رواية لأجلها امل نصر الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم امل نصر
رواية لأجلها امل نصر الفصل السابع والثلاثون 37 هى رواية من كتابة امل نصر رواية لأجلها امل نصر الفصل السابع والثلاثون 37 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لأجلها امل نصر الفصل السابع والثلاثون 37 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لأجلها امل نصر الفصل السابع والثلاثون 37
رواية لأجلها امل نصر الفصل السابع والثلاثون 37
في داخلها غليان لا يهدأ،
حسد ينهش قلبها كلما رأت غيرها ينعم بما حُرمت منه،
وغضب مكتوم يتضاعف مع كل تجاهلٍ أو كلمةٍ تُسقطها من مقامٍ تظنه حقّها.
تتقلب بين خوفٍ من أن تُمحى،
ورغبة جامحة في أن تثبت ذاتها بأي ثمن.
مشاعرها عكرة، لا تعرف الصفاء،
كأنها تخوض حربًا صامتة مع نفسها.
لكن ما يعتمل في الداخل يفيض إلى الخارج…
شرّ ناعم الملمس، لاذع المذاق.
تبتسم وهي تُلقي سُمّ الكلام،
وتتحدث بوداعة بينما تشعل النار في القلوب.
شرّها ليس اندفاعًا عابرًا، بل حيلة مدروسة.
تجيد العزف على أوتار الآخرين،
تسخّر ضعفهم ضدهم، وتستمتع برؤيتهم يتهاوون.
إنه الشر الذي يرتدي قناع الحنان،
ويُخفي وراءه أنيابًا حادة،
تنتظر اللحظة المناسبة لتغرسها بعمق.
لكن الغافل عن نفسه ينسى أن للشر عاقبة،
وأن من يركض خلف هواه يتعامى عن عينٍ لا تنام،
عينٍ تترقب وتكتب، حتى تأتي لحظة الحساب
التي لا مهرب منها.
المراجعة والخاطرة الروعة المبدعة/ سنا الفردوس (بطوط)
دفعت باب غرفتها لتدخل وهي تتأفف بضيق متعاظم، معبّرة عن سخطها:
ـ أستغفر الله العظيم يا رب، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، إيه الناس اللي ما يقدرش عليهم غير ربنا دي؟! إيه جنسهم بالضبط؟
كان خلفها زوجها الذي جلس على كرسيه بشرود، دون أن ينطق ببنت شفة، الأمر الذي جعلها تثور به:
ـ ما ترد عليا يا معاذ! هو عاجبك اللي حصل تحت؟ ولا تكون صدقتها أنت كمان النصيبة دي؟
زفر بغضب رافعًا رأسه إليها:
ـ ولو ما عجبنيش، أنا إيه في يدي؟ إذا كان صاحب الأمر نفسه وجف عاجز قدام التمثيلية اللي عملتها ولهفة البنتة على رجعة أمهم! هالة عرفت تلعبها زين قوي، وخليفة لو رجّعها كانت هتبقى عيبة كبيرة في حقنا.
ودي مش غريبة، لاه، دي بت عمنا، يعني ما نعرفش نرد حتى لو حد من العيلة سألنا عن السبب.
جلست هي الأخرى بيأس بعد أن استمعت لحجته، قائلة:
ـ طيب وبعدين؟ أنا والله ما حابة الخراب، ربنا يعمّر بينها هي وجوزها، بس تتعدل، تفضى بس لتربية عيالها مش لأذية الخلق! عمالة تعتذر وتتمسكن، وأنا والله ما في كلمة صدقتها، لأني خلاص عرفتها. اشحال عمي خليفة؟! معقولة يكون بلع الطُعم؟... ولا هي نفسها... ربنا هداها كده فجأة؟... أستغفر الله العظيم يا رب.
كانت تنهج بحرقة جعلته ينهض من مكانه، ليتخذ موضعه بجوارها، يضمها إليه مهوّنًا:
ـ اهدي يا ليلى، بلاش تفكري وتشيلِي نفسك هم. أنا عارف إنك حاطة في بالك أمك اللي هتبقى معاها في بيت واحد وخايفة عليها من أذيتها، بس عايز أفكرك إن أمك مش لوحدها المرة دي، دي صاحبة بيت زيها، دا غير إنها في حماية حمزة، وإحنا كلنا صاحيين لها.
مالت برأسها على صدره تعبّر عن قلقها المتزايد:
ـ برضه خايفة يا معاذ، الست دي أنا اتكويت منها في أمي وفي نفسي، يبقى إزاي ما خافش منها؟! لا يمكن أطمّن ولا أديها الأمان تاني أبدًا... أبدًا.
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
داخل غرفتها التي عادت إليها أخيرًا بعد فترة طويلة من الغياب قضتها على غير إرادتها في منزل والديها، ها هي تعود إليها الآن وبكل سهولة، مجرد تنازل بسيط قامت به من أجل الانتصار والوصول لهدفها. كانت تعلم جيدًا أنها خطوة غير محسوبة العواقب، لكن معرفتها بطبع زوجها وباقي أفراد العائلة هو ما شجعها، حتى إنها لم تأخذ رأي والدها عند القيام بها. أمّا والدتها فقد أخبرتها على عجالة وهي ذاهبة، حتى إن المرأة لم تأخذ الأمر على محمل الجد، وظنتها تمزح، لتُصعق بعد ذلك حين أخبرتها بما تم.
ربما لم تجد ما تتوقعه من فرحة أو حتى ترحيب بعد الدور الدرامي الذي قامت به وأجادته؛ المتمرد وزوجته الصغيرة اللعينة، وقد ارتسم الرفض جليًا على ملامحهما، حتى وضحت الصدمة عليهما حين تقدّمت حسنية تتقبّل اعتذارها بقلق وارتباك أمام صمت خليفة، الذي تجمّد في مكانه بسكون وهدوء مريب؛ هدوء البحر الذي لا تضمن غدر أمواجه المفاجئ. لكنها هذه المرة لن تهمل ولن تعطيه الفرصة كي يفترق عنها أو يجرحها في كرامتها بتفضيل امرأة أخرى عليها، بل أقل منها في كل شيء.
تنهدت بغبطة وغرور، متجهة نحو خزانة الملابس لتخرج من ضلفتها الجانبية مفرشًا جديدًا، تجهّزه استعدادًا لقلب الغرفة رأسًا على عقب في الترتيب والتنظيف، رغم نظافتها الآن. لكنها انتوت على التغيير الكامل للغرفة، ثم لأسلوبها مع خليفة. لابد لها أن تحرص عليه حتي لا يضيع منها.
وما إن همّت برفع الملاءة من فوق التخت حتى تفاجأت باندفاع الباب مع دخوله، متجهًا مباشرة نحو الكمود، يخرج منه شيئًا ما. فتركت هي ما بيدها لتستقبله:
ـ عايز حاجة يا خليفة؟ أدورلك عليها؟
لم يعِرها اهتمامًا، بل واصل حتى أخرج مجموعة أوراق تخص عمله، ثم أشياء أخرى كالمتعلقات الشخصية وشاحن الهاتف، ليضعها جميعًا على الفراش، ثم يتوجه إلى الخزانة يخرج منها ملابسه، ويدفعها على الفراش أيضًا قبل أن يتناول حقيبة الملابس ليضعها بها. فصاحت معترضة، تمنعه بجذب الحقيبة:
ـ إنت بتعمل إيه؟ بتلم هدومك وحاجتك كلها؟ ناوي تسافر ولا تسيب البيت بعد ما أنا رجعت يا خليفة؟
جذب منها الحقيبة بعنف، يقطع صمته بحزم وهو يأمرها:
ـ بعدي يدك وما تلمسيش حاجتي. مش معنى إني سكت واتقبلت رجعتك بالمسكنة والتمثيلية اللي عملتيها قدام أمي وأخواتي والبنات، يبقى خلاص سلّمت يا هالة وحنيت عشان حضرتك اتنازلتِي وجيتي على كرامتك وكبر نفسك اللي أنا عارفه زين.
لا يا هالة، اللي كنت ببلعه زمان وأعديه عشان المركب تمشي، ما عادش ينفع معايا دلوك، ولا بقى هاممني المركب ولا إنها تمشي من الأساس.
أنهي وانحنى يلتقط الملابس ليضعها في الحقيبة، لكنها كانت الأسرع، لتخطف مجموعة منها هاتفه به:
ـ معنى كلامك إنك عايز تطلقني يا خليفة؟! ولا كنت ناوي تسيبني في بيت أبويا معلّقة زي البيت الوقف لحد ما أموت؟... ولا يمكن عندك نية لواحدة تانية غيري؟ قول يا واد عمي وصارحني، أنا برضك قلبي حاسس.
أجبرته بفعلتها على استخدام العنف معها، حين عاد يجذب الملابس بقوة كادت أن توقعها على الفراش من خلفها، لينهي بصرامة:
ـ لما تيجي النية، هقول لك في وشك ومش هداري. أنا مش جبان عشان أعمل حاجة من ورا ظهرك ولا هخبي ولا هنكر في وشك. دلوك سيبيني بقى، على ما ييجي وقتها.
قالها وهو يلقي الملابس ويحشرها في الحقيبة دون تنظيم، ليرفعها بهيئتها الغريبة تلك متوجهًا للخروج من الغرفة بعدم اكتراث. فصرخت هي في أثره:
ـ لا! مش هييجي وقتها يا خليفة، عشان لا يمكن هسيبك تروح لواحدة غيري! مش أنا المره اللي جوزها يتجوز عليها! سامعني؟ مش أنا...
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
ألقى هاتفه بضجر على طاولة الزينة، بعد أن انتهى من المكالمة المهمة. نظر إلى انعكاس وجهه، وقبضته تطرق على السطح الخشبي بشرود، وقد غاص عقله في التخمينات والهواجس بعد أن علم بجميع المستجدات التي حدثت في المنزل الكبير منذ لحظات قليلة، من شقيقه الأصغر.
تلك الحركة الجريئة بالعودة من نفسها نادرًا ما تحدث من النساء اللاتي يردن أزواجهن وأبناءهن، ولا يشغلهن سوى لم شمل الأسرة. وبالطبع، هالة ليست منهن. إذًا ما الذي أجبرها أن تقوم بحركة جريئة مثل تلك، مضحية بكبريائها المعروف وغرورها المتأصل؟ ابنة عمه، يحفظها أكثر من خطوط يده.
ترى مَن في رأسها هذه المرة؟ ليلى؟ أم اعتماد؟ أم زوجته؟... اللعنة! أن تركها تصل إلى غايتها؟
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
خرج من غرفته بعد أن بدّل ملابسه لجلباب جديد مكوي، يزيد من أناقته وهيبته المعروفة، يبحث بعينيه نحو تلك التي اختفت فجأة رغم إخباره لها بضرورة الاستعداد للذهاب إلى المنزل الكبير وقضاء النهار هناك كما وعد والدته بالأمس، التي تصر دائمًا على لمّ شمل أبنائها حولها.
ـ مزيونة... إنتِ فين يا مزيونة؟
ردًا على النداء جاءه صوتها من الجهة المقابلة لغرفته:
ـ أنا هنا يا حمزة، عند ريان في أوضته.
ـ تاني ريان؟!
تمتم منفعلاً يقطع المسافة الفاصلة سريعًا حتى وصل إليها، ليجد الاثنين أمام المرآة؛ هي خلف ريان تمشط شعره بحرفية، وكأنها تصنع له قصة جديدة. لينتبه الصغير إلى والده، يهتف به:
ـ تعالى شوف التسريحة الجديدة يا بوي، اللي عملتها لي خالتي مزيونة! أحلى من اللي عملها لي الواد سمعة الحلاق.
التفتت هي الأخرى إليه بمرح قائلة:
ـ شوف الواض البكاش! كله بس عشان ميلت الفرق على جنب، بعد ما دهنتهم بكريم الشعر بتاعي، وبقوا ناعمين وحلوين.
تمتم متقدّمًا إلى داخل الغرفة متهكمًا بغيظ، قبل أن يتوجه بالحديث إلى صغيره:
ـ ناعمين وحلوين كمان! إنت يا زفت، مش معاك علبة جل كبيرة بتدهن فيها ليل نهار؟ من إمتى بتحط على شعرك كريمات الحريم ياض؟
ترك ريان مرآته ملتفًا إليه بملل ليرد ببساطته المعهودة:
ـ وأنا مالي بالحريم؟ دا بتاع خالتي مزيونة. ولو على علبة الجل، خدها يا سيدي مش عايزها، دا بيوقع الشعر أصلاً.
ـ يا ابن الـ... دلوك افتكرت إنه بيوقع الشعر! وخالتك مزيونة مش حاسبها من الحريم؟!
تفوه بها حمزة بحدة، فأتى الرد من مزيونة التي احتضنت وجه الصغير:
ـ لا مش حريم، عشان أنا في مقام أمه زي ما قال لك قبل سابق. دا غير إن الكريم مش للحريم بس...
توقفت تطالع حمزة بنظرة مقصودة، قبل أن تعود للصغير، تضع قبلة خفيفة فوق شعره الجميل المصفف طالبةً منه:
ـ روح يا حبيبي واستنانا بره عند التينة، على ما أخلص أنا وألبس عبايتي ونروح مع بعض على البيت الكبير.
تبسّم إليها ريان، ثم أشار بيده كي تدنو، ليرد على قبلتها بواحدة صغيرة فوق خدها، قبل أن يتحرك بعد ذلك مغادرًا بطاعة. شيّعه والده بنظرات مشتعلة، حتى إذا خلى المكان عليه وعليها، أجفلته بقولها:
ـ برضك دي عمايل دي يا حمزة؟ بتعمل عجلك بعقل العيل الصغير حتى في حاجة تافهة زي دي؟
صاح يعارضها وكأنه تتجنى عليه:
ـ أنا عامل عقلي بعقله أنا؟! ناقص كمان تقولي غيران منه؟ مزيونة، ما تطلّعيش زرابيني أنا على اخري أصلاً.
أومأت برأسها تهادنه، وقد بدا أنه ليس في حالته الطبيعية لتقبّل النقد أو الفكاهة، ليصمت برهة يلتقط أنفاسه قبل أن يخبرها:
ـ عندي خبر ليكي قبل ما نروح البيت الكبير عشان تعملي حسابك، هالة رجعت.
ـ رجعت؟
بدت الكلمة كسؤال، فأجاب:
ـ لوحدها... طبت عليهم فجأة النهارده الصبح تعتذر وتتأسف. طبعًا ما حدش قدر يرجعها عشان الأصول.
ـ أيوه، وهي تعرف الأصول قوي.
تمتمت بها بسخرية، وعقلها يدور في حديثها أمس مع اعتماد، فتيقنت أن حركاتها تلك مقصودة...
ـ مالك سرحتِ ليه؟ لا تكوني قلقتي كمان منها؟ أنا بقول لك عشان تاخدي حذرك بس. إنتِ عارفة إني وراكي وفي ضهرك أكيد، ولا عندك شك؟
تبسّمت تجيبه بثقة:
ـ لا طبعًا، عمري ما أقلق وإنت في ضهري. وعلى العموم أنا كدها برضه... يلا بقى، أسيبك وأروح أغير العباية.
وما شرعت أن تتحرك خطوتين حتى أوقفها قبل أن تصل إلى باب الغرفة:
ـ استني عندك.
أردف حين وجدها التفتت إليه بتساؤل:
ـ كنت عايز منك كريم الشعر اللي قولتي عليه من شوية، أنا كمان شعري بهتان وعايز يلمع هبابة.
طالعته بدهشة شديدة، تكتم ابتسامتها بصعوبة وهي تجيبه:
ـ وراك على التسريحة يا حمزة. سرّح شعرك زين ولمّعه، على ما ألبس عبايتي أكون جيت لك يا أبو ريان. بس أوعى تسرّحه وتجيب الفرق على جنب، من؟
عبس يتابعها وهي تغادر، شاعرًا بغيظ من سخريتها، ثم التفت إلى المرآة من خلفه ليتناول من العبوة التي أشارت عليها، يضع منها فوق شعره مرددًا:
ـ بتتريقي يا مزيونة؟ دا بدل ما تيجي تسرحي لي بنفسك... ماشي.
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
طالعتها من شرفة الغرفة التي غابت عنها كثيرًا، تدلف من البوابة الحديدية إلى داخل محيط المنزل قادمة نحو المدخل، على الفور تحركت متراجعة إلى غرفتها قبل أن تبصرها الأخرى من الأسفل.
أمّا هي، فكانت تسير بحالة لا تمكّنها حتى من النظر إلى الأعلى، ولا من الانتباه إليها من الأساس؛ فما كان يغمرها في تلك اللحظات أقوى وأعمق من الحزن نفسه.
لقد أجبرت نفسها بصعوبة على القدوم إلى ليلى في موعد الدرس، بعد أن عادت إلى عملها رغم كسر ذراعها الذي لم يُجبر بعد؛ فهو سلوتها الوحيدة للهروب من الأفكار السوداء والوحدة، من عالم الشقاء والتعب، حتى إذا عادت آخر الليل تضع رأسها على وسادتها، تنسى حتى اسمها.
ـ أبلة اعتماد.
أتاها النداء من الخلف، بنبرة الصوت التي تعلمها جيدًا، لتضطر إلى الوقوف في انتظاره وهو يتقدّم نحوها، حتى إذا اقترب يحدثها بلطفه المعتاد:
ـ إيه الأخبار؟ شكلك رجعتي لنشاطك من تاني.
بلعت ريقها، ترمقه بتوتر وعدم ارتياح، تجيبه باقتضاب وهي تتجنب النظر إليه مباشرة:
ـ نحمد الله على كل حال. أنا رجعت الشغل فعلًا بقالي يومين.
لاحظ خليفة اضطرابها وجمودها في الرد، حتى دفعه الفضول ليستفسر عما بها:
ـ شكلك مش طبيعي النهاردة. ليكون حد من الجماعة إياهم زعلك؟ ولا يمكن الواد محمود نفسه؟ أتعرض لك؟ أنا عارف الجماعة دول بوارد.
نفت تهز رأسها:
ـ لا... ما فيش أي حاجة من الكلام ده. أنا بس مستعجلة، عايزة أخلص ليلى، وعندي دروس تانية غيرها.
شعر بالحرج من طريقتها غير المباشرة في التعبير عن رغبتها في الانصراف، حتى همَّ أن ينزاح من أمامها ويتركها، ولكن سبقه الصوت المؤذي الذي أتى من خلفه:
ـ إنت قاعد هنا يا خليفة وأنا بنده عليك! وه أبلة اعتماد؟ إزيك يا غالية؟
لم يغفل خليفة عن مياعتها المقصودة في النداء عليه أو في مخاطبة اعتماد، التي اعتلت الصدمة ملامحها حتى بدا عليها شيء لم يفهمه، وهي تنظر إلى زوجته العزيزة التي كانت مائلة بجسدها على مدخل المنزل بابتسامة غامضة.
لتجيبها اعتماد بعجالة وشيء من حدّة:
ـ أنا زينة والحمد لله، متشكرة على السؤال. عن إذنكم.
واتخذت طريقها متجهة مباشرة إلى الداخل، متجنبة الحديث مع هالة، التي ظلت تشيعها بنظرات مستفزة، تقول بصوت عالٍ:
ـ كنت عايزاك يا خليفة، تاجي تحرك الدولاب هبابة بعيد عن الحيطة. حيلي مهدود ومش قادرة حتى أحرك صباعي. قطيعة! شكلي سهرت كتير امبارح.
ـ ويا ترى سهرتي فين إن شاء الله؟
باغتها بالسؤال خليفة، الذي لم تدرِ متى أتى ليقترب منها بهذه الصورة، وعيناه تتنقل منها إلى تلك التي تصعد الدرج بجمود، دون أن تلتفت برأسها نحوهما. فخرج صوت هالة مهتزًا في التبرير بكذب له:
ـ سهرانة بفكّر يا خليفة... في البنات، وكيف نلم شمل العيلة من تاني.
توقفت برهة، ثم تابعت بنعومة:
ـ دا حالي من ساعة ما خدتني بيدك وروّحت بيا عند أهلي، ترميني بالشهور... شوفت بقى أنا كنت بتعذّب كيف في بعادك عني؟
لم يُعقّب بحرف واحد على شيء لم يقتنع به من الأساس، وعقله قد ذهب مع تلك التي صعدت إلى الطابق الثاني بحالة غريبة ومعاملتها المتغيرة معه. ليتنبّه إلى التي بدّلت لتصبح هي المتشبثة به، وكأنها تستجدي عاطفته. نزع كفّها عن ذراعه، رافضًا الخنوع لها أو التصديق برواية لا تدخل عقل طفل صغير، وغادر بخطواته السريعة تاركًا المنزل بأكمله.
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
بعد قليل،
كان موعدها مع اللقاء الأهم، تلك مزيونة، وحمزة ابن عمها وسبب بلائها وعذابها منذ مولدها، ومنذ أن وعت عينيها على العالم. وكم كانت غبية! عندما ظنت إنها خُلقت له وهو خُلق لها.
لقد كانت في انتظارهما منذ الصباح، ومنذ أن وطئت قدمها المنزل وهي تعلم أن أحدًا لن يجرؤ على إعادتها، بعد أن وضعتهم في مواجهة مباشرة مع العائلة والبلدة والأصول التي يتبعها الجميع.
توقفت بالقرب من الرَّدهة تتأمله قليلًا، حيث كان جالسًا بالقرب من والدته، بوجاهة وهيبة ووسامة خشنة و... اللعنة عليها وعلى غبائها! وعلى هذا الذي انتفض فجأة بين أضلعها بمجرد أن وقعت عيناها عليه بعد شهور لم تره فيها. أتسميه اشتياقًا لرجل تكرهه حد العمى؟ كيف؟ لابد أنه شيء آخر... نعم.
تحركت خطوة واحدة في اتجاههما، فرأت الملعونة الأخرى في نظرها، سبب الخراب عليها... مزيونة، وقد كانت جالسة على أريكة تضم ريان الصغير بجوارها، وقد تبدّلت لامرأة أخرى، ترتدي عباءة فاخرة وأنيقة، وكأنها عادت ابنة العشرين وهو أوّل نصيبها... والفضل بالطبع يرجع لحمزة الذي لا تفوته فائته، ابن عمها، وتعلمه جيدًا.
زفرت شحنة ساخنة من صدرها، لتستقيم في وقفتها، تعدّل من هيئتها استعدادًا لهما؛ فهي أيضًا قد اهتمت بمظهرها اليوم، وجمالها وأناقتها المتأصلة لا تحتاج لمجهود.
فتحرّكت ترسم ابتسامة مصطنعة، تهتف جاذبة انتباه الجميع نحوها:
ـ مساء الخير عليكم. إزيك يا حمزة يا واض عمي؟ إزيك يا مزيونة؟ ريان! حبيبي يا ريان، تعالى يا واض في حضني أما أبوسك.
في ردّ فعل طبيعي وقف لها الاثنان، واستجاب ريان لينهض إليها، فالتقطته بين ذراعيها تحضنه وتقبّله على وجنتيه:
ـ يا حبيبي يا ريان! كده برضه المدة دي كلها متسألش عني؟ وحشتني يا واض، وحشتني جوي.
تبادل حمزة نظرات الامتعاض مع والدته وزوجته التي بدت هادئة جدًا، حتى إذا انتهت هالة من استعراضها، توجهت إليها مرحبة:
ـ حمد الله على سلامتك يا هالة، ربنا يعمّر بيكي مع جوزك وعيالك.
سمعت منها المذكورة، ورغم تفاجؤها إلا أنها سرعان ما تجاوبت بدراما، تهرول نحوها وتحتضنها:
ـ حبيبتي يا مزيونة! سامحيني إني محضرتش فرحك إنتِ وواض عمي، بس إنتو عارفين الظروف بقى.
ـ عارفين يا بت عمي، ومن غير اعتذار مسامحينك.
كان هذا رد حمزة، وزوجته تبادلها العناق المصطنع بابتسامة اغتضبتها بصعوبة، لتتركها متوجهة إليه:
ـ أكيد يا حمزة يا واض عمي، خلاص سيبونا من اللي راح بقى وخلونا في اللي جاي. أنا النهاردة ناوية أطبخ بيدي ونعيد لمّة زمان بعزومة تلم الكل... إيه رأيك يا مرت عمي تتصلي على البنات؟
تفاجأت حسنية بالاقتراح الذي انتشلها من شرودها، بعد حديث حمزة الذي تهامس معها منذ قليل رافضًا الأسلوب الملتوي لعودة هالة إلى خليفة وإجباره على الموافقة برجوعها.
فصمتت برهة حتى استوعبت، ثم أيدتها بفتور، قبل أن تعود واضعة يدها على خدها:
ـ وماله يا بتي، نتصل بيهم. حد يكره اللمة؟
بحماس مبالغ فيه عبرت هالة عن فرحتها:
ـ وأنا هروح أجهز الوَكل من دلوك. هتيجي معايا تساعديني يا مزيونة، صُح؟
أومأت لها بما يشبه الموافقة تجاريها:
ـ وماله يا غالية. أطلع بس لبتي أطمن عليها واجي أساعد معاكي. عن إذنك بقى أروح أشوفها.
قالتها وتحركت لتصعد إلى الطابق الثاني حيث شقة ابنتها، فتبعتها هالة مستأذنة نحوهم:
ـ وأنا كمان ألحق أشوف الأصناف اللي هحضرها. عن إذنكم يا جماعة.
ـ إذنك معاكي يا أختي.
غمغم حمزة في أثرها بصوت خفيض وهو يعود إلى جلسته مع والدته مردفًا:
ـ شادة حيلها وعاملة فيها ست النشيطة الطيبة، ولا كأننا فقدنا الذاكرة ونسينا كل النصايب اللي عمِلتها.
نفضت حسنية يدها في الهواء بسأم:
ـ وه عليك يا حمزة عاد! ما تسيبني في همي يا ولدي. وأخوك اللي محيرني دا كمان... لا أنا عارفاه رافض ولا متقبل. اللي عليه ساكت وبس.
زفر حمزة يعقب بثقة تامة في شقيقه:
ـ متقلقيش على ولدك يا حجة حسنية. خليفة راجل وأنا عارفه زين جوي. مش مغفل ولا دق عصافير عشان يبلع لعبتها. لكن هي هتفضل طول عمرها غبية ومش فاهماه.
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
مهما كنت قويًا أو ادّعيت القوة، هناك لحظات أقوى من أن تواجهها،
أقوى من أن تتحدّاها حتى وأنت معك الحق،
في النهاية سوف تغلبك صلابة الأمواج العاتية ... وتنهار.
في الأعلى،
حيث جلسة الدرس الذي تعطيه اعتماد لتلميذتها ليلى، تجاهد بصعوبة على التجاوز والتركيز فيما تشرحه، لكن قلبها الموجوع وكرامتها التي تئن ألمًا جعلاها تتوقف فجأة، لتُلقي من يدها كل شيء. أغمضت عينيها بتعب شديد غير قادرة على المواصلة، لتجبر ليلى هذه المرة على التساؤل:
ـ إيه اللي حصل؟ إنتِ تعبتي يا أبلة اعتماد؟
لم تُجبها على الفور، وقد ظلت فترة من الوقت ضاغطة على عينيها بكفّيها، تمنع بصعوبة دموعها ومشاعرها المنهارة. استمرت على وضعها عدة لحظات، حتى تمالكت نفسها في النهاية وأخبرتها بقرارها:
ـ معلش يا ليلى، أنا مش هقدر أكمل معاكي الفترة الجاية. هشوف واحدة شاطرة إن شاء الله تتابع معاكي من زميلاتي...
قاطعتها ليلى برفض وتساؤل:
ـ ليه يا أبلة اعتماد؟ ده أنا مبفهمش من حد غيرك!
ـ معلش... عشان تعبانة والله، مش قادرة حقيقي. اعذريني.
لم تغفل ليلى عن حالتها المتغيّرة وصعوبة الحديث الخارج منها، ورغم رغبتها الشديدة في الرفض، إلا أنها فضّلت ألّا تضاعف عليها. و عرضت ما طرأ برأسها فجأة بلطف:
ـ عشان دراعك صح؟ أنا ممكن أتابع معاكي علي الإنترنت على ما تخفي...
انتبهت اعتماد لمقترحها، تستوعبه في عقلها، هل يصلح أم لا؟ فنهضت تلملم أوراقها ودفاترها قائلة بتفكير:
ـ خلاص يا ليلى، هشوف إن كان ينفع. وفي كل الحالات أنا مش هسيبك، حتى لو استلمت واحدة غيري، هتابع دايمًا معاكي... اطمني.
أومأت ليلى دون أن تزيد عليها، ونهضت كي توصلها إلى باب شقتها رغم رفض الأخرى. حتى إذا خرجت من عندها، تقابلت هي ومزيونة التي كانت قادمة، فتهلّل مرحبة برؤيتها:
ـ إيه ده؟ إنتِ هنا يا اعتماد؟ ده أنا كنت ناوية أتصل بيكي.
بابتسامة صادقة قابلتها اعتماد، وردّت تحيتها وأجرت حديثًا سريعًا معها قبل أن تغادر بخطوات متعبة. تبعتها أبصار مزيونة التي انتابها القلق من ناحيتها، حتى لوّحت لابنتها بكفها تستفسر. فأجابتها ليلى همسًا، الأمر الذي جعلها تربط الخيوط ببعضها، فتتفهم رغبتها في الابتعاد عن المنزل بعد عودة تلك الحرباء. من المؤكد أنها ضايقتها بشيء ما. قبل أن تصعد لابنتها، لتزفر مهدّدة في داخلها:
ـ شكلك مش ناوية تجيبيها لبر واصل يا هالة؟
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
داخل المطبخ، وأثناء إعدادهم لقائمة الأطعمة العديدة التي قررت هالة تجهيزها اليوم، بمساعدة مزيونة التي تدخل لأول مرة تطبخ فيه بشكل جدي بعد زواجها وعودتها، وحتى أثناء زواج ابنتها أيضًا؛ كانت كل محاولاتها السابقة على خجل.
ولعلم هالة جيّدًا بهذه المعلومة، فقد قررت اليوم أن تستغلّها أبشع استغلال. عادت لتأدية دورها الذي خُلقت له: الإدارة الحقيقية لهذا المنزل.
فامرأة عمها لا تعلم سوى الظاهر؛ إلقاء الأوامر والتعليمات، أمّا بناتها فكنّ يأتين ويذهبن كالضيوف.
لكن التفاصيل الدقيقة كانت هالة وحدها من تعرفها.
ستُمارس اليوم مهمتها في تسخير مزيونة، دلوعة حمزة، لتُعرّفها مَن هي سيدة هذا المنزل حقًا.
أما مزيونة، فقد أجبرت نفسها بصعوبة على التعامل معها، رغم كل ما تحمله داخلها من غضب نحوها، وقهر على صديقتها التي باحت لها أمس عن خستها معها، لكنها شددت عليها ألّا تتحدث.
في البداية كانت تسمع منها وتنفذ بسجيّة صافية، لكن حين زادت عليها بإلقاء التعليمات وإبعادها عن التنفيذ الجدي في إعداد الأطعمة، وعت لخبث نيتها في النهاية، فتوقفت فجأة عن جلي الأواني التي لا تنتهي:
ـ وبعدين؟ أنا هجعد يومي كله أغسل في المواعين اللي ما بتخلصش، ولا أنضف وأشيل من حواليكي يا ست الشيف؟
كانت هالة في هذا الوقت تعمل على صينية الدجاج التي تقوم بتتبيلها قبل أن تضعها في الفرن، فتوقفت عما تفعل، لتنظر إليها ببراءة تدّعيها وهي تستمع للأمر:
ـ وماله يا مزيونة؟ وهي عيبة لما تساعديني؟ ده بيت كبير يا حبيبتي. وإنتِ آخرك كنتي تعملي حاجة على كدّك إنتِ وبِتك. إنما هنا، جدامك أهو صواني البشاميل والرقاق والمحاشي والفراخ واللحمة بأنواعها... بيوت عز ما شاء الله زي ما إنتِ شايفة.
أمال أنا طلبت مساعدتك ليه؟ كان ممكن أطلب واحدة من خوات خليفة ولا بناتهم. بس خلاص... إنتِ بقيتي معايا، يبقى هاعوزهم في إيه؟
سخرت مزيونة معقبة على قولها:
ـ ده على أساس إني عيّلة صغيرة وإنتِ هتمشيني على مزاجك؟ أمور السلفة الكبيرة والسلفة الصغيرة دي تخيل مع ناس تانية غير أنا وإنتِ يا حبيبتي. لا أنا عيّلة صغيرة، ولا إنتِ الكبيرة هنا.
ـ لا، أنا الكبيرة فعلًا يا مزيونة. كبيرة البيت ده من ساعة ما اتجوزت وأنا اتوليت أمره. ليه تاخديها بحساسية؟
قالتها ببساطة، يفوح من نبرتها الخبث، ورسائل واضحة تُظهر نيتها الحقيقية بالعودة سريعًا إلى هذا المنزل فور عودتها هي من سفرتها.
فمالت برأسها نحوها قائلة باستدراك:
ـ آآه، عندك حق، آخدها ليه بحساسية؟ مع واحدة مكشوفة زيك؟ هالة... فوقي لنفسك يا حبيبتي، وبلاها دور الذكية اللي محدش بيغلبها. أنا أصلًا بتعامل معاكي وانا على آخري منك، ومن رصيدك الحافل معايا. يكفي زيارتك لاعتماد امبارح، تفتكري لو جوزك عرف باللي قولتيهولها أمبارح والتهديد بسمعة أختها، هيسكت؟
تجلّى وقع الكلمات عليها بمفاجأة اعتلت تعابيرها، لكن سرعان ما تداركت الأمر للعلاقة القوية التي تجمع الاثنتين حديثًا، قائلة بهدوء مستفز:
ـ حلو خالص الكلام ده. يعني المحروسة حكتلك، وأكيد جابت سيرة أختها كمان؟ طيب، تمام خالص يا ستي. أنا أصلًا مجبتش حاجة من عندي، وهي لو عايزة المعلومة الحلوة دي تنتشر عن أختها والمحترم طليقها، برضك هي حرّة. يا إمّا تحترم نفسها وتبعد عن الراجل المتجوز، ولا هي قلة أدب وخلاص؟
تراجعت مزيونة مبتعدة عنها، رغم عدم صدمتها بها، إلا أنها لم تصدق ذلك البرود الذي تتحدث به، والتساهل في أذية البشر.
وبدون أي كلمة أخرى، تحركت لتغادر، فهتفت توقفها، عائدة لنعومة الأفعى:
ـ هتسيبيني أشتغل وأحضّر لوحدي يا مزيونة عشان بس طلبت منك تساعديني؟ أخص عليكي!
كادت أن تلتفت إليها وتثور، وتُخرج بها كل غضبها، ولكن ما إن وقعت عيناها على حمزة الذي كان في طريقه إلى غرفة والدته، حتى طرأت برأسها فكرة، مستخدمة كيد النساء في التعامل مع تلك الحرباء بنفس طريقتها الملتوية.
فتجاهلت ندائها، وخطت خطوات قليلة حتى خرجت من المطبخ. لم تبتعد سوى مسافة لا تتعدى المترين حتى سقطت على الأرض مع صرخة مدوية خرجت منها، لتجبر الآخر على الانتباه وتغيير طريقه مهرولًا نحوها:
ـ وه يا مزيونة!
صرخته القوية جعلت الأخرى تنهض من مكانها لتستكشف الأمر، لا تعرف كيف حدث كل ذلك في ثوانٍ قليلة. لم تدرِ متى سقطت؟ ولم تدرِ متى أتى هو ليلتقطها عن الأرض وهو يخاطبها محاولًا تهدئتها:
ـ إيه اللي حصلك؟ وجعتي كيف؟
بأنين مبالغ فيه، وعيناها تتنقل منه وإليها:
ـ مش عارفة... مش عارفة إزاي ده حصل؟ رجلي، رجلي اتلوت فجأة، ولقيتها جات تحت مني لما وقعت... آآه، مش قادرة أجف عليها يا حمزة.
تجاوز حدود الهلع وهو يجلسها على الدرجة الثالثة من السلم برفق شديد، ليصدم تلك المتابعة من مدخل المطبخ، حين جثا على ركبتيه عند قدميها ليفحصها:
ـ سلامة الرجلين الحلوة... أي واحدة فيهم اللي اتلوت؟ خليني أشوفها ولا أجيبلك دكتور؟
صرخت عند اليمنى:
ـ آه يا حمزة، مدوّسش عليها! أنا مش متحملة يدك. مفيش داعي للدكاترة أصلًا، هي دلوك تخف إن شاء الله لما أريحها هبابة... ممكن يا هالة شوية ميّة باردة، أدلّكها لو قدرت.
أجفلتها بمخاطبتها وتلك المسكنة المقصودة، فالتفتت إليها بتشتت. وقبل أن ترد، صاح بها حمزة الذي لم يكن يدري بوجودها:
ـ إنتي هتفضلي واقفة مكانك يا هالة؟ ما تتحركي هاتيلها الميّة الباردة، ولا شوفي لنا دهان كدمات، على ما نشوف أمر رجلها هتحتاج دكتورة ولا لاه... ما تخلّصي يا هالة!
أجبرها على الامتثال رغمًا عنها، فعادت إلى المطبخ نحو البراد. ولكن قبل أن تفتح الباب لتُخرج إناء المياه، استدركت فعلتها المقصودة بعد حديثهما العاصف منذ قليل، ثم النظرة التي رمقتها بها في وجود حمزة. وعندما وبّخها أمرًا، همست بتوعد:
ـ يا بت الـ... ماشي يا مزيونة، شكل اللعب ما بينا هيبقى ليه طعم تاني... وأنا مستعدالك جوي.
خرجت اليهم بالمياه، لتجده بصيح بواحد من أبناء شقيقاته يأمر بانفعال:
ـ بلغ الناس اللي خالك مش طالع تاني ، عشان ظرف ضروري ، وبعدها ادخل لجدتك خليها تاجي تشوف مرة عمك
اومأ الصغير ينفذ الأمر ويهرول سربعا، فخاطبته مزيونة باعتراض:
- مالوش لزوم يا حمزة تقلقها؟ هي بس كمادات باردة وان شاء الله تخف .
ـ برضك لازم نطمن.
قالها حمزة بقلق، قبل ان تجفله بصيحتها:
- الميه الباردةة، هي اخرها تشطوفها بيها وهتبقى زي الحصان، دي اكيد حتى محصلتش الجزع .
عبس لها حمزة بغضب شديد، متناولاً منها المياه، محاولاً كبح انفعاله عليها، ليصب اهتمامه في الأهم، زوجته المحبوبة، والتي ما إن رأته يتناول إناء المياه حتى هتفت معترضة:
ـ استني يا حمزة، هدلك الرجل ولا تحطلها كمادات كيف هنا في نص البيت ؟ افرض حد من الرجالة دخل.
استدرك إلى المعلومة التي أدلت بها، فنهض فجأة متخذاً القرار، حاملاً إياها بين ذراعيه قـائلا:
ـ عندك حق، تعالي اوديكي لاي اوضة جوا.
ـ لا يا حمزة وديني في اوضتك فوق احسن واضمن، بس الشيلة هتبقى صعبة عليك، نزلني وسندني احسن
قالتها لتستفز حميته، فيزأر بخشونه:
ـ ليه ؟ مهقدرش انا اشيلك واطلع بيكي السلم؟ طب اهااا
قالها وهو يصعد بها الدرج بخطوات سريعة، غافلاً عن نظرة توجهت به هي إلى الخلف نحو هالة التي تجمدت في مكانها تتابعهم بغيظ لا تستطيع إخفاءه، تغمغم بكافة الشتائم والسباب، بعد أن تورطت الآن في إعداد المأدبة الضخمة وحدها.
... يتبع
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا