رواية لأجلها امل نصر الفصل الثاني عشر 12 بقلم امل نصر
رواية لأجلها امل نصر الفصل الثاني عشر 12 هى رواية من كتابة امل نصر رواية لأجلها امل نصر الفصل الثاني عشر 12 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لأجلها امل نصر الفصل الثاني عشر 12 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لأجلها امل نصر الفصل الثاني عشر 12
رواية لأجلها امل نصر الفصل الثاني عشر 12
"والخوف كان الحارس لكل شيء"
الخوف من الانكسار،
من انكشاف الوجع،
من الضعف حين لا يصح الضعف.
لكن خلف كل هذا،
كان الحب يطلّ بخجل،
مرة في رعشة صوت،
وأخرى في نظرة مرتجفة،
وثالثة في كلمة عابرة،
تبدو بلا معنى… لكنها تحمل كل المعاني.
الزمن بينهما لم يكن عدوًا،
بل مراوغًا ماكرًا،
يُطيل الطريق عمدًا،
كأنما يريد أن يعلّمهما
أن بعض القلوب لا تُشفى بالهرب،
ولا تُروّض بالعقل.
وبين دفتي الجنون والحنين،
يبقى فقط أمل صغير…
أن يجرؤ أحدهما على الاعتراف أولًا،
ويكسر دائرة العناد،
ويفتح للنجاة بابًا،
كان موصدًا بالخوف طويلًا.
المراجعة والخاطرة للجمر حجي #سنا_الفردوس
.................................
بعد خطوات أشبه بالركض، وصلت إلى المنزل الذي يجمعها بوالدتها، لتلتقط أنفاسها خارجه قبل أن تلج بأقدامها إلى الداخل.
من حسن الحظ، لم تجد "مزيونة" في طريقها؛ فقد كانت في هذا الوقت تعمل على ترتيب إحدى الغرف وتنظيفها. أبصرتها في طريقها ولم تلقِ عليها تحية، بل إنها لا تريد أن تراها من الأساس، ستكشفها، تجزم أنها ستكشفها.
دلفت إلى غرفتها، وألقت بذاتها على الفراش، تتقوقع على نفسها بارتجاف وتشتت. حتى الآن، لا تستوعب ما حدث. هذا المجنون... لقد صدمها بفعله! قالها بملء فمه، وأمام صديقاتها، وفي منتصف الشارع: "إنه يحبها" ويريد الزواج منها! فما كان منها سوى الازبهلال التام أمامه، لم تسبه، لم تنهره، ولا حتى ألقت برفضها التام ردًا على تواقحه. لم تملك الإرادة، ولم يطاوعها لسانها على قول "لا" في وجهه. لطالما داعبها ذلك الإحساس باهتمامه، ونظراته الهائمة، الواضحة بوضوح الشمس.
تتلقى يوميًا لفتات الإعجاب وكلمات الغزل، ممن تعرف ومن لا تعرف، كلها أمور اعتادت عليها ولا تعيرها انتباهًا، نظرًا لتركيزها على الهدف الأعز لها، وهو شهادة كبرى ومستقبل مختلف، يُسعد والدتها.
لكن ما حدث من هذا المجنون كان كـ"انفجار مفاجئ" داخل بحيرة ماء هادئة، ليهدد سكونها وأمانها. لماذا ظهر الآن، وقد كانت ماضية في طريقها دون تفكير في أي شيء يشغلها عن هدفها؟ لماذا، وكل الأمور معقدة حولها؟ وما يطلبه منها كالأمر المستحيل من الناحيتين؛ ناحية والدها الذي يكره عائلته، ووالدتها التي...
– انتي جيتي إمتى من الدرس؟ جاء السؤال المباغت أثناء شرودها، بعد اندفاع باب الغرفة وفتحه، فشهقت منتفضة نحو صاحبة الخاطر الأخير، والتي أطلت أمامها وكأنها أتت على النداء. فقطبت "مزيونة" باستغراب لرد فعلها:
– بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يا بتي، شفتي عفريت؟
حاولت الرد بنبرة آسفة، وهي تلتقط أنفاسها بتوتر ملحوظ:
– آآ... لا طبعًا يا أمه، أنا بس اتخلعت لما الباب اتفتح فجأة وأنا سرحانة.
– آه... صدرت من "مزيونة"، ثم خطت حتى اقتربت لتجلس بجوارها، تطالعها بتفحص متسائلة:
– والخلعة الخفيفة دي تخلي وشك مخطوف كده؟... أنا ليه حاسة إن فيكي حاجة مش مظبوطة؟ انتي تعبانة يا بت؟
– لاه... لاه مش عيانة، أنا مفيّاش حاجة. نفت وهي تحرك رأسها، لتجعلها تعاود بسؤال آخر:
– طب حد زعلك ولا عمل معاكي حاجة عفشة؟
– حد مين؟ جاء تساؤلها بإجفال، زاد من تدفق الهواجس في رأس تلك التي تحفظها أكثر من خطوط يدها:
– أنا اللي بسألك مين؟ شكلك اللي مش طبيعي ده يأكد إن حصل معاكي حاجة. حد ضايقك؟ موقف عفش اتحطيتي فيه؟ في كل الأحوال، انتي هتحكي دلوك وأنا هعرف.
ابتعلت "ليلى" رمقها بضعف، تحاول المراوغة والتهرب:
– يا أمه، مفيش حاجة... أو يمكن موقف بسيط، بس عادي يعني، مش مستاهل أحكي عنه.
– والله؟ طب عيني في عينك كده، قالتها "مزيونة" تقرّب وجهها من ابنتها، التي سقطت في الفخ وانكشفت سريعًا، حين أزاحت بأبصارها عنها، غير قادرة على مواجهتها، لتزيدها تصميمًا:
– كده يبقى تحكي، وماتخبيش ولو تفصيلة واحدة عني يا ليلى.
---
أما هو، فقد هدأ جنونه قليلًا ليعود إلى منزله، تكتنفه الحيرة والتساؤلات عن ردّها. ما لمسه ورآه منها كفيل بأن يُريح قلبه قليلاً، حتى لو اعترضت أو ادّعت الرفض بوجهه. لكنه يعلم أن ما ينتظره كثير، وهو قادر على مواجهة الجميع من أجلها. والأهم في نظره الآن هو موافقتها.
تقول "نعم"، وسوف يفعل المستحيل من أجلها، حتى لو اضطر لمواجهة العالم، حتى لو اضطر أن يضع يده في يد أبيها... ذلك الرجل البغيض.
---
– وكنتي بتجوليلي حاجة بسيطة يا ليلى؟ الواد ده اتجنن ولا عقله طار منه؟ ليه ما صرختيش؟ ولا لمّيتي عليه خلق الله؟ ليه ما وجفتيهوش عند حدّه يا بت؟
صاحت بها مزيونة غاضبة فور أن انتهت الأخرى من قصّ جميع ما حدث، إذعانًا لرغبتها، لتدافع مُبررة:
– ما هو ما جلش أدبه ولا عاكس، هو طلب يدي بس!
– وجالك بـ "بحبك"... ولا نسيتيها دي؟
– أيوه، جالي... بس بصوت واطي!
– انتي هتجنّنيني يا بت؟ عالي ولا واطي، ما هو كله واحد! كونه اتجرّأ وعملها دي ليها حساب كبير! ثم تعالي، ليه ما رديتيش على طلبه في ساعتها؟ وجولتي له "لا"؟ ليه تخليه يتعشم الواد الصايع ده؟
– بس معاذ مش صايع... صدرت منها سريعًا بعفوية أنستها الوضع القائم، لتهب مزيونة من محلها بانفعال يكتسحها:
– لا، صايع! وأنا هعرف أوجّفه عند حدّه زين، مدام انتي معرفتيش! ونهضت من أمامها تغادر، وحالة من الغضب تجعلها تود إحراق هذا الفتى الأرعن... وشقيقه! لا تعلم لماذا خطر هذا الآخر على عقلها الآن، لكنه لا بد أن يتحمل نتائج قلة التربية لهذا المعتوه. يجب أن ينال العقاب على فعلته حتى لا يُكررها مرة أخرى، لا بد أن تلتقيه سريعًا وتبلغه شكواها.
---
صباح اليوم التالي، وقد كانت الساعة لم تبلغ السابعة بعد، حيث الضياء البكر لليوم الوليد. هذا موعده ليباشر استعدادات البناء قبل أن يأتي العمال في الثامنة صباحًا.
كان هو في هذا الوقت يمر على الحوائط التي تم بناؤها حديثًا، كي يرى مدى رضاه عنها، كما فعل أيضًا بالسور الذي قارب أن يضم بيتها ضمن محيطه. وكم ودّ أن يحدث ذلك! الشوق لرؤيتها يقتله، يحترق من أجل سماع صوتها، ومع ذلك لا يأمل حدوث ذلك في ذاك الوقت المبكر.
ولكن... أن يحدث ويسمعها فجأة تناديه باسمه، كأنه أمر من خيال رأسه. حتى وهو يلتف نحوها ويراها بكليّتها، واقفة أمامه، وما زالت تناديه بطلتها التي يرجف قلبه لها في كل مرة... هذا لم يمر به على مدار سنوات عمره الأربعين مع امرأة غيرها.
– أبو ريان، أنا بكلمك. نفض رأسه من عبث أفكاره وتلك المشاعر التي تعصف به، حتى إذا تمالك بأسه أجابها بلهجة تبدو عادية:
– يا مرحب، يا أم ليلى، صباح الخير.
– صباح الخير. رددت بها خلفه بوجه متغير ونبرة لم تروقه، ليعلّق مخاطبًا عينيها المُتهرّبة منه:
– خير؟ في حاجة؟
– خير إن شاء الله. قالتها، ثم شحذت شجاعتها لتُفصح عما في صدرها:
– أبو ريان، أنا ليّا عندك رجاء... أو شكوى بمعنى أصح. لأن اللي حصل ما ينفعش يتسكت عليه.
تسرّب القلق داخله، ليحثّها على التحدث متوجسًا:
– يا ساتر! للدرجة دي؟ قولي اللي عندك يا أم ليلى، وأنا تحت أمرك.
سمعت منه ، ثم قامت تقصّ عليه ما حدث من شقيقه مع ابنتها. ينصت لها جيدًا، لكن ملامح وجهه المرتخية لا تعطيها رد الفعل الذي تتوقعه، فيزداد انفعالها وهي تواصل استرسالها في الأمر الجلل. حتى إذا انتهت، سألته مباشرة:
– يعني دا يرضيك يا أبو ريان؟ دا يرضيك؟ قال بهدوء أثار استفزازها:
– لا طبعًا ما يرضينيش. أكيد كان لازم يستنى. أنا هنبه عليها دي.
كادت أن تخرج شهقة استنكار من نصف حلقها حين افترّ فمها وبرزت عيناها بذهول لمنطقه المقارب للبرود في تلقّي شكواها، حتى ردّت بعدم استيعاب:
– تنبّه عليه؟! دا بدل ما تشدّ عليه وتعرفه غلطه؟! هي سمعة بنات الناس هينة جوي كده؟
حسنًا، استطاعت هذه المرة أن تزحزحه من جموده:
– يا ست مزيونة، مين بس اللي جاب سيرتها؟ ولا يجرؤ حتى! انتي بنفسك جايلة إنه اتصدر لهم في الطريق التاني، مش العمومي، ومخربطش ولا عاكس. هو بس عرض إنه يتجوزها...
– وجالها "بحبك"! قاطعته بها بانفعال حتى كادت أن تُضحكه، لتبرز ابتسامته رغمًا عنه في محاولته التلطيف معها:
– امسحيها فيا أنا المرة دي. عارفة... غشيم. بس والله دي أحسن فئة من البشر في الحب، لأنها ما بتعرفش تخبّي ولا تلف وتدور. اللي في جلبه على لسانه. اعذريه.
للمرة الثانية، يُذهلها بهدوئه، فاستهجنت مُوجّهة الحديث إليه بلوم:
– يعني أفهم من كده إنك بتبرر له؟! دا بدل ما تردوه عن اللي عمله وتحاسبوه؟ حب إيه وكلام فاضي إيه؟
زفر بخفوت، ليتريّث قليلاً ويمتصّ غضبها حتى لا يفسد الأمر برمّته إن استمر هذا الجدال الحاد، ليعود أخيرًا قاصدًا ترضيتها:
– أنا عارف إنه غلطان، بس رايدها في حلال ربنا. من ساعة ما شافها، وهو على راسي أنا وأمي، وإحنا بنصبره على ما تتحسن الظروف، أو حتى على ما تكمل سنتها الأخيرة في الثانوية. وبعدها يصحلنا نتقدّم، وتاخد علامها الجامعي في بيته. لكنه مش قادر يصبر، وأنا عاذره. خايف من بُكرة، ومن غدر عرفان. وهو خلاص جاب آخره. أصل الحب ده لا بيدي ولا بيده... دي حاجة من عند ربنا، بيزرعها في قلوبنا، ولا ليها طب، ولا ليها دوا.
وكأنه كان يتحدث عن نفسه... لامستها كلماته الأخيرة، لتُحدث بها اهتزازًا وارتباكًا ملحوظًا، رغم ادّعائها غير ذلك. ثم أعترضت بفظاظة:
– ومين جال إني هوافق؟ أنا بتي هعلّمها، وهفضل وراها لحد ما تمسك وظيفتها، عشان ما تحتاجش لراجل، ولا أي مخلوق. خليه يدور على واحدة تانية تسعده وترضى بيه أحسن. على الأقل يوفّر مجهوده. ما طلعتش بيها أنا واتطلقت، عشان أكرر نفس غلطتي!
توقعت ردًا قاسيًا، لكنه لم يفعل. بل ظل صامتًا، يُناظرها فقط بثاقبتيه الضيقتين، وكأنه يخترقها. سهام نظراته الحادة تغوص بها وتكشف أغوارها، تصل لأبعد نقطة في داخلها، حتى أزعجها ذلك الخاطر. فانتفضت من ثباتها وسحبت ذاتها من أمامه... هاربة من حصاره. ولم تخطُ سوى خطوتين، حتى وصلها صوته يشق أذنيها:
– مش كل الرجّالة... عرفان.
---
وفي منزل حماد القناوي، حيث هالة التي كانت كمن تدور حول نفسها منذ الأمس، في حالة من التخبط، ظنون وأفكار واستنتاجات تملأ رأسها منذ حديث ريان الصغير وربط الخيوط ببعضها. لقد اشترى قطعة الأرض كي يبني منزله في تلك المنطقة العازلة ليكون بالقرب من تلك المرأة. نعم، هذه هي الحقيقة التي تأكدت منها اليوم.
يُخفون عنها الكثير هذه الأيام، ربما لهذا السبب، ولكن ما دخل معاذ؟ يُشتّتونها بالتفكير به، وهم يدبّرون أمر حمزة في الخفاء. اللعنة، سوف ينفجر رأسها إن لم تعرف الحقيقة كاملة.
– "براحة على نفسك من التفكير، اللي يشوفك يقول وراكِ مشكلة دولية ومش لاقيالها حل!" عقّب بها خليفة متهكمًا بعدما دلف إلى الغرفة ووجدها على نفس الحالة التي تركها عليها. رفعت رأسها نحوه بانتباه شديد، ثم توجهت إليه بالسؤال وهو في طريقه إلى خزانة الملابس لتبديل ملابسه:
– "إلا قولي يا خليفة... هي روان، طليجة أخوك، لساها برضو شغالة مع أبوها في شركة المقاولات بتاعتهم؟"
سمعها الآخر، وتوقفت يداه عن خلع قميصه، وتجمد لبرهة قبل أن يلتف إليها، يرد بخشونة:
– "وإنتِ مالك بيها؟ إيه اللي جاب سيرتها أصلًا؟"
ابتلعت رمقها، تبرر بكذب:
– "أنا بسأل عشان بجالها فترة يعني ما جتش ولا سألت على ولدها. إيه؟ هي خلاص فقدت الأمل من حمزة ومن رجوعه ليها؟"
بغضب يكتمه بصعوبة، التفت إليها متهكمًا:
– "تفقد الأمل ولا حتى ترجع له تاني! تشغلي بالك بيها إنتِ ليه؟ خلاص، حبيتيها دلوك وبجى هامك أمرها؟ ما تخليكي في حالك يا هالة، عشان أنا ضجيت، وروحي بجت في مناخيري منك! ده إيه القرف ده والعيشة اللي تقصّر العمر دي!"
التفّ وتناول جلبابه البيتي، وتابع ذاهبًا من أمامها:
– "سيبها لك وغاير خالص من وشك! اشبعي فيها لوحدك يا هالة، يمكن تلاقي حل كمان لقضيتك الجديدة اللي أنا مش عارفها!"
جاءت الأخيرة يتبعها صفقة قوية لباب الغرفة، اهتزت لها الجدران، وانتفضت على إثرها، لتغمغم حانقة في أثره:
– "ده مالُه ده؟ بقت كل الثورة دي عشان بس سألته عن روان؟ رجالة نكد!"
................................
تبضّعت داخل السوق القريب في البلدة، وابتاعت ما يحتاجه المنزل من خضروات ومنتجات الألبان الطازجة من يد صانعاتها من النساء، فهذا شيء لا بد أن تنتقيه بنفسها لتحكم وتختار، على عكس أمر البقالة السهل الذي يتكفّل به رئيس العمال، العم مغاوري، للتخفيف عنها يوميًا.
كانت في طريقها الآن نحو منزلها حينما تفاجأت بصاحب الجسد الضخم يظهر لها من العدم، ويسد الطريق أمامها مخاطبًا:
— عاملة إيه يا مَزْيونة؟ ألا إنتِ جاية من فين أصلًا؟
ردُّها الغريزي كان بالارتداد بقدميها للخلف خطوتين، تتماسك وتتمالك بأسها قبل أن تجيبه باجفال لا يخلو من حدّة:
— مرحبًا يا أبو ليلة! يعني هكون جاية من فين وأنا السلة في إيدي؟! ثم إيه لزومه السؤال؟
تبسّم مبررًا بلطفٍ مُبالغ:
— مقصديش حاجة شينة بالسؤال طبعًا، أنا بس باصص على تعبك، سوق ووجع جلب وشمس، وإنتِ طول عمرك مستتة في بيتك، وكل حاجة بتيجي لحد عندك...هو أنتي مش ناوية تريّحي نفسك وتريحيني بالرد المفيد؟ كفاية بقى تفكير.
بالطبع فهمت من حديثه، الى ما يرمي إليه، فرفعت بصرها نحوه، لتقابل عينيها بعينيه اللتين شملتاها بوقاحة، وكأنه تناسى أنها لم تعد زوجته. مسح بجانب إصبعه على طرف شاربه الكث المرتب، لقد عاد إلى عرفان القديم، ذلك الذي كاد بهوسه بها وأنانيته أن يتسبب في حرمانها من الإنجاب إلى الأبد، لولا رحمة الله.
لطالما شكرت "صفا" في داخلها، رغم كل أفعالها معها، إلا أنها كانت رافعةً عنها همًا كبيرًا بصرفه عنها. من قال إن كل الشر نقمة؟ ارتجف داخلها وهي تتخيّل عودتها إليه، وهي التي قررت أن تهب حتى عمرها لابنتها. ولكن، أين تجد القدرة لتحمّله؟ وهي نفسها تغيّرت، ولم تعد تلك الصغيرة التي لا تعي شيئًا.
— ووه يا مزيونة! كل ده سرحان؟ ما تردّي بقى وريحينا... هو أنا غريب عنك؟ دا أنا أبو بتك، يعني راجلك اللي تعرفيه...
— عرفان، بَعِد من جدامي، خليني أروح باللي شايلاه.
قاطعت إسهابه بها، فلم تتحمّل حتى الفكرة، وهمّت لتتخطّاه، قبل أن تنتبه إلى بوق السيارة التي اقتربت منهما. التفتت، لتفاجأ بآخر شخص تتمنّى رؤيته الآن، وقد توقّف ليترجّل من سيارته مخاطبًا إياها:
— في حاجة يا أم ليلى؟ ليكون محتاجة مساعدة؟
هذا ما ينقصها! أن تطلب مساعدته لها من حصار عرفان، الذي ارتفع حاجبه الأيسر نحوه بشرٍّ، ليعقب:
— شايف جَرّ شكل على أول الصبح! حد طلب منك يا أخينا تحشر نفسك بين الراجل ومرته؟
— مرته؟!
ردد بها حمزة من خلفه بنبرة استنكارية أنبأتها بخطورة القادم، لتسحب نفسها من أمامهم بحسم:
— عن إذنكم... أنا ماشية.
راقبها الاثنان وهي تبتعد عنهما بخطواتها المسرعة، قبل أن يعودا لحرب النظرات التي قطعها حمزة بمكر، مخاطبًا:
— على فكرة يا أبو ناصر، أنا ماجصدتش أي حاجة عفشة في دماغك... كل غرضي خير وربنا العالم.
— خيرررر؟!
ردد بها عرفان، والتَمعت عينيه ببريق الشر مردفًا:
— خلّي كلامك لعيل أهبل ولا بريالة تضحك عليه! فاكرني مش فاهم؟ ولا واخد بالي من أفعالك؟ ولا البيت الجديد اللي ما حلالك تبنيه غير في الحتة دي دونًا عن باقي البلد؟
توقّف برهة، ثم تابع بتحدٍّ وابتسامة ذئب:
— على العموم، ابني وعلّي براحتك... ودَوَّر بعدها على اللي هتسكن فيه معاك.
أومأ حمزة يستوعب طبيعة الرجل الذي أمامه. لقد عرف الآن السرّ خلف كل تلك الإغراءات التي قدمها لمزيونة وابنتها، وتأكد له أنه لن يفي حتى بنصف الوعود التي قطعها عليها إن رضخت مزيونة وعادت إليه. تبا له من ثعلب، وتبًا له هو أيضًا إن تركه ينفذ خطته الدنيئة!
— أكيد طبعًا، أنا مش هابني بيت أتفرّج عليه وهو فاضي! وإن شاء الله أتوَفَّق مع صاحبة النصيب اللي تقبل تنوره. بس دا إيه دخله باللي بكلمك عنه؟! أنا بجولك نيتي خير... وبكرة تعرف زين إن قصدي مش اللي في بالك خالص!
ابتسامة ساخرة لاحت على زاوية فمه كانت الرد الوحيد من عرفان، قبل أن يسحب نفسه ويغادر من أمامه دون استئذان أو انتظار، ليتطلّع في أثره حمزة مغمغمًا بحديثٍ لنفسه:
— ماشي يا عرفان... هنشوف مين اللي هيكسب. .........
...............................
وفي داخل منزلها كانت تدور حول نفسها بعجز، يقتلها القلق من تطوّر الأمر بين الاثنين اللذين تركتهما على حافة الدخول في شجار حامٍ، وفي الوقت نفسه تموت قهرًا لمعرفة المستجدات. تعلم أن انسحابها كان حلًا حتى لا يزداد الأمر اشتعالًا، لكنها أيضًا لا تضمن غدر عرفان أمام التحدي المقصود من الآخر. اللعنة، ماذا عليها أن تفعل وهي وحدها الآن؟
أتعود للاطمئنان عليه... تبًّا، لا، بل عليهما، نعم عليهما. هي لا يخصها أحد منهما... نعم، لا يشغلها أمر حمزة، لا يشغلها.
دوى فجأة صوت طرق على الباب الخارجي للمنزل، لينتشلها من حديث نفسها، الذي كانت تجبر عقلها على الاقتناع به. انتصبت مهرولة نحو الباب؛ ربما أتاها خبر يطمئنها. وكانت المفاجأة حينما فتحت لتجد منى ووالدة حمزة أمامها...
ــ هي عمتي حسنية راحت فين؟ مش كانت من شوية برضو مع منى بيتحدّتوا هنا؟ توجهت هالة باستفسارها نحو معاذ، الفرد الوحيد الباقي من تلك الجلسة التي كانت تضم الثلاثة منذ قليل في وسط المنزل، قبل أن تصرفهم منى طالبةً طبقًا من الحلوى التي صنعتها بالأمس مع مشروب القهوة الساخن، لتأتي الآن وتجد الطاولة فارغة، إلا من هذا المتحذلق الذي تناول منها الصينية متبسمًا بخبث وهو يضع قطعة كبيرة منها في فمه:
ــ مشوار صغير يا هالة، ومش هيتأخروا إن شاء الله. تجمّدت بصدمة، تردّد بعدم استيعاب:
ــ مشوار إيه بالضبط؟ والقهوة اللي طلباها مني أختك؟ وطبق البسبوسة والراون اللي كانت نفسها فيها! هما امتى طلعوا أساسًا؟
صرخت الأخيرة بصيحة تجاوز عنها معاذ، ليواصل وضع القطع في فمه وارتشاف القهوة، قائلاً بهدوء:
ــ المشوار جه ضروري يا هالة، اضطرت منى تمشي وتسحب أمي معاها، دي نسيت حتى تتصل بمنص.
انفجرت به شاعرة بإهانة، وكأن أحدهم صفعها على عنقها من الخلف:
ــ وهو منص ده يجدر يكلمها أصلًا؟ تروح وتاجي على كيفها وفي الآخر تراضيه بكلمتين؟! مش أنا اللي مضحوك عليا من الكل وبيداروا عني، ولا أكني هحسدكم حتى... يا ستير!
هتفت بها وهرولت إلى داخل المنزل بغيظ شديد، حتى جعله يغمغم خلفها:
ــ الله أكبر عليكي... بوز فقر.
ــ هي مين اللي بوز فقر؟
قالها حمزة الذي جاء قادمًا من الخارج، ليشير إليه شقيقه وهو يتابع انصراف الأخرى:
ــ وهي فيه غيرها؟ والله خليفة أخوك ده شقي.
ــ وحد كان جبره يختارها؟ غمغم بها حمزة قبل أن يسقط على الكرسي المقابل له، مردفًا باستفساره:
ــ وأنا جاي لمحت أمك ومنى داخلين عند مزيونة، أكيد عندك خبر.
سمع منه معاذ ليشرق وجهه بابتسامة تتراقص لها عيناه، قائلًا بصوت خفيض:
ــ ما هو ده المشوار اللي هيجنّن هالة عشان تعرفه! أمك اقتنعت أخيرًا يا واد أبوي، وراحت دلوك مع منى عشان يقنعوا ليلى وأمها.
ــ آه... تمتم بها حمزة باستدراك، ليعقب:
ــ جول كده بجى، يعني انت دلوك باعت أمك وأختك، على أساس إن مزيونة سهلة جوي توافق، وبعد ما اتصدرت لبنتها في نص الطريق كمان، واتحفتها بجلة حياك وربايتك؟
بهت معاذ وتوقف عن مضغ ما في فمه، يردد بريبة وتوجس:
ــ كيف يعني؟ هي ليلى جالت لأمها؟
ــ أيوه يا حبيبي، حكت لها، والست وجفتني واشتكتني، مزيونة غضبانة منك غضب شديد.
انفعل معاذ خلف كلمات شقيقه، يردد بمظلومية:
ــ طب وافرض يعني! ما أنا طالبها في حلال ربنا، تفوتها دي مدام غرضي شريف، ودلوك تقتنع إن شاء الله لما تلاقي الموضوع دخل في الجد. منى وأمي أكيد هيقنعوها.
لاحَت ابتسامة ساخرة من حمزة يعلّق بنُصح:
ــ طب وافرض أمها وافجت والعقدة بجت في أبوها؟ أجيبلك من الآخر يا معاذ، حل عقدتك عند ليلى نفسها.
اعتدل الأخير باهتمام شديد، يريد المزيد من الإيضاح:
ــ إزاي؟ ما أنا بدخل البيت من بابه أها، امبارح ما ريّحتنيش ولا ردّت عليا، قلت أثبّتلها إني جد... أعمل إيه تاني؟
اقترب منه حمزة يشدّد عليه بكلمات مقصودة حتى يضعها جيدًا في رأسه:
ــ أنا عارف، وهي نفسها أكيد عرفت، بس المهم إن يبجى عندها الإرادة زيك... الطريق لليلى، عند ليلى نفسها!
توقف يراقب تأثير الكلمات على شقيقه ومدى استيعابه لها، ليستطرد بالأخيرة:
ــ الساعة داخلة على اتنين... ميعاد رجوعها من المدرسة.
لم ينتظر كثيرًا حتى نهض معاذ سريعًا من أمامه، ليتناول هاتفه وأشياءه مرددًا له:
ــ لما ترجع أمي ومنى، ابجى طمّنّي بالتليفون.
أومأ له حمزة يتركه يغادر، ثم غمغم في أثره:
ــ الله يعينك يا واد أبوي... ويعينني أنا كمان.
..........................
........وفي منزل مَزْيونة التي التزمت الصمت منذ ان بدأوا في الحديث معها، كانت تسمع فقط دون أن تُشارك بسؤال أو استفسار، حتى أثار ذلك ريبة المرأتين، فعبرت منى عن مخاوفها:
— شكلك مش جابلة الموضوع يا مَزْيونة، عشان كده سايبانا أنا وأمي نغني ونرد على بعضينا.
— الموضوع مش كده يا منى.
— أمال إيه بس يا بنيتي؟ جاء التساؤل الأخير من المرأة حسنية، ليزيد من ثقل ما يكتنفها، حتى ابتعلت رمقها بتوتر شديد، وحاولت الرد بلطف:
— يا حجة حسنية، إنتي والحجة منى، جيتكم والله على راسي من فوق. المهندس معاذ عريس تتمناه أي واحدة لبتها، تعليم ومال وجمال، وعيلة تشرّف أي حد. ده كفاية شهامة الأستاذ حمزة وجمايله اللي ما تتعدّش.
عقبت منى بجدية:
— بغض النظر عن الأخيرة، عشان ما بين الحبايب مفيش جمايل ولا كلام فاضي، بس أنا هتكلم عن اللي جابلِيها... قولتيها بنفسك: عريس تتمناه كل أم لبنتها، بالمزايا اللي ذكرتيها. ده غير إننا جابلين بكل شروطك، عشان عارفين غرضك الأساسي في تعليمها، وولدنا مستعد يساعدها كمان...
تبسمت مَزْيونة بضعف، تطالعها لعدة لحظات قبل أن تقول ببعض الحرج:
— مش عايزة أبقى جليلة ذوق معاكم والله، بس الحتة الأخيرة دي نفس اللي اتقالت لأبويه... عرفان لما اتقدّم، حلّف بالإيمان إنه هيخليني أكمل على الأقل شهادة الإعدادي. أنا آسفة طبعًا في التشبيه، متأخذونيش يا جماعة.
— لاه يا مَزْيونة، مش هنلومك ولا نقول فرق السما من الأرض ما بين ولدنا وبين اللي اسمه عرفان... بس ده معناه إنه راجل ما عندوش عهد. يبقى تصدقيه ولا تجبلي ترجعي له تاني كيف؟
قالتها منى بقصدٍ صريح، لتفيقها من مجرد التفكير، حتى شعرت مَزْيونة بالحرج وأطرقت برأسها، لتنال مني جزاءها بلكزة على خصرها من مرفق والدتها، التي زجرتها بعينيها حتى لا تتدخل فيما لا يعنيها.
— يعني من الآخر كده يا بتي... إنتي رافضة؟ ولا موافقة؟ ولا ناوية تدي نفسك فرصة للتفكير؟ في كل الأحوال إحنا حبايب يا بنتي، والود ما بينا موصول. ده كله جِسْمة ونصيب.
سحبت مَزْيونة شهيقًا مطولًا قبل أن تُخرجه، ثم تحدثت بصدق:
— اللي أقدر أجولهولكم يا جماعة... هو إنه لو عايزها، يستناها على ما تخلص كليتها. ما تزعلوش مني. أنا مش عايزة بتي تكرّر اللي جولته لأبويه بعد ما اتجوزت وانزاحت عن عيني الغشاوة، ولما لقيت نفسي جدام مسؤولية أكبر من طاقتي... ساعتها قلتله: "ظلمتني يا أبوي"... وفضلت الجملة معلّقة معاه لحد ما مات، وهو يقولي: "سامحيني"... مش هتحملها والله، لو سمعتها من بنتي
.......................
استني لحد ما تخلص كليتها! إزاي يعني؟!
هتف بها باستهجان عبر الهاتف لمُحدثه، ثم تابع بحزم بعد أن استمع لبقية الحديث الذي دار في منزل مزيونة:
لاه يا حبيبي، مش هصبر، ولا ينفع معايا أصلًا الكلام ده! أجفل دلوك، وأنا هبجي أكمل معاك بعدين، سلام.
أنهى مكالمته بعد أن انتبه لقدومها بملابس المدرسة من الطريق المؤدي إلى منزلها، وقد اختار موقعه جيدًا أسفل إحدى الشجيرات، ليظل في مكانه حتى إذا اقتربت، تفاجأت به أمامها، فصدرت شهقتها:
بسم الله الرحمن الرحيم! إنت تاني يا معاذ؟!
سمعها معاذ ليرد بإصرار:
وتالت ورابع وخامس كمان! أنا مش ههدَى غير لما أرسى معاكي على بر يا ليلى.
تكتفت، تطالعه بحنقٍ صامت، ليستطرد قائلًا:
أمي وأختي يدوب طالعين من عند أمك بعد ما طلبوا يدك ليا، عشان تعرفي إني مش بعاكس يا ليلى، ولا بتسلى، ولا ليا في الكلام دهِ أصلًا.
فكّت ذراعيها عن صدرها، وقد استرعى كلامه انتباهها لتتساءل:
وهي كان ردها إيه؟
كان ردها إنّي أصبر عليكي لما تخلصي كليتك يا ليلى.
لاح على ملامحها بعض الإحباط لتعقب، ردًا على قوله:
وإيه الجديد؟ ما هو ده العادي! ده رد أمي على أي حد يطلبني، بعدين بجي خليني أعدّي...
بس أنا مش أي حد يا ليلى!
صاح بها، يمنعها من المرور فور أن همّت بتخطيه، ليواصل مشددًا أمامها:
أنا معاذ اللي هيتجوزك، ومش بعد خمس سنين! لاه، ده السنة دي، ومش بعيد كمان الأيام الجاية!
والله؟ ودي هتحصل إزاي إن شاء الله؟!
علقت بسخرية على كلماته، ليجفلها بسؤاله:
أفهم من كده إنك موافقة؟
أربكها بقوله، لتُذهل بأبصارها للحظات، قبل أن تملك بأسها وتنهره:
إيه الكلام الفاضي ده؟ بعد من جدامي يا معاذ! خليني أروح بيتنا بدل ما أمي تقلق.
للمرة الثانية، يمنعها من المرور، وابتسامة أنارت وجهه بالفرح وهو يخاطبها بإصرار:
لا، مش ماشي يا ليلى غير لما تسمعي كل كلامي. لازم تعرفي إني هعمل المستحيل عشان تبجي في بيتي في أقرب وقت. هساعدك، وهذاكرلك، وهخليكي تدخلي الكلية اللي إنتي عايزاها، ولو حصلت اذاكرلك زي العيال، هعملها وهصبر عليكي. نجاحك هو نجاحي. في حاجة تاني أنا ناسيها؟
تعلم أن وعوده لها الآن، ودون أي ارتباط رسمي، هو ضرب من الجنون، ومع ذلك وجدت نفسها مندمجة معه، لتجيبه:
أيوه، في طبعًا حاجات كتير إنت ناسيها! أهمها المسؤولية... مسؤولية راجل عايز اهتمام وخدمة في البيت، أكل وشرب وتنضيف. أنا واعية على كل الأمور دي، عشان أمي منبهاني عليها من الأول.
لو تعلم قدر سعادته باستجابتها، لخجلت أن تكمل معه الحديث، لكنه استطاع أن يُسيطر قليلًا على جموح مشاعره، وهو يسارع في طمأنتها:
كل اللي عايزاه هيصير. معاملتك في بيت أمك هتبقى نفس معاملتك في بيتي، ويزيد عليها بس الدلع مني عشان هتبقي زي بنتي. ممكن تكوني شايفاها وعود وأحلام، بس أنا مستعد أمضي عليها شروط جدّام المأذون. حتى لو جوازي منك كله تعب، أنا شاري تعبي معاكي. المهم، إنتي بس توافجي وتريحيني.
ظلّت على صمتها لبرهة، عيناها الجميلة تطالعه بجرأة، وكأنها تستشف منه الصدق. لقد أخذ الإجابة، حتى وإن لم تنطقها. ينتظر فقط التأكيد، والذي قد جاء بعد ذلك بنصف ابتسامة ماكرة راقص قلبه على إيقاعها، قبل أن تقطعها بدلال فطري وتتخطاه، ليتبعها بقوله:
ليلى، لو عندك أي حاجة صعبة في الدراسة، جولي، وأنا هتصرف. مش لازم تبجى المساعدة مباشرة.
بنصف التفاتة برأسها، ردّت عليه:
لما أفكر الأول وأشووووف.
تنهد في إثرها ارتياحًا، يغمغم وعيناه تتابعها في طريقها الطويل دون كلل أو ملل:
فكري مع نفسك براحتك، أنا خلاص خدت الإجابة.
....................................
في المساء
وقد انتهى الرجال من يوم بناء جديد في منزله، وتبقى فقط بعض الآثار من أدوات البناء التي يتم رفعها، جلس هو يتابعهم وقلبه في الجهة المقابلة، عيناه تتنقل نحو منزلها كل دقيقة، في شوق قاتل لرؤيتها، بعد لقاء أقرب للشجار صباحًا.
لو تعلم أن بأفعالها البسيطة تلك تُحيي بداخله أشياء ظن موتها منذ زمن، تُعيده لمرحلة المراهقة؛ الانتظار في الطرقات، التلهف لرؤية الحبيب، والتساؤل: هل يشعر به أم لا؟ هل يُبادله تلك المشاعر أم لا؟
اللعنة... بعض الأحيان يتمنى لو يملك نصف جنون شقيقه الأصغر، حتى يفعل ما يريد ويحصل عليه، لكن قدره أن يكون الكبير.
طلّ طيفها فجأة، لتنتبه كل حواسه نحوها، يراقبها فوق السطح، تُلقي بعض مخلفات برج الحمام الذي تراعيه. التقت عيناها بعينيه، في تواصل بصري قطعته فجأة بخجلٍ منها، قبل أن تذهب من أمامه. ابتهج الفؤاد لرؤياها، فنهض أخيرًا تاركًا محله، وقد نال النظرة التي ظلّ ينتظرها منذ ساعات، ليعطي اهتمامه للشيء الملح الآن، ذلك الذي سوف يترتب عليه أمور مصيرية.
تناول هاتفه أولًا، واتصل بشخص ما، والذي ما إن أجاب، أصدر نحوه الأمر:
خليك صاحي وجهز المطلوب، أنا جايلك دلوك.
....................................
بعد قليل
وداخل البلدة التي لا تبعد عن بلدتهم سوى بعدد من القرى، حيث مخبأه في منزل صديقه "جمعة"، وقد كان نائمًا في هذا الوقت من الليل، في انتظاره حتى يأتي من مناوبة المشفى، يحمل له الطعام والسجائر وما ينقصه من احتياجات.
لا يدري ما الذي حدث حتى جعله يستيقظ من نومه، فيفتح عينيه على أقصى اتساع، وهو يرى مجموعة من الرجال يلتفون حوله، يتوسطهم "جمعة" الذي قابله بابتسامة سمجة قائلًا:
معلش بجى يا صاحبي... هي جات كده!
رفع طرف شفته نحوه بازدراء، قبل أن يلتفت لصاحب الصوت الحازم، والذي عرفه من هيئته المتأنقة، فارتفعت يده تلقائيًا إلى جبهته، موضع ضربة الرأس القوية التي حطّ بها تذكارًا منه قبل ذلك، ليخاطبه الآخر بابتسامة شر:
عطوة باشا! وحشتني يا راجل.
....................................
داخل الغرفة التي تستذكر فيها دروسها ليلًا
ورد إلى أسماعها فجأة صوت صهيل خيل ليس بغريب عنها. أرهفت السمع عند اقترابه أكثر وأكثر، حتى شعرت بأنفاس الحصان في ظهرها، ترافقه أصوات حكّ بالخشب، لتنتفض من مكانها نحو النافذة القريبة خلفها، تفتح شراعيها، وتتوسع عيناها بذهول وانبهار، وهي ترى رأس ذلك الكائن الجميل يمتد بفمه نحوها، لتلتقط منه علبة مغلّفة، مُلصق عليها كارت أبيض.
تناولته بلهفة، تُداعب وجهه بمرح مضاعف، حتى إنها لم تقوَ على منع نفسها من تقبيله، قبل أن تفاجأ بصوت صفير بشري جعله يرتدّ عائدًا على الفور نحو مجنونها الذي كان ينتظره عند المجري المائي.
يطالعها بابتسامة صامتة، بادلته إياها على استحياء، لتتفحّص الهدية المغلفة، والتي كانت لوح شوكولاتة فاخر، والظرف الأبيض مكتوب به:
(حاجة بسيطة عشان تساعدك على المذاكرة، والنبي قبل الهدية)
أمسكته بيدها لحظات بتردد، قبل أن ترفع أبصارها إليه بنصف ابتسامة تغيظه، ثم تعيد غلق النافذة بوجهه، ليعتلي هو حصانه بحنق لا يخلو من مرح، أيضًا لقبولها هديته، واضعًا همّه بالحصان هامسًا له بحسد:
أنا أتعب وأخطط وأشيل همّ المغامرة، وفي الآخر يتقفل الشباك في وشي، وإنت تاخد البوسة على الجاهز، يا ابن المحظوظة!
...يتبع
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا