رواية لأجلها امل نصر الفصل السادس والعشرون 26 بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل السادس والعشرون 26 بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل السادس والعشرون 26 هى رواية من كتابة امل نصر رواية لأجلها امل نصر الفصل السادس والعشرون 26 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لأجلها امل نصر الفصل السادس والعشرون 26 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لأجلها امل نصر الفصل السادس والعشرون 26

رواية لأجلها امل نصر بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل السادس والعشرون 26

هي لا تعرف إن كان ما تشعر به حبًّا،
أم ضعفًا… أم مجرد ارتباكٍ كلما نظرت في عينيه.
تتهرّب من المواجهة،
وتقنع نفسها بأن الصدّ حِكمة،
وأن الهروب قوّة… وأن تجاهله نجاة.
لكن الحقيقة؟
أن قلبها ما عاد يَطمئن إلا حين تراه…
وأن صوته يطرق بابًا خفيًّا في صدرها،
بابًا لا تملك له مفتاحًا… ولا تجرؤ حتى على الاعتراف بوجوده.
أما هو،
فكأنه يراها من الداخل… من حيث لا ترى هي نفسها.
يعرف ما تُخفيه خلف الكبرياء،
يعرف أن عيونها تنكر، لكن قلبها يهتف باسمه في الخفاء.
هو لا يحتاج تأكيدًا… ولا ينتظر إذنًا.
هو فقط… موقن.
موقن بأنها له،
وأنه وُلد ليتحدى عنادها،
وليبقى… حتى تُدرك هي ما أدركه منذ اللحظة الأولى.
الخاطرة والمراجعة لحبيبتي بطوط/  سنا الفردوس 
الفصل السادس والعشرون
ركضت كثيرًا حتى تعبت، حاولت مرارًا الوصول إلى هدفها باستماتة، وفي النهاية سلّمت أمرها.
فما الذي ستجنيه من خوض حرب لم تعد تخصها الآن؟ فلتُهَوِّن على نفسها قليلًا وتترك الأمور تسير كما أرادها القدر.
لكنها، رغم ذلك، لن تتوقف عن المساعدة أبدًا.
كان الوقت بعد العصر بقليل، حين أبصرها من جلسته على الأريكة المواجهة مباشرة لمنزلها، تخرج منه مائلةً برأسها عن قصد، بافتعالٍ مقصود حتى لا تلتقي نظراتها به.
وعلى قدر ما يستفزه فعلها، على قدر ما يثير بداخله التسلية.
منذ آخر مواجهة بينهما في المشفى وهي تتجنبه، تهرب منه بقدر استطاعتها، وهو يتصيد الفرص ليتحدث إليها، يحاصرها بكل الطرق، ولا يترك لها فرصة للابتعاد عن عينيه، كما يحدث الآن.
فبدون أن تخبره، يعلم أنها ذاهبة إلى المنزل الكبير، والدرس الأول لابنتها من قِبَل تلك المدعوة اعتماد، بعد أن نسّق هو مع زوج شقيقته كي تساعد تلك المرأة ليلى، فتُكفيها عن الذهاب والمجيء المُتعِب إلى مجموعات الدروس.
تسابق خطواتها الريح في الذهاب، وهو يتبعها بابتسامة عابثة حتى اختفت من أمام عينيه ليعلّق بمرح:
— فري واهربي على كيفك يا مزيونة... يعني هتروحي مني فين؟
...........................
أما عنها، فقد هدأت وتيرة أنفاسها قليلًا بعد أن وصلت إلى الجسر الخلفي لمنزلها، واستقلت إحدى السيارات لتأخذها إلى الجزء الغربي من البلدة، حيث منزل ابنتها.
ليتها تملك سيارة تحت يدها تمكنها من الذهاب دون هذا الجهد، مثل ذلك المغرور، جارها الوحيد ومُتعبها!
هذا الرجل وكأن الزمان سلطه عليها خصيصًا ليقلّ راحتها...
نعم، لا جدال في ذلك، يكفي وقاحته وثقته الزائدة بأنها تبادله تلك المشاعر الحمقاء!
هل كانت مجنونة لتفعل؟
أصبح يستولي على عقلها، لا تُنكر، تحدث معها أشياء غريبة كخفقات القلب المتسارعة والتوتر الذي تسيطر عليه بصعوبة، والارتباك...
كل ذلك بالتأكيد نتيجة أفعاله في فرض نفسه عليها.
ليته يتركها في حالها ويرحمها...
هي ليست ندًّا له، ولا حتى أهلًا للارتباط برجل مثله؛ متعلم ومنفتح على الحياة، أما هي فقد سلّمت منذ سنوات طويلة لقدرها، حطام امرأة لا تصلح لشيء، شاخ قلبها وأصابه العجز، حتى وإن خالف رقم عمرها في البطاقة هذا الشعور.
لم يتبقَّ لها في الحياة سوى زرعتها الصغيرة التي تُجاهد من أجلها، رغم الخذلان الذي يصيبها منها أحيانًا، لكنها لن تتوقف حتى تصل بها إلى برّ الأمان.
وعلى ذكر الأخيرة، توقفت السيارة لتضم عددًا من الأفراد في طريقها، وكانت من بينهم تلك المدعوة اعتماد، التي استقلت المقعد المجاور لها بتأفف وضجر بعد أن دفعتها إحدى النساء أثناء صعودها، قائلة:
— استغفر الله العظيم يا رب، مش تفتحي يا ست
— لمؤاخذة يا بنيتي، ما خدتش بالي.
— ما خدتيش بالك ولا مسروعة؟ تسبجي اللي وراكي؟ هي الدنيا هتطير؟
هتفت بها إعتماد بصوت عالٍ أصاب "مزيونة" بالحرج، فقرصتها بخفة على يدها، تبرق لها بعينيها في تحذير حتى تنتبه، لكن ذلك استفز اعتماد ليعلو صوتها أكثر:
— بتتجرصي على إيدي وتبحلجيلي بعيونك ليه؟ غلطت أنا يعني ولا غلطت؟
اصفر وجه مزيونة حين لاحظت عيون الركاب وقد التفتت نحوها، في انتظار ردها على تلك المجنونة التي لم تكترث لأيٍّ منهم.
لتجد نفسها تحصد نتيجة فعلتها الخفيفة التي كانت تقصد بها تهدئة الموقف وتجنّب الفضيحة، فارتدّ الأمر عليها.
تمنت في تلك اللحظة لو اختفت أو تبخّرت، فلم تملك إلا أن التفتت نحو النافذة المجاورة، تهمس في حزنٍ يكاد يصل للبكاء:
— منك لله يا اعتماد...
...............................
أما داخل شقة الزوجين الصغيرين، فقد تولى مهمة المراجعة مع زوجته حتى تأتي تلك المرأة.
منذ أسبوعان تقريبًا ولم يذهب إلى عمله بعد، فمنذ معرفتهما بأمر الحمل، وقلبه لا يطاوعه على تركها.
يتحمّل المسؤولية كاملة في رعايتها ودعمها، رغم كل ما يتلقاه من مساعدة من باقي أفراد العائلة، ومع ذلك يشعر بالتقصير وتأنيب الضمير كلما رآها متعبة ومجهدة.
لدرجة أنه يندم أحيانًا على الاستعجال في زواجه بها، لكنه يتراجع سريعًا، مذكّرًا نفسه بالسعادة التي يحياها بقربها، ليشحذ همته مصمّمًا على إنجاح زواجهما على أكمل وجه، مع وجود الرابط القوي الآن، وهو طفلهما القادم، الذي سيرسّخ العلاقة بينهما أكثر وأكثر.
— ما كفاية بجى يا معاذ، ولا انت ناسي إن لسه دوري مع أبلة اعتماد؟ دي بتهلكني أصلًا!
قالت ليلى، ليُردد خلفها بضجر:
— ألف بعد الشر عليكي من الهلكان والفرهدة، خلاص نغيرها خالص المحزونة دي ونشوف غيرها.
عارضته ليلى بعتاب:
— لا يا معاذ، ما توصلش لكده، حرام عليك. وبعدين هي ممتازة وسادة معايا في كله، ما شاء الله عليها حتى في اللغات.
ردّ معاذ متعجبًا:
— ما انتي اللي بتشتكي منها ولا نسيتي؟
— لا، ما نسيتش، بس دي لحظات بتعدي وتتنسي. دي طيبة جداً، بس عصبية جوي، وأكيد عنديها أسبابها.
— أسباب إيه يا شيخة بس؟ دا أنا بخاف منها! الوليّة كل ما تشوفني تظغرلي بعنيها، وكأن بيني وبينها طار جديم.
تمتم بها جاداً حتي جعلها تضحك ساخرة:
— يالهوي يا معاذ على شكلك وانت بتتكلم عنها! بس هي طارها مع كل الرجالة، مش إنت بس. مسكينة ما شافتش من صنفكم غير كل خسة.
أثارت فضوله بتصريحها ليسألها بإستفسار :
— يخرب بيت تعبيرك وانتي بتعمّمي، بس أنا معرفش قصتها. كل اللي أعرفه إنها واحدة مكشرة وخلاص.
تنهدت بأسى تخبره:
— ماهي قصتها طويلة جوي، والشرح فيها يطول. بس يكفي أجولك إن أبوها طفش وساب لهم البيت وهي عندها ستاشر سنة في الثانوي، يعني سابها في أكتر وجت كانت محتجاه فيه.
مسكينة اشتغلت وهي بتدرس عشان تكفي مع أمها مصاريف البيت، ما قدرتش تحقق حلمها وتدخل طب، واكتفت بتربية، كملت شغل عشان تساعد إخواتها اللي أصغر منها، وشالت المسؤولية كلها.
لحد لما جالها النصيب اللي إتأخر، ولما حصل وحست إن الدنيا بدأت تضحكلها طلع نطع وعايز يعيش على مرتبها، ولما ماعجبهاش، فضّل يرازي فيها ويرمي بلاه، لحد ما اتخلصت منه بطلوع الروح، ورفضت تتخلى عن إخواتها اللي بقت عايشة ليهم من غير سند وأكتفت بيهم  كنهم ولادها اللي مخلفتهمش .
هزّ رأسه بتأثر:
— يا ساتر يا رب... أعوذ بالله من الأشكال دي. ما أكره في حياتي قد الراجل النطع، وهي بحظها الحلو اتسطّت في اتنين!
قالها معاذ بنوع من السخرية السوداء لتبتسم علي إثرها وتضيف:
— فعلاً زي ما جولت، عشان كده أمي بتحبها جوي، وبتعديلها كل أخطاءها. وهي اللي حكيتلي قصتها من البداية، عشان أعرف أنا بتعامل مع مين وأتحمّل عصبيتها،وغضبها علي أتفه الأسباب في بعض الأحيان
أومأ بتفهم، وقد هدأت مخاوفه من تلك المرأة الشرسة التي كان يخاف على زوجته منها، لدرجة أنه أراد طردها من أول يوم سمعها فيه تنفعل عليها أثناء تدريسها، لولا رفض منصور، زوج شقيقته، الذي وبّخه وقتها وطلب منه ألا يتدخل مادامت ليلى لم تشتكِ أو تطلب منه شيئًا.
انتفض الاثنان فجأة على صوت عالٍ صدح في الأجواء قادمًا من الأسفل، فركضا معًا إلى الشرفة ليتبينّا أن صاحبة الشجار لم تكن سوى من كانت تدور حولها الأحاديث منذ لحظات، والمفاجأة كانت في الشخص الذي يتشاجر معها!
.................
قبل قليل:
كانتا قد وصلتا إلى محيط المنزل الكبير، وفي طريقهما إلى صعود الدرج الرخامي نحو المدخل، كانت مزيونة تسبق اعتماد، التي كانت منشغلة بقراءة إحدى الرسائل على هاتفها، فلم تنتبه لأحدهم وهو يغسل سيارته منهمكًا، فيُلقي بدلو الماء لغسلها من الصابون، فانتقلت إليها المياه من تلك المسافة القريبة إلي حد ما إلى حجابها ووجهها، وظهرت بعض البقع على بلوزتها، لكن الضرر الأكبر كان في الهاتف.
شهقة بصوت عالٍ صدرت منها، وهي تلتف نحو الجهة المعادية، فلفتت إنتباه الأخر ومزيونة التي عادت راكضة لتجد الذهول مرتسم على وجه خليفة، الذي شعر للتو بخطئه، فتلقى جزاءه بصيحة غاضبة:
— إنت... إنت... إنت عميت؟!
استفاق خليفة من ذهوله بعد سبتها، ليملك زمام أمره ويرد عليها بقوة:
— إيه يا أخت أنتي؟ نَجِّي كلامك واعرفي بتكلمي مين قبل ما تغلطي! شايفاني عيل صغير جدامك ولا هِفَيّة؟
نظرت إلى هاتفها الذي أُظلم فجأة، تحاول مسح الماء عنه، مرددة بنبرة مختنقة:
— لا، شايفاك إنسان مهمل ومعندكش نظر! ألحق على هدومي اللي اتبلت ولا التليفون اللي فصل مية ونور!
حاولت مزيونة التخفيف عنها، ومسحت الهاتف بشالها، ربما يأتى بنتيجة، فنطقت مخاطبة خليفة:
— اعذرها، معلش. أنا نفسي اتخلعت من الميّة اللي اتدلجت ورايا.
لم يكن أعمى حتى لا يرى بعينيه سكوتها المفاجئ وحزنها على الهاتف، فبرّر بتوتر نحو مزيونة:
— أيوه، بس أنا ما كنتش جاصدها يعني! أنا حتى ما خدتش بالي إنكم داخلين...
— إيه الحكاية؟
جاء التساؤل هذه المرة من خلفهم، من حمزة الذي ترجل من سيارته بالقرب منهم، أتى كعادته خلف تلك العنيدة، والتي انتفضت لرؤيته وتولت مهمة الرد عنهما:
— لا حكاية ولا رواية، فضّت على كده وخلصت، تعالي يا حبيبتي يلا نطلع عند ليلى يمكن تعرف فيه.
وسحبتها تهرّول بها سريعًا من أمامه، فتابعهما قليلًا، ثم انتقل ببصره إلى شقيقه الذي قال بحنق:
— أهي نصايب وبتطب علينا من حيث لا ندري. جاعد في حالي وبغسل العربية، أبص ألاقي الميّة غرّقت صاحبتنا دي وتليفونها، وبتقولي فتح يا أعمى! يمين تلاتة، لولا إنها حرمة، ما كنت عتجتها النهاردة.
أومأ حمزة، واضعًا كفه على فمه في استيعاب، ليعقّب بوجل:
— ومالاجتش غير الحزينة دي وتشبط معاها؟ يخرب مطنك!
............................
في مكانٍ آخر،
فُتح باب السجن العمومي، ليخرج منه إلى العالم الواسع الذي حُرم منه لعدة شهور. رفع بصره إلى السماء وصفائها المبهر، ثم أنزل نظراته إلى الأرض التي يخطو عليها بحرية، ذاهبًا نحو ما يشاء، لا يمنعه الآن حارس ولا قضبان.
بلعبة صغيرة فعلها مع ذلك الأحمق، استطاع أن يخفف مدة الحبس لأقل ما يمكن. ضحك بسخرية حين تذكر دعوته له لزيارته...
هل يظنه بالسذاجة التي تجعله يأمن مكره؟
لكن لا بأس، سيجد الطريقة للتعامل معه لاحقًا، أما الآن، فعليه أن يعود لينظّم أوراقه ويستعيد نشاطه...
من أجل من كانت السبب في حبسه.
— مزيونة... الحرة الجميلة.
............................
في منزل عرفان،
كان جالسًا على العتبة الرخامية في مدخل منزله، يتلقى خبرًا عبر الهاتف، من أحدهم. عيناه شاردة نحو الحديقة الجانبية الصغيرة، تتأملان الأرض الطينية الجافة التي تأثرت بهجر صاحبتها لها، بعد أن كانت مملوءة بشتى أنواع الخضروات التي يحتاجها البيت.
وهو كالغبي لم يشعر بقيمتها سوي الآن  بعد رحيلها.
ألهذه الدرجة كان أعمى عن كل ما هو جميل حوله؟
— ماشي يا عيد، زي ما جولتلك، جيبلي أخباره أول بأول الحزين ده ماشي... تمام، اجفل من عندك.
أنهى المكالمة التي شتتت تركيزه قليلاً، وزفر باختناق.
كل شيء من حوله بات قبيحًا...
وعلى ذكر الأخيرة، حضرت زوجته التى بات يراها كالحرباء التي كانت مصدر الخراب لحياته السعيدة، تقترب بوجه متجهم، تضم كوب الشاي الساخن الذي أمر به، دون أن تنطق ببنت شفة، مما استفزه ليمسكها قبل أن تغادر:
— حتى الحاجة الوحيدة اللي قدرت تسيبهالك، ما  قدرتيش تحافظي عليها؟ حوضين الخضرة كانوا هيتعبوكي في رشّهم ولا سقيهم؟ لكن أقول إيه... مفيش فايدة من الكلام أصلًا.
تطلعت صفا قاطبة الحاجبين نحو ما يشير لتستدرك مقصده سريعاً، فتشتد خطوط وجهها بغل إكتسحها وردّت عليه:
— دا على أساس إنه كان هامّك انت كمان؟ ولا عمرك حتى بصيت عليهم؟!
يالا بقى بجملة، ما انت محمّلني كل نصايب حياتك، جات على دي؟
بس أنا برضو مش هكِش، ولا هأنكر!
أيوه يا عرفان... كل الخضرة اللي سابتها المحروسة بعد ما هجّت واتطلقت منك، سِيبتها من غير سقي، ولا مراعية، لحد ما ماتت واتكنست بالمجشة كمان!
عارف ليه؟
عشان أنا معمّرش زرعة غيري... خصوصًا زرعتها هي!
تفوهت الأخيرة بفحيح وغلّ أثار اشمئزازه، حتى لم يعد يحتمل رؤيتها، فنهرها بازدراء:
— طب غوري! غوري من وشي! مش طايق أبص في وشك حتى!
...........................
عودة إلي المنزل الكبير،
حيث كان معاذ منهمكًا بجدية في فحص هاتف الأستاذة اعتماد أثناء تدريسها لزوجته، بينما كانت ترمقه بطرف عينها من وقت لآخر دون أن تعلق بكلمة واحدة.
أما مزيونة، فلا تكف عن السؤال وحثه برجاء رغم يأسها من إصلاحه:
— شوفه زين يا معاذ، أكيد في طريقة لفتحه!
تنهد معاذ بنظرة خاطفة نحو إعتماد ثم عاد ليهمس لها بحذر.
— ما أنا بحاول والله، وعملت كل حاجة ومفيش فايدة... عامل زي الميت، اللي وجع فجأة ومحطش منطج.
— يا ساتر يا رب... وبعدين؟
همست بها مزيونة أيضًا، بصوت بالكاد يُسمع:
لكن رغم ذلك وصل إلى اعتماد، والتي ردّت وهي منكفئة على الكتاب، دون أن ترفع عينيها:
— لا "بعدين" ولا "جبلين" يا مزيونة... باظ ولا غار في داهية، حتى مش فارقة... وفروا تعبكم لحد كدة!
التوى ثغر مزيونة تتبادل النظرات مع معاذ بحرج، حتي إنتقل إلي ليلى هي الأخري، التي لم تجرؤ على التدخل، كي لا تزيد الطين بلّة.
كان الحزن يكسو وجهها، فهي تشعر بحزن معلمتها القوية التي تكتم عن قصد، لا تريد إظهار ضعفها أمامهم، وتدّعي عدم الاكتراث في شرح لها بعض الفقرات وهي تدعي الفهم.
استمرت محاولات معاذ في إصلاحه حتى يئس تماماً، يعلّل السبب في عدم معرفته بنوع الصناعة، ليتركهن وينزل إلى الأسفل، ليجد شقيقيه في إنتظاره، بحضور والدته وهالة التي استقبلته ساخرة:
— لا تكون كنت بتاخد درس مع مرتك كمان يا معاذ؟
ردّ بابتسامة صفراء:
— بس لو تبطّلي خفّة دمك دي شوية عنيّنا يا هالة.
ضحكت دون اكتراث، فيما رمقها زوجها بامتعاض، وتوجه بالسؤال نحو معاذ بنوع من التوتر:
— ما أنت بصراحة اتأخرت صح النهاردة، ودي مش بعادتك يعني.
جلس معاذ وزفر بأسف، ثم أجاب:
— ما أنا كنت بحاول في تليفون أبلة اعتماد، عشان يفتح، بس للأسف معرفتش خالص.
علق خليفة علي قوله بعصبية:
— انت اللي معرفتش، ولا هو اللي معجرب؟
صمت معاذ، وردت عنه والدته بحرج:
— يا دي الكسوف! وما يجيش غير في وشنا!
تدخلت هالة، وقد تابعت الحوار بانفعال:
— وتاجي في وشنا ليه إن شاء الله؟! واحدة تليفونها بايظ من الأول، ولا هي تماحيك وخلاص؟ دول ماكانوش نجطتين ميّة!
تحول توتر خليفة إلى حنق شديد نتيجة قولها، فنهض نافضًا جلبابه بضجر وعدم تحمل:
— يا بوووووي على كلامك التجيل إنتي كمان! أنا جايم وماشي!
وغادر الجلسة وسط نظرات الأسف من والدته وإخوته، بينما مصمصت هالة شفتيها في أثره بعدم رضا، مما استفزّ حمزة الذي صرف نفسه عنها بالحديث مع أخيه الأصغر:
— وانت يا أستاذ، مش ناوي ترجع شغلك؟ وشي بجى في الأرض منك!
وكأنها فهمت عليه لتقرر تحديه في التدخل بهذا الأمر أيضاً بسخريتها:
— لا ما هو... هيخاف يمشي ويسيب المدام الحامل لوحدها!
حدجها حمزة بنظرة نارية متجنباً الرد عليها، بينما زفر معاذ، ثم قال مطمئنًا:
— متجلجلش يا حمزة... أنا مظبط أموري مع رئيسي في الشغل، وعلى العموم، خلاص... كلها بكرة ولا بعده وارجع إن شاء الله.
حربٌ باردة... هذا هو الوصف الصحيح لما يدور بين الاثنين.
حمزة الذي واصل الحديث مع شقيقه ووالدته، متعمدًا تجاهلها، وتجاهل نظرتها المصوَّبة نحوه.
لقد أصبحت تحفظه عن ظهر قلب؛ هذا المتيم لا يكتفي بجيرته لتلك المزيونة، حتى يأتي خلفها يوميًّا "كل ما جاءت إلى هنا".
يتلهف لكل لفتة منها، ولا يخجل من النظر إليها أمام الجميع!
من كان يصدق أن تلك الأفعال تصدر من حمزة... إبن عمها، الذي كان يصنع لنفسه هالة من الهيبة، تبعث الرهبة في القلوب بمجرد رؤيته؟
ذلك الذي كانت تراه مغرورًا، أصبح في حضور تلك المزيونة كالطفل الصغير...
وطبعًا، هي لا تُقصّر في مشاغلته، والحُجّة "مساعدة ابنتها"!
حتى منزلهم أصبح مرتعًا لها وللغرباء الذين تأتي بهم، كـتلك المدرسة المجنونة... لكنها لن تسكت لهما أبدًا!
تبسم وجهها فجأة مع القدوم المفاجئ لزوجته الأولى، برفقة ابنه ريان، الذي دلف مهلّلًا إليهم:
— شوفت أمي جابتلي إيه يا بوي؟ البلايستيشن اللي جولتلك عليه قبل كده!
انتشت في داخلها وهي تراقب ردّ فعل حمزة، الذي نهض عن مقعده بشحوب، يستقبل والدة ابنه، ثم علّق قائلًا:
— ومالك فرحان جوي كده؟ هي أول مرة تجيبه البلايستيشن؟ مكنش ليه لزوم التعب يا روان...
مسحت على شعر صغيرها، وهو يحتضن لعبته المغلفة، لتتولى الإجابة عنه وعن نفسها:
— ربنا ما يحرمه منك، أكيد أنت مكفّيه من كله، بس أنا أمّه، وحقي أجيب له كمان... النوع ده مختلف شوية، هو كان كلمني عنه، وحبيت أعملهاله مفاجأة.
ده ابني يا حمزة، وأنا عايزة أعوّضه على قدّ ما أقدر.
مهما كنت أنت حنين، أو أهلك كلهم، محدّش فيهم يقدر يسدّ مكاني.
أومأ لها بصمت دون تعليق، يتركها تلتقي بباقي العائلة، وبداخله تغيّر غير مفهوم...
روان العملية؟ تلك اللغة جديدة عليها.
يتسرّب داخله شيء ما يجعله يشك في قربها المتزايد، وقدومها المتكرر هذه الأيام لأخذ ريان...
كلها أشياء تؤكد له، وبشكل قاطع، صدق الظنون التي تنهش رأسه...
.......................
راقبتها من مكانها، وهي مستندة بمرفقيها على السور الرخامي لشرفتها، تتبعها بعينيها وهي تغادر المنزل الكبير أخيرًا، تتحدث مع تلك المدعوة اعتماد، التي تذهب أيضًا معها.
ركّزت بأبصارها جيدًا عليها، جميلة لا تُنكر، لكنها لن تزيد عنها بالتأكيد. بالإضافة إلى أنها امرأة مطلقة، تحوم حولها المشاكل والمصائب أينما حلّت.
أما هي... لقد كانت وما زالت "جميلة العائلة"، ومع ذلك رفضها!
رفضها وفضّل عليها تلك المدعوة روان، لتكون أول طعنة غادرة تتلقاها منه.
منذ أن خُلقت وهي تحفظ اسمه قبل أن تحفظ الكلمات، "هالة لحمزة، وحمزة لهالة".
نشأت وترعرعت على أنه لها، وأنها لن تكون لأحد غيره.
كل الرجال كانوا سواء في نظرها، هم في كفة، وحمزة وحده في كفة.
ومع ذلك، لم يرَ ولم يُقدّر الحب الكبير الذي كانت تحمله له.
تنهدت بحرارة خرجت من صدرها كالصهد، أغمضت عينيها بقوة وقد استعادت تلك الذكرى المُذلّة، حين خرجت عن أدبها المعتاد بعد صدمتها بالخبر الأسود لتُواجهه دون خجل:
ــ "ليه رفضتني يا حمزة؟"
صدر صوتها بقوة، أجفلت الحصان الذي كان ينظف حافره، حتى انتفض متراجعًا، فكاد أن يؤذي حمزة لولا حرص الأخير، ليلقي ما بيده أرضًا، ويَلتفت إليها متجهّمًا يُوبخها:
ــ "إنتِ اتجننتي يا بت؟ جاية ورايا هنا عشان تقوليلي الكلام ده؟"
لم تَكترث بغضبه، بل دفعها شعور الإهانة الذي كان يكتنفها إلى أن تتقدّم منه أكثر إلى الداخل، حتى وقفت مقابلةً له، تُواجهه:
ــ "وأجيلك آخر الدنيا كمان عشان أسألك! ليه تخطب واحدة غيري وإنت عارف إني معلجة على اسمك؟ كيف تبص لواحدة تانية وأنا بت عمك، اللي أحق بيك زي ما إنت أحق الناس بيا؟"
توقّفت برهة لتُكمل الباقي وجسدها ينتفض من الانفعال أمامه:
ــ "أنا هالة يا حمزة، أحلى بنات العيلة والبلد كلها. بصلي كويس وانت تعرف إن كنت بكدب ولا صادقة. طول عمري بتكبر على الكل بجمالي وعيلتي وبيك، على أساس إني خطيبتك من غير كلام. دلوك لما الناس تعرف إنك رفضتني وفضلت عليّا واحدة تانية، تبجى فين كرامتي؟"
رغم تفاجئه منها، ومن جرأتها التي تصل إلى حد الوقاحة في فتح أمر كهذا، إلا أنه حاول أن يكون مقدّرًا إلى أقصى درجة معها، علّها تفهم:
ــ "عشان النصيب يا هالة. حكاية إني واد عمك ومكتوبة على اسمي، دي مشهورة في كل العائلات. الوفق والقبول ده من عند ربنا يا بت عمي، محدش فينا له دخل فيه."
اهتزّ رأسها بجنون وكأن حديثه يأتي بنتيجة عكسيّة:
ــ "يعني إيه وِفق ولا قبول؟ هو إنت أول مرة تشوفني؟ دا أنا متربية على يدك، يعني تعرفني أكتر من نفسي!"
ــ "ما هو عشان عارفك أكتر من نفسي أنا بجولك لا يا هالة."
ــ " يعني إيه؟"
ــ "ما يعنيش. لِفّي واطلعي من هنا يا هالة. إنتِ بالذات محدش يحمل همك، لأنك حلوة زي ما بتجولي."
انفعل في الأخيرة، مما زاد من اشتعالها، لتردّد مؤكدة:
ــ "صدّجت في الأخيرة يا حمزة! بكرة تشوف لما جمالي ده يجيب سيد سيدك! أنا هالة، ومش هجبل غير باللي أحسن منك!"
وظلت تُكرّر الكلمات حتى غادرت من أمامه، وهو تجمّد في مكانه يُتابع انهيارها بقسوة وجمود...
تنهدت، عائدة إلى واقعها، وحظها المؤسف في عدم تنفيذ وعدها معه.
كانت تبغي أن تُذلّه بمن هو أوسم، وأغنى، وأكثر هيبة.
لكن حظها التعس جعل نصيبها مع خليفة، شقيقه، بفضل ضغط والديها عليها.
لتعيش كالميتة، محرومة من الحب والسعادة...
ولكنها أيضًا مصممة أن يكون الجميع مثلها.
لقد نجحت قبل ذلك كثيرًا، وما زالت مستمرة في مسعاها للانتقام من حمزة، وكل ما يخصه...
........................
في منزل مني:
تفاجأت منى بالزيارة المفاجئة لشقيقها، الذي لا يأتي دون استئذان في العادة، ولا في هذا الوقت من المساء كما خالف وفعلها اليوم.
لكنّه كان متغيّرًا، وذلك ما لمسته منذ بداية الترحيب به وحتى جلستها معه، لتترك له المجال الكامل حتى أوضح أخيرًا سبب الزيارة، بعد أن قصّ عليها جميع ما حدث:
— خُدي يا منى... إديها دول.
نظرت إلى كَمّ النقود التي وضعها في يدها، متسائلة بعدم فهم:
— ليه دول يعني يا خليفة؟ مش فاهمة!
زفر المذكور بخفوت، ثم أجابها بعد لحظات:
— دول ترضية يا منى... بدل التليفون اللي ضاع.
بما إني مش هعرف أكلّمها، ودي واحدة زي الجطر، ما بتديش فرصة للتفاهم.
فأنا شايف إنك أنسب واحدة، بحكم علاقة المودة اللي بينكم.
مش جوزك برضو هو اللي دايمًا متشددّلها؟ وبيقدمها في أي مشوار شغل؟
تمتمت منى، تلوي ثغرها على الجانبين، وقد فهمت ما يقصد، ورددت بطريقتها، مستنكرة:
— يا حزني يا أمه... يعني إنت عايز تضحي بأختك، عشان بس جوزي متشددّلها وبيقدّمها في مشاوير شغل؟
طب افترض جوزي مخّه ضارب، أضيع أنا بسببه؟
— إيه اللي بتهلفطي بيه ده يا منى؟ ما توزّني كلامك!
— يا حبيبي، والله وازنه كلامي... بس أنا بقولك أهو، انسَ حكاية الفلوس والكلام الفاضي ده.
أعفش حاجة في اعتماد هي عزة نفسها وحساسيتها الزيادة عن اللزوم.
خُد يا حبيبي فلوسك دي... أنا مش مستغنية عن عمري.
وختمت الأخيرة كلامها وهي تفتح كفّه، تعيد له النقود التي وضعها بيدها منذ لحظات، فنظر إليها متمتمًا بحيرة:
— طب وبعدين في الموضوع المعجرب ده؟ أحله إزاي بس وأريّح مخي؟
---...........................
ناديتك وانتظرت الإجابة...
ناديتك يا عنيدة، وما زلتُ صابرًا حتى يلين قلبُ الحجر… قلبك.
لن أكفّ عن المحاولات، ولن أيأس.
فرغم كل شيء… قلبي يخبرني بقرب الوصال.
كيف السبيل إليك؟ دليني.
#حمزة
لقد مرّ اليوم طويلًا، ولم يتحدث معها رغم حرصه وتتبعها إلى منزل العائلة، ولكنها تعمّدت أن تظلّ في طابق ابنتها، ولم تنزل إلى الطابق السفلي أثناء تواجده، والذي لم يستمر طويلًا نظرًا إلى الحضور المفاجئ لزوجته السابقة.
حتي إنه لم يحتمل المكوث أكثر من دقائق معدودة، خاصة بعد متابعته لذلك الودّ المبالغ فيه بينها وبين هالة، ابنة عمّه.
ليستغلّ فشل محاولته للذهاب إلى أعماله المتراكمة، بسبب انشغاله في الأهم وهو "ترويض العنيدة"، كما يحدث الآن.
تجاوز حنقه حدود السماء، وهي لا تخرج حتى لابتياع احتياجاتها المنزلية من خضروات وبقالة، بعد أن تكفّل بها هذا المتحذلق ابن أخيها، حازم.
تنهد بيأس وهو يراقب صغيره الذي يلعب بالكرة أمامه، يذهب بها هنا وهناك، حتى اصطدمت في مرة بإحدى الشجيرات التي زرعها بنفسه.
لينتقل ريان بالنظر إليه مذعورًا ينتظر التوبيخ، وكان على وشك ذلك فعلًا... وقد خطرت بباله فكرة، جعلته يتراجع.
ليطمأنه بنظرة حانية، ثم نهض من على أريكته، وتناول الكرة منه، وقرر مشاركته اللعب، مما جعل الصغير يقفز فرحًا.
لتبدأ لحظات من الركض والمرح وتسديد الأهداف، حتى أتى بأهم هدف في لحظة تركيز، حين أصاب المكان الذي يريده، ليتوقف ريان فجأة قائلًا بوجل ولهاث:
— يا وجعة! الكورة دخلت في بيت خالتي مزيونة... هنعمل إيه دلوك؟
تنفس والده بابتسامة ماكرة، وصحّح له:
— وجعت في الحوش المكشوف من غير قصد، يا ريان... يعني تقدر تندهلها تجيبهالنا.
— يعني مش هتزعج؟
— لأ يا حبيبي، وتزعج ليه بس؟ إن شاء الله متكونش كسّرتلها حاجة. ولا أقولك؟ انده عليها، وجولها عشان نشوف.
وهكذا أقنعه، ليذهب إلى مدخل منزلها مناديًا من الخارج، بتشجيع من والده:
— يا خالة مزيونة، يا خالة مزيونة! الكورة وجعت عندك في الحوش… هاتيهَا!
وحين جاء ردّها من الداخل، واطمأنّ حمزة لخروجها، وضع بيد ريان بعض الأوراق المالية ليصرفه، ويجعله يذهب إلى أقرب محل بقالة يشتري ما يشاء، ثم انتظر فقط لحظات، حتى خرجت بالكُرة، تبحث عنه:
— الكورة أهي يا عفريت! بس على الله تكررها تاني... لا أشجّهالك بالسكين!
وأكملت بضحكة مرحة حتى وصلت إلى الجزء الخلفي، وهو ما زال في انتظارها، جالسًا على "مصطبتها" الحبيبة.
لقد ذهب عقله عشقًا بها...
هو متأكد تمامًا من تلك المعلومة.
حُجج المراهقين وأفعال الصغار في ابتكار طرق اللقاء بالحبيبة… يفعلها الآن في هذا العمر؟!
ولِمَ لا يفعل؟!
وبماذا سيفيده العقل إن نام ليلته دون أن يَكحّل عينيه برؤيتها، بعد أن اختفت طوال اليوم؟
فقد خرجت الآن بزيّ مختلف عن كل العباءات العصرية التي ترتديها، ذلك الزيّ القديم لنساء البلدة، رداء يشبه الفستان، يُصنع من قماش منقوش بخامات مختلفة، مجسَّم إلى حدّ ما في الأعلى حتى حردة الخصر، ثم يتّسع كالتنورة في الأسفل.
ازدادت بهاءً وسحرًا في عينيه، وهو أصلاً لا ينقصه!
وكأنها شعرت به، التفتت إليه فجأة، ليكتشف الحردة الأمامية عند الرقبة...
اللعنة!
أنزل عينيه سريعًا، يبتلع ريقه الذي جفّ بحضورها.
وانتبهت هي بدورها، لتخفي الجزء المكشوف من جيدها بشالها، وتقول بارتباك:
— أنا كنت طالعة بالكورة لريان... هو فين؟
ارتفعت أبصاره يحدثها بنبرة عادية الآن:
— ريان جري على البقال يشتريلُه حاجة ساجعة… بس أنا أبوه، وأستلم عنه عادي يعني.
قال الأخيرة بنوع من المزاح، تجاهلته، وأنزلت الكرة أرضًا قائلة:
— تمام، على العموم أهي، لما يرجع يبجى ياخدها... أنا كده عملت اللي عليّا.
قالتها وشرعت في الانصراف من أمامه، لكنه أوقفها قبل أن تتحرك خطوتين، معلّقًا على ردائها:
— ده تبع المرحومة أمك صح؟ ولا حد تاني من أهلك؟
ابتلعت رمقها بحرج شديد، وحنق يكتسحها من تعليقه:
— أيوه... بتاع المرحومة أمي، عادي يعني. رتبت حاجتها النهاردة، وخطر لي ألبس حاجة من ريحتها.
— طب ياريت متكرريهاش تاني...
هكذا يأمرها وببساطة!
طالعته بعدم استيعاب، تكذّب أسماعها، لكنه لم يكترث، وعاد يؤكد بجدية:
— أيوه يا مزيونة... اسمعي الكلام.
أهالينا زمان كانوا غلابة، ومتعودين، عشان الكل كان بيلبس كده...
إنما دلوك، ومع واحدة زيك، اللبس ده جريمة يُعاقب عليها القانون.
— نـعـم؟! قالتها بغضب ليرد عليها:
— أنا ما بغلطش على فكرة...
ما انتي لو وجفتي جدّام مراية كبيرة، هتشوفي بنفسك...
ويمكن تاخدي بالك إن واحدة زيك، حتى العباية البهتانة بتفرّق معاها.
أشحال بقى حاجة زي دي؟
— حمزة يا قناوي!
صاحت بالاسم، بعدم تحمّل، لتوقفه عن هذيانه، مرددة:
— مش شايف إنك زوّدتَها جوي؟
ناجص كمان تنجيلي لبسي!
مش كفاية اسمي اللي بقى لُبانة على لسانك؟!
استقبل ثورتها بهدوء يثير الدهشة:
— أولًا، لازم تاخدي بالك إن انتي كمان بتندهيلي باسمي حاف من غير ألقاب...
ولو على اللبس، أختار لك؟ وماله؟ ليه لأ؟
فغرت فاها، واتسعت عيناها بذهول، لا تصدق الجرأة، بل الوقاحة، التي يتحدث بها...
وكأنه شيء عادي.
وظل يتأملها دون خجل، حتى خرج صوتها بصعوبة:
— إنت شكلك اتجننت!
— بفضلك...
سيجلطها، هي موقنة من ذلك، إن ظلت واقفة تُجادله.
يتحدث بأريحية ولا يشعر بذرة أسف...
ليس أمامها سوى الهروب، كعادتها:
— أنا عارفة إن مفيش فايدة... ماشيه وسيبهالك!
وتحركت تسبق الريح بأقدامها نحو باب منزلها، بغضب، لم يمنعه من وصف ما يشعر به، ويؤلمه الآن، بصوت خفيض... لكنه وصل إليها:
— والله محدّش جالك تبقي حلوة زيادة عن اللزوم... يا المزيونة...
دلفت إلى مأمنها، تصفق الباب بعنف، لتستند عليه من الداخل، وتخرج شهقة من عمق صدرها الآن، واضعة يدها على موضع قلبها، الذي كان يضرب بقوة.
بمشاعر لم تعد تميز إن كانت غضبًا... أو شيء آخر، لكنها ليست طبيعية على الإطلاق.
هذا الرجل مستفز بدرجة تُربكها إلى أقصى الحدود.
يُزلزل كيانها رأسًا على عقب...
ولكن... لماذا؟
وهي قد وضعت النهاية المحسومة برأسها، ولن تتراجع عنها أبدًا… أبدًا!
..........................
أما عنه،
فقد سقط عائدًا إلى أريكته، بغيظٍ جعله يضرب بكفّه على فخذه، مرددًا بتصميم وإصرار:
— ماشي يا مزيونة، ماشي...
أنا برضو وراكي ومش هسيبك!
اعندي براحتك، واعملي ما بدالك...
برضو مش هحِلّك من راسي!
وهتبجي حلالي... يعني هتبجي حلالي.
... يتبع

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا