رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والعشرون 25 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والعشرون 25 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والعشرون 25 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والعشرون 25
رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والعشرون 25
الفصل الخامس والعشرون
أُخمِدت نيران الجسد، وانطفأ لهيب الشوق والرغبة بعد لحظات مثـــيرة من اللقاء المفعم بالتوق والاشتياق، فاستلقى على ظهره على الفراش يلتقط أنفاسه، لتظل "وِزة" تداعب صدره الناهج بأناملها الناعمة، وهي تملأ أذنيه بمعسول الكلام، حتى بات يتلهف بشدة للبقاء في أحضانها مدة أطول مقارنة بنفس حالته مع "توحيدة"، وكأنها تملك مفاتيح سعادته الخالصة.
استغلت "وِزة" ما تملك من فِتنة مغرية للاستحواذ على عقله، وتطويع مشاعره طوع بنانها، فأصبحت متأكدة من مقدرتها على التأثير عليه، واستمالة رأسه تجاه رغباتها دون مجهود يُذكر. انتظرت ريثما هدأت موجة انفعالاته الشبقة، لتهمس له بحذرٍ:
-سي "عباس"، أنا كنت عايزة أقولك على حاجة مأجلاها أديلي كام يوم.
استرعت طريقتها انتباهه، فسألها بتكاسلٍ وهو يخلل أصابعه في يدها:
-إيه هي؟
رفعت رأسها للأعلى لتنظر إليه عن قربٍ وهي تجيبه:
-فاكر يوم عزا نسايب كوبارتنا؟
زوى ما بين حاجبيه قائلًا باقتضابٍ:
-أيوه.
عضت على شفتها السفلى، وخفضت من نبرتها قائلة بربكةٍ مفتعلة:
-"توحيدة" كانت ناوية تعمل فضيحة وقتها.
شعرت بتصلب جسده وهو يهتف بتحفزٍ:
-مش فاهم.
رمشت بعينيها قائلة على نفس النحو الغامض الباعث للريبة:
-هقولك، بس أحلفك بالله ما تزعل مني، أنا بس مرضتش أعمل مشاكل ساعتها.
في التو اعتدل في رقدته، وزَعَق فيها بغير صبرٍ:
-ما تنطقي يا بت في إيه؟
ها قد واتتها الفرصة على طبق من ذهب، فأفرغت ما في جعبتها مستعينة بأساليب المَسكنة، وما على تلك الشاكلة لتنجح في إقناعه بفداحة جريرتها، ولتدعم صدق روايتها، جعلته يشاهد ما تملك من تسجيل مرئي، ليتأكد تمامًا من تورطها في هذه المكيدة المدبرة.
كز "عباس" على أسنانه مدمدمًا في غيظٍ:
-يا بنت الأبــــالســة!
بحرفيةٍ ومكر استدعت "وِزة" دموع التماسيح لتخبره:
-شوفت بقى، علشان تصدقني لما أقولك إنها بتكرهني، ويا ريت الحكاية كانت على أدي، مكونتش والله هزعل، بس الفضايح كانت هتمس كبيرنا وسط ناسه وعزوته.
في عصبيةٍ ظاهرة عليه، أزاح الغطاء عنه، ونهض من على الفراش ليرتدي بنطاله صائحًا بتوعدٍ غاضب:
-يومها مش فايت.
لحقت به قائلة بحزنٍ مصطنع، وهي تنحني لسحب مئزرها الحريري من على الأرضية لترتديه على قميص نومها المكشوف:
-إنت رايح فين بس يا سي "عباس"؟
أمسك بمقبض الباب، وأدار رأسه تجاهه ليخاطبها في عزمٍ، وهذه النظرة التي لا تبشر بخيرٍ تثور في عينيه:
-هربيها الأول، قبل ما أبلغ الكبير باللي عملته.
وضعت يدها على منبت ذراعه ترجوه في دلالٍ:
-بلاش يا سي "عباس"، أنا مسامحة، هي عدت على خير.
أبعد يدها عنه بخشــــونةٍ طفيفة قائلًا بما لا يبشر بخير:
-واحنا مابنسامحش!
ما لبث أن التمعت تلك النظرة اللئيمة في عينيها وهي تتوقع وقوع أكثر من تبغض في شر أعمالها، وهي تستحق ذلك بالفعل!
.................................
مدفوعًا بغضبه المشحون مسبقًا، انطلق بخطواتٍ متشنجة نحو الصالة، لم يستحِ أو يشعر بالحرج وقد خرج من الغرفة عاري الصدر، لتأتي صيحته الأشبه بزمجرة أسد غاضب حينما هتف مناديًا:
-إنتي يا "توحيدة" الكلب!
فيما تعمدت "وِزة" ألا تظهر في المشهد إلا بعد عدة لحظاتٍ، ريثما تتأكد من انـــدلاع شرارة المشاجرة بينهما.
على إثر صوته الجهوري، المصحوب بإهانته الفجة، انتفضت "توحيدة" قائمة من على الأريكة، لتنظر إليه مصدومة قبل أن تسأله في نبرة لائمة، متعمدة تجريده من لقبه الذي اعتادت أن تردده قبل اسمه:
-بتغلط فيا يا "عباس"؟
اجتمعت نساء المنزل لمشاهدة الصدام بين الاثنين في فضولٍ، ولم تجرؤ إحداهن على التدخل، بل اكتفين بالمشاهدة، وترقب ما ستؤول إليه الأمور بين الثنائي الحانق.
وقف "عباس" قبالتها هادرًا بنفس الصوت الغاضب وهو يطوح بيده في الهواء:
-وفي اللي جابوكي كمان.
وضعت "توحيدة" يدًا على منتصف خصرها، ورفعت الأخرى وألصقتها بجبينها لتخاطبه بما يشبه الازدراء وهي تهز جسدها كأنما تهزأ به:
-الله! الله! طب ليه كده؟ ما كنا حبايب...
ثم انتقلت ببصرها إلى "وِزة" لتكمل جملتها المحملة بإهانةٍ صريحة:
-ولا إنت بقيت خلاص رامي ودانك للـ.... دي؟!
رد عليها في تحيزٍ شديد:
-الـ ...... دي تبقى مراتي يا ......!
سرعان ما خفضت يدها لتدق على صدرها لاطمة وهي تصيح به:
-يا نصيبتي! بتهيني كمان؟
قبض على ذراعها، واعتصره تحت أصابعه في قوةٍ وهو يتوعدها:
-ويا ريتها تقف على أد كده، ده أنا هحط عليكي لما تقولي ارحمني!
بدهاءٍ خبيث، ارتمت "وِزة" عند قدميه، لتمسك ببنطاله ترجوه، وهي تتصنع البكاء:
-خلاص يا سي "عباس"، علشان خاطري أنا.
تجاهلها تمامًا، وحدق بعينين ناريتين في وجه "توحيدة" التي تحدته في حنقٍ:
-فوق لنفسك يا "عباس"، ما تنساش أنا مين.
امتدت يده الأخرى لتطوق عنقها من الخلف، وقربها منه قائلًا بشراسةٍ:
-وأنا هعرفك أنا أبقى مين يا .....!!
في إهـــانة أشد، أجبرها على الانحناء للأمام بالضغط على عنقها بما يملك من قوة ذكورية، ليدفعها بغلظةٍ نحو غرفتها الأخرى، قاصدًا إذاقتها ألوان العــــــذاب على طريقته، لتنهض "وزة" بكسلٍ من جلستها، وهذه الابتسامة الشامتة تزين محياها. نظرت بطرف عينها إلى "خضرة" التي وجهت إليها إصبع الاتهام مباشرة:
-خربتيها وأعدتي على تلها؟
رمتها بنظرة باردة قائلة بتشفٍ:
-خليها تدوق شوية من اللي عملته فيا وفي غيري!
وما هي إلا لحظات واستمع الجميع لصوت صرخات توسل واستجداء من "توحيدة"؛ لكن لا مغيث لها! فيكفي أنها وقعت مع أحد معـــدومي القلب ومنزوعي الرحمة والشفقة حينما ينقلبوا على أحدهم.
....................................
في إحدى زوايا المشفى، وقف مستندًا بذراعه على الحائط الرمادي، يُطالع بعينين ثابتتين إحداهن، ويده الأخرى الممسكة بهاتفه المحمول تلتصق بأذنه، ليأتي صوته الأجش مخاطبًا الطرف الآخر فيما يشبه الانزعاج:
-أنا وردني خبر إن اللي عليه العين اتكل، ملحقتش أوجب معاه.
استمع إلى صوت زفرة "تميم" البطيئة قبل أن يجيء صوته مهمومًا:
-أها .. ما أنا عرفت.
تابع "الهجام" كلامه قائلًا بعزم، وقد استدار ليرتكن بظهره على الحائط:
-طيب بما إن المصلحة اتفركشت، عاوز أقابلك عشان أرجعلك العربون وآ...
قاطعه "تميم" رافضًا بلباقةٍ:
-لأ خلاص، دول طلعوا من ذمتي، مش عاوزهم.
أصر عليه في إلحاحٍ:
-لأ ماينفعش، أنا لازمًا ...
قاطعه رفيقه مرة ثانية مبديًا تصميمه:
-مافيش داعي، كفاية إن الليلة خلصت على أد كده.
ضحك "كرم" للحظة قبل أن يقول مازحًا:
-طول عمرك ابن أصول، وملكش في شغلنا ولا سكتنا.
من جديد سكت "تميم"، ليقطع ذلك الصمت الإجباري ممازحًا:
-نتقابل بقى على خير، ولو إني عارف إن لو اتقابلنا تاني هيبقى على شر.
أتبع ذلك ضحكة قصيرة، ليضيف أخيرًا مختتمًا المكالمة:
-وماتنساس، لو عوزتني في أي وقت، إنت عارف هتوصل لكبير "الهجامة" إزاي.
سمع زفرة أخرى من الهواء ليتبع ذلك قوله المقتضب:
-أكيد.
كان آخر ما نطق به "كرم" قبل أن يغلق الخط:
-سلام يا سيد المعلمين.
ليدس بعدها الهاتف في جيبه، ويتأهب للتحرك تجاه من شغلت لبه مؤخرًا، وبات أكثر اهتمامًا بشأنها.
.......................................
كانت "إيمان" تقف بالقرب من سلم الدرج الذي يصل بين طوابق المشفى، اشتدت قبضتها على الدرابزين، فيما عبست قسماتها وهي تصغي لحجج أخرى جديدة من زوجها الذي أصبح يتجنب التواجد معها بشكلٍ ملحوظ، خاصة مع تأزم الوضع، واضطرار شقيقتها للبقاء تحت الرعاية الطبية بعدما امتدت غيبوبتها لما يقرب من الأسبوع. تسربت حمرة شبه غاضبة إلى بشرتها حينما سألته هاتفيًا في ضيقٍ:
-برضوه مش هتعرف تيجي؟
اعتذر منها كالعادة:
-أنا أسف يا حبيبتي، أنا ملبوخ جدا، والمدير مكلفني بشغل أد كده، وسفر من مكان للتاني.
هتفت مستنكرة، وهي بالكاد تكافح لخفض نبرتها قبل أن تنفجــــر فيه:
-ووسط مشاغلك دي كلها ما بتفضاش خمس دقايق تكلمني فيهم حتى؟!!!
قال بهدوءٍ مغيظ:
-حقك عليا، لما أرجع هعوضك...
لئلا تزيد من ثورتها عليه سألها باهتمامٍ زائف:
-"دليلة" عاملة إيه؟ في جديد؟
ردت بعد زفيرٍ مسموع:
-لسه، أدينا معاها في المستشفى، ومستنين نشوف هيحصل إيه.
قال في تفاؤلٍ:
-إن شاءالله هتبقى كويسة.
ضغطت على شفتيها قائلة:
-يا رب.
سمعته يخبرها بنبرة متعجلة:
-معلش مضطر أقفل، عندي اجتماع، هكلمك تاني.
على مضضٍ غمغمت:
-طيب.
أنهت المكالمة، ووضعت الهاتف في حقيبتها، لتظل باقية للحظاتٍ في موضعها محاولة استعادة هدوئها السابق قبل أن تعود إلى والدتها. التفتت مستديرة للناحية الأخرى لتتفاجأ بوجود "كرم" خلفها، انزعجت من حضوره السقيم، وبادرت بمهاجمته في تحفزٍ، وعلامات الوجوم تملأ سحنتها:
-إنت واقف كده ليه؟!!
التوى ثغره بابتسامةٍ متهكمة قبل أن يعلق ساخرًا:
-الحيطة المايلة مجاش برضوه؟
اتسعت عيناها في حدةٍ، وصاحت به ملوحة بيدها:
-وإنت مالك تتدخل في شئون حياتي ليه؟
غمز لها بطرف عينه مرددًا بعبثيةٍ:
-بوعيكي يا حلوة تبصي كويس وتشوفي فين مصلحتك.
نفخت عاليًا قبل أن تهمهم في سأمٍ:
-اللهم طولك يا روح.
أنقذها من التشاحن معه نداء والدتها من مسافة لا تبدو بعيدة عنها:
-تعالي يا "إيمان"، عايزاكي.
سددت له نظرة احتقارية قبل أن ترد بإهانةٍ مبطنة:
-حاضر يا ماما، لأحسن الجو بقى خانقة والواحد مش ناقص.
شيعها بنظرة غير مريحة وهو يخاطبها باسمًا بسماجةٍ:
-بكرة الجو يفك، زي ما كله بالحنية بيفك!
لم يطل في سخافته معها، لظهور شقيقه في الأرجاء، فركز بصره عليه عندما سأله:
-خلصت مصالحك؟
جاوبه وهو يفرك مؤخرة عنقه:
-كان في طالعة وصاية لواحد حبيبي، بس قضا ربنا نفذ، والمصلحة طارت، فقولت أفوت عليك أطمن على أحوالك.
لم يبدُ "زهير" ساذجًا ليصدق جملته الأخيرة على وجه الخصوص، وعلق في تشكيكٍ:
-أنا برضوه؟
ضحك بسخافةٍ معقبًا بنبرة موحية:
-إنت واللي منك.
فهم ما يرمي إليه دون الحاجة للمزيد من التوضيح، فقد لاحظ تربصــه بشقيقة خطيبته، وملاحقتها كظلها في كل فرصة تسنح له ليزعجها بشكلٍ واضح، وكأنه يحاول فرض شخصه عليها، وهذا لا ينم عن نوايا بريئة! شتت نظرته المنزعجة عنه مجيء إحدى الممرضات لتخاطب حماته وابنتها، ليسمع بعدها تهليل "عيشة" المبتهج:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب، أنا عايزة أشوف بنتي.
-الدكتور قال هيفحصها الأول وبعد كده هنخش عندها.
تيقن أن "دليلة" قد عادت لوعيها، فأصبح هو الآخر متلهفًا لرؤيتها؛ بالكاد كبح نفسه، وانتظر على أحر من الجمر السماح لرؤيتها.
.......................................
مرت الدقائق كأنها ساعات، فأخذت "عيشة" تفرك كفي يدها معًا، وتدعو الله في سرها أن تأتي البشارة مثلجة لصدرها، فتبدد القليل من حزنها الجاثم على قلبها عندما أبصرت ابنتها في وعيها، وتنظر إليها بابتسامةٍ لطيفة، أقبلت عليها لتحتضنها وعيناها تفيضان بالدمع المتأثر:
-حمدلله على السلامة يا حبيبتي.
انهالت على وجنتيها بعشرات القبلات الأمومية، لتحتضن وجهها بين راحتيها هاتفة:
-ألف بركة إنك بخير.
سألتها "دليلة" في شيءٍ من التخبط:
-هو إيه اللي حصل؟
أجابتها بصدرٍ ناهج:
-كل خير يا ضنايا، المهم إنك فوقتي، وبكرة تقومي بأمر الله تقفي على رجلك.
اكتفت بهز رأسها، ومررت عيناها سريعًا على المتواجدين بالغرفة، بدت بعض الوجوه غير مألوفة لها، فلم تعبأ بهم، وتساءلت بشكلٍ عفوي:
-أومال بابا فين؟ مش معاكم ليه؟
كتمت "عيشة" شهقة ملتاعة ممزوجة بصدمةٍ كبيرة، فيما رددت "إيمان" بذهولٍ أعجب:
-بابا!!!
ليأتي تعليق "كرم" فجًا بعض الشيء:
-راح للي خلقه يا حلوة!
تحولت بعينيها تجاهه، وهتفت بحاجبين معقودين:
-نعم؟!
مسحت "عيشة" دمعها بظهر كفها، وأخبرتها على مهلٍ بما يشبه التساؤل:
-أبوكي مات يا ضنايا، إنتي نسيتي ولا إيه؟
وكأنها ألقت بدلو ماء مثلج فوق رأسها، حملقت فيها بعينين مفتوحتين على سعتهما صارخة في إنكارٍ جلي:
-إزاي مات؟ إنتو بتقولوا إيه؟
ثم جالت بعينيها على أوجه من يتطلعون ناحيتها بتعابيرٍ متفاوتة، لتكمل على نفس النهج المستهجن:
-ده كان لسه معايا بيعرفني الطريق للكلية بعد ما عزلنا.
بكت والدتها وهي تخبرها في أسى، لعلها تزيح الغشاوة التي تحجب الحقيقة عن ذهنها:
-الكلام ده فات عليه ياما.
أضاف "كرم" بنفس الأسلوب الجاف غير المبالي:
-أبوكي ميت من كام يوم، معقولة كل ده اتبخر من دماغك؟
سدت أذنيها عما اعتبرته لغوه الكاذب، وصرخت في استنكارٍ شبه مهتاج:
-متقولش كده، إنت كداب، بابا كويس!
وكأنه يستلذ بإزعاجها، فأخبرها ببرود وهو يشير إلى كفيه:
-ده أنا اللي دافنه بإيدي.
هزت رأسها هادرة بجنونٍ:
-أنا عايزة بابا.
حاولت والدتها تهدئتها، فأمسكت بها من رسغيها لتخفضهما وهي ترجوها بصوتٍ مختنق:
-متعمليش كده في نفسك يا حبيبتي.
بشيءٍ من القوة نفضت يديها عنها، وصاحت في عنادٍ، لتتأهب للنهوض من رقدتها:
-حاسبي يا ماما، أنا لازم أروحله.
جاهدت لإعادتها إلى مكانها قائلة برجاءٍ أكبر:
-اسمعيني بس الأول.
لم تكن لتنجح في تثبيتها بمفردها، فتدخل "زهير" من فوره لإحكام تقييدها بالفراش، حيث طرح يديها على الوسادة، وضغط عليهما بقوةٍ طفيفة وهو يأمرها:
-اركزي.
شخصت عيناها تجاهه، وسألته في عداءٍ:
-إنت مين أصلًا؟ وليه ماسكني؟
تحرك "كرم" ليقف عند الجهة الأخرى من الفراش، لصبح مجاورًا لـ "إيمان"، قبل أن يقول متهكمًا:
-نسيتي خطيبك كمان؟
نظرت ناحيته للحظةٍ لتدير عينيها نحو "زهير" هاتفة في إنكارٍ:
-خطيب مين؟ أنا معرفكش!!
دون أن يحيد بعينيه بعيدًا عن "إيمان" تكلم "كرم" في سخافةٍ:
-مخها فوت على الآخر، يرضيكي كده يا حلوة؟
تجاهلته مرغمة، لتولي كامل انتباهها إلى شقيقتها التي كانت تزأر وتزمجر في حدةٍ:
-ابعد عني، ما تلمسنيش!
ظنت "عيشة" أن وضع ابنتها قد ساء، فأمرت الكبرى في لهفةٍ:
-نادي على الدكتور يا "إيمان" الله يسترك.
........................................
بأعصابٍ متلفة دارت حول نفسها في الردهة تترقب خروج الطبيب من غرفة ابنتها ليُطلعها على أخر ما استجد عليها، كانت هيئتها الهائجة مفزعة، تثير في نفسها المخاوف، لم تكف "عيشة" عن التفكير بتشاؤم أو الحركة بتوترٍ إلا حينما تقدم ناحيتها، لتهرع إليه تسأله في جزعٍ:
-بنتي مالها يا دكتور؟
بأيسر الكلمات وأبسطها استطرد شارحًا طبيعة وضعها الطارئ:
-هي بتعاني من فقدان مؤقت للذاكرة، وده طبعًا راجع لتأثير الحادثة اللي تزامن وقت وقوعها مع الظروف النفسية اللي كانت بتمر بيها، فبتخلي العقل يعمل زي حجب مؤقت لبعض الذكريات المؤلمة، كنوع من الحلول لتجاوز الأزمة.
سألته "إيمان" في نبرة جادة:
-يعني هتقدر تفتكر اللي نسيته؟
قال بهدوءٍ وبعد صمتٍ لحظي:
-مش بين يوم وليلة، بس اللي أقدر أقوله إنها هتبدأ تسترجع لمحات من الأحداث على فترات لحد ما تستعيد ذكرياتها المنسية.
لطمت "عيشة" على صدرها مرددة:
-كان مستخبيلها ده فين بس؟
فيما تساءلت "إيمان" باهتمامٍ أكبر:
-والمطلوب مننا إيه يا دكتور؟
رد فيما يشبه النصيحة:
-حاولوا تهيأوا بيئة نفسية سوية ليها، وتعرضوها على حد متخصص يتابع معاها، وأهم حاجة ما تحسسوهاش إنها مش طبيعية.
هز رأسها في تفهمٍ وهي تخاطبه:
-حاضر يا دكتور.
استأذن بعدها بالذهاب:
-عن إذنكم.
أشارت له "إيمان" بيدها في تهذيبٍ:
-اتفضل حضرتك.
لتنهار "عيشة" جالسة على أقرب مقعد مولولة في حسرةٍ:
-كبدي عليكي يا بنتي، محسودة من يومك.
في خطواتٍ متباطئة تبعت "إيمان" والدتها، وجلست تجاورها وهي تردد في صدمة:
-أنا مش قادرة أصدق اللي حاصل مع "دليلة".
بينما تابع "كرم" و"زهير" ما فاه به الطبيب دون تعليق مباشر، لينزوي الأول بشقيقه الأصغر بعيدًا عن المرأتين، فاستند بكفه على كتفه قائلًا بلؤمٍ:
-جيالك الفرصة على الطبطاب، البت ناسية كل حاجة...
تعمد أن تكون نبرته خافتة إلى حدٍ ما وهو يوصيه غامزًا بطرفه:
-تقدر إنت تعمل عليها حوارات وأفلام وتكمل جوازك منها بدون وجع دماغ، ولا إنت رأيك إيه؟
للغرابة استحسن "زهير" ما اقترحه، فاستحوذ على نظرته شيئًا غامضًا، ليقول بعدها بعزمٍ وهو يومئ برأسه:
-معاك حق، وأنا فعلًا لازمًا أخلصه ................................... !!