رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والعشرون 24 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والعشرون 24 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والعشرون 24 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والعشرون 24
رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والعشرون 24
الفصل الرابع والعشرون
امتلأت معدته بكل ما لذ وطاب، ليتبع ذلك باحتساء فنجان قهوته المفضل، لينتقل ببصره إلى والدته التي لم تكف عن وضع أطباق الحلوى أمامه، فأبدى تذمره لشعوره بالتخمة وعسر الهضم. استلقى "راغب" بعد ذلك باسترخاءٍ على الأريكة، واستطرد في تثاؤبٍ:
-المفروض أروح أبقى جمب الجماعة، هيقولوا إيه عني؟
جلست "نجاح" مجاورة إياه، وقالت في نبرة شبه هجومية وهي تناوله طبقًا وضعت به القليل من الحلوى الشهية:
-ما يولعوا كلهم، ده إنت نفدت بالعافية من الخناقة اللي حصلت هناك، إفرض كان جرالك حاجة؟ كان حد نفعك ساعتها؟
اعتدل في جلسته، وأخذ الصحن منها ليقول بوجومٍ:
-على رأيك، ده كفاية إني لحقت العربية، وإلا راحت فيها، أنا يدوب طلعت على أول الشارع وشوفتهم وهما ماسكين في بعض.
لاك قطعة في جوفه، وتساءل:
-بس هقول لـ "إيمان" إيه؟
أخبرته بسحنةٍ منقلبة:
-مشاكل في الشغل، والمدير استدعاكم، أي حجة وخلاص، وإنت مكونتش عارف ترجع، واللي عندها تعمله.
هز رأسه قائلًا باقتناعٍ:
-ماشي، هفكر في حاجة وأبقى أقولهالها.
تنهدت متابعة في إرهاقٍ، وهي ترفع من صوت التلفاز:
-عقبال ما نخلص من الشبكة السودة دي.
لم يعلق بشيء، وانهمك في تناول الحلوى بشهيةٍ مفتوحة، دون أن يهتم حتى بمهاتفة زوجته للاطمئنان على أحوالها، أو حتى معرفة المستجدات لديها.
......................................
منذ البداية أدرك سر غضبه، وتداركه باختياره الذي بدا صادمًا للجميع؛ لكنه كان راضيًا عنه، فإن كان في وسعه إنقاذ روح بريئة، لما لا تكون هي؟ تطلع "موجي" إلى رفيقه مذهولًا، وهتف بعدما انحل قيده في استنكارٍ جم، وكأنه لا يصدق ما سمعته أذناه:
-إنت بتقول إيه؟ تتجوز دي بعد اللي حصل؟
رد عليه شارحًا بشيءٍ من التعاطف، ويده قد انتشلت السكين لتلقيه أرضًا:
-دي تبقى أختك الوحيدة، اللي كبرت وسطنا، وأنا عارف إنت مربيها إزاي..
افترت شفتاه عن استهجانٍ واضح، فيما واصل رفيقه حديثه الجاد:
-صحيح هي غلطت، بس مامشتش في الحرام، اتجوزت واتطلقت، نصيبها كده، وأنا لما تخلص شهور عدتها هتجوزها.
وكأنه سرد ملخصًا موجزًا لحياتها، فمر كشريطٍ سريع نصب عينيها ليُذكرها بمدى حمقها وسذاجتها التي أودت بها للجحيم. اغرورقت عينا "مروة" بالمزيد من الدموع، وصاحت تستحث شقيقها على أخذ ثأره منها:
-اقـــتلني يا "موجي" وارفع راسك لفوق، وأنا والله مسامحاك.
نهرها رفيقه في اعتراضٍ حاد:
-قــــتل إيه وزفت إيه اللي بتتكلمي عنه؟ أنا بطلب إيدها رسمي منك يا "موجي"، وعايزها تبقى مراتي.
ردت عليه في ألمٍ، والدموع تنساب بغزارةٍ من طرفيها:
-وترضى بالفضيحة؟
أخبرها بتصميمٍ:
-مافيش فضيحة، ده جواز على سنة الله ورسوله....
ثم التف ناظرًا إلى شقيقها مؤكدًا بعزمٍ:
-وقصاد الناس كلها وفي النور.
رد عليه "موجي" بوجهٍ يعكس شعوره بالخذلان:
-والناس هتنسى اللي هي عملته؟
قال في مزيدٍ من الإصرار:
-الناس مابتسبش حد في حاله، النهاردة مركزين معاك، بكرة مع غيرك، خلينا في اللي يهمنا...
بدت نبرته أكثر تأثيرًا عندما أضاف:
-إنت مالكش في الدنيا إلا هي، وأنا مش عايزك تروح في داهية وقدامنا الحل اللي يريح الكل.
صمت "موجي" ولم يتفوه بكلمة، فيما واصل رفيقه الكلام:
-وافق بس ومش هتندم، وأنا أقسملك إني هراعي ربنا فيها.
من على مسافة لا تبدو بعيدة، وقف "كرم" مع أحد أتباعه يراقب الموقف بشيءٍ من الفضول والاهتمام، إلا أنه لم يتدخل مُطلقًا، كان فقط يستمتع بمشاهدة ما يدور من مسرحيات سخيفة، لاستمالة القلب واستعطاف المشاعر، وهذا ما لا يملكه من الأساس. سأله تابعه بجديةٍ:
-رأيك إيه يا كبيرنا؟
رد عليه بملامح صارمة، ونبرة مماثلة:
-اتفرج وإنت ساكت.
قال مومئًا برأسه في طاعة:
-وَجب.
لم ترغب "مروة" في إجبار شقيقها على ما لا يريد، فانحنت لتلتقط السكين بعدما وقعت عيناها عليه، لتشتد قبضتها عليه، وتهتف في صوتٍ عازم، وهي تكفكف بيدها الأخرى دمعها المسال:
-وأنا مش هسيبك تحني راسك من تاني.
وجهت النصل إلى بطنها لتطعن نفسها بضرارةٍ قبل أن يصيح من حولها في ذهولٍ وصدمة، ليسرع "موجي" تجاهها ليتلقفها بين ذراعيه هادرًا في عتابٍ ولوعة:
-عملتي إيه يا مجنونة؟
نظرت إليه بابتسامةٍ باهتة، ورجته:
-حقك عليا ياخويا، قول إنك مسامحني يا "موجي".
بينما صرخ رفيق شقيقها مستنجدًا:
-إسعــاف يا ناس أوام.
لم تهتز عضلة واحدة من وجه "كرم"، والتوى فمه بابتسامة متهكمة، لينتفض تابعه متسائلًا في وجلٍ:
-العمل إيه يا ريسنا؟
بجمودٍ شديد قال:
-مالناش فيه.
بينما أسرع أحدهم بإجراء مكالمة عاجلة لاستدعاء رجال الإسعاف، إلا أن "موجي" كان يفتقر إلى الصبر لانتظار وصولهم، فهتف في لهفةٍ:
-شيلها معايا نشوف أي عربية تنقلنا على أقرب مستشفى.
تعاون الاثنان معًا في حملها، والركض بها نحو أقرب سيارة أجرة بعدما أوقفها أحدهم من أجلهم.
مجددًا تساءل التابع بجديةٍ:
-نروح وراهم يا ريس؟
بنفس الأسلوب الجامد غير المهتم تحدث "كرم" وهو يدس يديه في جيبي بنطاله:
-ما يخصناش الحوار، هما عيلة في بعض، احنا مالنا بيهم.
أومأ برأسه معلقًا:
-اللي تؤمر بيه.
عاود "كرم" أدراجه إلى السرادق ليضيف في عزمٍ:
-فكرني بس لو فضلت "سمارة" عايشة نبعت للمحامي يخلص حوار الجوازة الشؤم دي.
من ورائه ردد تابعه في إذعانٍ:
-حاضر يا كوبارتنا.
بالنسبة له انتهت حكاية شابة أغوتها الحياة بمظاهرها المخادعة، لتبدأ مرحلة أخرى في حياته باقتناص طريدة جديدة قد شرعت في استهوائه.
........................................
وجوه لم تألفها مُطلقًا، وأناس لم تقابلهم من قبل، التقوا بها لتقديم واجب العزاء، فتعاملت باحترامٍ وبغير تكليفٍ مع الجميع، إلا أن بالها ظل مشغولًا بتلك الغائبة التي يتحرق قلبها لوعة لمعرفة أي شيءٍ عنها. لم تحبذ "عيشة" إثارة البلبلة بالإعلان عن اختفائها المفاجئ، فنوعية قاطني هذه المناطق لن يتورعوا عن خلق عشرات الشائعات المغلوطة، تلك التي تمس السمعة والعرض، وادعت كذبًا لتبرير غيابها بأنها في حالة انهيار، ولا تقوى على اللقاء بأحدهم بسبب قلبها المفطور على رحيل والدها الغالي.
انتقلت "إعتدال" للجلوس بجوارها بعدما تجولت هنا وهناك، لتتقصى الأخبار وتتحرى عن المزيد من المعلومات التي تشبع فضولها عن أي شيء وكل شيء.
نظرت إليها "عيشة" متسائلة بعبوسٍ:
-خير يا ست "إعتدال"؟
أجابتها وهي تميل عليها لتتمكن من سماعها وسط الصخب المحيط بهما:
-الواد "كيشو" السمسار عايزك برا، بس مش عارف يخش من الحريم اللي أعدة.
قطبت جبينها متسائلة:
-وده عاوز إيه؟
هزت كتفيها في تحيرٍ، فنهضت بتثاقلٍ من موضعها لتسير بتؤدةٍ نحو الخارج وهي تتلقى المزيد من التعازي الحارة، بالطبع لم تفارقها "إعتدال"، ففضولها استحثها على ملازمتها لمعرفة سبب إصراره على الحديث إليها، إلا أن "عيشة" كانت أكثر فطنة، فصرفتها بلباقةٍ، حيث أوكلت لها مهمة مقابلة المعزيات ريثما تنتهي من حديثها إليه.
وقفت معه بعيدًا عن الضوضاء، وسألته:
-خير يا ابني؟
رد مشيرًا بعينيه نحو زاوية بعينها:
-الريس "زهير" واقف على الناصية محتاج يقولك كلمتين.
استغربت من الأمر، وسألته في استرابةٍ:
-طب ومجاش يقولهم هنا ليه؟
رد بفمٍ مقوس قليلًا:
-مش عارف.
تحركت على مهلٍ تجاهه، ليقف الأخير متحفزًا لرؤياها، سألته بحاجبين معقودين، وعلامات الحيرة تبدو جلية على قسماتها:
-خير يا ابني؟ قالولي إنك طالب تشوفني، في حاجة؟
حرر دفعة ثقيلة من الهواء من رئتيه قبل أن يخبرها دفعة واحدة، وبلا تمهيد:
-"دليلة" بنتك في المستشفى.
لطمت على صدرها صارخة في فزعٍ:
-إيه؟ بنتي؟ جرالها إيه؟
وضع يده على كتفها قائلًا بهدوءٍ، لئلا تثير الأنظار نحوهما:
-ما تتخضيش يا حماتي، دي حادثة بسيطة، حصلت وقع العاركة.
ظلت على لوعتها صائحة في جزعٍ أشد:
-كان مستخبيلنا ده فين..
حادثها بجديةٍ وهو يشير بيده:
-خلصي بس العزا، وأنا هخدك عندها.
عاندته بتصميمٍ:
-أنا مش هسيب بنتي لواحدها.
حذرها بجديةٍ:
-علشان الناس ماتخدش بالها، واحنا مش ناقصين هلفطة على الفاضي.
عادت إلى رشدها، وفهمت ما يرمي إليه من عباراتٍ لتقول باستسلامٍ رغم شعور الخوف المتعاظم بها:
-طيب يا ابني.
وكأن قدماها لا تساعدان إياها على السير، ترنحت في مشيتها واحتاجت إلى العون للعودة إلى السرادق، فاستندت على ذراع "كيشو"، ولسانها لا يتوقف عن التضرع:
-كملها معانا بالستر يا رب، ده احنا ولايا!
.................................
بأعجوبةٍ تمكنت من الصمود والتحمل ريثما انفض الجمع من حولها لتهرع مع ابنتها الكبرى إلى "زهير"، ليصطحبهما إلى المشفى، بالطبع لم يتركهم "كرم"، وأصر على الذهاب معهم ليستفهم منه عما جرى بالتفصيل. وقفت "عيشة" أمام سرير "دليلة" الراقدة عليه بلا حراكٍ، تطالعها بنظراتٍ متحسرة وفزعة، هزت رأسها مرددة بصوتها الباكي:
-عيني عليكي يا ضنايا، ده إنتي وردة مفتحة، كل ده يحصلك.
شاركتها "إيمان" البكاء، وراحت تردد في ندمٍ وأسى:
-أنا السبب يا ريتني كنت منعتها، ولا كان حد اتعرضلها.
من ورائها تحدث "كرم" بسماجةٍ:
-جرى إيه مُزة، مش كفاية ندب بقى، ده حتى مش حلو علشانك!
اشتعل وجهها غضبًا من تعليقه المستفز، وصرخت فيه:
-إنت بتعمل هنا إيه أصلًا؟
قال بتسليةٍ، وهو يغمز لها بطرف عينه:
-جاي أقوم بالواجب، وأنا سيد من يعمله.
صاحت فيه بعصبيةٍ:
-اتفضل من هنا.
على إثر صوتها جاء "زهير" بعدما سدد كافة المستحقات المادية للمشفى، ليتفاجأ ببوادر نشوب مشادة كلامية بينهما، من فوره تدخل في الحال لمنعهما من الصدام:
-تعالى معايا يا كبير.
سحبه إلى الخارج، و"كرم" يبدي اعتراضه المتذمر:
-أنا بس مقدر الظروف، غير كده كان هيبقالي تصرف مش هيعجب حد فيكم.
نفخت "إيمان" بصوتٍ مسموع، وبرطمت:
-أعوذ بالله، مصيبة محدوفة علينا.
دفعه "زهير" دفعًا إلى الخارج لتغلق الباب من ورائهما، وتعود إلى والدتها التي تنتحب في حزنٍ واضح، لتسألها:
-جوزك اتصل؟
هزت رأسها نافية:
-لأ، وطلبته موبايله لسه مقفول.
لم تقل شيئًا؛ لكنها لم تستبشر خيرًا من غيابه المريب، وإن كانت تحاول تكذيب ما يراودها من حدسٍ قوي بشأنه.
.................................
على الجانب الآخر، بدا "كرم" ساخطًا للغاية من تعامل شقيقه بنوعٍ من اللين والرأفة مع من تعد –مجازًا- زوجته المستقبلية، وتمردها عليه كاد يودي بحياة كليهما، إلا أنه أقنعه بأن ما تقوم به ناجم عن إحساسها العميق بالحزن لفجيعتها في والدها، ومع ذلك حذره:
-أنا لحد دلوقت مطول بالي علشان خاطرك، بس يا ريت الحكاية متطولش.
على مضضٍ رد:
-طيب.
سأله في استفهامٍ:
-شكلك هتفضل ملازم السنيورة؟ مش كده؟
أجابه دون أن يظهر أدنى تعبير على وجهه:
-خليني أشوف اللي ناقص وأعمله، ماينفعش أسيبهم لواحدهم، وأكيد واخد بالك من النطع جوز بنتها اللي مجاش.
بغموضٍ مخيف أعلمه، وكأنه يدبر لأمر ما لم يختمر بعد في رأسه:
-النطع ده ليه حوار معايا، بس أخلص من اللي ورايا.
سأله مستعلمًا:
-هتعمل إيه؟
ربت على كتفه قائلًا بإيجازٍ:
-بعدين بقى ..
ثم غمز له بطرف عينه متابعًا بسخريةٍ مبطنة:
-براءة إنت يا حنين لحد ما أنجز مصالحنا المتعطلة.
كان من المحبذ ألا يعقب على تهكمه، فاكتفى بالصمت، وراقبه وهو يغادر الردهة، ليتحول بعدها بناظريه نحو الحائط الزجاجي ليتطلع إلى "دليلة" التي كانت لا تزال على حالتها تلك. زفر الهواء بإرهاقٍ، وهمهم بلا صوتٍ:
-يا ترى هيحصل إيه بعد ما تفوقي؟
.......................................
ترك من احتجزهم بعد المشاجرة الأخيرة، بمن فيهم من نصب نفسه زعيمًا عليهم، يمضون ليلهم الطويل في ترقبٍ وخوف، ليضمن استنزاف قواهم العصبية قبل أن يشرع في محاسبة كل فردٍ على حدا، وبدأ بمن خان عهده، ليكون عبرة وعظة لمن يظن نفسه قادرًا على خداعه.
خلف البيت المتسع، في مكانٍ يبدو كغرفة احتجازٍ، جدرانها رمادية داكنة، خالية من النوافذ، إلا من واحدة علوية، يحاوطها الزجاج، وقضبان من الحديد، بها كراكيب وبقايا أثاث متناثرة بشكلٍ عشوائي عند الأركان، احتشد بعض الرجال حول "عصفورة" حيث تم تقييده من يديه خلف ظهره، بعدما جثا على ركبتيه في وضع ذليل، مهين، منكس الرأس. ظل يصرخ من أثر العدوان الوحشي عليه. طقطق "الهجام" أصابع يديه معًا، قبل أن يبسطهما هاتفًا في صوتٍ أرعب أشد الرجال شجاعة:
-الرحمة دي مش عندي، دور عليها عند غيري.
هتف الرجل يتوسله في ذعرٍ مسيطرٍ عليه:
-يا ريس غلطة ومش هتتكرر.
لم يرأف به، ولم يمنحه نظرة غفران حتى، بل بدا أكثر إصرارًا على تعذيبه حتى النهاية، أقبل عليه وقد تناول سلاحًا ناريًا من أحد أتباعه:
-الغلطة عندي بفورة، ورصيدك في السماح خلص.
ارتاع "عصفورة" في فزعٍ أكبر حين رأى ما بيده، وهدر يستعطفه ببكاءٍ وهو يرتجف كليًا من شدة ارتياعه:
-ده أنا راجلك، دراعك اليمين، طول عمري تحت طوعك.
سحب "كرم" زر الأمان عن سلاحه المعبأ بالذخيرة الحية، وأخبره في هدوءٍ قاتل، وهذا البريق الوحشي يظهر في عينيه:
-دراعي لما يأذيني أقطعه، وإنت خونت العهد.
باتت المسافة الفاصلة بينهما خطوتين، والسلاح الناري مصوب نحو رأسه، مُدركًا الحقيقة المؤلمة، أن عمره أوشك على الانقضاء، استخدم آخر وسائله في استجداء شفقته:
-يا كبير، طب ورحمة "الهجام" الكبير ما ...
لم يتم جملته للنهاية، فقد ضغط "الهجام" على الزناد لتتحرر طلقة غادرة استقرت في رأسه، وفجرتها، لتودي بحياته وتنهيها في التو، انتشرت بركة من الدماء حول الجثة المنكبة على وجهها، بصق عليه "الهجام"، وخاطبه كتحذيرٍ مستتر لمن يقف من الرجال:
-غلطت لما حلفت بيه، راس أبويا محدش يحلف بيها وهو خاين.
من بين المتابعين وقف "ناجي" يشاهد المشهد الدموي بصدرٍ منقبض، فبالرغم من ارتكابه لبعض الأمور المتجاوزة، إلا أنه لم يصل لهذا القدر من الإجرام والوحشية. ارتد للخلف في تلقائية بعد سماع الطلقة رغم توقعها، ردد مع نفسه في شيءٍ من التوجس، ناظرًا إلى قسوته مع الخائنين:
-يا ساتر، ربنا ما يوقعني معاه.
تنبه مرة ثانية إلى صوته وجفل عندما سمعه يأمر رجاله:
-شفوه، وادفنوه.
علق واحد منهم مُطيعًا أمره نافذ الوجوب:
-عُلم.
رجفة غادرة تسللت إلى بدن "ناجي" وقد أبصره مقبلاً عليه، خاصة أن وجهه لم يظهر عليه الندم لقتله، استدعى شجاعته الهاربة، وتكلم في عفويةٍ:
-أجيلك وقت تاني يا كبير لو مشغول؟!
قال "كرم" في هدوءٍ بارد، كأنما لم يزهق روح أحدهم قبل لحظات معدودات:
-لأ، أنا فاضي، دي شوية تسالي كده، لسه التقيل جاي ورا.
بدأ بالسير معه نحو الخارج، ومغادرة حجرة التعذيب تلك؛ لكن اعترض طريقهما أحد الأشخاص، حيث صاح بصوتٍ شبه مندفع، كأنما على عجلةٍ من أمره:
-يا كبير، في حد من طرف حبايبنا من عزبة "العِترة" عاوزك في مصلحة.
في نفسه ردد "كرم" مبتسمًا في ازدراء:
-طبعًا جايين يلحقوا الخروف بتاعهم قبل ما يتعلق...
ثم نظر إليه بتعالٍ، ليخاطبه في كلامٍ مبطن:
-الأهم يقدرني، ساعتها هيلاقيني أنا والرجالة.
ابتسم الرجل معقبًا:
-اعتبره حاصل يا "كوبارة"، هافهم منه إيه الحوار وأرسيك عليه.
لوح له بذراعه مرددًا:
-ماشي الكلام.
حمحم "ناجي" قائلًا ببسمة مهزوزة:
-صيتك مسمع يا ريس.
لم يخفَ على "كرم" رهبته منه، فقد استشعر ذلك منذ اللحظة الأولى التي التقى بها فيه، إلا أنه لم يفضح أمره، لكونه ذو صلة مباشرة بمن يعز عليه. تنفس بعمقٍ وقال منتصبًا بكتفيه في عنجهيةٍ:
-أهم حاجة في شغلانتنا الخِطرة دي هي السمعة، لو راحت، يبقى عليه العوض في الهيبة!
لم يستطع سوى مجاراته في رأيه، وإن كان على غير وفاقٍ معه، فتحدث بعد إيماءة خفيفة من رأسه:
-كلام موزون.
توقف "كرم" عن الحركة لينظر إليه متسائلًا بشكلٍ باغته:
-معلمك جاهز يقابلني؟
ابتلع ريقه، وقال بحذرٍ:
-حدد المكان والزمان، وهتلاقينا حاضرين.
اتسعت بسمته المغترة مرددًا وهو يرفع يده ليوكزه في جانب ذراعه:
-حلو، خلينا على السخان، ونتقابل على آخر النهار، وأنا هبلغك معلمك بالمكان، ماشي الكلام؟
هز رأسه مرددًا:
-تمام يا ريس.
فرقع بعدها "كرم" بإصبعيه ليستدعي أحد أتباعه، فهرول إليه ليأمره:
-وصل ضيفنا برا، لأحسن لسه حفلتنا في أولها، وعايزين ننجز قبل ما نطلع الزيارة.
مغادرة هذا المكان كان بالنسبة له طوق النجاة، انطلق "ناجي" على الفور مسرعًا في خطاه، قبل أن يبصر المزيد من الأمور غير المستحبة على الإطلاق.
.......................................
في مكانٍ مُقفر، وسط تلك الصحراء القاحلة، حيث الفراغ الممتد من مساحات شاسعة، أبطأت سيارتا دفع رباعي من سرعتهما، لتقفا على مقربة من تلك السيارة، ترجل من السيارتين عدد لا بأس به من الرجال المدججين بالسلاح، يتقدمهم "كرم الهجام" بخطاه الواثقة، وعلى وجهه ابتسامة مسرورة، هلل كاسرًا السكوت السائد في هذا المجهول المخيف:
-والله زمــان، أنا مش مصدق عيني.
أتاه صوت "تميم" على نفس القدر من العلو والتحية:
-مرحب بالناس المهمة.
امتدت يده لمصافحة رفيقه، واستطرد قائلًا بزهوٍ لا يخلو من الإعجاب:
-معلم "تميم"، عاش من شافك يا سيد الرجالة.
بادله الأخير المصافحة بعدما تحرك ناحيته لإلقاء التحية عليه مرددًا:
-ريس "كرم".
قهقه ضاحكًا في دهشة مستمتعة قبل أن يعقب وهو يحثه على السير بعيدًا عن الرجال المحاوطين بهما:
-يــــاه، بقالي زمن ماسمعتش الاسم ده منك ...
استغرب "تميم" من عبارته، بينما واصل "الهجام" التوضيح:
-من أيام أبويا الله يرحمه، لدرجة إني نسيت أصحاب زمان لما كانوا بينادوني زيك كده بيه، ده إنت رجعتني لسنين ورا.
علق "تميم" في هدوءٍ حذر، رغم علامات الضيق الظاهرة على محياه:
-الله يرحمه.
استمر "الهجام" في الشرح مبتسمًا بانتشاءٍ؛ وكأن ما يرتكبه من جرائم دموية وسيلته المتاحة للتسلية:
-كل الرجالة بتناديني هنا "الهجام"، أو "كوبارتنا"، وأنا بكرمهم .. بس على طريقتي.
آثر "تميم" الصمت، ولفظ دفعة من الهواء المشحون بغضبه من صدره، فتساءل "كرم" مستفهمًا بتعابير اكتسب طابعًا جديًا مغايرًا لما كان عليه قبل ثوانٍ:
-خير؟ وردني إنك عاوزني في مصلحة.
بنفس الضيق البادي عليه أخبره "تميم" بما يشبه الاعتذار:
-معلش هتقل عليك.
عاتبه في وجومٍ:
-والله أزعل منك لما تقول كده، إنت عارفني، اللي يفديني بروحه، أشيلهاله لآخر العمر.
جال بذاكرة "تميم" لمحة خاطفة من فترة احتجازه بالسجن، حيث تدخل مصادفة في إحدى المرات التي نشب فيها شجارًا عنيفًا بين النزلاء، للزود عن "كرم الهجام"، دون أن يكون على صلة وثيقة به، وقتئذ تمكن من منع أحدهم من وخزه غدرًا بسلاحٍ أبيض، وقام بكسر ذراعه، ليعتبر الأخير ما فعله بمثابة توثيق لرابطة أخوية من نوعٍ مختلف، إن احتاجه يومًا وجده إلى جواره. نفض الذكرى عن عقله مؤقتًا، وهتف في غير ابتسامٍ:
-تسلم، ده العشم برضوه.
أخرج "كرم" المظروف الأبيض من جيب بنطاله، وأعاده إليه قائلاً:
-اتفضل.
تناول "تميم" الظرف المألوف منه، ونظر إليه متسائلًا في تعجب:
-إيه ده؟
أجابه مقتضبًا وهو يومئ له بعينه:
-عربونك.
تساءل مرة أخرى في استغرابٍ أكبر:
-بترجعه ليه؟
أخبره باسمًا:
-يا سيدي اعتبر المصلحة اللي عاوزها تحية مني ليك، ده كفاية إني شوفتك.
رفض مُبديًا تصميمه:
-لأ معلش، الاتفاق اتفاق.
عارضه في صوتٍ هادئ، ينم عن محبة وأخوية قوية:
-معاك إنت، تؤمر تُطاع.
أصر عليه في جديةٍ شديدة:
-ده شغل، ومايزعلش حد.
هتف "كرم" معترضًا بعنادٍ:
-لأ يزعلني أنا، ده أنا مرضتش أكسف الراجل بتاعك، وقولت دي فرصة حلوة أشوفك فيها ...
ثم وضع يده على كف "تميم" ليجبره على إخفاضها قائلاً:
-عين فلوسك في جيبك.
رفع ذراعه للأعلى متجاوزًا يده، وقال رافضًا:
-لأ، لو مخدتهومش هاعتبر المصلحة ملغية.
بدا التردد ظاهرًا على وجهه، فتابع "تميم" بنفس النبرة المُصرة:
-اعتبره عرق الرجالة، ده حقهم.
صمت لحظيًا، كأنما يفكر في الأمر، واضعًا يده على طرف ذقنه يفركها للحظاتٍ، قبل أن ينطق في نهاية الأمر، وبابتسامة تعلن قبوله لعرضه:
-مش هردك.
أعاد الظرف إلى جيبه، ثم تساءل في نبرة مهتمة:
-ها، مين اللي عليه العين، وخلاك تقابلني؟
غامت عينا "تميم" بشكلٍ مخيف، وأخبره بعد زفيرٍ سريع، بجزءٍ لا يضاهي أبدًا ما يكبته في صدره من غليلٍ حارق:
-واحد عاوزك تجيبه عندك، يتمنى الموت ومايطلوش.
هز رأسه معلقًا في ترحيبٍ؛ كأن المسألة لا تعني شيئًا له:
-بسيطة، لو عاوزني أشفِّيه كمان ده موجود.
توحشت نظرات "تميم"، وصارت أكثر إظلامًا، عندما خاطبه بحنقٍ متصاعد:
-الموت راحة ليه، وأنا مش عاوزه يرتاح.
تكلم "كرم" في ثقةٍ عارمة:
-اديني اسمه، وعنوانه، وهتلاقيه مشحون في ظرف كام ساعة عندي.
نظر إليه "تميم" بغموضٍ، فأكد له بنفس النبرة الواثقة:
-وشغل نضيف، من غير شوشرة، ولا سين وجيم.
استحسن الأمر، فقال موجزًا:
-حلو الكلام.
انتصب "كرم" بهامته السامقة، والتفت ناظرًا إلى رجاله المجتمعين على مسافة بضعة أمتار، ليضيف في غرورٍ:
-إنت عارف شغلي، يحير المتحير، ومش أنا اللي هاقولك.
حاول الابتسام مجاملاً، فبدت بسمته متكلفة إلى حدٍ كبير، وهو يعلق:
-طبعًا، مش كبير "الهجامة"!
ضحك في استمتاعٍ، وهتف من بين ضحكاته المسرورة:
-أومال!
تساءل بعدها "تميم" في اهتمامٍ:
-وأخوك عامل إيه دلوقت؟ اتخرج من كليته؟
أخبره في تفاخرٍ:
-إنت لسه فاكر، "زهير" خلص من زمان، وبجهزه يبقى خليفتي في الملاعب، ولو إنه مش زيي.
جاء تعقيبه صائبًا في وصفه:
-إنت ملكش زي يا "هجام".
مرة ثانية ضحك وهو يرد:
-على رأيك يا ابن الحاج "سلطان".
أوصــاه "تميم" في جديةٍ تناسبت مع ما ينعكس على ملامحه:
-خد بالك منه، العيلة ضهر وسند.
أومأ برأسه مؤكدًا:
-اطمن، أنا أفديه بكل حاجة، وده اللي مخليني ساكت عن حنيته وطيبة قلبه الزيادة.
علق عليه باسمًا:
-مش بقولك إنت ملكش شبه ولا زي.
أشــار إليه "كرم" بيده متابعًا:
-طب تعالى أقوم معاك بواجب الضيافة.
اعتذر منه بلباقةٍ:
-معلش ورايا مشاغل.
في وجومٍ طفيف استطرد:
-إنت كده هتزعلني؟
أتى رده دبلوماسيًا كعادته:
-يا سيدي نقعد سوا لما المصلحة تتقضى.
في نفس أسلوبه المتباهي أكد عليه:
-دي في كلمة ونص تخلص.
هز رأسه مرددًا:
-عارف، أد القول...
ثم مد يده لمصافحته مودعًا إياه:
-ماشي يا كبير "الهجامة"، نتقابل على خير.
أتم جملته ساخرًا:
-أو على شر، إنت عارف ما بيفرقش معايا.
مازحه "تميم" قائلًا بشيءٍ من الدعابة:
-ربنا يكفينا شرك، احنا مش أدك.
على غير طبيعته الصارمة، قابل "كرم" ممازحته الصادقة بمرحٍ معتاد بينهما، ورد عليه، وتلك الابتسامة العريضة تظهر بشكلٍ جلي على محياه:
-على رأيك، ده أنا بلوى للي أحط عليه .....................!!!
...............................................