رواية لانه موسي الفصل الثامن 8 بقلم ماهي احمد

رواية لانه موسي الفصل الثامن 8 بقلم ماهي احمد

رواية لانه موسي الفصل الثامن 8 هى رواية من كتابة ماهي احمد رواية لانه موسي الفصل الثامن 8 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لانه موسي الفصل الثامن 8 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لانه موسي الفصل الثامن 8

رواية لانه موسي بقلم ماهي احمد

رواية لانه موسي الفصل الثامن 8

سكنَت السَاحة لِلحظة، قَبل أن تَخرق هدوءَها عَربة سَوداء فَاخرة، انسَابِت بِهدوءٍ مُتعالٍ بَين الأشجَار المُنسدلة والزهُور
تَقدّمت نَحو البوَابة الحَديدية العَتيقة، حَيثُ وَقف 
" البوّاب" مُنتبهًا، يَسرع خُطاه ليَفتح لَها الطَريق.
أوقَفت السَيدة "روز" السَيارة أمَام مَدخل القَصر، تَهبط مِنها بِخُطى مَحسوبة
وأَول مَا ظَهر مِن جَسدها كَعبها الأسوَد الرَفيع، يَطرق الأرض بِصوتٍ رَخيم يُكاد يُعلن عَن قدومَها قَبل أن تَفعل
فُستانها القَصير يُلامس سَاقيها كَنسمة مُتمرّدة، وشَعرها يَنسدل عَلى كَتفيِها بِعناية لاَ تُخفى
تَقدّم مِنها الحَارس بِخطواتٍ ثَابتة، انحَنى قَليلًا وَهمس بِاحترامٍ
"استاذ موسى لسه داخل القصر يامدام روز "
أومَأت بِرأسها فِي هدوءٍ مُهيب، وأَشارت لهُ بِعينيها أن يَنصرف، ثُم سَارت بِخُطى أنِيقة نَحو الدَرجات الرُخامية الضَخمة.
كُل خَطوة مِن كَعبها كَانت تُعلن اقترَابها، كَأنها تَحكم المَكان بِموسيقى خَطواتها وَحدها.
مَازال الجَميع يَقفون عِند البَاب ، لَم يَدخلو بَعد. تَقدّمت هي نَحوهم، وفي وَجهها ابتِسامةٌ رُسمت بِسُخريه ، وَما أن اقتَربت حَتى فَتح "سالم" ، والِد "موسى" ذِراعيه مُرحّبًا بِزوجَتُه
"أخيرًا ياروز ، قلقتيني عليكي ياحبيبتي "
تَبسمت وَأومأت بِرأسها ، تُلاعب خُصلات شَعرها وقَالت بِصوتٍ نَاعم
"ما انا قولتلك يا حبيبي إني هتأخر، البارتي النهارده طَول شويه مع صحابي... بس تعرف بقى في الشويه الصُغننين دول "
اقَتربت مِنهُ أكثَر، وطَبعت قُبلة رَقيقه عَلى وجنَته 
" وحشتني مــــوت "
ثُم طَالعت "موسى" ، فَوجدتهُ يُشيح بِوجهه ويَتراجع خَطوة إلى الورَاء، يَقترب مِن شَقيقتهُ "حبيبه" الَتي كَانت تَنظُر إلى عَقارب سَاعتها بِضيقٍ واضح، دونَ أن تُنطق
التَقت عينَاها بِعينَي "موسى" ، وفي نَظرتيهُما شيءٌ لَم يُقال، لَكنهُ فَهم ، أردَف " موسى" بِلهجة مُتحفّظة
"هستأذنك يا بابا، هطلع أرتاح شوية"
اعتَرض "والدُه " بِقول
"بس أحنا لسه كلامنا مخلصش ياموسى"
التَفتت " روز " وتَظاهرت "بِالدَهشة، تَرفع يَدها نَحو فَمها
"أوه ، موسى... آسفه والله ما شفتكش خالص ، أنت هنا من امتى "
رَفعت "حَبيبة" رأْسها لِتراقب مَا سَيحدث، بَينما التَفت "موسى" إليهَا وابتَسم ابتِسامة جَانبية سَاخره
"من غير حلفان يامرات ابويا ، انا مصدقك ، اصل بيقولوا العين مابتشوفش اللي احسن منها "
ثُم حَدق فِي جَميع الاِتجَاهات يَردف
" وبعدين انتِ واحده كبيره برضوا يعني ليكي عُذرك"
هَتفت " روز " بِتَذمُر لاَ تَزيح بَصرها مِن عَليه
"كبيره .. كبيره ايه ، أنا عندي سبعة وعشرين سنه ياموسى ولا ناسي "
ابتَسم "موسى" بِأستمتاع لَأنهُ يَدرك جَيداً انَ
"روز " سَتنفَجر كـ الدينَاميت وَقد ثَارت ثَائرها مِما القَاهُ "موسى" عَلى مسَامِعها ، وَضع يَديه فِي جَيبه يَتصنّع الدَهشة
"بجد ، غَريبه مع ان اللي يشوفك يقول داخله في السبعه واربعين مستريح "
التَفتت " روز " نَحو "زوجها " بِتذمّر
"شايف ابنك ياسالم بيقول عليا إيه وانت ساكت ، هتسيبه يهزقني قدامك من غير ما تعمل حاجه "
كَانت " روز " تَتحدث بِسخط وتَتشف بِه بِحنق بَينما
" موسى " تَجاهلها كُليًا واتَجه نَحو الدَرج الرُخامي يَمد كَف يَدهُ الى شَقيقتُه الوَاقفه بِجواره
" تعالي معايا ياحبيبه نطلع فوق "
وَقد ثَار هَذا حَنق " والدهُ " صَاحت " روز " بنبرةٍ فيها تودّد مُصطنع
" شايف ياسالم سابك ومشي ازاي ولا أكننا موجودين "
هَتف "سالم " بِصوتٍ مُرتَفع لِيبُلغ حَديثُه مَسامعُه
"مـــوســى "
تَوقّف "موسى" عِند أول دَرجَات السّلم، ولاَ زَال يَعطيِه ظَهرُه
" نتكلم بعدين يابابا انا محتاج اني اطلع ارتاح "
زَفر "سالم " بِغضبٍ، وقَال بِنبره قَاطعه
"مش قبل ما تعتذر من روز على اللي قولته "
أغمَض "موسى" عِينيه، تنفّس بِبطء، ثُم عَاد واستَدار إليهُم ، استَجمع جَل طَاقتهُ يَحث نَفسُه عَلى الهِدوء ، تَبسمت "روز " كَمن أحرَز نصرًا وسنَدت ذِراعها عَلى كَتف زَوجَها بِثقه ، أطلَق "موسى" تَنهِيده مُستاءه سَائلاً
"ولما اعتذر هتسيبني اطلع أنام "
أَومَأ "سالم " بِرأسه وأشَار لُه بِعينيه بِالأيجاب ، هيَ استَدارت لهُ تَنتظِر مِنهُ اعتِذاراً فَبصِق بِكلماتُه لها
" أنا اسف ، غلطتي إني نسيت إنك بتحبي الكلام الملفوف... المرة الجاية هبقى الفه بشريطه "
ثُم طَالع " والدهُ" بِأستياء
" حلو كده "
سُخريتهُ جَعلت " روز " تَرفع بِرأْسها تُحدق بِه وَمِقلتيها بَاتت تُنافس أحمِرار شَعرها ، كَان والِده لَم يَنتظر سِوى أعتِذار لَكن " موسى " كَعادتُه لَم يَمنحهُ مَا يُريد ، ليَزفُر حَانقًا ، يَشد كف شَقيقتهُ المُتعرق يَجذبها خَلفُه دونَ كِلمه ، مَر بِجوار "روز" وَكأنها لَم تَكُن ، وابتَعدا تَحت نَظراتهُم الحَاقده 
التَفتت " حبيبه " وبِدورها أخرَجت لِسانها في حَركة غَيظ سَريعه ، مِما أثَار غَيظ " روز " لَمحها "والدها" وأَومأ بِشىء مِن الضِيق لِفعلتها هَذه 
"حَبــيـبـه "
استَجمع جَل طَاقتُه ليَصرُخ بِأبنَتُه ، لِتسمع بِخطواتُه المُتسارعه نَحوها وَبمِجرد أن فَرقت بَين شَفتيها لِتُجيب استَدار وَجهها لِلجهه اليُمنى ، أذ أنفَلق جِفني 
" موسى " فِي عَجب مِما فَعله والدهُ بِشقيقتُه 
لَم تَكُن الصَفعة عَادية... الصَوت ارتدّ فِي أرجَاء القَاعه ، سَالت الدِماء مِن شِفتها السُفلى
تَرنّحت قَليلاً، لَكن "موسى" كَان مَا يَزال مُمسكًا بِهَا جَذبَها نَحوه ضَمّها بِصدره، يُحدّق فِي وَجهها، يَبحث عن اطمِئنان 
رَفع " سالم " سُبابته بِوجه كُلاً مِنهُما مُحذراً 
" روز بالنسبالي خط احمر ، احترامها من احترامي وماحبش حد يتعدى حدوده معاها ، اللي يدوسلها على طرف اهرسه بجزمتي ، أظن كلامي واضح " 
نَظرت " حبيبه " الىَ الأعلى تُرفرف بِرموشها ، لِتجد مَلامح " موسى " يَعتليها الغَضب الجَامح يُطالع والدُه بِحقد مُبالغ فِيه ، نَسي أن يَتنفس مِن كَثرة غَضبُه ، فَك أصابعُه المُتشابكه بِها يِنزل مِن عَلى الدَرج ليواجه والده ، عَلمت "حبيبه" مَا سَيحدُث مِن كَارثه اذا فُقد أعصَابُه ، تَمسكت بِيدهُ ، مَنعت دموعها مِن النِزول لِكي تَمنعُه ، تُطالبه بِرجاء 
" موسى عشان خاطري انا كويسه مافييش اي حاجه والله العظيم " 
هَى عَانقت نَفسها الجَزِعه تَجر خَطواتها نَاحية الأعلى ، تَجذبهُ خَلفها بِكامل قوتها ، تَستعطفُه بِكلماتها الحَزينه 
" اطلع ياموسى بلاش تقف قدامه ، انت عارف لو وقفت قدامه هيحصل ايه " 
تَحرك مَعها لِلأعلى بَعدما تَذكر عَواقب الوقوف أمَام والدُه ، ولَكن مَازالت عينَاه مُعلقه لِلخلف ، وَقعت عَيناه عَلى " روز " الَتي كَانت تَقف ثَابته
ظَهرت بَسمه عَلى طرف شِفاهه لهُ ، ثُم غَمزت غَمزه صَغيره بَارده يَليها قُبله أرسَلتها لهُ فِي الهَواء 
تُعلن بِها عَن أنتِصارها الدَائم 
.
* .                                                                  .
                                  .             
    •                           
                                 *
                                                                         •
•.
                                                                      .
                                     .
أغلَقت " حبيبه " بَاب غُرفتها بِبطىء تَجذبُه خَلفها
رَفعت ثَوبها مِن الأرضَيه كَونه أطوَل مِنها بِقليل 
وَلا يُناسب قِياسَها الحَالي البَته ، طَالعها " موسى "
وعَلم أنَها نَحفت عَن سَابِق عَهدها رُبما مِن كَثرة التَفكير ، هَمس بِداخله وَهو يَراها تُحاول التَخفيف عَنهُ بِقول
"لِماذا يَظنُ أَبي أن قَلب "حبيبه" خُلق لَيكون مَكباً لِنفَاياتُه ؟" 
طَالبتهُ "حبيبه " بِالجلوس ، فَجلس عَلى طَرف الفِراش يَضع يَديِه عَلى جَبينه حَاملاً ضيقٍ فِي 
صَدرهِ أكبَر مِن طَاقته ، أثنَت رُكبَتيها وَجلست أمَامُه تَجبر شَفتيها عَلى الأبتِسام قَائله
" خلاص بقى ياموسى فك كده ، يعني هي دي اول مره بابا يضربني فيها وبعدين بُصلي كده " 
أشَاح بِبصرهِ عَنها ، رَفعت كَف يَدها تُعيد بَصره اليها 
" يابني بصلي بقى .. شوية تلج على خدي وهبقى زي الفل "
صَمتت لِثواني تَستردف كَلماتها تُمازحه 
" طب ده النهارده حتى كانت ايده خفيفه مش زي كل مره " 
طَالعها " موسى " فَوقع بَصرُه عَلى الدِماء المُتناثره 
أسفَل شِفاهه 
" طب اقعدي جنبي " 
قَال كَلماتُه بِتنهيده مُره تَخرج مِن بَين رئتيه بِصمتٍ لاَذع ، التَفت لِكي يَحضر بَعض القُطن وضِماده مِن الدَرج بِجواره ، ثَبت رأسها بِكفه يَمسح الدِماء بِحذر 
" أنتِ عاملتلها ايه خلتيه يضربك كده " 
ابتَعدت فِي حَرج لِتزم شَفتيها بِغيظ ، وَقف أمَامَها يَنقُر جَبينَها بِسُبابتهُ هَامساً بِبسمه رَقيقه 
" ايه مكسوفه تقولي عملتلها ايه واحنا طالعين عالسلم " 
التَفتت تَردِف لِتشعُر بِجسدُه خَلفها يُعاود رَبط شَريط ثَوبها 
" غيظتها وطلعتلها لساني واحنا طالعين على السلم " 
أطلَقت تَنهيِده مُستاءه تَرمي بِجُثَتها عَلى أقرَب كُرسي لَها تَخبرهُ بِسعَاده غَامِره
" سيبك أنت من ان ابوك ضربني ، والله ولا فارق معايا ، ماتعرفش كنت سعيده ازاي وانا شوفت النظره اللي في عنيها وهي شويه وهطلع شرار من كل حته بعد الكلمتين اللي أنتَ قولتهم ليها " 
صَمتت قَليلاً لِيَراها تَشيح بِوجهها المُحمر نَاحية النَافذه لِيشد عَلى يَديها يُلاطفها 
" وارتحتي لما عملتي كده " 
لاَحظ تَقوس شَفتيها لِلأعلى لَكنها كَانت مُنكسِره ، استَدارت اليه لِتفلت يَديه ، تُلاعب خُصلات شَعرها 
" طبعاً ارتحت ، ست شهور ياموسى ، ست شهور من ساعة ما سافرت وانا مابقدرش اتنفس وهي موجوده ، والمشكله انها على طول موجوده ، وكل يوم بيعدي ابوك بيتعلق بيها اكتر عن اليوم اللي قبله ، مابقاش شايف غيرها ، مابيسمعش صوت غير صوتها ، مابيصدقش كلمه غير كلمتها هي ، مع اننا كلنا عارفين هي دخلت القصر ده وهي عينها على مين ، وكانت عايزه مين ، ولما ماقدرتش لعبت على ابوك اللي صدقها ، وبقت هي اللي بتؤمر وتتحكم فينا " 
انتَفضت تَضرب عَلى المَنضده بِسخط 
" ياموسى ده حتى جوازي من البني ادم الوحيد اللي بتمناه من الدنيا وقفالي فيه ، وبجد نفسي اخنقها " 
تَوجه نَحوها يَجمع وِجنَتيها بَين كَفي يَديِه الَتي أخَذت دِفىء الغُرفه 
" طيب وحياتك عندي لجوزهولك ياحبيبه " 
تَبسمت لِصدق نَبرته لِتقلص المَسافه بَينهُما فَتطبع بِشفتَيها خِتماً عَلى صَفحة جَبينُه
" بجد ياموسى ، بجد هتخلي بابا يرضى على جوازي من مصطفى " 
نَقر جَبينها بُسبابتُه كَعادتُه كُلّما أرَاد استِفزازها، يَعلم كَم تَكره تِلك الحَركة لَكنه لا يَتوقّف عَنها، كَأنها طَقس طِفوليّ لَم يَكبر عَنُه"
" هتموتي عالجواز انتِ" 
هَرشت جَبينها بِكف يَدها فِي مَوضع نَقرتُه 
" انا هموت واسيب البيت ده بصراحه " 
" يابيبه اطلعي من دول ، ما هو لو عايزه تطلعي من البيت ده نجوزك اي واحد ونخلص بس انتِ اللي مش عايزه تتجوزي غير اللي واخد قلبك "
غَمزها فِي نِهايه كَلاَمُه ، لِتدهس حِذاءه فِي غَيظ مِن وقَاحتُه التَي تَزداد مَع نِضوجه ، تَتجاهل تَذمراتُه موَضِحًا أنهُ حِذاء قَد اقتَناهُ حَديثًا 
"طيب وايه المشكله لما اكون بحب حد وعايزه اتجوزه طالما في الحلال ياموسى ، وبعدين انت عارف مصطفى مش من الشباب بتوع اليومين دول خالص ، وبيحبني وشاريني بجد " 
اردَفت حَانِقه مُستَمتعًا بِإغَاظتِها لَكن عِينَيها الحَزينه فَضحتها ، أبتَسم يُعانق أصَابع يَديها الصَغيره بِخاصتهُ الغَليظه 
" مالك قلبتي وشك كده ليه "
نَقر جَبينها بِسُبابته مَره أُخرى ، فَفركت جَبينها فِي مَوضع نَقرتُه بِغيظ 
" ياموسى بتوجع والله " 
بَينما هو بَدا مُتوتِراً والحِيره تَخنُقه مِن كُل الجِهات 
" انا بهزر معاكي ياحماره ، وانا لو مكنتش عارف مصطفى وانه كلمني كذا مره عليكي وغرضه شريف كنت وافقت على اللي بيحصل ده "
ابتَعد عَنها يُبَعثر خُصلات شَعرُه البُندقيه في النَافذه 
" انا بس مش خايف غير من حاجه واحده " 
رَمشت فِي حِيره مِن أمرُه لِتجمع خُصلات شَعرها فِي شِريطه قَامت بِفكَها مِن مَعصمها 
" ايه هي الحاجه دي ، وعشان خاطري عندك ماتقولش انك خايف من مرضه ، الاعمار دي بتاعت ربنا ياموسى ، مش بأيدينا ، ممكن انا .." 
التَفت يَضع كَف يَدهِ عَلى شِفاهه بِلهفه 
" بعد الشر عنك .. ماتحاوليش حتى تفكري تقوليها ياحبيبه ، انا عارف كويس انها اعمار ، بس ابوكي مابيحسبهاش كده " 
كانت سَتفتح فَاهه ، فَبتر هِو حَديثها بِقول 
" اسمعي ابوكي اخر مره كلمني قاللي انه عامل حفله تنكريه عشان ست روز عايزه تحتفل بعيد ميلادها بشكل مختلف السنه دي ، اعزمي مصطفى 
وخليه ييجي وانا هقنع ابوكي يقعد معاه المره دي ايه رأيك " 
قَفزت مِن فَرحتها تَعتلي البَسمه وَجهها 
" ربنا يخليك ليا ياموسى ، ودي عايزه كلام برضوا طبعاً موافقه " 
أنصَت لِدقَات سَاعات القَصر التَي أعلَنت عَن وجودَها ، ليُحدق فِي عَقاربها التَي تُشير الَى الثامِنه صَباحًا ليَشد قَبضتهُ مُتنهداً
" الساعه بقت تمانيه اكيد امي صحيت انا رايحلها"
وَقفت " حَبيبه " تَعترض طَريقُه بِقول 
" بقولك ايه ياموسى ماتيجي تروح ترتاح في اوضتك دلوقتي ولما تصحى يبقى يحلها ربنا ايه رأيك " 
تَوقفت لِتنظُر لهُ لِتكمل
" هــا ، قولت ايه ، هاتروح اوضتك وتنام مش
كده " 
رَبت عَلى رَأْسَها كَما لَو كَان يُدلل حَيوانٍ اليِفاً ، يَتخطاها ليُكمل سَيره ، وتراجعت هَي الَى الخَلف حَالما فَتح البَاب ، مَدت خَطواتها لِكي تَلحق بِه أثناء سَيرُه فِي الطُرقه الطَويله قَائله 
" ياموسى عشان خاطري كفايه اللي حصل من بابا اول ما جيت مش ناقصين .. على الاقل خلي مقابلتك ليها بعد الضهر انا والله عامله عليك " 
وَقف يَقبِض بِكف يَدهُ عَلى مِقبض غُرفة وَالدَتُه أشَار لَها بِعينيه أن تَعود 
" ارجعي أنتِ على أوضتك " 
لَم تَتَحرك عَلى الفَور ، بِل انتَظرت لَحظه قَبل قَول
"ايوه بس انت عارف لو دخلتلها ..." 
رَد عَليها رداً بَعيداً عَما تَقصُده 
" وماتنسيش تحطي تلج على وشك عايزك تبقي زي القمر في الحفله " 
عَلمت أنهُ قَد أَخذ قَرارُه لِلدخول ، فَأشارت لهُ بِعينيها الصَامته بِأنها هُنا لَن تَرحل ، دَلف الى الغُرفه وَما أن أَغلَق البَاب خَلفُه ، حَتى أسَتمعت 
"حبيبه " الَى صَرخَات والدَتها المُعتاده بِوجه أخيِها 
" اطلع بـــــره اوضتي ، مش طايقه اشوفك ، مش عايزه اسمع صوتك ، حتى ريحتك بتخنقني " 
وَضعت "حبيبه " كَف يَدها عَلى المِقبض تَهِم لِلدخول حَتى أوقَفها صَوت " موسى " المَكسور مِن الدَاخل 
" طيب ليه يا أمي ، قسوة ام على ضناها مش عارف هو ذنبه ايه ، على الأقل بصيلي ، ماتدنيش ضهرك كل ماتشوفيني ، انا مابتمناش حاجه في الدنيا غير انك بس تبصيلي " 
تَراجعت " حبيبه " خَطوه حَائره بَين التَدخُل والأنسَحاب ، حَتى سَمعت صَوت تَهشيم بِالداخل ، استَجمعت " والدته " جَل طَاقتها لِتصرخ بِه بِهستريا 
" وانا كنت اتمنى تموت في بطني ولا اني اشوفك قدامي دلوقتي " 
جَاءت جُملتها كَحُكمٍ مؤبّد، لا قابليّة فِيه للاستِئناف 
كَان واقفًا، لا شَيء يُمسك جَسدُه لَم يَعُد قَادرًا عَلى الاتّكاء عَلى نَفسُه ، كَأنّ الوَقت تَوقف دَاخله.
دَلفت "حبيبه" الَى الدَاخل وَسط صِراخ والدَاتها ،
تُبعثر مَا حَولها ، تُحطم أشيَاء لا تَعرف أسمَاءُها،
ولا تَهتم أينَ تَسقط ، أمسَكت بِذراعي والدَتها، والرَجَاء فِي عينيِها كَي تَهدأ 
وقَالت بِصوتٍ مُرتجف، لَكنهُ حاسِم
ـ "يا موسى... من فضلك... اخرج"
استَدار بِخطوات بَطيئة، وغَادر .. حَتى البَاب لَم يُغلقه بِعنُف ، لَكنهُ حِينَ أُغُلق، هَدأ كُل شَيء.
أخذَت "والدته" نفسًا عَميقًا، كَأن الهَواء عَاد إلىَ المَكان بَعد اختِناق طَويل بِسبب وجودُه
.
* .                                                                  .
                                  .             
    •                           
                                 *
                                                                         •
•.
                                                                      .
                                     .
فِي نَفس التَوقيت ، تَوقّفت سَيارة سَوداء أمَام بِناية عَتيقة فِي قَلب جَاردِن سِيتي
الوَاجهة العَالية، بِشرُفاتها الحَديديِة وأبوَابِها الخَشبية الثَقيلة، كَانت تَشبه مَشهدًا مِن زمنٍ مَضى... زَمن لَم يُغادره هَذا الحَيّ بَعد
انفَتح بَاب السَيارة الخَلفي، وَخرجت مِنُه فَتاه نَحيلة، نَاعمة، اتَكأت بِرفق عَلى الزُجاج، ثُم سَحبت البَاب خَلفها بِبُطء
خَطت خَارج السَيارة بِخطوات رَصينة
لِتنظُر بِطرف عَيناها فَتلحظ المَدخل العَتيِق، الحَديد المِلتَوي حَول النَوافِذ، البَوابة القَديِمة 
كُل شَيء بَدا لَها كَما تَركتُه مُنذ الصِغر ، سَاكن، قَديم، لكنّه وَاقِف... مِثلها تَمامًا
صَعدت أول دَرجة، ثُم الثَانية ، رَائِحة التُراب المُختَلط بِأثر الشَمس عَلى الحَوائط القَديمة لِفحتها كَأنها لَم تَغِب عَنها أبدًا
نَظرت لِلحوش الَداخلي، حَيثُ الشَجرة العَجوز مَا زَالت تَقف فِي مُنتصفه، تَمد ظِلّها كَأنها تَحرُس الِذكريَات
تَسلّل اليِهَا وَجه والدَتها مِن بَين الضَوء، يَبتَسم لَها مِن الشُرفه ، وَصوت أبِيها، يُناديها مِن الطَابِق الأعلَى
"اطلعي بقى يا امنه أنتِ ومصطفى كفايه لعب ماما وجدو حضروا الغدا "
حَتى الجَارة العَجوز فِي الطَابِق الأَرضي... شَعرت أن يَدها ستُفتح مِن خَلف النَافذة الآن لتُعطيها قِطعة حَلوى، كَما كَانت تَفعل سَابِقاً
فَاقِت مِن ذِكريَاتها المُحببه الىَ قَلبها ، طَرف عِينها لَمع بِدمعة لَم تِسقط ، أدَارت وَجهها سَريعًا، كَأنِها تَخشى أن تَفضحها الجِدران
صَعدت الدَرجات العَتيقة بِبُطء، تَحمل مَعها حَقيبة سَفرها تَنقل قَدمِيها فَوق الرُخام الَذي طَالما رَنّ بِصوت خَطوات طفولَتها ، يَدها تُلامس الدَرابزين الحَديديّ المُزخرف، وَقد غطّته طَبقة رَقيقة مِن الغُبار .. كُلما اقتَربت، خَفق قَلبها كأنّه يَستعيد مَا نُسي بِالقوّة
هَي تَقف مِنذُ بُرهه تُحدق فِي ذَلك البَاب الكَبير الصَديء بِلونه الدَاكن وَمِقبضُه النِحاسي ، تَطرق البَاب طَرقتَان وَتنهيها بِطرقه أخَف ، وَقد بَاتت مِعدَتها تَنقلِب فِي قَلق حِينَما التَقطت صَوت وَقع خَطوات بَطيئه قَادِمه نَحوها ، فَتح جِدها البَاب يُطالعها بِذهول 
" أمنه .." 
تَبسمت لهُ ، وَقد مَالت عَينيها لِحزُن دَفين قَائله
" كَيف حَالـ .. اَعني
صَمتت لِثواني تَستجمِع حِروف كَلِماتها 
" أزيك ياجدو " 
جَذبها نَحوه يَتفقد تَقاسِيم وَجهها ، عَيناه تَلمعان بِدهشة، كأنّه يَخشى أن يَرمش فَيغيب طَيفها
عَانقها بقوّة هو مَن ظنّ أنهُ لَن يَراها مُجددًا،
وبِحنان رَجل أرهَقه الفَقد، وأبقَت عَليه الذِكرى واقفًا ، دَفنت وَجهها فِي صَدرُه، تَتسلل اليِها رائِحة الأمَان .. رائِحة البُن القَديم، والكُتب، والسِنين التِي لَم تَخُنه قَائلاً 
" أخيراً يا أمنه ، اخيراً رجعتي لحضن جدك ياروح جدك " 
هزّت رَأْسها دونَ حَديث ، وَدمعة بَللت وَجنتها...
لَكِنها لَم تكن سِوى دَمعة راحه
سَحبها إلى الدَاخل، وَهو لا يَزال يَنظُر إليِها،
كأنّه يَسترجع فيِها وجوه الرَاحلين جَميعًا ، ثُم نَادى بِصوتٍ امتَزِج بِالفرحه 
"مصطفى ، فينك يامصطفى ، تعالى بسرعه شوف مين جه " 
كَانَ مُصطفى يَجلِس فِي غُرفتِه، عَلى كُرسيه المُتحرك ، يَتحدث بِالهاتِف عَيناه تَلمعان، وَوجهه يَشعّ نُورًا مَحبُوسًا بَين الضُلوع
"بجد يا حبيبة ، يعني موسى قالك أجي الحفلة التنكرية بتاعت مدام روز، وهيحاول يقنع باباكي بجوازنا "
سَكت قليلًا، كأنّه يَلتقط أنفَاس لَحظة طَال انتِظارها، ثُم هَمس بِشوق
"أنا مش مصدق نفسي... إمتى الحفلة دي ، أنا هفضل أعدّ الساعات لحد ما ييجي وقتها"
قَطع حُلْمَهُ صَوت الجَدّ يُناديه مِن الخَارج
" يامصطفى انت فين " 
التَفت نَحو البَاب، وعَجلات الكُرسي تَصدر صَوتًا خافتًا فَوق البَلاط ، قَال وَهو يَضغط عَلى أنفَاسُه
"طيب معلش يا حبيبة، جدو بينادي، مضطر أقفل دلوقتي... بس خليكي جنب التليفون، هكلمك تاني."
دَفع عَجلاتُه بِبُطء، يَفتح البَاب بِنبرة ضيقٍ خَفيفة
" ايه ياجدو ، ياجدو مش قادر تستنى شويه كنت بكلم حـبيبه وماصدقت اخوها وافـ .. "
تَجمّدت كلمَاته عِند الشَفاه ، واتَسعت عَيناه ونَبض قلبه تَعالى ، تَقَدم الجدّ نَحوه، يَبتَسم وَيَربت على كَتفِه
"تَعالَ، يَا مُصطفى... شُوف مِين نَوّر البَيت أخِيرًا..."
انحَنَى جَدُّه خَلفه، يُمسِك بِيَدي الكُرسي، ويدفَعُه بِخِفة نَحوها اقتَربت شَقيقتهُ خُطوة، ثُم اثنَت رُكبتيها تَقترب مِنه فَقال 
" كنت عارف انك هترجعي ومش هتسيبي اخوكي لوحده في ظروف زي دي ، كَان عِندي أمل، مَتسأليش إزاي... بسّ كنت متأكد انك هترجعي يا امنه "
تَنهد ليَضم وجنَتي شَقيقتُه بَين يَديه فَتهطل دموع الأُخرى 
"لَم أستطع أن..."
قَضمت شَفتيها وَقالت بِتوتر 
" اعني .. اقصد .. ماقدرتش اسيبك وانت 
„Regungslos sah sie ihn an."
ضَحِك " الجَدّ "، وَضحِكَ مَعه "مُصطفى" ، كَأنّ الزَمن عَاد للحَظة، خَفيفًا، صَادقًا قَال لَها وهو يَنظر فِي عَينيها بِحبّ
"اتكلمي زي ما تحبي يا امنه ، بالألماني ، بالفصحى ، بالمصري .. أي طريقه ، هتلاقيني بفهمك على طول " 
.
* .                                                                  .
                                  .             
    •                           
                                 *
                                                                         •
•.
                                                                      .
                                     .
مَا يَنبع مِن القَلب يَصل الىَ القَلب مُسرعًا لِذلك ابتَسمت " نعيمه " بِحنان وَهي تَنتصت لـ " لُقمان " 
بِاهتمام تَضع طَبق البَيض المَقلي عَلى الطَبليه بِحذر 
" موسى طول عمره بيحاول يعمل اللي يرضيكم بيحب يشوفكم مبسوطين ، والقهوه دي كانت حلمكم من زمان " 
التَقط "نوح " بَعضٍ مِن أورَاق الجَرجير يَدسهم بِفمه قَائلاً
" قهوة ايه ياما اسمها كافيه ، كافيه " 
طَالعتهُ " نعيمه " بِغيظ تَشير اليِه بِعينيها 
" ياخويا اقعد بدل ما الاكل ينزل في ركبك ، وتطول اكتر من كده ورقبتنا تتلوح انت راخر ، وبعدين تعالى هنا ياولا قهوه ولا كافيه ما الاتنين واحد " 
"هو ليه السمنه كتيره اوي ياما كده في البيض ، هي السمنه ببلاش ولا ايه " 
كَان هَذا حَديث " أنس " فَصاحت " نَعيمه " بِه بِقول 
" ما تاكل ياواد وانت ساكت ، انت لازم تنظر على الاكل زي عوايدك " 
التَقط " أنس " لُقمه مِن البَيض يَضعها بِفمه عَلى استِعجال يَرتدي سُترته قَائلاً
"الحمدلله شبعت، انا ماشي لحسن اتأخر على الشغل " 
اعتَرضت والدتُه بِقول 
" لسه ما خلصتش اكلك ياولا " 
أشَار عَلى مِعدتُه بِأبهامُه
" هبقى اجيبلي اي ساندوتش وانا في الشغل ، النهارده اول الشهر مش عايزه اتأخر عالبصمه ، ادعيلي يانعناعه اقبض الشهر كَامل " 
خَرج وأغلَق البَاب خَلفُه وَهو يَرتدى حِذاءه ، مُستَمعًا الىَ دَعوات والدتُه الَتى تَلحق بِه مِن الدَاخل 
"ربنا يسهّلك يا حبيبي، ويفتحها فوشّك، ويبعد عنك اللي ميخافوش ربنا...
ويرزقك من حيث لا تحتسب، ويديَك على قد نيتك 
اثنى رُكبته يرتَدى فَرده مِن حذاءه 
"مابلاش على قد نيتك دي ياما " 
اكمَلت " نعيمه " دُعاؤها 
"خُد بالك من نفسك ياولا ، وماتخليش حد يضايقك وبص في طريقك ، اللهم اجعل رزقه حلال وواسع،
وارجعهولي بخير وسلامة يا رب " 
ثُم طَلبت مِنه بِصوتٍ عالٍ حَتى يصلُه
" قول بسم الله توكلت على الله ياضنايا " 
هَبط الدَرجات مُسرعاً وَهو يَرُد عَليها 
" حاضر ياما سلام " 
ومَا أن خَرج مِن المَدخل حَتى وَجد "نجاح " تَجلس عَلى المَقعد بِالشارع أسفَل نَافذتها ، رَفع كَف يَدُه يُعدل مِن يَاقة سُترته ليَجدها تَنظر لهُ بِنصف عَين وكَأنها تَتفحصهُ فَقال بِنبره حَذره 
"بسم الله الرحمن الرحيم ، في ايه يانجاح بلاش تُذرفيني نظره على الصبح عايز اكمل اليوم سَليم الله يكرمك " 
اتَكأت عَلى العَصا الخَاصه بِها تَدور حَوله بِاهتمام 
"حلوه ياواد الشاكيته دي لاء وباين عليها جديده " 
ابتَسم لَها يَغمز بِطرف عيِنيه 
" ايه رأيك .. شياكه شياكه يعني " 
لاَحظ تَوسع حَدقتيها وشَفتاها الَتي تَفرقت لِلحديث فَوضع يَدهُ مِسرعاً عَلى عَيناها قَائلاً بِرجاء 
"ابوس ايدك ماتبصيش للچاكيت كده ده موسى لسه جايبهولي امبارح ، لسه مافرحتش بي ياوليه " 
أنزَلت يَدهُ مِن عَلى وَجهها تَخبرهُ بِأستِنكَار 
" تقصد ياواد ان انا عيني وحشه " 
تَركها وَرحل بِضع خَطوات لِلامام وَهو يَقول 
" لاء ، ودي تيجي برضوا انا اللي عيني وحـ
"وَقبل أن يُكمل جُملته، هطَل عَليه دَلوٌ مِن المَاء المُتّسخ مِن إحدَى الشُرَف
نَظر بحَسرة إلى سُترته الغَارقة،
ثُم رَفع رَأسه ليَجد "سَمر" تَتطلّع إليه مِن الأَعلى،
وَقد وَضعت يَدها على فَمها، تَحدّق فِيه بدهشة،
فَقال بحُزنٍ سَاخر.
" يابركة عينك اللي تفلق الحجر يانجاح ..." 
.. .. .. ..
جَاء " ادم " عَلى استِعجال يَرتدي قَميصُه ، بَين كَفيه دَفاترُه الجَامعيه ، يَقترب مِن والدَتُه بِبسمه بِها شَىء مِن الرَاحه لَيقول بِنبره بِها بَعضٍ مِن التَوتر 
" انا هاروح جامعتي بقى يا امي ، مش عايزه اجيبلك حاجه وانا جاي " 
قَال جُملته وَهو يُبلل حَلقه بِكوب الشَاي المَمزوج بالحَليب الطَازج ، فَتنهدت "نعيمه " بِارتياح 
"اللهي يريح قلبك يا ادم ، ويجبر خاطرك يا قادر ياكريم الوحيد اللي بيسألني فيكم ويشوفني اذا كنت عايزه حاجه ولا لاء " 
أردَف "نوح " في تَفاجؤ 
" ليه ياوليه مش انا دايما بسألك برضوا " 
أصدَرت صَوتاً بِجانب فَمها بِغيظ 
" بتسألني برضوا ، سألت عليك العافيه ياحبيبي " 
أكمَلت تَشير بيَدها نَاحية المَطبخ 
" خد كيس الزباله معاك وانت نازل يا ادم بس خللي بالك كبها على اول الشارع ناحية العربيات لحسن شالوا صندوق الزباله اللي كان في الحاره " 
أشَار بِعينيه دونَ حَديث ، وعِند نِزوله الىَ الاسفل 
مَلأت قَهقاتُه السَاخره أُذن " أنس " الَذي مَازال يَقف بِمكانُه مُنتظراً السَيده " نجاح " بِالداخل ، فَرؤيته هَكذا زَادت مِن جُرعة فِضوله سَائلاً
" ايه اللي عمل فيك كده يا انس ، ومستني مين " 
وَقد تَملك الحَرج مِن " أنس " عِندما تَعالت ضِحكاتُه وَلم يَقل سِوى 
" بقولك ايه مش ناقصه خفه دم امك على الصبح روح شوف انت رايح فين قبل ما نجاح تطلع من جوه وتذرفك عين تروح جامعتك وانت بتزحف دلوقتي "
وَجه "ادم " نَحوه نَظرات حَانيه وَكأنُه يَتأسف عَما حَدث ، فَقام "انس " بِاستعجاله 
" يلا بقى قبل ما تطلع ، انا هفضل هنا اشوف نجاح هتعملي ايه في ام الچاكيت اللي باظ على الصبح ده من عنيها " 
اقتَرح "ادم " عَليه مَا جَاء بِتفكيرُه 
" بقولك ايه انا كده كده هركب تاكسي ، تحب اروح اجيب تاكسي من على اول الشارع ونروح سوا " 
اعتَرض " انس" يَشير لهُ بِعينيه الىَ الخَارج 
" لا اتكل انت على الله ، انا كده كده اتأخرت هزحفها انا الحته دي مشي " 
سَمع وَقع اقدَام تَأتي مِن الدَاخل بِقول 
" خلاص اهو ياعم انس نضفتهولك " 
تَحرّك "آدم" إلىَ الخارِج مُسرِعًا، بينما وقَف أنَس يتفحّص سُترتَه بنَظرة تَجمع بين القَهر واليَأس، كأنّها قِطعة مِن ماضيه الطيّب ضاعَت للأبد.
ظنّت "نجاح" أنّها أنقَذتْه... لكنها فِي الحَقيقة أنهَتْه.
ما فَعَلتْه لَم يَكن تَنظيفًا، بل جَريمة مُكتملة الأركان فِي حَق القُماش
.
* .                                                                  .
                                  .             
    •                           
                                 *
                                                                         •
•.
                                                                      .
                                     .
جَلس " نصار " بَعد أَن غَادر الجَميع فِي غُرفته أسفَل نَافذتُه عَلى الأَريكه فَهي المَكان المُحبب الىَ قَلبُه وَملاَذُه الهَادىء ، دَخلت " نَعيمه " تُقدم لهُ كُوبٍ مِن الشَاي ، فَوضع مسِبحتُه عَلى الصِينيه وَقد لاَمس دِفء الكُوب جِلدُه 
" ما تناديلي لقمان من بره يانعيمه " 
اتّكأت بِرُكبتها على الأريكة، تَمدّ ذِراعها عَبر النَافِذة لتَقطِف بِضع أورَاق مِن النِعناع المُوضوعة عَلى الحَافة، ثُم سَألت بِنبره خَافِته
" عايزه في ايه يانصار .. مع اني عارفه انت عايزه في ايه من ساعة ما العيال جت امبارح وانت مانمتش من وقت ما قالوا على القهوه اللي اشترهالهم موسى .." 
ارتَشف رَشفه مِن كُوبه السَاخن 
"هاتي ورقتين نعناع من اللي معاكي " 
ثُم أشَار بِرأْسه نَاحية البَاب 
"قومي ناديلي على لقمان بقى " 
أشَارت لهُ بِكف يَدها بِغيظ 
" اه ياناري انا عارفه انك مش هَتسكت " 
اتَجهت نَاحية البَاب تَفتحهُ عَلى مِصرعيه 
" يــا لُــقمان ، كَلم ابوك ياضنايا " 
أتَى " لُقمان " مِن الخَارج يُمشط خَطواته بِأتجاه 
" والده " سَائلاً
"خَير يَاحج "
"اقفل الباب ورا امك يالقمان وتعالى اقعد على الكنبه جنبي عايزك " 
فَعل مَا طُلب مِنه وَسط نَظرات " نعيمه المُلامه لهُ ، 
وَجلس بِجوار والده بِقول 
" اؤمرني ياحج في حاجه " 
سَألهُ " نَصار" بِنبره مُبطنه بِالقلق 
" ماتعرفش موسى جاب فلوس الكافيه منين " 
تَبسم لِكلامُه ليُطالع تِلك الخِطوط المَنقوشه عَلى مَعالم وَجهه 
" موسى مالحقش يقولي حاجه ياحج ، بس انا وانت عارفين موسى كويس ، هو قبل مننا مابيمدش ايده على فلوس ابوه الحرام " 
اصابعُه التَفتت حَول المَسبحه يُقلب بَين حَباتِها بِتنهيده صَادقه 
" عارف يابني ، موسى احنا اللي مربيينه ، بس زي ما انت بتقول ان الكافيه ده عامله مش اقل من مليون ونص دلوقت ، وموسى يابني هيجيب منين 
المبلغ ده كله ، الا لو كان مد ايده على فلوس .." 
نَبس "لقُمان"  يُمدد يَدهُ يُمطط ذِراعيه ، يَبدو عَليه التَعب مِن اللَيله الفَائته وَهو يَقول 
" انت ناسي ياحج انه بيشتغل وبيسافر وفي نفس الوقت بيحوش ، موسى مابيمدش ايده على فلوس ابوه ، وهو عارف مصدرها كويس وكلها يوم ولا اتنين وييجي وهيحكيلك بنفسه هو جاب الفلوس دي منين ، ما انت عارف موسى ما بيخبيش عنك حاجه " 
حَديثهُ هَدىء مِن رَوعه قَليلاً ، هَز رأسُه بِشبه بَسمه قَائلاً
" على رأيك ياخبر النهارده بفلوس بكره يبقى ببلاش " 
وَضع " نصار " يَدهُ عَلى ظَهرُه يُربت عَليهِ بِرفق قَائلاً
" ماوركش مدرسه النهارده " 
هَمس بِغير وَعي يَسدل جِفناه 
" معنديش حصص النهارده طول اليوم ، بس هاروح الچيم فتره صباحيه النهارده " 
لِيشعر بِأنامل " والده "  تَتحسس سَطح جَبينه 
" باين عليك تعبان روح ريحلك شويه يابني وخللي شغلانة الچيم دي بعدين " 
رَن هاتِف " لقمان " فأجاب وَهو يَخرجُه مِن جَيب بِنطالُه
" ماينفعش ياحج ما انت عارف ورانا اقساط وجواز وليله كبيره "
طَالع شَاشة هَاتفُه ليَجد رَقم غَير مُسجل فَسألُه والدُه عَن هِوية المُتصل ، ليُجيب وَهو يَضغط عَلى زِر الأتِصال 
" مش عارف ياحج ، لسه هشوف " 
وَضع الهَاتف عَلى أُذنه ليُجيب بَعد صَمت دَام لِثواني 
" ايوه انا لقمان نصار " 
انتَظر رَد الأخر ثُم قال 
" ايوه بس ميعاد الانترفيو لسه ناقصله اسبوعين " 
صَمت يَستمع لِما يُقال ، فَانتفض يَقف مِن مَكانُه 
" لا .. لاء .. مش فاضي ازاي طبعاً فاضي ، يادوب مسافة السكه واكون عند حضراتكم " 
أغلَق الهَاتف يُوضح لِوالده 
" دي المدرسه الانترناشونال اللي كنت مقدم فيها ياحج ، عايزني اعمل المقابله ضروري " 
أثنَى ظَهرُه يُقبل يَد والدُه 
" ادعيلي ياحج ربنا يكتبها من نصيبي قادر ياكريم"
ضَحك " والده " يَهز رَأْسه يَضم جَسدُه لِحضنُه ، دَاعياً بِما فيِه الخَير لهُ
.
* .                                                                  .
                                  .             
    •                           
                                 *
                                                                         •
•.
                                                                      .
                                     .
إِنها جَامعة الأَحلام بِالنسبة "لآدم"
رَغم تَفوقه في الثَانوية العَامة، لَم يُصغِ "آدم" لِكلمات الإعجَاب، ولا لِنظرات الدَهشة الّتي أَحَاطت بٓه كُلما سُئل عمّا اختَاره طَريقًا لهُ.
لَم يَرَ نَفسه فِي مِعطفٍ أَبيَض، وَلا بَين سَماعاتٍ تَقيس النَبض.
هَو لَم يَكُن يَبحث عَن نَبض القُلوب، بَل عَن نَبض الكَرامة الّتي تَنقصُه.
اختَار "الحُقوق" لَأن العَدل لَم يَكن يَومًا رَفاهية في نَظره، بَل ضَوءٌ صَغير يَكفي لِيُنقذ أَحَدُهم مِن ظُلمةٍ كَبيرة، كَما حَدث لهُ.
كَان الصَباح دافئًا...
الشَمس تُداعب الرَصيف بِلطف، والنَّسيم يَمرّ كَعطرٍ قَديم بَين الزِحام.
سَيارات تَدخل وتَخرج، ضَجيجٌ مُختلط بِضحكات الطَلبة، لَكن "آدم" صَمّ أُذنيه وأَخرس شَفتيه.
كُل شيءٍ في عينيه كان يَذوب أمام طَيفٍ واحد...
"هنان".
فَتاة هادئة المَلامح، يَتبعها انعِكاس وَجهها عَلى الزُجاج كُل صَباح.
تَهبط من سَيارتها بِخُطى واثِقة، لَكن خُطاها كَانت تَخترق قلبه، لا الرَصيف.
شَعرها المُموّج كان يَتمرد في خُصلةٍ واحدة...
دائمًا تَتدلى على خَدّها الأيسر، ودائمًا هي تُعيدها خَلف أُذُنها بِحركةٍ بَطيئة، كَأنها تُمشط أَعصابُه لا شَعرها.
يَعرف تَوقيت وُصولها بالدقيقة، يُرتب يَومه عَلى وَقع كَعب حذائها، يَنتظرها بالسَاعات، فقط لِيَراها.
يَرى العَالم فِي ابتِسامتها العَابرة، ويَرى كُل عَجزه في المسَافة التي تَفصله عَنها.
هي ابنَة العَميد السَابِق للجَامعة، مَكانة وَالدها فَقط كَانت كَافية ليَشعر أن بَينهما أَلف بَابٍ مُغلق...
لَكنه أَحبَها ، حُبٌ خافِت، دافئ، يُوجعه ولا يَجرؤ حَتى عَلى الاقتِراب مِنه.
أَعَطته ظَهرها، تَصعد الدَّرج، تُمشّط خُطاها،
وهو، يَظل مَكانُه، ثابتًا كَظلها، يَشربها بِعينيه وكَأنها المَدى كُله.
وَفجأة، وَقع مِن عَالمه الصَامت إلى ضَجيجٍ أَرعَن.
ضَحكة ساخرة قَطعت خياله، تَبِعتها دَفعة فُجائية، سَقَطت على إِثرها كُتبه.
رَفع رَأسهُ فَوَجد ثَلاثة مِن زُملائه، أَحَدهم قَال بصَوتٍ مُتهكم
"اللي يِبُص لفوق... يِتعب."
أَثنى رُكبتيه، يَلتقط كُتبه، يُخفي احمِرار وَجهه،
مُحاولًا ألّا يَلتقي بِعيني أَحَد، فيَرد آخر
"دي مِش على مَقاسك... ابقى بُصّ على قدك يا نَجم."
تَسلّل الخَجل إلى "آدم"، كما تَتسلل النّيران إلى الوَرق.
يَتحرك بِخطواتٍ مُرتبكة، وَقف "سيف" في وَجهه، يَمنعه
"استنى هنا، انت رايح فين؟ وفين الأبحاث اللي قُلنا لك تَعملها يا عم"
أَزاح "آدم" نَظارته بِخفة عَن وَجهه، مَسح عَدستها بِطرف كُمّه، كَأنها حِجابه الأَخير عَن العَالم، ثُم قال بِصوتٍ خافِت، كأنما يَعتذر
"ما خَلّصتش..."
اقتَرب مِنه "سيف" حَتى كَاد أن يَلمسه، فَانتفض "آدم" إلى الوَراء يُبرر
"ما لِحقتش... أَكملهم."
أَجابُه "سيف" وعَيناه كَجدارٍ لا نَافذة فِيه
"أنا سايبك يومين تعملهم، ولا انت مش فاضي غير إنك تِبَحلق في ناس عُمرهم ما هيِعبّروا أمثالك."
انحَنى رَأس "آدم"، لَم يُجرؤ أن يَرفعه، ورُبما لو فَعل، لَرأى السّماء تَبكي عَليه دون أن تُمطر.
ظَهَر "بيشوي" لِيَزيد مِن جُرحه وهو يَقول بسُخرية
"خلاص بقى يا سيف، لحسن يِعيط زي الجيرلز، يا حرام... سيبه، وهو هيعملهم."
أسقَط "سيف" نَظارته عَلى الأرض، وأَشَار لهُ بِتحذير
"أنا المَرة دي هسَلكها لك، بس الأبحاث المَطلوبة تِخلّص... أَنا عايز أجيب امتياز السنة دي."
رَحلوا، وبَقي هو... يَطوي انكساره عَلى عَجل.
رَفع نظّارته، الّتي انشرخ زُجاجها بِخطٍ رَفيعٍ حاد، ومَسحها بِطرف قَميصُه
كَان بَصره مُشوّشًا، مِن دُموعٍ حَاول أَن يَمنعها مِن النِزول
طَالع عَقارب سَاعتُه، فَوجد أنهُ تَأخر.
ضَمّ كُتبه إلى صَدره، يَهرول إلى مُحاضرته بِصمت 
.
* .                                                                  .
                                  .             
    •                           
                                 *
                                                                         •
•.
                                                                      .
                                     .
كَان " لُقمان " يُقلب عِينيه بَين لافِتة أنيِقة كُتب عَليها اسِم المَدرسة بِحروف لَامِعة ، البَوابات الحَديدية العَالية تُفتح إلكترونيًّا، وَعلى الجَانب لافِتة زُجاجية يَرى بِها نَفسُه مِن شِدة لَمعانها تَحمل اِسم المَدرسة بَحروف إنجلِيزية مُذهبة، تَلمع تَحت أشِعة الشَمس كَأنها شِعار فُندق خَمس نِجوم ،وَليسَت بِصرحًا تَعليميًا
دَلف " لُقمان " إلى البَهو بَعد أن تَم تَفتيشه مِن حُراس الأَمن يَرتدون بَذلات رَسمية ويَضعون سمَاعات أُذن، كَأنهُم عَلى وَشك تَأمين مُؤتَمر دَولي لاَ مُجرد طُلاب فِي سِن المُراهقه 
تَفحصت عَيناه الأَرضيه المَرصوفه بِبلاطٍ نَاعم يَعكس ضَوء الشَمس فِي خِطوط هَندسيه ، والهَواء مُعطر بِرائحة الثَراء ، ونَافورة صَغيرة تَتوسّط الحَديقة الأمَامية، تَقذف الميِاه بَنغمة هَادئه وبَسيطه 
أمَا المَبنى ذَاتُه، كَان شَامِخاً يشبه مَباني الجَامعات الخَاصة، جُدرانه مِن الزُجاج والرُخام الَأبيِض، وَسلالم كَهربَائية دَاخليِة، وَمصاعد شَفافة تَنقل الطُلاب بَين الأَدوَار
اقتَرب مَن مَكتب الاستِقبال، وَهُناك كَانت تَجلس فَتاة شَابة تَرتَدي بَدلة بَلون الكُحلي، خُصلاتِها مَشدوده لِلخَلف، وَعينها عَلى الشَاشة التَى أمَامَها.
رَفعت رَأْسها نَحوه، بِابتِسامة هَادئِة، وَقَالت
" صباح الخير يافندم ، اقدر اساعدك بأيه " 
أجَاب وَهو يُحاول أَن يَضبُط نَبرة صَوته
"لقمان نصار... جاي بخصوص انترفيو المُعلمين مع مستر يوسف في الأداره "
دَونت أسمُه عَلى الَلوحه الألُكترونيه ثُم أشَارت بيَدها ِجهة اليَمين
"هتستنى في القاعة التانية، في ضيافة قسم الموارد البشريّة حد هييجي ياخد حضرتك خلال دقايق"
اومَا بِرأسُه ، ثُم انصَرف فَي الاتَجاه الَذي أشَارت نَحوه يَمُر بَين طُلابًا يَرتدون الزِي الرَسمي الأنيِق، يَجلسون عَلى طَاولات عَالية، يُراجعون شيئًا عَلى أجهِزة لَوحية أنيِقة، يَتحدّثون بإنجليزية فَصيحة، والبَنات بِحقائِب جِلدية تَحمل أسمَاء مَاركات عَالمِية.
فِي الجُدران شَاشَات ذَكية، تُعرض تَنبيهات الَيوم وَجدول المُحاضرات، وإعلاَنات عَن مُسابقات عِلمية، وموَاعيد التَقديم للـ SAT والـ IGCSE
جَلس فِي قَاعة الانتِظار، أمَامُه طَاولة صَغيرة عَليها مَجلات تَربوية وإنجَازات المَدرسة مَطبوعة عَلى وَرقٍ سَميك لاَمِع ، ألقَى نَظره سَريعه عَلى المُتقدمين مِن زُملائه لِيجد كُل مِنهما يَرتدي بَذله رَسميه بَينما هو لَم يَرتدي سِوا بِنطال وَقميص لاَ يَليقوا بِمثل هَذه المُقابله ، ثُم نَظر الىَ المِرآه التَي أمَامُه و تَمنى لَو أرتَدى رَبطة عُنق لِتزيد مِن أنَاقتُه 
مرّت دقائق، حَتى فُتح الباب، ودَخل شَاب أنيق بِبدلة رَسميه ، ابتَسم لهُ، ومدّ يده سَائلاً
"مستر لقمان.."
ردّ سريعًا وهو يَنهض
"أيوه، أنا... "
ردّ الآخَر
"أنا يوسف، اتفضل معايا ، معاد حضرتك "
وَقف "لقمان" وسَار خَلفهُ ، بَينما يُردد في داخله
الصَلاة والسَلام عَلى سَيدنا أشرَف الخَلق بِنية قَضاء حَاجتُه ، ظَل يُرددها فِي سِرُه مُحاولًا أن يَكتم ارتِعاش صَوته... لَم يَكُن يَملُك غَير الدُعاء والثِقة بِخبرتُه"
                                 🍁
لَقد انتَصف النَهار وَلم يُبَارح "نوح" غُرفته ، يَتحدث مَع فَتاةٍ مَا بِالهَاتف قَائلاً
" يابنتي بخونك ايه بس أنتِ كمان ، هو انا عيني تقدر تشوف غيرك ، كل الحكايه اني امبارح مكنتش فاضي عشان كده ماقدرتش ارد عليكي " 
اومَأ لِسؤالها لِيَبتسم ابتِسامة رِضا 
" ما انا عارف انك بتقلقي عليا ، بس قوليلي اعمل ايه ، امبارح كنا بنشتري حتة كافيه كده في حوض الدرس ، قولت لموسى اخويا روح انت اشتريه شوف اللي يعجبك وخد البلاتنيوم كارد بتاعتي ، تحت امرك ، بس هو مارضاش ابداً ، قالي يانوح لازم تكون موجود معايا مابعرفش اتصرف من غيرك ، اضطريت اوافق من كتر زنه ياستي  ، مش عارف من غيري موسى واخواتي كانوا هيعيشوا ازاي " 
تَقوست شَفتاه لِلأعلى وَهو يَردف بِصوتٍ نَاعم 
" لا طبعًا نِشغله ايه ، ده كافيه بس جايبينه عشان نبقى نقعد فيه شويه لما نحب ، بدل ما نروح نقعد في كافيهات الناس 
صَمت لِثواني يَستردف بِثقه
عايز اقولك ان  فكرة الكافيه دي فكرتي ومامي وبابي بينفذولي كل طلباتي وبالذات مامي مابتستغناش عني ابداً في اي شىء " 
" يعمر بيوتكم .. انتوا مافيش فايده فيكم ابداً "
ارتَبِك " نوح"  لِلحظه كَطِفلٍ صَغير ضُبط مُتلبساً مِن صَرخَتِها  ، تَراجع خَطوه لِلوراء مُتسَائلا
"إيه ياما؟ في إيه؟"
كَانت السَيده "نعيمة" تَقف أمَامُه، والغَضب رُسم عَلى ملَامحها، نَظر إليِها وَقال
"ياما، أنتِ بتبصيلي كده ليه .. أنا عملت إيه "
اقتَربت مِنه بِبطء، فَتراجع هَو بِحذر، َوقالت
"مين دخل الحمام ومشدش وراه السيفون "
أغلَق الهَاتف مُسرعاً يَنفي التُهمة عَنه
"مش أنا ، هو مفيش غيري في البيت يعني ده ظلم"
لَم تَنتظر أن يُكمل، وقَالت وَهي تَلمح ابتِسامتُه المُستخفّة بِها 
"آه يا خويا، استعبط... مفيش غيرك في البيت، كلهم خرجوا. أنا وإنت وأبوك بس اللي قاعدين."
ابتَسم "نوح" بإيمَاءة خَفيفة 
"طب ما ده مايلفتش نظرك لحاجة يا نعناعة"
كَان يقصُدها هِي بِكلامه، فَزاد ذَلك مِن غَضبها
"تقصد إيه يا ولا "
لَكن الهَاتف تَدخل لِأنقاذ حَياتُه ، رنّ هاتِفها فَجأة، فانتَهز الفرُصة وَهرب مِن أمَامها، قائلًا بصَوت عالٍ
"ماقصدش حاجة... ردي على تليفونك يا نعناعة واستهدِي بالله، شوفي مين بيتصل."
تنَهدت بِعمق وَهي تَرُد عَلى المُكالمة
"أيوه يا وداد..."
صَمتت لِثوانٍ، ثُم أجَابت بِعصبيه
" ياختي نروح فرح ايه وبتاع ايه سبيني في اللي انا فيه " 
تَنهدت وَهي تَرد 
"صوتي متعصب ليه ؟  ياختي الواد نوح مجنني ، اقسم بالله شويه وهيخليني اشد في شعري ، الف مره اقوله شد السيفون وراك ، شد السيفون وراك لحد ماصوتي اتنبح وهو مابيشدهوش المعفن ،  وأنا كبرت وبقيت بقرف يا وداد"
فِي تِلك الأثنَاء، كَان " نوح " قَد انسَحب إلى الشُرفة، وأعَاد الاتِصال بِحبيبته وَهو يَعتذر
"آسف يا حبيبتي، مش عارف الصوت حصل له إيه، الشبكة بقت زفت فودافون دلوقتي بقت حاجة تقرف"
أسنَد ذِراعُه إلىَ حَافة الشُرفة وَقال بِتعجب 
"أنتِ بتقولي ايه صوت ست كبيره ايه ،  وسيفون ايه اللي مشدتهوش ياحبيبتي ،  أكيد الصوت مش من عندي ، أنا ساكن في أهدى منطقة في الدنيا ،مافيش غير زقزقة العصافير وبس"
لَكن العَصافير خَانتُه  ،وَما إن أنَهى جُملته، حَتى جَاءه صَوت بَائع الخُردة مِن أسفَل المَنزل، يَصيح عَبر المُكبر
"بيـكيــا... بيـكيــا... يا رب يا هادي، هات الزباين الناحية دي"
ثُم رَفع بَائع الخُرده صَوته أكَثر يُتابع 
" ياللي عامله بيتك مخزن ما تبيعلنا احنا احسن "
" ياللي عندك النحاس والالمونيا ماتشيليش هم الدنيا "
شَهقه فَرت مِن " نوح " حينَ سَمع نِداءاته فأغلَق الهَاتف مُسرعًا يَشير بيَدهُ بِأنفعال مُتحججًا
" انت ياعم انت بتقول ايه ، وطي صوتك مش عارفين ننام " 
تَجاهلهُ المُنادي يُقرب المُكبر مِن فَمه أكثر يُلقح عَليه بِحديثه
"والله المهنه دي مش مهنتنا .. بس اهو احسن من نومتنا" 
فَهم " نوح " تَلميحاتُه السَاخره فَرد عَليه بِقول 
"طب ما طالما كده ، اطلع شيل العزال وخد فوق منه العيال " 
وهكذا أدرَكَ "نوح" أنَّ البقاءَ في المنزلِ لن يُجلبَ لهُ سوى صُداعٍ مُزمِن، لا راحةَ فيه. 
قرَّرَ الهروبَ نحوَ الهواء، نحوَ أيِّ زاويةٍ في الشارعِ تُتيحُ لهُ مُكالمةً دون أن يُقاطِعَها نُباحُ أمِّه أو بُكاءُ المواسير.
هبطَ الدَّرَجَ بِحَذَرٍ يُشبهُ حذرَ القطط، يُراقِبُ موطِئَ قدمِه أكثرَ ممّا يُراقبُ القَدَر، لا يُريدُ أن تَراه "نجاح"، لا الآن، ولا أبدًا.
لَكن، كما تَعوّدَ منها، كانت بانتظارِه. جالسةً أسفلَ نافذتها، على نفسِ المقعدِ الذي يبدو أنَّهُ حُفِرَ لها خُصوصًا، لم تُغيّرْ مكانَها منذُ التِّسعينات تَقريبًا 
قالت دون أن ترفعَ رأسَها
"واد يا نوح، رايح فين يا ولا"
ارتَجَفَ قليلًا وأخفى الهاتفَ في جيبِه، ثم قالَ بصوتٍ مُرتَجِف
"ولا حاجه يا نجاح، ده أنا رايح أشوف صاحبي... عيان، بيموت ، مش باقي منه غير النفس، ادعيله ربنا يشفيه"
رَفعت حَاجبيها فَور أن لمَحت الهاتفَ الجديدَ يلوحُ كأنَّهُ يعتَرِفُ بنفسِه، فشهَقَت كأنّها رأت جريمةً مُكتملةَ الأركان
"يا لهوي .. انت جبت تليفون جديد ياولا"
ابتَلع ريقَه، واقتربَ منها مُتوسِّلًا وهو يُقبِّلُ يدَها
"سلفة، مش بتاعي يا نجاح، ده عليه أقساط... أبوس إيدِك، شيلي عينِك من عليه، عشان خاطر ربنا"
فردّت بسؤالِها المُعتاد
"ليه يا واد، هو انت شايف إن عيني وحشه ولا كانت وحشه"
تحرَّك "نوح" إلىَ الأمَام، وَهو يَنظرُ خلفَه نحوَها
"أنا برضو أقدر أقول كده يا نجاح، أنا بـــ"
تعثَّرت قدمُهُ بِحَجَر، فسقَطَ أرضًا، ومدَّ يدَهُ إلى الهاتفِ في ذُعر، تفقدَه، ووجدَ الشاشةَ قد تحطَّمَت
جلسَ مكانَهُ مكتومًا بِالغيظ
"روحي يا شيخة، منك لله."
مرَّت سيّدةٌ أمام "نجاح"، تحملُ زُجاجةَ مشروبٍ بارد، فحدَّقت بها وقالت
"جايبة الإزازة الساقعة الكبيرة دي لمين يا أم محمد، تكونش بنتك جايلها عريس"
نَظرت إليِها المَرأة، وَقبل أن تَرد، سَقطت الزُجاجةُ مِن يدِها وتَحطّمت عَلى الأَرض.
قَالت "نجاح" بِابتسامةٍ خَفيفه
"باين على العريس... عينه وحشة، يلا خدت الشر وراحت"
                    .                  .           .
Jump..    jump..    jump..   jump
اصوَات صَائِحه تَردد صَداها مُسبِبه الطَنين فِي أُذن 
"لقمان " وَقد تَلاشى أملُه فِي الحِصول عَلى الوَظيِفه ، شِروطهم كَانت صَادمه ، وكَأنها وُضِعت لِتقصِيه هِو تَحديدًا 
عَاد لِلصعود يَتفقد المَمر التَابع لِلمدرسه وَهو في طَريقُه لِلخروج ،  وَلم يَرَ أَحدًا سِوى الفَراَغ
شَعر بِأن الصَوت رُبما يَكون مُجرد هَاجس ، أرتِباكُه وَفضوله يَتقاتَلان وَهو يَقف بِصمت لَيرى مَن سَينتصر ، ابتَعد عَن المَمر بَخطوات بطيئة ، وَلكن الاصَوات ارتَفعت مُجددًا وَهَذه المَره بَدا الحَماس فِيها أَشد
Jump..    jump..    jump..   jump
أَخذ يَركُض مِن المَمر ، مِن الدَرج الثَاني ، حَيث الأَخير ، كُلما اقتَرب، بَدا الهِتاف أقرَب، حَتى وَصل إلى بابٍ حَديدي فِي نِهاية الدَرج ، دَفع الباب بِقوه
لِيجد نَفسُه عَلى السَطح ، وعلى جانبه الأيسر مجموعه مِن الطُلاب ،روفِي المُنتصف، فَتاة تَقف عَلى السُور، جَسدها مَائل قَليلًا لِلأمام، وَكأنها عَلى وَشك أن تَسقط ، مَر بِلحظة خِمول أو أن الرُعب شَل تَفكيرُه ،  بَينما جَسد الفَتاه أُصيب بِالأرتِعاش ، حَتى أن عَضلات قَدمَاها لَم تَقوى عَلى حَملها أكثَر مِن ذَلك ، وَلكنها مَازالت تُحاول الصِمود والبَقاء فَوق سِياج سَطحٍ يَبلُغ أرتِفاعُه أربَع طَوابق ، فَأتى صَوتٍ مِن أحدَى الطَالبات يُطالبِها بِغرور 
" كنت عارفه أنك اجبن بكتير حتى انك تخلصي من حياتك اليائسه ، عديمة النفع يانورا " 
ضَحكات الطُلاب أربَكتها ، التفِتت بوجهها الَيهم فَرأى " لقمان " تِلك الجروح والكَدمات الخَفيفه في وَجهها ، نَطق طَالب أخر بِلا مُبالاه 
" الظاهر ان احنا هنقعد كده كتير ، وفي الاخر انا فقدت حماسي اني اشوفك وانتِ بترمي نفسك خلاص ، عمرك ما هتبقى واحده مننا عارفه ليه ، عشان انتِ أجبن من انك تعمليها وتبقي مننا " 
ثُم أشَار الى تِلك الفَتاه بِجواره بِتعجرف واضح 
" يلا ياليلاس ضيعنا وقت على الفاضي " 
انهكَاتها كَلِماتُه  ، دَفعت بَجسدها الىَ الأَمام فِي 
حِين عَلت تِلك الأصوَات الحَماسيه أكثَر وَأكثِر فَهم سَيرون سِقوط فَتاه مِن الطَابق الرَابع وَهذا شَىء لاَ يَتكرر كُل يَوم 
" مـاتـنـطـيـش .." 
صَرخ " لُقمان " جَاذباً اهتِمام الطُلاب له ُ ، يُهرول نَحوها يَدفع كُل مَن يَقف فِي طَريقُه حَتى جَذبها مِن خَصرها لِلداخل وسَقط الاثنَين مَعاً عَلى السَطح تَستَلقى فَوقه ، أخرَج الجَميع هَواتفهم يَلتقطون صِورهم ، فَقام مُسرعاً لِكي يَطمئن قَلبه عَلى تِلك الفَتاه بِقول 
" أنتِ بخير ، حصلك حاجه " 
أردَف لِتجحظ مِقلتاي " ليلاس " خَلفه 
" أنت ازاي يابني ادام انت  تدخل في اللي مالكش فيه " 
تَجاهلها واستَدار مُجدداً لِتلك الفَتاة الضَعيفه يُساعدها عَلى النِهوض 
" تعالي معايا " 
اومأت لهُ " نورا " بِالأستجابه تَستند عَليِه لِضعفها وقِلة حيِلتها ، تَحرك بِضعة خَطوات لِلأمَام لِيجد مَن يَنقُر عَلى كَتفُه بِعصبيه قَائلاً
" سيبها عَلى جُثتي لو نزلت بيها " 
وَكأنهُ وَجد الخَلاص حِين سَمع المُتحدث شَاب ، طَوى ذِراعُه أسفَل أبطه بِغل جَعلت ذَلك الشَاب يَتلوى مِن الألم وَهو يَقول 
" انا ممكن اعمل فيك اللي كنت هتعمله فيها من شويه وارميك من فوق السطح بدالها ، بس انت وشوية الخنافس اللي معاك خساره اني اودي نفسي في داهيه عشانكم " 
تَركُه وغَادر المَكان وِسط نَظرات الجَميع المُتسائله 
كَيف ؟ ولِماذا ؟  وَمن هو ؟ 
                                    🍂
فِي قَاعة المُحاضرات ، أصوَات الصَفحات تُقلب ، واخر يُدون مُلاحظه هُناك ، فِي مُنتصف القَاعة، وَقف "الدكتور" خَلف المَنصة العَالية،  يُقلب الشَرائح عَلى الشَاشة، يَرفع نَبرة صَوته كُلما لَاحظ شِروداً فِي عيون الطُلاب ، وَقعت عَينه عَلى "هنان وفِي نِهايه المُحاضره وَقف سَائلاً
"وبعد ما خلصنا ياريت حد يجاوبني ويقولي 
لو حُكم صدر وفقًا لنص قانوني سليم، لكنه ظالم،
هل تطبّق القانون؟ ولا تبحث عن العداله "
مَر الصَمت عَلى القَاعه كَنسمه بَارده ،  يَنظر الطُلاب الى بَعضهُم البَعض بِتساؤل  ، فهَتف "الدُكتور"  بِتَذمُر الىَ " هنان " التَي لاَ تُزيح بَصرها مِن عَلى الدَفتر الذِي بيِدها وَهي تُراقص قَلمها بَين أنَاملها
" افتكر ان الانسه هنان هي اللي تقدر تجاوب على السؤال ده " 
لَم تَرفع نَظرها أذ كَانت شَارده تَماماً تَخُط فِي كُراسة رَسمها بِعشوائيه  ، كَرر " الدُكتور" يُنادي بِأسمها بِحده 
" انسه هنان ، ياترى سايبه المُحاضره وسرحانه في ايه شاركينا معاكي " 
فَاقت تَنتفض جَاذبه أنظَار الجَميع اليِها قَائله بِشرود 
" نعم ... " 
ضَحك الجَميع  استِهزائاً بِها كَرر " الدكتور " سؤاله 
"بما إن والدك العميد السابق للجامعه هنا كان دايمًا بيقول إن القانون لا يتعارض مع العدالة ، فاسمحيلي أسألك ، لو حُكم صدر وفقًا لنص قانوني سليم، لكنه ظالم، هل تطبّقين القانون ، ولا تبحثي عن العدالة
وبالمرة قوليلي… في رأيك، العدالة أهم .. ولا النص"
أَردَفت بِحرج وَسط التِقاطها أنفَاسها بِصعوبه 
" ا..   " 
قَضمت عَلى شَفتاها 
"افتكر ان ..." 
ثُم قَبضت عَلى قَلمها لِدرجه ابيضَاض كَف يَدها ، بَسمه سَاخره ارتَسمت عَلى شِفاه " الدكتور " قَائلاً
" الظاهر ان العميد مابقاش فاضي يعلم اولاده زي ما كان بيعلم اولاد غيره ازاي يبقوا فاهمين دروسهم كويس " 
قَهقه الجَميع وقَد صَمت أُذنَاها عَنهم ، وشَعرت بِشىء مَا قَد وَقف خَلفها يَتنفس بِعمق كَأنُه يَستجمع طَاقه مَخفيه ليَستطيع مِواجهه مَا هو يَقدم عَليه ، تَسمعهُ يُجيب بَدلاً عَنها 
"سنة 1949، ألغت المحكمة العليا الأمريكية حكمًا سابقًا أباح التمييز العنصري، رغم أن القوانين وقتها كانت بتبرره.
وفي 2014، صدر حكم في فرنسا لصالح امرأة تعرضت للتمييز في العمل، رغم أن النصوص لم تكن كافية لدعمها، لكن القاضي حكم بالعدالة أولًا."
صَمت " ادم " لِلحظة وَهو يَضيف 
"القانون وُضع ليُحقّق العدالة، لا ليكون سيفًا فوقها وكل قانونٍ خالف جوهر العداله وجب مراجعته
النص اه يلزمنا ، لكن العدالة بتُلزمنا أكتر يادكتور"
لَفت " ادم " انتِباه الجَميع بَينما أثَار حَنق "الدكتور" بِقول 
" مين سمحلك تتكلم " 
رَفع " ادم " نَظارتُه مِن عَلى أنفِه بِتوتر 
" انا .. انا قولت اجاوب على اللي حضرتك سألته عشان حضرتك كنت لسه شرحه اول الترم ، وانا حافظ كل .. حافظ كل كتب حضرتك بالكلمه " 
حَاول " ادم " تَدارك المَوقف بِذكاء فتَحداه  "الدكتور" سَائلاً
" وياتري بقى لو سألتك اي سؤال هتجاوب عليه " 
عَرف ان المَدح سيُنجيه فَقال 
" اي حد ، اي حد طالما اتعلم تحت ايد حضرتك اكيد هيجاوب على اي سؤال " 
طَريقة رَده ابهرتُه ولكَن "الدَكتور"  قَد تَعمد اذلاَله 
" طيب قولي في أي سنة أُلغي النظام الملكي رسميًا في مصر، وأُعلن قيام الجمهورية بموجب إعلان دستوري " 
رَد " ادم " بِثقه 
"في 18 يونيو سنة 1953، صدر الإعلان الدستوري اللي ألغى الملكية وأعلن الجمهورية، بعد خلع الملك فاروق في 1952… وده كان بداية لنهاية الدستور الملكي لعام 1923"
أجِابتُه نَموذجيه مِما جَعله يَسألُه 
"كويس… بس تعرف الإعلان ده ترتيبه إيه بين الإعلانات الدستورية في مصر؟"
أجَاب بِدون تَردُد
"ده أول إعلان دستوري بعد الثورة… وبعده صدر إعلان 1956 لتنظيم السلطة"
لَفت " ادم " انتِباه الجَميع بِاجابتُه النَموذجيه ، مِما جَعل " هنان " تَلتفت تَنظر لُه بِأعجاب 
وَضع الدَكتور القَلم عَلى الطَاوله ، يَهز رَأسُه مُتحديًا
" تقدر تقولي امتى صدر القانون المدني المصري " 
أَردف "ادم " بِنبره دَمثه أفسَحت لهُ المَجال لِمرأى عيِناه لرؤيه "الدكتور " بِشكل أفضَل 
"سنه 1948" يادكتور 
بَسمه شَامته ظَهرت عَلى شَفتي " الدكتور " يَشير لهُ بِسبابته 
" غلط القانون المصري اطبق سنه 49 مش 48 " 
لَحظه مِن الصَمت قَبل ان يَرد "ادم " بِنبره ثَابته 
"مع كامل احترامي ، بس حضرتك لما سألت ، سألت عن تاريخ صدور القانون، مش تاريخ تطبيقه
يعني اقصد الفرق هنا كبير، لأن القانون المدني المصري صدر بالقانون رقم 131 لسنة 1948، لكن نص في مادته الأخيرة إنه يبدأ تطبيقه بعد مرور عام على نشره، يعني فعليًا بدأ في 15 أكتوبر 1949"
هَمسات خَفيفة بَدأت تَدور بَين الطُلاب، وَبعض النَظرات اتَجهت لـلـ "دكتور" 
ثُم أَردف " ادم "  وَسط التِقاطه أنفاسُه 
"ولو كانت صيغة السؤال بتاعت حضرتك يا دكتور  امتى بدأ تطبيق القانون المدني ،  وقتها كانت هتكون الإجابة اللي حضرتك قولتها "
نَبس وَهو يُحاول تَمالك ارتِجافة يَدُه يَتملقُه
" وطبعًا ، طبعًا كل ده يادكتور مكتوب في كتاب حضرتك ولولا علم حضرتك لينا مكناش عرفنا اي حاجه ولا فقهنا شىء في الحقوق او الدستور " 
كَلماتُه الأَخيره أرضَت غِرور "الدكتور " ، رَفع حاجِبه الأيسر مِصوباً نَظرُه تِجاهه 
" اسمك ايه " 
ابتَلع " ادم " ريِقه بِصعوبه ، يَرفع نَظارتُه مِن عَلى أنفِه بِتوتر 
" ادم .. اسمي ادم نصار " 
شبِه بَسمه رَاضيه ظَهرت بِجانب شَفاه " الدكتور "  طالبٍ مِنه
" تعالالي بكره يا ادم مكتبي ، قبل ما تحضر اي محاضره تكون موجود " 
أَمر " الدكتور " الجَميع بِالأنصِراف فَتدافعت الخُطى نَحو البَاب  ، حَمل " ادم " كُتبه يَضُمها الىَ صَدرُه عَلى استِعجال  ، وَكأنهُ يَخشى مِن شَىء مَا ، طَالعت " هنان " الزِحام بَاحثه عَنهُ ، وَحينَ لَمحتهُ التَقطت دفَاترها بِسرعه وَهي تُناديه 
" ادم .." 
التَفت اليِها ، لِتومىء تَتجه نَحوه مِلوحه لَهُ ، فِي خَطوات مُتسارعه ، لِتقف أمَامُه وَهي تَلهث 
" ايه يا أخي مركب في رجلك عجل ، قبل حتى ما ابص ورايا لاقيتك اختفيت " 
أخفَض بَصره يُطالع الأرضِيه بِهدوء 
" أسف .." 
ابتَسمت مُمازِحه أيَاه 
" اسف على ايه ، انا ماقصدش انا بهزر معاك .." 
اومَأ بِرأسُه لَها دونَ حَديث وقَد احمَرت وِجنتاه ، تَقدمت هي نَحوه وَسط استِغرابها مِن طَريقتُه 
" انا اسفه ..باين عليا اني ضايقتك لما ناديت عليك ، انا بس كنت حابه اشكرك على اللي عملته جوه معايا " 
ابتَلع ريُقه ، يَظن أن قَلبُه يَتمزق مِن شِدة قُربها مِنهُ الَيوم ، أردَف يَتظاهر بِأنهُ عَلى عَجله مِن أمرُه فَقربها مِنه بَهذا الشَكل يُربكه ، رَفع سُبابتُه يَشير الىَ الخَلف 
"انا متأخر ، انا ماشي .." 
تَحرك هو تَحت نَظراتها المُستغربه ، وَقبل ان يَبتعد أكثَر عَاد لَها يُبرر 
" على فكره انا اصلا مش مضايق " 
ثـُم أزاح بَصرُه عَنها بِقول 
" البوابه الخامسه اقربلك بس بلاش تروحي للكوافير .. B12  و perfectil افضلك بكتير  "  
عَقدت حَاجباها لِتلك الكَلمات ، تُدحرج مِقلتاها نَحوه
"نعم .. مش فاهمه" 
فَرق شَفتاه ليُشير بِعينيه عَلى اظَافرها 
" عندك انيميا على ضوافرك مسببالك بقع بيضا ، عشان كده المونيكير بتاعك باين انه مبقع ابيض ،
انتِ محتاجه للحديد B12  " 
ابتَلعت غَصتها تَجبر شَفتاها عَلى التَبسُم وَهي تُطالع اظَافرها بِعنايه ، فَأردف هو يُكمل 
" هالاتك السودا تحت عنيكي بسبب التفكير الكتير وقلة النوم مش محتاج فاونديشن ، بس محتاج perfectil اكتر عشان يروح للابد ،  ولما قمت بحسابات افتراضيه في دماغي داخل دايرة مشاكل واحده عايشه في نفس مستواكي فافترضت ان ممكن يكون قلة النوم بسبب مرض والدك اللي تقاعد عشانه فأهملتي في نفسك عشان تاخدي بالك منه هو اكتر وبتحاولي تداري نقص اللي عندك بشويه ميكب " 
قَضمت شَفتاها لِاجاباتُه التَي لاَ تَنتهي بِشأنها وَقد وَجهت نَظراتها المُهتمه لهُ أكثَر فَنبست 
"وياترى عارف ايه الحاجه اللي عايزه اخبي هالاتي السودا والانيميا عشانها " 
تَأملها لِلحظات بِصمت قَائلاً

" عشان عندك مناسبه ياعيد ميلاد يا اما مناسبه شخصيه لحد قريب اوي منك وانا عن نفسي برجح اكتر ، انه مايكونش عيد ميلاد بنسبه ٨٠٪ هو عيد جواز والدك ووالدتك "

هَمست لِتخرج تَنهيده خَافته مِنها بِغير تَصديق فِضولها يَسبقها ، وَقرر هو أرضَاء فِضولها يَشير بِعينيه الىَ حَقيبتها المَفتوحه

نسيتِ تقفلي شنطتك ، شكلِك استعجلتي لما جيتي ورايا "

تقدّمت خَطوة، عِيناها تَهربان مِن عَينُه إلى حَقيبتها لِتجد سِحابها مَفتوح ... واثنَتان مِن شُنط الهَدايا تَبرزان مِنها ،إحدَاهما سَوداء، دونَ زَخرفة، أنيِقة والأُخرى وَردية، بِها فِيونكة لاَمِعة

سَألته، بِصوت مُنبهر أكثَر مِما هو مُستغرب

"طيب ايه اللي يخليك واثق اوي كده انه عيد جواز "

ردّ بِهدوء، كَمن يَشرح شَيئًا لا يَحتاج تَفسيرًا

دول شنطتين هدايا مش شنطه واحده الاولى لونها اسود بتدل على ان اللي رايحاله الهديه راجل
وكبير لانها منمقه اوي من غير اي زينه على الشنطه ، اما التانيه لونها وردي وحاطه عليها فيونكه يبقى اكيد رايحه لست مش راجل يبقى اكتر اجابه منطقيه هو انه يكون عيد جوازهَتفت بِدون تَصديق يَملؤها الدَهشه

" ده انا واقفه مع اينشتاين بقى "

أشَار بِرأسُه بِالنفي

" أينشتاين معدل ذكاؤه ١٦٠ انا معدل ذكائي ١٧٠ "

نَبست تُشدق أنفَاسها دونَ اثَارة ارتيَابُه

"أنا فعلًا مش عارفة أقولك إيه..."

هَتف يُطالع سَاعة رَسغُه ليَجدها تَشير الى الرابِعه مَساءاً ، عَاد خَطوتين لِلوراء يَرُد بِهدوء

"مفيش حاجة تتقال... بس المرة الجاية، لو فكرتي تروحي الكوافير، ماتنسيش تفطري الأول"

ضِحكه فَلتت مِنها رَغمًا عَنها

"طيب انا عارفه انك عايز تمشي ... هو أنا مش عايزة أكون فضولية، بس إنت عرفت كل ده من أول مرة تشوفني فيها"

ردّ بِنظرة هادئة

"أنا شوفتك مرة واحدة بس... بس يوم ماشوفتك كنت شايفك كويس"

استَدار، وتَركها تَسأل نَفسها، كَيف يَرى الغَريب أوجَاعها التي أخفَتها عَن أقرَب النَاس


🍂

كَانت " امنه " يَداً خَامسه وَهم يَحضرون أطبَاق الغَداء ، " الجد " يُقلب الدَجاج وَهي تَصنع طَبق الخِضروات المَسلوقه ، يُدندن " مصطفى " بِلحنٍ رَاقها ، لِتجد نَفسها تُدندن مَعهُ وَإِن أختَلفوا فِي النوتَات ، أحَاديثهم أثَرت لِسانها وَبَات خَاضِعًا لِلتَسامُر مَعهُم ، لَقد أَزاحوا عَنها صَخره تَسد تَدفُق الدَم لَيعود النَبض مِن جَديد ، لَم تَتصور إِن تَرتاح بِهذه السُرعه لِلقاءهم الأول بَعد غِياب دَام لِأكثر مِن ثلاثه عَشر عَامًا

" وناويه على ايه يا امنه ، خلاص هترجعي تعيشي في حضن جدو من جديد ، كلنا يابنتي عايزينك معانا هنا ، احنا ماوحشنكيش يا امنه زي ما وحشتينا يابنتي "

جَذبت الكُرسي الخَشبي تَجلس عَليه ، تَبتسم فِي شِرود نَحو طَبق الفَاكهه تَهمس دَاخلها

"اشتَقتُ، نعم، اشتَقتُ لكل شيءٍ هنا..."

رَفعت عَينيها إلىَ "جدها" تَخشى أن يَقرأ صِراعها فِي مَلامَحها

" لأحاديثكم العفوية، لصوتك ياجدي وانت تمازحني، لرائحة الخبز حين تخرج من يديّ شقيقي ،لكن العودة..
العودة ليست لي وحدي ، الناس لا تنسى بسهولة، والقلوب لا تُرمم كلها بالزمن
هل سيتقبلونني كما أنا ، أم سيظل الماضي يحكم حاضري ، وهل أستحق أن أُزعزع استقراركم مرة أخرى؟

لستُ واثقة أنّ اعمامي واقاربي سيقبلونني، ولا أنني سأُشفى، لكنني أدرك شيئًا واحدًا الآن...
إنّ الرحيل لم يُنسني، لم يُطفئ الألم...
بل ربّما زاد من قسوته، وربما حان الوقت لأواجه.
وسأبقى ، نعم سأبقى

"سكتي ليه يا امنه ، قرار انك ترجعي تبقى في وسطنا محتاج كل التفكير ده "

فَاقت مِن صَمتها عَلى صَوت شَقيقها قَائله

" للاسف يامصطفى انت عارف ماقدرش اقعد هنا بعد اللي حصل "

أخبَرتهُ عَكس مَا يَجول بِخاطرها تَمامًا ، انتَبهت لِيد جِدها يُربت عَلى مَنكبها لِتستدير نَحوه

" اللي حصل فات عليه ١٣ سنه يا امنه ، ومهما بعدتي مش هيرجعه "

أومَأت بِتفهم لِتردف

" هو فعلاً مش هيرجع بس الناس مابتنساش وخصوصا لو الناس دي كانت منك ومن دمك ياجدو "

هَمس لَها " الجد " ليَسرق انتِباهها وتَباطئت هي فِي مَضغ قِطعة الدَجاج يُخبرها بِنبره مُنكسره

" اسمعي يا امنه .."

طَالعتهُ بِأهتمام وَقبل أن يَردف قَاطعهُ " مصطفى "

"جدو ، مش وقته دلوقتي خلينا قاعدين سوا احنا بقالنا كتير ما تجمعناش "

شَعرت " امنه " بِالسوء نَوعاً ما ، تَركت المَلعقه تَلتفت لـ " جدها " بِاهتمام

" اخبرني ياجدي ، اقصد .. عايز تقول ايه ياجدو "

تَراجع "الجد" فِي بَادىء الأَمر ولَكنهُ أكمَل بَعدما اصَرت

" انا بكبر يا امنه ، مابقيتش صغير يابنتي وانتِ شايفه حالة مصطفى ازاي ، مصطفى لازم حد يراعيه وياخد باله منه ، انا النهارده موجود بكره ممكن .."

أَردَفت بِأبتسامه خَافته

"ربنا يخليك لينا ياجدو ماتقولش كده "

هو خَلع نَظارتُه يَمسح عَدستِيها ، يُطالعها فِي شَىء مِن الغَرابه

" ماقولش كده !
ماقولش كده ازاي ، اومال انتِ جايه ليه يا امنه ، انا كنت فاكر انك جايه عشان تستلمي امانة ابوكي وامك ليكي ، لما عرفتي اني خلاص بموت ومافيش امل في علاجي "

شَهقه صَدرت مِنها جَعلتها تَبصق مَا بِفمها مِن طَعام حِين عَلمت بِالأمر

" أنتَ بِتقول ايه ياجدو .."

تَلعثمت فِي حَديثها مِن هَول الصَدمه ، تُطالعه بِقلق

"Was meinst du damit, Opa, wenn du" sagst: ‚Ich bin nicht heilbar‘? Bist du krank? Wie? Und warum hat mir niemand etwas gesagt?"

هَكذا هِي طَبيعتها تُخبىء قَلقها وَتوترها خَلف الحِروف الألمانِيه مُتظاهره بِالراحه فِي لُغتها الثَانيه

هَمس " الجد " يَقترب مِنها ليَقتطفها بَين ذِراعيه
يَشد عَلى وِثاقيها

" كنت عارف ان احنا مانهونش عليكي وان ورا الوش الجامد ده في حنيه لسه موجوده في قلبك بالرغم من كل اللي حصل ، انا مش عايزك تقلقي عليا انا اخدت من الدنيا سنين كتير من كترها مابقيتش اعدها ، لكن انتوا لسه ايامكم جايه يا امنه ، انا عملت بوصيه ابوكي وامك ، ولازم انتِ تكملي بوصيتهم للاخر يابنتي "

لَم تَرغب " امنه " في فَصل العِناق فَحضنه مُختلف وَمميز يُذكرها بِرائحة والدِها وَدفيء والدَتها ، كَما لَو أنَها وَلجِت لِفُقاعه تَقنيها مِن شِرور العَالم ، فَصل
" الجد " عِناقها بِقول

" لو بتحبي جدك يا امنه ، لازم تقفي مع اخوكي في غيابي "

هُما تَبادلا الأَنظار لِوهله كَأنهما يَتناقشان فِي شَىء ما مِن خَلف ظَهر " أمنه " هي ابتَسمت لهُ شِبه ابتِسامه

" مش عايزاك تقلق ياجدو انا مكنتش اعرف انك مريض انا جيت هنا علشان مصطفى اللي هعمل كل اللي اقدر عليه عشان اجمعه بشريكة حياته "

هَمست لِتختبىء بَين ذِراعِيه

" عايزاك تطمن ، مصطفى ده عيلتي اللي ماليش غيرها "

وَهيهَات خَذلتها الدِموع لِتخرج شَهقه مِن بَين قُضبان اسنَانها ، ليُسارع "الجِد" فِي ضَمها نَحوه أكثَر يُلملم فَتاتُها وَهو يَقول

" امنه..."

قَاطعت حَديثه قَائله

" انا اسفه ، اسفه اني اتأخرت اوي في رجوعي
اسفه على كل حاجه حصلت غصب عني .."

هَمست لَينفي " الجد " بِرأْسُه ، فَقضمت هَي شَفتاها المُبللتان بِعبراتها ، وَقد بَاشرت يَدهُ بِالسِباحه فِي خُصلات شَعرها

" امنه .. اوعي تعتذري للاحداث اللي حصلت غصب عنك ، خلي الحياه هي اللي تعتذر منك "

🍂


ضِحكةٌ خافتةٌ تسللت من بين شَفَتَي "روز"، تُشبه تلك الضحكات الصاخبة التي كانت تطلقها حين يعلو صَوتها في أرجاءِ القصر
توجَّهت إلى الخِزانة بخطى باردة، تَخرج مَنامتها الحَريرية

" بس بجد عجبتني أوي ياسالم وإنت بتدي حبيبة بالقلم، عشان طلعتلي لسانها ، برافو كده هتفكر ألف مرة قبل ما تعمل حاجة تضايقني"

ارتَفع حَاجب "سالم" الأيسَر بِإعجابٍ أجوف، وقال بنبرةٍ أرادها بِها

"لاء ولسه ، لو جيتي قعدتي جنبي هنا على السرير، هعملك كل اللي إنتِ عايزاه"
رَمشَت "روز" بِعينيها بِبطءٍ، تَنفَّست بِثقل، وشَدَّت عَلى حَافة مَنامتها كَانت تَعرف تِلك النَبرة الحَنونة جيدًا، وَما تَخفيه مِن مَطالبٍ لا تُقال
ابتَلعت رِيقها بِمرارة وَقالت بِتوتر

"حبيبي أنا تعبانة أوي النهارده… ممكن تسيبني أنام"

زفَرَ بضيقٍ، وارتَفع الحَنق في صَوته

"هو في إيه يا روز ، بقالي فترة حاسس إنك بتتهربي مني"

اقتَربت مِنهُ مُسرعة، تَنفي بتصنّعٍ

"لا لا… إتهرب منك إيه بس ،إديني ثواني أغيّر هدومي وأبقى عندك"

دَلفت الىَ الحمّام، تَتوارى عَن أنظارُه، تُقلّب الأدرَاج بِرعشة، حَتى وَجدت عُلبة المنوّم
يَدها لَم تَرتعش وَهي تَفتحها، إنَما ارتَعشت رَوحها.
أخذَت قُرصًا واحدًا ، وَضعته فِي جَيبها،
ثُم بدّلت ثَوبها، وأخفَت تَوترها خَلف ابتِسامة وَاهنة، وَهي تَسألُه

"أحطلك عصير يا حبيبي"

رَفض فِي بَادىء الأمر ، وَلكنُه وَافق مَع اصرارها
أذَابت القُرص فِيه، قَلّبته بِإصبعها برِقة مُترددة،
تُقدمه لهُ وَهي تَقول

"اتفضل ياحبيبي عملتهولك بأيديه "

مَد يَده وأخذُه مِنها قَائلاً

"هاتي ياستي ، هو كده كده هيبقى حلو طالما من ايديكي "

شَرب الكُوب حَتى آخِره، مَال بِجسدُه مُتثاقلاً نَحو الوِسادة ، لَم تَمر دَقائق، حَتى بَدأت عَيناه تُثقل

أطفَأت النُور، تَقترب مِنه بِحذر ثُم بدّلت له ثيابه
وعدّلت نَومته كَأنها تُهيئه لحلمٍ لا يَشملها،
ثُم وَقفت أمَام المِرآة ، تُعطر عُنقها ، وَضعت أحمَر شفاهٍ خفيف، وشعرٌ مُرسل بِعناية،
تأمّلت انعكاسها في المرآة، لم تُرِد أن تُفكر، فقط أرادت أن تخرج بِخطى نَاعمة، خَرجت مَن غُرفتها تتلفّت، كُل شَيء حَولها سَاكن … إلا قَلبها المُشتعل.

صَعدت إلىَ الطَابق الثَالث، توقّفت أمَام بَاب "موسى" نَقرت البَاب، وفي عِينيها رَجفة، وَحين فُتح البَاب جَذبها مِن مِعصمها إلىَ الدَاخل ، وَضع وَجهها بَين كَفيه هامسًا

"وحشتيني"

-- &. --

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا