رواية هيبة نديم وليلي الفصل التاسع 9 بقلم مريم محمد
رواية هيبة نديم وليلي الفصل التاسع 9 هى رواية من كتابة مريم محمد رواية هيبة نديم وليلي الفصل التاسع 9 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية هيبة نديم وليلي الفصل التاسع 9 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية هيبة نديم وليلي الفصل التاسع 9
رواية هيبة نديم وليلي الفصل التاسع 9
_ محمّلة بالآثام _ :
دفع "نديم" باب الجناح بخفة. فانفتح بسلاسة، وكأن المكان بأكمله كان في انتظارهما، وقف لحظة عند العتبة، ثم التفت إليها وأشار لها أن تتقدّم ..
ولجت "ليلى" بخطى بطيئة، يديها متشابكتان أمامها، وعيناها تجولان في أرجاء الجناح كطفلة صغيرة تطأ عالمًا لا تعرفه، وقد بدا المكان أمامها أشبه بملاذ سري، غارقٌ في سكينة مترفة ..
الضوء خافت، ينبعث من مصابيح جانبية موزّعة بعناية على الجدران، فتنساب إضاءتها الناعمة على الأثاث المخملي بألوانه الترابية الدافئة. الجدران مكسوّة بخشب لامع في منتصفها، وفوقها لوحات زيتية صغيرة توحي بالهدوء والعزلة، الأرضية مغطاة بسجادة وثيرة بيضاء تميل إلى العاجي، تخفف من صوت الخطوات وتُغرق الجو بصمتٍ رقيق ..
في أقصى الجناح شرفة زجاجية واسعة، خلفها بحر أزرق يمتد حتى الأفق، بدا في تلك الساعة الهادئة كمرآة تلمع تحت ضوء الغروب المتأخر، النسيم يتسلّل عبر فتحة صغيرة في الباب الجرار حاملاً برودة خفيفة ورائحة ملح خفيّة ..
ولكن مركز كل هذا البذخ كان السرير!
سريرٌ ملكي، عريض بشكل مبالغ فيه، قوائمه من خشب داكن مصقول، مزخرف بنقوش دقيقة على أطرافه الأربعة. الوسائد مصفوفة بعناية، والملاءات البيضاء الناعمة تمتد عليه كما لو أنها سحابًا نزل من السماء، عند حافته بطّانية سميكة بلون خمري تتدلّى حتى الأرض ..
كان السرير وحده كافيًا ليختصر فكرة الجناح بأكملها؛ هذا مكان للخصوصية… للعزلة… وربما لشيء أكثر من ذلك بكثير!
استدارت "ليلى" حين سمعت صوت الباب يُغلق خلفها. كان "نديم" قد تبعها، وأغلق الباب خلف العامل الذي وضع الحقائب وانصرف، حين التقت عيناهما، ابتسمت له بخجل، فبادلها ابتسامة أكثر هدوءًا وسأل:
-ها.. إيه رأيك في المكان؟
أجابت بنبرة خافتة، وهي ما تزال تدور بنظرها:
-حلو أوي.
اقترب منها بهدوء، خطواته لا تُسمع على السجادة الناعمة، وقال بصوته الدافئ:
-لو مش عاجبك نغيّر على طول.. ممكن نأجر بيت لوحدنا أو شاليه على البحر. إللي يريحك.
ضحكت بخفة محاولة تخفيف التوتر الذي بدأ يتسلّل إلى صدرها وقالت:
-لأ بجد الأوتيل حلو قوي.. والجناح كمان يجنن. كفاية السرير ده… كبير جدًا!
ضحك هو الآخر، مدّ يده وأمسك يدها برفق، ثم قال وهو ينظر مباشرةً في عينيها:
-عشان كده اخترت جناح. الأوض العادية سرايرها بتبقى أضيق وأصغر… لكن هنا؟ ده مكان يليق بعرسان زينا… وسرير يستحملنا الأسبوع اللي قاعدينه.
كلماته سقطت على أذنها كجرس إنذار خفيف، لكن تأثيرها في قلبها كان عنيفًا. ارتعشت يدها في قبضته، وكأن حرارة جلده أيقظت فيها شيئًا كانت تحاول كتمانه ..
نظر إلى يدها المرتجفة، ثم رفع عينيه إليها ثانيةً، فوجدها تحدّق فيه بخوف مبهم، ثم همست وصوتها بالكاد خرج:
-هو انت.. جبتني هنا ليه؟ يعني انت عندك شغل فعلًا مع عمر وحبيت تاخدني عشان ريري نفسها تشوفني؟ ولا في سبب تاني؟
صمت للحظة، ثم قال بنبرة ذات معنى ممزوجة بابتسامة جانبية خافتة:
-يعني معقول انتي بالسذاجة دي؟
أنا جيت هنا عشانك.. وجبتك معايا عشان نبقى لوحدنا. عشان ناخد راحتنا بجد
يا ليلى.. انتي شفتي لما حاولت أقرب منك في البيت إيه إللي حصل. وفوق كده
حضرتك جبانة وبتخافي.. هنا احنا في هدوء ومحدش ممكن يزعجنا.
تخطّت كلماته الأخيرة بصعوبة، وقالت بتوتر واضح وعيناها لا تجرؤان على الثبات في عينيه:
-يعني… إحنا… هنعمل كده كل يوم؟ طول الأسبوع؟
انفجر ضاحكًا، ضحكة مجلجلة أربكتها أكثر، وقال:
ـ-إحنا هانعمل كل حاجة يا حبيبتي.. انتي مش معقولة يا لولّا والله.. بصي. أنا هاريّحك. اسمعي كلامي و انتي هاتبقي تمام. إللي أقول عليه تنفذيه بالحرف اتفقنا؟
نظرت إليه بدهشة ممزوجة برهبة، وعيناها اتّسعتا بشكل واضح، ثم همست:
-طيب.. انت هاتعمل فيا إيه دلوقتي؟
رمقها بنظرة تحمل من الخبث ما يكفي لتفهمه، ثم اقترب منها أكثر، كان واقفًا أمامها تمامًا. انحنى قليلًا، ثم همس في أذنها بكلمات جعلت عيناها تشخصان في صدمة خجولة، وقد احمرّ وجهها بشدة، وكأن الدم صعد فيه دفعة واحدة ..
ثم تراجع قليلًا، نظر في عينيها وابتسامة مشبّعة بكل ما يمكن أن يقال دون كلام، ثم أضاف بصوتٍ هامس تخالطه نغمة مشاعر ملتهبة:
-دلوقتي… وبكرة… وكل يوم... هعمل كده... هاخليكي ماتقدريش تمشي على رجليكي.. ولا تخرجي من الجناح ده لحد آخر يوم لينا هنا!
انسكبت الكلمات الأخيرة من فمه على مسامعها كصعقاتٍ مباغتة، فتراجعت "ليلى" بخطوة تلقائية إلى الخلف، كأنها تحتمي من المجهول المتقدّم نحوها باصرار ..
اتسعت عيناها وفيهما لمعة خوف لم تستطع إخفاءها، بينما صدرها يعلو ويهبط في توتر متسارع، إلا أن "نديم" لم يتراجع، بل لم يترك لها مساحة للهرب ..
تقدّم منها ببطء، بخطوات ثابتة ومليئة بعزم لا يلين، حتى باتت ملتصقة بالجدار، وصدرها يكاد يذوب فيه ..
مدّ يده قابضًا على ذراعها برفق فيه من القوة، منعها من التملّص أكثر، صوته خافت لكنه يحمل ثقلاً لا يُقاوَم:
-إيه يا لولّا مالك؟ انتي خوفتي مني؟
أجفلت، تنفّسها متقطع، صوتها خرج متحشرجًا بين شفتاها:
-نديم.. أنا.. أنا مش ...
قاطعها بصوته الواثق وهو يجذبها بخفة حاسمة، ويدفعها بهدوء نحو السرير الكبير خلفها:
-انتي هاتهدي خالص… وهاتسمعي الكلام بالحرف.. فاكرة قولنا إيه؟ ده لمصلحتك يا ليلى.
ارتعش جسدها وهو يقرّبها من الفراش أكثر، خطواتها تتبع دفعه لا إراديًا، حتى شعرت بظهر ساقيها يصطدم بحافة السرير، لم تنتبه إلا وقد جلست، ثم وجدت نفسها مستلقية مستجيبة لدفعه القسري، رمقته بتوتر بينما ينظر إليها من علو بعينين لا تعرفان المزاح، لكنهما محمّلتان بشغف لا لبس فيه ..
دنى منها بروية، ولم يترك لها فرصة للتفكير، قبلاته جاءت حارّة، متأنية، تتنقّل بين وجهها وعنقها، تحاول فكّ أقفال الخوف المتجمّعة داخلها. وكل لمسة منه كانت تُربكها أكثر، تُسكت صوت العقل، وتوقظ شيئًا آخر، شيء غريبًا، ومربكًا، ومطلوبًا في آنٍ ...
عيناها زائغتان، وصدرها يعلو ويهبط، أناملها تقبض على أطراف الملاءة كأنها تتمسّك بثباتها الأخير ..
همس في أذنها، صوته منخفض لدرجة الارتجاف:
-ماتخافيش مني يا ليلى.. سيبيني أعلّمك إزاي تحسّي!
ثم تابع بهدوءٍ وجرأة وكأنه قد منحها الإنذار، ينزع عنها قطعة ملابس، تلو الأخرى، دون استعجال، دون قسوة، فقط بحضور طاغٍ يملأ الغرفة ويجعل الزمن يتباطأ ..
كل نظرة منها كانت ترجوه أن يتوقّف، وكل ارتعاشة كانت تفضحها أنها لم ترد ذلك فعلاً، كانت "ليلى" تتحرك تحت جسده في ارتباكٍ صامت، كأنها تتمزّق داخليًا بين شيئين لا يلتقيان، بين قلبٍ ينبض له، وروحٍ تخاف منه، بين حبٍ اختبأ طويلًا، واشتهاءٍ جديد لم تعرفه طوال حياتها يتسلّل إليها بنعومة قاتلة ..
وكل لمسة من "نديم" كانت تشعل فيها شيئًا جديدًا لا يشبهها، يداه كانتا تتحركان على جسدها بثقة من يعرف ماذا يفعل، ومتى يفعل، قبلاته باتت أعمق، أبطأ، أقرب لوعودٍ خفية تُهمَس بين الأنفاس، وكلّما ازداد اقترابه، كلما بدا وكأنه يُخدر مقاومتها رويدًا، حتى بدأت تتنهد دون أن تشعر، وأصابعها الخجولة صارت تلامسه، تتعرّف عليه، تكتشف حرارة جلده المشدود بقلبٍ متردد ..
خلع قميصه أخيرًا، فظهر جسده أمامها في الضوء القوي كما لم تره من قبل، مزيجًا من الرجولة والقوة التي أربكتها أكثر ممّا أغرتها، رفع تنورتها بخفة، وباعد بين ساقيها بحذر محكوم يتيح لنفسه تمكينًا مباشرًا، وحريصًا في آن على أن يكون كل شيء محسوبًا، رغم وضوح ما يريد!
كانت نظراته تشتعل، لكنها لم تكن قاسية، فيها من الرغبة نعم.. لكن أيضًا فيها شغف رجل يُحب ...
اقترب منها أكثر، وراح يوزّع قبلاته مجددًا على شفتيها بشغف متصاعد، يتفنن في لمسها وكأن كل جزء فيها له لحن مختلف لا بد أن يُعزَف. وشيئًا فشيئًا، راحت هي الأخرى تنسلخ عن حذرها، بدأت تستجيب، تهمس، تلمسه بأنامل مرتجفة، ثم أكثر، كأنها تريد أن تحفظ ملامحه بحاسة اللمس وحدها ..
ما إن تأكد بأنها صارت مُهيئة له بالكامل، همس في أذنها بصوتٍ عميق فيه لمحة من اعتذار مسبق:
-معلش يا لولّا.. ده هايكون مؤلم غالبًا. في البداية بس.
خدي نفس… وركّزي معايا أنا.. اتفقنا؟
رفعت عينيها إليه، نظرتها مشوّبة برهبة واضحة، لكن في داخلها شيء وافق، شيء لم يعد يقاوم، بل يشتهي، يتوق للحبيب الذي لم يدق القلب لسواه ..
أومأت له بإيجاب، ببطء، فابتسم ابتسامة دافئة، ابتسامة رجل عرف أنه ربح المعركة، لكنه لا ينوي أن يؤذي، حتى لو كان هذا في حقيقته هو الأذى بعينه!
همّ بالاقتراب مجددًا، وأفلتت من فم "ليلى" شهقة مرتعبة حين بدأت تحس ببدايات الوجع الذي وعدها به ...
لكن فجأة ..
دقّ الباب!
من جديد!!
تجمّد "نديم" ..
ظلت هي تحت جسده، أنفاسها مضطربة، ونظراتها لا تزال مشوّشة ..
دقّ الباب مرة ثانية، أكثر إلحاحًا، رفع "نديم" رأسه بحدة، نظر إلى الباب، ثم إلى "ليلى" وقال بصوتٍ ممتعض فيه نبرة غليظة من الضيق:
-لأ.. ده تهريج. وتهريج رخم كمان!!!
كان وجهه محتقنًا بالفعل عندما دق الباب للمرة الثالثة، وعيناه تحوّلت إلى سواد مقيّد بالغضب، نهض "نديم" وهو يزفر من الغيظ، كأن الهواء نفسه يخرج محمّلاً بانفعال مكبوت ..
أدار وجهه نحوها، نظراته لا تزال متأججة، وغمغم بنبرة منخفضة لا تخفي غضبه الدفين:
-خليكي زي ما انتي.. هاروح أشوف مين. وأحط إشارة عدم الإزعاج… وراجع لك.
ثم التفت ومدّ يده إلى القميص المُلقى على طرف السرير، ارتداه بعجلة وهو يُزرّر أزراره بعنف ظاهر، لم يُصلح سوى الأزرار القريبة من منتصف صدره، تاركًا الأعلى والأسفل محلولة، كأن وقته لا يتّسع للتأنّي، مرّر كفّه بين خصلات شعره المبعثرة، يحاول أن يُعيد إليه بعض النظام، لكن غضبه من المقاطعة كان أوضح من أيّ شيء آخر ..
فتح الباب بقوة، عينيه تقدحان شررًا، مستعدًا أن يُفرغ كل امتعاضه في وجه الطارق، لكن ما إن انفتح الباب… حتى تجمّد لوهلة!
أمام عينيه كان "عمر،" ابن خالته، يقف رامقًا إيّاه بنظرة متفحّصة، هادئة على السطح، لكن فيها شكٌ صامت ..
نطق "نديم" محتدًا بصوت لا يُخفي انزعاجه:
-في إيه يا عمر؟ عايز إيه؟
مرر "عمر" نظرة أخرى سريعة، تفحصه من أعلى لأسفل وقد لاحظ بدقة قميصه غير مُحكم الغلق، شعره الأشعث، وجهه المحتقن.. كل شيء كان ينطق بما لا يُقال علنًا ...
ابتسم عمر ابتسامة صغيرة، ثم قال بنبرة فيها مزيج من التلميح والمداهنة:
-إيه يا نديم… عامل إيه؟
ردّ "نديم" باستهجان واضح:
-يا راجل! وحشتك يعني؟ ده أنا لسا سايبك من ربع ساعة!!
صمت "عمر" لبرهة، كأنه يُعيد ترتيب كلماته، ثم قال بحزمٍ خافت:
-تعالى يا نديم.. تعالى معايا تحت شوية.. عايزك في كلمتين.
رفع "نديم" حاجبه مرددًا بصوت أجش:
-مالك ياض انت.. كلمتين دلوقتي؟ حبكت؟ ماينفعش نأجلهم يعني؟
لكن "عمر" لم يتزحزح، بل زادت نبرته صلابة وهو يقول:
-لأ يا نديم ماينفعش. أنا عايز أقولك كلام مهم… ومش ماشي من هنا إلا وإنت معايا.
ظل "نديم" ينظر له لثوانٍ مشدوهًا، كأن بينهما حوارًا صامتًا لا يسمعه أحد. ثم تنهد أخيرًا وأغلق باب الجناح وراءه بهدوء ..
أكمل إعادة تقفيل أزرار قميصه بحركات سريعة، قبل أن يمرّر يده في شعره مرة أخيرة قائلًا باقتضاب:
-تمام.. اتفضل يا عمر.
ثم خطى بجانبه، وملامحه قد عادت للجمود، لكن داخله كان يمور بالغضب، ترى ماذا يريد منه "عمر"؟
___________________
في قصر "رياض نصر الدين" ...
يجلس فوق أريكته المخصوصة، أشبه بملك فقد زمام مُلكه، لكنه لا يزال يقاوم الهزيمة بكبريائه ..
دبّ بعصاه الغليظة على الأرض الرخامية، فدوّى صوتها في الصالة الواسعة كصرخة غاضبة من زمن قديم، ثم هتف بصوتٍ أجشّ حادّ:
-سافرت مع ولد المحروج ده بصفة إيه؟ كيف اتسافر امعاه؟؟؟
وقف "زين" أمامه ثابتًا، هادئًا، وفي عينيه لمعة ساخرة كعادته، قال ببرودٍ لاذع يخفي خلفه نفاد صبرٍ متنامي:
-أنا مش فاهم يا جدي.. انت مندهش ليه؟ ليلى عايشة عمرها كله معاهم.. وأكيد دي مش أول مرة تسافر مع حد فيهم أو كلهم. إيه مشكلتك دلوقتي تحديدًا؟
لم يخفت الغضب في ملامح الجد، لكنه بدا أقل حدّة، كأن نظره قد لامس شيئًا من المعقول في كلام حفيده ..
أطلق تنهيدة ثقيلة، وأشاح بعينيه للحظة قبل أن يعاود التحديق في وجه "زين" ثم قال بنبرة أكثر توجسًا منها غضبًا:
-نديم ده مش مريحني يا زين.. أنا شوفت نظرة في عينه مش ناسيها واصل. الراجل ده ناوي على نية… وأنا خايف على البت!
جلس "زين" أخيرًا على الكرسي المقابل له، وبدت عليه علامات الإرهاق، كأن الهم أثقل منكبيه أكثر ممّا يحتمل. تنهد وهو يمرر كفّه فوق صفحة وجهه قائلًا:
-هايعمل إيه يعني يا جدي؟ إللي واضح قدامي إن عيلة الراعي بيحبوا ليلى أوي.. من كبيرهم لصغيرهم. بس أنا وعدتك إني هارجّعها. رغم إن ده هايكون صعب… بس هانفذ وعدي يا جدي.
راقب الجد حفيده، ولم يقل شيئًا للحظات، كأن شيئًا خفيًا كان يعتمل في صدره، لا يجد له مخرجًا ..
ثم قال بصوت منخفض، ممزوج بألمٍ دفين:
-أنا جلبي مش مرتاح.. البت دي ماكنش لازمن أسيبها للغرب أبدًا يا زين. البِت دي حفيدتي من دمي.. كيف همّلتها؟ كيف سمعت كلام سليمان وطاهر؟
ردّ "زين" بهدوء يشوبه الحسم وهو يعتدل في جلسته:
-يا جدي.. إللي حصل حصل خلاص.. وأنا قلت لك ليلى هاترجع. والموضوع ده هايخلص في أقرب وقت. انتهى!
ساد صمت ثقيل، لم يقطعه إلا صوت الهواء المتسلل من النوافذ العالية، وكان وجه "رياض نصر الدين" يزداد غموضًا ..
لم يكن يشك في حفيده ولا بقدرته على تنفيذ وعده.. لكنه كان يعرف الرجال أمثال "نديم الراعي".. ويخشى أن" ليلى" لا تعرفهم ..
يخشى أن ترث أمها ...
_________________
في زاية من زوايا الكافيه الفخم الملحق بالفندق، جلَسَ "نديم" إلى إحدى الطاولات المطلة على البهو، ملامحه مشدودة، والصمت يلفه كستار كثيف ..
لحقه عمر بعد لحظات، جلس قبالته وأشار للنادل الذي مر بجواره هاتفًا:
-هاتلي قهوة سادة يا ميجو.
نظر النادل نحو "نديم" وسأله مبتسمًا:
-وحضرتك يافندم!
رفع "نديم" عينيه إليه بنظرة فاترة تحتهما نار لا تهدأ، أصرفه بتلويحة من يده، ثم نظر صوب ابن خالته مرددًابنبرة هادئة ظاهريًا:
-ممكن تنجز يا عمر وتقول عايزني في إيه.. أنا مش فاضي لك!
رفع "عمر" حاجبه في تحدٍ ساخر، وخاطبه دون أن يشيح ببصره عنه:
-مش فاضي لي وراك إيه يعني يا نديم؟ ليلى صح؟
لم يتغيّر وجه "نديم". بقي متماسكًا، واثقًا كعادته، ثم قال ببرود:
-لآخر مرة بقولك.. هات إللي عندك. عاوز إيه؟
انحنى "عمر" قليلًا للأمام، وصوته قد اكتسب جديّة لم يعهدها "نديم" فيه:
-عاوز أعرف.. إيه الحكاية؟
انت وليلى جايين لوحدكوا وعدت عليا ماشي. لكن إنك تاخدها في سويت وتقضوا أسبوع كامل وباب مقفول عليكوا؟ لا.. دي مافهماش. ومحتاج تفهمني… إيه اللي بيحصل بينك وبين ليلى يا نديم؟
حدجه "نديم" بابتسامة باردة، لكنها لم تكن ساخرة.. كانت إنذارًا من استمراره بالتدخلُ ثم قال:
-إللي بيني وبين ليلى مايخصكش يا عمر ولا يخص حد.. لكن بما إن دماغك ماشية في سكة غلط.. وأنا ماقبلش حتى مجرد التفكير ده عن ليلى فـ هاقولك معلومة واحدة بس لو طلعت برانا. اعتبر إن مالكش أي علاقة بنديم الراعي.. سامعني؟
تجمّد "عمر" مكانه، نظراته متوترة، لكنه لم يقاطع.. انتظر ...
استطرد "نديم" بثبات، نبرة صوته لا تحمل أيّ تردد وهو يخبره بثقة:
-ليلى مراتي يا عمر.
صُعق "عمر" بلحظتها، وشخصت عيناه وهو يسأله مذهولًا:
-نــعــم؟ ليلى مراتك؟ إزاي؟
إتجوزتها إمتى؟
أجاب "نديم" دون أن يحيد بعينيه عن وجه الأخير:
-إمبارح.. اتجوزتها عرفي امبارح.
تدلّى فك "عمر" من قوة الصدمة، وردد:
-انت بتقول إيه؟ إيه اللي أنا سمعته ده؟ اتجوزت بنت عمك عرفي يا نديم؟ انت اتجننت؟؟؟!!
رفع "نديم" سبابته أمامه بتحذير صارم، عينيه تلمعان بشراسة وهو يقول:
-قسماً بالله لو نطقت بكلمة يا عمر. ولا لو حد عرف عن طريقك.. مش هاعرفك تاني.
محدش هايعرف القصة دي. ولا حتى بعد ما نتجوز رسمي أنا وليلى.
قطب "عمر" حاجبيه وهو يقول:
-وانت ليه عملت كده أصلًا؟ مش انت متجوز راندا منصور؟ واشمعنا ليلى؟
ليلى بنت عمك؟!
ردّ "نديم" من بين أسنانه:
-مش بنت عمي!!
تسمّرت نظرات "عمر" عليه، كأن عقله توقف عن الفهم وقال:
-أفندم؟ ليلى مش بنت عمك؟
أجاب "نديم" بثقل وهو ينطق بالحقيقة التي دُفنت طويلًا:
-لأ.. ليلى مش بنت عمي.. ليلى ولا تقرب لي حتى.. ليها عيلة كاملة غير عيلة الراعي..
ومحدش يعرف السر ده غير عمي ومشيرة وأنا.. وأهلها الحقيقيين.. وسيادتك دلوقتي.
وقف الزمن بالنسبة لـ"عمر" لبرهة، نظر إلى ابن خالته وأخيه الروحي بدهشة خرساء، ثم قال:
-انت.. انت بتتكلم جد يا نديم؟ أنا مش مصدق وداني. إيه الكلام ده؟!
أطلق "نديم" زفرة طويلة، أسند ظهره إلى المقعد، نظر إلى السقف للحظة ثم أعاد عينيه إلى "عمر" قائلًا:
-هاحكي لك.. بس زي ما قلت لك.. الكلام ده ماينفعش مخلوق يسمعه منك. فاهمني يا عمر؟
أومأ "عمر" ببطء، لا تزال عيناه متسعتين، وعقله يلهث خلف الأسرار الثقيلة التي بدأت تتكشف إليه …
وما لبث أن غرق في صمتٍ ثقيل بعد أن سمع من "نديم" قصةً فاقت حدود تصديقه، عيناه تائهتان، نظراته زائغة كأن الأرض فقدت معناها تحت قدميه ..
ثم قال، صوته منخفض يشوبه الذهول:
-معقول اللي سمعته ده؟ أنا مش مصدق.. طيب ليه ماقولتليش من بدري القصة دي؟ خبيت عني السنين دي كلها سر بالأهمية دي؟ احنا مش اخوات يابني انت؟
شدّ "نديم" أنفاسه بقوة، كأن الكلام يخنقه، وردّ بنبرة حادة فيها من الألم ما يفيض عن الغضب:
-مافيهاش إخوات دي يا عمر. كنت عاوزني أقولك إيه؟ أقولك ليلى مش بنت عمي؟ بنت حرام؟ وإني بحبها… وعايزها… ومش قادر أطولها؟ كنت عايزني أقولك ده؟
صمت "عمر" لحظات، ترك له المساحة ليهدأ، ثم قال بنبرة أكثر رزانة:
-طيب فهمتك.. بس دلوقتي انت عملت مصيبة يا نديم.. سيبك من كل اللي حكيته.
جوازك العرفي من ليلى ده غلط.. ومن ورا عمك.. وكمان مراتك لو عرفت ..
قاطعه "نديم" بلهجة تحدٍ خالص في صوته:
-راندا دي آخر اهتماماتي.. وجوازي منها مسيره ينتهي.. هي نفسها عارفة أنا اتجوزتها ليه. أنا عمري ما حبيتها.. أنا ماحبتش غير ليلى.. ويا ويله إللي يفكر ياخدها مني… أو يبعدها عني.
عبس "عمر" قائلًا:
-انت مش قادر تفكر غير في نفسك ليه يا نديم؟ ليه مابتفكرش في ليلى؟
ما سألتش نفسك لو جه يوم وعرفت تحت أي ظرف هايبقى موقفها منك إيه؟ فكّر شوية.. انت مصمم تعمل منها نسخة أمها الخاطية في نظر أهلها.
هز "نديم" رأسه بإصرار، وابتسم ابتسامة خبيثة، ثم ردّ بثقة فجّة:
-وده إللي أنا عايزه بالظبط.
نظر إليه "عمر" بذهول، فتنهّد "نديم" وأكمل بصوتٍ مفعم بالتحدي:
-جدها جالي لحد عندي وطلبها.. قلت له لأ مالكش عندي حاجة.. اتحداني وبعت حفيده ليها الجامعة. مفكر إنه ممكن ياخدها مني؟ أنا هاخليه من نفسه لو حاول يمد إيده يرجع يسيبها فورًا.. ومايجرؤش يطلبها مني تاني.
أضاف "عمر" عنه مدركًا خطة ابن خالته المظلمة:
-ولو رجع لك وصمّم ياخدها.. هتقول إنك متجوزها عرفي. ساعتها جدها هايشوفها زي أمها… ويتبرّا منها.
أومأ "نديم" قائلًا بابتسامة مكرٍ خفيفة:
-بالظبط.. أنا مش هاسيب حاجة للصدفة ولا هاسيبها لها اختيار لو ظهر جدها وحبت تروح له. ليلى ملكي أنا. أنا بحبها وهي كمان بتحبني. ومستحيل أسيبها أو أسمح لحد يفرّق بيني وبينها.
ابتسم "عمر" وهو يقول ساخرًا:
-للأسف يا نديم.. انت بنفسك إللي هاتفرّق بينك وبينها. ليلى صغيرة.. بس مسيرها تكبر.
ضاق وجه "نديم" وهو يقول بخشونة:
-هاتكبر تحت جناحي. وهاتعرف إن مالهاش في الدنيا غيري.. قريب هطلّق راندا وهاتجوز ليلى يا عمر. وكل ظنونك دي هاتخيب لما تشوف بعينك إنها تحت إيدي. وبتسمع كلمتي وبتصدقها أول ما أقولها من غير مجهود ..
ثم قام من مكانه دون أن يمنح "عمر" فرصة للرد، وقال ببرود:
-عن إذنك.. لازم أرجع لمراتي.. مايصحش أسيبها وهي عروسة جديدة. ولا إيه؟
تركه وغادر بخطى واثقة نحو المصعد، والشرر يتطاير من عينيه، كمن قرر ألا يخسر الحرب مهما كانت التضحيات ..
دلف "نديم" ثانيةً إلى الجناح، كل شيء كان كما تركه، حتى "ليلى". وجدها ممددة فوق السرير كما تركها، غفت في هدوء، ملامحها تفيض براءة وطمأنينة نادرة ..
اقترب منها، ابتسامة دافئة ارتسمت على وجهه، جلس بجوارها على طرف السرير ومد يده بحنان، يلامس كتفها العاري، شعر برجفة خفيفة في جسدها ..
-بردانة؟.. تمتم بصوت خافت، لكنها غارقة بالنوم ولم ترد
فشدّ الغطاء عليها برفق، ثم انحنى وقبّل خدّها قبلة هادئة لا توقظ، وهمس في أذنها:
-وبعدين يا ست لولّا؟ هاتغلّبيني كتير لحد ما أوصلك؟
ولو.. أنا مش سايبك.. ده أنا مستني اليوم ده من زمان أوي ...
ضمّها بحنان إلى صدره، دون أن يزعج نومها، وعيناه تطوفان على وجهها كمن يحتفظ بكنزه الثمين… لن يفرّط فيه، مهما كان الثمن! ...................................................................................................................................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا