رواية لأجلها امل نصر الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الثامن والثلاثون 38 هى رواية من كتابة امل نصر رواية لأجلها امل نصر الفصل الثامن والثلاثون 38 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لأجلها امل نصر الفصل الثامن والثلاثون 38 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لأجلها امل نصر الفصل الثامن والثلاثون 38

رواية لأجلها امل نصر بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الثامن والثلاثون 38

كم من نعمةٍ مرّت بين يديك، فظننتها باقية لا تزول، فأهملتها أو تركتها تذبل… حتى إذا رحلت، أدركت متأخرًا أنها كانت أثمن ما تملك.
لكن الله، بحكمته، يأبى أن تُهمَل النِّعم؛ فيسوقها ببساطة إلى من يتمناها، ويعرف قيمتها، ويستحقها.
كثيرًا ما ضاعت الفرص من بين أيدينا؛ تارةً بالأنَفة والكبر، وتارةً أخرى بالجهل والغفلة.
وحينها لا يبقى سوى الندم… وجعًا مقيمًا يلازم القلب، يذكّرك دائمًا بما فرّطت فيه، وبأنك لم تُحسن التقدير إلا بعد أن فات الأوان.
المراجعة والخاطرة الروعة من المبدعة/ سنا الفردوس ( بطوط)
....... ............    
الفصل الثامن والثلاثون
لطالما رأت نفسها جميلة، في عيون البشر من حولها، وفي مدحهم لصفاتها الشكلية منذ صغرها وحتى الآن. وكلما نظرت إلى المرآة، تجد ما يجدد ثقتها في نفسها، رغم كل ما يقابلها من سوء حظ و "قلة بخت"، كما تصف ما يحدث معها دائمًا.
ها هي قد تعطرت وارتدت منامة ساحرة بلون صاخب على بشرتها البيضاء، ينعكس عليها فيزيدها بهاءً. أطلقت شعرها الحريري متوسط الطول بلونه البني، وطلت شفتيها بلون أحمر قانٍ. لم تضع سوى الكحل الأسود والماسكارا لرموشها، غير ذلك لم تزد؛ فهي تعرف مزاج زوجها جيدًا، يعشق البشرة الخالية من المساحيق.
منذ متى لم يتغزل بها أثناء لحظات الصفاء بينهما؟ تعلم أن هذه المرة طال الخصام كثيرًا، لدرجة جعلتها تشتاق إليه بالفعل. إحساس نادرًا ما تشعر به مع خليفة، لكنه قد حدث، ولابد أن يعود إليها صاغرًا. فهو دائمًا كان جيدًا معها، رغم شروده الكثير وسكونه المريب أحيانًا، لكنه أبدًا لم يقصر في حقها كزوج إلا في هذه الأيام، وعليها أن تطالب بحقها.
ارتدت مئزرًا يغطي عري منامتها، لتخرج من الغرفة، متجهة للاطمئنان على الفتيات بعد أن أمرتهن بالنوم باكرًا، محذرة إياهن من أن العفريت سيأتي ليأكلهن مع انقطاع الكهرباء عن البلدة بأكملها بسبب العطل في أحد المحولات. وقد صدّقنها كالأغبياء بالفعل.
تبسمت لمشهدهن وهن يحتضن بعضهن البعض، ثم تسللت مطمئنة نحو الغرفة التي اعتزل بها زوجها العزيز. وحين دفعت الباب وولجت، لم تجده، لكن حركة من داخل مرحاض الغرفة أنبأتها بوجوده.
ومع توقف صوت المياه، علمت أنه على وشك الانتهاء من استحمامه. خطت سريعًا حتى وصلت إلى التخت، واضطجعت على إحدى وسائده بإغواء، تترقب خروجه. وبعد لحظات قليلة خرج عاري الجذع، لا يرتدي سوى بنطال قماشي، يجفف شعره بمنشفة قطنية تحجب رؤيته، فلم ينتبه إليها في البداية. اقترب من المرآة ليمشط شعره، وفور أن رفع المنشفة عن رأسه، ارتخت يده بالفرشاة فجأة حين رأى انعكاس صورتها أمامه.
كانت متكئة على الفراش بإغراء، واضعة قدمها العارية فوق الأخرى، تطالعه بجرأة قادرة على إغواء قديس.
تمعن النظر في صورتها لحظات، شعرت خلالها بقرب استجابته لها، قبل أن يلتف بجسده نحوها بهدوء يُحسد عليه، ضاربًا بأملها عرض الحائط قائلاً:
ـ إيه اللي جابك يا هالة على أوضتي؟
صدمها بسؤاله الفظ، فاعتدلت جالسة أمامه بضيق تلومه:
ـ إيه اللي جابك على أوضتي؟! دا برضو سؤال تسأله لمرتك وانت شايفها بالهيئة دي؟... جاية أسألك على سعر الطماطم في السوق يا سيدي!
قالت الأخيرة بسخرية لم يكترث لها، بل التفت عائدًا إلى المرآة يصفف شعره بتجاهل متعمد. أجبرها ذلك على ترك مكانها فوق التخت بانفعال، لتلفه إليها هاتفة:
ـ في إيه يا خليفة؟ ما تبصلي زين وتشوفني! دا كله ما يخلكش تاخد بالك؟
أشارت بسبابتها نحوها في الأخيرة، حتي تجعله يشملها بنظراته على كامل جسدها. فرد ببرودٍ متصنَّع، رغم تأثره بالفعل، فهو بالنهاية رجل. لكنها لم تفهم بعد أن عزة نفسه جعلت حتى جمالها في نظره بلا قيمة:
ـ وافرضي خدت بالي يا هالة، إيه المطلوب مني؟
عند سماعها الأخيرة، انتفضت تضربه بقبضتها على صدره العاري:
ـ ودي عايزة نباهة؟ ولا الست تقولها بلسانها؟ جرالك إيه يا خليفة؟ من إمتى كنت قليل ذوق وعديم نظر كده؟ ولا أبوس على يدك أحسن يا حبيبي عشان تحن وتعطف عليا؟
توقف لحظات أمام شراستها وعدم تقبّلها ما اعتبرته إهانة، لأنه لم يقدّر تضحيتها، ولم يخر راكعًا أمام حسنها. هذه هي هالة ابنة عمه، التي لن تتغير أبدًا.
بجمود واضح نزع يده عنها، رافضًا حتى لمستها. عندها استشعرت خطأ اندفاعها وانفعالها، فعادت تلطف قائلة:
ـ أنا مقصديش أتعصب عليك، أنا بس زعلت من عدم تقديرك. أكتر من شهر دلوك يا خليفة وانت بعيد عني من ساعة ما رجعتلك بنفسي. كل ما أقرب منك تبعد وتنفر، وكأني جَرِبة خايف لا تضرك! لا يا خليفة... أنا مرتك وعايزاك، وانت كمان عايزني...
ـ معدتش يا هالة.
صدرت منه سريعًا، مقاطعًا لها، ثم أردف بصدق ما ترسّخ داخله:
ـ معدتش عايزك يا هالة. ودا شعور نمي جوايا مع الوقت. كل لحظة جفا أو تجاهل منك كانت بتكبر الشيء دا جوايا، لحد ما بقيت خلاص... مش فارق معايا أصلًا.
نصل كلماته الجارحة أصاب كرامتها التي تأبى التفكير في غيرها. لم يعنيها السبب الذي يتحدث عنه، يعنيها فقط أنه رفضها... للمرة التي لا تعلم عددها.
أصبحت هي من تترجاه الآن... وهو يرفضها!
انتفضت تلملم مئزرها، لتلقي باللوم عليه، وتحمله ذنب ما يحدث بينهما من شقاق:
ـ براحتك يا خليفة. بس خليك فاكر إني أنا اللي عمالة أقدّم وبس، وانت اللي رافض. أنا بعمل اللي عليّا عشان العيال، وانت اللي جاصد الفرقة. طالعة وسيبالك الأوضة... اشبع فيها بوحدتك يا خليفة. عن إذنك.
بصقت كلماتها الأخيرة وغادرت أمامه بخطوات سريعة، بأنفة وغرور، رافضة أن يراها ضعيفة أو مهزوزة.
أما هو، فقد توقف في أثرها برهة بتفكير متعمق في تلك المعضلة التي باتت تؤرقه. لا هو قادر على تركها من أجل الأطفال، ولا قادر على التجاوز والتغاضي كما كان يضغط على نفسه سابقًا. زفر فجأة، قاطعًا صمته، وتحرك سريعًا للخروج من المنزل، قبل أن يصاب بالاختناق.
أما هي دلفت إلى غرفتها تصفق الباب بعنف، تزفر أنفاسًا حارقة، لا تصدّق هذا الصلف والتعنّت الغريب منه. لم يكن أبدًا بهذه القسوة، فكيف وصل إلى تلك المرحلة وهي بعيدة عنه؟ أَيُعقَل أن امرأة مثل البلهاء "اعتماد" قد احتلت ولو جزءًا صغيرًا من عقله؟
تبا! وإن حدث حتى، فهي في كل الأحوال لن تتركه يبتعد أو تترك هذا المنزل لأحد غيرها، حتى لو اضطرت أن تجبره.
سحبت شهيقًا طويلًا وأخرجته، ثم خرجت إلى شرفتها لتتنفس هواءً نقيًا وتنظّم أفكارها. ويا ليتها ما فعلت، إذ اشتعل رأسها مرة أخرى مع سماع الضحكات التي كانت تأتي من الأسفل؛ حيث تلك الملعونة التي حلّت عليها بالخراب منذ أن ظهرت، وابن عمها المغرور سبب بلائها هو الآخر، وقد اتخذا جلستهما عند حسنية على أرض شرفتها، في جلسة سمر تحت ضوء القمر مع انقطاع الكهرباء، برفقة المتمرّد وزوجته الصغيرة الملعونة هي الأخرى.
ــــــــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــــــــ
في الأسفل
كان الوضع كالآتي: حسنية مربّعة قدميها على السجادة التي فُرشت أرضًا، وعلى حجرها رأس ريان الذي غفا في نوم عميق من أثر تلاعب أناملها ببصيلات شعره، أثناء اندماجها في سرد الحكايات القديمة أمام ابنها الأكبر، الذي ترك جلسة كبار العائلة حتى لا يحرَم نفسه من لحظات الدفء النادرة تلك، بمشاركة زوجته العزيزة.
أما ليلى، فكانت مستندة بظهرها على ذراع زوجها الذي كان يضمها به، والذراع الآخر يأكل به من طبق المسليات، يطالب والدته بالمزيد من سردها عن والده الراحل:
ـ كمّلي يا حسنية، حمادة الخلبوص عمل معاكي إيه تاني؟ اتاري عِرق الجَنان فينا وراثة منه، مش جايبنه من برّا!
ضحكت والدته تؤيده:
ـ أيوة يا ناصح، وعشان كده أنا مباخدش على حد فيكم… بس أبوكم برضو كان أكتر. دا كان فاضحني وسط البنتة بوجفته ليا في الرايحة والجاية. أروح أعبّي الميّه من الطلمبة ألاقيه ورايا عايز يشيلني الجردل فوق راسي. أشيل الطحين، يقف في نص السكة عايز يشيل عني القُفّة جال، ويروح بيها الطاحونة.
توقفت ضاحكة بصخب لتردف:
ـ وأنا كل مرة أشتكي لأمي، وأقولها لِمّي عني ابن أختك قليل الأدب، تقولي: يا بتي دا كاتب كتابه عليكي. أقولها: أبدااا ولا أعرفه! هو كان عملي فرَح عشان يبقى جوزي؟… كنت صغيرة بت اتناشر سنة، مفهمش يعني إيه جواز ولا كلام فاضي. وهو كمان كان صغير زيي، يزيد عني خمس سنين.
ـ يعني كان عنده سبعتاشر؟
سألها حمزة بتخمين، فردّت هي بتشتّت تعيدهم للضحك مرة أخرى:
ـ والله ما أنا فاكرة يا ولدي، سبعتاشر ولا أنا اللي كنت تلاتاشر… بس هو كان أكبر مني بخمس سنين وخلاص، مخي دفتر أنا يعني؟
وحين هدأت ضحكاتهم، تحدث حمزة ببعض الجدية التي لا تخلو من مشاكسة، ناظرًا إلى زوجته بحب:
ـ المهم إنه كان واقع فيكي يا حسنية، حابّك من وانتِ عيلة صغيرة لحد ما السر الإلهي طلع منه، وهو مش شايف غيرك. دا كان يِبديكي على عياله يا ولية.
قهقهت المرأة، لتعلّق مزيونة هي الأخرى:
ـ أبويا كان كده برضو، طول اليوم عِراك مع أمي على أتفه الأسباب، لكن ساعة ما تمرض ولا تتعب، يبقى هاين عليه يمسك السما بإيديه. ولما ماتت، فضِل حزين عليها لحد ما حصلها. الله يرحمه، كان تعبيره أفعال بس، إنما الكلام مكانش يفهم فيه واصل.
تدخلت ليلى بعفويتها تردد ببؤس:
ـ الله يرحمه، كان نفسي يفضل عايش يا اما والعب معاه. مات من قبل ما أقوله "يا جد".
ـ يعني هي المشكلة في قولة "يا جد"؟ دا انتِ عقلك صغير، صح؟
قالها معاذ مناكفًا، لتسخر والدته:
ـ لا وانت اللي عاقل قوي يا واض! طب حد غيرك يقول الكلام ده.
ـ وه يا حسنييية!
تمتم معاذ متصنّعًا السخط، ليعقب حمزة، ممدّدًا ذراعيه في الهواء:
ـ لا، هو شكل جو السهاري مأثر معاه. أنا من رأيي كفاية كده، تطلعوا فوق، ليلى تكمّل مذاكرتها، وإحنا نروح على بيتنا. صحي الواد ده من على حجرك يا أمه.
جاء الاعتراض من مزيونة:
ـ الساعة لسه ماجتش تسعة يا حمزة. هنروح من دلوك في الدنيا الضلمة؟ الله أعلم إمتى المحول يتصلّح وتشتغل الكهربا.
تحدثت ببراءة فلم تعِ مقصد زوجها إلا متأخرًا، حين وجّه إليها نظرة ذات مغزى، ضاغطًا على شفته بغيظ منها:
ـ بس أنا تعبان ومهدود، عايز ألحق سريري وأفرد جسمي عليه. ينفع يا ست البرنسيسة ولا مينفعش؟
أومأت تهز رأسها بابتسامة مكتومة:
ـ ينفع طبعًا، مينفعش ليه يعني؟ هاتي ريان أشيله يا عمتي.
ـ لا يا بتي، سيبيه نايم، خليه يبيت عندي الليلة. بدل ما يتخض لما تصحوه.
ما كادت أن تنطقها حسنية حتى تهلل وجه حمزة بمرح تام يوافقها:
ـ عندك حق يا امه، هو ممكن فعلا يتخض والدنيا ضلمة. ياللا بينا يا مزيونة، قوم يا معاذ وقومي يا ليلى خلّيها تكمل مذاكرتها. دي امتحاناتها خلاص باقي عليها أقل من شهر.
ـ وأنا امتحاناتي الأسبوع الجاي.
صرحت بها مزيونة بعفوية، قبل أن يجفلها زوجها بنبرة فهمت مقصدها:
ـ دلوك لما نروح، هراجعلك. ما تشغليش نفسك خالص.
ورغم أن الكلمات عادية ولا تلمّح لشيء، إلا أنها خجلت، لعلمها جيدًا ما وراء "مراجعته" المريبة.
فصمتت مجبرة على اتباعه، وقد بدت السعادة تنير وجهه في الظلام، والحماس بداخله يدفعه أن يركض ممسكًا بيدها. لكن ما إن همّ بالانصراف بعد أن استأذن والدته، حتى اعتدل ريان بجذعه جالسًا، يتحدث بنعاس:
ـ لا يا أبوي، أنا صحيت… وعايز أروح معاكم.
رمقه حمزة بعدم تصديق، مرددًا:
ـ تقوم فين يا حيوان وانت نايم على نفسك؟ إمتى لحقت تصحى أصلًا؟
لم يرد، بل رسم البراءة بملامحه الجميلة صامتًا، ليدفع مزيونة لترك يد زوجها والتوجّه إليه بحنو:
ـ تعال يا حبيبي، أسندك أنا… ولا أشيلك أحسن؟
ـ تشيلي راجل كبير؟ بطّلي برود يا مزيونة أحسنلك!
هتف بها حمزة بضيق أثار تسلية شقيقه معاذ، الذي كان ينهض بزوجته هو الآخر، ليشاكسه بمكر وكأنه قرأ ما برأسه:
ـ شيله انت يا حمزة، مش ولدك؟
ـ اتلم يا معاذ انت كمان، أنا مش ناقصك.
صاح به بأعين تلونت بالاحمرار، لتسارع مزيونة بالتلطيف كعادتها في مهادنة هذا "الطفل الكبير":
ـ ريان بطل، وهيكمل معايا الخطوتين دول لحد العربية عشان ينام على فرشته. مش هيلحق يسهر أصلًا.
عبس لها وكأنه لا يصدق حيلتها، يتابعها تتحرك ببطء شديد وهي تخطو بصغيره الذي كان بالفعل يسير نائمًا، لينهي بغيظ:
ـ أما نشوف…
ــــــــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــــــــ
في مكانه المعهود، وحين يضيق صدره حدّ الاختناق، يأتي إلى هنا؛ حيث البراح والهدوء، وظلام لا ينيره سوى نجوم السماء من فوقه، والأرض الرطبة أسفله، لا يفصله عنها سوى سجادة من الصوف. كان مستلقيًا عليها، ناظرًا إلى الأعلى بشرود، يفكر فيما آلت إليه أحواله، والحيرة في اتخاذ قرار مناسب لا يضر بمصلحة أولاده.
لقد باتت الحياة لا تُحتمل مع تلك المرأة التي تتفنن هذه الأيام بكل الطرق لاستعادته، بعد أن قطعت بيدها كل حبال الود. ها هي أخيرًا تفِيق إليه، بعد أن أجهضت كل محاولاته السابقة للتقرب منها والتجاوز عن أخطائها في حقه، كرجل يريد أن يرى نفسه في عيون امرأته.
حتى وإن كان قلبه، الذي لا يملكه، متعلّقًا بغيرها، يعلم الله أنه حاول بكافة السبل، حتى وعلى غير إرادته أحيانًا، ولكنها لم ترَه قط.
النسمات العليلة التي كانت تهب تارة من جهة النيل، وتارة من المزروعات التي تحيطه، هبّت فجأة نسمة لطيفة جعلته يغمض عينيه باستمتاع شديد، وكأنها تغسل همومه من الداخل. ليفتح أجفانه على اتساعهما حين وصل إلى مسامعه الصوت الذي اشتاقه:
ـ اعتماد...
تمتم باسمها، ينتفض بجذعه معتدلاً، ناظرًا إلى الأمام في اتجاه الطريق الفاصل بين الزرع، لكنه لم يجد شيئًا.
أيعقل أنه كان يهذي؟ لقد سمعها واضحة وهي تشكر أحدهم! أم أنها جنية البحر تتلاعب به؟
ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...
تعوّذ وهو يفرك بكفه على صدره بقلق، كي يمحو الفكرة من عقله ولا يعطي فرصة للأوهام أن تتلاعب به. أقنع نفسه بذلك وكاد أن يعود إلى استلقائه، حتى انتبهت كافة حواسه، وقد أبصرها بالفعل عن قرب.
اللعنة! يبدو أن الجنية تتلاعب به حقًا. لقد كانت تسير أمامه آتية من جهة النيل، بهيئتها المحتشمة، تضم حقيبتها إلى صدرها بخطوات سريعة لا ترى بها أمامها، حتى كادت تقع أرضًا حين تعثرت بجذع شجرة لم تكن تنتبه له.
ـ وه! دي كانها هتتكفلت على وشها بمشيتها السريعة دي.
غمغم، وقد تأكد الآن من حقيقتها، فنهض على الفور تاركًا فراشه كي يلحق بها.
وبخطوات سريعة خرج من المربع الذي كان يستلقي فيه، حتى وطئت قدماه الأرض الصلبة للجزء الذي يبدأ من النيل وينتهي بالطريق الذي يتوسّط المزروعات.
هناك وجدها أمامه مباشرة، على وشك الخروج من ذلك الجزء المقبض كما يظن معظم أهل البلدة، لكنها تجمّدت في مكانها حين أجفلت بثعلب صغير يمر أمامها بسرعة خاطفة كالبَرق، ليختفي داخل أحد أحواض القصب.
تيقن أن الخوف هو من فعل بها ذلك، ورأى الفزع قد لوّن وجهها، وفمها المفتوح بعجز. عندها خرج صوته يخاطبها:
ـ اعتماااد...
وبردّ فعل غير متوقع، ما إن وصل نداؤه إلى مسامعها حتى التفتت برأسها نحوه بصرخة كانت محتجزة بحلقها في إنتظار الخروج.
فصاح بها بحزمٍ مطلوب في تلك الأوقات:
ـ صلّ على النبي! أنا خليفة يا اعتماد، مش عفريت يعني.
كان لصيحته أثر واضح في إخماد روعها، فتوقفت عن الصراخ بعد أن أكد لها هويته، لكن جسدها لم يتوقف عن الارتجاف. تكمم بيدها على فمها تحاول السيطرة على رجفتها، مغمضة عينيها براحة نسبية، فواصل هو يزيد من بث الإطمئنان بها، وقدميه تقترب منها ببطء وتروٍّ:
ـ سامحيني لو خضيتك، مع إن شكلك اتخلعتي من "الحصين" مش مني.
بدأت تستعيد توازنها شيئًا فشيئًا، لتفتح عينيها وتجيب بإقرار:
ـ دا حقيقي، لما طلع فجأة جدّامي واختفى والدنيا كحل أصلًا، حسّيت رجلي اتشلّت في مكانها... وكملتها انت لما ندهت عليّ.
كاد يبتسم وهو يرى منها ذلك الجزء الطبيعي من المرأة التي تخاف، بعيدًا عن ادعاء القوة الزائفة. فسخر مشاكسًا:
ـ يعني كل الرعب دا عشان "الحصين"؟! دا جبان، وهو اللي بيخاف ويجري من جدّامنا.
ردّت تقارعه بابتسامة باهتة:
ـ وعشان جبان ماخافش منه؟ بالعكس! الجبان مفروض أكتر واحد بتعمل حسابه، لأنه بيهجم في الضلمة، والنور عمره ما كان سكّته. دا حتى اسمه في اللغة العربية "الثعلب المكار".
أومأ موافقًا، رغم انشغاله بالمغزى خلف كلماتها. كان لديه إحساس متعاظم بأنها تقصد البشر والحيوان معًا. فتغاضى وسألها بفضول:
ـ طب إيه اللي معدّيك دلوك في الدنيا الضلمة هنا؟ دي الساعة داخلة على تسعة، والعشا أُذّن من بدري.
ـ ما أنا محسّتش بالوقت، كنت في حصة برّا البلد مع طالبة بدرسّلها جديد. قلت آخدها بالمركب على النيل، أقرب من المواصلات والمسافة الطويلة على الجسر...
توقفت فجأة عن استرسالها، لتعارضه بعصبية:
ـ صح، اتأخرت لحد العشا ولا بعده! بتسألني ليه وانت طالعلي زي العفريت من وسط الزرع؟ بتعمل إيه في الدنيا الخلا دي؟
رغم اندهاشه من عفويتها في السؤال وانفعالها عليه، إلا أن شيئًا ما أدخل في قلبه مرحًا، فأجاب دون تردد:
ـ أنا مكنتش معدّي صدفة ولا طالع من وسط الزرع.
ثم أشار لها بذقنه مردفًا:
ـ الفرشة الصوف دي، أنا كنت راقد عليها. دا مكاني المفضل لما بكون مضايق ولا متعصب.
شرعت تسأله عن سبب ضيقه، لكنها سرعان ما استدركت قبل أن تخطئ وتفعلها وقالت:
ـ آه فهمتك... مع إنّي مستغربة برضه... أسيبك بقى في عزلتك... وأكمّل طريقي وامشي.
ـ هتكمّلي إزاي والدنيا ضلمة؟
سألها فور أن بدأت تتحرك، لتعود إليه بعينيها تستفسر، فأوضح:
ـ قصدي إن النور قاطع في البلد كلها، عشان عطل في محول الكهربا الغربي. لو عندِك الجرأة كمّلي لحد ما توصلي... بس خلي بالك، الحصين ممكن يطلعلك تاني، ومش بعيد يجيب معاه الديب كمان.
ـ يا مُرّي! حصين تاني وديب كمان؟!
هتفت بها بهلع، فواصل هو بتسلية وقد رأى الرعب يحتل قسماتها، وأنفاسها أصبحت مضطربة:
ـ أيوة... ديب وورنة كمان! صيد الليل، إنتِ عارفاه عاد.
ثم أضاف بعرض جاد:
ـ أنا بعرض عليكي يا بت الناس: يا تستني هنا معايا لحد ما ييجي النور... يا إمّا أوصلك بنفسي لحد بيتكم. شوفي تختاري إيه بقى؟
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
انتهيا مبكرًا هذه الليلة، ليتاركا القهوة الموبوءة دون أن يُكملا ملء رأسيهما بالكحول والمواد المخدّرة، بعد أن وصلت معلومة غير مؤكدة بمرور دورية من الشرطة على البلاد المجاورة. الأمر الذي جعل صاحبها يصرِّف زبائنه اليوم، مؤجِّلًا العمل حتى تهدأ الأحوال.
كان عرفان متجهِّم الوجه، غاضبًا، بينما عطوة يدفع الحجارة بقدمه أثناء سيرهما، مستغلًا خفّته في اللعب بالطريق المظلم، وقد اختفى معظم أهل البلدة داخل منازلهم مُبكِّرًا.
ـ فك يا عم عرفان، النهاردة عروسة مقبلتش، بكرا تلاقي غيرها.
زفر الأخير وهو يتابعه يقفز بخفّة على أحد الأحجار كأنه يلعب كرة قدم حقيقية، قائلًا بغيظ:
ـ ومضايقش كيف يعني؟ دي العروسة التالتة اللي أروحلها وتقول لاه، حتى لو أهاليهم موافقين! بنتة مضاريب دم، والله ما ليهم غير اللي يشكمهم.
جلجلت ضحكة صاخبة من عطوة، ساخرًا من منطقه:
ـ يا حبيبي، إذا كان أهاليهم مقدرينش عليهم، هتشكُمهم إنت؟ بس برضك معاهم عذرهم، إنت بتروح لبنات صغيرة جوي يا عرفان، والزمن دلوك اتغيَّر، مبقاش زي الأول.
دافع الآخر بانفعال:
ـ ما هما واقعين وأهاليهم واقعة زيهم! لا أنا بروح لأي واحدة وخلاص. دا بدل ما يبوسوا إيديهم وش وضهر إنهم لقوا العريس اللي يشيل من غير جهاز ولا عفش! دا أنا بطلب الواحدة بشنطة هدومها وأعرض مهر غالي، لكن أعملهم إيه بجي؟ بنتة فقر زي أهاليهم.
واصل عطوة ضحكه بيأس من تفكير هذا الأحمق بعقل الثور الذي يملكه، وكأن الزمن لم يمر عليه، يظن أن الحظ سيُسعفه مرة أخرى بتكرار التجربة مع فتيات جميلات صغيرات مثل "مزيونة الحرة".
ليتنهد عند خاطرة الأخيرة ووجعه، دافعًا الحجر الذي وجده أمامه بقوة، حتى وصله صوت صرخة أنثوية مصحوبة بسباب وقح وشتائم بذيئة:
ـ يا ولاد الـ... يا... يا حمير يا حيوانات!
أجفل عطوة وتوقف في مكانه مع عرفان، والخوف قد احتل قلوبهما أن يتطور الأمر، ويأتي رجال من طرف تلك المرأة التي أصابها الحجر دون قصد، وفي ذلك الظلام بالكاد تظهر الرؤية أمامها.
قال عرفان بقلق:
ـ يا وجعة مربربة، إنت جدحت الطوبة على مين يا حزين؟ يا خوفي لا يقع فيها جتيل الليلة دي!
عبر بها عن مخاوفه ليضاعف من جزع الآخر، والذي فهم أنه المقصود، فعزم أمره داخله أن يضع طرف جلبابه بين أسنانه ويركض هاربًا قبل أن يلمحه أحد، مضحيًا بعرفان كي تتلبسه التهمة وينال العقاب عنه. وما أن همّ برفع الجلباب حتى فوجئ بامرأة بيضاء كضوء القمر تُضيء الظلمة، تظهر من وسط الظلام، موجهة حديثها إليهما:
ـ مين فيكم يا انطاع اللي شوَّح الطوبة عليا؟ رد يا بقف إنت وهو! خرستوا ولا القطة كلت لسانكم؟
وكأن القِط قد أكل ألسنتهما حقًا، فتجمَّدا في مكانهما كتمثالين من لحم ودم، أمام المرأة التي تسب وتشتم بجرأة تفوق الحد، إلى جانب حسنها الفاتن ومظهرها المختلف عن باقي نساء البلدة. فقد كانت ترتدي فستانًا زاهيًا بفتحة من الأمام تُظهر بياض بشرتها، تحت طرحة سوداء خفيفة لا تستر شيئًا، فتجمَّدت أبصارهما عليها بنظرات حمقاء، وفاهان مفتوحان، مما زاد من غضبها ودفعها لمزيد من السباب والشتائم.
استفاق عرفان من شروده بها، ليتحدث أخيرًا ويرد عليها:
ـ باه باه باه، ما براحة يا ست وخفّي علينا شوية. صاحبي طوّح الحجر برجليه من غير ما يقصدك ولا يشوفك أصلًا. الدنيا ضلمة زي ما إنتِ شايفة، والطريق هنا مقطوع، وإنتِ اللي ظهرِت فجأة.
ـ ولا كنك جنية البحر ولا "النداهة" اللي بيقولوا عليها! الحلوة اللي بتظهر للرجالة فجأة قبل ما تاخد روحهم.
قال عطوة مضيفًا على دفاع صديقه بإطراء مبالغ فيه أثَّر بها، فضحكت بمزاج تبدّل فجأة من النقيض إلى النقيض، قائلة:
ـ أنا ممكن فعلًا كنت خدت روحكم، بس بعد اللي جولتوه مضطرة أعذركم. لكن برضه الضربة كانت واعرة وغاظتني.
ـ هي جاتك فين؟
سألها عرفان بإستفسار، ليصعق بالإجابة التي فهم مغزاها، حين التفتت بنصف التفاتة قائلة:
ـ ربنا ستر ومجاتش في الضهر، لكن القعدة! هقعد عليها كيف دلوك؟
خرج صوت يشبه الشهقة من حلق عطوة قبل أن يكتم فمه بكفه، أما عرفان، والذي أعجبه الأمر، رد معتذرًا بمبالغة:
ـ ألف بعد الشر عليكي، سلامة الـ... ألف سلامة عليها. تحبي نراضيكي بإيه؟ نروح معاكي عن الدكتور نكشف عليها؟
وعلى عكس ما يبتغي، رمقته بازدراء ساخرة من عرضه الأخير:
ـ لا يا خويا، كتر خيرك، مش عايزة من خلقتك حاجة! قال تكشف عليها قال... يا سم!
بصقت كلماتها الأخيرة وتحركت مبتعدة، فتوقفا يطالعانها حتى وصلت إلى نصب الخيام قرب المصرف. هناك فقط تبددت دهشتهما وحلّ محلها الاستدراك بهوية المرأة الجميلة قليلة الحياء.
فعبّر عرفان عن سعادته قائلًا:
ـ يسلم يمينك يا عطوة! شكلي هجَدملك في فريق كورة تطلع مواهبك الحلوة دي. رغم سنك اللي كسر التلاتين، بس والله تستاهل! إيه الحريم الزينة دي؟ بتنور في الضلمة يا راجل؟
رد عطوة باستهزاء وقد انتابه العكس:
ـ ولو بدر البدور حتى! إنت مخدتش بالك هي دخلت فين؟ دول غجر يا عم الحج، في كل بلد يومين. يبقى حلاوتها إيه فايدتها؟ هم يا عم خلينا نروح بيتنا بلا عطلة فارغة...
وتحرك يسبقه، فتمتم عرفان وهو يلحقه، وما زالت عيناه منصبة على الخيمة التي اختفت داخلها المرأة:
ـ بقى لهطة الجشطة دي إيه فايدتها؟ أخص عليك! أما لوح بصحيح... جال عطلة فارغة جال!
....................    
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
جلست على حجرٍ كبير بالقرب من النيل، تتابع المياه الصافية وهي تجري أمامها دون توقف. يتسلَّل إلى داخلها شيءٌ من الارتياح، رغم الخوف من القادم، بعد أن أجبرها الظرف الغريب على الاختيار: إمّا السير ليلًا بصحبته وسط الظلام الذي يُحاوطهما من كل جانب، أو الانتظار في مكانها حتى يأتي الفرج. وقد اختارت الأخيرة.
ـ الشاي.
أفاقها من شرودها لتجد كفه ممتدة بالكوب الساخن أمامها. كادت أن تعتذر، لكنه كان الأسبق في خمد اعتراضها:
ـ امسكي يا اعتماد، دا معمول على الكانون. ريحته بس هتظبط دماغك من التفكير والصداع. امسكي بقى من يدي… امسكي.
اضطرت أن تستجيب إليه، فتناولت منه الشاي ذي الرائحة المميزة بحق، لترتشف رشفة واحدة شعرت أنها تفعل برأسها الأفاعيل من روعتها. فعلق هو منتبهًا لحالتها:
ـ دي ميزة الشاي اللي يتعمل على الكانون. سبحان الله… ما دوقت أجمل منه.
أومأت موافقة، عائدة إلى صمتها في ارتشاف الباقي، الأمر الذي استفزه ليقول:
ـ في إيه؟ أنا حاسس إني بكلم واحدة غير اعتماد اللي أعرفها! لسانك راح فين؟ فين كلامك الدبش؟
ردت بابتسامة لم تصل لعينيها:
ـ يعني هي المشكلة في اللسان الطويل ولا الكلام الدبش؟ موجودين والله… هو بس اللي خف المعافرة والنفس الطويل… عشان تعبت. معدش عندي خلق للمعارك اللي بخسر فيها دايمًا.
عارضها بعدم اقتناع:
ـ خسرتي في إيه بالظبط؟ اعتماد… هو إنتِ مخبية عني حاجة؟
ـ حاجة إيه؟ إنت ليه بتسألني أساسًا؟
ردت بحالة من القلق زادت من شكوكه، فقال:
ـ العجيب إني شايف في عينيكي خوف يا اعتماد. ولو هنقول دلوك عشان الظرف اللي إحنا فيه، طب باقي المرات اللي فاتت؟ من ساعة ما قطعتي رجلك من البيت؟ إنتي حد جالك حاجة زعلتك؟
انتفضت من مكانها رافضة الرد أو الاستجابة لاستدراجه لها:
ـ حاجة إيه ولا كلام فاضي إيه؟ أنا عايزة أروح.
ضاقت عيناه مخالفًا لها:
ـ دلوك عايزة تروحي؟ إنتِ ناسية إنك اخترتي الانتظار لحد ما ييجي النور؟… اجعدي يا اعتماد. أنا متصل جدامك، والعامل في الكهربا بلغني إنهم مش هيتأخروا عن حداشر.
اطمّني… مش هسألك تاني ولا أزيد عليكي.
اضطرت مرة أخرى للامتثال، فلا توجد خيارات أخرى أمامها. وبعد أن صمت هو، جالسًا بظهره نحوها، وعينيه على النيل مباشرة، أخذت هي فرصتها في تأمل المربع الذي يتخذه مقرًّا للعزلة. جزء محاط بالطوب الأبيض لا بدّ أنه يملكه، مزروع بالنجيل البري، وفوقه سجادة من الصوف، وبالقرب منه الموقد الطيني الذي صنع عليه الشاي، والذي يوجد عليه الآن كوزان كبيران من الذرة للشواء علي الجمر كما ترى.
ـ تحبي أجيبلك واحد منهم؟
ـ هاا...
صدرت منها دون تركيز قبل أن تتدارك نظراته الموجهة نحو الجهة التي كانت تحدق فيها. وبدون انتظار، تحرك سريعًا ليتناول واحدًا من غير الموجودَين على النار، ويعطيها إياه:
ـ خدي… دا مشوي وجاهز.
همّت أن ترفض:
ـ لااا… أنا مش عايزة...
ـ خدي يا اعتماد!
صاح بها بحزم وصرامة حتى أجبرها على تناوله، ثم تابع بتسلية لطاعتها المفاجئة له:
ـ كليه وهو ساخن، والنيل جدامك دلوك. صدقيني هتحلفي بطعمه العمر كله… كلي يا اعتماد.
أخفى ابتسامته بصعوبة حين تابعها تضعه في فمها على الفور خلف صياحه، تقضم منه بتأني وتلذذ لا يخفى عليه، فواصل يسألها:
ـ إيه رأيك؟
أجابت بعفوية صافية وكأنها نسيت صياحه بها:
ـ حلو جوي… يجنن.
ابتسامة جميلة بزغت على جانبي فمه، يردد خلفها:
ـ حلو جوي… ويجنن كمان. طب خلّصيه عشان أجيبلك واحد غيره.
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
خرجت من غرفة الصغير تدلك رقبتها وتحركها يمينا ويسارا بإجهاد، وقد ظلت معه حتى غفى بصعوبة بعد سردها لعدد من الحكايات المكررة في معظم الأحيان ولكنه لا يمل منها، 
 كادت أن تغفى بجواره من التعب، ولكن تخشى غضب حمزة الذي وجدته امامها الان، يعلو ملامحه الضيق لقضاءه فترة طويلة من الانتظار، 
ابتعلت رمقها ترسم ابتسامة مضطربة كي تبرر له:
ـ ااا معلش لو اتأخرت عليك، بس اصله كان خايف وانااا
ـ انتي إيه؟ انتي كتر خيرك اللي جعدتي جمبه اصلا.
فاجأها برأيه حتى مالت رأسها نحوه بعدم تصديق، قبل ان تتخذ مقعدها بالقرب منه قائلة بريبة:
ـ كتر خيري اللي جعدت جمبه؟...... متشكرين يا سيدي، اهم حاجة بس متكونش انت زعلت .
فاجأها للمرة الثانية:
ـ لا طبعا مزعلتش، هو انا عقلي صغير عشان اعند مع ولدي؟..... دا برضو كلام؟
قطبت حاجبيها بدهشة شديدة من تساهله، شاعره بأن الأمر خلفه شيئا ما :
ـ حمزة انت عايز مني حاجة صح؟ قول على طول بدل ما تسيبني في حيرتي كدة  
ارتسمت البراءة على ملامحه معارضا لها:
ـ انتي ليه محسساني ان انا صعب كدة، سيبك من الأوهام اللي في مخك وتعالي اراجعلك في كتاب العلوم، خلاص امتحاناتك على الابواب، لازم تبقي مجهزة عشان تجيبي مجموع كبير 
ـ وه..... انت بتتكلم جد يا حمزة؟ يعني هتراجعلي فعلا؟
بابتسامة لم تفهمها في البداية, اخرج الكتاب الذي 
تذاكر فيه دائما، قائلا لها:
ـ انا هسألك في اللي شرحتوا المرة اللي فاتت الاول ، عشان لو غلطي في سؤال
ـ ها هتعمل ايه؟
سألته بتوجس فضحك يطمأنها:
ـ لا متخافيش مش هعقابك، بالعكس كمان، دا انا هافهمك واخليكي تحفظيه، بس بشرط، هتفذي الطللب اللي اطلبه منك مهما كان.
توقفت أمام قولها قليلا بتفكير، لكن سرعان ما استدركت ما بعقله المنحرف لتهم بالنهوض من جواره رافضة:
ـ لا يا حمزة بلاها، انا اصلا اعتماد بتفهمني كل اللي عايزاه
امسك بذراعها يوقعها في حجره قبل ان تهرب منه يخاطبها بتهديد:
ـ يعني اعتماد احسن مني؟ ولا انتي هترفضي اللي اطلبه منك 
نفت بهز رأسها تهادن جنونه:
ـ لا طبعا هو انا اقدر؟ بس انت عقلك صغير شوية يا حمزة، المرة اللي فاتت في درس الجبر لعبت عليا لعبة زي كدة، وبعدها جبرتني البس لبس بتاع بنات المدارس لكنه كان حاجة مسخرة، المردي مضمنش هتشرط عليا بأيه؟ وانا بصراحة مفياش دماغ.
كاد أن يضحك من هيئتها والزعر الذي ارتسم على ملامحها، ليرق قلبه فيقبل جبهتها قبل ان يمر بشفتيه على باقي بشرتها:
ـ خلاص بلاها مراجعة وشروط من الأساس, انتي تاجي في حضني دلوك، ونأجل كله لبكرة، حتى عشان ريان يشجعك.
تحدثت بصوت بالكاد تجده، ولمساته المستمره في دغدغة حواسها تبعثر كيانها وتشتتها:
ـ طب... ما هو انا كمان..... مش عايزة اقصر في الامتحان يا حمزة، انا في الاخر برضك منازل.
رفعها اليه بحزم يعدل من وضعها بين ذراعيه قائلاً بكلمة تساوي الف عهد 
ـ عمرك ما هتجصري وحمزة في ضهرك، حتى لو منازل، ومدام قولتلك بكرة مفيهاش كلام، ودلوك خالينا في موضوعنا بقى
وقبل أن تفتح فاهاها بكلمة أخرى اغلف هو باب النقاش بطريقته، يبتلع جدالها في جوفه، لا يعطيها فرصة للاعتراض، يخمد مخاوفها في غمرته ودعمه لها، وكما أخبرها، لن تضيع أو تقصر مدام هو في ظهرها، ودعمه مستمر حتى يصل بها الى النقطة التي تحلم بها منذ الصغر . 
...يتبع

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا