رواية لأجلها امل نصر الفصل الثالث عشر 13 بقلم امل نصر
رواية لأجلها امل نصر الفصل الثالث عشر 13 هى رواية من كتابة امل نصر رواية لأجلها امل نصر الفصل الثالث عشر 13 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لأجلها امل نصر الفصل الثالث عشر 13 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لأجلها امل نصر الفصل الثالث عشر 13
رواية لأجلها امل نصر الفصل الثالث عشر 13
من تشتريه بالمال، اعلم أيضًا أنه سوف يبيعك بالمال. هذا ما كان يعرفه جيدًا، ومع ذلك أعطاه الأمان، ولم يتوقع منه الخيانة بهذه السرعة وخلال أيام معدودة. ذاك الذي يقف الآن بالقرب من الحائط، مصوِّبًا بصره نحوه ببرودٍ مدهش، يراقب التحقيق الذي يُجرى معه، وكأن الأمر لا يعنيه.
ـ انطج ياض، طلعت على بيت مزيونة، وكنت عايز تدخله ليه؟ سرجة ولا غرض تاااني؟
هدر بها حمزة، حتى ارتعشت لها أطراف الآخر، وهو يبتلع ريقه الجاف بصعوبة، ليواصل الإنكار بإصرار:
ـ يا بوي، معملتهاش، ولا أجدر أنط على البيت أصلًا. أحلف لكم بإيه عشان تصدجوني بس؟
كان حمزة في أوج غضبه، يود فعل الأفاعيل به، ولكنه يتحرى الصبر حتى يصل إلى غايته:
ـ مش هكلمك على الطلج اللي صاب رجلك، ولا عينة الدم اللي رفعتها الحكومة وأثبتت إن الفصيلة تخصك. يعني كلها أدلة تدينك ومثبتة عليك، يعني خلصانة.
دنا ليضغط بأنامل أصابعه الخشنة القاسية على جانبي فكِّ الآخر، حتى كاد أن يهشمهما، ليهمس بفحيحٍ وتوعُّد:
ـ حظك يا عطوة إنك متصاب في رجلك ومجادرش تمشي عليها، إنما لولا كده، كنت علّجتك دلوك زي الدبيحة في مروحة السجف، وأتسلّى عليك الليلة كلها.
توقّف برهة يشاهد الهلع الذي ارتسم على ملامح المذكور، كلوحة بائسة بهتت ألوانها حتى أصبحت كشحوب الموتى، ليُعزز من هواجس تعبث برأسه:
ـ لآخر مرة بسألك يا حيوان، كان للسرقة ولا لسبب تاني؟ عرفان ليه يد معاك في الموضوع ده ولا لاه؟
سمع عطوة الأخيرة وكأنها طوق نجاة يتمسك به، لينفد من يدي هذا المجنون، قبل أن يزهق روحه، إن واصل الضغط وأخذ الإجابة، وهي طمعه الحقيقي بمزيونة الفاتنة، وليس أي غرض آخر، حتى ابنتها لا تشغله.
ـ أيوه يا سعادة البيه، عرفان هو اللي سلطني، إني أفطّ على البيت وأهدد مزيونة وأخوّفها عشان تجبل ترجع له لما تحس بالخطر.
.................................
حين تطول السنوات على الذنب الذي اقترفته، ويطمئن جانبك من اكتشافه، تتناساه، بل ويغلبك الظن أنك لم تفعله من الأساس، وأن النتائج التي ترتبت عليه من خسائر للبعض وفوز لك ما هو إلا إرادة القدر. والقدر بريء ممن ماتت ضمائرهم، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم.
سارت تسحب أطفالها بمرح داخل منزلها، الذي دلفت إليه عائدة من الزيارة الأسبوعية لأهلها، وقد جدّدت نشاطها بيومٍ كاملٍ قضته في صحبة الأهل، وزيّنت نفسها بما يجعلها تسترد شغف زوجها بها. صادفت في طريقها إحدى المرايا الملتصقة بالحائط، لتقف أمامها وتخلع الطرحة التي تلفها حول رأسها، فانساب شعرها الذي صفّفته بالمكواة اليوم، وجعلته حريرًا يُحيط بوجهها الذي أضفت عليه بعض المساحيق لتبدو فاتنة كما ترى الآن، مما عزّز الثقة بداخلها لاستعادة زوجها الذي يصفعها بجفائه هذه الأيام.
لم تكن تعلم أنه هو أيضًا كان في انتظارها في هذا الوقت على أحرّ من الجمر، ليس حبًا واشتياقًا مثلها، إنما لشيء آخر، شيءٍ أخطر من أن تتصوره. فهو أيضًا استغل ذلك اليوم الذي فرغ فيه المنزل منها ومن أولاده، في رحلة من البحث استغرقت منه نصف النهار، حتى قلب الأثاث رأسًا على عقب، ليعثر في الأخير على غايته، ويتأكد أخيرًا من ظنه، بعد سنوات من الغفلة قضاها مع امرأة سوداء القلب مثلها. ولتكن المفاجأة من نصيبها الآن، وهي ترى منزلها بهذه الفوضى حينما قدمت إلى الطابق الذي يجمعها به:
ـ يا مري يا عرفان، إيه اللي عمل في البيت كدِه؟ مفيش كرسي جاعد مكانه! إيه اللي حُصل يا بوي؟
تلقى سؤالها ليعلّق بسخرية، وهو واقف أمامها ببرود يكاد أن يجلطها:
ـ معلش، أصلي كنت بلعب كورة مع نفسي، لما لقيت البيت فاضي عليّا.
رددت خلفه بملامح طفا عليها الريبة والاستهجان:
ـ تلعب كورة؟
تجاهلها بإعطاء انتباهه للأطفال، وناولهم عددًا من الأوراق المالية حتى ينصرفوا مهرولين نحو البائع في شارعهم من أجل ابتياع الحلوى، ليخلو المنزل عليه وعليها. فتحرك داخلها الأمل، لتتغاضى عن الفوضى التي أحدثها بالأثاث، وتتذكر هيئتها الجديدة وزينتها، فتبادره بحديثها:
ـ شكلك كنت فاضي صُح وإحنا مش موجودين. يلا بجى مش مهم، أبجى أرتب فيهم براحتي بعد كدِه. المهم، إيه رأيك في النيولوك الجديد...
قطعتها بضحكة استفزته بسخافتها وهي تتابع:
ـ زي ما بيقولوا في المسلسلات، بس أدينا بنقلدهم وخلاص. ده لسه كمان لما ألبس عليهم قميص النوم، هتشوف إيه...
ـ زفت.
قاطعها بها، ليُتابع بقسوة:
ـ هشوف إيه تاني يا بت؟ هو إنتي خلقتك دي حد كان يبصلها أصلًا من الأول؟
اجفلت بعدم استيعاب لفظاظته، مرددة:
ـ عرفان، إنت بتجول إيه؟
لم ينتظر المزيد من اللغو، هجم عليها مباغتًا على حين غرّة، دافعًا إياها بكفّه حتى ارتطم ظهرها بالحائط خلفها، ثم ثبّتها ليرفع بيده الحرة شيئًا ما أمام عينيها، ويسألها:
تجدري تجوليلي إيه ده يا بت؟ برقت عينيها تنظر إلى تلك القماشة المطوية على شيءٍ ما بداخلها، وقد انفكت الخياطة عنها، لتخدع عينيها في البداية بعدم معرفته، حتى كادت أن تحلف على ذلك، قبل أن تتذكر أخيرًا جريمتها المنسية، لكثرة ما مرّ عليها من سنوات. ومع ذلك، ليس لها خيار إلا الإنكار:
ـ إيه ده يا عرفان؟ طلعته منين؟ يا مراري... ليكون حد عاملنا عمل؟... آه...
ما كادت تُنهي عبارتها، حتى تلقت على وجنتها لطمة مدوية جعلتها تصرخ من شدتها، قبل أن يجفلها بلفّ شعرها المُصفف حول يده، ليردد بشرٍ مطلق:
ـ وهو في حد شيطان غيرك يجدر يعملها؟! بجى أنا... أنا عرفان الأشقر يتعملي أسحار وتندَس في المخدة اللي بنام عليها بجالي سنين؟! أنا؟! يا ملعونة تكرهيني في مرتي وأهجرها بالسنين عشان خاطرك؟ عملتي إيه تاني يا بتاعة الأسحار؟!
صرخت بألم تدافع وتواصل إنكارها:
ـ آآآه! مين بس اللي جالك الكلام ده؟ مين اللي فتن واتبلى عليا ظلم؟ أنا بنت خالتك يا عرفان، مش غريبة عنك عشان أعمل حاجة عفشة زي دي!
ضغط بشدة حتى كاد أن يخلع الشعر من منبته، متابعًا:
ـ محدش جالي يا بوز الأخص! إنتي اللي الزمن غرك وخلاكي نسيتي إن المدعوج ده ليه مدة محددة، وخلصت خلاص! عشان أصحى أنا لنفسي وعقلي يشتغل... أنا اللي غلبني الشك، وجلبت البيت النهاردة عشان أعرف السر... لقيت العمل من غير ما حد يدلني على مكانه... خدته ورُحت بيه على واحد من عينة اللي عملهولِك عشان يفسّر كل الكلام في الورقة اللي جواه... بجى تعمليه بالمحبة ليكي يا بومة، وتخليني أكره مرتي اللي بحبها وبتي؟! أنا بتغفليني يا بت الفرطوس!
ليس لديها الآن إلا الدموع، تترجاه بمظلومية زائفة:
ـ حرام عليك يا عرفان، متصدقش! وحتى لو حصل، هتبجى واحدة من الاتنين... يا أمي، يا أمك! ما إنت عارفهم كانوا باكين عليك إزاي، وعلى الغلب اللي عايشه مع مزيونة المرضانة! أنا إيه ذنبي يا ناس؟
ـ أيييوه!
تمتم باستدراكٍ سريع، ليزداد اشتعال رأسه بالتخمينات، مردفًا:
ـ جبتي سيرة مزيونة ومرضها؟! أنا إيه اللي يضمني إن مرضها كان طبيعي؟! ما يمكن كان بأعمالك برضو يا ملعونة؟! أنا هشربك العذاب ألوان يا صفا، بحق كل اللي عملتيه في حجّي، وحق مزيونة! هعرفك زين عفاشة عرفان، وأجيبها ستّ عليكي تشتغليلها خدامة انتي وعيالك!
ختم كلماته، ليكيل لها اللكمات والضربات الموجعة في كل جسدها، غير آبهٍ بصراخها الذي ملأ الأرجاء حول المنزل، ولا بتوسلات أطفاله على باب الشقة مع بعض الجيران، التي تطوّعت للتدخل حتى تفصل بينهما.
فلم يُنجدها من بين يديه سوى تدخّل الشرطة التي اقتحمت، لتُجفله بحضورها، وتُبعده أيدي الرجال عنها، بحالة يُرثى لها، وكأنها على وشك الموت. فصرخ بهم موجّهًا الاتهام للجميع:
ـ واحد و بيربّي مرته، إيه دخل الحكومة؟! ولا مين اللي اتصل بيها أصلًا؟!
وجاء الرد من الضابط المسؤول:
ـ محدش اتصل ولا بلغ عن ضرب مرتك أصلًا، مع إن دي كمان جريمة تضاف على جريمتك.
بأنفاسٍ لاهثة، ردّد بتشتّت:
ـ جريمتي؟! جريمة إيه اللي عليا؟!
...........................
عاد إلى منزله أخيرًا، وألقى بجسده على الفراش يتأوه بتعب، لكن يغمره شعور براحة لا تُقدَّر بثمن، بعدما أنجز مهمته وسلّم المجرم الأول إلى الشرطة، ليدلّ بدوره على المجرم الثاني، ويتم القبض عليه هو الآخر في نفس الليلة.
ساعات قضاها مع الضابط المسؤول في مباشرة التحقيقات، ولم يغادر المكان إلا بعد أن اطمأنّ برؤية شريكي الجريمة مكبلين بأصفاد السجن الحديدية. لو بيده، لأذاقهما أضعاف العذاب، مقابل كل لحظة من الرعب عاشتها هي وابنتها في تلك الليلة. وربّ ضارةٍ نافعة، فبفضل تلك الأحداث، نشط عقله ليخطط لبناء منزل الأحلام بجوارها، ووجد حجته في القرب منها.
بقي له أن يرى ردّ فعلها حين تعرف بالخبر؛ لا بد أن يرى ملامحها بنفسه. كيف له أن يصبر حتى الصباح ليخبرها؟
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
داخل قسم الشرطة
بعد ساعات من التحقيقات التي قضاها أمام الضابط المسؤول، نفى واعترض، وحاول بكل السبل أن يثبت براءته، لكن لم يصدقه أحد. حتى في مواجهته مع ذلك الفاسد الذي افترى عليه، أصرّ الأخير على اعترافه بشراكته معه، بوقاحة منقطعة النظير. وحتى الآن، لا يستوعب جرأته في رمي التهمة عليه، لكن لا بأس، فقد حان موعد زجّه في زنزانة الاحتياط التي تجمع عددًا من السجناء الجدد، وكان هو من ضمنهم.
– خشّ يا مسجون مع أصحابك، وإياك أسمع لحد فيكم حس.
قالها رجل الأمن وهو يدفعه لينضم إلى المجموعة. قبل أن يُغلق الباب الحديدي، وقف في منتصف الغرفة يطالع وجوه المشتبه بهم، المنشغلين بشؤونهم عن استقباله.
بتركيز شديد، راح يبحث عن غريمه بينهم، دارت عيناه يمينًا ويسارًا لتعود إلى نفس النقطة، حتى وقعت أبصاره عليه أخيرًا، يتخفى بجسده الهزيل خلف أحدهم.
على الفور توجه إليه والتقطه من تلابيب ملابسه:
– بتداري نفسك عني؟ فاكرني مش هعرف أجيبك يا جبان؟
وختم كلامه بلكمة قوية على فكه الأيسر، كادت تطير صفّ أسنانه بالكامل، ليصرخ عطوة متوجعًا بصوت عالٍ، حتى التف حولهما الرجال يحاولون الفصل بينهما:
– جرى إيه يا جدعان؟ في إيه؟ صلّوا على النبي.
جاهد عرفان لتخليص نفسه من أيدي الرجال الذين كبلوه عن الفتك بخصمه، بينما راح الآخر يحتمي بعدد منهم، يدافع عن نفسه بالزور والإنكار:
– بتضربني وتحط غلبك فيّا؟ طب أولي اتشطر على اللي لبّسنا إحنا الاتنين لبعض عشان يخلاله الجو. أنا زيي زيك يا عرفان، افهم بجى.
– زيي فين يا نجس؟ سيبوني يا ناس، آخد فيه جناية أسهل لي. الواد ده...
قالها عرفان وهو يواصل محاولاته للإفلات من بين أيدي الرجال، الذين ازدادوا تشبثًا به، شاعرين بالخطر المتفاقم تجاه الآخر، الذي تابع بإصرار كي ينفي التهمة:
– أيوه يا عرفان، زي ما بجولك، أنا فيا كل العبر إلا الخيانة. بس الراجل اللي اسمه "حمزة القناوي" هو اللي سبكها زين جوي، ولبّسنا أنا وإنت مع بعض.
ارتخت ذراعا عرفان قليلًا، مع انتباهه للاسم البغيض على قلبه، يردده باستفسار طبيعي:
– حمزة القناوي؟ وإيه دخل حمزة القناوي بنصيبتك معايا؟ دا انت بتتبلّى عليا بعيـن جويـة يا واض... سيبوني أخلص عليه!
– والله أنا جولتلك، وإنت عندك عقل تميز بيه.
قالها عطوة، متابعًا بث الفتنة باختلاق القصص، حتى أسعفه الحظ بدخول رجل الأمن. وما إن رآه المذكور، حتى صرخ مستنجدًا به:
– الحقني يا شويش! الحقيني يا حكومة! هتحصل جريمة قتل النهاردة لو ما خلّصتونيش من الراجل ده، دا داخل مخصوص عشان يخلص عليا! الحقوني يا ناس!
وبالطبع، أتى صراخه بنتيجة؛ ليُنقل إلى زنزانة أخرى، بعيدًا عن أيدي عرفان الذي كان مصرًا على ارتكاب جريمة. تُرك عرفان وحده يصارع أفكاره، بين غلّ وتوعد بالقضاء عليه، وبين الحيرة التي اجتاحت رأسه، بعد الفكرة التي زرعها عطوة في عقله عن حمزة القناوي ونيته للتخلص منه من أجل الحصول على زوجته.
................................
في صباح اليوم التالي
أتى مبكرًا قبل الجميع، وقبل حضور رجال البناء، مكتفيًا بعدد قليل من ساعات الراحة. سحب طفله المشاكس حجةً للقاءها وإخبارها بالجديد. ولحسن حظه، كان هذا موعد خروج ليلى لمدرستها. وما إن رأت الصغير، حتى تهلّل وجهها في استقباله ببشاشتها:
– ريان باشا بحاله كده ع الصبح؟ دا إيه الاصطباحة الجميلة دي بس؟
قابلها الصغير هو الآخر بابتسامة، واندماج سريع لا يحدث إلا نادرًا مع الغرباء. قبلته من وجنتيه قبل أن تغادر إلى مدرستها، ليتقابل الوالد مع معذبته، بعد أن خرجت هي أيضًا على الصوت، تستقبل الصغير وتدلله بفطرة أمومية يتقبلها ريان برحابة، ويتلقّاها هو براحة شديدة، فتداعب الأماني الجميلة خيالاته.
وحين انصرف من جوارهم، تحدث هو:
– عرفتي بالأخبار الجديدة؟
– أخبار إيه؟
تلقّى استفسارها برزانة شديدة، وأجابها:
– امبارح الشرطة قبضت على اللي اتهجم على البيت. بعد التحريات والأدلة اللي جمعوها، اتضح إنه عطوة... صاحب جوزك.
وقع تأثير الخبر علي ملامحها التي تقلصت بغضب، فجاء ردها، مفاجئاً له:
– عديم الشرف! أني برضو كان جلبي حاسس، عشان نبرة الصرخة المكتومة دي مكنتش بعيدة عن ودني.
– طب وليه ما جولتيش على شكّك ده للحكومة؟
– عشان ما ينفعش أتكلم لمجرد شك، مش يمكن يطلع بريء، أو يطلع حد غيره اللي عملها؟
تمتمت بها ردًا عليه، لكن بداخلها كانت تجزم أنه هو. لكنها تعلمت من تجاربها أن أمثال عطوة لن يغلبوا في قلب الطاولة، وربما يتهمونها باتهامات أخلاقية.
أردف يتحفها بالبقية:
– على العموم، هو اعترف على اللي وزّه، واتقبض عليه هو التاني معاه.
– مين؟
– عرفان.
– عرفان؟ عرفان كيف يعني؟
قابل دهشتها بنوع من الحدة:
– وإيه الغريبة في كدِه؟ دا عطوة بنفسه اعترف إنه هو اللي سلطه عشان يخوّفك إنتي وبتك وتجبلي ترجعيله. أظن فهمتي دلوك الغرض من ورا مجموعة الإغراءات اللي قدّمها لرجوعك ليه.
أومأت تدّعي التفهّم، لكن حدسها كان عكس ذلك تمامًا. رغم منطقية الأسباب التي ذكرها، إلا أن إحساسًا ما بداخلها يكذّب كل ما سمعته.
أما هو، فقد استفزه شرودها، وظنّ أن سبب صمتها هو شفقة على طليقها الملعون. كم ودّ لو يهزّها بعنف لعلها تنفض غبار التفكير به وتُدرك قيمتها كامرأة تستحق الأفضل، وتستحق كل ما هو جميل.
– كنت ناوية ترجعيله؟
توجّه بسؤاله نحوها وقد غلبته عاطفته وأنساه الغضب حرصه. فقابل ردّها بنظرة غامضة من عينيها الجميلتين، طالعته بها بصمت دام لحظات، حتى شعر أنها تفهمه، ولكنها –كالعادة– لم تريحه بإجابة واضحة،أو أن ترطّب على قلبه الملتاع لو قليلاً:
– مالوش لزوم السؤال خلاص، الحكاية فضّت لوحديها. عن إذنك بجى يا أبو ريان، الناس البناونة بدأوا يهلّوا.
قالتها مشيرة بنظرها نحو عدد من رجال البناء القادمين من أول الطريق، لتسحب نفسها من أمامه، وتتركه في حالة من الغليان، تجعله يودّ الضرب بأقدامه على الأرض كالأطفال. هذه المرأة ستذهب بعقله لا محالة.
تنهد وسحب أنفاسًا عميقة، ليهدّئ قليلًا من وتيرة انفعاله، ثم أخرج الهاتف من جيب سترته، وهاتف من يعرف أنها ستسمعه:
– إيوه يا منى، عايز أحكي معاكي شوية... مخنوق.
وهكذا، مرّت الأيام بين مدّ وجزر، شعور من الفرح يحلق به إلى أعالي السماء، وآخر من الإحباط يُسقط به مكسور الجناح. حتى جاء ذلك اليوم المميز لأهالي البلدة......
...............................
بعد مرور شهر وفي منزل حماد القناوي، حيث الاستعدادات لليلة الختامية لمزار البلدة، والذي يتم الاحتفال به كل عام على مدار ثلاثة أيام، تُذبح الذبائح ويُطعم الجميع، وتُقام ليالي الذكر وسباقات الخيل (المرماح). يتحمل التكاليف كبار الأغنياء، ومن استطاع التبرع من باقي الأهالي فلا يُضر، فالغاية أن يفرح الجميع. وبما أن منزل حماد القناوي من كبار الداعمين، فمعظم احتياجات الحفل والطعام تخرج منه.
أما عن معاذ، فقد كان في هذا الوقت يُطعم الحصان وينظفه بحماس شديد أثناء حديثه مع والدته:
– ليلى هتيجي المرماح النهارده يا أم حمزة، يعني هتتفرج عليا وأنا في السباق وبرقص ع الحصان. الليلة هتبجى أحلى ليلة تمر على ولدك يا ست الكل. ضحكت حسنية وضربت كفًا بكف معلقة: – يا خويا ربنا يفرّحك على طول، هو أنا هكره؟ على الله بس يهدي أمها وترضى تجوزهالك، بدل ما تفضل كده معلَّق وراها بالسنين. – ووه يا أمه، ما تفوّليش في وشي. ده أنا مستني السنة دي تعدي على نار، وأول ما تمسك شهادتها في يدها، هاروح لمزيونة وأعملها ميت لو ما ادتنيش البت.
قالها معاذ بانفعال وهو يجهز الحصان ليعتليه، مما أغضب والدته، فأنهته قائلة:
– طب بطّل خربيط في الكلام، واهمد كده، كل حاجة تاجي بالصبر. ضرب بأقدامه على الأرض بعصبية: – أصبر ده إيه يا أمه؟ بجولك ع تجن على البت! ما تحسوا بيا يا جدعان باه.
جلجلت ضحكة المرأة في الحديقة حتى لفتت أنظار تلك التي كانت في الشرفة، فأعطت تركيزها التام لهما، مما أثار حنق معاذ، فنبه حسنية:
– طب أرجع أجولك تاني، خلي بالك، مرت ولدك ناكتة عينها علينا وأكيد هتحاول تجرجرك في الكلام، عارفها، هتموت وتعرف اللي فيها. خَطفت حسنية نظرة عابرة نحوها، وأومأت بقلة حيلة: – أجولها ولا ما أجولهاش عاد؟ ما هو كل حاجة نصيب. ربنا العالم، أنا كنت رايدة إسراء أكتر منها، بتنا اللي مربّينها وعلى الأقل جاهزة، لكن بقى، إنت غاوي تعب، أعملك إيه؟ ضحك وهو يستقر على حصانه مرددًا: – أديكي جولتيها بنفسك: غاوي تعب، والغاوي محدش يلوم عليه. ادعيلي بس ربنا يوفقني ويقرب المسافة.
شملته بنظرة إعجاب وهو يتحرك بحصانه العزيز مغادرًا نحو وجهته، لتتضرع إلى الخالق برجاء: – داعيالك يا ولدي، يريح جلبك إنت وأخوك، إن شاء الله يا رب، في أقرب وجت تنول مرادك.
---
أما عند منى، فقد كانت ترجُو زوجها هذه المرة في الخروج، رغم انشغاله بتصحيح كراسات التلاميذ المرصوصة أمامه:
– ممكن يا أستاذ منص تأذن لي أخرج النهارده؟ ومش هعوج بإذن الله، إنت عارفني. ضحكة صغيرة ساخرة صدرت منه ليعلّق دون أن يرفع رأسه إليها: – حلوة "عارفني" دي. طب جولي حاجة تانية على الأقل أبلعها، زي كل مرة ما بتضحكي عليا. أعجلي يا منى وبلاها لعب العيال، بلا مرماح بلا كلام فاضي.
تفهم جيدًا سبب رفضه، ومع ذلك تدّعي عدم الفهم: – يعني كل ناس البلد مجانين؟ وإحنا بس اللي عاجلين عشان نسميه كلام فاضي؟ خبر إيه يا منص؟ ما تفكّها شوية، حمزة أخويا هيزعل مني.
ترك التصحيح ليطرقع بالقلم على الطاولة بغيظ، مواجهًا لها: – أفهم بجى، يزعل ليه حضرته؟ ما يكلّف أي واحدة من أخواتك التانيين. أشمعنا ماسك فيكي إنتِ؟ مشاوير مستشفى، وجلنا ماشي، مشاوير لبيوت وزيارات، جلنا ما يضرش، ست وحدانية هي وبتها، إنما مرماح ومهرجان، رجالة رايحة ورجالة جاية؟
عند هذه النقطة، لم تقوَ على منع ضحكتها، لتردد بعد قليل: – يا راجل لساك برضو فيك الداء ده؟ ده أنا كبرت وبقيت حَجّة يا منصور.
– ما تجنّنيش! صاح بها بغضب حقيقي، وأردف بعصبية: – رايحة جاية تجولي كبرت! إنتِ ما كمّلتيش الخمسة والتلاتين أصلًا. ومش معنى إنك حجّيتي بيت الله يبقى خلاص عديتي السن ومحدش هيبصلك!
حسنًا، لقد وصل إلى تلك النقطة التي تتجنبها طوال الوقت منذ زواجهما، والتي لا يصح معها العبث أو المزاح، ولا يصلح معها إلا حديث العقل واستدراج عاطفته:
– حاضر يا منصور، إنت عندك حق. طب مش هاجولك إني لابسة خمار، ولا إني مغطية حتى ضُفر رجلي من تحت، لكن هأنبهك لحاجة وانت اللي تحكم. أنا طلّعتها في راس مزيونة إنها تطلع وتشوف الفرح في البلد. الست طول عمرها محبوسة، وإحنا ستات يعني طريقنا مختصر، والطلة وحدها لو من بعيد هتفرّحنا. مش بنات صغيرين هندخل من جوه، في وسط الزحمة على المراجيح والمهرجانات. وعلى العموم، يا سيدي، لو لساك معترض، أنا أبعَت لها البت تعتذر، وهي حرة بقى، وربنا يتولاها.
بحنق شديد صار يطالعها بصمت وتفكير متعمّق، رغم غيظه من مكرها في رمي الكرة في حجره حتى يكون القرار منه، بعدما استدعت عاطفته نحو المرأة التي يشفق عليها من كثرة ما حدثته عنها، ليزفر في الأخير حاسمًا:
– ساعة وهترجعي على طول. عوجتي عن كده؟ يبقى خلي حمزة ينفعك!
تهلّل وجهها، ودنت إليه تطبع قبلة على وجنته مرددة: – يا خويا، ده حمزة هيدعيلك من جلبه، وأنا أزيد من ساعة مش هاجعد، ربنا يجبر بخاطرك، يا رب.
....................................
"ياللا يا نسرين، ياللا يا سمر، عايزين نلحق نجضّي لنا ساعة حتى على الأقل!" هتفت بها ليلى موجّهة الحديث إلى صديقتيها، بعد انتهاء اليوم الدراسي، لتسحبهما معها، مغيّرات طريقهن نحو الاحتفال بدلًا من الذهاب إلى منازلهن كالمعتاد.
فردّت الأولى بتعب:
"ياللا ياللا، ما إحنا ماشيين معاكي. أها، هنركّب عجل في رجلينا؟ دا إحنا مفرهدين أصلًا يا غالية. يعني حقّنا نروح البيت ننام لحد ما ييجي ميعاد الدرس، مش نتفرّج على مرماح وكلام فاضي!"
عبست ليلى نحوها، ثم خاطبت الأخرى قبل أن تعود إليها:
"أنا كنت عارفة من الأول... البِت دي بُوز فقر! ما تهمدي يا بِت واتبطي، إحنا كل يوم هنلاجي حاجة حلوة نروحها؟ دا أنا مصدّجت إن أمي سمحتلي أجي رغم المذاكرة اللي ورايا!"
أيّدتها سمر، موجهة تقريعها للأولى:
"أنا معاكي يا صاحبتي، حتى لو هنتأخر. علقة تفوت ولا حد يموت! دي كفاية نشوف الحصنَة وجمال الحصنَة واللي راكبين على الحصنَة!"
ضحكت ليلى بانطلاق، وقد فهمت المغزى الذي تقصده سمر، لتضمها من ذراعها إليها مغمغمة:
"إيوه يا صاحبتي، انتي بس اللي فهماني. ربنا يخليكي ليا وما يحرمك مني!"
واختتمت بضحكة شاركتها فيها الفتاتان، مواصلات حديثهن والمزاح حتى وصلن إلى موقع الاحتفال؛ حيث ألعاب المراجيح الخشبية والسواقي التي التف حولها الأطفال، وأغاني المهرجان التي تذاع بصخب من سماعات عربات المثلجات والحلوى، وبائعي البطاطا المشوية الساخنة والذرة، صخب وزحام كأنه مولد شعبي.
واصلن طريقهن حتى وصلن إلى الساحة الضخمة لتجمّع الرجال، حيث رجال يعزفون المزمار، وسباق لخيولٍ بفرسانها تركض بعصا طويلة نحو نقطة معينة.
وفي جانب آخر، تواجدت خيول وأصحابها في مكان مخصص لهم للاستراحة للأستعداد لخوض السباق.
وقفت هي وصديقتاها، تبحث عنه، وقلبها كالطبول التي تُقرَع بالقرب منها. شعرت به يتحرك من موضعه فور أن وقعت عيناها عليه، يركض قادمًا بحصانه، عائدًا من تلك النقطة البعيدة لنهاية السباق. منتصب الظهر، يقوده بثقة المنتصر، فارسها المغوار.
هو أيضًا انتبه إلى حضورها من بين الفتيات، ليُشْعِلها بنظرة اخترقت وجدانها، وجعلت الفرحة تكتسح ملامحها بوضوح. لكن سرعان ما خبأت ابتسامتها بعد سماعها لقول سمر:
"ليلى، خلي بالك، مش عايزين حد يعلّق علينا ولا يفهم غلط."
"قصدك إيه؟" سألتها ليلى بتكلّف، لتجيبها نسرين بحرص:
"جصدها واضح يا ليلى، في واحد مدبّقنا من ساعة ما جينا الساحة، وعينه عليكي إنتي بالذات ما اتشالتش."
تطلعت نحو الجهة التي أشارت إليها بعينيها، فتأكد لها بالفعل أن هناك من يترصّدهن، شاب يعلو إحدى الخيول، يطالعها بفجاجة أثارت ارتيابها حقًّا. فسارعت لطمأنة الفتيات:
"هشوف معاذ وهنمشي على طول يا بنات، هو أكيد جاي دلوك، مش هيعَوّج."
---
وفي جهة أخرى، وقف حمزة يراقب قدومها بصحبة شقيقته العزيزة، والتي جاءت بها عبر طريق مختصر، بعيدًا عن الزحام، ومن أجل راحة الجميع.
كانت ترتدي عباءة سوداء محتشمة، لم تُنقص من جمالها شيئًا، بل زادتها فتنة، حتى جعله يندم على ترحيبه بالفكرة. لكنه أرادها أن تعيش عمرها، تعوّض ما فاتها. يكفيه أن يرى تلك الابتسامة الساحرة، وهي تتحدث بعفويتها مع شقيقته التي تجبرها بخفة ظلها على الضحك.
تنهد داخله بلوعة... متى تشعر به؟
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
عودة إلى الفتيات وقد اتخذن موقعهن بعيدًا عن الزحام إلى حدٍّ ما، بناءً على اتفاقٍ مسبق بين ليلى وذلك الفارس الذي اقترب بحصانه نحوهن، يُلقي التحية على الفتاتين اللتين ابتعدتا بمسافة قريبة نسبيًا من تلك الحورية التي وقفت تُقابله بلهفة، ومشاعر جمعت بين الفرح لرؤيته بعد ذلك العرض الذي قدّمه مع المجموعة، وجعل قلبها يتراقص على أنغامه، كما كان يتراقص حصانه الجميل على المزمار، وبعضٍ من القلق المتزايد بسبب ذلك الشاب الذي يتبعهن منذ قدومهن، ولم يرفع عينيه عنها حتى الآن.
كاد قلبها أن يتوقف من فرط فرحته، وهي تستقبله ينزل عن حصانه المحبب، يُخاطبها لاهثًا بعد المجهود الرائع الذي بذله، ليُثبت لها أنه فارس حقيقي، وليس مجرد كلمات في الهواء:
ـ أخبار الجميل إيييه؟ عجبك المرماح؟
ـ جوووي! من زمان بتحايل علي أبوي عشان يجيبني، لكنه دايمًا كان بيرفض، كان نفسي بس أركب ع المراجيح والسواقي... يا ريتني كنت صغيرة بقى.
عقّب على قولها بانفعال:
ـ أبو العيال على الكل كليلة، لو عليّا كنت مشّيتهم كلهم وسيبتك لوحدك تلعبي بيهم، بس أعمل إيه بقى في العيون اللي بتناظرك؟ دي كمان عايزة مجهود لوحديها عشان أخذق عينين كل واحد بيبص عليكي.
ضحكت تُغلق فمها بكف يدها مرددة:
ـ والله إنت مجنون يا معاذ. أضاف عليها بتأكيد: ـ بيكي! أنا مجنون بيكي يا جلب معاذ... استني هنا، هروح أجيبلك حاجة حلوة.
ـ هتروح فين؟ استنى، أنا مش عايزة حاجة.
لم يستمع لندائها، بل ابتعد خطوات قليلة متوجهًا نحو إحدى العربات المُزينة بالقرب منهم، ليبتاع لها الفشار...
---...............................
وفي ناحية أخرى، توقّفت المرأتان بجوار عربة الحلوى، لتُعلّق مزيونة بخجل ضاحكة أيضًا:
ـ أما إنتي عقلك صغير يا منى! هنمشي إزاي باللي اشتريناه ده يا وَلِيّة؟
تبسمت الأخيرة بتصميم وهي تمسك عددًا من الأكياس المُنتفخة بداخلها الحلوى:
ـ اللي يعرف أبويا يروح يقوله، كُلي يا بُت واتمتعي، يا فقريّة! مش كل يوم هنلاجي فسحة ولا نشم هوا بعيد عن الضغوط.
ـ ضغوط إيه؟ سألتها ببراءة، لتُجيبها الأخرى بمغزى:
ـ الضغوط وأبو الضغوط! ده أنا مصدّجت إني أتخلّى عنهم النهاردة، يا ساتر! بحسد السناجل والنعمة.
فهمت مزيونة إلى ما ترمي إليه، عن زوجها والأطفال، لتُغرقها كعادتها في نوبة من الضحك ، فتنسي اتزانها المُعتاد، حتى تفاجأت بمن ظهر أمامها من العدم:
ـ ما شاء الله عليكم، ساحة المرماح نوّرت بيكم.
ضحكت منى تستقبل أخاها بكلمات مفهومة إليه:
ـ عارفين يا واد أبوي، خليها تنوّر وتزهزه، هو إحنا جليلين؟
ـ لا طبعًا يا ست منى، كِد كلامك. عاملة إيه يا ست مزيونة؟
تبسمت تُجيبه بخجل طغى على ملامحها، حتى تورّدت له وجنتاها، وكأنها فتاة في عمر المراهقة، لم تنجب أو تتزوج من الأساس، رغم حرصها الدائم على إخفاء مشاعرها:
ـ زينة يا أبو ريان، الله يبارك فيك... صحيح هو فين ريان؟ أومأ لها بسعادة نحو مجموعة من الأطفال تلعب بالقرب منهم، ينادي مصدر حظه وقُربه منها طوال الأيام الفائتة:
ـ واد يا ريان، تعالَ هنا سلّم على عمتك وعلي الست مزيونة.
......................
عاد معاذ مُحمّلًا لها بمجموعة أشياء أخرى، يُشير لها كي تفتح كفّيها، بتصميم جعلها تَكتم ضحكاتها بصعوبة حتى لا تلفت الأنظار نحوها في هذا الزحام الصاخب، وهي تتلقى منه قطع البطاطا الساخنة المُغلفة، والمثلجات أيضًا، لتُردّد بغبطة:
ـ كفاية يا مجنون! مرة فشار، مرة هريسة، ودلوك بطاطا وآيس كريم؟ والاتنين عكس بعض! عايز تبوّظلي سناني يا معاذ؟
ـ بعد الشر على سِنّانك يا حبّة القلب. قالها وهو يُخرج من جيب جلبابه قطعة شوكولاتة أخرى مشددًا:
ـ كُليهم ولا وزّعي على البنات أصحابك، المهم تاخدي كل اللي ادهولِك. أنا عايز اليوم ده يفضل مُعلّم معاكي العمر كله. وده اللي أجدر عليه دلوك، لكن لو عليّا، لا أخليكي تلعبي على كل المراجيح واللعب. بس بسيطة، بعد الجواز نعمل كل اللي نفسنا فيه.
قال الأخيرة بغمزة أربكتها، لكنها كعادتها لا تُعطيه فرصة الاستمتاع بخجلها، لتعقّب بعبوسٍ مُصطنع:
ـ أُممم... ماشي يا خفيف. عدّيني بقى، خلّيني أرجع للبنات عشان نروح، دول على آخرهم أصلًا.
قالتها ليَلتف نحو الفتاتين، وقد اعتلي علي ملامحهما القلق، لتُومئ إحداهما لها نحو ذلك الشاب المُتربّص في جهة قريبة منهن. وما إن التقط نظرتها نحوه، حتى افترّ فمه بابتسامة غامضة وتلميح غير مريح، فانتبه إليه معاذ وسألها:
ـ مين اللطّخ ده؟
ارتبكت في لحظتها، ولم يُسعفها الوقت في البحث عن إجابة، وقد تكفّلت بها نسرين صديقتها، التي وصلها السؤال لترد بعفويتها:
ـ دا واحد بيعاكس. من ساعة ما دخلنا أرض المرماح، وعينه مش سايبة واحدة فينا... وخصوصًا ليلى.
سمع منها، واحمرّت عيناه فجأة بوميضٍ مُخيف، مرددًا:
ـ عينه مش سايبة واحدة فيكم، وخصوصًا ليلى؟ يعني الواد ده بيعاكسك يا ليلى؟
لم ينتظر ردًا على سؤاله، وتوجّه نحو الفتى يهمّ بتأديبه، مغمغمًا بشر:
ـ ده ليلة أمه مش معدّية النهاردة!
ـ استنى يا معاذ، ملناش دعوة بيه! قالتها في محاولة لإثنائه، فكان رده أن دفع يدها عنه، متوجهًا نحو هذا الشاب السمج، والذي وقف ينتظره مُتحفزًا، ليرد على أسئلته بوقاحة كما يبدو، أمام أنظار الفتيات.
وجاء الرد سريعًا من معاذ، ليسارع بتلقينه درسًا لن ينساه، ولم يكن الشاب ضعيفًا ليتلقّى الضرب دون رد، وكانت النتيجة معركة حامية التف نحوها عدد غفير من الرجال والشباب، حتى وصل الخبر إلى حمزة ومن معه، فجاؤوا مُهرولين لاستكشاف الأمر، لتتفاجأ مزيونة بموقع ابنتها المُميز بالقرب من الشجار، وهي تبكي خوفًا وفزعًا من مشهد العراك أمامها.
تدخّل حمزة بصرامة، ليرفع شقيقه عن ذلك الغريب قبل أن يُزهق روحه، والذي ما إن خرج صوته، صرخ بعلو، قاصدًا افتعال فضيحة:
ـ طب إنت مالك يا بارد؟ أبصلها ولا أعاكسها حتى؟ ولا هي حلوة ليك وعفشة لغيرك؟
غلى الدم في عروق معاذ، حتى لم يترك الفرصة لشقيقه أن يرد بقسوة، فجاء رده مدفوعًا لحفظ كرامتها ومسؤوليته نحوها:
ـ مالي؟! إنها خطيبتي يا حيوان! يعني اللي يتجرأ عليها، أجطع سيرته من الدنيا كلها!
سمعت مزيونة، لتُذهل ببصرها نحوه، ونحو ابنتها التي صُعقت بحضورها، لتتمتم لها بصدمة وتساؤل موجع:
ـ خطيبته؟!
....يتبع
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا