رواية لانه موسي الفصل الرابع 4 بقلم ماهي احمد

رواية لانه موسي الفصل الرابع 4 بقلم ماهي احمد

رواية لانه موسي الفصل الرابع 4 هى رواية من كتابة ماهي احمد رواية لانه موسي الفصل الرابع 4 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لانه موسي الفصل الرابع 4 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لانه موسي الفصل الرابع 4

رواية لانه موسي بقلم ماهي احمد

رواية لانه موسي الفصل الرابع 4

              🍂   أَكَاسِيا   🍂
𝓣𝓱𝓮 𝓪𝓬𝓪𝓬𝓲𝓪 𝓽𝓻𝓮𝓮 𝓲𝓼 𝓪 𝓹𝓸𝓮𝓶 𝓸𝓯 𝓽𝓲𝓶𝓮 𝔀𝓱𝓲𝓼𝓹𝓮𝓻𝓲𝓷𝓰 𝓽𝓱𝓻𝓸𝓾𝓰𝓱 𝓲𝓽𝓼 𝓵𝓮𝓪𝓿𝓮𝓼 𝓽𝓱𝓮 𝓼𝓮𝓬𝓻𝓮𝓽𝓼 𝓸𝓯 𝓵𝓸𝓿𝓮 𝓪𝓷𝓭 𝓮𝓽𝓮𝓻𝓷𝓲𝓽𝔂.
شجره الأكاسيا ، قصيدة زمن تهمس عبر أوراقها بأسرار الحب والخلود 
تَأرجَح القِدح لِلحظاتٍ كَأنهُ يَتَردد بَينَ السقُوط والثَبَات نَحو الأَرضيِه ، فَانَتشرت أجزَائه كَحبات  المَطر الَهوجَاء ، لِم يَستمع أحد لِتَهشُم تِلكَ العَضله التي بَاتت تَضُخ الدَم بِداخلهُ بِأنفِعاليه ، أتَكأ " طه" بِجَسدُه الهُلامي عَلى طَرف طَاولة الأَفطَار يُحدق فِي الفَراغ بِمحجريهِ الدَاميَان 
أَتت " وِدَاد" من الدَاخل بِخطواتٍ سَريعه كَأنها تُحاول اللِحاق بِشىء لاَيُرى ، تَجمَدت  فِي مكَانها للحظاتٍ، عينَاها تَمسِحان المَشهد أمَامها
القِدح المُهشم، السَائل المتَسرب عَلى الَأرض، وَولِيدها الجَالس فِي مُنتصف الفَوضى، وجهُه شَاحب ونَظراتُه مُعلقه بِشيء بَعيد لا تَراه
اِقتَربت منُه بِخطواتٍ حَذره، والحيِره مُرتَسمه علَى ملَامِحها:
"مالك يا طه؟ وشك أصفر ليه كده "
لَم يَرد كَان ذِهنه غارقًا في صَدى آخر حَديث دار بِينه وبيَن " عمر " ،صَوته لا يَزال يَتردد داخلُه، مرتجفًا، هشًا:
"نعيمه لو فعلاً شكت فيا، فـأنا مش هقدر أروح لها تاني... كل اللي عملناه راح يا طه."
نَادت عَليه مرةٍ أُخرى، هَذه المَره بِصوتٍ أكثَر قلقًا:
"طه،  رد عليا، إيه اللي كسر الكوبايات كده"
انَتفض كَأنه انتُشل مِن أعمَاق أفكَاره، لَم يَلتفت إليها مباشرةً، فَقط أدرك صَوت الأذَان يَعلو مِن بعَيد، فَتمتم بِشرود:
"إيه... لا، أبداً يا أمي مافيش حاجه ،أنا هاروح أصلي الجمعه "
نَهض سَريعًا واتَجه نَحو البَاب، ووالدتهُ تَسير خلفهُ، تُحاول اللِحاق بِخطواته المُرتَبكه ، تُحاول انِتزاع إجابه مِنه:
"فهمني مالك طيب،  لونك مخطوف كده ليه"
قَابل سؤالها بِالصَمت ،دَخل الحَمام وأغَلق البَاب خلفَه، شَهقت " وداد" ليُلجم لِسانها حَالما أطَبق أبنها البَاب في وجهَها ، اسَتند " طه " للٓحظه على الحِائط، ثُم رفَع رأسهُ ليِنظُر في المَرآة حدٌق في انعِكاسهُ بِعينين مضطربَتين، بِالكاد تعَرف عَليهما مَرت لَحظه، ثم همَس لِنفسه بِصوتٍ خَافت، مُتردد:
"طيب... والعمل"
رَفع يَده إلى وَجهه، أَخذ نفسًا عميقًا  يَغمض عيِنيه، ثم فَتحهما مجددًا وكَأنُه يُطمئن نَفسه:
"اهدى يا طه... فكر... كل حاجه وليها حل
❆.                  ❆.                  ❆.                ❆. 
يَسيرُ " طه "  بخُطوات هادئه نحو المسجد، يُغمرُ الحَاره أجواء يوم الجُمعه، بأصوات الأذان، والبيوتُ تتسللُ منها رائحةُ البخور، الأطفالُ يَلعبون في زوايا الحاره ، يَركضون بين الرجال المُتجهين للصلاه، والباعه يُنادون على بضائعِهم بصوتٍ مُنخفض احترامًا ليوم الجُمعه ، وكأنَّ الحَاره كلَّها تتنفسُ الجُمعه في كل زاويةٍ منها 
تردَّد صدى خُطواتِ " طه " الخفيفةِ داخلَ المسجد، وهو يَنزعُ حذاءَه عند العتبه، ثم مضى بخُطواتٍ هادئةٍ حتى استقرَّ في زاويةٍ بعيده، مُسنِدًا ظهرَه إلى الحائطِ البارد ألقى نَظرةً على حَلَقاتِ المُصلّين المُتناثره في أنحاءِ المكان، قبل أن يَلفت انتباهَه ذلك الجمعُ الصغير، حيثُ جلسَ الحاجُّ " رحيم " في وسطِ دائرتِه المعتاده ، يُحيطُ به رجالٌ في مثلِ سنِّه، وجوهُهم غارقه في تجاعيدِ الزمنِ وحكاياتِه.
تناهى إلى سمعِه صوتُ أحدِهم، يَتحدثُ بلهجةٍ يثقّلُها الحنين:
" فين أيامك يا حجُّ نصار، من وقت اللي حصلَ والدنيا ما بقالهاش طعمٌ من غيرِه"
تنهدَ " رحيم " ، وتحرَّك في جلستِه كأنَّما ضاقت به الأرض:
" بقالي فترةٌ ما زرتهوش، ولما جِيتُ أروح… الستُّ نعيمه مارِضِيتش "
قلَّبَ رجلٌ آخرُ بأصبعهِ حَبّاتِ سبحتهِ قبلَ أن يُعلِّقَ بصوتٍ متحشرجٍ:
"رمضان السنه دي هييجي ومش هيبقى معانا زي كلِّ سنه"
انعقدَ حاجبا " رحيم "، وبدت على وجههِ ملامحُ العزمِ وهو يقولُ بحزمٍ:
"بس إحنا هنخليهِ ما بينا… هو اللي كانَ مجمعَنا، ولازم نزورهُ المرَّة دي حتى من غيرِ ما نعيمةُ تعرف"
نظرَ إليهِ أحدُ الجالسينَ باستغرابٍ، قبلَ أن يسألهُ ببطءٍ كأنَّه لا يُصدِّقُ ما سمع:
"وده ييجي ازاي بقى "
أخفضَ "رحيم " عينَيه، وهزَّ رأسَهُ بشرودٍ، كأنَّ الفكرةَ تدورُ داخلهُ بلا سبيلٍ للخروج:
"مش عارف .. بس أكيد لازم نتصرف ونروحله"
كانَ "طه" يُتابِعُهم بصمتٍ، يَشعُرُ بثِقَلِ كَلِماتِهِم وهيَ تَتَسَلَّلُ إليهِ دونَ استِئذانٍ، وكادَ أنْ يَتَدَخَّلَ، لكن قَطَعَ حيرَتهُ صَوتُ الإِمامِ وهوَ يَبدَأُ بِإِلقاءِ السَّلامِ.
تَفَرَّقَ الجَمعُ، وانسَحَبَ الجَميعُ إلى أَماكِنِهِم، بَينَما ظَلَّ "طه" مُسنِدًا رَأسَهُ، شارِدًا عَن كُلِّ شَيءٍ حَولَهُ
لَمْ يَسمَعْ أُولى كَلِماتِ الخُطبَه، ولا حَتَّى وَقْعَ صَوتِ الإِمامِ، فَقَدْ كانَ عَقلُهُ يَجُولُ في أَزمِنَةٍ بَعيدَه، في أَروِقَه الذِّكْرَياتِ الَّتي لاحَتْ عَلَيهِ كُلَّما وَجَدَ نَفْسَهُ في مِثْلِ هَذا المَوقِفِ ، لَمْ يَكُنْ جَسَده هُنا تَمامًا، وَلَمْ تَكُنْ رُوحهُ تصْغِي لِما يقالُ، بَلْ انْسابَتْ بَعيدًا، إلى ذَلكَ الفَجْرِ البَعيدِ، حَيثُ كانَتِ الرُّطُوبَه تَمْلَأُ الهَواءَ، وَأَصْواتُ المُؤَذنِينَ تَتَداخَلُ في نَسيجِ الصَّمْتِ الَّذي يَسبِقُ انبِلاجَ الصَّباحِ
رَأى نَفْسَهُ يَلهَثُ مِن أَثَرِ اللَّعِبِ، يَضحَكُ مَع أَبناءِ "نَصّار"، تُشْعِلُ أَعينَهُمُ الحَماسُ حِينَ قَضَوُا اللَّيلَ فَوقَ سُطُوحِ المَنزِلِ، يَتَقاذَفُونَ الكُرَةَ تَحتَ سَمَاءٍ مُرَصَّعَةٍ بِالنُّجُومِ وَما إِنِ انْتَهَتِ المُباراةُ الصّامِتَه فَوقَ ذَلِكَ السَّطْحِ العالِي، حَتَّى تَعاَهَدُوا أَنْ يُنْهُوا لَيلَهُم بِصَلاة الفَجْرِ، كَما اعْتادُوا أَنْ يَفعَلوا
وَما إِنْ دَلَفوا إلى المَسْجِدِ حَتى انتظَمُوا خَلفَ "الحَج نَصّار"، ذَاكَ الرجُل الَّذي كانَ بنْيانُه يَشِي بِالعمْرِ، لَكِن صَوْتهُ ظَل يَحمِلُ رَهْبةَ الأَيامِ وَثقَلَها. وَقَفَ بِهِمْ كَما كانَ يَفعَلُ دائِمًا، بِصَوْتِهِ العَميقِ المُطْمَئِنِ، فَكَبَّرَ لِلصَّلاةِ، وَانْسَابَتِ الآياتُ مِن بَينِ شَفَتَيْهِ كَأَنَّها تَنبُعُ مِن نَهرٍ قَدِيم
أَغمَضَ عَينَيْهِ لِبُرهَه، كَأَنهُ يَسْتحْضِر رائِحَة السَّجّادِ العَتِيقِ، وَبُرُودَة الماءِ حِينَ غَسَلَ وَجهَهُ قَبْلَ الصَّلاه، وَتِلْكَ السَّكِينَه الَّتي تَسَلَّلَتْ إِلَيهِ آنَذاك، سَكِينَة لَمْ يَعُدْ يَذُوقُ مِثلَها اليَوْمَ وَما أَنْ سَلَّمَ الحَجُّ "نَصّار" عَلَى الجانِبَيْنِ حَتَّى نَطَقَ "مُوسَى" بِقَولٍ:
" حرمَا ياحج نصار " 
التَفت خَلفه ليِجد ابنَائُه الخَمسه ابَتسم ابتٓسامه رِضا اليِهم وهُو يَراهم قَائلاً : 
" جمعًا أن شاء الله " 
رَمقَ "طه" الجالسَ بينهم بطرفِ عينيه، ثم ابتسمَ، والشوقُ لأيامهِ القديمةِ متغلغلٌ في ملامحه لم ينتظرْ طويلًا مُرحبًا :
"واحشني ياطه ، فينكم وفين أيامكم حي الكويت نورت برجوعكم "
رَد لهُ السَلام بِنفس الشُوق والحَنين :
" حي الكويت منوره دايمًا بناسها وأهلها ياحج "
سألهُ "نصار " بِفضولٍ:
"هاه، وناويين تقعدوا على طول؟ ولا لسه القاهره مسكة فيكم"
هزَّ "طه" رأسهُ بابتسامةٍ خفيفةٍ، كأنما يسترجعُ سنواتِ الغربةِ في لحظةٍ واحدةٍ، ثم قالَ بهدوءٍ:
"لا يا حج، خلاص… إحنا اللي بعدنا، والبعد وجع، بس الرجوع هو الصح الجامعه كانت السبب، أمي مرضيتش تسيبني لوحدي، وفضلنا هناك… لكن دلوقتي، مفيش حاجة تستاهل نبعد تاني"
حرَّك "نصار" مسبحتهُ بين أصابعهِ، وعيناهُ تلمعانِ بالرضا:
"عليكَ نورٌ يا "طه"، خيرُ ما فعلت يابني "وداد" بتقولُ إنك ناوي تفتحُ محلَّ أبوكَ القديمَ وتعملهُ صيدليةً"
أومأَ "طه" بالأيِجاب، وكأن القرارَ استقرَّ في قلبهِ أخيرًا:
"فعلاً يا حج، أمي قدرتْ تدبّرَ مبلغ، وهنحاول نجهزهُ من جديد"
بِمُجرد أن نهضَ "نصار"، تَبعُه الجميع  تلقائيًا، كأنها عادةٌ راسِخه بينهم ثم وضعَ يدهُ على كتفِ "طه" وربّتَ عليهِ بحنوٍّ:
"لو احتجتَ أيَّ حاجه، أنا موجود ومش محتاج أقولك أن انا في مقام أبوك … مع إن "علام"، اللهُ يرحمهُ، مفيشْ حدٌّ يعوّضهُ."
ارتسمتْ على شفَتي "طه" ابتسامةُ امتنانٍ صادقةٍ:
" طبعًا ياحج ، أنا ماليش غيركم، ربنا العالم"
تحركَ "نصار"، وأولادهُ من خلفهِ، لكنهُ فجأةً التفتَ وكأنهُ تذكرَ شيئًا، ثم قالَ بحزمٍ دافئٍ:
"آه، على فكره، قول لأمك وأختك… الغدا عندنا النهارده، ومش عايز أسمع أعذار"
رفعَ "طه" يدهُ معترضًا بلطفٍ:
"لا يا حج، مالوش لزوم، ليه التعب ده"
اعترض "نصار" بمزاحٍ فكاهيٍّ، وهو يلوّحُ بيدهِ:
"هو أنا بقولك عشان تقول الكلمتين دول ، أنا بس ببلّغك باللي هيحصل "
ابتَسم الجَميع ليعلّقَ "موسى" بمكرٍ:
"خلاص بقى، الحج طالما قال كلمه ، ما ينفعش نراجعه فيها"
جاءَ صَوتُ "بشر"، مُتصنعًا الجِديه وهو يَضعُ يَدهُ علَى صَدرهِ:
"طب وأنا ياحج ،  المحشي من إيدِ الحاجه "نعيمه" وحشني، ولا لازم أقدم طلب رسمي "
لوّحَ "نصار" بيدهِ مازحًا:
"وهو أنتَ محتاج عزومه يابشر ، ده أنتَ ناقصٌ يضيفوكَ على بطاقةِ التموين " 
ضَحك الجَميِع ، فَتمتَم "بشر" بِأخَر گلِماتُه أَثنَاء تَحرُكه لِلأمام ، وقَد وَجد يَد " الحج نصَار " تُربت عَلى كِتفيه بِحنو يَخبرهُ وَقالَ بِأبتِسامه دافِئه :
"يا عبيط، هو أنت زعلت بجد ، حد يزعل من هزار أبوه ، مش أنا برضوا زي أبوك "
أومأ "بشر"  بالأيِجاب ، يُحاول  أن يَخفي ابتِسامه صَغيره، لَكِنهُ فَشل وهَو يَشيح بِوجهه قَائلاً بِمِزاح :
"اه  طبعًا… بس يعني الواحد برده ليه كرامته"
ضحكَ "نصارُ" بخفّةٍ، وجذَبَهُ إليهِ في نصفِ عناقٍ أبويٍّ قائلاً:
"كرامتك محفوظة يا بني، أنت مش ضيف علشان تستنى عزومة، ده بيتك، وإنت في مقام ولادي، وإلا هزعل منك بجد"
نظرَ "بشرُ" إليهِ للحظةٍ، ثم ابتسمَ أخيرًا، وكأنَّ كلماتِهِ أزالت أيَّ أثرٍ للحظةِ العتاب، وقالَ بمشاغبةٍ:
"طب خلاص، بس أنا بقولك من دلوقتي، هاخد حته لحمه كبيره ، ومش عايز حد يبصلي  فيها"
ضحكَ الحاضرونَ برضا، وهزَّ " نصارُ" رأسَهُ بِمكرٍ قائلاً:
"على ضمانتي يا واد، بس خلي بالك، أمك "نعيمه" مش هتسيبك في حالك "
                    ٭        ۝          ٭ 
وعلى الرغم من بساطهً الحج "نصار"  الا انه له هيبه يعبر بها أزقة الحاره بخطواتٍ واثقه ، تسبقها سمعته الطيبه وهيبته التي لا تخطئها عين
يمرّ أهل الحاره عليه يومياً لإلقاء التحيه أو لشراء الخبز، لكنه ليس مجرد صاحب فرن بالنسبه لهم، بل هو رمزٌ للأصاله وجسرٌ بين الحاضر والماضي من حديثه، من وقفته، ومن طريقة تعامله، يتعلم الصغار قيمة التمسك بالجذور، فيما يراه الكبار شاهداً على أيامٍ خلت ، سرت الحارةُ حياةٌ نابضةٌ، امتلأت بالمارةِ الذين يتنقلون بين دكاكينها الضيقة، وأصوات الباعةِ تتداخلُ مع ضحكاتِ الأطفالِ وصوتِ المخبزِ الذي لم يهدأ منذ الفجر. عند ركنٍ مخصصٍ له أمامَ الفرن، جلسَ الحجُّ نصارُ بجلبابهِ الواسع، ومسبحتهِ التي لم تفارقْ يده، يحيطُ بهِ أهلُ الحارةِ، منهم من يشكو همَّهُ، ومنهم من يطلبُ نصيحته، بينما كان أبناؤهُ في الداخلِ، منشغلين بالعجينِ والخبز.
عند مدخل الفرن، جلس "آدم" على كرسيه الخشبي المهترئ، يُقلب بين أصابعه بطاقات الحساب، محاولًا ضبط ثمن الخبز للزبائن، لكنه كان شارد الذهن، تنزلق نظراته بين الوجوه بتوترٍ، ويداه تتردد في التقاط النقود.
ضرب أحدى الزبائن كفه في الهواء من كثرة الزحام وأكثرهم كان من النساء  فهتف بضيق:
" مافيش واحده فيكم بتعرف تخبز وتعجن جايين تزاحمه الرجاله "
فأتى صوت " موسى" من الداخل قائلاً : 
" وست نانسي عجرم اللي عندك في البيت مابتعرفش تعجن وتخبز ليه ولا عندها حفله في دبي " 
ضحك الحميع بينما تفوهت سيدةٌ وهي تزاحمُ الرجلَ في محاوله للتقدم :
"ونبي يا ابني، خليني أمشي، سايبه العيال لوحدهم في البيت، لسه مافطروش "
تصاعدت أنفاس "آدم"، جفّ حلقه، وارتجفت يده حين حاول جمع الأموال، فتساقطت بعض العملات على الطاوله قبل أن يتمكن من تداركها، شعر بيدٍ قوية تُربت على كتفه، فانتفض في مكانه، التفت سريعًا ليجد "موسى" خلفه، يمد يده نحو السيده قائلاً بهدوء وهو يلتقط الورقه من يدها:
"هاتي يا أمي، أنا هخلّصك بسرعه"
ناولته الورقه بحركة ممتنّه، داعيةً له بصلاح الحال، بينما انحنى "موسى" قليلًا، يلتقط العملات التي سقطت، ثم مدّها "لآدم" قائلاً بصوت خفيض لا يسمعه أحد سواهما:
" ماتقلقش ،أنتَ مسيطر "
ابتلع "آدم" ريقه بصعوبه ، يتمتم بارتباك وهو يحاول استعادة تركيزه:
"واحده واحده... كله هيمشي."
بينما داخل الفرن، كان الهواء مشبعًا برائحة الخبز الطازج، ممتزجًا بحرارةٍ خانقةٍ تجعل الجو دافىء في منتصف شهر يناير ، تراقصت ألسنة النار في جوف الفرن، تلتهب كلما انفتحت بابه المعدنيّ الضخم، لينبعث منه وهجٌ أصفر يُلقي بظلاله على الجدران الحجريه العتيقه
كان "لقمان" يقف أمام الصاج الساخن، يحرك الأرغفه بخفه ومهاره ، تتبدّل أصابعه بين الممسك بالخبز والممسك بالمكشطه المعدنيه، يُدير الرغيف قبل أن يلتهمه اللهب، نفخ في الهواء في ضجر : 
" نوح تعالى قلب مكاني حرارة الفرن هنا عاليه  وانت عارف فرحي كمان شهرين " 
نفخ " نوح" العرق عن جبهته دون أن يلمسها : 
" على الاقل الحراره هنا هدفيك ، بس الجواز هيولع فيك "
امتعض "لقمان" من رده ،  بينما أنس، فقد كان يُخرج الأرغفه بسرعة خاطفه ، يُلقي بها فوق بعضها البعض وعلى الرغم من تمرسه ، لم يخلُ الأمر من لدغاتٍ خفيفه تحرق أطراف أصابعه، فينتفض بين الحين والآخر نافخًا يده وهو يتمتم بالسباب  قائلا : 
" أنا مش فاهم ، اقسم بالله ما فاهم ، ما كل الناس بتعمل فرن آلي ، مش معنى ابوك اللي مش عايز يجدد وعامله بلدي ويرحمنا من اللي احنا فيه ده "
أنهى "موسى " وضع العجين على الطاوله، والتفت اليه ينفض يديه من بقايا الدقيق، قائلاً بنبره ساخره :
" جرى ايه ياولاد نصار كبرتوا خلاص على شغلانة الفرن ، والخبيز بقى بيحرق ايديكم ايش حال ما كنت بتشتغل في المطافي ياسي أنس    " 
ترك "لقمان" مكانه، يدلك يديه ببعضهما ليزيل العجين الملتصق، ثم غرس كفّه في الحوض، يعجن العجين بحماس وهو يرد مبتسمًا:
" الحكايه مش كده ياموسى ، احنا عمرنا ما نكبر على ابونا ابداً بس الحوار كله ان خلاص كل واحد مننا شق طريقه ، انا بقيت مدرس وكابتن بالليل  وانت بتسافر تشتغل مابقيتش فاضي  وانس راجل مطافي و نوح راجل عاطل قد الدنيا 
استقام "نوح" فجأه ، نافضًا يديه عن ثوبه، رافعًا رأسه بفخر:
"  ماسمهاش راجل عاطل ، اسمها رجل بلا قيود ، مستثمر في الفراغ ، رائد اعمال في البطاله " 
رفع "انس" حاجبه بسخريه  : 
" اه يافخر صناعة البطاله  ، المهم أنك عاطل برضوا " 
رفع "نوح" يده بإشاره استهانه ، يرد بلا مبالاه وهو يميل على الطاوله : 
" مش مهم المسميات المهم الراحه النفسيه " 
لوّح "أنس" بيده وهو يلتفت نحو "موسى" قائلاً:
"سيبك منه ياموسى وخليك معايا
احنا بس عايزين ابونا يفهم اننا كبرنا وشغلانه الفرن ليها صبيانها او ممكن نكبر الفرنه ونخليها زي الافران بتاعت اليومين دول 
رد " لُقمان " ، متسائلًا،  يسند يده على الطاوله:
"وده ازاي ده "
اعتدل "أنس" في وقفته، نفض الدقيق عن كمه،  وقال بحماس:
"بصوا ياجدعان احنا في عصر السرعه ،احنا لازم نفكر بره الصندوق ، احنا نبعت العيش دليفري ،  مشروع الدليڤري ده مشروع العصر " 
طالعه" موسى" ، يضع يده على ذقنه، ثم أومأ بمبالغه قائلاً بجديّه مصطنعه:
"تصدق صح ، وكمان ممكن نوفر على الناس اكتر  نديهم الدقيق ويعجنوا في بيتهم اوفر " 
رفع "نوح" حاجبيه بدهشة مستفزه:
" واللي يطلب عيش سخن نبعتله واحد مولع " 
وضع " لقمان" يده الملطخه بالعجين على كتفي "انس" قائلاً : 
"  والله فكره واهوه لو العيش برد في الطريق نحط جواه كتالوج كيف تسخن رغيف بنفسك  " 
انفلتت ضحكه منه ، بينما تراجع "أنس" إلى الخلف، مُقطّبًا حاجبيه في إحباط، ثم رفع يده معترضًا:
"ده اللي انتوا فالحين فيه اتريقوا ، اتريقوا "
نفض "موسى" يده من الدقيق يطالع أنس بنظره جانبيه، محاولًا كبت ابتسامه كانت تتسلل إلى شفتيه و قال بنبره مبطنه بالسخريه :
"تمام بس قولي هنبعته ازاي ، مع سواق ولا هنشحنه في البريد السريع " 
رفع" أنس" حاجبه يتحدث بسخريه :
"لا هنحطه في مظروف ونبعت معاه جواب شكر للزبون ياخفيف"
ثم نظر إليهما بعينين يملؤهما الجِدّ، هاتفاً بصوت يحمل يقينًا لا يقبل الجدل:
"انتوا عاله على صناعة المخبوزات ورب الكعبه"
كتم "لقمان" ضحكته، يمسح يديه بالمئزر، ونظر إليه بنظره ساخرخ، يخبره وهو يهز رأسه بتعجب:
"أنا مش عارف الحج نصّار خلف الكائن ده إزاي"
رفع "أنس" حاجبه بثقه مفرطه، مسح بعض الدقيق عن كمه، ورد دون تردد:
"موهبه ربّانيه"
ألقى "موسى" نظره طويله على شقيقه ، وكأنّه يحاول استيعاب منطقه، ثم قال وهو يهز رأسه بيأس:
"آه، ربّانيه... بس محتاجه إعادة نظر،  ده لو اتساب يعمل مشروع، هيطلعلنا بعيش قابل للنفخ، تحطه في جيبك يوصل لبيتك لوحده "
استدار "نوح " إليه ببطء، وكأنه لم يصدق ما سمع، ثم سأله بذهول:
"إنت إزاي مخّك وصّلك لكده"
ابتسم" أنس" ابتسامه واثقه، فرد دون أن يرمش:
"استثمار للأفكار الغريبه... السوق محتاج إبداع"
ضحك "موسى"  ثم أشار نحوه بمغزى:
"ده لو السوق قدّم أفكارك، هيحتاج معاش مبكّر"
عاد الجميع إلى العمل، لكن الضحكات لم تغادر الوجوه. ففي أعماق هذا المكان، بين الجدران المشبعة برائحة الخبز والذكريات، كان هناك شيء آخر يولد... شيء يتجاوز الطحين والماء، شيء أشبه بالدفء المنبعث من قلب العائله نفسها
                          🍂
هما الأن بغرفة الطبخ ، ذاك العالم الصغير الذي يحمل في زواياه أسرار البيوت وهموم النساء، حيث تمتزج رائحة البهارات بمرارة الحكايات، 
و يعبق الجو برائحة التوابل بالبخار المتصاعد من القدور 
جلست "وداد ونعيمه "على الأرضيه، محاطتين بورق الكرنب الأخضر وخلطة المحشي التي تفوح برائحة الشبت والكزبره كانت ايديهما تتحرك بخفه ومهاره يتابعان حديث طويل لا ينتهي 
سألت "وداد" وهي تضع صابعًا جديدًا في القدر بجوار أخوته :
"وبعدين يا نعيمه ، حصل إيه تاني ياختي "
رفعت "نعيمه" خصله من شعرها التي انسدلت على وجهها ، وزفرت بضيق:
"ولا قابلين، زي ما حكيتلك كده من ساعتها ولقمان ماسك في البت اللي اسمها شيماء دي، هي وامها سماح، تكونش عملاله عمل من ساعة ما عرفها وهو ما داقش طعم الراحه ، حبيب قلب امه "
توقفت "وداد" لحظه ، وكأنها تبحث عن شيء، فسألتها "نعيمه":
"بتدوري على إيه يا وداد"
أدخلت "وداد" إصبعها في خلطة الأرز، تتذوق القليل منه قائله :
"ياختي الملح كان هنا... الخلطه محتاجه شوية ملح"
مدت "نعيمه" كف يدها جوارها ، تعطيه لها قائله بابتسامه خفيفه:
"خدي، كان مستخبي ورايا "
تناولته "وداد" وهي تستنكر الأمر:
"بس قوليلي هي عملت إيه مخلياكي مش طايقاها كده هي ولا أمها"
ضربت "نعيمه" كفًّا بكف، تخبرها بغيظ:
"بـــوريـــه، بـــوريـــه منها ومن أمها، قولي ما عملتش إيه، بيستغلوا الواد يا وداد، بيستغلوه أسوء استغلال ، الواد يا حبة عين امه جاب الديب فريزر"
مدت"نعيمه" يدها تشير ناحية القدر : 
"خدي، حطي صباع المحشي ده في القعر"
واصلت الحديث، بينما تعبّر ملامحها عن استياء مكتوم:
"راح لقمان يا حبة عيني، كان عايز يعينه عندي هنا في الشقه ، عشان شقته فوق كانت بتتوضب، خاف لا يقع عليه حاجه، وهو جايبه بالشيء الفلاني، إنتِ عارفه ياختي الأجهزه الكهربائيه غالية ازاي دلوقتي"
اكتفت "وداد" بإمالة رأسها قليلًا، قبل أن ترد بسخريه:
"عارفة يا نعيمه عارفه ، منه لله اللي في بالي، من ساعة ما مسكها والأسعار بقت نار"
تنهدت "نعيمه"، ومدت يدها إلى طبق الأرز، تلتقط منه حفنه ، وقالت وهي تبسط ورقه جديده بإتقان:
"شوفتي.. أديكي قولتي ،  تقوم اللي تنشك في قلبها تقوله ، وإيه اللي يحط الديب فريزر في شقة أمك هاتوه عندي، وأنا هشيله عندنا"
ضربت "نعيمه " كفّها على ركبتها، قبل أن تعلّق في انفعال:
"الواد محطش خوانه، يا عيني"
لم ترد "وداد" ، بل أزاحت خصلة شعر أخرى عن وجه " نعيمه " قائله:
"زيحي شعرك لا يقع في الرز، هــا كملي، وبعدين "
عاد الغضب إلى ملامح "نعيمه" وهي تتابع الحديث، صوتها كان مشحونًا بالقهر:
"يرضيكي يا حبيبتي،  الواد يروح عندهم يلاقي أمها فارشا الديب فريزر في شقتها، مشغلاه، وحاطه فيه الأكل بتاعها ولما يسألها مش ده الديب فريزر بتاعنا، ترد بكل برود وتقوله اه ياحبيبي اصل تلاجة ماما باظت ولما زعلت قولتلها انك موافق تاخد الديب فريزر بدل التلاجه اللي باظت وتعتبره هدية عيد الأم " 
أغمضت "وداد" عينيها للحظه ، تحاول كبح انفعالها، قبل أن ترد بحده:
"لا ياختي، ما يرضيش حد أبدًا ، وبعدين لقمان عمل إيه"
تحركت "وداد" إلى الحوض، تنظف الدجاج ، تطلق زفرة طويله تعكس قلة حيلتها:
"زعل في الأول شويه يا عين أمه، بس بعدها سكت ما تكلمش ،  بنت المقشفه شيماء ادلعت عليه شويه ، وشويه تقوله انه بخيل، واستخسر حتة ديب فريزر في أمها ،  ورجع يحوش تاني عشان يجيب الديب فريزر .. قيسي بقى على كده كل حاجة في الجهاز"
أشارت "وداد " بعينيها إلى القدر الذي بدأ البخار يتصاعد منه  : 
"الميه غليت، اتكلمي ببوقك، مش بأيديكي، اسقطي الفراخ مكانتش عزومه منيله دي اللي عزومتهالنا"
اتسعت عيناها فجأه ، كأنها تذكرت شيئًا : 
"آه ، طب وربنا نسيت ،  بنت سماح المقشفه خلتني تايهه، مش عارفة أنا بعمل إيه"
كانت "وداد" قد بدأت في تعديل الرصه  بداخل القدر ، لكنها التفتت إلى "نعيمه" فجأة وقالت بحزم:
"بس ما تزعليش مني يا نعيمه... لقمان غلطان إزاي يسكت على كده"
تناولت "نعيمه " السكين، وبدأت بتقطيع البصل، وعيناها لمعتا بالدموع،  بسبب لسعته قبل أن تهمس بصوت مختنق:
"بيحـــبـها، بيحبها الموكوس،  ياكش هو طيب حبتين ، مش زي أخواته
عارفه،  ده لو كان نوح ولا أنس، كنت قولت
"أهي حلة ولاقت غطاها"، شبه بعض،  أما لقمان... لقمان ده البكري، واخد طيبتي كلها، حبيب قلبي"
فتحت "وداد" دُلفة المطبخ السفلى، تخرج زجاجة الزيت، وسكبت قليلًا منه على خلطة المحشي، ثم سألت دون أن ترفع رأسها:
"طب وبعدين، ما جبتوش الديب فريزر لحد دلوقتي"
أجابتها بما هو بعيداً عن سؤالها : 
"بتحطي زيت ليه على الخلطه يا وداد"
فركت وداد بعض حبات الأرز بين أصابعها، قبل أن ترد بنبرة هادئه: 
"حسيت الرز ناشف شوية وأنا بلفه في ورق المحشي، مالك يا نعيمه ،  ما تبقيش كده ، قولت أحط شوية زيت يفلفله "
أومأت نعيمة برأسها، لكن عقلها كان مشغولًا بأمر آخر، فتذكرت سريعًا تُكمل بصوت ينضح بالغيظ:
"الوليه أم مقصوفة الرقبه شيماء من بجاحتها، اتصلت عليا وبقت تتمنظر عليا بالديب فريزر بتاع ابني وتقولي ، أنا جبت كذا وكذا وكذا لرمضان محسساني إن إحنا معفنين وما بنجيبش حاجه في بيوتنا،  ما إحنا بنجيب في بيوتنا يا وداد، وما بنتكلمش ،  بنت محدثة النعمه وتقولي أنا جايبه ٨٣ فرخه وعشرين ألف جناح، وفرشت نفسها عليا وأنا كان نفسي ألمها، بس أنا عارفاها، بوق وزياطه، وهي مش لاقيه تاكل هي وبنتها "
سقط أصبع المحشي من يد "وداد" في القدر  دون أن تشعر، وقالت بغضب مكتوم:
"ياختشي، إيه البجاحه دي ،  أما بجحه صحيح يعني يبقى الجهاز جهاز ابننا وتتفشخر علينا بيه ده أنا لو منك كنت جيبتها من شعرها"
ارتفع حاجبا "نعيمه" وهي ترى "وداد "تشتعل غضبًا، فحاولت تهدئتها:
"اهدي، اهدي يا وداد مش كده،  إنتِ عيانه، يجيلك الضغط "
لم تهدأ، بل جذبت  غطاء رأسها ، تضعهُ عليها قائله :
"اهدى إيه ،  تعالي نروح نجيب الوليه دي من شعرها " 
ضحكت "نعيمه" بمراره، ثم جذبت الحجاب من يدها، تضعه اسفلها وهي جالسه، تخبرها بأسى:
"ياختي، ياريت بس أعمل إيه، خايفه على ابني لا أقهر قلبه، وهو ما يقدرش يعيش من غير بنت سماح فلتر المقشفه "
وبينما " وداد " تهم بالرد قطع حديثهما صوت خطوات " لُقمان " يدخل المطبخ ووجه يشع بالفرح : 
"أَمـــاه، اعملي حسابك ،  أنا أخدت إذن الحج، وعزمت شيماء وطنط سماح عندنا النهارده عشان يتغدوا معانا"
قبضت "نعيمه" على أسنانها في محاوله لكبح غضبها، التقط إشارتها فورًا واقترب منها يجلس القرفصاء بجانبها، أمسك يدها، يقبلها بحب، ثم قال بنبرة راجيه :
"عشان خاطري، يا أمي،  شيماء ومامتها جايين النهارده، مش عايزك تعامليها وحش شيماء طيبه وبكره انتِ كمان تحبيها بعد ما نتجوز،  بس لو بتحبيني، عامليها حلو"
رأت الرجاء بعينيه ، لم تستطع الرفض ، فقط نظرت إلى عينيه الممتلئتين بالفرح، قبل أن تهز رأسها بالموافقه وحين استدار ليخرج ، همست لوِداد:
"بالسم الهاري، هي وأمها"
سمع "لقمان" همساتها، فوقف بجوار الباب سائلاً:
"بتقولي حاجه يا أمي "
توترت للحظه قبل أن تبتسم مسرعه بقول :
"بقول بالهنا والشفا على قلبها " 
❀.                ❀.                    ❀.            ❀. 
كان المنزل يعج بالحركة والضجيج عقب صلاة الجمعه ، الجميع اجتمعوا في الصاله، يتبادلون الأحاديث بينما كانت أطباق الطعام تُجهَّز على الأرضيه بينما "أنس" ظل جالسًا في غرفته، متحصنًا بين جدرانها، يرفض الخروج رغم أن الجميع كانوا بانتظاره كان عقله مثقلًا بالأفكار، وقلبه يضرب بقوه في صدره، وكأن فكرة مواجهة "سمر" تثير داخله مشاعر متضاربه.
بينما "أنس" غارق في أفكاره، انفتح باب الغرفه فجأه، ودخل نوح بخطوات ثابته، تتجلى في ملامحه روح الأخ الأكبر الذي لا يقبل العزلة غير مبرره ألقى نظره على "أنس"، ثم سأله بنبره تحمل شيئًا من الاستنكار:
"إيه يابني، مش هتتغدا معانا ولا إيه"
رفع "أنس" رأسه، وعيناه تحملان قلقًا غير معتاد، قبل أن يجيب بصوت متردد:
"أوري وشي لسمر إزاي دلوقتي أنا"
جلس "نوح" على السرير بجواره، مسندًا ظهره بارتياح،  أجابه وهو يرسم على وجهه ابتسامه ساخره:
"وهي شافتك فين يعني ما عادي، كلنا بنلبي نداء الطبيعه، مش انت بس"
لم يرى "أنس"  الأمر بهذه البساطه، فأطرق رأسه في ضيق:
"يا سلام! إيه السهوله دي"
لم يكن "نوح" من النوع الذي يسمح لأخيه بالغرق في دوامة القلق بلا داعٍ، فوقف واتجه نحو الخزانه، يفتش بين ملابسه بحثًا عن شيء يليق بالموقف:
"البس حاجة شيك، وذوق واقف قدامها عادي، ولا تحط في دماغك"
لكن الملابس لم تكن على مستوى التوقعات، فزفر "نوح" بضيق، وقال وهو يقلب القطع بين يديه:
"إيه الهدوم الزفت دي، ما عندكش غيرهم"
أشار "أنس" برأسه نافيًا، وقال بلهجه اعتراف صريحه:
"لأ، هما دول بس، ما انت عارف أخوك"
تأمل "نوح" الموقف لثوانٍ، قبل أن تلمع في ذهنه فكره، فرفع يده مشيرًا "لأنس" بالصبر:
"طيب استنى، أنا شوفت موسى امبارح داخل بشنطة أكيد متروسه هدوم، هدخل أشقطلك منها طقم جامد، تكون إنت غسلت وشك كده وانجز عشان الحج صاحب البيت ما يقلش منا كلنا، انتَ عارف إنه بيحب نتجمع على الغدا يوم الجمعه"
أومأ "أنس" برأسه موافقًا، لكن شيئًا من الترقب بدأ يتسلل إلى نفسه، ربما لأن فكرة استعارة شيء من موسى لم تكن تخلو من المخاطره
حين دخل "نوح" غرفة "موسى"، كان المشهد أمامه مغريًا لأي شخص يعشق الأناقه الحقيبه الجلديه كانت مفتوحه، بداخلها ملابس فاخره من علامات تجاريه عالميه، لا تزال بطاقاتها التجاريه معلقه بها، وكأنها لم تُرتدَ من قبل ابتسم بسعاده وهو يخرج منها ستره جلديه أنيقه، ارتداها فوق بنطاله، ثم وضع بضع قطرات من العطر على عنقه، ليكمل إطلالته الجديده.
لكن ما جذب انتباهه أكثر كان تلك الخوذه السوداء اللامعه الموضوعه على الطاوله، وبجوارها مفاتيح الدراجه الناريه الخاصه بموسى لم يكن بحاجه إلى التفكير طويلًا ، ما إن وقعت عيناه على المفاتيح حتى تسارعت نبضاته، وكأن قلبه قد قرر أن يحتفل بهذه الفرصه غير المتوقعه ابتسم بخبث، التقط الخوذه والمفاتيح، ثم خرج من الغرفه بخفه، متسللًا دون أن يشعر به أحد.
 استند "نوح" إلى دراجته الناريه، وضع الخوذه على رأسه واستعد للانطلاق، لكنه فجأه، وقبل أن يدير المفتاح في المحرك، وقعت عيناه على مشهد أثار فضوله
على الجانب الآخر من الشارع، كانت هناك فتاه تقف بمظهر لا يتناسب مع أجواء الحي الشعبي ملابسها أنيقه ، تحمل طابعًا راقيًا، لكن نظراتها القلقه كانت تخون ثقتها الظاهره كانت عيناها تدوران في المكان وكأنها تبحث عن شيء مفقود، أو شخص تنتظره بفارغ الصبر
الشباب في الحاره لم يكونوا بطيئي الفهم، كانوا يراقبونها بنظرات تطفل وريبه، يحاولون التحدث إليها، لكنها تجاهلتهم تمامًا، وكأنهم غير موجودين. ومع ذلك، لم تكن تلك اللامبالاه كافيه لإبعادهم، بل زادتهم فضولًا.
لم يكن "نوح" ممن يتجاهلون مثل هذه الأمور، فنادى على "آدم"، الذي كان في طريقه إلى المنزل، بصوت جاد:
"آدم، آدم، خد، عايزك"
لكن "آدم" كان في عجله من أمره، فأجابه بغير اكتراث وهو يرفع كتفيه اعتراضًا:
"لأ، أنا هطلع عشان الحج عايزني"
 "نوح" لم يكن من النوع الذي يستسلم بسهوله، فاقترب منه قليلًا وقال بإصرار:
"استنى بس ، هقولك حاجه " 
مد يده وكأنه على وشك الإمساك به، لكن "آدم" تراجع فورًا، وكأن لمسه كان أمرًا غير مقبول بالنسبة له، ثم قال بحده:
"ما تلمسنيش، ما بحبش حد يلمسني"
رفع "نوح" يديه في الهواء مستسلمًا، لكنه أضاف بلهجه ماكره:
"مش هلمسك، بس بشرط"
ثم أشار برأسه نحو الفتاه الواقفه بعيدًا، وسأل بفضول لا يخفيه:
"تقولي البنت دي بدور على إيه، وإيه أصلها وفصلها"
قبل أن يجد "آدم" فرصة للاعتراض، اقترب "نوح" منه، عاقدًا ذراعيه على صدره بابتسامة جانبية، وقال بنبرة ساخرة لكنها تحمل تهديدًا واضحًا:
"لو معرفتنيش دنيتها، مش هسيبك إلا وانت في حضني"
لم يكن أمام "آدم" سوى القبول" وقف يحدّق بالفتاه قليلًا، مراقبًا كل تفصيلة صغيرة في حركاتها، نظراتها، حتى وقفتها المتردده، ثم بدأ يتحدث بصوت منخفض لكنه واثق، وكأنه يقرأ أفكارها المكتومه 
"هقولك" 
وقبل أن يتفوه بشىء وجد من يضع يدهُ على كتفيه دون الأكتراث الى حالته فظلت صرخته تدوي في الأجواء تصم كل من يقترب منه 

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا