رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والثلاثون 34 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والثلاثون 34 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والثلاثون 34 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والثلاثون 34

رواية فوق جبال الهوان بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والثلاثون 34

لما وقعت تلك المصيبة بعائلتها، طرأ تغييرًا كبيرًا على شخصها الناقم طوال الوقت، فأصبحت أكثر صبرًا، وتحملًا، لتمد القوة إلى ابنتيها، فيتمكنا من مواجهة الصعاب والأزمات بثباتٍ وقوة. انفردت "عيشة" بابنتها الصغرى في صالة المنزل، جلستا متجاورتين، لتتحدثا بصوتٍ خفيض لئلا تسمعهما "إيمان"، خاصة أنها كانت مستيقظة، وتمكث بمفردها بالداخل، فاستطردت أمها هامسة في شيءٍ من الجدية:
-سواء قعدتنا طولت أو قصرت هنا، فلازم ماننساش إننا ضيوف، والبيت ده أمانة، كل حاجة فيه المفروض نحافظ عليها، مش عايزين الراجل أو أهليه يشتكوا مننا.
أومأت "دليلة" برأسها قائلة بتفهمٍ:
-أنا واخدة بالي يا ماما، اطمني.
فيما تابعت والدتها مرددة بعزمٍ:
-وأختك لما تشد حيلها وتفوق من الهم اللي هي فيه هندور على مطرح تاني.
ردت باقتضابٍ، وقد أراحت ظهرها للخلف:
-ماشي.
عادت "عيشة" لتستند بطرف ذقنها على راحة يدها متمتمة:
-أبوكي كان مرتب تروحي عند عمتك، احنا نشوفلنا حتة قريبة منها، وأهوو ابن عمك الكبير موجود يساعدنا نشوف بيعة في الشقة الفقر إياها....
غلف الضيق تعبيرات وجهها، لتختتم كلامها قائلة:
-احنا مجالناش من ورا السُكنى فيها إلا الغم.
على عكسها بدت "دليلة" مستاءة من أمر آخر، كان مزعجًا لأقصى درجة، فباحت بما يجثم على صدرها صراحةً، وكأنها لا تخشى قول الحقيقة:
-ماما، أنا مش عايزة اللي اسمه "فارس" ده يتحشر معانا في حواراتنا.
اندهشت أمها لتحاملها الزائد عليه، وسألتها مستفهمة:
-ليه يا بنتي؟ ده اسمه ابن عمك ومن العيلة واحنا يعتبر ملزمين منه.
امتعضت قسمات وجهها وهي تخبرها بنفس النبرة المزعوجة:
-ما بينزليش من زور، دمه تقيل، وسخيف، ده غير طبعًا إنه رد سجون.
وكأنها صارت محامية ملتزمة بالدفاع عنه، فبررت تصرفاته الهوجاء بقولها:
-كانت شقاوة شباب زمان، ودلوقت عِقل.
أصرت على موقفها المتحيز ضده بتأكيدها:
-هو ما يخصنيش، طول عمره بيضايقني من وأنا لسه عيلة، ماظنش إنه اتغير كتير.
لم تقف والدتها عند هذه النقطة كثيرًا، وانتقلت لموضوع آخر مماثل في الأهمية:
-وبرضوه أختك لازم نشوفلها محامي يجيب حقها من اللي ما يتسمى.
اكتفت بهز رأسها كتعبيرٍ عن موافقتها، فيما انتبهت كلتاهما لسماع صوت قرع الجرس، لتوجه "عيشة" أمرها إليها:
-شوفي مين على الباب.
-حاضر.
قالتها وقد سحبت حجاب رأسها من على طرف الأريكة، والتفت به لتتجه في خطواتٍ شبه متعجلة نحو الباب لتفتحه، وجدت "عادل" واقفًا عند العتبة، فابتسمت في ترحيبٍ لتحييه:
-أستاذ "عادل"، اتفضل.
بادلها الابتسام المهذب وسألها:
-أخبارك إيه دلوقت يا آنسة "دليلة"؟
أجابته دون أن تفتر ابتسامتها الصغيرة:
-الحمد لله.
ثم تنحت للجانب لتفسح له المجال للمرور، فاستقبلته "عيشة" بوديةٍ ولطافة:
-تعالى يا ابني، اتفضل ده بيتك واحنا ضيوفك.
استعتبها في احترامٍ بائن في طيات كلماته:
-عيب ما تقوليش كده يا حاجة، ده إنتو فوق راسي.
راح يمد بعدها يده الممسكة بكيسٍ بلاستيكي وضعت بداخله بعض العلب المغلفة، قدمها إليها قائلًا:
-ماما باعتة السلام ليكم، وبتقولك دي حاجة بسيطة، وإن شاء الله تعجبكم.
شعرت "عيشة" بالحرج الشديد من المعاملة الراقية التي تلقتها من هذه السيدة الودودة منذ اللحظة التي وطأت فيها المكان، لم يكد يمر يومًا إلا وترسل لها ولابنتيها الطعام والحلوى والثياب، بل وتستعلم بإلحاحٍ عن أحوالهن لتتفقد إن كان ينقصهن شيئًا لتحضره إليهن على الفور وكأن ثلاثتهن من العائلة، لا مجرد ضيوف غرباء احتللن منزل ابنها. قالت في خجلٍ وهي تتناول منه الكيس:
-يادي الكسوف، احنا والله ما عارفين نودي وشنا منها فين، هي شايلانا من وقت ما جينا هنا.
بصدقٍ نابع من قلبه أخبرها "عادل"، وقد صدحت ابتسامة مشرقة على محياه:
-احنا يعتبر أهل.
قبل أن تعلق عليه، تفاجأت بابنتها الكبرى تندفع نحو الخارج وهي في عنفوان غضبها، فهتفت تناديها باستغرابٍ:
-"إيمان"!
فيما اعترضت "دليلة" طريقها لتسألها بتوجسٍ:
-رايحة فين؟
انفجرت صائحة بغضبٍ جم في وجهها:
-مش هسيبه الكلب الجبان ده، قسمًا بالله لأوريه.
حاولت إيقافها قبل أن تتهور وترتكب أي حماقة، فاستمرت تعترضها وهي تمسك بذراعيها:
-طب اهدي بس، كل حاجة وليها حل.
بكل ما فيها من مشاعر حانقة، ومنفعلة، نفضت قبضتيها عنها، وصرخت في هياجٍ، لتظهر مدى القهر الذي تكبته بداخلها:
-أنا يتغدر بيا؟ أنا يرميني وينهبني بعد السنين ده كلها؟
ظلت "دليلة" تتوسلها وهي تحاول الإمساك بساعديها:
-علشان خاطري ماتعمليش في نفسك كده.
مجددًا نفضت يديها عنها لتواصل الصراخ:
-ليه؟ علشان إيه؟
سرعان ما قست ملامحها بشكلٍ مخيف، وهدرت بغلظةٍ في شقيقتها:
-حاسبي يا "دليلة" من سكتي، أنا هوصل لمكانه الحقير ده، حتى لو كان في آخر الدنيا.
هذه المرة لم يظل "عادل" متخذًا موقف المشاهد كثيرًا، حيث تحرك من تلقاء نفسه، ليقف في مواجهتها، ويسد عليها الطريق، فنظرت إليه بغيظٍ، ليخبرها بهدوءٍ واضح، محاولًا امتصاص غضبها المندلع:
-يا مدام "إيمان" اللي بتعمليه ده مش هيفيد، النوعية دي حقك تجيبيه منها بالقانون.
صاحت هازئة في استنكارٍ:
-موت يا حمـــار...
رفع حاجبه للأعلى، فأكملت بنفس اللهجة المنفعلة:
-أنا هفضل سنين ألف وأدور، وفي الآخر مش هعرف أخد منه حاجة، يبقى أخد حقي بمعرفتي أحسن.
وحاولت تجاوزه لتمرق باندفاعٍ تجاه الباب، إلا أنه واصل اعتراض طريقها، فلم تستطع المناص من حصاره، تقلصت المسافة بينهما، لتصبح أقل من نصف متر، ليقول مؤكدًا، دون أن تتبدل وتيرة نبرته الهادئة:
-اطمني أنا هوكلك أحسن المحاميين اللي هيعرفوا إزاي يحاسبوه على اللي عمله.
تطلعت إليه بتشككٍ، فثبت عينيه عليها محاولًا طمأنتها بنظرته الواثقة، ليعود "فارس" من الخارج فتفاجأ بكليهما واقفين أمام الباب في حالة من التحفز، فقال بسخطٍ، وقد ساد وجهه تكشيرة غريبة:
-لا مؤاخذة! أنا جيت في وقت مش ولابد ولا إيه الحكاية؟!!
لحظتها فقط اضطر "عادل" أن يتراجع للخلف تجنبًا لتفسير الموقف بشكلٍ خاطئ، لتهتف "عيشة" في استياءٍ:
-تعالى يا "فارس"، شوف بنت عمك، راكبة راسها وعايزة تدور على المخفي "راغب" علشان تنتقم منه.
في التو صاح مستهجنًا طيشها:
-وإنتي عدمتيني مثلًا؟ 
سددت له نظرة حادة، فاستمر يقول فيما يشبه الوعد:
-أنا ورحمة الغاليين ما هسيبه، ليه وقته، اصبري بس لحد ما ننقل المطرح الجديد.
وقفت "عيشة" إلى جوارها، ورددت في صيغة متسائلة:
-سمعتي بنفسك؟
فيما حاوطتها "دليلة" من كتفيها وسحبتها بحنوٍ ناحيتها وهي تخاطبها:
-تعالي معايا يا "إيمي".
التفتت ناظرة إليها، وقد فاض الدمع من عينيها غزيرًا، ليتبدل صياحها الهائج لبكاءٍ مرير وهي تهمهم بنبرة البائس اليائس من كل شيء:
-قلبي موجوع أوي.
ضمتها إليها قائلة بشيءٍ من المواساة، وهي بالكاد تحاول التغلب على الغصة المريرة التي اجتاحت حلقها:
-حاسة بيكي يا حبيبتي.
لتردد "عيشة" في أسى، وهي ترفع إصبعيها للسماء، كأنما تناجي المولى:
-منه لله الظالم المفتري.
انسحبت الشقيقتان من صالة المنزل وهما تتكئان على بعضهما البعض، بينما ظلت والدتهما مع الشابين، فاستطردت تخاطب "عادل" معتذرة:
-معلش يا ابني، مخدتش بالي، اتلبخت في "إيمان"، ونسيت أسألك تحب تشرب إيه؟
أخبرها في أدبٍ، وقد طأطأ رأسه قليلًا، بجانب وضعه لابتسامة منمقة على ثغره:
-مالوش لزوم، أنا مش غريب، وبعدين أنا كنت جاي أطمن عليكم وأمشي.
تلك الابتسامة اللزجة استفزت "فارس" كثيرًا، فقد أدرك منذ اللحظة الأولى التي التقى بها فيه، أنه يسعى بشتى الطرق ليترك انطباعًا جيدًا لدى نساء عائلته، ليبدو أكثر تأثيرًا منه عليهن، وهذا ما أغاظه للغاية، خاصة مع افتقاره لأي سمات إيجابية تدعم موقفه لديهن، لذلك قابل أسلوبه السلس اللين في التعامل بجفاءٍ وجمود وشيءٍ من الغيرة، فدنا منه، وربت على كتفه يشكره بنبرة لا تبدو ممتنة:
-يدوم يا أخ "عادل"، وأنا خلاص برتب ننقل في ظرف يومين.
نظر إلى موضع يده على كتفه، أزاحها برفقٍ من عليه، وقال معترضًا دون أن تحتد نبرته:
-وليه تتعب الجماعة؟ ما تخليهم براحتهم، الشقة محدش أصلًا قاعد فيها، مالوش لازمة يتبهدلوا، ويا سيدي لو محرجين، أنا ممكن أعمل عقد إيجار بحاجة رمزية بحيث يبقى الوضع طبيعي.
أصر على موقفه مرددًا بعنادٍ:
-مش مستاهلة، أنا مسئول عنهم.
لتتكلم "عيشة" قائلة بامتنانٍ:
-اشكرلنا الحاجة يا ابني على مجايبها.
نظر "عادل" تجاهها قائلًا:
-العفو على إيه بس.
عاود "فارس" وضع يده على منبت كتفه، وهذه المرة سحبه عنوة معه قائلًا بسخافةٍ:
-تعالى أوصلك يا كابتن.
مجددًا أبعد أصابعه عنه، وقال وقد فهم رسالته الواضحة في طيات حديثه:
-اطمن، أنا عارف سكتي كويس.
...................................... 
ما أسهل التخلص من الضعفاء والدعس عليهم كأنهم حشرات، لا قيمة لهم، وجودهم من عدمه لن يشكل فارقًا بالنسبة له. لم يندم "زهير" للحظةٍ عما اقترف في حق "مروة" وعائلتها، اقتص من ثلاثتهم، وتركها تصارع المـــوت في مكب النفايات، لينتقل إلى مكانٍ آخر، حيث وقف في شرفة منزل "فهيم"، يراقب ما يدور بالأسفل من حركة هادئة للمارة والمركبات بعينين تغلفهما سحابة من الظُلمة المخيفة، كان منتصبًا في وقفته، صامتًا، سكوته يبث الرعب في الأبدان عن كلامه. اقتحم المنزل قبل قليلٍ كاسرًا بابه حينما لم يجد استجابة من قاطنيه، ليتفاجأ به خاليًا من أي مظهر للحياة، التراب يكسو معظم الأرجاء، ولا يوجد دليل على استخدام محتويات البيت مؤخرًا رغم تواجد الثياب والمتعلقات الشخصية هنا وهناك.
بالكاد حافظ على هدوئه، وأرسل أحد أتباعه ليستدعي "إعتدال" من الأسفل، فجاءت إليه على وجه السرعة، لتبدي فروض الطاعة والولاء له وقد وقفت على مبعدةٍ منه: 
-سيد الناس!
دون أن يلتفت وينظر تجاهها، خاطبها في لهجةٍ مُدنية، وعيناه مثبتتان على مشهد الشارع أمامه، كأنها لا تستحق اهتمامه:
-يعني إنتي الساقطة واللاقطة ما بتفوتيهاش، جيتي على أهم حاجة وطنشتي؟!!!
رغم هدوئه إلا أن كامل فرائصها ارتعدت، فقالت مبررة وهي تحاول السيطرة على الرجفة العظيمة التي نالت من بدنها قبل صوتها:
-والله يا كبيرنا اتصلت عليك كتير علشان أبلغك، بس.. بس وصلنا خبر موت ريسنا "الهجام"، وانشغلنا بالحزن عليه.
جاء تعقيبه غامضًا ومخيفًا في نفس الآن:
-لأ واضح فعلًا.
واصلت تبرير موقفها خشية غضبته المحسوسة:
-والله حاولت أستقصى عن الجدع اللي جه وخادهم، بس كان دبش، وطُربش، ومعرفتش أخد منه حق ولا باطل...
صمتت لهنيهة واقترحت من تلقاء نفسها:
-جايز يكونوا راحوا عند بيت أختها، ما هما مالهومش متوى إلا هو...
ظل على سكوته، فأكملت في نبرة مملوءة بالحماس، كما لو كانت تملك حلولًا سحرية لمعضلته:
-كمان اللي يقدر يفيدك يا سيدنا أكتر الواد "كيشو"، هو عارف كل حاجة عن عم "فهيم".
عقب جملتها الأخيرة تلك، نادى "زهير" عاليًا، وبصوتٍ أجفلها:
-يا "عباس"!
في التو أجابه بعدما وقف على مقربةٍ منه:
-أيوه يا كبيرنا.
أمره بلهجته التي لا ترد:
-عايز الواد ده عندي.
قال دون أن يجادله:
-اعتبره حصل.
استغلت "إعتدال" الفرصة لتؤكد كذلك على طاعتها الكاملة له:
-وأنا خدامتك يا سيدنا، من غير ما تؤمرني حتى، هتلاقيني آ....
انحشرت باقي جملتها في جوفها، حيث التفت كليًا دفعة واحدة، واندفع تجاهها لينقض عليها ويقبض على عنقها، اشتدت أصابعه قوة على عروقها، فأحست بأنفاسها تختنق، جذبها بخشونةٍ نحو الشرفة، ورمقها بهذه النظرة المرعبة التي لا يمكن أن تنساها مطلقًا وهو يخبرها:
-مابقتيش تلزميني.
برزت عيناها على اتساعهما، لتتفاجأ به يدفعها بكل ما أوتي من قوة من الشرفة، فصرخت مستغيثة قبل أن تسقط منها:
-يا لهـــــوي!
ارتطم جسدها الممتلئ بالشحم واللحم بالأرضية القاسية في لحظة من الزمن، فدُكت عظامها، ولقت حتفها في التو بعدما انكسر عنقها، لتصبح جسدًا خاويًا قد فارقته الحياة.
كان "زهير" واثقًا تمام الثقة من عدم جرأة أحدهم على إفشاء سر ما حدث علنًا، لتصبح الرواية السائدة في المنطقة، وكأنها حقيقة مفروغ منها، بأن "إعتدال" لقيت حتفها جراء فقدانها لاتزانها أثناء محاولتها تنظيف سجاد منزلها بالسطح، لا أكثر ولا أقل.
......................................
ثرثرتها العفوية قبل أن يسلبها حقها في الحياة، منحته بارقة من الأمل لاستعادتها مرة أخرى، فاتجه بعدته وعتاده إلى البناية التي تقطن بها شقيقتها، متوهمًا أنها متواجدة هناك بصحبتها، وتحتمي بشبيه الرجال.  
اقتحم المكان متقدمًا أتباعه دون أن يعبأ بحارس العقـــار الذي جلس باسترخاءٍ على مصطبته، انتفض ليلحق به مناديًا فور أن رآه يتجاوزه وكأنه نكرة:
-إنت يا أستاذ، إنت يا حضرت! هي وكالة من غير بواب؟!!
كاد أن يمسك به من ذراعه ليستوقفه، إلا أن "عباس" اعترض مساره، وانقض على يده، دافعًا إياه للخلف، فزام فيه الحــارس محتجًا:
-جرى إيه يا أخينا؟ إنتو مين بالظبط؟
بنفس الأسلوب الصِلف أخبره:
-ملكش فيه...
ليتبع ذلك تحذيره الصارم:
- ده لو خايف على عمرك!
توجس الحــارس خيفة منه، وسأله بصوتٍ خفضه قليلًا، وكأنه يخشى من سماع أحدهم لسؤاله المستريب:
-إنتو مباحث ولا إيه؟
أتاه رده باعثًا على الرهبة:
-أقوى من كده.
شعر الحــارس بجفافٍ مفاجئ في حلقه، وازدرد ريقه متمتمًا:
-استر يا رب!
فيما تساءل "زهير" وهو يضغط على زر استدعاء المصعد:
-فين شقة اللي اسمه "راغب"؟ أنهو دور؟
نظر الحارس إليه حينما أجابه:
-سي الأستاذ "راغب" عزل من فترة.
هبط الجواب الموجز على رأسه صادمًا، فدمدم بوجه شبه محتقن:
-عزل!!!
أكد عليه موضحًا باسترسالٍ:
-إيوه يا بيه، وأني ومَرَتي كنا واقفين معاه نلموا العفش، أصله عقبال عندك اتنقل فرع البنك الجديد، بيقولوا بقى بيه كبير أوي هناك.
لحظتها كز "زهير" على أسنانه لاعنًا في حنقٍ متزايد:
-ابن الـ ....
ليتدخل "عباس" مستعلمًا:
-طب متعرفش راحوا فين؟
هز رأسه نافيًا:
-لأ، معنديش خبر.
عاد إليه "زهير" وأمسك به من تلابيبه متسائلًا بخشونةٍ:
-بيت أهله فين؟
انزعج الحـــارس من ردة فعله المبالغ فيها، وجاوبه وهو يحاول فك تشابك أصابعه القابضة على ياقة جلبابه:
-الست الحاجة أمه كانت ساكنة نواحينا كده، أني مش فاكر بالظبط.
ليشهر بعدها "زهير" ســلاحه الناري في وجهه، فبرزت عيناه في محجريهما فزعًا منه، خاصة مع تهديده غير الممازح:
-أحسنلك تفتكر.
بارتجافةٍ بائنة في نبرته هتف فيما يشبه الرجاء:
-حاضر يا بيه، هعصر مخي وأقولك على طول، اصبر عليا دقيقة.
ظن بسذاجةٍ أن ذلك الرجل الحانق ينتمي لإحدى الجهات الأمنية غير المصرح بالحديث عنها، لهذا ارتاع من الإساءة إليه، فيما أمهله "زهير" بعض الوقت ليتذكر أين يقطن ذلك اللعين، وإلا لأفــرغ فيه جام غضبه الذي بالكاد يحاول كبحه. 
....................................
متعتها المفضلة حينما تفرغ من أعمالها المنزلية، تنسيق باقات الورد الصناعية، وعمل تشكيلات رائعة منها، لتستخدم كقطعة من الديكور، فتعطي مظهرًا أنيقًا، وتسر الناظرين لكونها ببساطة تدوم لمدة أطول ولا تتلف. لاحظت "سميحة" وقوف ابنها على مسافة قريبة منه أثناء عملها على مائدة السفرة، فخفضت بصرها، وسألته وهي تقص ورقة زائدة من ذلك الفرع البلاستيكي الذي بيدها:
-خير يا "عادل"؟ واقف عندك كده ليه؟
تقدم ناحيتها، وقال وهو يناولها فرعًا آخرًا لتكمل عملها به:
-ماما ممكن خدمة؟
أخذته منه قائلة بابتسامةٍ بشوشة:
-قول يا حبيبي.
أجلى أحبال صوته، وطلب منها بترددٍ:
-ينفع كده تطلي على جماعة عم "فهيم" من وقت للتاني تطمني عليهم؟
قطبت جبينها متسائلة باهتمامٍ جاد:
-ليه في حاجة حصلت؟
خرجت من رئتيه تنهيدة عجيبة، جعلتها ترتاب إلى حدٍ كبير في أمره، قبل أن يفرج عن مكنونات صدره بحذرٍ:
-يعني "إيمان" بنتها الكبيرة، نفسيتها تعبانة بعد اللي حصلها، وأنا محرج أسأل عليها.
في شيءٍ من المكر استطردت معلقة عليه:
-أنا ملاحظة إنك شاغل تفكيرك بيها الفترة دي.
هرب من نظرة عينيها التي تكشفه قائلًا بجديةٍ مصطنعة:
-عادي يا ماما، مش النبي وصى على سابع جار.
ضحكت معلقة في استمتاعٍ:
-عليه الصلاة والسلام، ماشي يا "عادل"، هنعمل بالوصية.
وكأن دفقة من السعادة قد غمرته، تحرك تجاهه، وانحنى مقبلًا أعلى رأسها وهو يقول في امتنانٍ كبير:
-ربنا يخليكي ليا يا ماما.
...........................................
مع مثيلاتها من النساء الخبيثات لا يجوز إلا استخدام الحيلة والدهاء لاستدراجها في الكلام، واستخراج ما يريد معرفته منها دون أن تشك للحظةٍ في نواياه، وإلا لاحتالت عليه، وتعاملت معه بحيطةٍ وحرص. استقبلت "نجاح" ضيفها غير المعروف لتتساءل مستفهمة قبل أن تؤدي واجب الضيافة معه:
-حضرتك قولتلي عايز ابني ليه؟
انتصب "زهير" بكتفيه ليبدو أكثر مهابةً وتحكمًا، وأخبرها في هدوءٍ، وهو يتعمد تدخين إحدى سجائره الفاخرة، ليؤكد على مدى ثرائه:
-أنا من عملاء البنك الـ VIP.
أثناء تواجده، حاول أن يستكشف إن كانت "دليلة" متواجدة مع شقيقتها هنا، إلا أنه لم يلجأ للسؤال مباشرة عن الأمر لئلا يزيد من استرابتها، فأطال واستطال في الحديث في أمور جانبية ريثما تحين اللحظة المناسبة لاستجوابها، بينما ظلت "نجاح" تنظر إليه بتشككٍ، فاستأنف حديثه وهو ينفث على مهلٍ الدخان من بين شفتيه:
-وكان أستاذ "راغب" بيخلص لمعارفي تعاملات كتير، في مقابل عمولات إضافية، وهما رشحوه ليا، بحيث يسهللي شغل البنك المعقد.
ضاقت عيناها باسترابةٍ أكبر، وعلقت في قدرٍ من الإنكار، وكأنها تبدي شكوكها في صحة روايته العجيبة:
-بس ابني مقاليش حاجة زي كده.
بثقةٍ لا يمكن زعزعتها عقب وهو يلصق بطرف ثغره بسمة مقتضبة:
-طبيعي ما يقولكيش، لأن ده شغل خاص، بعيد عن شغله الأساسي.
رفعت حاجبها للأعلى، وسألته:
-والمطلوب إيه؟
جاء رده بسيطًا:
-عايز أتواصل معاه.
ليأتيه سؤالها المتشكك وهي تحدجه بهذه النظرة الفاحصة النافذة:
-مش المفروض رقمه معاك؟
قال وهو يتعمد العبث في ساعة يده الرولكس ليخطف ناظريها:
-للأسف موبايلي اتسرق وضاعت كل البيانات اللي عليه.
بقيت على شكها منه مرددة:
-معقولة!!
مرة أخرى قصد ترك هاتفه المحمول ذي الماركة الشهيرة أمامها، وأخرج من جيبه حافظة نقوده، ليسحب إحدى بطاقاته بإصبعيه، ثم مررها إليها قائلًا:
-وده الكارت بتاعي لو حضرتك مش مصدقاني.
أخذتها منه لتقرأ ما دون عليها، ما لبث أن غطى وجهها تعابير الدهشة والصدمة، فعاودت النظر تجاهه متسائلة بذهولٍ:
-إيه ده؟ هو حضرتك صاحب سلسلة المطاعم دي؟
قال بشيءٍ من الزهو:
-ومش بس كده، في براندات تانية تخصني.
موجة من الطمع غمرتها كليًا، لتقول في نشوةٍ:
-متقلقش ابني هيقدر يحللك كل مشاكلك، دلوقت هو ماسك مدير فرع البنك الجديد، وأي تسهيلات عايزها هيعملهالك.
علق بنبرة ذات مغزى، وهذه النظرة الماكرة تطل من عينيه:
-وأنا هشوفه كويس..
ليخرج من جيب سترته الآخر علبة قطيفة، ناولها إياها قائلًا:
-اتفضلي يا هانم، حاجة بسيطة.
سال لعابها حينما رأت هديته المغرية، فأخذتها على الفور وهي تسأله بفضولٍ:
-إيه ده؟
لم يجبها، وتركها تنظر إلى ما بداخلها، فتفاجأت بوجود سوارٍ يبدو للوهلة الأولى خاطفًا للأنظار، وباهظ الثمن، رفعته نصب عينيها، فالتمع وميضه البراق في حدقتيها، كانت منبهرة بهديته للدرجة التي جعلتها تغفل عن مراقبته الحثيثة لها، استطاع أن يفهم ماهيتها، إنها امرأة طامعة، تسعى وراء الفرص الذهبية، مهما كلفها الثمن. تداركت نفسها أخيرًا، ووضعت السوار في علبته قائلة بضحكةٍ قصيرة مفتعلة:
-احم، شكرًا على ذوقك.
بمكر الثعالب سألها، وكأنه يلقي بشيءٍ عابر:
-أومال فين المدام بتاعته؟ أظن إنها كانت مقيمة مع حضرتك هنا.
هتفت بشكلٍ عفوي، دون أن تكترث لزلات لسانها:
-أعوذ بالله، مدام مين بس اللي تقعد معايا، هو أنا كنت ناقصة؟! خلاص معدتش موجودة، هو طلقها، حاجة بيئة وبلدي، ماتنفعوش.
رد بهدوءٍ لا يثير الشكوك:
-عمومًا هو هيستاهل يناسب ناس أرقى وأعلى في المكانة.
أعجبها تعليقه، فقالت وهذه اللمعة اللئيمة تحتل حدقتيها:
-ده رأيي برضوه، شكلي هتفق أنا وحضرتك كتير.
قال وهو يشيح بنظرته بعيدًا:
-هيحصل.
وضعت "نجاح" علبة القطيفة جانبًا، وأمسكت بهاتفها المحمول لتعبث به قبل أن تناوله إياه قائلة بودية زائدة:
-اتفضل رقم موبايله أهو، ولو في أي حاجة تانية أنا تحت أمرك.
رد مجاملًا:
-شكرًا ليكي يا هانم.
استساغت توقيره لها، وبقيت عيناها معلقتان بالعلبة، ليعيد إليها هاتفها قائلًا:
-اتفضلي، وهستأذن أنا.
لينهض بعدها قائمًا، فقامت بدورها هاتفة:
-ده أنا لسه معملتش معاك الواجب؟
ظل محافظًا على تلك الابتسامة المنمقة وهو يخبرها:
-مرة تانية يا هانم، وفرصة سعيدة.
قالت في حبورٍ متزايد:
-أنا الأسعد.
اصطحبته إلى باب البيت وهي تظن أنها نجحت في اقتناص صيدًا غاليًا ليكون تحت إمرة ابنها فيحقق كامل الاستفادة منه فيرتقي بوضعه الاجتماعي والمادي. بمجرد أن غادر وغدت بمفردها راحت تصفق بيديها في انتشاءٍ لتهرع بعدها نحو علبة القطيفة لتفتحها، نظرت بانبهارٍ إلى السوار اللامع، وهسهست مع نفسها في غبطةٍ:
-الظاهر هيتفتحلك طاقة القدر يا ابني مع الناس الهاي لايف .......................................... !!!!

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا