بن عمي انا هطمن بس على بهجة وبعدها مش هتشوفوا وشي تاني .
دوى هاتف صباح بالرقم الذي تعلم هوية صاحبه، فزفرت بضحر، لتنهض مستنئذونة للرد عليه:
– عن اذنكم يا عيال هرد على التليفون بس .
وتحركت تبتعد بمسافة كافية كي تجيبه:
– ايوة يا باشا عرفت حاجة تطمنا.
– الله يخرب بيتك يا صباح، افهم من سؤالك ده انها لسة مرجعتش، هتكون راحت فين بس؟
– معرفش احنا دورنا كتير وفي الاخر قاعدين في بيتها هنا نستنى اهو.
وصله صوت زفرة قوية منه ثم قال بعصبية:
– ماشي يا صباح، بلغيني اول ما تيجي او تسمعي اي خبر عنها، وانا برضو مش ساكت وبدور عليها.
انهت معه المكالمة لتعود إلى جلستها مع المجموعة، فتتذكر سائلة:
– صحيح يا عيال، ما اتصلتوش ليه بنجوان هانم، مش يمكن تكون عارفة عنها حاجة.
❈-❈-❈
وفي جهة اخرى استيقظت من غفوة نومها الاختياري، لتجد نفسها داخل مكتب صديقتها المظلم، فتستنتج بمرور الوقت:
– يا نهار ابيض، انا شكلي اتأخرت اوي في نومتي .
ارتدت حذائها وخرجت بوجهها الناعس تغمغم مع نفسها :
– يا لهوي عليا لتكون صفية مشيت وسابتني في المكتب…..
– لا يا اختي انا قاعدة ومستنياكي هنا.
اتجهت نحو مصدر الصوت لتجدها جالسة في الردهة الخالية من الزبائن، بحضور شادي وزوجته ، والمفاجأة كانت نجوان.، والتي تبسمت تفتح ذراعيها وتتلاقها:
– ايه يا بهجة، حتفضلي واقفة مكانك كدة كتير. تعالي في حضني يا قلبي .
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
↚
اصطف سيارته بتلك الزاوية المظلمة، والتي تمكنه من الرؤية الجيدة لمحيط منزلها، حتى يتثنى لها ان يراقب ويتابع جيدا اثناء انتظاره لمجئيها، وذلك بعد تعب وبحث مضني، حتى اهتدى تفكيره لأن يقف هنا بسيارته، لعلمه الأكيد وكما قالت صباح، انه أن تخلت عن الجميع لن تترك اخوتها.
لقد مرت عليه ساعات من القلق ، كادت ان توقف قلبه، وهو يدور بالسيارة وينتقل من مكان إلى مكان، حتى المنزل الذي يجمعها معه، ايضًا ذهب اليه، رغم استحالة الفكرة إعتمادًا على غضبها منه، ولكن غباء تفكيره وحالة التشتت التي كان بها جعلته يرجح ذلك بعد يأس تمكن منه
كما يحدث الاَن، وقد احترقت اعصابه، وتمكن منه الاجهاد بجلسته خلف المُقود، يريد الإطمئنان عليها، تلك التي سلبت روحه، وجعلته هائمًا بها رغم كل عقده والأفكار التي نشأ عليها وبنى عليها خططه،
لكن تحديها اليوم جعله يفقد السيطرة ويلعنها ويلعن ضعفه في التمسك بهاء، يطمئن عليها أليوم، ثم يحاسبها ، نعم فهو لن يفوت ابدًا كلماتها، وحتى هذا الغياب لن يمرره دون عقاب، هي من أخطأت وتسببت بفضيحة لها في قلب المصنع نتيجة تهاونها.
اعتدل فجأة وانتبهت كل حواسه مع خروج احد الأشخاص من منزلها، دقق النظر والصورة تتضح رويدًا رويدًا حتى تأكد من رؤيته، هذا الاحمق ابن عمها الذي كان يتشاجر صباحًا مع تميم، ضاقت عينيه بغضب متعاظم وهو يتأمله، كم ود ان يخرج اليه ويحطم عظامه كي يقطع عنه أي امل في العودة اليها مرة اخرى، زفر ينفض رأسه غير متقبلا لفكرة انتمائها ولو على الورق لرجل غيره، هو زوجها الأوحد ولن تكون لأحد غيره الا بموتها...
انتفض لخاطره الاخير يتناول هاتفه ويضغط على رقمها، وحين لم يجد ردًا كعادتها منذ ساعات، بدل على الفور يتصل بصباح، الوحيدة التي يعلق عليها اماله الان، انتظر قليل حتى اجابته، ليصرخ بها:
- وبعدين يا صباح، لسة برضو مفيش اي اخبار؟ انا مسبتش حتة مروحتهاش ودورت فيها.
- لا يا باشا، ما انا عرفت هي فين دلوقتي حالا؟ اصلها اتصلت باخواتها وبلغتنا .
- بتتكلمي جد يا صباح؟ يعني اطمنتي عليها وسمعتي صوتها.
لم تخفى المرأة المحنكة لهفته الشديدة عليها، لتتأكد من ظنها بعشقه الجارف لها، تشفق عليه رغم عتبها وغضبها الشديد منه فتسارع في طمأنته:
- ايوة هي عند واحدة صاحبتها، طلبت مني اني اقضي الليلة معاهم عشان هي هتبات عندها.
سمع منها لتتحول نبرته من القلق الشديد، إلى غضب يقارب الهياج وهو يصيح بها؛
- نعم، تبات فين؟ هي اتجننت دي ولا ايه؟ يعني انا سايب شغلي ومصالحي، والدنيا كلها عشانها، عشان في الآخر تبلغك انتي بالهبل ده، خليها ترد عليا يا اروحلها البيت عند صاحبتها واللي يحصل يحصل.
حاولت صباح التخفيف من حدته رغم غيظها الشديد منه:
- يا رياض باشا، هي قالت انها تعبانة ومش قادرة تكلم حد، أخواتها نفسهم قدرو حالتها، وقبلو بغيابها عنهم الليلة عشان واثقين فيها وعارفين انها مش هتبعد كدة من فراغ ولا دلع .
قالت كلماتها الاخيرة بقصد فهم عليه جيدا، لتفحمه عن المواصلة، ويكظم غضبه بصعوبة زافرا بخشونة:
- ماشي يا صباح، هصبر واتحمل الليلادي وأما اشوف اخرتها ولا اخرة الزعل ده ايه؟ ماشي .
قالها وتحرك اخيرًا يدير محرك السيارة للذهاب، وفمه يغمغم بالكلمات الحانقة، لا يعجبه هذا الفعل ولا بتلميح صباح وكأنه هو الجاني، على اساس أنها لم تكن هي سببًا في كل ما يحدث:
- حتى صباح كمان بتوجه لك انتقادها يا رياض بس بشكل غير مباشر، انا مش فاهم انا كان عقلي فين ساعة ما صارحتني بعلم الست دي، غير التانية صاحبتها الست المحامية، يا ترى قولتي لمين تانية يا بهجة؟
❈-❈-❈
حينما تغلبك قسوة العالم، ولا يتبقى لك إلا قلب يحتويك، فاعلم أنك لن تكون خاسرًا ابدً.
#بنت الجنوب
في تلك الجلسة التي كانت تجمعهم حولها ، ورغم مرور اكثر من نصف ساعة إلا أنها لم تتركها حتى الاَن، مازالت تضمها وما زالت تربت على ظهرها وتمسح على ظهرها بحنان ، لتثير زهول الجميع وفضولهم ايضًا، ليتحدث شادي عما يعتريه:
- بصراحة انا مش فاهم لحد الآن، طيب يا مدام نجوان ما دومتي عارفة من الاول بموضوع جوازهم، ليه متكلمتيش مع ابنك وواجهتيه عشان يعلن جوازهم.
تبسمت له بصمت، ليأتي الرد من بهجة التي خرجت من حضنها تجيبه بنبرة يتخللها التأثر:
- مكانتش تعرف يا شادي، دي معرفتش غير قريب اوي مني.
- لا كنت اعرف من الاول يا بهجة .
قالتها نجوان لتجذب انتباه الجميع نحوها، فتردف بتنهيدة من العمق:
- انا والدة رياض، يعني اكتر واحدة تعرفه، زي ما كمان حب بهجة اتغلغل في قلبي من قبل ما حتى ما استعيد وعيي كويس، مش عارفة دا يتسمى ايه، بس انا دايما عندي احساس ان سبب تعافيا الاساسي هو بهجة نفسها،، او يمكن قصتها مع رياض، هتقولولي ازاي؟ هقولكم معرفش
- اكيد عشان انتوا الأتنين قلوبكم صافيه زي بعض.
قالتها صبا لتلعق بهجة التي تأثرت بقولها:
- لا طبعا مفيش اصفى من قلبها، بس انا برضو مش فاهمة، انتي بتقولي انك عرفتي قبل ما انا اقولك، ازاي طيب؟
تبسمت نجوان بثقة:
- والله انتي غلبانة اوي يا بهجة، يعني مفكرة عم علي الراجل العجوز دي هيقدر يخبي عني خصوصا لما ازن عليه، دا كان ناقص نبوية كمان تعرف، رياض مكشوف اوي، يمكن انتي متاخديش بالك، عشان مش انتي اللي مربياه
تدخلت صفية بإعجاب:
- والله دا من حظ بهجة، انها تلاقي ناس طيبة تحس بيها، وهي برضو تتحب وتستاهل والله واحدة زيك رغم ان ابنك عايزة القرص، متزعليش مني
قالتها بجدية اثارت ضحكات الجميع ليضيف عليها شادي:
- معلش الايام جاية يا حضرة الافوكاتو كتير، اصبري على رزقك .
- ليه هتعمل ايه؟
صدرت من بهجة بقلق رغم ادعائها غير ذلك، لتكن اجابته بصمت مبهم، ولكن زوجته لطفت تطمأنها:
- متجلجيش يا بهجة، ابن عمتك مالهوش في الاذية، هو آخره يقرص وبس.
اومأت رأسها رغم عدم اقتناعها، لتتذكر فجأة سائلة:
- صحيح انا معرفتش انتوا اتلميتو ازاي على بعض:
- تبادل الجميع النظرات مع الابتسام ليأتي رد نجوان اولهم:
- شغلي مخك يا بهجة، عم علي مفيش حاجة تخفى عليه، وبالتالي متخفاش عليا انا كمان،
فقال شادي:
- انا بقى تعبت شوية في اللف والبحث، بس لما افتكرت صفية قولت اسألها عنك يمكن تعرف مكانك لقيتها بتبلغني بوجودك معاها في المكتب،
توقف برهة ثم واصل بحرج ؛
- مراتي صراحة كانت معايا ساعة ما سمعت المكالمة، أصرت تيجي عشان هي كمان تطمن انتو عارفين بقى دماغ الصعايدة.
تبسمت بهجة تتغزل بصبا التي انتابها الخجل من كلماته:
- ومالهم الصعايدة يا عم، ما هم حلوين وجدعان، عايز ايه تاني ، دا انت ربنا كرمك بيها والله..
بادلتها صبا تعبر عن امتنانها:
- دا انتي اللي جمر وبدر البدور كمان، انا والله جلجت جدا وكان نفسي اطمن عليكي، بس انتي كنتي عايزة دكتور يفحصك ويشوف حالتك.
- لا انا كويسة والحمد
- وعرفتي منين؟
توجهت بها نجوان نحوها، لتستطرد بجدية:
- لازم دكتور يشوفك يا بهجة، ونطمن عليكي منه.
- ويعني هيكون فيا ايه بس؟ اكيد شوية ضعف .
قالتها بهجة لتنتبه على نظرات ذات مغزى موجهه نحوها، فهمت عليها لتنفي على الفور؛
- لا يا جماعة انا عاملة حسابي كويس من اول يوم،... ودا طبعا لانه مرسيني على الوضع من اوله.
قالت الأخيرة ببعض الحرج، غافلة عن تأثير كلماتها على من لم يعلم بالحقيقة كاملة الا الان، ليعتريه الغضب على الفور قائلًا :
- معنى كدة انه كان رافض الاولاد من الاول يا بهجة.
استدركت لتبرر بتلعثم:
- لا يا شادي...... اصل هو يعني... ااا احنا مجيبناش سيرة الاولاد من اساسه والله، بس انا كان لازم افهمها لوحدي،....
انهت تطرق رأسها بحزن، مما اجبره على عدم المواصلة، فقالت نجوان:
- متقلقوش يا جماعة، كله هيتصلح ان شاء الله، بس احنا برضو لازم نطمن، مفيش حاجة مضمونة، بكرة الصبح بإذن الله، هاخدك ونروح على المستشفى نعمل فحصوات كاملة
- مستشفي ايه؟
تسائلت لتفاجأها الأخرى بردها:
- المستشفى بتاعتنا يا بهجة، عند الدكتور هشام
❈-❈-❈
في اليوم التالي صباحًا
وداخل غرفة مكتبه حيث النقاش الدائر مع شريكه في إحدى الأمور الخاصة بالعمل، وقد كان امامه بحالة يرثى لها، تعب الأمس والقلق والتفكير المستمر، والذي منعه حتى من احذ القسط الكافي من النوم، حتى يستعيد نشاطه والتركيز في هذه الامر الذي يتم النقاش حوله،
حتى فاض بالاخر ليلقي الملف الورقي من يده على سطح المكتب بإهمال معبرا عن اعتراضه:
- مش معقول يا رياض، انا سابع مرة اعيد البند اللي عايزين نتفق عليه قي الصفقة، وانت ولا هنا خالص.
تحمحم يستعيد ذهنه ، ليجلي حلقه مبررًا بأسف:
- انا اسف يا كارم معلش، دماغي بس مشغولة بحاجة كدة، مضيعة التركيز مني
،
رد الاخر بتشكك؛
- حاجة برضو، رياض انا مش عايز أتدخل في امورك الشخصية احترامًا لخصوصيتك، والتعتيم اللي بتفرضو عليها، بس كدة لو هتوصل للضرر في الشغل، يبقى لازم انبهك
- قصدك ايه؟
توقف برهة ثم ما لبث ان يجيبه بمكاشفة:
- قصدي انت فاهمه كويس اوي يا رياض، ومن غير ما تفتكر اني متطفل او متعمد التدخل في شئونك، انا تقريبا فاهم اللي انت فيه والقصة اللي بتحاول تداريها عن الجميع ودا حقك، بس الشغل يستاهل التركيز....
توقف يسحب شهيقًا مطولا ويخرجه ثم نهض يلملم أوراقه متابعًا:
- انا بكلمك كصاحب يا رياض، وبعرض عليك للمرة التانية حتى لو انت رافض..... الوحدة مفيش ابشع منها....و انا تحت امرك في اي وقت تحتاجني فيه
انهى كلماته وتحرك مغادرًا على الفور، وظل هو على جلسته ينظر في أثره بشرود دام لحظات، وصفه عن الوحدة محقًا فيه تمامًا، وهو لم يكره شيء اكثر منه، ولكنها كتبت عليه، حتى الوحيدة التي احتوته وانتشلته من هذا الإحساس الشنيع تتسرب من بين يديه الان، ويبدو انها هي ايضًا تريد تركه، ولكن هذا ابدا لن يسمح به؟
عند خاطره الاخير، تناول هاتفه على الفور يجري اتصالا، كي يعرف منه اخر الاخبار:
- ايوة يا عم علي...... مظهرتش برضو بهجة؟......... مستشفى ايه بالظبط؟ وليه؟.......... بتقول مين؟ الدكتور هشااام.......
خرجت صيحته الاخيرة بصوت عالي، يختم مع الرجل، ثم ينهض سريعًا، متناول اشياءه، استعداد للخرج، وقبل ان يتحرك نحو الباب وجدها تدلف اليه حاملة على يدها بعض الملفات قائلة:
- مستندات المورد الجديد للخامات يا فندم اللي كنت طالبه من شوية..
التف اليها يضع الهاتف بجيب بنطاله، يرد على عجالة واقدامه تتخذ طريقها نحو الذهاب:
- أجليهم بعدين لما ارجع .
هتفت تلحق به مندهشة:
- بس انت كنت طالبهم بسرعة عشان متأخرين على الدفعة الجديدة.....
توقفت فجأة ، وقد اكتشفت انها تحدث نفسها، بعد ذهابه السريع من امامها، وكأنه يركض ليلحق القطار، لتسقط بجسدها على الكرسي خلف مكتبها، واحباط ثبط عزيمتها عن المواصلة، وافقدها الحماس بعدما نبت بداخلها الأمل مرة اخرى بعد أحداث الأمس، وهذا الشقاق الذي صار بعلاقته بهذه الملعونة التي تقف حاجزًا بينها وبينه.
❈-❈-❈
بداخل المشفي
وقف العم علي مسافة بعيدة خارج المشفي، يتابع ولوجهم داخل المشفي، بمرافقة الطبيب الذي استقبلهم، وقد كان على علم بحضورهما من نجوان التي هاتفته مسبقا، وكالعادة فمه لا يتوقف عن الحديث ابدا:
- اول ما اتصلتي وبلغتيني انك جاية المستشفى تعملي فحصوات، قررت ااجل محاضرتي في الجامعة واكون في شرف استقبالك.
تبسمت نجوان تتقبل لطفه بامتنان شديد:
- مرسي اوي يا دكتور على زوقك، بس احنا مش عايزين نأخرك اكتر من كدة على طلابك.
- مجاتش على نص ساعة يعني، المهم نطمن عليكي يا نجوان هانم، وانتي يا بهجة، مش ناوية بقى ترجعي لكليتك تاني؟ انا شايف انك شطورة واكيد هتعدي وتتفوقي كمان
صمتت قليلًا بتفكير ، وكأنها تذكرت شيئًا تائهًا منها، ثم نقلت بابصارها نحو نجوان، تستدرك لسبب مجيئها اليوم، ف انتظار معرفة النتيجة التي ستتوقف عليها اشياء كثيرة بعد ذلك، فتأتي اجابتها اخيرًا بيقين:
- ان شاء الله يا دكتور، مهما كانت الأسباب اكيد راجعة.
❈-❈-❈
خرجت من منزلها وذلك الحبس الإجباري داخله اخيرا، لترا نور الشارع بعد انقطاع دام ايام، عقب حادثة الدجال وقسم الشرطة، ثم خطبتها من هذا الاحمق الذي يظن انه سيفرض كلمته عليها، ويطوعها، وكأنه يستطيع بالفعل، لقد هاودت شقيقيها ووالديها حتى تمتص غضبهم، لكنها عازمة ان تعود لطبيعتها المتمردة رويدا رويدا ، ولن تستلم لهذا العته....
- ازيك يا حلويات
شهقت متنتفضة ترتد بأقدامها للخلف، وقد اجفلها بقطع الطريق عليها، يتصدر امامها بجسده، ليشملها بنظرة وقحة، دارت علي جسدها من اعلى لأسفل متفحصًا هيئتها المتأنقة بمبالغة كعادتها، ليردف:
- الصلى على النبي، كدة العروسة رايحة فين بقى من غير ما تبلغ خطيبها.
ارتفع طرف شفتها العليا باستنكار عبرت عنه:
- نعم، هو انت كمان عايزني ابلغك بالخطوة اللي اخطيها برا البيت، ولا انت شكلك صدقت انك خطيبي بجد وهتفرض الأوامر وانا انفذ.
ضحك باستهزاء يرفع السيجارة التي ببن أصابعه إلى فمه، ثم ينفث دخانها في الهواء دون تعليق، مما زاد من استفزازها لتهم بالتحرك مغادرة، ولكنه باغتها يقبض على كفها يعصرها بيده قائلًا:
- على فيين يا حلوة؟ هو انا اديتك الإذن عشان تمشي؟
حدجته بزعر تحاول نزع قبضته عنها مرددة:
- سيب ايدي يا جدع، انت اتجننت، بقولك سيب ايدي، لاصوت والم عليك الناس.
واصل استهزائه غير مباليًا يرد:
- هما فين الناس دول، بصي كدة يا حلوة حواليكي ، لو لقيتي واحد فيهم بس يتجرأ يدخل ولا يفاتحني، يبقى ليكي كلام عندي، انا شيكاغو المنطقة يا بت، محدش يقدر يقربلي ، وانتي المدام بتاعتي يعني تخصيني ومطلوب منك تحترمي .
تطلعت حولها بالفعل، لتجد الجميع مشغول فيما يخصه، ولا احد يلقي حتى بنظرة نحوهما، لتصدر صوت استهجان بفمها تحاول نزع يدها التي اطبق عليها بقوة:
- مدااام ! يا عم هو انت شارب ولا ايه بس ع الصبح؟ ولا يمكن مش عارف تفرق بين قراية الفاتحة وكتب الكتاب، دي ايه النصايب اللي بتحل علينا د
هذه المرة زاد بضغطه فكادت تشعر بطقطقة العظم ، حتى اوجعها بشدة يتمتم محذرًا لها:
- لما اقول مراتي، معناها انه امر مفروغ منه، وع العموم انا برضو هعجل بكتب الكتاب والدخلة على طول، مش هستني تأجيل عشان يبقى رسمي.
نست الألم لتطالعه بزعر ، لا تحتمل حتى التخيل، فدفعها للخلف ينزع كفها التي تخدرت من الألم حتى لم تعد قادرة على فردها جيدًا يامرها بتهديد:
- اخلصي ياللا روحي ع البيت ، وما شوفش وشك في الشارع تاني غير بعلمي يا شوف حكايتك ما خواتك وهما اللي يتولوا المهمة بقى لحد ما توصلي بيتي.
جمدتها الصدمة حتى انها لم تتحرك سوى بعد ان عاد يهدر بها:
- اتحركي ياللا، انتي لسة هتتأملي في جمالي، ياللااا
انتفضت على اثر الاخيرة، لتبدي رفضها وتمردها، ممسكة بكفها التي اصبح يزيد به الألم
- دا لما تشوف حلمة ودنك يا شيكاغو، والنعمة ما انا ساكتالك، ولا هخليك تنول غرضك،
برقت عينيه لها بشر جعلها ترند باقدامها مغادرة، لتواصل بغمغمة كانت تصل اليه:
- قال اتجوزو قال، دا انا انتحر احسن ولا اتجوزك، وديني ما انا ساكتة، هخلي ابويا يشوف صرفة معاك، هو انا رمية ولا رمية
ظل محله يتابعها بابتسامة منتشية، غير ابهًا لكل هذيانها، عيناه تطوف عليها من الخلف بتفحص لا يكتفي منه، ليتنهد مستعيدًا توازنه ، ثم يرفع الهاتف يضغط على زر الاتصال بأحدهم، حتى اذا اجابه، تغيرت نبرته على الفور:
- الوو يا ابو سمرة عامل ايه يا غالي؟ والننوس الصغير اخباره ايه دلوقتي.......... ربنا يعفي عنه يارب.... مش عايز ازعجكك يا حبيبي، بس انا كان عندي طلب، ممكن تعتبرها شكوى من عشمي فيكم يعني......... تشكر يا حبببي، انا بس بشهدك، يرضيك عمايل اختك معايا....... احكيلك على السريع وانت تحكم بنفسك.
❈-❈-❈
اما في منزل خميس
والذي لم يجد امامه مكانًا امانًا سوى المرحاض، بعيدًا عن أعين درية، ليتحدث في الهاتف مع زوجته الجديدة، يتقبل عتابها عليه بعد هجرها لأسابيع:
- كدة برضو يا خميس، تطفش وتقول عدولي يا راجل، هو انا لدرجادي هونت عليك؟ ولا يمكن معجبتكش كمان، ما انا عارفة حظي.
وصله صوت بكاءها المصطنع ليسارع في ترضيتها:
- لا يا صفاء متقوليش كدة، دا انتي تعجبي الباشا، بس انا بصراحة خايف اجيلك، ملقيش بعدها حق المواصلة اللي ارجع بيها، متزعليش مني، بس انا المرة فاتت ضيعت حق نقلة كاملة من بضاعة الوكالة، على الاكل والشرب بس عندك.
قال الأخيرة بتحسر عبست له ملامحه، لتجاريه بنعومتها:
- انا معاك انك صرفت كتير المرة اللي فاتت، بس احنا كنا عرسان جداد يا خميس، والعريس بيصرف ويكع دم قلبه عشان يدلع مراته، ولا انت كمان مستخصر فيا اللقمة.
- لا صفاء مش مستخصر فيكي اللقمة، دا انتي تاخدي عيني وانا على قلبي زي العسل، بس انتي بتقولي العريس يصرف على عروسته، انما انا كنت بصرف على عروستي، وعيال عروستي وعيلتها كلها، كان ناقص بس اجيب الناس اللي في الشارع ياكلوا معانا صبح وليل، وياريت اكل عادي، انما دي كلها حاجات من اللي تدبح القلب، إشي لحوم وفراخ واكل جاهز وفواكه من كل صنف ولون،
وضع كفه على صدره يواصل بحرقة:
- انا قلبي بيوجعني لحد دلوقتي على فكرة من الفلوس اللي ضاعت ومش قادر انسى .
تنهدت تزيد من نعومتها:
- خلاص يا خميس متجيبش المرة دي لحمة واكل جاهز، انا هنبه على العيال يلمو نفسهم وان شالله حتى مياكلوش خلاص عشان يعجبك
- مياكلوش ليه يا صفاء؟ وهما في غيابي يعني مش بيلاقوا اكل؟
تجاهلت الرد على سؤاله، لتواصل بلهجة لائمة:
- انا حاساك يا خميس بتتحجج عشان متجيش وخلاص، على العموم ماشي يا ابن الناس انا عملت اللي عليا، هو انا هبوس على ايدك يعني عشان تجيني،
انت حر بقى، ان شالله حتى لو عايز تطلقني طلقني انا معنديش مانع، بس ياريت تديني كل حقوقي، ما هو انا مش متجوزاك عشان تهجرني
- لا لا استني يا روح يا قلبي، طلاق ايه بس وكلام فارغ، هو انا اقدر استغني عنك يا قلبي ولا احنا لحقنا اساسًا نشبع من بعض .
- قول لنفسك
- خلاص انا هحاول اجيلك في أقرب وقت يا صفصوفتي.
سمعت منه لتطلق ضحكتها المائعة، ليهلل ببلاهة:
- يالهوي على جمال ضحتك، سمعيني تاني .
ليظل لمدة من الوقت في هذا الحديث معها، حتى خرج أخيرا، ليفاجأ بصراخ ابنته في وسط الصالة:
- ماعيزاهوش، النهاردة تفسخو خطوبتي منه، سامعة ياما، النهاردة تفسخوا الخطوبة.
عبس خانقًا لتدللها المستفز، حتى كاد ان يعنفها، ولكن سبقه ابنه سمير الذي ولج فجأة داخل المنزل بغضبه:
- حسك عالي ليه يا بت ؟
انتفضت تتلاقاه بعاصفتها:
- اتفضل يا سي سمير، عشان تفرح قوي، اختك اتهانت كرامتها في نص الشارع ، ولا أكن مقطوعة من شجرة، البيه الفتوة اللي خطبتوني ليه، اتصدر قدامي يمنعني اعدي ولا اروح مشواري، بص شوف ايدي كان هيكسرهالي شااايف.
تطلع نحو كف يدها التي جعلتها امامه، يتفحصها بتقليل:
- مالها ايدك؟ ما هي سليمة اهي ، لا فيها اتكسرت ولا اتعورت ولا حتى فيها خدش، ولا انتي عايزة بس تلاقي حجة.
شخصت ابصارها وفغرت فهاها تردد بقهر:
- انا يا سمير عايزة اتبلى، بقولك مانعني اعدي......
- مانعك تعدي ونبه عليكي متنزليش غير بإذنه بعد ما قليتي أدبك عليه، يعني مغلطش فيكي.
شهقت ضاربة بكف يدها على صدرها مرددة بمظلومية:
- اناا اللي قليت أدبي عليه، هو لحق يشتكيلك يا سمير وانت كمان صدقته وبتكدبني.
عقب على كلماته ببساطة:
- اه اصدقه واكدبك، لأنه هو برغم كل عيوبه، لكنه بيحترم الرجالة وبيقدرهم، انما انتي معندكيش عزيز يا غالية
توقفت عن الدفاع وقد الجمتها كلماته، لتتجمد بصدمة فتولت والدتها الرد، تلطف مع ابنها الذي اصبح لا يطيق لها كلمة:
- يا بني بس هو مكانش حقه يعمل كدة معاها، البنت مش حمل......
- بتك كبيرة وتتحمل كل حاجة ياما.
قالها بمقاطعة حادة وشرار عينيه يرسل العديد من الرسائل الغير مطمئنة لها، ليجبرها على الصمت في كل مرة تحدثت معه في أمر ما، فيزداد التوجس داخلها والخوف ايضًا، ليتابع بقوة جديدة على شخصيته التي يعرفونها :
- بعد اذن ابويا طبعا، هو خد مني الإذن عشان يجي هو وابوه ويحددوا معانا معاد الفرح، اصله جاهز ومستعجل، واحنا كمان مش قليلين
صرخت تعود لشراستها:
- فرح مين يا عنيا؟ انا قولت هفسخ خطوبتي منه الواد العرة ده، يعني لا جواز ولا دياولو
تجاهل خميس وكأنه لم يسمع شيء يجيبه:
- يجوا وقت ما يجوا ان شالله حتى النهاردة انا معنديش اي مانع، ياللا بس اللي يشيل.
قالها وتحرك ذاهبًا نحو غرفته، لتصيح من خلفه:
- يبقى هموت نفسي يا بابا، عشان تستريحوا مني كويس يا سي سمير.
تبسم بسخرية يتحرك للمغادرة هو ايضًا يردد لها:
- ياللا يا اختي، بس اتشطري وأعمليها بجد، تبقي ريحتي ووفرتي كمان.
❈-❈-❈
دلف بخطواته السريعة داخل المشفي، يبحث بعيناه عن الاثنتان، يتوعد لهذا الطبيب بكسر رأسه ان رأه يتحدث معها، يحمل طاقة من الغضب قادرة على الفتك يالجميع، وسيكون سعيدًا جدا أن افرغها في هذا المتحذلق، سأل عنها احدى الممرضات، حتى دلته على مكان وجودهما في إحدى حجرات الكشف، ذهب على الفور ليقتحم الغرفة فجأة فيجفل الاثنتان بحضوره المفاجيء، وطاقة من الغضب تشع من كل خليه بجسده، ليصفق الباب بعنف ويصبح امامهما، عيناه تقدح شررًا بغضب عاصف، يتنقل بأبصاره بينهما بصمت مهيب
انكمشت بهجة على نفسها، وقد استطاع بهيئته ان يبث بداخلها الرعب، عكس والدته والتي تطلعت به، تستقبله بتحدي وكأنها كانت في انتظاره:
- مش عيب واحد في مركرك ويقتحم الغرفة على اتنين ستات كدة وفي مكان عام، حتى على الاقل راعي الأصول يا بن حكيم.
تعمدها المقصود بذكر والده زاد بقلبه الشك، ليميل برأسه نحوها مضيقًا عيناه يردد خلفها:
- اَه ابن حكيييم، في كل مرة تفكريني بأسم الوالد ببقى متأكد ان قصدك من وراها حاجة، ودا اللي عايز اعرفه
- تعرف ايه؟
همست بها بتسلية زادت من حنقه ليهدر فاقد السيطرة، موجهًا ابصاره نحو بهجة:
- الهانم اللي طفشانه من امبارح وانا مش عارف لها طريق، بلف وادور في كل حتة، عشان اكتشف دلوقتي انها هنا معاكي، ليه يا ست بهجة؟
ردت بحدة مشجعة نفسها على مواجهته:
- بالعقل كدة، في اؤضة الكشف وفي مستشفى، تفتكر بعمل ايه يا باشا؟
- يعني مش جاية مع ماما عشان الدكتور الزفت؟ ولا انتي فعلا تعبانة يا بهجة.
قال الاخيرة بلهجة ظهر بها القلق لتعلق نجوان بسخرية مقارعة له:
- ويخصك في ايه تعرف ان كانت تعبانة ولا مش تعبانة؟ دا غير انه اساسًا كل تصرفاتك دي مش مفهومة، بتعمل معاها كدة ليه يا رياض؟ هي صفتها ايه بالظبط عندك؟
طفى شي، من الارتباك يعلو ملامحه، يطالعها بتردد دام لحظات، ثم يستدرك لفداحة أفعاله، فقد اعمته الغيرة للمرة الثانية، بعد مكالمة العم علي وذكر اسم هذا الطبيب المستفز، ولكنه ايضًا ليس غبيًا حتى لا ينتبه لتلك الإشارات التي تثبت علمها بالأمر:
- هي اللي قالتلك صح؟
توجه نحو بهجة مردفًا بحدة:
- كان لازم افهمها لوحدي اختفائك المفاجيء، ثم ظهورك دلوقتي معاها، شكلي انا اللي كنت غبي وسطيكم، بس اعرف بقى، هي قايلالك من امتى؟
اكتفت بهجة بالصمت تدعي عدم الاكتراث ، لتتولى نجوان مهمة الرد:
- المهم اني عرفت وخلاص ، ودلوقتي بقى بتصرف بحكم مسؤليتي عن البنت المسكينة دي، عشان متتظلمش لو في حاجة جاية في السكة
شخصت ابصاره فجأة باستيعاب لمغزى كلماته ليهتف:
- قصدك انها ممكن تكون حامل؟!
ظهر بنبرته شيء من الهلع اغضب بهجة لتعلق بابتسامة ساخرة خالية من اي مرح:
- للأسف لسة متأكدناش يا باشا، في انتظار نتيجة التحاليل.
اومأ رأسه بتفهم وعلامات القلق احتلت معالمه، لتنتهزها فرصة نجوان في سؤاله:
- واضح ان مكنتش عامل حسابك لشيء مهم زي ده، ووارد جدا حدوثه، السؤال بقى، لو النتيجة طلعت ايجابية، يا ترى تصرفك هيبقى ايه؟
بدى عليه التوتر، وعيناه تتنقل بحيرة فيما بينهما، مما ازعجها بشدة، فقطعت على الفور لحظات الصمت بينهما ، لتسبقه الرد باعنزاز:
- اطمن يا باشا، ومتزعجش نفسك انا في الحالتين عاملة حسابي.
- يعني ايه مش فاهم؟
ردت بحدة:
- يعني ماتشلش هم، انا من اول يوم في جوازي منك وانا مش حاطة اي امل على الاستمرار .
امتقعت ملامحه فجأة وانتفخت اوداجه بغضب شديد، يتقدم نحوها مرددًا بتساؤول:
- يا سلاام وان شاء الله بقى الحلوة حاطة أملها على مين؟
تصدرت امامه نجوان تمنعه عنها؛
- أوقف مكانك هنا اياك تقربلها، والاحسن انك تخرج اساسا، انت ايه اللي جايبك اصلا؟
جادلها يتشاجر معها، اما بهجة فقد غمغمت بذهول ، تستعجب رد فعله:
- دا ماله ده؟ هو انت تنسى وتفتكر على مزاجك؟
ردد بغيظ:
- اه يا بهجة، انا بنسى وافتكر على مزاجي، ومش هسمحلك تتجوزي حد غيري طول ما انا عايش .
همت تثور به مستغلة دفاع نجوان، ولكن منعهم قدوم إحدى الممرضات واستئذانهم في الدخول:
- نتايج التحاليل يا فندم
امرتها نجوان بالاقتراب لتتناول منها النتائج، ثم تصرفها لتطلع عليها امام ترقب الاثنان، حتى رفعت الورقة امامهم قائلة:
- النتايج سلبية
اخرجت بهجة زفرة ارتياح مرددة بالحمد تنتشله من شروده، ليعود لحدته في الحديث:
- شايفك انبسطي اوي، لدرجادي مش عايزة اي حاجة تربطك بيا.
- دا مجنون ولا ايه؟
تمتمت بها لتتناول حقيبتها وتخرج مغادرة على الفور، دون الرد عليه، ليهم هو بملاحقتها، ولكن والدته منعت تجذبه من ذراعه:
- رايح فين قلبي؟ الدكتور منبه انها تريح، وتبعد ان اي شيء يوترها ولا يعصبها، بعد تعب امبارح، يعني خليك مكانك يا حبيبي
تجمد يتطلع لاثرهما واختفائهما من امامه بعدم استيعاب، ليدفع الكرسي بقدمه باستدراك، يتوعد قبل ان يحرك اقدامه ويتبعهما:
- ااه ودا تلاقيه بقى دكتور الهم بتاعك ما انا عارفه، وديني ما انا سايبه، ماشي يا بهجة، ماشي يا نجوان هانم.