رواية لأجلها امل نصر الفصل الواحد والاربعون 41 بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الواحد والاربعون 41 بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الواحد والاربعون 41 هى رواية من كتابة امل نصر رواية لأجلها امل نصر الفصل الواحد والاربعون 41 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لأجلها امل نصر الفصل الواحد والاربعون 41 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لأجلها امل نصر الفصل الواحد والاربعون 41

رواية لأجلها امل نصر بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الواحد والاربعون 41

الحقد نارٌ صامتة، لا تحرق سواك.
تُغذّيها أنانيّتك، وتظنّ أنّها سلاحك نحو الانتقام، بينما هي في الحقيقة قيودك الثقيلة.
القلوب التي امتلأت بالضغينة تذبل قبل أن ترى الربيع، والعقول التي أسكنتها "الأنا" تفقد نورها قبل أن تبلغ الحكمة.
فلا عدوّ أفتك بالإنسان من نفسه حين يسلّمها لظلمة الحقد، ولا قبر أضيق من قلب امتلأ أنانيةً حتى لم يعد يتّسع للنور.
المراجعة والخاطرة الروعة من المبدعة القمر/ سنا الفردوس ( بطوط)
الفصل الواحد والأربعون
داخل غرفة بالمركز الصحي التابع للقرية، كانت مستلقية على سريرها الطبي، وقد استرجعت أنفاسها شيئا فشيئا لتعود إلى طبيعتها تدريجيًا بعد أن تلقت الرعاية العاجلة من قِبل الأطباء والعاملين، والفضل يرجع إلى شقيقتها الصغرى التي تدبّرت الأمر ببراعة، حين هاتفت إسعاف القرية لتنقلها بسرعة إلى هذا المرفق الحيوي في البلدة.
كان التشخيص المبدئي هبوطًا حادًا في  ضغط الدم كاد أن يوقف قلبها في لحظة غادرة. والسبب؟ شقيقتها التي كانت أمامها الآن، تعبّر عن أسفها بصعوبة وثِقل، وكأنها مجبرة، أو لعلّه كبرياء نفسها التي ترفض الاعتراف بما ارتكبت من أخطاء.
ـ لو كنت أعرف إن ضغطك هيوطى أو إنك هتتعبي بالشكل ده، مكنتش اتكلمت معاكي من الأساس. بس شكلك كنت تعبانة أصلًا من الأول. على العموم... أنا آسفة.
أومأت اعتماد بضعف، تتقبل اعتذارها، رغم الجرح الغائر في قلبها، وتأكدها من عدم جدّية شقيقتها أو اقتناعها بالاعتذار، وإنما تفعل ذلك من باب حفظ ماء الوجه، إن تبقّى منه شيء.
أخرجها من شرودها المظلم رطوبة شفتين صغيرتين حطتا على جبهتها برقة متناهية. من شقيقتها الصغرى الحانية التي كانت بجوارها على الفراش، تضمها بذراعيها، تدعمها وتخفف عنها بصوت باكٍ، لتذكرها أن تضحياتها وتعبها لم تذهب سدى،
ـ سلامة الحلو من كل شر... أوعي تعمليها تاني يا اعتماد. أنا كنت هموت والله في اللحظة اللي قفلتي فيها خشمك، وانحاش فيها نفسك. كنت حاسة إني أنا اللي إنحاش نفسي، وروحي بتروح مني. والله ما حسيت إنها ردتلي غير بعد ما فتحتِ عينك وبصّيتي ليا. ربنا يجعل يومي قبل يومك يا خيتي يا غالية.
ربتت اعتماد على ذراعها بامتنان، توبخها بلطف حتى لا تعيد مثل هذا الدعاء:
ـ بس يا بت... متبقيش عبيطة وتدعي على نفسك تاني. لاحسن والله أزعل منك. وبلاش دموعك دي... ولا تكبّري الموضوع. شوية تعب وراحوا لوحديهم.
ـ لاه... لساهم ما راحوش. ولا ناسية إنك مازلت راقدة في المستشفى، وإبرة المحلول لسه في يدك؟ لازم تخلّي بالك من نفسك. وإحنا كمان واجبنا نحرص عليكي ومنزعّلكيش...
قالتها متوجهة بنظرها نحو شقيقتهما الثالثة روضة، التي التقطت التعقيب لتصب به حنقها بعد لحظات لم تحتملها في مراقبة المحبة الزائدة بين الاثنتين:
ـ خلاص يا ست المسهوكة... إنتي هتعمليها ليلة وتشعلليها بعد ما هديت؟ طب ماهي  ربنا خد بيدها، وأنا اعتذرت واتأسفت اها... عايزة إيه تاني؟
جاء رد رغد بهدوء ووداعة تستفزها:
ـ أنا قصدي نفسي معاكي يا روضة. إحنا الاتنين لازم نقدّر ومنزودش على تعب اعتماد. كفاية الضغوط اللي عليها... هنبقى إحنا والزمن عليها؟!
غمغمت روضة في داخلها بما لم تستطع أن تنطق به أمامهما:
ـ يا بوي... علي شغل المثالية اللي يفقع المرارة ويجيب مغص معوى.
ثم قالت بصوت عالٍ وهي تنهض مغادرة:
ـ أنا طالعة برا أشم هوا بالبت اللي نفسها اتكتم من ريحة المستشفى. عن إذنكم.
لكنها وقبل أن تغادر، فوجئت بمزيونة التي دخلت مسرعة بصحبة زوجها فور أن علمت ماحدث لها من شقيقتها عبر الاتصال الهاتفي.
ـ اعتماد حبيبتي... إيه اللي جرالك؟
قابلت اعتماد لهفتها بهدوء تطمئنها:
ـ حاجة بسيطة مش مستاهلة. إنتِ مين قالك بس؟
سارعت رغد بالرد، غير مبالية بنظرتها المحذرة:
ـ أنا اللي قلتلها... لما لقيتها بتتصل عشان تتطمن عليكي. عايزاني أقولها رايقة وزينة بالكذب؟
ـ لا لا... سمح الله، ودي تيجي؟
قالتها بشيء من السخرية التي التقطها حمزة، دالفًا خلف زوجته، ليعقّب:
ـ لا مدام بتقلشي وتهزري تبقى بخير وزينة. ونطمن عليكي. إيه اللي جرالك يا أبلة؟ ده العيال بتعملها على نفسها بشخطة واحدة منك... على رأي الواد ريان.
أضحكها مزاحه وأخرجها من الكآبة التي كانت تغلفها، فردت متسائلة:
ـ طيب وهو شاف فين العفريت ده؟ ومدرسته أصلا في المحافظة، برا البلد.
ـ بيسمع من صحابه اللي في البلد يا ستي.
قالتها مزيونة، لتستهجن اعتماد بمظلومية وقد اندمجت في الحديث معهما:
ـ آه يا أنى يا غلبانة... حتى الأطفال بيطلعوا عليا إشاعات يا ناس!
ضحك حمزة، ثم أردف:
ـ اللي يخوف أحسن من اللي مابيخوفش سيبك، الأهم خلينا في صحتك دلوك. إيه اللي حصل وخلاكي تتعبي كدة؟ إحنا موصلينك لحد باب البيت زينة وتمام.
ـ عادي... ضغطي وطي فجأة. أكيد إرهاق وتعب.
تفوهت بها اعتماد بكذب لم ينطلِ على الاثنين. فصمتت رغد، لكن ملامحها البريئة كانت أصدق من كلامها، كاشفة أن هناك أمرًا ما حدث...
ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ
وفي داخل المنزل الكبير، في الشرفة الشاسعة، ذلك المكان المميز لحسنية وجلستها المفضلة مع ولدها الهادئ المتعب، كانت تتباحث معه حول ما أخبرها به حمزة:
ـ طب أنا اللي عايزة أعرفه دلوك... التمثيلية دي هتفضل لحد إمتى؟
ـ تمثيلية؟!
ـ أيوة تمثيلية. أخوك مفهّمني كده وأنا على نار، مش عارفة راسي من رجلي. بت عمك قالبة الدنيا في بيت أبوها، وأمها اتصلت ومعرفتش أرد عليها وأقولها إيه.
ـ قوليها إنه خطب، صُح يا أمه؟ وما تنكسفيش من حاجة. يا إما سيبي الأمر ده عليا وأنا هعرف أتصرف معاهم.
تجمدت حسنية لعدد من اللحظات، تطالعه بمزيد من التشتت وقد زادها قوله حيرة:
ـ أسيب الأمر عليك إزاي يعني؟ ههتقولهم اللي قاله حمزة؟
ـ أوعي يا أمه! إيه اللي إنتِ بتقوليه ده؟ هي سمعة بنات الناس لعبة؟!
قاطعها ناهِيًا بحزم، لتخرج هذه المرة عن طورها الهادئ، وتطالبه بانفعال:
ـ واض... إنت جيب من الآخر! إيه اللي في دماغك بالظبط؟ ما تسيبنيش كده عايمة في مية البطيخ، أنا لازم أرسى على بر معاك.
وكان رده الصمت... لتمر عليهما لحظات تبادلا فيها حديث النظرات؛ بين أم تغوص في أغوار ابنها الذي تعرفه أكثر من أي شيء، وابن يعلم ذلك جيدًا ويمنحها المساحة كاملة حتى تستخرج الإجابة بنفسها... ووصلت الرسالة.
ـ جدة حسنية... خدي اربطيلي الحظاظة على يدي أصلها اتقطعت.
كان هذا صوت ريان الذي دلف مقاطعًا جلستهما، لتتلقاه حسنية بحنانها المعتاد ومشاكستها أيضًا:
ـ هات يا خايب هات... حظاظة ومسخرة! شغل عيال البندر الماسخ.
ـ ماسخ ليه؟ دي بلون علم بلدي لاففها على يدي. شوفتيني لابس أسورة بنتة؟
ضحكت حسنية بعد أن أفحمها بمنطقه، فيما ربت خليفة على ذراعه بفخر:
ـ جدع يا واض، عجبني ردك. بس مخليتش أبوك يربطها ليه؟ ولا خالتك مزيونة؟ أنا مش شايف حد فيهم أصلا.
أجابه ريان وهو مندمج فيما تفعله جدته وهي تحكم ربط الحظاظة على يده:
ـ الاتنين مجعدينش، راحوا يزوروا أبلة اعتماد أصلها عيّانة...
ـ بتقول مين يا واض؟
قاطعه خليفة بتساؤله، فارتفعت رأس حسنية نحوه لترى الخوف قد اعتلى ملامحه، بينما واصل ريان شرح المكالمة التي أجرتها خالته مزيونة وعرفت فيها عن تعب إعتماد المفاجئ.
ليجفلها فجأة، ناهضا عن جلسته مستأذنًا للانصراف، وكأنها أصبحت تخصه... لا، بل هي فعلًا أصبحت تخصه كما بدا لها الآن.
ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ
داخل الخيمة التي تُعد مسكنها أينما حطّت الرحال في أي بلد، كانت مضجعة بجسدها، متكئة على وسادة قطنية، والفراش الصوفي أسفلها. في المقابل جلست والدتها على فرشة صوف أخرى متربعة القدمين، تتحدث إليها باهتمام لتعرف ردها حول الموضوع الهام، أو لتقنعها إن لزم الأمر:
ـ يا بت، انطقي! ريّحي قلب أمك وخلينا نرسى على برّ مع الجدع اللي رايح جاي علينا بيتنشق على كلمة منك. مش عايزين نضيّع الفرصة من إيدينا.
قاطعتها نورة بانفعال تخرج عن صمتها:
ـ يا أختي اسم الله على الفرصة! أروح ضرة على مرة وعيال وتبقى فرصة؟!
جادلتها الأم بقوة:
ـ ومالهم المرة والعيال؟! مدام هتبقي إنتِ الست عليهم؟ والحال والمال هيبقوا في يدك! الراجل واقع فيكي من الدور العاشر، يبقى املكي وعبي كفوفك منه. هو إحنا كل يوم هيجلنا عريس كده يا بت؟ ما على يدك... إن كان عيال عمك ولا الرجالة اللي بيدوروا حواليكي. وكل ما نحط رجلينا في بلد، ما فيش واحد عدل اتقدم لحد دلوك!
زمت شفتيها بحنق شديد، تدرك تلك الحقيقة جيدًا وعن ظهر قلب، لتصحح بشرود:
ـ لا... فيهم اللي اتقدم يا أمه، بس مكملش ولا عرف يكمل المشوار ويتحدى أهله. مقدرش يتحمل ظروفنا ولا قدر حتى يواجه بيا الدنيا زي ما كان معشمني.
أخرجت المرأة تنهيدة مثقلة من صدرها وقد فهمت مقصدها، فغضنت ملامحها بضيق قائلة:
ـ طيب كويس يا أختي إنك فاكرة. الحب والعشق ده كلام ما يجيبش همّه، خصوصًا بقي مع ولاد الأصول اللي شايفينا أقل منيهم. إنتِ جربتي حظك مرة مع واحد من عيال عمك، في جوازة مجعدتش شهرين، وجربتي مع الغريب اللي عمل فيها الغضنفر اللي هيشيلك ويشيل ناسك، وفي الآخر طلع ورق ولا يسواش، وما قدر حتى يكتب كتابه عليكي. يبقى نبص للموجود دلوك. عرفان متجوز ومعاه عيال؟ يبقى تاخدي فرصتك عليه عشان يعوضك. هتتجلعي وتاخدي ما بدالك منه، يا إما ترميه من طول دراعك ويغور في داهية. بس بعد ما تعبي يدك منه وتشبعِي. هو أنا اللي هفهمك؟ دي إنتِ نورة!
تطلعت إليها بحيرة، تزن الكلمات بعقلها، تبحث عن حيلة تراوض بها الرفض داخلها. إنها حتى لا تحتمل الجلوس معه، فكيف ستصبح زوجة له وتعطيه حقوقه؟! كيف وشغفها يتجه في ناحية أخرى ليست منطقية إطلاقًا؟! ذلك الأبله الذي كلما قابلها تشاجر معها، ينظر إليها بازدراء وهو في الأصل لا يسوى شيئًا، يتفاخر بأصله وكأنها أقل منه... ورغم كل ذلك، تتوق دائمًا لرؤيته وخلق الحجج للقائه.
ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ
في أقل من عشر دقائق، وصلت السيارة أمام المبنى الذي تتواجد فيه، مقر المركز الصحي الذي يشمل بلدتهم وباقي القرى من حولها. صفّها في موقع مناسب قبل أن يترجل بخطواته السريعة نحو المدخل. وعلى حين غرة، أبصر بطرف عينه ذلك الشاب اللزج، زوج أختها، يقف مع زوجته المزعجة في أحد الأركان قرب السور، أسفل صف الأشجار.
غمغم في داخله ساخطًا على تلك الحمقاء التي بدت من هيئتها ووقفتها المستسلمة أمامه وكأنها توشك على إفساد الخطة والشروط التي وُضعت في جلسة الرجال، حتى تعود إليه مرفوعة الرأس، تعويضًا يرد حق شقيقته التي تنازلت عن حقها في حبس زوجها من أجلها ومن أجل الصغيرة ابنتها.
شتان بين واحدة بلهاء مثلها، وبين عزيزة النفس التي كان يسارع الآن بخطواته ليقصر المسافات ويطمئن عليها.
طرق على باب غرفتها المفتوح على مصراعيه، ليلفت أبصار الحاضرين معها، ثم دلف يلقي التحية، وعيناه ترسل نظرة عتب نحو شقيقه الذي جاء بزوجته دون أن يخبره بتعبها:
ـ مساء الخير.
ـ مساء النور.
جاء رد التحية منهم وأبرزهم كان حمزة، الذي تحمحم متلقِّيًا إياه بالمزاح أمام دهشة الآخرين:
ـ وه! دي البلد كلها شكلها عرفت بتعب الأبلة، منوَّر يا واض أبوي.
رمقه بنظرة خاطفة، رافعًا حاجبه بتحذير، قبل أن يتجه إليها مخاطبًا:
ـ سمعت من الدكتور إن سبب تعبك المفاجئ هو الزعل الشديد، مين اللي زعَّل الأبلة؟
شعرت بحرج شديد نتيجة السؤال الموجَّه إليها أمام الحاضرين، وقد تركز الانتباه نحوهما، فخرج ردها بصعوبة، محاولة الإنكار:
ـ عادي يعني... مفيش حاجة... الدكتور بيهوِّل.
ـ الدكتور بيهوِّل! صح الكلام دا يا رغد؟
تفاجأت الأخيرة من مخاطبته المباشرة لها، فتبسَّمت برد فعل عفوي، وقد بدا أنه يستخدم سلطته كخطيبٍ لشقيقتها حتى يحقق في سبب تعبها.
ـ لاا، بس قصْدها يعني...
قطع الحديث دخول "روضة" التي دلفت والأنظار معلَّقة بخليفة، الذي يزعم أنه خطيب تلك الراقدة على سريرها:
ـ ما شاء الله، الأوضة بقت مليانة مسالخير يا أستاذ خليفة.
التفت نحوها بملامح مبهمة يرد تحيتها أولًا:
ـ مساء الخير.
تقدمت أكثر حتى صارت أمامه، تسأله بفضولها:
ـ شكلك زعلان عشان جيت متأخر؟ معلش، لو أعرف نمرتك عاد كنت اتصلت عليك وبلغتك... بما إنك بقيت خطيب أختي...
ختمت تلقي بنظرة خاطفة نحو شقيقتها، التي امتقعت ملامحها من طريقتها غير اللائقة، حتى ودت أن تفحمها برد جاف يخرسها. لكن خليفة كان الأسبق:
ـ لا، اطمني، أنا مش زعلان ولا حاجة. إحنا لسه في البدايات، وطبيعي دا يحصل. على العموم، المرة الجاية لو اضطريت، هاخد رقم رغد، هتبقى أسهل في السؤال.
ـ رغدد...
خرج منها الاسم بنظرة ذات مغزى نحو "اعتماد"، التي فهمت قصدها الخبيث في جرحها وتذكيرها بحادثة زوجها السابق وأغراضه الدنيئة نحو المذكورة. فجاء التدخل من "مزيونة" التي كانت تتابع وتعي ما لا يعرفه خليفة، فردت لتخرسها بما خطر ببالها:
ـ أيوة يا رغد يا روضة، دي جلوعة العيلة زيها زي ليلى، هي تزيد عنها إيه غير سنة؟
قولها كان كافيًا جدًا لإفحام روضة، فتبتلع غيظها داخلها، أما خليفة فقد أسعده الرد. على عكس اعتماد التي زاغت عيناها بتشتت، وهي تراه يتعامل وكأنه أمر واقع!
استغل حمزة الفرصة، مضيفًا على قول زوجته ومثبتًا:
ـ صح والله، صدقتِ. بت يا رغد، من هنا ورايح أنا عمك زي خليفة بالظبط. أي حاجة عايزاها، تطلبيها مني متتأخريش.
أومأت رغد بعفوية، مبتسمة بامتنان. ليردف بعدها بأمر:
ـ وانا بقول كفاية كده، نقوم نسيبه معاها لحظة يمكن عايز يطمن عليها واحنا قاعدين.
ونهض يشير إلى زوجته وشقيقتيها لتفهما، أمام صدمة اعتماد التي فقدت النطق، تتابع انسحاب شقيقتيها مع مزيونة، واتخاذ خليفة مقعده بالقرب منها، وكأنه يعيش الدور حقًا. ليجفلها حمزة بكلمتين على عجالة قبل أن يتبعهم:
ـ متشليش هم هالة خالص، أنا اتصرّفت معاها، ومستحيل تقدر تقرّبلك لا انتِ ولا أخواتك.
قالها سريعًا وغادر دون أن يمنحها فرصة للاستفسار. فتعلقت أبصارها به حتى خرج من الغرفة، ثم استوعبت قصده، لتعود ببصرها نحو ذلك الجالس أمامها يراقبها بحنق جعلها تثور:
ـ على فكرة، أنا شايفة الموضوع كده زاد عن حده.
ـ موضوع إيه اللي زاد عن حده؟
تلعثمت قليلًا، تجيبه بارتباك:
ـ موضوع الخطوبة والكلام... الفاضي ده.
مط شفتيه بابتسامة جانبية جاهد لإخفائها:
ـ بس إحنا لازم نتصرف على أساس الوضع اللي اتحطينا فيه. وانتِ كمان لازم تخلي بالك، الباب المفتوح ده ممكن حد يدخل منه فجأة ويسمعك، تفتكري ساعتها هيقول علينا إيه؟
سألته بارتباك:
ـ إيه؟
ـ أنا اللي بسألك، عشان تفكري. وبالمناسبة عايز أنبهك، طليقك الزفت قاعد ضيف عند المحروس جوز أختك.
ـ يولعوا بجاز وسخ هما الاتنين.
انفعلت حتى أمسكت رأسها متأوهة بتعب:
ـ الله يخرب بيوتهم... هما الاتنين هيقصّروا بأجلي...
ـ بعد الشر.
وصلت إليها كهمهمة بالكاد تُسمع، قبل أن يستطرد بجدية:
ـ من غير ما تتعبي نفسك، هما الاتنين أصلًا ما يستاهلوش. لكن لازم الحرص مع جوز أندال زي دول، كل واحد فيهم همه مصلحته في الكلام والحديث لما يكبر. جوز أختك عايز يرجع مرته من غير ما يدفع مليم، وطليقك شكله كده فعلًا له غاية في إنه يرجعك.
ـ كله حَنش العفش دا كمان! هو أنا طايقة أبص في وشّه أصلًا؟
صدرت منها برد فعل عفوي، لتعود لنفسها تستغفر هامسة:
ـ أستغفر الله العظيم يا رب من كل ذنب عظيم... سيرته اصلا بتعصبني.
لم تَرَ ابتسامة أخرى حلت بزاويتي شفتيه، لملمها سريعًا ليعود بجدية:
ـ على العموم أنا كده اتطمنت بعد كلام الدكتور كمان. يلّا بقى، عشان أروحكم معايا في طريقي.
ـ تروح مين؟
ـ أروحك يا اعتماد، أوصلك لحد بيتك بعربيتي.
تطلعت إليه بعينين متسعتين، يموج فيهما الرفض والدهشة:
ـ توصلني بعربيتك إزاي يعني؟! مينفعش طبعًا. روح انت، متشغلش بالك. أنا هتصرف.
استهجن، مرددًا:
ـ ما اشغلش بالي كيف يعني؟ انتِ ناسية إن قدام الكل دلوك اسمي خطيبك؟ هتبقي أصول مني بقي لما أمشي  وأسيبك ترجعي في تاكسي علي بيتك من غيري. دي الناس تاكل وشي يا اعتماد.
حسنًا... لقد أزال حتى الألقاب! اللعنة، ما الذي يحدث معها؟ هي ليست معتادة على ذلك. كيف تجد صوتها أمام من يفرض عليها سلطة وهمية وكأنها صارت حقيقة؟
ـ يا أستاذ خليفة...
ـ أستاذ مين بس؟ في واحدة تقول لخطيبها يا أستاذ؟
قاطعها بها، ليقترب برأسه هامسًا وكأنه ينصحها:
ـ على فكرة، أختك روضة أول واحدة هتروح توصل لجوزها لو سمعتك بتكلّمينى بالرسمية دي. ودا ما هيصدّق، هيعمل منها حكاية فوق الحكاية.
رد فعلها كان جمودًا تامًا بفمٍ مفتوح، أهدابها وحدها تتحرك أمامه، وكأنها مصدومة أو غير مستوعبة لما يجري. فنهض فجأة، يحسم الجدال:
ـ أنا هروح أنده لرغد تيجي تساعدك وتسندك لحد العربية. أصلك مهتقبليش إني أسندك أنا طبعًا.
لم ترد، بل ظلت على حالها، تتبعه بأبصارها حتى خرج من الغرفة، وهي وكأنها في حالة من اللاوعي، لا تعرف حلا لهذا الوضع الغريب، ولا تدري ما الذي يصيبها في حضرته. تلفها حالة من الارتباك، ولا تجد القدرة على الرفض. فضربت بكف يدها على جبهتها، مرددة:
ـ يا مَرَي! هي مالها الدنيا بتلف بيا كده ليه؟ أنا كأني دوخت تاني... ودا اسمه إيه ده عشان أتعالّج منه بس يا ربي؟
ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ
داخل منزل عرفان، كان يتأنّق أمام المرآة، يبرم شاربه بين إصبعيه بإعجاب وزهو، يداعب خياله صور الجميلة التي ينتظر موافقتها على أحرّ من الجمر. لقد أغراها بالمال الذي يجعلها تخرّ وتنصاع إليه، سيرفعها من حياة الخيش والخيام إلى رفاهية لم تحلم بها في أقصي خيالها يومًا، ليعيش معها أيّامًا وليالي يعود فيها عشر سنوات للخلف. نورة الجميلة تستحق المال الذي يُدفع من أجلها.
في غمرة شروده، لم ينتبه لتلك التي كانت متكئة على إطار الباب، تراقبه منذ فترة بابتسامة ساخرة، وكأنها تقرأ ما يدور في رأسه. حتي كشفت نفسها بمصمصة من شفتيها وصلت إليه، ليلتفت إليها بضيق هادرًا:
ـ واجفة على الباب زي الغيمة وبتمصمصي بخشمك؟ مش عاجبك ولا اي يا بت الفرطوس؟
تنهدت وهي تضرب بكفها على ظهر الآخر قائلة بسخرية لاذعة:
ـ معلش يا جوزي الغالي، أصلي شوفت منظرك وانت بتتمرى خطف قلبي، مقدرتش أمنع نفسي وأنا بتفرج على الجمال والحلاوة. جلابية مكوية، والشال الصوف، والعطر التقيل اللي يزكم النفس من ريحته، ولا الجزمة الجديدة ولا العِمّة والشنب المبروم... دا انت ولا اكنك عريس يا راجل!
أمال برأسه نحوها بنبرة يفوح منها الكيد:
ـ طب ما أنا فعلًا عريس، وقريب جوي هتيجي اللي تنوّر الدار... عروسة إنما إيه! تنوّر في الضلمة من حلاها.
ـ واسمها نورة.
أضافت بها ببرود، تُظهر عدم الاكتراث، قبل أن تتابع:
ـ الغجرية اللي صيتها واصل لآخر البلد... رغم إنها لا رجاصة ولا حتى بتغني، بس حلاها وجَلَعها بيخلي الرجّالة تريل عليها منين ما تخطّي.
قبض على ساعدها فجأة، رافضًا كلماتها الأخيرة:
ـ نَقّي ألفاظك واحترمي نفسك... اللي بتتكلمي عليها دي هتبقى ستّك وتاج راسك.
ـ طبعًا... أمّال! ستّي وتاج راسي.
تركها فجأة، يتحرك بضيق بعد أن عكّرت مزاجه. طاعتها المستفَزّة كانت تشعره بالاختناق، وعدم الراحة، وكأن حيّة تطبق على أنفاسه.
لتعلّق هي في أثره بغل:
ـ اعمل على كيفك يا عرفان وقلّ جيمتك زي ما انت عايز، بس أنا مش هسكت ولا هسلّم وأرضى بالذل، حتى لو وصلت إني أدبحها وأبخت بدمها عتبة البيت.
ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ
توقفت السيارة أخيرًا أمام باب المنزل. ترجّلت مستندة على ذراع شقيقتها، بعد لحظات مرّت عليها كالدهر داخل السيارة التي يقودها برويّة، وعيناه تقتنصان بين الفينة والأخرى نظرات نحو المرأة الأمامية التي عدّلها علي وجهها وقد أستقلت المقعد الخلفي تتوسط شقيقتيها ، لا تعلم لما الإصرار على إثبات الخطوبة المزعومة حتى في أدق التفاصيل!
ـ ما تيجي تتفضل معانا يا أستاذ خليفة؟ إنت مش غريب.
توجّهت إليه روضة بالدعوة أثناء ترجلها بابنتها، فهَدَاها ابتسامة صفراء وهو يردّ:
ـ طبعًا مش غريب... بس ميصحّش والساعة عدّت تمانية. اعتماد هتصل بعد شوية أطمّن عليكي.
توقفت رغد، تجبرها على الالتفات إليه، تحدّق فيه وكأنه يخاطب امرأة أخرى بنفس الاسم.
ليعيد مؤكّدًا بنبرة مرحة:
ـ بقولك هتصل بيكي بعد شوية أطمّن عليكي... ولا استنّي، صحيح.
قطع كلامه وفتح باب السيارة الأمامي، يتناول منه شيئًا قدّمه لها:
ـ تليفونك... للأسف نسيتيه امبارح.
تطلعت إلى ما يقصد، فوجدت العلبة نفسها التي رفضتها منه من قبل بعدما عطّل لها اثنان. ما زال محتفظًا بها ليقدّمها لها الآن!
ـ طب امسكي عنها إنتِ يا رغد، يمكن تعبانة من شيلته كمان.
توجّه بها بمكر نحو الصغيرة، التي التقطته بلهفة وسعادة من أجل شقيقتها بهذا الهاتف باهظ الثمن من ماركة تعرفها جيدًا هي وكل جيلها. غافلة عن غضب صاحبة الشأن ورغبتها في الرفض.
ـ خُد تليفونك، أنا معايا واحد شرياه قريب.
نظر إليها وكأنها تقول شيئًا ينافي المنطق، قبل أن يتوجّه إلى شقيقتها:
ـ ما حدّ يفهّمها يا بنات... إيه دخل هديتي بتليفونها اللي شارياه جديد؟
ـ لا طبعًا، ملوش دخل.
هتفت بها روضة، لتخطف الهاتف من يد رغد تتأمله بانبهار متابعة:
ـ إنت خطيبها، والهدايا دي شيء عادي جدًا بين الخطّاب.
لوّح بكفّه وقد أغلق عليها باب الاعتراض:
ـ أهي قالتلك أها... تصبحي على خير يا اعتماد.
ـ وإنت من أهله.
تمتمت بها مرغمة، تجاري كذبه، ثم مضت مستندة على ذراع شقيقتها. فلم ترَ ابتسامته التي وسعت فمه وأنارت وجهه. من كان يصدّق أن تلك الشرسة سيأتي عليها وقت تصير فيه كالحمل الوديع، في لعبة غير مقصودة وجدت نفسها بداخلها؟
دلفت خلفه تُغلق باب المنزل بعد عودتهما من الخارج، في هذا اليوم المُثقَل بكل الأحداث التي جرت فيه. كان يتقدّمها وهو يحمل ابنه ريان الذي غفا نائمًا داخل السيارة في طريقهم، ليسير به حتى باب غرفته.
ولج داخلها ليضعه على فراشه، فتقدّمت هي تجاور الصغير على التخت، لتخلع عنه الحذاء ثم المعطف بحرص حتى لا يشعر. إلا أنّه تململ وكاد أن يستيقظ، لكنها سارعت لتهدهده، تمسح بكفّها على شعر رأسه وتتمتم بالآيات القرآنية والأدعية الحافظة.
وتوقّف هو لبرهة من الوقت يراقبهما بسعادة تشعّبت داخله؛ زوجته الحانية على طفله وكأنه طفلها الذي أنجبته من بطنها. تلك المشاهد تتكرّر أمامه يوميًا منذ زواجه بها حتى أصبح يعتادها وكأنها أمر عادي، وهي في الحقيقة أمنية عزيزة من الله عليه بها حتى من قبل أن يطلبها منه، كما تفضّل قبل ذلك بأن رزقه بها. هي حقًا هديته الكبرى.
تنهد بخفوت ليجرّ أقدامه بهدوء حتى خرج، ثم تحرّك حتى وصل إلى الغرفة التي تجمعه بها كي ينتظرها.
خرج إلى شرفته يتأمّل السكون داخل المنطقة الهادئة الخاصة بهما وحدهما؛ أفدنة من المزروعات على طول البصر أمامه، وفي الجانب الآخر منزل والديها وشجرة التين العتيقة وما أصبحت تحمله من ذكريات جميلة لقصة العشق التي جمعته بها.
تهون الحياة بكل مشاكلها وهمومها ومسؤولياتها أمام أن يُرزقك الله بمن تحب. هذه هي السعادة الكاملة، أو تكاد أن تكون كذلك، فلا ينقصها سوى هذا الشيء الجميل الصغير الذي ينتظره على أحرّ من الجمر.
وصله صوت صرير الباب مع دفعها له ودخولها، وصوتها ينادي باسمه، قبل أن تشرع في خلع ملابسها، تبدأ بالحجاب الذي كان ملتفًا على رأسها، فانفرط شعرها الحريري بنعومة يتمرّد من عقدته كدائرة في الخلف وينزل على ظهرها. وقبل أن تخلع عنها العباءة السوداء، كانت ذراعاه قد عرفتا طريقهما لتحاوطاها من الخلف، يغرق وجهه بين ثنايا عنقها ليتنعّم بنعومته بعد أن أبعد مجموعة ليست هينة من خصلاته، يمر بشفتيه بتأنٍّ وتلذّذ، ورئتاه تتنشّقان رائحته دون كلل أو ملل.
وكانت هي أيضًا قد سكنت بين ذراعيه مستمتعة بقربه وغرامه لها. من كان يصدق أنّ امرأة مثلها كانت لا تطيق الرجال، يأتي عليها اليوم وتعرف قيمة ذلك الشعور الذي كانت تصفه أمامها عددٌ من النساء كزوجة شقيقها. مهما كان عمر المرأة ومهما كان حجمها بين يدي رجل محبّ، تصبح شيئًا آخر، شيئًا ليس له وصف بالمعنى الحرفي من فرط روعته.
فتحدّث بصوت هائم تلفح أنفاسه بشرتها:
ـ أنا ليه بحس إن اليوم بيطول جوي على ما أوصل معاكي للحظة دي؟ بقيتي بتوحشيني حتى وانتِ معايا وفي بيتي يا قلب حمزة.
فكّت ذراعيه عنها لتقابله مواجهة عينيه بعينيها، فتحاوط بكفّيها الناعمتين وجهه:
ـ إنت اللي قلب مزيونة وعينيها وروحها كمان.
ما أعذب كلماتها لترطّب على قلبه بعد يوم طويل ومشحون. أغمض عينيه متأوهًا، ليقطف من رحيقها الذي يسكره فلا يشبع منها أبدًا. في وصالها حلاوة لم يعرفها حتى في زواجه الأول؛ وصال القرب من الحبيب لا يضاهيه شيء، وهي ليست حبيبة وفقط، بل هي قطعة من روحه.
حين توقّفت قبلتها العاصفة أخيرًا، استند بجبهته على مقدّمة رأسها كي يلتقطا أنفاسهما، ثم تحدّث معبّرًا عما يجيش في صدره:
ـ قلبي بيرفرف في كل مرة بشوفك فيها مع ريان، وحنيتك عليه بتشعلل في راسي عشان أشوف عيالي منك. ولد زي ريان ولا بنت حلوة وشبهك... لا، صحيح أنا مش عايز عيل واحد، أنا عايز عيال كتير، أتكعبل فيهم طول ما أنا ماشي في البيت... ولاد الكلب اتأخروا ليه؟
كانت قد هدأت أنفاسها وشردت دون تجاوب معه، وكأن الحديث لا يعنيها. ليرفع ذراعيه عنها ويبتعد بمسافة، يقابلها بنظراته، يتأمّل عينيها المتهرّبة، وملامح وجهها التي يعتليها شيء من الضيق أو ربما الملل. قبض على صدره ألّا تشاركه ما يتمنى ويتوق إليه:
ـ مزيونة، إنتِ بتضايقي في كل مرة أكلّمك على الخلفة صح؟
ـ هممم...
همهمت بردّ فعل عفوي قبل أن تتدارك حجم غضبه، فقالت رافعة كتفيها وتهبطهما في اللحظة نفسها:
ـ وأنا إيه اللي هيخليني أضايق؟ وهو في الأول وفي الآخر العيال دي رزق
من ربنا يعني...
توقّفت تلتفّ عنه لتشغل نفسها بفك أزرار العباءة قبل خلعها، لكنه كان بالمرصاد، ليقبض على ساعدها ويعيدها مواجهة له هاتفا بها:
ـ أهو دا أكبر دليل إن الأمر مش في بالك ولا هامك أصلًا. ولو استمر التأخير كمان سنين برضو ولا هتسألي، عشان مش فارق معاكي ولا هامك اللي يربطك بحمزة.
دارت حدقتاها بسأم لتدافع عن نفسها بنفاد صبر من إلحاحه:
ـ الله يسامحك يا حمزة، أنا برضو مش هرد عليك، عشان انت عارف ومتأكد إن كلامك غلط. أنا لو كنت مش عايزة خلفة منك على الأقل كنت خدت وسيلة تمنع، لكن ربنا مجابش لحد دلوك، أو يمكن مش كاتب هنتبتر بقي. واحنا ربنا رازقنا بالواد والبت ومكفّينا، ألف شكر وحمد ليه.
ختمت الأخيرة تقبّل ظهر كفّها وباطنه، ليرد هو بعد فترة من الصمت:
ـ يعني إنتِ من الأول كنتي ناوية على الوسيلة بس اللي منعك إصرار العيل الكبير جوزك على خلفة انتِ مش في بالك ولا عايزاها. ويمكن يكون هو دا السبب في إنك محبلتيش لحد دلوك. وأنا واثق مليون المية إن لو قعدت عشر سنين برضو مش هتسألي، والأكيد إنه مش هيحصل طول ما انتِ ما عندكيش الرغبة...
جاءت الأخيرة بصيحة عالية أجفلتها، لتبادله الردّ بحدّة:
ـ وإيه دخل الرغبة في إنه يحصل أو ميحصلش؟ دي حاجة بيد ربنا، اعترض بقى يا حمزة.
ـ لا مش هاعترض ولا هضايق، اعملي ما بدالك يا مزيونة. إذا كنتي انتِ مش هامك تجيبي عيال مني، أنا كمان مش عايز عيال منك.
أنهى صيحته وتحرك يتناول من خزانة ملابسه طقمًا بيتيًا على عجالة حتى يبدّل ما يرتديه الآن، ثم توجّه لمغادرة الغرفة، لكنها تشبّثت بذراعه تمنعه:
ـ استنى عندك، واخد هدمتينك دول وطالع تبيت برا الأوضة عشان بس كلمتين جروا ما بينا؟ دي أول مرة تعملها يا حمزة.
أجاب ناظرًا إليها بقوة:
ـ واعتبريها برضو مش آخر مرة. ما هو يعني، أبيت هنا ولا أبيت برا مش فارقة. عن إذنك بقى عشان دماغي تقلت.
ونزع ذراعه منها في الأخيرة ليتمكّن من الخروج صافقًا الباب بعنف، فسقطت هي على الفراش بانهيار، لا تصدّق كيف حدث الشقاق بينها وبينه في أقل من لحظة، لتتبدّل لحظتها من عشق خالص إلى هذا الشجار الحامي.
لماذا لا يقدّر حالتها؟ كيف عليها أن ترضيه في شيء أكبر من طاقتها؟ لقد اتخذت الرضا منهجها فيما قسمه لها رب العالمين حتى قبل أن يرزقها إياه، ثم منّ عليها به وبابنه الذي تراه عطية الخالق لها. يتّهمها أن السبب خلف عدم الإنجاب حتى الآن هو عدم رغبتها، وهي لا تنكر، ولا تريد تكرار مآسيها في محاولات كادت أن تموت بها. لو ذاق مرار الألم مثلها ما كان تحدّث بهذا الجبروت. لا تريد الإنجاب ولكنها تريده، لماذا لا يفهم ويرضى مثلها؟
ـــــــ ✦ ✦ ✦ــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــ✦ ✦ ✦ ــ
داخل منزل اعتماد
كانت اعتماد ما بين الصحو والنوم في تلك اللحظات، بينما شقيقتها رغد تتلاعب بالهاتف الجديد، تستكشف إمكانياته الحديثة والمتطورة، وتخبرها في كل مرة بما تكتشفه، فتجاريها اعتماد بهزة من رأسها وهي تتهيأ للنوم.
حتى صدح صوت نغمة الاتصال الجديدة، فتوسّعت عينا رغد بلهفة نحو الرقم المسجَّل بيد صاحبه:
(خطيبي)
لتهلّل رغد وتجفل شقيقتها:
ـ (خطيبي)؟! إنتِ مسجّلة عمي خليفة باسم "خطيبي"؟! معقول يا أبلة اعتماد؟
أجابتها اعتماد وهي تشير إلى نفسها بتشتّت وعدم تركيز:
ـ خطيب؟ وخليفة مين؟
هتفت رغد تخبرها قبل أن تضغط على زر الإجابة:
ـ هو إنتِ عندك مية خطيب؟ ما تصحي من نومك بقى!
ـ أيوه يا عم خليفة، أنا رغد...
رمشت اعتماد بعينيها تستوعب العته التي تحدث معها، وهي تراقب شقيقتها تتحدث مع "الخطيب الزائف" بتقدير وفرحة، وعينيها منصبتان عليها، حتى باغتتها رغد وهي تضع الهاتف في يدها بعدما أخبرته:
ـ أيوه يا عم يا خليفة، اهي معاك، كلمها واسألها بنفسك.
ـ يسألني عن إيه؟
ردّت رغد بحزم وهي تعدّل وضع الهاتف على أذنها:
ـ بيسأل عن صحتك، ركّزي بقى ما تبقيش ممجفلة!
تاهت المسكينة بين صوتٍ يناديها باسمها من الهاتف دون ألقاب، وشقيقتها التي تناظرها بابتسامة حالمة وقلوبٍ تكاد تطلّ من عينيها، تتابع مكالمة "الخطيبين".
اللعنة! إلى متى ستستمر هذه التمثيلية السخيفة؟
ـ اعتماد، أنا بكلمك.
ـ أيوه... أيوه، أنا معاك اهو.
قالتها بارتباكٍ وصل إليه، وبما أنها تجاريه، فهذا يعني أن شقيقتها لم تغادر بعد. إذن فليأخذ فرصته:
ـ عاملة إيه دلوك؟ لسه الهبوط والدوخة موجودين برضو؟
أجابت بتلعثمٍ واضح تشير لها كي تخرج، والأخري تحرّك رأسها بالرفض:
ـ لا، الحمد لله كويسة دلوك، حتي كنت هنام.
ـ من دلوك يا اعتماد؟ والساعة لسه ما جتش عشرة! لا لا، أنتِ لازم تعودي نفسك على السهر، مينفعش كده يعني.
ضحكت رغد بصوتٍ خافت واضعة كفها على فمها بعد أن التقطت كلماته، لتجبر اعتماد هذه المرة على طردها:
ـ جومي من جمبي يا بت، جومي!
ـ طب مش هكررها تاني...
ـ قومي بقولك!
اضطرت رغد في النهاية للانصياع، وخرجت على غير رغبتها.
عادت اعتماد لتكمل المكالمة، دون تمثيل هذه المرة، لكن بحذرٍ حتى لا يعلو صوتها ويصل إلى خارج الغرفة:
ـ ألو... يا أستاذ، ممكن بقى نفضّها؟عشان أنا تعبت.
وكالعادة تلقّى تذمّرها بهدوءٍ شديدٍ يمتص انفعالها:
ـ يا ستي ألف سلامة من التعب، أنا عارف إن الوضع مربط، بس قريب إن شاء الله هتتحل.
تنهيدةٌ خافتة وصلته كإجابةٍ منها، فتابع مردفًا:
ـ طب أنا فعلاً كنت بتصل عشان أطّمن عليكي، ودي مش محتاجة تمثيل.
ابتسامة خفيفة بزغت بطرف فمها، تردّ بذوقٍ يستحقه:
ـ لا طبعًا مش محتاجة تمثيل، علي العموم ألف شكر على السؤال.
ـــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــ ✦ ✦ ✦ـــــ
اختار غرفةً جانبية ليبيت بها ليلته، وربما ليالي أخرى كثيرة — لا يُستبعَد ذلك — فالغضب بداخله يتفاقم بصورة لا يُحتملها.
منذ بداية زواجه بها وهو يقدّر حالتها ويتعامل مع عقدها برويّةٍ وهدوء، حتى تخطّت واستجابت، لتسير الحياة بينهما على أجمل ما يكون.
لكن تبقى أمنيته الأعظم هي ترسيخ العلاقة وتوطيدها بالإنجاب منها. قلبه يهفو لحمل العديد من الأطفال، وهي تُلقي بأحلامه خلف ظهرها ولا تُعيرها اهتمامًا.
يعرف بالمآسي التي تعرّضت لها وهي صغيرة، والتي كانت سببًا في كرهها لتكرار التجربة، لكنه أيضًا يُعوّل على معزّته في قلبها، على ذلك العشق الذي يدفعها لمقاومة أشباح الماضي من أجله.
وهي تعرف جيدًا أنه لن يتركها وحدها أبدًا، سيفعل المستحيل لإنجاح التجربة. لقد فعل الكثير من أجلها، وحان الوقت لتحاول وتفعل هي أيضًا من أجله.
انتزعه من شروده صوت حركةٍ بمقبض الباب، ثم دُفع الباب إلى الداخل، يسبق دخولها عطرها المميز الذي لا تضعه إلا مساءً من أجله.
أغمض عينيه سريعًا متظاهرًا بالنوم قبل أن تقع أبصاره عليها، تاركًا المهمة لباقي حواسه في متابعتها: صوت خطواتها الخفيفة، حتى اقتربت لتحطّ بجسدها على الفراش بجواره.
تضاعفت رائحة العطر في أنفه رويدًا رويدًا مع اقترابها، حتى شعر بها داخل رئتيه حين دسّت نفسها أسفل الغطاء في حضنه، تلصق جسدها الطري بصدره القاسي.
الوضع أصبح خطرًا، وهو بالكاد يقاوم سطوتها عليه؛ لا هو بقادرٍ على ضمّها، ولا بقادرٍ على دفعها عنه. لكنها لم تترك له خيارًا، إذ عدّلت وضعها لتلفّ ذراعه الذي تخدّر من لمستها حول خصرها، والآخر جعلته أسفل عنقها، لتنام قريرة العينين...
وليحترق هو بنيران شوقه.
نظر من أسفل جفنيه حين شعر باسترخائها، لتتّسع عيناه بغيظٍ شديد حين وجدها قد غاصت في نومٍ عميق.
كم ودّ لو يخنقها في تلك اللحظة! لقد جاءت إلى حضنه لتغفو وتطرد عن عينيه النوم.
ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ
استيقظ صباحًا أبكر من موعده، يمارس عادته في تأملها.
رغم غضبه منها بعد شجار الأمس، لا ينكر أن فعلتها المفاجئة واندساسها بجواره في الفراش جاءت عليه بمفعول السحر، كالمياه التي سقطت على جمرةٍ مشتعلة فأخمدت اشتعالها وأطفأتها.
شعر بتململها، في إشارةٍ إلى قرب استيقاظها، فأغمض عينيه على الفور متظاهرًا بالنوم.
وبعد لحظات، حين استيقظت، أجاد هو الدور حرفيًا.
دام الصمت منها لثوانٍ، ففطن أنها تراقبه وتفعل ما كان يفعله منذ دقائق.
إذن من المحتمل أنها تكشفه. ليتخذ قراره عمليًا، فتح عينيه فجأة ليقابل عينيها عن قربٍ، تطالعه بنظرةٍ هائمة قادرة على سحق إرادته في مقاومة فتنتها...
تحدثت بنعومة، تلقي عليه تحية الصباح:
ـ صباح الخير... يا أستاذ حمزة.
ابتلع ريقه بخفة، وتحركت تفاحة آدم في عنقه، ثم اعتدل يرسم خشونةً زائدة، مجاهدًا أهواء نفسه الحمقاء حتى لا يضعف أمام حسنها، وردّ متصنعًا عدم الفهم:
ـ صباح الخير يا ست مزيونة. ممكن أفهم إيه اللي جابك جاري وعلى فرشتي بعد ما سيبتلك الأوضة؟
أجابته بسهولةٍ ومكرٍ تعلمته على يديه:
ـ خوفت يا حمزة، والنوم خاصم عيني وانت مش جاري. الأوضة كانت واسعة جوي عليّا، والفرشة باردة كيف الرصاص، مدريتش بنفسي غير وأنا جاية هنا أدسّي جمبك تحت الغطا.
مال برأسه نحوها يجاري لعبتها:
ـ ولقيتي الدفا بقى؟ وجالك النوم؟
أومأت برأسها مجيبة بابتسامةٍ متسعة:
ـ في حضنك يا حمزة. لما حطيت دراعك عليّا وضميتني ليك، نمت زي العيل الصغير.
ـ أنا ضمّيتك عليّا بدراعي؟!
ـ أيوه انت يا حمزة، أكيد مش فاكر عشان كنت في سابع نومه.
الخبيثة!
يذكر جيدًا أنها هي من ضمّت نفسها عليه ولفّت ذراعيه حولها حين كان يمثل النوم كما فعل منذ قليل.
عضّ على شفته بغيظٍ يمنع نفسه بصعوبةٍ من تكذيبها، قائلًا:...
يمكن، برضك الواحد وهو نايم مبيبقاش دريان بحاجة، بس المهم إنك نمتي وادفيتي.
مالت عليه تذكّره بنعومة:
ـ في حضنك يا حمزة، انت نسيت ولا إيه بس؟! إياك تكررها تاني عاد، فرشتك متسبهاش، يا هتلاقيني مطرح ما تروح وراك، إن شاء الله تبيت على المسطبة برا تحت التينة.
نظر لها رافعًا حاجبه، يعلّق باستخفاف:
ـ وه، حصلت كمان تحت التينة؟! وفي الطل كمان؟
ردّت وهي تلفّ ذراعيها حول عنقه:
ـ ولو رُحت السند والهند، برضو وراك وراك.
حسنًا... لقد أصبح الوضع على وشك الخروج عن السيطرة.
ورغم أنه لا ينكر حاجته الشديدة لدلالها، فإنه أيضًا لن يتنازل عما يريده، ولن يضعف، بل الأصح عليه أن يزيد بجرعاته.
نزع ذراعيها عنه بخفّة، بعكس ما يعتريه:
ـ يا ستي تشكري على ذوقك، أسيبك بقى معلش عشان ورايا مشوار، عن إذنك.
ونهض فجأة من جوارها على الفراش، يتركها تناظره بذهولٍ مغمغمة:
ـ وه يا حمزة، مشوارك بقى أهم مني؟!
لتنتفض فجأة عن الفراش هي الأخرى، تتبعه مردفة بخطواتٍ سريعة:
ـ طب والله ما أنا سيباك النهارده!
ـــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــ ✦ ✦ 
في المنزل الكبير، تحديدًا في شقة خليفة، وقد تأخر قليلًا عن موعد استيقاظه، فلم يشعر بمن دلفت منذ لحظات وجلست بالقرب من تخته تراقبه قبل بدء المواجهة بينها وبينه.
وقد قضت ليلتها على نيران تأكل أحشائها، منذ علمت بما فعله لتلك الحمقاء التي تظن نفسها نداً لها. لولا منع المعلون حمزة من تنفيذ ما كان يدور برأسها لكانت أستراحت الآن بعد أن طردتها من منزلها والبلدة بأكملها. من هي لتتحداها؟ من هي لتساوي رأسها بها وتأخذ ما يخصها؟ نعم هو يخصها لأنه زوجها، حتى وإن تمرد هذه الأيام وبدأ يصدر منه ما لم تتحسبه، لكنه في النهاية لها: هي زوجته وابنه عمه، ولن يشاركها به أحد. لابد أن يعرف بتلك المعلومة ويضعها جيدًا في ذهنه.
ـ خليفة... قوم يا خليفة واصحى، أنا عايزاك... خليفة...
في الأخيرة قد استيقظ، رفع أبصاره إليها بتشتت، ليناظرها بصمت لعدة دقائق حتى عاد إليه وعيه، فاعتدل بجذعه جالسًا، فرك بكفيه على عينيه، ثم زفر بضيق حتى جعلها تردف بحنق:
ـ إيه يا خليفة؟ مالك؟ قلبت وشك ليه؟ اتصبَّحت بوش عفريت؟
احتدت ملامحه نحوها ليرد عليها بضيق:
ـ يا صباح يا عليم يا رزاق يا كريم، إنتِ جاية من بيت أبوكي تصبِّحيني بنكدك؟ عايزة إيه يا هالة؟
ـ عايزة أتحّدت معاك، ما أنا مش هسيب اللي ما بينا معلق كده، لازم أرسّي على حل.
صاحت به لتجلس على المقعد المقابل لتخته؛ لينهض هو نافضًا فراشه بعنف، يحجم نفسه بصعوبة عن الانفجار بها:
ـ يعني مقدراش تتصبري على ما أتصبح زي بقية الخلق ولا حتى أشرب كوباية شاي، على الأقل أهيئ راسي لللت والحديت معاكي.
ـ ليه وهي راسك مش عمرانة من مشاوير العربيات وتوصيل الهانم هي وأخواتها؟
أومأ ناظرًا إليها باستيعاب وقد فهم الغرض من مجيئها المفاجئ، ليرد بحزم ليوقف سخريتها:
ـ أولًا دي عربيتي وأوصل فيها اللي أنا عايزه، ثانيًا إنتِ ميخصكش — أنا حر.
صاحت به بغضب متصاعد: ـ حر إنك تتجوز عليا؟ تخطب وأنا على زمتك؟ ومن مين؟ من واحدة ما أستنضفش، أشغلها خدامة عندي...
ـ اتملي يا هالة بدل ما تجبريني أوقفك عند حدك.
ـ خليني أشوف هتوجفني عند حدي إزاي يا خليفة؟ هتضربني ولا تطلقني؟ في كل الحالات مش فارقة معايا يا حبيبي، عشان أنا على حق؛ أنا بت عمك وأم عيالك، أنا بت القناوي يتجاب عليا ضرة زي دي؟
لم ينجر لعصبيتها أو ينفعل؛ بل العكس، فرغم غضبه الشديد منها استطاع أن يحجم انفعاله رغم قسوة ما يعتريه من الداخل: ـ كل اللي هامك أنا أنا. عارفة يا هالة المشكلة مابينا إيه؟ هي إن الموضوع عندك ما يتعدي سوي المساس بكبرياءك، وإن واحدة زي دي يتقال إنه خليفة فضلها عليكي...
توقف برهة، ثم أردف بأنفاس ملتهبة تصدر من حريق صدره: ـ ما هو مش معقولة يعني واحدة في جمالك تاخد المغرز مرتين؛ الأولى لما حمزة فضل المهندسة بنت البندر عليكي ودلّوك اعتماد الـ...
ـ أيه اللي إنت بتقوله يا خليفة؟ متخربطش في الكلام.
صاحت تقاطعه بانتفاضة سرت داخلها، تنهيه ألا يتابع: ـ إيه دخل ده بده أصلاً؟ ولا أنت بتخلق كلام من مخك عشان تبرر لنفسك؟
ـ لأ مش ببرر لنفسي يا هالة، بس أنا بواجهك بالحقيقة اللي إنتِ مش عايزة تعترفي بيها؛ مش عايزة تعترفي بنارك اللي لسه قايدة من حمزة... ولا قادرة تنسي عملته ولا عارفة تشيله من مخك أصلًا.
ـ احترم نفسك يا خليفة.
صاحت به تنهره، تنهض من جواره بجزع، لا تصدق ولا تستوعب ما أردف به بسهولة، لكنه كان مصراً هذه المرة على إخراج ما في قلبه:
ـ تفتكري الكلام ده هين على راجل زيي إنه ينطجه بلسانه؟ ولا إنها سهلة عليا لما أحس إن مرتي مش شايفاني أصلاً؟ طول الوقت تغلي من حمزة — والمرا اللي يتجوزها حمزة، بتكرهيه وفي نفس الوقت عينك ما بتشالش من عليه لو في وسط قعدة فيها مية نفر.
ـ اسكت!
صرخت بها غير قادرة على سماع المزيد، واضعة كفها على فمها، بجسد يرتجف، وقد كان هو بملامح حجرية أمامها، صلب وقاسي كأنه أصبح رجلًا آخر، أو ربما هو نفسه ولكن هذا الوجه الذي تراه منه لأول مرة. ألهذه الدرجة كانت غافلة عنه؟
ـ على فكرة بقى، كل اللي في دماغك دا أوهام، إنت زرعتها في مخك.
تلقى إنكارها بثبات شديد: ـ اعتبريه زي ما تِعتِبِريه يا هالة، اضحكي على نفسك. إنما أنا بجيبلك من الآخر، عشان الكيل طفح؛ واللي كنت بستحمله زمان— دلوك ماعدش ينفع. شوفي نفسك بقى، عشان أنا عرفت اللي أنا عايزه كويس جوي.
دبت بها روح الكبرياء، لتصيح به متناسية كل ما سبق وعبر به عن معاناته معها:
ـ وانا بقولك لاه يا خليفة، عوز أي حاجة ترضيك لكن جواز عليا لاه؟ يا كده يا كل واحد يروح لحاله.
ارتفع كتفيه وتدليا مرة ثانية يخبرها بهدوء ووضوح: ـ والله الإختيار في يدك وإنتِ حرة.
ــــ ✦ ✦ ✦ـــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــ
يبدو أنها قد عرفت مكانه وميزته؛ لتأتي الآن وتتابعه وهو يسبح في مياه النيل، الغبي الذي يعيب من على أصلهم وهو يغوص في المياه العذبة بكل حماقة دون أن يقدر غرضها الأساسي وهو شرب الناس منها. لكنها لا تنكر حرفيته وكأنه غطاس ماهر؛ تعلم جيِّدًا السبب الأساسي الذي جذبها إليه من البداية رغم غيظها الشديد من تعجرفه وغروره عليها بغير حق — من هو أصلاً ليرى نفسه عليها؟
تنهدت بخفوت لتقع عيناها على جلبابه والصديري الذي يرتديه، فدنت بخفة تلتقطهما، ثم تقوم بجولة تفتيش سريعة. أخرجت منه الهاتف وعددًا من المفاتيح المتشابهة، سحبت أحدها، وحافظة النقود التي فتحتها تقلب فيها سريعًا لتعرف محتوياتها.
فخرج هو بعد لحظات قليلة، ليجدها واقفة في انتظاره تطالعه بجرأة كعادتها والمياه تتساقط منه. فغمغم بسب نابية قبل أن يرد يغمغم بصوت أعلى: ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بيطلعوا منين دول؟
أصدرت من فمها صوتًا ساخرًا لتردف: ـ جنية مية يا غالي، يعني أطلع في أي وقت وأي مكان.
تهكم رافعًا حاجبه، وبنظرة تعرفها جيدًا اقترب وجلس على ذلك الحجر ليمسح بالصديري، يجفف جسده المبلل وشعر رأسه، ليقول بغيظ من متابعتها له: ـ أممم طب يا جنية يا اللي بتطلعي في أي وقت، مش عيب برضه تبصي على شب غريب وهو لوحده كده وفي حته مقطوعة؟ طب حتى راعي إنه صاحب خطيبك، ولا الخشا حتى في دي رايح.
تخصرت أمامه بعدم اكتراث، ثم تحدثت مصححة له: ـ أولًا هو مش خطيبي عشان أعمل حسابه. ثم حكاية الخشا دي خليها مع حد تاني. انت الواحدة تتكسف منك ليه يعني؟ على هيبتك ولا على حالك وجمالك؟
احتدت عينيه في النظر إليها من أعلى إلى أسفل يستهزئ منفعلاً في الرد عليها: ـ لا اسم الله على حلاكي وجمالك انتِ يا بنت، غرك شوية البياض ولا الرجالة اللي بتريل عليكي. لا انتِ تروحي البيت وتبصي على نفسك في المراية كويس يا بت، ولا تسوي بصلة في سوق الحريم.
بضحة واثقة ردت تشير بإصبعها على نفسها: ـ لا أنا عارفة نفسي كويس جوي يا حبيبي. لا محتاجة المرايات ولا الرجالة اللي بتلف ورايا كيف الدبان وين ما رِجْلي تخطي؟ والدليل صاحبك اللي هيموت على كلمة مني، أنا منشفة ريقه وسيباه يلف حوالين نفسه.
ـ وليه بقى سيباه يلف حوالين نفسه؟ مش راضية تردي ولا تريحيه ليه؟ مش قد المقام ولا شايفالك شوفة غيره؟
ـ لا دي ولا دي، الحكاية إنه مش عاجبني أصلاً.
قالتها في رد سريع عليه، ليتابع سخريته: ـ ولما هو مش عاجبك بتعشميه ليه في حبالك الدايبة يا ست البرنسيسة؟ ليلاتي يصرف ويكع دم قلبه عليكي. إنتِ وأهلك مزاج عندك يا أختي.
ـ لا مش مزاج يا غالي، بس أنا عارفة إن يوم ما أرد عليه هبقى مطرودة أنا وأهلي برا البلد. لكن رفضي لطلبه مسألة وقت مش أكتر... على الأقل بعد ما أرسى على بر.
غمغمت الأخيرة بصوت منخفض وصل إليه، مع تلك النظرة التي رمقته بها، ليناظرها باستفهام، لكن سرعان ما توصل إلى تخمينه هاتفا: ـ وه، ليكونش عينك مني يا نورة؟... عينك مني يا بت؟
هتفت هي الأخرى بنكران مكشوف: ـ لا عيني ولا ودني يا خوي، بلاش تتغر في نفسك قوي كده يا عم الوسيم؛ انت مين أصلاً عشان تملا عِيني؟
قهقه ضاحكًا بقوة ليرتدي جلبابه، يردد مؤكدًا: ـ لا أملا عينك يا نورا؟ بالمقارنة مع الدغف عرفان أملا عينك، على الأقل أصغر منه وفاضي وعازب، ولا ورايا مرا ولا عيال. دا غير إن معنديش تقل دم عرفان ولا بجاحته في نظرته للمرا. حكم دا غشيم وبصته مفهومة لأي واحدة مفتحة زيك؛ لو ميالة أكيد تعجبها النظرة دي، أنما لو كارهة زيك تخنقها...
لقد أصاب الحقيقة، حتى أنها لم تجد الحجة هذه المرة لتكذيبه، فقال بتساؤل: ـ ولما أنت ناصح وليك خبرة واسعة كده مع الحريم، ما اتجوزتش ليه لحد دلوك؟ يكونش أنت كمان عندك اللي تشغل بالك؟
انتفض بانفعال مفاجئ، وقد لامست الجزء الخطر بداخله، ليجأر بها وينهرها رافضًا تدخلها السافر في شؤونه: ـ شكلك أخدتي عليا جوي يا بت الغجر، امشي يا بت من هنا بدل ما يبجى طردكم على يدي أنا، امشي...
بحنق مضاعف اشتعل بأوردتها، شاعرة بالإهانة، تحركت مغادرة من أمامه، تنهب الأرض بخطواتها، حتى إذا وصلت لمسافة آمنة نادت تلفت انتباهه مرة أخرى: ـ عطوة... حاجتك دي؟
تطلّع إلى ما تشير إليه بيدها المرفوعة في الهواء أمامه، ليهمهم متذكرًا يبحث في الصديري أسفل جلبابه: ـ يخرب بيت أبوكي، دي كنها محفظتي والتلفون والمفاتيح، هاتي حاجتي يا بت. والله لو لطشتي من المحفظة حاجة...
تحركت رأسها برفض لتلقي الهاتف وسلسلة المفاتيح على الأرض العشبية أسفلها، حتى أعطته الأمان. لكن عند الثالثة التي هددها بها فاجأته بدفعها بطول ذراعيها حتى سقطت داخل مياه النيل، ليصيح بجزع وعدم تصديق: ـ يخرب بيت أبوكي، المحفظة...
وكان ردها ابتسامة متشفية قبل أن تأخذ طريقها راكضة من أمامه، موقنة أنّه لن يستطيع الإمساك بها، وأن فعل فسيصبح أضحوكة أمام الناس الذين سوف تجمعهم عليه بصراخها.
علّق في أثرها بغيظ شديد وقلة حيلة بعد أن ضاعت فرصته في اللحاق بها والانتقام:
 ـ فرسة لما تفرسك ولا دم يصبغك صبغ.
.... يتبع

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا