رواية غرامك عشق من الفصل الاول للاخير بقلم ندي ممدوح

رواية غرامك عشق من الفصل الاول للاخير بقلم ندي ممدوح

رواية غرامك عشق من الفصل الاول للاخير هي رواية من كتابة ندي ممدوح رواية غرامك عشق من الفصل الاول للاخير صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية غرامك عشق من الفصل الاول للاخير حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية غرامك عشق من الفصل الاول للاخير
رواية غرامك عشق من الفصل الاول للاخير بقلم ندي ممدوح

رواية غرامك عشق من الفصل الاول للاخير

” أنتِ طَالِق ”
هكذا صافحت العبارة أُذنيها ما أن همَّت بفتح الباب، فتحيَّرَ بصرها ودُهش ونظرت له مصعوقة لثوانٍ لا تقو على الحراك ولا على مفارقة محياه، وفغرت فاه وهمت بكلام لم يلبث أن عاد إلى جعبتها مطرق مندهش، كانت صدمة محال لقلبها الهَشْ أن يتحملها، ثُم هزت رأسها وهي تفسح الطريق متبسمة بابتسامة لا تكاد تبزغ على ثغرها الحزين، وغمغمت :
_ إنتَ قُلت حاجة؟
ودت لو إن ما ألقى كان من محض مخيلتها فقط، لكنه حطم أملها عندما هز رأسه قائلًا في قسوة :
_ آه، قُلت إنك طَالِق وإني جاي انهاردة بس عشان أطلقك.
ضحكت في مرارة، ضحكة غير مصدقة وهي تهمس بصوتٍ أضناه الضياع :
_ إيه الهزار البايخ ده؟
هز كتفيه بلامبالاة كأنه لا يهتم بكسر قلبها، وأردف قائلًا بجحود :
_ مش هزار ولا حاجة، في حد يهزر في موضوع زي ده؟!
حاولي تستوعبي عشان أنتِ خلاص طلعتِ من حياتي، وآه بكره هخطب، حبيت أأقولك بس عشان متصدميش لما تسمعي عن خطوبتي وتقولي إني قليل الأصل.
كأنَّ دلوًا من الماء المغلي إنصب بغتةً على قلبها، فسعرت به النار وأوردته رمادًا دون حياة..
دون نبض..
دون أمل..
فقط رماد لم تنثر ذراته فظل لهيبه يكويها كويًا..
كانت تنظر له مبهوتة، ممتقعة الوجه…
متى تزوجت لتطلق؟!
إنهم منذُ أيام قلائل عقدا قرانهما، فهل ستصبح مطلقة دون زواج فعلي؟!
تطلعت غرام إلى ملامحه الصارمة في ذهول، ثم هتفت:
_يعني إيه هتخطب بكرة؟ أمال اتجوزتني ليه؟
إذ كنت ناوي تطلقني عملت كدا ليه؟ أنا بنت عمك!
زم طارق شفتيه بضيق، وتنهد قائلًا:
_أنتِ بنت عمي وكل حاجه وعمي على رأسي من فوق، بس أنا مش بحبك؟
ضحكت (غرام) كأنما أصابها مسٌ من جنون، وقاطعته قائلة:
_لسه دلوقتي عارف إنك مش بتحبني؟ أمال إيه كلام الحب اللي كان بينا ده؟ وإنك بتحبني ومش هتتخلى عني وإني حياتك؟
في برود أجابها بسأم:
_غرام، أنا مكدبتش عليكِ في كل ده، أنا كنت بحبك بس اكتشفت إني مش بحبك وبحب واحدة تانية.
هزت (غرام) رأسها في جنون، وصرخت:
_أنت اكيد مجنون، الناس هتقول عليَّ إيه؟
هز محمود كتفيه، وأجابها في هدوء كهدوء البحر قبل العاصفة:
_ميهمنيش كلام الناس، أنا كل اللي يهمني نفسي.
وسكت لهنيهة، ثم أستطرد قائلًا:
_أنا مش هقول لك أسف عشان مغلطتش، وبالمناسبة مش عايزك ترجعيلي أي حاجه جبتها، وأتمنى تفهمي عمي عبد السلام إني عملت كدا غصب عني عشان مظلمكش معايا، سلام.
ولم ينتظر ردها، بل أستدار منصرفًا، وانسابت دمعة حزينة على وجهها وهي تشيع رحيله، وما أن غاب عن بصرها حتى سقطت مرتكزة على كفيها فوق الأرض وهي تشهق بغصة مريرة.
ماذا قد تقول لوالدها حين يعود؟
كيف ستواجه الناس؟!
بل ماذا سيقولون عن بنت تخلى عنها زوجها الذي هو ابن عمها قبل موعد الزفاف بأيام قلائل؟
لا حياة لشخصٍ حزين أثقلته الهموم، ولا أمان لشخصٍ متقلب المشاعر خائن النفس، ظلت (غرام) كامنة في مكانها تبكي في صمتٍ حائر، وقد جزعت أشد جزع من مواجهة والدها، بل أفزعتها الوساوس وأخذت تحركها كريشة في مهب الريح.
وبينما هي واقفة لدن الباب، إذ أنبعث صوت من داخل البيت لسيدة طاعنة في السن، تقول بهذيان:
_بتعملي إيه يا بت عندك؟ وبعدين فين ابني عبده؟ إزاي سايبك واقفة كدا؟
ألتفتت إليها (غرام) ولم تنبس ببنتِ شَفة، فتوسمت فيها المرأة النظر، وغمغمت وهي ترفع العصاة التي تتكأ عليها، وتلوح بها في وجهها:
_أنتِ خدامة هنا ولا حرامية؟ انطقي يا بت ساكتة ليه؟!
شهقت (غرام) في البكاء، وما تجدي العبرات عن حزنٌ استوطن القلب؟ فمحت عبارتها بأصابعها، واندفعت نحو جدتها ترتمي بين ذراعيها، فرقت لها المرأة العجوز وتركت العصاة من يدها وهي تربت على ظهرها، قائلة:
_متبكيش يا بنتي خلاص لما يجي أبوكي من برا هخليه يجيب لك اللعبة اللي عايزها.
فضحكت غرام من وسط دموعها، وهمست بصوت متهدج:
_كفاية يا تيتا بقا، أنا تعبت..
وسكتت لهنيهة، ثم أتبعت تقول:
_ابن ابنك طلقني قبل فرحنا، الناس هتقول عليَّ إيه؟
لكنَّ جدتها لم تعر عبارتها اهتمامًا، إنذاك انبعثت صوت نحنحة رجولية من ورائهما، ثم علا صوت عبد السلام، قائلًا بتلهف:
_غرام، مالك يا بتي بتبكي ليه؟
فأستدارت له غرام، وقد أحجمت عمَّا كادت أن تبوح به، ورمقته مليًا، ثم قالت في ثبات:
_ طارق بن عمي كان هنا.
اومأ والدها برأسه وهو يدنو منها، قائلًا في دهشة:
_وماله، فين المشكلة؟
ثم أستدرك وهو يحدجها بنظرة فاحصة:
_أتخنقتوا ولا إيه؟
هزت غرام رأسها نفيًا، ثم فجرت ما يعتمل في صدرها، وهي تهتف:
_جه عشان يطلقني، ويقول ليَّ إنه هيخطب بكرا!
حملق والدها فيها بصدمة وتقهقر للوراء في هلع، وسأل في تأنٍ وهو يصيخُ السمع لإجابتها:
_أتخبلتي يا بت أنتِ، ولا إيه اللي بتقوليه ده؟! طلاق إيه وخطبة مين؟
ترقرق الدمع في أعين غرام، وهي تجهش في البكاء، قائلة:
_زي ما سمعت يا بابا طارق طلقني وبكرا هيخطب.
فصرخ والدها وهو يدفعها من أمامه جانبًا:
_دي ليلته طين ولد قاسمذ، إزاي يعني يطلقك قبل الفرح بأيام وهيخطب بكرا، لعب عيال هو ولا إيه؟ والله لقومها حريقة عليهم.
وأندفع بخطوات واسعة للخارج، بينما حاولت غرام اللحاق به وإيقافه لكنها لم تفلح؛ إذ إن أبيها إذا أستبد به الغضب نما بداخله كبركان ينفجر في وجه الجميع دون تمييز!
☆☆☆☆☆
جلست (غادة) على طاولة الطعام، برفقة أخيها الوحيد وكل عائلتها بعد ما ماتا أبويها، وتناولت طعامها في جوٍ يسوده الصمت الثقيل، قبل أن ترفع بصرها عندما انبعث صوت شقيقها (يمان) يقول:
_غادة، أنتِ بجد مش زعلانة مني؟
شُخص بصر (غادة) عليه لوهلة، ثم افتر ثغرها عن بسمة مشرقة أضاءت وجهها، وقالت بنبرة يتفعمها الحنان:
_وأزعل ليه بس يا يمان؟! أنت غلطان يا حبيبي أنا عمري ما أزعل منك، وعارفة ومتأكدة إنك طلبت مني اسيب خطيبي عشان سبب قوي، ومش هسألك إيه هو لإني واثقة فيك؟
فمال (يمان) إلى الأمام، وهو يلتقط كفيها الرقيقين بين راحتيه، ويتمتم:
_مكنش يستاهلك أبدًا، أنا عرفت عنه حاجات كتيرة وحشة خلتني اندم إني وافقت عليه من البداية، حقك عليَّ…
قاطعته (غادة) وهي تقول بعتاب:
_متقولش كدا أنا واثقه فيك وفـرأيك.
لثم (يمان) كفيها في رِقة، وقال:
_وعشان ثقتك فيَّ دي وإنك بنتي وأختي في نفس الوقت مش هجوزك إلا لشخص يقدرك ويحافظ عليكِ ويشيلك جوا قلبه، وإلا أنا إيه لذمتي لو جوزتك لشخص وحش؟!
فضغطت (غادة) على كفيه في وِد، وغمغمت:
_ربنا يديمك ليا وميحرمنيش منك أبدًا.
فغمز لها وهو ينهض، قائلًا:
_ولا منك يا حبيبي، هروح الشركة دلوقتي عشان أتاخرت، أوصلك معايا للكلية ولا مش رايحة انهاردة؟
استقامت (غادة) وهي تلملم الأطباق، قائلة:
_لا يا حبيبي روح أنت شغلك وأنا ساعة كدا وهطلع على الكلية عشان لسه بدري.
فسألها باهتمام:
_طيب، مش عايزة حاجة؟
فأجابته ببسمة لطيفة:
_عايزة سلامتك، خلي بالك من نفسك ربنا ينور طريقك ويجنبك ولاد الحرام.
ارتسمت بسمة واسعة على محيا (يمان) وهو يؤمن على دعواتها التي تشرح صدره، ولثم جبهتها بعاطفة وهو يقول:
_وأنتِ كمان خلي بالك من نفسك.
لم تلبث (غادة) إن ذهبت إلى كليتها وأنهت محاضراتها، ثم عادت إلى البيت لتجهز الطعام لشقيقها، توقفت سيارة الأجرة أمام البناية التي تقطن فيها، فترجلت منها ويممت وجهها شطر المدخل مباشرة، لكنَّ فجأة برز خطيبها السابق أمامها فبرق بصرها من شدة الفزع وأرتدت للخلف مصعوقة من الغضب المتوحش في مقلتاه، وغمغمت في ارتياع:
_رجب، أنت بتعمل إيه هنا؟
هز (رجب) رأسه، وهو يقول بصوتٍ مبهم:
_ولا حاجة جاي أشوفك وأعرف ليه سبتيني؟!
ازدردت (غادة) لعابها في توتر، وقالت متلعثمة:
_لإننا مش مناسبين لبعض؟
فضحك (رجب) في غموض، وسألها بصوتٍ مخيف جعلها تتوجس خفية:
_واكتشفتي على غفلة كدا إننا مش مناسبين لبعض؟!
وتهدج صوته بغتة، وهو يهمس بصوتٍ خافت حزين:
_أنا حبيتك!
وأستل من جيبه قنينة زجاجية، وهو يستطرد بلهجة حادة:
_وعشان حبيتك مش هسيبك تكوني لغيري، سامحيني لإن وشك وملامحك الجميلة دي مش هسمح لحد يشوفها غيري.
توترت (غادة) وهي تتراجع، وعينيها تجوبان يمنى ويسر بحثًا عن أي مساعدة، لكن المكان كان خالي كقبرٍ موحش غادره المشيعون بعد أن أهالوا التراب على جسد عزيز، وأجهشت في البكاء، وهي تسأل في توتر:
_أنت عايز إيه بالضبط؟
نزع (رجب) غطاء القنينة وهو يقول بصوتٍ بدا لها كصوت فحيح أفعى سامة:
_هشوه وشك!
وأطل فزع هائل من أعين (غادة) وهي ترتد مصعوقة، وتتلفت حولها في لهفة تستنجد بأي عابر لينقذها..
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
 _هشوه وشك!
ورفع (رجب) القنينة التي تحتوي على السائل؛ وهو يتهيأ بدفع مياه النار على وجهها، فصرخت (غادة) في رعبٍ بدد السكون السائد، وهي ترفع ذراعيها لوجهها لتواري ملامحها عن مرمى يديه.
سرت في أوصالها رجفة، أرتج لها الفؤاد، وصراخها أنطلق يشق عنان السماء، وأحست ببعض قطرات المياة تندفع على ذراعيها الذين تحتمي فيهما، وتأوهت بأنين شديد من شدة الألم الذي أضناها وهي تسقط أرضًا، لتدفن وجهها بين قدميها، وتحوطهما بذراعيها، وأرتفع نشيجها، ولسانها يردد بصوت متلعثم:
_لا، لا، لا حرام عليك متعملش كدا، أرجوك يا رجب.
كان جسدها ينتفض بهيئة يرقُ لها القلب، ولكنها لم تشاهد ما حدث..
لم تشاهده قط…
فـ أمامها مباشرةً، وبينما هَم رجب أن ينثر محتوى الزجاجة الذي لامس فقط ذراعيها، أندفع بغتة شاب واقفًا أمامه، وغضب الدنيا كلها في عينيه اللاتين بدتا كعينا صقر، وقبض بقبضة فولاذية على ذراع رجب، وبحركة واحدة كان يدفع يد رجب بمحتوى الزجاجة على وجه هذا الأخير، الذي دوى صراخه متتاليًا وهو يمسك وجهه بكفيه، وبكل ألم وذعر الدنيا، صرخ رجب مجددًا، وهو يتراجع في عنف، فخفت صراخ وبكاء غادة رويدًا رويدًا، وأنقشعت غشاوة الدمع عن مقلتيها شيئًا فشيئًا، وفتحت جفنيها على صوت ينبعث من جوارها مباشرةً يسأل في اهتمام:
_غادة، أنتِ كويسة؟ افتحي عيونك رجب مستحيل يأذيكِ!
فرفعت بصرها إليه، وتطلعت فيه في تأمل وقد سكن قلبها الخافق من نظرة الأمان والأحتواء في عينيه، وغمغمت مجددًا باكية:
_رجب هيشوه وشي بمية نار.
فأجابها نافيًا، بنبرة كلها حنان:
_مستحيل يقرب منك وأنا موجود.
وألتف للوراء وهو يشير لها بكفه وعينيه، قائلًا:
_رجب هياخد جزاته دلوقتي، برغم إنه خده كاملًا أصلًا.
وحادت غادة ببصرها لمَ يشير، فوجدت رجالًا يقودون رجب المنهار، فوقفت ببطء وتمعنت النظر في وجهه ثم شهقت في ارتياع وقد هالها تشوهه الذي التهم كل ملامحه، وعلمت إنها كانت ستكون مكانه، وتصورت وجهها بذاك التشوه، وتراجعت للخلف مصعوقة وهي تنفجر في البكاء، وحاول الشاب أن يدنو منها وهو يطمئنها ببعض الكلمات التي لم تجدي نفعًا ثم سقطعت مغشيًا عليها، وصوت (رجب) المرتعب يتسلل إلى اذنيها كفحيح أفعى:
_متفكريش إنك أتخلصتي مني،أنا راجع هرجعلك وهيكون وقتها حسابي معاكِ أصعب مليون مرة مما تتخيلي،هحاسبك.
واندفع (الشاب) إليها في لهفة، ومال عليها واحتواها بين ذراعيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا شيء مر على خير فالنكبة لم تزد الأمر إلا إشتعالًا، وتفرقة بين الأخين، وجدالًا حاد أنتهى بمقاطعة لا أحد يعلم مداها غير الله، لكنَّ وفي غمرة تلك الجائحة نسى الجميع غرام..
غرام التي باتت مطلقة قبل زفافها بأيام قلائل..
والخائن ليس غريب، إنه ابن عمها..
ابن عمها الذي كان يجب أن يكون هو السند، الأمان، والظهر، فجاءت الطعنة منه حادة تعقر القلب دون ذرة رحمة، وصلها نبأ خطبته فتهدم فؤادها الهَش إلى شظايا تناثرت في جُبٍ سحيقٍ، مظلم..
قضت بعض الأيام والليالي حبيست حجرتها، شاحبة الوجه لا تقو على لقاء أحد، لم يدخل جوفها من الطعام إلا القليل، لكن قد آن الوقت لتخرج لتطمئن على جدتها، وتهتم بأبيها وتخرج من البيت..
إلى متى ستبقى منعزلة عن العالم؟
لقد آن وقت الخروج ولا مناص من ذلك.
أستيقظت ذات صباح وأطعمت جدتها، التي قالت لها بعقلٍ ذاهب:
_مش قولت لك يا فقرية متوافقيش على الواد ده؟ قولتلك يا ليلى ولا مقولتش؟
وضحكت غرام وهي تهز رأسها في أسى، وغمغمت:
_بنتك ليلى خلاص ماتت يا ستي، أنا غرام.. غرام بنت ابنك عبد السلام.
زمَّت جدتها فمها بغيظ، وأردفت:
_موتة تاخدك يا بعيدة، قال بنتي ليلى ماتت قال، موت يلهفك متقوليش كدا، أنا قولت لعبد السلام ميتجوزكيش!
وأخذت تلوي شفتيها بقلة حيلة، وهي تسترسل:
_معرفش عجبه فيكِ إيه تاه نيلة.
شوحت لها غرام بكفها في لامبالاة، وقالت لها:
_طيب يا تيتا اشتمي في ماما براحتك، أنا هروح الغيط اودي الغدا لبابا والبت نهلة هتيجي تقعد معاكِ تخلي بالها منك.
لم تعيرها جدتها أيُ اهتمام، بينما أنصرفت غرام بعدما حضرت نهلة ابنة عمتها ليلى المتوفية لتهتم هي بالمرأة العجوز، ويمَّمت غرام وجهها شَطر الأراضي الذراعية، ومعها الغذاء وبينما هي تسير تناهى لها همسات الناس حولها الذين كانوا يثقبونها بنظراتهم الحادة:
_بيقولوا ابن عمها طلقها!
_وهو في ابن عم يطلق بنت عمه إلا لو في سبب!؟
_ياختي يمكن البت غلطت مع حد عشان كدا سابها!
_صح امال هيسبها ليه؟
_بنات أخر زمن وعاملة نفسها شيخة ولابسة اللبس الشرعي للدين استغفر الله يا رب كويس إن ابن عمها ستر عليها ومفضحهاش.
تسمَّرت غرام في مكانها، لم تقو على الحراك خطوة واحدة، الهمسات كانت تدوِّ في رأسها كصليل الجرس، وأحست بأن قلبها واجفًا، وانهمرت العبرات من جفنيها في صمتٍ.. وإنكسار.
لكن لماذا الأنكسار؟
ما الجرم الذي اقترفته؟
لماذا أصبح الجميع قُضاء بغتة يحكموا عليها دون دليل؟!
دموعها تترى، والفؤاد واجفًا، والعقل منشغل، والهمسات تلاحقها، لأول مرة يتهمها الجميع في أخلاقها وسمعتها، والناس لا ترحم إنهم الموت إذ يجيء بلا إنذار.
رفعت رأسها في شموخ رغم آثار الدموع التي بلّلت وجهها، وأقبلت نحو النسوة الذين خاضوا في عرضها دون حياء، أو خوفٌ من الله.
فرحبت بها إحداهن، قائلة:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_إزيك يا غرام يا بنتي عاملة إيه؟
فردت غرام في هجوم:
_بنتك؟
ورمقتها بإزدراء، وصاحت بصوتٍ عال:
_مش عشان أطلقت أبقى غلطت مع حد، ومش عشان ابن عمي سابني يبقى انا السبب، بلاش تعلقوا أخطاء الغير على الطرف المظلوم، ومش هبرر سبب طلاقنا لإن دي حاجه خاصة بينا، بس لازم تعرفوا إن الزواج ده نصيب من الله.
ونظرت إلى إحدهن، وتابعت:
_أخلاقي غالية جدًا وعمري ما هقل من اللبس الشرعي اللي أنا لبساه.
ودارت بصرها بينهن، وهي تردف بنبرة أقل حدة:
_أنتم ناس الواحد يشفق عليكم على تفكيركم المتخلف ده؟
البنت مش لازم تدفن عشان أطلقت، لإن ده مش عيب ولا حرام، اللي لازم يدفن هو عقولكم المريضة.
وسكتت لهنيهة تستطرد أنفاسها، وقالت:
_ليه البنت لما تطلق عينكم بتبقى عليها في الرايحة والجاية، ليه تحكموا عليها لو تأخرت عن بيتها او خرجت مشوار، ليه مش لازم تخرج لوحدها لما تطلق؟
دا بدل ما تقفوا جنبها، وتساعدوها تقف على رجليها بتهدوها ليه؟
الطلاق مش غلط ولا عيبة، افهموا بقا، والمطلقة يحق لها الخروج عادي وإنها تعيش حياتها زي ما كانت سابقًا وأفضل.
وأنا عمري ما هغلط مع حد مش عشانكم ولا خوف منكم ومن كلامكم.
وهزت رأسها، وهي تتابع:
_ولكن خوفًا من الله المطلع عليَّ وهيحاسبني، انتوا مين بقا عشان تحاسبوني؟
فوقوا واعرفوا إن المطلقة هي نفسها البنت اللي اتجوزت ومحصلش نصيب وانفصلت، انفصلت عشان محصلش توافق مش اكتر.
أنهت عبارتها وركضت جهة منزلها وهي تنفجر في البكاء، حاولت نهلة اللحاق بها ومعرفة سبب بكائها، لكن غرام لاذت بحجرتها وأغلقت بابها ورائها، وأستندت عليه وأنزلقت بظهرها إلى الأرض..
مؤلم أن ينبذ المرء من العالم أجمع لذنبٍ لم يرتكبه.
لم تدرِ غرام كم ظلّت على تلك الحالة، حينما رفعت رأسها وودت لو أن تعانق أحد وتبث له شجونها، فألتقطت هاتفها وذهبت إلى فراشها وفتحت تطبيق (الفيسبوك) حينئذٍ وجدت طلب صداقة من شابٌ لا تعرفه، فقبلته دون تردد، ولأول مرة تقبل بأحد غريب على صفحتها.
ومن هنا بدأت الحكاية..
وهنا أيضًا ستنتهي!
قد ينغمر المرء في الذنوب لينسى!
لكن هل تُنسي الذنوب مرارة الأيام؟
هل تمحو شهوات الآثام الآمًا في ثنايا القلب قد حُفرت؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اندفع يمان بين أورقة المستشفى ما أن تناهى له نبأ وجود شقيقته فيها، فحضر متلهفًا وهز يرتعد من القلق، كانت عيناه تطل منهما الخوف والفزع جليًا، وأدار أكرة الحجرة في عجل، وما كادت عيناه تقعان عليها حتى هرع إليها وضمها إلى صدره، وهو يهتف:
_إيه اللي حصل؟ إزاي حصل كدا؟
لكن غادة استكانت في حضنه وهي تبكي دون أن تنبس ببنت شفة، بينما انبعث صوت رجولي من ورائه، يقول في هدوء مهيب:
_متقلقش أختك بخير متأذتش، ورجب دلوقتي في السجن بيآخد جزاؤه، الحمد لله إني كنت موجود وقدرت ألحقها.
فلاذ يمان بالصمت وهو يربت على رأس شقيقته في حنوٍ شديد، وهم أن يجيب هذا الصوت الرجولي، وأن يلتفت له، لكن غادة شددت من أحتضانه بارتياع وهي تتشبث به اكثر، قائلة:
_لا يا يمان متسبنيش!
فظل محتضنًا لها حتى كفت دموعها عن الجريان، وغفت بين ذراعيه فمدد جسدها على الفراش برفق، ولثم جبهتها بكل حنان الدنيا، وأطلت من عينيه نظرة مخيفة متوعدة، وقد أحسّ إن قلبه اقتُلِع من صدره، وعلى حين غرة أحسّ بكفٍ ما تحط على منكبه، مصحوبة بصوتٍ يقول في هدوء:
_إياك تفكر تعمل حاجة توديك في داهية، وفكر في أختك اللي ملهاش غيرك في الدنيا كلها.. وسيب القانون ياخد مجراه.
فتطلع يمان مليًا إلى الشاب الغريب الذي أنقذ، وأسعف شقيقته، وبانتْ ابتسامة على ثغر الشاب هدّأتْ من روعه، فألتقط نفسًا عميقًا، وتمتم:
_معاك حق.
وأستدرك قائلًا في اهتمام، وهو يثقب الشاب بنظراته المندهشة:
_بس أنت مين؟ وإزاي فجأة أنقذت غادة، وجبت رقمي منين؟
فتراجع الشاب الغريب خطوة، وهز كتفاه العريضين في بساطة، وتبسم وهو يقول بنبرة باردة:
_عادي، كل شيء في أوانه حلو.
وهم يمان أن يستفسر عن مغزى كلامه المبهم، أسكته طرقًا على الباب دخل على إثره رجلًا يناهز الخمسين عامًا، وهو يقول في لهفة:
_يمان ابني حصل إيه؟ مال غادة يا حبيبي إيه اللي حصل؟
اندفع يمان إلى الرجل، وأمسك بذراعيه وهو يقول مهدئًا:
_اهدى يا خالوا، غادة كويسة الحمد لله.
ولم يلاحظ أحد تسلل الشاب الغريب خارج الحجرة، بعدما ودع غادة بنظرة عميقة دافئة كلها حنان، بينما أزاح الرجل يمان عن طريقه، وجلس على طرف الفراش، وأخذ يمسح على رأس غادة ويقبلها وهو يقول:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_يارتني كنت مكانك يا حبيبتي.. ولا اشوفك نايمة النومة دي.
وتسللت عبارته إلى أذن غادة، التي رفرفت بأهدابها وحدقت في خالها ومرت شبه ابتسامة على ثغرها وهي تقول:
_خالوا.
فهتف خالها برفق، وهو يتلقفها بين ذراعيه:
_يا عيون خالك.
وأسبلت غادة جفنيها وهي تستسلم لأمان ذراعيه، وران صمتٍ ثقيل قاطعه دفع الباب بحدة وصوت شاب يصيح في إنفعال:
_إيه اللي حصل يا جماعة في إيه يا بابا؟
ونظر إلى غادة الممدة في حضن والده، فحوّل بصره إلى يمان وسأله:
_إيه اللي حصل؟
وكوّر يمان قبضته، وهو يجز على اسنانه ، قائلًا ببركانٍ من الغضب:
_مفيش يا زكريا الكلب رجب خطيبها السابق حاول يرشها بمية نار، لولا ستر الله.
وارتجف جسد غادة في حضن خالها الذي ضمها إليه أكثر ليبعث الأمان إلى قلبها، وانسابت دموعها في وجل، بينما جأر زكريا:
_إزاي يعني اتجن ده؟ وإحنا هنسكت له؟
هز يمان رأسه، وقال وهو يتميز غيظًا:
_في السجن اتقبض عليه، الشاب اللي مسكه بلغ عنه فورًا.
أبعد مختار غادة عن حضنه، وأستدار يواجه يمان، قائلًا بأمر:
_غادة هترجع معايا أنا على البيت عندي، أنت فاهم مش هتقعدوا لوحدكم تاني بعيد عني.
وهَم يمان أن يجيبه بالرفض، لكن قاطع مختار ما كاد يفوه به، وهو يلوح بسبابته في غضب:
_مش عايز اسمع صوتك كفايه اللي حصل لحد كدا، هو أنا مليش كلمة عليك ولا إيه؟ ولو مش عايز تيجي تقعد معانا متجيش لكن غادة هترجع معايا في بيتها، بيت خالها.
وأرتد يمان إلى صمته، وخاله يسترسل في غضب:
_أنا كنت غلطان لما سمحت لك تاخدها وتقعدوا لوحدكم في الشقة….
وأرتج جسده، وتهدّج صوته، وترنح، فهرع إليه يمان وابنه، وأمسكا به لكن الدوار كان يفتك برأسه، وشعر أن الحجرة تدور به، وسقط مغشيًا عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في بعض الأحيان لا يمر الليل، يكون كل شيء حالك السواد، في أعين المتألمين…
النجوم تأنس وحدتهم..
والقمر يضيء عزلتهم..
والليل يغشى كل شيء، حتى الأفئدة طالها بعضٌ من ظلامه..
هل يكون الليل قاتل أحيانًا؟ في بعض الأحيان نعم، يقتل ويميت ويوجع ولا مناص من ذلك..
وتلك الليلة وقفت غرام بقلبٍ يخفق من الحزن، ويتألم من الندوب، تراقب القمر المستدير الذي أطل من على صفحة السماء، لينير الأرض ويكون هدى للسائرين، وأنتشرت النجوم وأضاءت السماء كأنها قناديل من الضياء، وهبت نسمة ريح معبئة بالشجون.
شجون الساهرون..
وبكاء العيون..
وأنين العابرون..
وأنهمرت دموعها كأنما تنسكب من دعاء مليء بالأوجاع، تبكي حالها وما آلت إليه أمورها.. وكيف صارت بعدما كانت.. وأخذت تتساءل..
هل كانت ضعيفة الأيمان؟
هشت اليقين؟
لكن رنين إشعار رسائل توالت على هاتفها، لتجذبها من جُب الأفكار التي كانت تتقاذفها كريشة في مهب الريح، فجذبت هاتفها وأخمدت تأنيب ضميرها، وأفكارها وتغاضت عن كل شيء، وأخذت تجيب الشاب الذي أصبح أنيس حزنها على تطبيق (مسنجر) كان شاب غريب، أرسل إليها طلب صداقة فقبلته..
أرسل إليها برسالة فردت عليها…
والحديث توالى..
والكلمات ازدادت يومًا بعد يوم..
كانت تجد فيه سلوى لحزنها الذي لم يدرِ به أحد، وتتوارى بهِ عن همومٌ حسبتها ستدفنها تحت الثرى حية، وبغتة ارتفع رنين جرس الباب بتواصل ودون انقطاع، وعلا طرق الباب بقبضة تدقه دقًا..
فألقت الهاتف من يدها، ووثبت واقفة وهي تهرع إلى الأسفل، وفتحت الباب..
ووجدت امام عينيها شابًا مديد القامة، أخذت تتفحصه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه في ذهول، ثم أستقر بصرها على ملامحه الخشنة، وتسرب إلى أذنيها صوته الأجش وهو يقول لاهثًا:
_مش ده بيت عبد السلام لطفي؟
وهزت غرام برأسها إيجابًا، وغمغمت تجيبه في استغراب:
_ايوة، مين حضرتك؟ أنت مين؟
فأسبل الشاب أهدابه في راحة، وهو يقول بملامح لينة:
_أنا يمان.. يمان عبد الرحمن
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_أنا يمان.. يمان عبد الرحمن
حملقت غرام في يمان في دهشة، وأخذت تتأمله في صمت، وعلى وجهها علامة استفهامٍ عميقة، ترجمها فمها سريعًا، فسألته:
_يمان مين؟
تَنَهّدْ يمان تَنَهُّدًا عميقًا، وقال في هدوء:
_ممكن أأقابل والد حضرتك؟
فغمغمت مندهشة:
_في الوقت ده؟
ثم لاحظت آثار السَّفر التي تبدو جلية عليه، وقبل أن ينبس يمان ببنتِ شفة، انبعث صوت عبد السلام وهو يقول:
_مين يا غرام في الوقت ده؟
فالتفتت غرام إلى أبيها، وهزت منكبيها في حيرة، وقالت:
_واحد بيقول إن اسمه يمان عبد الرحمن!
فهتف عبد السلام متعجبًا:
_يمان عبد الرحمن؟!!
هنالك إشرأب يمان برأسه، وصاح:
_أنا يمان ابن أخت مختار العزيزي صديق حضرتك.
لانت ملامح عبد السلام وأشرقت، وهو يتقدم إليه وصافحه في حرارة، قائلًا:
_يا أهلًا يا أهلًا بريحة الحبايب، تعالى أدخل يا ولدي أتفضل.
وقاده إلى صَحْنِ الدَّار، بينما يمان يقول:
_الحقيقية إني جاي لحضرتك في موضوع مهم جدًا يخص خالي…
فلم يتمم عبارته بسبب مقاطعة عبد السلام له، وهو يهتف في حماس:
_مستعجل ليه يا ولدي تريح الأول من السفر وبعدين تقولي كل اللي جاي علشانه.
وحاول يمان أن يتكلم لكن محاولته ذهبت سدى، عندما ارتفع صوت الرجل يأمر ابنته:
_حضرلي أكل يا غرام بسرعة.
وفي حنق توجهت غرام للمطبخ، وقد كانت تتمنى الأستبقاء لمعرفة سر قدوم ذاك الشاب لوالدها.
لكنها أسترقت السمع وهو يقول لأبيها:
_حضرتك مفيش وقت انا مش عاوز أكل ولا استريح ولا حاجة.
ومجددًا قاطعه أبيها، قائلًا:
_مينفعش يا ولدي لازم تاكل حاجة و…
هنا صاح يمان ليكف عبد السلام من الاسترسال:
_مينفعش وخالي في المستشفى وطالب يشوفك ضروري.
وشحب وجه عبد السلام في شدة، واكتسى بصدمة هائلة، وهو يقول:
_إيه؟ مختار في المستشفى، ليه؟ إيه اللي حصل؟
همس يمان بصوتٍ هاديء يطمئنه:
_كالعادة جت له الأزمة مرة تانية، أنت عارف قلبه تعبان الفترة دي ومستحملش اللي حصل لغادة أختي.
فقطب عبد السلام جبينه، وتساءل في اهتمام:
_وإيه اللي حصل لأختك سبب لمختار تعب جامد؟
أشاح يمان بوجهه بعيدًا، وغمغم في ضيق:
_موضوع خاص.
“دا عريس ليَّ يا عبد السلام مش كدا؟”
ألقت بتلك العبارة والدة عبد السلام وهي تبرز فجأة من العدم، لتقف وهي مرتكزة على عصاها خلف ولدها في خجلٍ كأنما هي عروسٌ تزف للمرة الأولى.
وضحك عبد السلام في توتر، ونظر ليمان وهو يقول في خجل:
_دي أمي معلش وست كبيرة وعقلها فوت.
هز يمان رأسه في بساطة، وهمس بارتياح:
_لا، لا عادي ولا يهمك أنا مقدر.
هوت والدت عبد السلام على كتفه بالعصاة، وهي تأنبه في حدة:
_انا عقلي فوت يا عبد السلام؟ طب ماشي.
وشهقت شهقاتٍ متتالية، وهي تتجه لتجلس بجوار يمان، وتلصق جسدها في جسده، وأخذت تشكي إليه حالها:
_شوفت، شوفت بيعاملني إزاي؟ هنتجوز ونمشي إمتى؟
ازدرد يمان لعابه في قلق، وهو يبتعد بجسده عنها، بينما هي قد تشبثت بذراعه وألتصقت اكثر به، وتابعت:
_إوعى تكون جاي للبت الخادمة اللي جوة؟
فهز يمان رأسه سريعًا وهو لا يدرك من تلك الخادمة التي تتحدث عنها؟!
بينما ارتفع صوت عبد السلام، وهو يصرخ:
_تعالي خدي ستك يا غرام من هنا.
وأقبلت غرام ركضًا من الداخل، وحاولت بشتى الطرق أخذ جدتها، التي راحت تولول:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_أهي جت الخادمة اللي ابني سايبني معاها طول النهار تعذب فيَّ.
وكظم يمان ضحكته في صعوبة، بينما غرام تقول في ضجر:
_ يا تيتا عيب اللي بتعمليه ده، قومي تعالي معايا.
فرفعت جدتها العصاة ولوحت بها في وجهها، وهي تقول:
_أبعدي عني يا بت أنتِ بدل ما اضربك وافتح رأسك.
وأطرق عبد السلام رأسه في خجل، بينما نهض يمان مدافعًا عن الجدة، وهو يسحبها لتجلس بجانبه ويبعد العصاه لأسفل، قائلًا:
_خلاص خلاص متضربيش حد، تعالي اقعدي.
وتبسمت الجدة في استحياء، وأخرجت لسانها لغرام، قائلة:
_شوفي بيحبني إزاي؟
كتم يمان ضحكة كادت تفلت منه، ثم استأذن من عبد السلام، قائلًا:
_سيبها تقعد معانا، هي مش مضايقاني ولا حاجة…
لكن بتر عبارته صوت الجدة، وهي تقول بصوتٍ خفيض خجل:
_هنتجوز إمتى؟ عشان زهقت من القعدة في البيت ده!
وضرب عبد السلام جبهته بكفه في غلظة، وهو يكبح غضبه كلا يثور عليها، بينما والدته تسأل يمان الذي أولاها اهتمامه، قائلة:
_أنت شفتني فين وعجبتك؟! ولا أأقولك مش عايزة اعرف خلاص، قولي أنت ساكن فين؟
ظل يمان يساير الجدة في حديثها، حتى تجهز عبد السلام للسفر لرؤية صديقه…
ليلبي نداء الصداقة..
ذاك النداء الذي لا يلبيه إلا الصديق الوفي..
وقبل أن يذهبا، أخذَ ينصح غرام، قائلًا:
_مش هغيب كتير كلها كام يوم اطمن فيهم على عمك مختار وهرجع، خلي بالك من نفسك ومن جدتك، وهكلمك كل يوم اطمن عليكم.
وودعها وأنصرف هو ويمان الذي أبى أن يرتاح وخاله طريح فراش المرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غادر عبد السلام السيارة التي توقفت أمام بوابة المستشفى، بعد ساعاتٍ من السفر الشاق الذي أبى بعده أن يستريح قبل أن يطمئن على صديقه، وأجتاز مدخل المستشفى برفقة يمان الذي قاده إلى حجرة خاله مختار، الذي تهلل وجهه كالبدر وقد زال كل أثر للإعياء فوق ملامحه، واستوى في فراشه مرحبًا بصديقه، قائلًا:
_عبد السلام، كويس إنك جيت، خوفت أموت من غير ما أشوفك!
فنهره عبد السلام، قائلًا وهو يعانقه في وِد:
_بعد الشر عنك يا مختار، وبعدين أنت لسه شباب..
وغمز له، وهو يضيف:
_وممكن أجوزك لو عايز.
فضحك مختار بخفة، وقال:
_مش للدرجة دي الصحة مبقاش فيها، والسنين رايحة بينا مش راجعة، وإحنا النهاردة على وش الدنيا وبكرا تحتها.
فربت عبد السلام على كتفه، مردفًا في حنو:
_ربنا يديك طولة العمر يا أخ عمري..
واعتدل وهو يسأل:
_هاا طمنيني عليك، عامل إيه دلوقتي؟
هز مختار رأسه وهو يحمد ربه، قائلًا في صوتٍ خفيض:
_الحمد لله ربنا أداني عمر جديد.
ثم رفع بصره إلى يمان، وأردف قائلًا:
_روح أطلب لنا أكل عشان عمك عبد السلام.
ونظر إلى عبد السلام، متابعًا:
_طبعاً مش هقدر أشاركك الأكل بتاع بره عشان ده محرم على قلبي…
وقهق في مرحٍ، فتبسم عبد السلام وقد أستشف من طلبه من يمان إنه يود أن يختلي به بمفرده فلم يعقب.
وعندما خرج يمان تاركًا الصديقان بمفردهما، اعتدل مختار ليواجه عبد السلام، وهو يقول:
_بصراحه كنت عايز اشوفك عشان أوصيك!
فتساءل عبد السلام مندهشًا:
_توصيني على أيه؟
فتنهد مختار تنهدًا عميقًا، وأردف:
_أنت عارف إن أنا إللي مربي اولاد أختي يمان وغادة بعد وفاتها هي وزوجها في حادث القطر اللي حصلت.
وأومأ عبد السلام برأسه ولم ينبس، فتابع مختار بنبرة تقطر حزنًا:
_غادة كانت مخطوبة لابن شاب من شباب رجال الأعمال، وكنت شايفه حد كويس وابن ناس محترمين، لحد ما اكتشف يمان اخوها إنه بيتعطى مخدرات وماشي شمال في كل حاجة.. وفكرت أنها كانت هتتجوزه بسببي دي بتعذبني.
وأطرق برأسه، وتنهد في حزن يفلق القلب، وقال:
_مش كدا وبس، ابني زكريا كمان مبقاش زي الأول، بقي بعيد عني شبه مبعرفش عنه حاجه وطول الوقت برا البيت وخروجات وفسح وسايب الشركة والشغل مش بيقرب منه.
ورفع بصره إلى عبد السلام، وأستطرد:
_تخيل أموت وهما يضيعوا من بعدي؟!
وبلهفة ضم كف عبد السلام بين راحتيه، وقال برجاء:
_عبد السلام انا مش هوصيك لو حصل ليّ حاجه فالتلاتة أمانة في رقبتك..وخاصةً غادة.
ربت عبد السلام على كف صديقه، وقال في ثقة:
_عيب عليك يا مختار عيالك هما عيالي وزي غرام بالضبط انت مش محتاج توصيني، ومتقولش كدا ربنا ان شاء الله يطول في عمرك ويحفظك لينا وتجوز التلاتة وتفرح بيهم.
وضحك قائلًا:
_وفي ليلة واحدة كمان.
وأتبع يقول في حماس:
_وشد حيلك كدا وأخرج من المستشفى بخير عشان هتنزل معايا أسيوط تغير جو أنت والولاد، ولا البلد موحشتكش؟
غمغم مختار في بهجة:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_ولا وحشتني، فاكر يا عبد السلام أيام الغيط و….
وأخذا الصديقان يتجذبان اطراف الحديث، ويسترجعوا ذكريات الطفولة..
ومرت الأيام رتيبة دون احداثٍ تذكر، سوا إن عبد السلام ظل رفيق مختار في المستشفى وأبى ان يغادرها إلا برفقته، حتى سمح له الأطباء بالخروج وخرجوا جميعًا إلى منزله وقد قرروا السفر إلى أسيوط مع عبد السلام ليروحوا عن أنفسهم.
ولكن يمان أصر على عدم الذهاب أمام خاله، الذي قال له في حدة:
_لو مرحتش أنت فغادة هتروح لإنها محتاجة تغير جوا وتتعرف على صحبة جديدة ومفيش اجمل من هوا أسيوط وصحبة ناسها الطيبين.
فغمغم يمان في تأدب:
_يا خالي اسمعني أنا مقدرش اسيب غادة لوحدها.
فأنبه مختار في حدة صارمة:
_وأنا روحت فين؟ مش انا معاها وزكريا!
فازدرد يمان لعابه، وقال في همس:
_ما هو عشان زكريا مستحيل اسيبها معاه في مكان واحد!!
لم يعي خاله ما فاه به، فسأل:
_أنت بتقول إيه؟
أجابه يمان بضيق:
_بقول إني حاسس إني محتاج أغير جو انا كمان وأروح معاكم.
وتبسم خاله في سعادة، وقال في سرور:
_طب يلا روح على الشركة ألغي كل مواعيد اليومين اللي جايين وسيب غادة تجهز شنطتك يلا روح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هبطت غادة من السيارة أمام البناية التي تقطن فيها لتجلب بعض الأشياء، لكن مجيئها بالأساس كان بسبب حاجة في نفسها قضتها…
وهي رؤية الشاب الذي ساعدها!
ذاك الذي ظهر فجأة وأختفى فجأة دون أن يذر أثرٌ وراءه!
لكنها كانت منجذبة لمعرفة من يكون؟ ما اسمه؟ وكيف كان على معرفة باسمها واسم شقيقها وعنوانهما؟
كان يثير حريتها
ويشغل تفكيرها..
وحاولت جاهدة معرفة اي شيء عنه فلم تفلح في معرفة حتى اسمه!
وكان هذا يحزن فؤادها، ويجعل الفضول يأكل قلبها ويلتهمه التهامًا!
توقفت أمام مدخل البناية، بأعين تجول في المكان على أمل أن يبرز بغتة، وظلت في مكمنها لردحًا من الزمن حتى يأست وأصابها الأحباط..
كانت تمني نفسها بحضوره..
إنه سيأتي حتمًا..
ستقابله مجددًا يومًا ما..
وأرتقت الدرج صوب شقتها وقد جهزت ما تحتاج إليه وحين فرغت غادرت الشقة والبناية كلها لكنَّ!
راعها إن وجدته فجأة مرتكنًا بظهره على سيارة سوداء اللون، ويرتدي حُله سوداء زادته جمالًا، فتسمرت مكانها وهي تتأمله في صمت، ورغم إنه كان يرتدي نظارة اخفت عينيه إلا إنها أحست ان عيناه تثقبانها، فدنت منه، وهي تقول بصوت متوتر رقيق:
_هاي.
فرد عليها بما فاجآها:
_سمعت إنك بتسألي عليَّ فقولت آجي أشوفك؟!
واعتدل في وقفته، وسألها في حنان:
_طمنيني عليكِ عاملة إيه دلوقتي؟
فهزت رأسها في خجل، وقالت:
_كويسة الحمد لله.
فبادرها قائلًا:
_هاا قولي كنتِ عايزاني في إيه؟
ففركت غادة أصابعها في استحياء، وقالت وهي مطرقة في خجل:
_ كنت عايزة أشكرك…
فخلع نظارته وشملها بنظرة حانية، وهو يتمتم:
_على إيه؟
فهمست بصوتٍ خفيض:
_على انقاذك ليَّ!
ثم استدركت تقول:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_أنا سألت عليك كتير ولكن محدش يعرف عنك حاجه.
فتبسم في بساطة، وهو يقول:
_متسأليش عني تاني، أنا عارف إمتى اظهر وإمتى اختفي!
قطبت غادة حاجبيها متعجبة، وقالت في دهشة:
_يعني إيه؟
فرد عليها بصوتٍ رخيم:
_متشغليش بالك، خلي بالك من نفسك أهم حاجة لحد ما نتقابل تاني..
فقاطعته قائلة:
_إحنا هنتقابل تاني؟
فأعاد نظارته على عيناه، واعتدل في وقفته وهو يتمتم في حنو:
_أكيد، مع أنك معايا.
فتساءلت في غرابة، وقد استرابت جملته:
_معاك؟
فتبسمت شفتاه وهو يمد يده مصافحًا، وقال:
_خلي بالك من نفسك لما تسافري، وقريب هنتقايل تاني.. سلام.
فغمغمت غادة:
_أنتَ عرفت أزاي إني مسافرة؟
ففتح باب سيارته ودون أن يدلف لداخلها اجابها دون ان يستدير:
_أنا لما أكون عايز اعرف حاجة بعرفها، فما بالك بحاجة خاصة بيكِ؟!
وألتفت برأسه وخطف نظرة سريعة تجاهها، ثم جلس أمام عجلة القيادة وانطلق، تاركًا إياها تفكر في كلامه الغريب المحير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصل الجميع إلى محافظة أسيوط، وتوجهوا إلى منزل عبد السلام الذي كان يعد الدقائق والثوان ليصل كي يطمئن على ابنته ووالدته.
لم يلاحظ عبد السلام وهو يسير برفقة مختار يتهامسون، تجهم زكريا الذي مال على أذن يمان، وهو يقول في غضب:
_هو خالك اتجن عشان يجيبنا هنا؟ ولو هو عايز يغير جو وياخد غادة معاه جيبنا ليه معاه ويقرفنا؟! دي أماكن الناس تفسح فيها، إيه القرف ده؟ بقا انا اسيب صحابي وخروجة كانت في الغردقة عشان آجي المكان المقرف ده!
فجذبه يمان من ذراعه في حدة، وسحبه مبتعدًا عن غادة، وهو ينهره في حدة:
_أحترم نفسك والمكان اللي إحنا فيه عشان خالي ميقلبش عليك وتعامل حلو مع الناس عشان إحنا ضيوف عندهم.
فزم زكريا شفتيه بضيق، وتوغل بأصابعه في خصلات شعره بنية اللون، وهتف في ضيق:
_يعني يرضيك اسيب حبايبي وآجي هنا؟!
فعصر يمان ذراعه بين أصابعه، وزمجر قائلًا في عصبية:
_لا يا حبيبي الحبايب مش هيروحوا لمكان اول ما هترجع هتلاقيهم مستنينك وياريت تعقل عشان هنا مش في مصر؟!
وربت على كتفه، متابعًا:
_ربنا يتوب عليك، واعتدل عشان خلاص وصلنا.
وكان في آوان ذلك يدق عبد السلام على باب منزله، وسمع صوت خطواتٍ سريعة تأتي أحس أنها لوالدته وقد كانت هي بالفعل…
تطلعت الجدة إلى ابنها بفمٍ مزموم، وهي ترغي وتزبد قائلة:
_من يومك يا عبد السلام يا ولدي وأنت مطفشني ومدوقني المرار وقاعد في الشارع.
فضحك الجميع بينما بادر مختار يمد يده مصافحًا وهو يقول:
_ازيك يا حجة عاملة ايه طمنيني عليكي أنتِ مش فكرني ولا ايه انا مختار العزيزي…
فتقهقرت الجدة للخلف، وهي تبعد كفيها عن مرمى يديه، قائلة بازدراء:
_ودا مين دا كمان؟ شمام من صحابك الشممين؟!
فكوَّر عبد السلام قبضة يده، وهو يصرَّ على أسنانه، قائلًا بغيظ:
_اسكتي يا أمه، عيب كدا.
وفجأة أشرقت ملامح الجدة، وحملقت في يمان بأعين لامعة وهي تقترب منه، قائلة:
_خطيبي!
فأبتعد يمان للخلف في ارتباك، ولحقت به الجدة وتأبطت ذراعه وهي تقول:
_جيت اخيرًا عشان تنقذني من ابني اللي بيعذبني؟!
ومالت برأسها على كتفه، وهي تقول:
_ابن حلال كنت مستنياك من زمان، من زمان اوي.
ونظرت إلى زكريا بوجهٍ غاضب، وهي تشير إليه قائلة بازدراء:
_وأيه اللي جاب الواد ده كمان، الواد ده مش كويس ميدخلش البيت.
فلوى زكريا شفتيه بامتعاض وشوح بكفه لها وهو يتمتم بما يعيبها في همس، بينما ألتفتت الجدة إلى غادة، وربتت على ظهرها في حنو، وقالت:
_متزعليش ربك هيعدلها.
فتبسمت لها غادة في إشراق، ودعاهم عبد السلام للدخول بينا الجدة متشبثة بيمان الذي أخذ يتهامس ويضحك معها في تسلية راقت له.
ونادى عبد السلام على غرام لكن لم يأتيه الرد، فاستأذن منصرفًا لحجرتها فتناهى إليه همسٌ يأتي من وراء الباب المغلق، فاسترق السمع، وأصغى لصوت غرام وهي تقول بضحكة:
_تشوفني إزاي بس؟ مستحيل مش هقدر
وسكتت قليلًا، ثم اردفت:
_مستحيل ابعت لك صورتي..
وعاد السكون يعم المكان، وسمعها تهتف بلهفة:
_أنا بثق فيك طبعًا اكتر من نفسي ولكن مقدرش..
ثم سكتت لهنيهة، وقالت في توتر وبما بدا له بتفكير:
_طب بس سبني افكر وبكرا ارد عليك وممكن ابعتلك.
هنالك فقط تفجر بركان هائل من الغضب في أوصال عبد السلام، وجحظت عيناه في صدمة، وهو يقول بصوتٍ سحيق:
_دي غرام بنتي أنا؟ وتربيتي؟!
وتلاحقت انفاسه بعمق وجز على أسنانه وفتح الباب في عنفٍ وهو يلهث، فـ أُجفلت وهي تهب من فوق الفراش وقد اتسعت عينيها من الرعب على آخرهما، وهمست وهي تتراجع:
_بابا!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_أغيب يومين وأرجع ألاقيكِ بتكلمي ولا*د؟ وص*ور إيه اللي عايزة تبعتيها ليه؟! عايزة تبعتي صور*ك يا غرام للشباب؟!
نطق بالعبارة عبد السلام بهدوء شديد أرجف جسد غرام التي شرعت تهز رأسها نافية والدموع تسح من مآقيها في صمتٍ، وفي تأن راقبت أبيها وهو يغلق الباب في هدوء أشد من هدوء ملامحها، وتناهى لها صوته يقول في همس:
_الحمد لله إني رجعت في الوقت ده عشان أشوف بنتي وهي بتستغفلني!
وجعل يقترب منها بأعين تطلق شرارًا من أتون متوقد، وأرتجف جسد غرام، وأنتفض فؤادها برعدة، وحاولت أن تبرر فعلتها لكنها أحست بلسانها قد عُقد، وأصابتها رعدة شديدة أرعدت جسدها الذي أخذ في الارتعاش، وهمست بصوت متهدج:
_اسمعني يا بابا.
وأجابها والدها بلطمة قوية فوق وجهها، وهو يهتف:
_اسكتي مش عايز اسمع صوتك..
وانهال عليها لطمًا وهو يضيف:
_بتغفليني يا غرام، عشان كدا ابن عمك سابك؟ وأنا اللي فكرته ظلمك واتخنقت مع اخويا بسببك وقطعنا بعض؟! أتريكِ مغفلة ابوكي، وموطية رأسي يا بت ال****
سقطت غرام أرضًا من شدة الضرب، وانحبست صرختها من الألم، وأبيها بات كوحشٍ أنقض على فريسته بضراوة وهو لا يبغي تركها إلا جثة.
وسمع أبيها صوتها وهي تقول بوهن، وتلعثم:
_حرام عليك يا بابا.
فصاح وهو يجذبها من شعرها لتقف:
_حرام عليَّ أنا؟! أنتِ لسه مشفتيش حاجه.
جاهدت غرام لتفلت خصلات شعرها من يد والدها، لكن براثنه أصبحت منيعة أمام ضعفها، وشعرت بخصلاتها تنخلع في اصابعه، وكان الألم يفتك بها، فصرخت تستنجد بجدتها:
_يا تيتا الحقيني، تيتا….
فكتم والدها فمها بكفه، وهدر في جنون:
_اخرسي مش عايز صوتك يوصل للناس اللي تحت.
ثم دفعها نحو الفراش، وهو يجأر بوحشية:
_لولا إن في ضيوف تحت مكنتش هسيبك إلا مي*تة، قومي اغسلي وشك وانزلي قدمي واجب الضيافة للناس.
ورمقها بنظرة مرعبة أصابتها بالرهبة والرعب وذهب وهو يتوعدها بالموت، ثم خرج صافقًا الباب وراءه، وأرتكز بكفه على الجدار وهو يحني ظهره كأن الهم قد أصابه فوق عمره أعمارًا، وهمس بدموع تلتمع في عينيه:
_ليه كدا يا غرام يا بنتي؟ كدا تخوني ثقتي فيكِ؟!
ثم تنهد تنهدًا عميقًا، واستجمع رباطة جأشة، وهبط السلالم وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة لا توحي بما يمور في صدره.
هل الابتسامة تصبح ميتة في بعض الأحيان؟
نعم، حين يكون القلب ينوء ببكاءٍ صامت، عندما يخسر نبضة من نبضاته، عندما يضطر ليواجه الحياة وهو يطوِ على أشجانه.
جلس بجوار صديقه الذي سأله متعجبًا:
_امال غرام فين يا عبد السلام؟
فتبسم عبد السلام بسمة متوترة، وازدرد لعابه وهو يقول متحاشيًا النظر إليه:
_نازلة حالًا هي تقدر متنزلش تسلم عليك!
في أوان ذلك كان وقع أقدام تهبط الدرج في تؤدة، فالتفت الجميع نحو الدرج، وهتف مختار في بهجة:
_اللهم بارك بنتك قمر يا عبد السلام، كبرت إمتى وبقيت عروسة البت دي!
فرد عبد السلام في بساطة:
_البنات كبارة يا مختارة.
وحدج غرام بنظرة صارمة، سرَت في جسدها كما تسري النار في الهشيم، وتوجهت نحو مختار لتسلم عليه بملامح جامدة، بينما عانقت غادة في ود، واومأت برأسها نحو يمان فبادلها إيماءتها بأخرى مرحبة، ولمحت زكريا بنظرة سريعة خاطفة وكان هو يزدرد لعابه وتتسع حدقتاه بنظرة ماكرة، وهمس:
_الظاهر إني هحب المكان هنا، والفسحة مش هتكون ببلاش.
وارتسمت ابتسامة عريضة فوق شفتيه.
[اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد]
سارت غرام برفقة غادة في الأراضي الذراعية قبيل المغرب بينما الشمس تغرب بلونٍ مريحٌ للعين والجو يملؤه هواءً منعش جميل، كان الهَم جاثم في مقلتيها، فوالدها قاطعها.
كف عن محادثاتها إلا أمام الضيوف..
كان الحزن يعتصر فؤادها، والقلق داهمها، والخوف يمزق أعماقها، كانت خجلى… تخجل أن ترآه وأن تتقابل عينيها بعيناه، كانت نظرة الخذلان في عيناه تعقر قلبها.
ما أقسى من وجعٍ يعقر الفؤاد بنصلٍ حاد ويذروه ينزف دمًا.
ولوهلة رفعت بصرها نحو السماء الذي غشاها لون الشفق الرائع، وخطر لها خاطر…
نعم تذكرت ربها!
ربها الذي نست إنه رقيبٌ بصيرٌ سميع.
يعلم ما تخفي الصدور..
إنها تخجل من ابيها هذا أكيد، ولكن ماذا عن ربها؟!
كيف سيقبلها بهذا الإثم الذي لم تتوب منه توبة نصوح؟!
هل يقبل الله عبدًا ذهب إليه راجيًا المغفرة؟!
ومن عساه يقبل أن لم يقبل هو؟
إنه يقبل التوبة إن كانت صادقة لا شية فيها، بل ويفرح بها..
لم تلاحظ الدموع التي أخذت تتحدر من حدقتيها مع هذا الخاطر؟! كيف وصلت لتلك الحالة؟ كيف آل بها الموقف إلى هذا السلوك السيء!
يا ويح فؤادها أن ظلت على ذنبها دون أن تجثو أمام باب الرحمن لا تبرح حتى تبلغ ما أتت إليه.
يا حسرتا على دنيا تنتهي بها إلى النار!
وتأملت حالها آنفًا حين كانت تتوضئ قبل الأذان في لهفة إلى لقاء الله، فتجلس على مصليتها تناجي ربها حينًا وتقرأ القرآن حينًا آخر حتى يخترق الأذان سمعها فتنصت إليه بقلبٍ متلهف تردد مع المؤذن بصوتٍ شجي، وتهب في لهفة للقاء خالقها!
كيف باتت بتلك الحالة من الضياع التي أطاحت بإيمانها؟
متى أصبحت بذلك السوء والشتات؟!
تنبهت من شرودها، وبؤرة أفكارها، على صوت غادة، وهي تهتف:
_غرام أنتِ كويسة؟! بتعيطي ليه؟!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
فالتفتت إليها بنظرة تائهة ضائعة، وهمت أن تقول شيئًا لكن أحست أن الكلمات تفر من حلقها فلاذت بالصمت، وكفكفت أدمعها وتابعت سيرها في هدوء، وهي تقول بصوتٍ شارد يقطر حزنًا:
_أنا كويسه الحمد لله، بس أحيانًا الإنسان منا بيبكي على حاله مع ربه!
فطالعتها غادة بغرابة ولم تنبس ببنتِ شَفة، وأن راحت تسير بجوارها في سكونٍ تام، تنبهت غرام إلى امرأتين عجوزتين كانت تقوم براعية إحدهما لإنها وحيدة بطيبة قلب، أخذت تلمزها بالقول مع الأخرى، ولم يخف عنها الحديث لا ريب إن الجميع لا يزل يتقول على البنت التي طلقها ابن عمها قبل موعد زفافهما، وأحست بغضبٍ هائل يصيب الشغاف من قلبها، فطلبت من غادة أن تعودا، وبينما هما في طريق العودة، قابلهما زكريا الذي دنا منهما وهو يقول بنبرة ذات مغزى ونظره معلق على غرام التي لم تنتبه له:
_البلد هنا جميلة أوي، وشكلي هآجي هنا كتير، حبيت المكان جدًا واللي فيه.
وسأل غرام في اهتمام وهو يمعن النظر فيها:
_أنتِ مخلصة كلية إيه يا آنسة غرام، مش أنسة برضو؟
فرفعت غرام نظرها إليه متفاجئة، وحدقت فيه لثوانٍ بدا بتفكير، ثم قالت سريعًا:
_أنا مطلقة مش أنسة!
وتسمر زكريا مكانه بفمٍ مزمزم، وغمغم في نفسه:
_إيه القرف ده القمر دي مطلقة إزاي؟ دا مين الأعمى ده!
توجهت غرام إلى حجرتها بعدما وقفت غادة برفقة أخيها يمان، وجذبت هاتفها ودخلت على صفحة كاتبتها المفضلة (ندى ممدوح) كانت تهوى كتاباتها التي تذكر فيها قصص الصحابة التي أضحت مغرمة بها، وقرأت آخر منشور كان على الصفحة.
(حادثة الإفك.
كان النبي ﷺ عندما يخرج إلى غزوة من الغزوات يأخذ زوجة من زوجاته، وفي غزوة بني المصطلق كان الخروج من نصيب السيدة عائشة رضي الله عنها، وخلال العودة من هذه الغزوة إلى المدينة، فقدت سيدتنا عائشة عقدًا لها، فأخذت تبحث عنه وغفلت عن الجيش الذي شرع يتهادى في طريقه، وأقبل الرهط الذين كانوا يحملون هودجها فحملوه وهم عنها غافلين ويحسبون إنها فيه.
وكانت النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم، فلم يستنكروا خفة الهودج حين رفعوه، ووضعوه فوق الجمل، واستمر الجيش في المسير، والسيدة عائشة تبحث عن عقدها حتى وجدته، فتفاجآت بأنها وحيدة فجلست في مكمنها وظنت إنهم سيفتقدونها فيرجعون إليها ويأخذوها.
فبينما هي جالسة غلبها النوم فنامت.
وقتئذٍ كان صفوان بن المعطل في أكثر الغزوات في المؤخرة، استطلاعًا وتفقدًا.. فأدلج عند منزلها الذي تنام فيه، فهاله رؤية إنسان نائم، فدنا فعرف أنها السيدة عائشة، وقد كانت كاشفة الوجه فردد في ذعر:
_إن لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله!
فهبت السيدة عائشة من نومها فزعة على صوته، كانت وحيدة وسط صحراءً يعمها الظلام، فأسرعتْ بتغطية وجهها وقد كانت هذه الغزوة بعد نزول آيات الحجاب.
فأناخ لها راحلته، فركبت، وانطلق يقود الراحلة دون أن يكلمها كلمة، حتى بلغا الجيش.. واستمر في المسير حتى المدينة…
لم تدرك السيدة عائشة لمدة شهر أن عبد الله بن أبي ابن سلول قد خاض في عرضها بين المنافقين، وبَث الأمر بين الناس وأخذوا يتقولون عليها بأنها تأخرت عن الجيش عمدًا حتى تلتقي بصفوان، وبين ليلةً وضحاها بات عرض رسول الله ﷺ تتناقله الألسن، وكان الرسول يعلم ما يتقولونه عنها منذُ اللحظة الأولى لكنه أسر الأمر في نفسه ولم يبدهِ لها.
علمت عائشة بالأمر حينما خرجت مع أم مسطح لقضاء الحاجة، فتعثرت المرأة وسبَّتْ ابنها مسطح من شدة غضبها منه، فدافعت عائشة عنه وزجرتها من أن تغتابه، وتعجبتْ أم مسطح عجبًا شديدًا من أن تدافع عائشة عن شخصًا كان يتحدث عنها بسوء، ويغتابها.. وقصت عليها كل شيء.
وتلقت عائشة الخبر الذي نزل على فؤادها كصاعقة عاتيه هبت هبوب الرياح الهوجاء ففطرت قلبها، فانهارت، وعادت إلى بيتها مصدومة ودت لو تسال النبي في الأمر لكنها فطنت إنه لن يقول شيئًا فستأذنت منه في زيارة أبويها فأذن لها، وذهبت وسألت أمها فيما يقول الناس عنها وعلمت مايتقولونه؛ فمكثت يومها ذلك لا ترقأ لها دمعة، ولم تكتحل بنوم… لم تدرك عائشة إن الله تعالى مبرئها من فوق سبع سنوات، بقرآن يتلى إلى يوم القيامة.
لم تكن تعلم هذا الجزاء العظيم الذي ستناله.
وإن جزاء الصابرون المحتسبون الفرج من الله.
إليكِ يا من تظنين إنكِ في مأمن من ألسنة الناس، من منا أسلم من الألسنة؟!
من منا رحمته الناس؟!
من منا لم يخوضوا في عرضه، ويغتابوه؟!
تظنين إنك وحدك التي تقولو عليها؟!
لا يا عزيزتي فقبلك كانت أم المؤمنين وزوجة النبي عائشة رضي الله عنها، هي لم تسلم لتسلمي أنتِ؟!
لكن لا يجب ان يكون ذلك نهاية المطاف، نهاية حياتك، نهاية سعادتك، فعائشة فوضت امرها إلى الله فرفع الله ذكرها في العالمين، احتسبي واصبري وتقوي بربك، فإن الله ناصر المظلوم.
المرء حين يهمه أمر قد يبتعد عن الله ويصبح كنود، قوي الإيمان فقط هو من يفقه إن الابتلاء لنزداد لا لنبتعد، لنقترب لا لنفر، لنتوب من ذنوبان تكبل استجابة الدعوة، لنطهر أرواحنا من أدناس الحياة كي ننال مغفرة رب العباد.
اي شرفٍ وفخر نالته عائشة إذًا؟
عائشة ظلت شهرًا لا تدري ما يقال عنها من وراءها، لا تعلم أنهم يخوضوا في عرضها، كان الرسول حريص ألا يصل لها الخبر، ألا يحزن فؤادها، كان متيقن من برائتها، لم تعلم عائشة إن الله هو من سيبرئها حتى تخرص كل الألسنة، لم تعلم معنى أن يتذكرها الناس بآياتًا تتلى إلى يوم القيامة، بل من العظمة أن أبا بكرٍ أبيها كان ينفق على عبد الله بن سلول لفقره ولقرابته فانقطع عن النفقة بسبب ما تقوله عبد الله على ابنته حتى أنزل الله عز وجل { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
[سُورَةُ النُّورِ: ٢٢]
وكان أبى بكر يحب أن يعفو عنه الله، وأن يصفح له يوم القيامة، وأدرك إن نفقته لله وليس لأحدٍ من البشر، فتراجع عن قوله، واستمر في النفقة.
هكذا هم الصالحون مهما ابتلاو من بلايا تراهم آمنين، منفقين، متصدقين يدركون إن الله معهم.)
فرغت غرام من قراءة المنشور، وأخذها الحنين إلى قصة (كعب بن مالك التائب الصادق) كي تتعلم التوبة النصوح، والتجرد من الذنب، فالروح إن لم لم تتجرد من ذنوبها هلكت، فالتقطت رواية (والتقينا) لكاتبتها المفضلة ندى ممدوح وجآت بالفصل التي تضم بين جنباتها قصة كعب وأخذت تقرؤها بعينين تفيضان دمعًا أليم، ثم تركت الكتاب جانبًا عندما ارتفع أذان الفجر، فنهضت ووقفت أمام نافذة حجرتها تتأمل الليل الذي أخذ يغشى السماء بأعين حزينة يطل منها الحزن جليًا، في اوان ذلك كان يمان يتحدث في الهاتف ورفع رأسه تلقائيًا لأعلى فرآها..
كان يأسره الحزن في عينيها..
يود أن يعلم سره؟
لما تلك العينين الجميلتين حزنتين؟!
وأسر ذلك في نفسه ثم خفض جفنيه وسار مبتعدًا عن أسفل نافذتها.
[اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد]
«مالك يا عبد السلام، ليه شايفك مهموم؟ من يوم ما رجعنا وأنت سرحان وكأنك شايل هم العالم فوق كتفاك؟»
وربت على ركبته، وقال:
_هون عليك يا حبيبي، وشاركني همك من إمتى وإحنا بنخبي على بعض؟!
فتنهد عبد السلام بثقلٍ، وزفر في ضيق، وشردت نظراته في الفراغ، وأردف:
_أقول إيه بس يا مختار؟! في حاجات ع*ار إنها تتقال؟!
فتحير مختار، وقال في دهشة:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_دا الموضوع شكله كبير، فضفض طب معايا يمكن لما أشوف انا الموضوع من زاويتي ميكونش بالصعوبة اللي أنت شايفها دي!
ألتقط عبد السلام نفسًا عميقًا، وتطلع إليه، وقد حسم أمره في إفضاء ما في جعبته، وأخذ يقص عليه ما يعتمل صدره وكيف عرف أن غرام ابنته على علاقة بأحد الشباب، وعلى شكه في إن ابن عمها تركها لذلك السبب.
فهز مختار رأسه عندما انتهى عبد السلام، وقال بتفكير:
_حاسس إنك ظالم بنتك يا عبد السلام، وإن ابن عمها مسبهاش لنفس السبب ده، بل أشك إن غرام لأول مرة تعمل كدا بسبب اللي حصل لها؟!
فصاح عبد السلام مندفعًا:
_وهي كل واحدة تطلق تعمل كدا يا مختار؟!
قال مختار في هدوء، وحكمة:
_يا عبد السلام متستهونش باللي حصل، متبصش للموضوع من ناحيتك أنت! طب فكر بعد اللي حصل تقعد مع بنتك وتفهم منها إيه اللي هي حاسة بيه؟! إيه اللي عاشته! متستهونش بالضغوط النفسية النفس متاهة ممكن تخلي الانسان يعمل اي حاجه بدون وعي.
وسكت بينما عبد السلام يتفكر في كلامه، واسترسل مختار قائلًا:
_ومتنساش إن ذنوب الآباء أوقات بتدفع تمنها الأبناء؟! دور في حياتك اللي مضت وشوف نفسك إيه الذنب اللي دفعت بنتك تمنه.
وفي هلع كان عبد السلام يحملق في مختار مبهوتًا، والآخر يضيف في صرامة:
_روح خد بنتك في حضنك وصدقني طول ما أنت قريب من بنتك وصديق ليها بنتك مش هتبص لبره أبدًا ولا هتفكر في كدا.
وحثه قائلًا ببسمة:
_يلا روح وأنا مستنيك هنا.
واومأ عبد السلام برأسه موافقًا، وتوجه مباشرةً إلى حجرة غرام وتوقف أمامها حائرًا يفكر فيما قد يقوله لها، ثم طرق على الباب ببطء فلم يأتيه رد فقطب جبينه وفتح الباب بتأنٍ وهو يطل برأسه للداخل، هنالك رآها ساجدة وصوت بكاؤها يعلو يفطر قلبه، وسمع صوت استغفارها فأغمض عينيه، ودخل الغرفة وأغلق الباب وراءه، وانتظرها حتى تنتهي، فما كادت أن تسلم من صلاتها حتى ألتفتت إليه وتهدج قلبها، ونهضت وهي تطوي سجادتها، همت أن تعتذر منه لكنه أقترب واحتواها بين ذراعيه بصمت فبكت كما لم تبكي قبلًا حتى هدأت، فأجلسها والدها، وقال:
_زمان لما كنت كدا في عمرك، كان معايا صحاب بيعرفوا بنا*ت، فطلبت مني نفسي الأمارة بالسوء إني اعمل زيهم؟ ااصل فيها ايه يعني طالما كله بيعمل كدا، ونسيت إن الذنب ذنب حتى لو العالم كله بيعمله، فطلبت منهم يشوفوا لي بنت أكلمها، وبالفعل جابولي رقم واحدة وفضلنا نتكلم لأيام والأيام جابت شهور كنت بتسلى بس البت تعلقت بيا وحبتني فعلاً للأسف وكنت بوعدها وعود زايفة اني هتجوزها ويشهد الله اني وعودي كانت زائفة وأني كنت بحتقره*ا في نفسي، الراجل عمره ما يأمن بيته ونفسه لوحدة خانت ثقة والدها، مهما وعدها بكل وعود العالم وحلف لها بأغلظ الأيمان وقالها كلمة بحبك مستحيل يتجوزها في الآخر، مستحيل يخليها أم لعياله، وسكن لبيته.
سكت عبد السلام وغارت عيناه بالدمع لذكرى شقيقته الراحلة، وأتبع يقول:
_مفيش حاجه فوقتني وقتها غير عمتك ليلى، لما عرفت اني على علاقة بالبنت دي، فسألتني لو هي مكانها هل كنت هرضى بكدا؟ وهنا فوقت.
ادركت إني كنت على خطأ، لم تصورت إن ممكن شاب يتسلى بيها وإن ذنبي يترد فيها فوقت لنفسي وبطلت أكلم البت دي.
وسكت لحظة، ثم تابع:
_أوقات كتير بينسى الآباء إن كل أفعالهم بتترد في أبناءهم، وبينسوا الإخوات إن كل افعالهم بتترد في شقيقاتهم برضو الدنيا سلف ودين وكما تدين تدان وربك ليس بظلامٍ للعبيد، ياريت الكل يعرف كدا.
سلَّمت غرام رأسها إلى صدره، وضمته بذراعيه بأعين تذرف الدمع، ثم راحت تبثُ شجونها إليه بصوتٍ متهدج، وصدرٍ مختلج:
_لما طارق طلقني يا بابا وتاني يوم خطب حسيت إني وحشة أوي، إني متحبش، اني فيَّ حاجه ناقص*ة، أني مش جميلة حسيت اني مشوه*ة، كل ما بخرج من البيت الناس بتتكلم عليَّ بالباطل، بيقولوا إنه اكيد عرف إني غلط مع حد عشان كدا سابني، نظراتهم ليا كانت وحشة أوي، حسيت إني محتاجة حد يقولي أنتِ حلوة وجميلة وتتحبي، حد ميقولش عليَّ كلام وحش في وشي، فلما لقيت طلب الصداقة من الواد الغريب ده قبلته، بس انا مش وحشه يا بابا دي كانت اول مرة
اول غلطة
اكبر ذنب اعمله
انا اسفة اني خونت ثقتك فيا، أسفة إني زعلتك، أنا والله بتمنى اموت يا بابا
ربت عبد السلام على ظهرها، وهو يهمس:
_متقوليش كدا يا حبيبتي انا خلاص سامحتك.
ورفع ذقنها لينظر إلى عينيها، وقال:
_مش هكدب عليكِ وهقولك إني هنسى بسهولة زلتك لأ، بس أنا متاكد إنك مستحيل تعملي كدا تاني مش عشاني ولا عشانك عشان ربنا عشان فوقتي لنفسك.. وعرفتي إن الدنيا مش دايمة وأنك كان ممكن تموتي وأنتِ بتكلمي الواد ده وتتحاسبي وتقفي قدام ربنا مكسوفة مش قادرة تبرري.
ومحى عبراتها بإبهاميه، وأستطرد:
_مش عايزك تخبي عني حاجه تاني حتى أفكارك اللي بتروح وتيجي في دماغك، واياكِ تخافي مني أبوكِ لو حتى وحش فمعاكي مش هيكون وحش، تعالي حطي راسك على صدري واشكي همك وهسمعك وهنصحك وهقف جنبك.
وقبل جبهتها واستوى واقفًا، وقال وهو يضحك بهدوء:
_ويلا قومي اغسلي وشك خلينا ننزل نعمل لقمة للناس اللي تحت دي وتاخدي جدتك عشان طفشت الواد يمان، وشكلي كدا هجوزهاله وريح.
وضحكت غرام بخفة وهي تنفذ ما قاله لها أبيها.
وتوجهت بعد ذاك لتحضر طعام العشاء، فوجدت غادة تدخل إليها وهي تقول:
_حاسة إن في حاجه متغيرة!
فأستدارت غرام، وقالت ببسمة:
_متغيرة إزاي؟
فعقدت غادة ساعديها أمام صدرها، وقالت:
_زي مثلا إنك مبسوطة حبتين، حساكِ مرتاحة جواكِ رضى غريب!
فتنهدت غرام في ارتياح، وقالت:
_يمكن عشان لقيت نفسي، تعالي نحطلهم الأكل ونطلع إحنا فوق ناكل براحتنا.
وتعاونتا على وضع الطعام للرجال، وبينما غرم تتناول طعامها برفقة غادة، إذ قالت لها وهي تستشف شيئًا ما:
_غرام، قوليلي إيه رأيك في زكريا ابن خالي؟
فمضعت غرام ما بفمها، وتطلعت إليها ذاهلة لم تكن تعلم شيء عن زكريا ابن صديق أبيها!
ولا تذكر حتى ملامحه فإنها لم تهتم به أو برؤيته.
فهزت كتفيها وهي تقول في دهشة:
_رأيي فيه إزاي يعني؟
فأبتلعت غادة ما بفمها، وقالت في بساطة:
_يعني مثلًا جميل؟ ملامحه حلوة ولا إيه؟ شايفة انه حد كويس ولا لأ؟!
واسئلت غادة كانت لطلب من زكريا الذي لمح لها إنه يكن إعجابًا نحو غرام.
غمغمت غرام في جمود:
_وأنا مالي هو كويس ولا لأ؟! أنا اصلا معرفش عنه حاجة.. وغالبًا مخدتش بالي منه أبدًا من لما جه.
ثم تنبهت إلى بعض الندوب المنتشرة فوق ذراعي غادة، فسألتها باهتمام:
_أنتِ محرو*قة في إيه؟
فحدقت غادة إلى حروق يدها بنظرة فزع مع تذكرها لما كاد أن يصيبها من خطيبها السابق، ثم حوَّلت بصرها جهة غرام، وهمست بصوتٍ خفيض:
_دي حر*وق بسبب خطيبي!.
فقطبت غرام حاجبيها مندهشة، وقالت في صدمة:
_خطيبك حرق*ك إزاي يعني؟!
ازدردت غادة لعابها، وافصحت في هدوء:
_اصل يمان اخويا اكتشف عنه حاجه مش كويسة فنفصلنا، فاتجن غالبًا وكان هيكب مي*ة نا*ر على وشي بس ربنا ستر وجت على قد كدا والحمد لله.
فرفعت غرام حاجبها، وقالت في إشفاق:
_لا إله إلا الله، هو في حد بيفكر كدا؟!
رمشت غادة بأجفانها، ثم سألتها وهي تنظر إليها بطرفٍ خفي:
_وأنتِ اطلقتي ليه؟
زفرت غرام في توتر، وقالت:
_كان ابن عمي وكتبنا الكتاب وفجأة حصلت ظروف واطلقنا.
وتفهمت غادة فهزت رأسها ولاذت بالصمت عندما أحست ان الأمر يؤلم غرام.
بينما في الأسفل كان مختار يسأل عبد السلام وهو يتناول طعامه:
_بكره فرح ابن اخوك طارق، واكيد هتحضر وكفاية خصام كدا.
فهتف عبد السلام بأنفعال:
_هروح إزاي يا مختار بس؟ العروسة اللي بكرا دي كان المفروض بنتي مكانها!
فربت مختار على كتفه، وقال:
_بس اخوك ملهوش ذنب يا عبد السلام، والراجل جه لحد عندك كذا مرة يستسمحك ويطلب منك تيجي الفرح لإنك الكبير وإلا مش هيحضر.
ورمق يمان في اهتمام الرجلين وهو ينصت في اهتمام ليربط حزن غرام بطلاقها من ابن عمها الذي سيزف غدًا على أخرى كان يجب أن تكون هي مكانها، وتسلل إلى أذنيه صوت خاله وهو يقول بصدقٍ:
_انتوا اخوات يا عبد السلام والدنيا مش دايمة متخليش الشيطان يفرق ما بينكم في آخر أعماركم كدا، الدنيا مش مستاهلة يا صاحبي، ولو أنت عايز الصح فالمفروض تاخد بنتك غرام بكرا معاك ونروح كلنا.
فهب عبد السلام واقفًا وهو يخبط المائدة بكفه في غضبٍ، وصرخ:
_أنت اتج*نيت ولا إيه؟ آخد بنتي على فرح طليقها؟!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
ثمة حزن يطفئ القلب، ويخفت له النبض، ويسلب منا الضحكة، ويسرق منا بسمة العينين.
هنالك حزن يقتلنا أحياء..
يذرنا داخل قبر من الوحشة
يخمد فينا كل جميل
كانت غرام تهبط الدرج برفقة غادة عندما تناهى لها صوت أبيها وهو يصرخ، قائلًا:
__أنت اتجنيت ولا إيه؟ آخد بنتي على فرح طليقها؟!
فتخشب جسدها لوهلة، هل تذهب حقًا زفاف ابن عمها؟!
تُرى هل تستطيع يومًا أن تسامحه عما اقترفه في حقها؟!
وأصاخت السمع عندما نهض مختار ليسحب أبيها من ذراعه بعيدًا ليجلسا، وهو يقول:
_اهدى يا عبد السلام، العصبية مش هتفيد في حاجه.
وأغمضت عينيها في عنف، عندما فتحتهما تلاق بصرها مع أعين يمان فأطرقت وأستدارات لتنصرف من حيثُ أتت، وتبعتها غادة لأعلى، وهي تهتف:
_استني يا غرام!
وظل يمان يتابعها ببصره حتى توارت عن الأنظار، لكنه بقى شاردًا حتى أتاه صوت زكريا يهمس بجوار أذنه:
_صعبانة عليك البنت دي مش كدا؟! ولا أنت معجب بيها؟!
ازدرد يمان لعابه وهو يستدير ليواجه زكريا في صلابة، وغمغم بضيق وهو يحدجه شذرًا:
_مش صعبانة عليَّ ولا حاجة بالعكس حاسس إن ربنا نجاها من زواج فاشل، وزوج أفشل.
هز زكريا رأسه، وقال وهو يمعن النظر في عينيه:
_والسؤال التاني؟!
ردد يمان في دهشة:
_اللي هو؟!
تبسَّم زكريا تبسم الواثق، وقال وهو يدس كفيه في جيبيّ بنطاله:
_أنت معجب بيها؟!
فرفع يمان حاجبًا مندهشًا، وقال في صدق:
_وهو أنا اعرفها عشان أعجب بيها؟! الشكل مش كل حاجة.
ورمقه بنظرة سريعة ثم أبتعد، فتمتم زكريا في صوتٍ خفيض وهو ينظر في أثره:
_وحتى لو معجب مش هتكون ليك أبدًا.
وتوحشت عينيه بنظراتٍ بدت كالبركان الخامد.
في ذاك الآن كان عبد السلام يستدرك فعلته الحمقاء بحق ضيفه وصديقه، ويقول في إنفعال صادق:
_حقك عليَّ يا مختار مكنش ينفع انفعل كدا واتعصب عليك وأنت في بيتي.
فهز مختار رأسه في بساطة، وتمتم:
_براحتك عادي ولا يهمك أنا مقدر اللي أنت فيه وانفعالك عشان بنتك، وأنا لو مكانك هنفعل كدا.
ثم أعتدل يواجهه، وأستطرد:
_مش عايزك تفكر في لحظة غضب، روق كدا واهدى واسمعني.
وزفر زفرة مشبعة بالحنق وهو يضيف:
_ابن أخوك طارق دا شخص ميتأمنش، مش عارف أنت زعلان ليه؟
رمقه عبد السلام بنظرة مستهجنة، وكاد يعلق عما يقول، لكنه أحجم عن ذلك، عندما بادر مختار يستوقفه بإشارة من كفه، وقال:
_ايوة أنت لازم تحمد ربنا إن الجوازة دي متمتش، لإنها لو تمت كانت غرام هتتبهدل مع واحد قليل الأصل زي طارق كدا.. وملهوش أمان.
لانت ملامح عبد السلام وبدا إنه يسترخي في جلسته وقد تنهد في راحة وحمد، وأردف مختار:
_وإحنا لإن بنتنا مغلطتش لازم ناخد بعضنا ونحضر الفرح كلنا ونبين للناس إن مفيش أي حاجة، ونثبت لطارق إنه مكنش يستحق بنتنا من الأول.
ردد عبد السلام في تفكير:
_أيوا بس!
فغمغم مختار مستنكرًا:
_بس إيه؟ مفيش بس إحنا هنروح.
_أيوة يا بابا إحنا هنحضر فعلًا.
انبعث صوت غرام بغتة، فالتفتت العيون إليها، وهب عبد السلام واقفًا وهو يحدق في وجه ابنته في دهشة، وقال وقد زوى ما بين حاجبيه:
_موافقة إنك تحضري، متأكدة؟! دا ضغط نفسي عليكِ كتير!
فرفعت غرام رأسها في شموخ، وقالت بإباء:
_لا ضغط نفسي ولا حاجة بالعكس محتاجة إني أشوفه عشان أتحرر منه، وأثبت له إنه ولا حاجة بالنسبة ليّ وأني استحق اللي أحسن منه مش حد وخلاص.
نظرة إعجاب أطلت من أعين مختار، الذي وقف بجوارها قائلًا في حماس:
_أيوا كدا يا بت تعجبيني.
فتبسمت له غرام خجلة من الإطراء الذي حازت به، وأطرقت في صمت، ثم قالت:
_رايحة أجهز نفسي أنا وغادة وهشوف نهلة تمشي معانا.
🌹االلهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌹
وقفت غرام تطلع إلى نفسها في المرآة، بعدما تجهزت لحضور حفل زفاف ابن عمها..
الذي هو طليقها السابق..
وتمعنت مليًا في تأمل ملامحها الرقيقة، وبشرتها التي تميل إلى السواد قليلًا، لكن عينيها كانتا نَجْلاويْن جذبتين، يحفهما أهدابٌ طويلة ما أن لامسهم الكحل حتى بدتا كبحرٍ من عسل..
هل تُرى العيب فيها؟!
هل لم يراها طارق جميلة؟
لماذا لم يكمل حياته معها؟! لماذا طلقها قبل زفافهما! اليوم كان من المفترض أن تكون هي العروس، وأن تزف الليلة.
أغروقت مآقيها بالدموع، وهذه الخواطر تتوافد إلى ذهنها في تتابع مذهل، وأحست بأنهيار..
بالأنهيار في قلبها..
كأنه تحول في صدرها إلى بركان، طفق يلقي حممه فتذيب كل وجدانها
هل تعلم ما هو أصعب ألم قد يحسه المرء؟
ذاك الألم الذي لا نعرف كيف نصفه، أو نعبر عنه…
ألمٌ هو يقتات على فؤادنا فيهلكنا ويردينا قتلى وما نحن بقتلى..
أحياء ولسنا بأحياء..
نواجه الدنيا بكل طاقتنا لكنها توارينا الثرى ونحن فوقها.
“غرام، غرام.. أنتِ يا بنتي! ”
تنبهت غرام من شرودها على صوت نهلة، التي طرقت الباب وعندما لم يأتيها رد، دفعت الباب لتجد غرام تحدق في المرآة بصمت..
تطلعت غرام فيها عبر المرآة وهي تقول:
_نهلة.. معلش مخدتش بالي.
فهزت نهلة رأسها وهي تقول في بساطة:
_ولا يهمك يا ستي..
ثم أستطردت في شغف:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_أيه القمر ده كله؟
كانت صادقة وترمقها بنظرة منبهرة، جعلت غرام تشعر بالحياء، وارتسمت بسمة هادئة على ثغرها وهي تقول:
_دا أنتِ إللي قمر..
نقر خفيف هاديء انبعث من لدن الباب، ثم أتبعه صوت غادة وهي تقول في حماس:
_إيه يا بنات خلصتوا؟
ولم تترك لهن فرصة للرد، بل لجت للداخل وهي تصيح:
_أنا مش مصدقة إني أخيرًا هحضر فرح صعيدي.. وهشوف رقص بلدي!
تبسمت غرام، ثم سألتها بغمزة:
_ومش كدا وبس احتمال ترجعي بعريس.
فقهقهت غادة، وغمغمت:
_مش اوي كدا يا ستي.
فسحبت غادة نهلة من كفها، بينما أخذت ذراع غادة لتتأبط ذراعها، وقالت:
_يلا يا بت منك ليها بلاش نتأخر عن كدا.
وجدوا الرجال في أنتظارهم أمام الدار، وهتف عبد السلام:
_كل ده تأخير يا بنات؟
فتمتم مختار مبتسمًا وهو يحتوي غادة بعينيه:
_هي البنات كدا يا عبد السلام براحتهم يا عم التأخير يستاهل البنات نازلين قمر.
فزمت غادة شفتيها ودنت منه تسأله بضيق:
_يعني أنا كنت وحشة يا خالوا ولا ايه؟
فطوق مختار كتفها في حنو، وقال بنبرة تقطر بالعاطفة:
_أنتِ قمر في كل حالاتك يا حبيبة خالك..
وحاد ببصره نحو ابنه ويمان وبدا كأنه كاد يقول شيئًا أحجم عنه حين لمح ابنه وهو يتفرس النظر في غرام، فنفل بصره بينهما ببسمة عريضة، وغمغم يمان بضيق جلي:
_مش يلا ولا أيه؟
لكن الجدة تأبطت ذراعه، وقالت:
_يلا نمشي أنا وأنت ونسيبهم.
فربت يمان على كفها في حنو، وهمس:
_حاضر..
فرمشت الجدة بأجفانها وهي تطلع إليه بحالمية، فكظم يمان ضحكته وقال لها محاولًا إقناعها:
_يلا روحي امشي مع البنات لحد ما نوصل الفرح.
فسألته في اهتمام وهي ترنو إليه بأعين تضوي:
_هو إحنا رايحين فرحنا؟ يعني خلاص كدا هنتجوز!
اطلق مختار ضحكة عالية، بينما تبسم عبد السلام وهو يضرب كفًا بكف في قلة حيلة، واقتربت غرام تسحب جدتها وهي تبتسم في شكر ليمان الذي تبسمت لها عيناه واومأ لها في سلام.
توجهوا جميعًا صوب حفل الزفاف الذي كان يقام في الشارع، وقبيل وصولهم إلى المكان تلألأت أعمدة الإنارة التي كانت معلقة عاليًا تمتزج بكل الألوان، ومروا الفتيات بين رهطٍ يرقصون بالعصى ثم ذهبوا إلى حيثُ مجلس النساء المتجمعات..
ومالت غادة على أذن غرام، وأرتفع صوتها ليصل إلى الأخرى بسبب الموسيقى والأغاني الصاخبة، وهي تقول:
_أفراحكم غريبة اوي.
فجذبتها غرام وهن يتوغلن للداخل، وغمغمت:
_أنتِ لسه شوفتِ حاجة تعالي.. تعالي.
ثم لم يلبثن أن أنخرطن بين النسوة وتجمهرن يصفقن حول مجموعة من الراقصات مجاملة للعروس..
وفجأة تقابلت غرام مع زوجة عمها وجهًا لوجه، توترت، وارتبكت والأخرى تبتسم في خبث ومكرٍ ودهاء وهي تقبل إليها لتعانقها بمودة زائفة، وهي تقول:
_مكنتيش جيتِ يا غرام!؟
فردت غرام عليها بثبات:
_ودي تيجي يا مرات عمي دا الواجب!
فغمغمت زوجة عمها وهي تلوي شفتيها:
_بت اصول يا حبيبتي، ولكن مكنش حد هيزعل كلنا مقدرين إنك مش هتقدري تشوفي طارق طليقك جنب وحدة تانية المفروض تكوني أنتِ مكانها.
ونظرت غرام لها مصعوقة، والأخرى ترمقها بشماتة واضحة، قائلة:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_اصل عمك لما اقترح على طارق يتجوزك طارق وافق رضا لأبوه، مع إني كنت شايفة له وحدة تانية…
ونظرت جهة العروس الجالسة بجانب عريسها على منصة خاصة، بطريقة واضحة تعني أن زوجة عمها قد أفلحت وتزوج ابنها بمن اختارت هي.
ألتمع الدمع بأعين غرام، وزوجة عمها تواصل:
_مسافة ما طلقتوا كنت انا بكلم أم نيرة مرات ابني اصل ابوها متوفي..
إذن فزوجة طليقها تدعى نيرة!
هكذا وقر الاسم في ذهنها وهي تلتفت لتنظر لتلك نيرة بنظرات خاصة، أخرجتها منها زوجة عمها وهي تربت على كتفها، قائلة:
_معلش يا حبيبتي دا نصيب وأنتِ مش من نصيب طارق ابني.
“الحمد لله ألف مرة إنه مش من نصيبها، وإلا كانت هتبقى مصيبة”
هكذا غمغمت نهلة لتدافع عن ابنة خالها في بسالة، ثم احتوت كتف غرام مؤزارة، وهي تتابع بنبرة جافة:
_اصل الغالي ملهوش إلا الغالي يا مرات خالي، والرخيص دايمًا بياخد الرخيص إللي زيه.
وتمعنت النظر إلى غرام، وفي صوت خفيض، أستطردت:
_وغرام دي ست البنات متاخدش إلا واحد أمين يشيلها جوا القلب.
وبدا أن المرأة تغلي من الغيظ، ورحلت من أمامهن غاضبة وهي تشتعل من الحقد الذي ليس له مبرر، بينما همست نهلة في أذن غرام:
_مضايقيش نفسك ما أنتِ عارفه مرات عمك مبتحبش حد، وعمك ملهوش كلمة في البيت مراته هي إللي ممشية كل حاجة، والآمر الناهي في كل شيء، رجالة آخر زمن.
كانت تدرك غرام إن خالها يجب أن يكون رجل البيت، لكنها دائماً ترى أن زوجته هي رجل البيت..
إذ هي تقرر هو يذعن في طاعة عمياء..
الكلمة لها…
والفعل لها..
وهو بالاسم رجل البيت تحركه امرأة كيفما تشاء.
تبسمت وتصنعت السعادة، كان يجب أن تستدعى الفرح إلى ملامحها ولا تظهر لأحد ضعفها، في حين أنها تتمزق..
نعم كانت تتمزق إلى أشلاء.. وعينيها لا تحيدان عن طارق وعروسه..
كان من المحتسب أن تكون هي بجواره!
فأنَى حدث ما حدث واحتلت أخرى مكانها.
العين دامعة، بينما الثغر باسمًا، والقلب يهتف مرفرفًا كالذبيح:
_سامحك الله يا طارق عن هذا الألم المميت، وأذاقك الله أضعافه، فقد شيدنا منزلنا لبنة لبنة، فهدمته أنت دفعةً واحدة.
كانت تحدق فيهما بنظراتٍ خاوية، وقلبًا فارغًا من الضياع..
عند مجلس النساء كان طارق قد فارق عروسه، وأصبح في صف الرجال يصافح من جاءه مهنئًا، حتى أصبح قبالة عمه الذي أشاح وجهه بعيدًا، ورفض أن يصافحه..
فلم يحاول طارق ولم يسع لينال العفو من عمه، بل صافح مختار الذي بادله بفتور، ثم زكريا ويمان..
وعند يمان توقف على صوت رجل، يسأل في فضول:
_هو إيه اللي حصل يا عبد السلام عشان طارق يطلق بنتك.
وازدرد عبد السلام ريقه، بينما شحب وجه طارق شحوبًا شديد والتفت إلى الرجل كإعصار وهم أن يجيب، بينما تابع آخر:
_غرام اللي الكل يتحاكي بأخلاقها برضو تتساب.
فرد عليه آخر في غلظة:
_يا عم الله وأعلم إيه اللي عرفه عنها ابن عمها وسابها، ما خفى كان أعظم من الظاهر…
وغمغم آخر:
_حرام عليك متتكلمش عليها كدا، منه لله اللي كان السبب لإن بنات الناس مش لعبة، ودا المفروض ابن عمها بعد ما سابها مين هيتقدم لها…
وبتر الرجل عبارته، وعقدة كل الألسن عندما هدر مختار بانفعال:
_بس.. كله يسكت ويدخل لسانه جوا بقه، غرام اللي الكل جايب سيرتها بالباطل مظلومة، العيب على اللي عمل نفسه راجل وتزوج وطلق لمجرد إنه كان بيكلم وحدة على التلفون وحبها وطلع قليل الأصل.
وصرخ طارق وهو يتميز غيظًا وينفجر غضبًا:
_أنا اللي قليل الأصل يا رجل يا خرفان أنت؟!
وقطع عبارته عندما جذبه يمان من ذراعه وهوى على وجهه بلطمة قوية، وهو يهتف في جنون:
_مين اللي خرفان يا اض أنت؟! أنت تعرف نفسك بتكلم مين؟!
ودخل الاثنان بشباك بالأيدي، بينما الغِل في قلب يمان لم يهدأ بدا كأنه ينتقم لغرام لا لشيء إلا أنه قد تصور أن شقيقته مكانها..
وقد تزوجت من رجل مثل طارق ثم طلقها..
فانهال عليه ضربًا وكان سيواصل ذاك الشجار العنيف، لولا مجموعة من الرجال الذين تكالبوا عليه ليفصلوه عنه، فأبتعد وهو يرغي ويذبد، وصرخ عبد السلام وهو يدق بعصاه الأرض:
_أي حد هيقول كلمة في حق بنتي هقطع لسانه، وقبل ما تحكموا على حد بعد كدا أبقوا اتاكدوا إنه يستاهل.
ثم نظر إلى ابن أخيه بنظرة ازدراء وهو يقف مترنحًا ويمسح خيط الدم الذي انساب من طرف شفتيه.
بدا زكريا مستمتعًا بما يحدث، بينما اندفع يمان نحو خاله ليغادروا المكان، إلا أن خاله فجر قرارًا لا يدرِ إن كان قد أتخذه سابقًا، أم حتمه الوضع واندفع من فِيهِ تلقائيًا:
_غرام ست البنات مخطوبة لابني زكريا… ويشرفني ويسعدني إني أجوز ابني من وحدة بأخلاق وجمال غرام واللي هي بنتي مش بنت صديقي.
وتعالى الهمس، وصُدم يمان، وارتسمت بسمة واسعة على شفتا زكريا وقد برقت عيناه، بينما أيد عبد السلام كلام صديقه قائلًا:
_غرام دلوقتي في حكم المخطوبة لزكريا..
ولأجل أن تعلم الناس من زكريا، ضم كتف زكريا إليه وهو يقول في فخر:
_بنتي ربنا عوضها باللي احسن من جوزها.
وأطل غضبٍ هائل في أعين طارق وهو يرمق زكريا في عداء واضح، بينما بدا يمان مذهولًا، مأخوذًا بما حدث…
فكيف ومتى تم خطبة غرام وزكريا؟!
أنَى لفتاة مثل غرام بتلك الرقة تكون شريكة لشخص مثل زكريا؟!
كيف حدث هذا؟!
هل خرجت غرام من كنف رجلٌ خسيس لتدخل في كنف رجلٌ أخس منه؟
ماذا فعلتِ يا غرام لتنالي هذا البلاء؟!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
 لم تدرِ غرام بما دار بين الرجال..
لم تعلم أنها قد خُطبت للتو..
لم تعرف شيئًا عن مصيرها البائس المنتظر..
فقد خطت إلى الأمام، وارتقت درجات المنصة، ويمّمت وجهها شَطر العروس الجالسة بعد رقصة مرهقة، ومنهكة..
وأحست بساقيها لا تحملانها إلا بإعجوبة، ورغم الخاطر الحائر الذي كان يلح عليها بالفرار فقد تغلبت عليه ببسالة، كانت كمن ملك قوة غير مرائية قُذفت بغتة إلى اعماقها فحملتها فوق المنصة..
ورغم أن الصخب كان عاليًا، وصوت الأغاني يصم الأذان، ألا أنها بدت متغيبة كأنها أُصيبت بالصم، تقافزت ذقات قلبها في جنون، وبكل توتر الدنيا توقفت أمام العروس، تطلع إليها في غرابة..
وتساؤل أيضًا!
أهي أجمل منها؟ أم بها شيء مميز لا تدركه عينيها!؟
وظلت تحدق فيها متجمدة الأطراف، حتى لاحظت العروس فتأملتها بدورتها، وبادرتها في اهتمام:
_أنتِ بتشبهي عليَّ ولا أيه؟
هُنا فقط تنبهت غرام إلى نفسها، وأنتزعت ذاتها من شرودها الذي سيطر عليها إنتزاعًا، وغمغمت وهي تهز رأسها في تيه بيَّن:
_لا أبدًا مش بشبه ولا حاجة..
ومدت كفها مصافحة، وأردفت:
_جيت أأقولك مُبارك وجودك في عيلتنا!
فارتسمت بسمة واسعة على ثغر نيرة وهي تنهض في بطء حذر، وصافحتها في وِد قائلة:
_الله يبارك فيكِ، بس أنتِ تقربي إيه لطارق؟!
أرتدت غرام إلى صمتها لردحًا من الزمن، وفي عقر قلبها أنتفض وتينها في فزع لا مبرر له، وشخصت البصر في نيرة، ثم إزدردت ريقها وقالت بصوت شاحب للغاية:
_أنا غرام بنت عمه عبد السلام!
فرددت نيرة في إنفعال يشوبه العصبية:
_طليقته؟! أنتِ طليقت طارق؟
وأمعنت النظر فيها بدورها بنظرة عدوانية وقد تلاشت كل ملامح السعادة عن وجهها الذي بدا كالوحة جامدة.
وحدقت كلٌ منهم في الأخرى، بنظرات يشوبها الغيرة، حتى تقدمت بعض الفتيات من أقارب العروس، وجذبتها بعيدًا لتشاركهن في إحدى الرقصات، فتنهدت غرام تنهدًا عميقًا، ثم أطلقت زفرة مشبعة بما يعتمل في صدرها، وأستدارت لتهبط درجات المنصة وهي تتهيأ لمغادرة الساحة، فتأبطت ذراع كلٍ من غادة ونهلة وانسلوا من بين النسوة خارج الفرح. وحتى يكتمل اليوم، وتصل همومها إلى الذروة، ولكي تقتات ضغوطها النفسية على ما تبقى من ثباتها وجدت نفسها وجهًا لوجه أم طارق..
فتوقفت عن السير.. وتوقف بدوره
وحدقا في بعضهما مليًا..
لم يخف عن أعين غرام تلك الندوب التي بدت واضحة وضوح الشمس على ملامح ابن عمها، وأدركت أن العريس خاض شجارًا حاد، وفجأة حولت بصرها عنه وهمَّت أن تتابع سيرها، فما كادت أن تتجاوز طارق، حتى توقفت على صوته البغيض يقول في حقد:
_مبارك الخطوبة يا بنت عمي!
أيُّ خطوبة؟ هكذا تساءلت غرام في نفسها وهي تلتفت إلى طارق بنظرة مندهشة، فتقدم هذا الأخير خطوة بدت عدوانية إلى حدٍّ كبير، وغمغم في شراسة:
_طب حتى كنتُ عزمتينا ولا قُلتِ عشان نعمل الواجب!
فهتفت غرام في انفعال:
_خطوبة إيه يا طارق أنت أتجننت؟ ولا حد ضربك على دماغك؟!
فضرب طارق كفًا بكف، وصاح في عصبية مفرطة:
_وكمان عايزين تخبوا؟! يلا بنت عمي تتهني بخطيبك، ويا ترى ناوية تعزمينا على الفرح ولا هنعرف زي الأغراب؟!
أتقدت حدقتا غرام بالغضب الذي بدا كبركان ثائر على وشك الاندلاع، وكادت أن ترد عليه، لكن جذبتها غادة من ذراعها، وهمست في هدوء:
_سيبك منه يا غرام خلينا نمشي من هنا دا شكله اتجن.
فأومأت غرام برأسها موافقة، وحدجت طارق شذرًا، ثم أولته ظهرها وهي تجز على أسنانها، قائلة:
_مبارك زواجك يا بن عمي.
وصك طارق على أسنانه في غيظ، وهو يشيع رحيلها بعينين مفعمة بالغل.
🌹اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌹
جلس عبد السلام حائر مما فعل، وبجواره مختار الباسم الثغر، بينما ظل يمان وزكريا خارج البيت…
يمان يغلي من الغضب كأن رأسه قدرٍ يغلي فيه الدماء، وظل زكريا يراقبه متبسمًا كمن يروق له قلقه.
غمغم عبد السلام بحنق مشوب بالحيرة:
_أيه إللي عملناه ده يا مختار يا خويا!
فتمتم مختار بنبرة هادئة للغاية:
_عملنا أيه؟
أردف عبد السلام مغضبًا:
_إحنا خطبنا العيال لبعض من غير مشورتهم، طب الناس هتقول أيه لما يعرفوا أن مفيش خطبة ولا حاجه؟!
رد عليه مختار بذات النبرة الهادئة:
_والناس مالها ومالنا يا عبد السلام هنفضل لأمتى خايفين منهم؟
واعتدل في جلسته ليكون إزاءه، وتبسَّم في ظفر، وهو يقول في هدوءٍ شديد:
_ثم مين قالك إني مش عايز أخطب بنتك فعلًا لزكريا ابني؟ أنا كنت ناوي بالفعل أفاتحك في الموضوع قريب، خاصةً أني لاحظت إعجاب زكريا بغرام، بس عايزين نمهد الموضوع ليهم البنت يلا طالعة من زواج فاشل، وعلاقة فاشلة، وأكيد مش هطيق ترتبط دلوقتي.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
سكت لهنيهة يلتقط أنفاسه، بينما بدا عبد السلام يقلب الموضوع في ذهنه، في حين عاد مختار يقول في راحة:
_بصراحة أنا عندي خطة عشان نقربهم من بعض!
أطل تساؤل متلهف في حدقتا عبد السلام، فغمغم مختار سريعًا:
_غرام هتنزل معانا القاهرة تشتغل في الشركة عندي بشهادتها.. تغير جو وتنسى إللي حصل هنا، وتهون من ضغوطها النفسية شوية، خاصةً أن هنا متاح ليها تشوف طارق كل شوية وده هيدمر البنت..
سكت لائذًا بالصمت لثوانٍ، قبل أن يتابع:
_غرام هتبقى تحت عيني، وزيها زي غادة وزكريا وأكتر، وهخاف عليها ومش هخليها محتاجة حاجة وهتكون هي وغادة سوا اصلًا يعني متقلقش، وبكدا هتكون قريبة من زكريا ولو حصل قبول يبقى نتوكل على الله.
فتمتم عبد السلام في حيرة شاردة:
_أنا مش عارف أأقول أيه؟
فربت مختار على ركبته وقال في خفوت:
_فكر براحتك.. وتأكد أن يهمني مصلحة غرام زيك واكتر.
🌹اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌹
خرج مختار من الدار، ووقف على عتبت البيت، وهو يستنشق الهواء في بهجة، بينما دنا زكريا، ورنا إليه بنظرة ثاقبة، وهو يقول:
_أيه إللي أنت عملته ده يا بابا في الفرح؟ أنا عارف أن عشان تنقذ الموقف قُلت كدا، ولكن الناس لو عرفت أن مفيش خطبة هنعمل أيه؟
فأجابه مختار عاقدًا ساعديه أمام صدره:
_ومين قال أن مش هيكون في خطبة؟
فازدرد زكريا ريقه، وقال بصوتٍ خفيض:
_تقصد أيه؟
فتبسم مختار وهو يحل عقدة ذراعيه ليقبض على كتفيّ ابنه، قائلًا:
_يعني أنا عارف أنك معجب بغرام، وانا مش هلاقي لك واحدة أحسن منها.
تطلع زكريا في والده بصدمة طغت على ملامحه التي أستحالت إلى الجمود التام، ثم قال بصوت شاحب:
_أنت بتهزر يا بابا مش كدا؟ أنت تقصد خطبة وزواج ليَّ أنا؟!
انفعل مختار وهتف:
_امال ليا أنا؟ هتفضل لحد إمتى مش متجوز، ولا عايز تتجوز؟
صاح زكريا وهو يشير بسبابته على صدره:
_أنت عايزني أنا اتجوز واحدة زي غرام؟!
فقبض والده في ثورة من الغضب على مقدمة قميصه، وصرخ:
_ومالها غرام يا روح أمك؟! دي ألف من يتمناها.
غمغم زكريا وهو يفلت يد والده:
_إلا أنا!
هم مختار أن يثور مجددًا، لكن زكريا قال وهو ينصرف من أمامه:
_مستحيل.. مش هتجوزها.
تجمدت أطراف مختار حائرًا.
هل اخطأ في تقدير الأمور؟!
ألم يرَ بنفسه نظرات ابنه على غرام؟!
لم يدرك حينها أنها نظرات شيطانٍ رجيم!
تحرك مبتعدًا عن الدار وهو يفكر ويرتب الأمر في ذهنه مجددًا، حتى وجد يمان يسير بجانبه.. كمن يشاركه التفكير.
قال يمان وهو يدس كفيه في جيبيّ بنطاله:
_الحقيقية أن أنا شايف أنك تسرعت…
فرد مختار في لهفة كغريق يتعلق بطوق نجاة:
_بجد؟ أنت شايف كدا؟
اومأ يمان في هدوء، وقال:
_الأمور دي مبتجيش بالأسلوب ده، وأنت تسرعت لما اعلنت كدا من غير ما ترجع لزكريا ولا لغرام.
وفي أسى ردد مختار:
_كانت نيتي خير.
طوق يمان بذراعه كتف مختار، وهو يقول:
_متشيلش نفسك ذنب اللي حصل أنت كنت تقصد خير.
وتنهد تنهدًا عميقًا مرتاحًا وقد ظن أن غرام قد نجت.
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
جلس زكريا يفكر في الأمر، وإذ راح عقله يستحضر صورة غرام.
أنها تروق له لن ينكر..
لكنه يومًا لم يفكر في الزواج ما دام كل شيء بين يديه!
لقد ألتقى بفتيات أجمل منها ولكن…
لماذا!!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
لماذا لا يوافق على اختيار أبيه ويتزوج، وهو يعلم أن واحدة بأخلاق غرام لن يجدها في مجتمعه كثيرًا، خاصةً أن من حوله من فتيات لا يعرفون معنى كلمة أخلاق..
حسن ليتزوج لتحمل اسمه فتاة جيدة ذات خلقٍ ودين وعائلة.. وليمارس هو كل ما يبغيه دون علم أحد..
سيكف والده عن الإلحاح عليه بالزواج؟!
سيرحمه من السؤال ليل نهار عن مكانه، وماذا كان يفعل؟!
الحقيقية أن زواجه من غرام رحمة من تسلط أبيه؟!
ووحدة في براءة غرام لن تدرك ما يفعله قط.
توقف سيل أفكاره عندما تسللت إليه أصوات وضحكات أنثوية، فرفع بصره إلى مصدرها فتراءات له البنات وهن يتقدمن إلى البيت ويتسامرون، فأمعن النظر في تفحص شديد إلى غرام من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، واستشعرت غرام أن هناك من يثقبها بنظراته، فتلفتت في حيرة لتقابل عينيها اعين زكريا، ولم يخف عليها تلك النظرة الفاحصة التي يرمقها بها، ولأول مرة تركز في ملامحه..
كان جميلًا.. ذا بشرة بيضاء، وأعين عسلية، وخصلاتٍ ناعمة.
لكن هل كل جمال يقبل؟
🌹اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌹
في اليوم التالي وما أن فتحت غرام عينيها حتى وجدت الباب يطرق وتدخل بعد النسوة مهنئين لها على خطبتها.. وأستقبلت هي التهاني مندهشة، مذهولة وهي تردد:
_مين اللي اتخطب؟!
فلم تجد إجابة شافية، حتى اجابتها إحدى الجارات قائلة:
_كدا برضو يا غرام يا بنتي هان عليكِ العشرة، تتخطبي لزكريا بن مختار صاحب أبوكي من غير ما تقوليلنا مكنش العشم يا بت.
فتطلعت إلى المرأة ذاهلة، وقالت في توضيح:
_حضرتك غلطانة أكيد أنا متخطبتش!؟
فلكزتها المرأة، قائلة:
_بتنكري ليه يا بت، خايفة من الحسد ولا أيه؟ وبعدين انا جوزي هو اللي قالي على اللي حصل إمبارح في الفرح.. وعلى الخطوبة.
رفرفت غرام بأهدابها في حيرة، وهي تقول بوجهٍ ممتقع
ما أن تذكرت حالة طارق وقد حسبت أن أبيها قد خاض معه جدالًا:
_هو إيه اللي حصل إمبارح في الفرح!؟
فأنبعث الرد من ورائها مباشرةً، بصوت أبيها عبد السلام يقول:
_حصل خير يا حبيبتي، شكرًا يا ام رفعت على تعبك ومجيئك لتهنئة بارك الله فيكِ.
فغمغمت المراة وهي تتهيأ للرحيل:
_دا الواجب يا عم عبد السلام، أفوتكم بعافية.
ألتفتت غرام إلى أبيها في تساؤل حذر، وقبل أن تنبس ببنت شفة، قال عبد السلام في صرامة:
_تعالي ورايا!
وتطلع الجميع إلى أثر غرام وعبد السلام وهم يأخذون ركنًا قصي للحديث، بينما مال زكريا على أذن أبيه هامسًا:
_أنا موافق على الزواج من غرام يا بابا.
وتهللت أسارير مختار وهو يلتفت له، قائلًا في لهفة:
_بجد يا زكريا بجد؟
فعمغم زكريا بإماءة من رأسه:
_بجد يا بابا، أنا فكرت ولقيت أن مفيش وحدة تستحق تشيل أسمي إلا غرام؟!
فضمه والده في شغف، وهو يقول مهللًا:
_حبيبي يا زكريا، انا هكلم عبد السلام ولو غرام وافقت يبقى نشبك.
ووجم يمان في صدمة، وتجهم المحيا، واكفهرت ملامحه، كان عسيرٌ عليه أن يقبل بزواج غرام لشخص مثل زكريا بعدما أستضافوهم وكان بينهم عيشٌ وملح.
أنَى يوافق على ذلك دون أن يشعر بتأنيب الضمير؟!
في ذات الآن كانت غرام تساءل أبيها:
_هو في ايه يا بابا أنا مش فاهمة حاجة!؟
فاحتواها عبد السلام بعينين براقتين، وهو يقول في هدوء:
_عمك مختار عايزك تسافري معاه تشتغلي في الشركة عنده..
وتلكأ وهو يتابع:
_وكمان هو…
صمت في حيرة عما يقول، لكن استحثته هي قائلة:
_وأيه؟
فغمغم سريعًا وهو يشيح بوجهه:
_طلبك لابنه زكريا.
فرددت غرام في دهشة:
_زكريا!
ونقلت بصرها إلى زكريا الذي تطلع إليها بدوره، واختلجت الأمور في نفسها، فرددت ذاهلة:
_زكريا!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
لحظة فارقة في حياة المرء قد يتغير بعدها كل شيء، ربما إلى الأسوء.. أو الأفضل من يدري ما النتيجة، وكلمة قد نتفوه بها دون تفكير قد تقلب حياتنا رأسًا على عقب.
أكثر شيء قد يسعد الفتاة هو الزواج وأن تكون مرغوبة، وغرام وجدت نفسها فجأة مرغوبة بعدما تم رفضها من اقرب الناس إليها، وحين علمت بطلب زكريا بالزواج منها وافقت دون تردد على أن يتم عقد القران خلال شهر، وها هي ذا تصبح خطيبة زكريا بن مختار صديق والدها وتسافر إلى القاهرة برفقتهم…
كل شيء تم بسرعة أدهشتها بسبب ضرورة تواجد مختار في شركته بعدما قضى وقت لا بأس به في أسيوط.
وهناك أنبهرت بكل شيء فالحياة في مصر كانت مختلفة تمامًا عمَّا تخيلت، ظلت ليومين بين خروجات برفقة غادة إلى أخرى برفقة عمها مختار وقد قام زكريا بتجنبها تمامًا في تلك الأثناء.
ما أن بدأ الفلق ينبلج في السماء؛ حتى كانت غرام قد أستيقظت لتبدأ أول يوم في العمل، وكانت تشعر بحماسٍ شديد يتمشَّى في أوصالها، وشغفٍ لتلك الحياة الجديدة المقبلة عليها.
كانت دائمًا تتمنى أن يكون لها دخلٌ خاص من تعبها هي، وكيانٌ خاص أيضًا وها هي ذا تنال بغيتها وما تمنت دائمًا، ما أن أدت فرضها حتى كانت ترتدي ملابس عملية نوعًا ما لا تخل من الأحتشام، وبينما هي تلف خمارها وتطلع في مرآتها تناهى لها طرقٌ خفيف على الباب، فأستدارت وسمحت للطارق بالدخول، لم تلبث أن طلت غادة من لدن الباب، وهي تقول بصوتٍ خفيض:
_صباحوا.. جاهزة ولا أيه؟ قُلت آجي أشوفك قبل ما تمشي.
أعقبت عبارتها بإغلاقها للباب ودلفت للداخل، وغرام تجيبها:
_حاسة أني خايفة أوي وعايزة أتراجع!
فتبسَّمت غادة تطمئنها، وقالت في هدوء:
_وليه الخوف اهدي كدا وخدي نفس عميق وأبعدي التوتر ده كله هيعدي تمام وأنا جنبك ومعاكِ خطوة بخطوة.
فزحف الأرتياح على ملامح غرام التي استكانت، وتنهدت تنهدًا عميقًا وأسبلت جفنيها في أرتياح، وغمغمت:
_حاضر.
ثم زفرت في ثقل ما يعتمل فؤادها من توتر، ونظرت إلى غادة في اهتمام.. وسألتها:
_أنتِ ناوية تعملي أيه النهاردة؟
تمتمت غادة في بساطة:
_ولا حاجة هروح النادي شوية وهقعد مع صحباتي وهرجع بس.
همَّت غرام أن تجيبها، لكن انبعث صوت مختار من الخارج يقول:
_غرام أنتِ جاهزة؟
فتحركت تجاه الباب، وهي تهتف:
_أيوة يا عمو جاية.
ووجدته في أستقبالها خارج الحجرة، وبادرها قائلًا:
_أيه يلا بينا ولا لسه؟!
فنقلت بصرها إلى غادة وقد عادها التوتر والتردد، فقالت غادة بدلًا عنها وهي تتأبط ذراعها:
_أيوة جاهزة وهوصلها لحد العربية عشان تستناكم هناك.
ثم مالت وهمست لها:
_يا بنتي أجمدي كدا دا شغل عادي هتستلميه مفيش أي قلق.
فدمدمت غرام:
_حاضر حاضر.
*********
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
في انبهار سارت غرام جوار مختار داخل شركته، عينيها تجولان في كل مكان إلى العملاء الذين أصطفوا وراء مكاتب صغيرة جميعهم وقفوا احترامًا له وتحية، ثم توجه بها مع يمان إلى مكتب فتح بابه وتنحى جانبًا مفسحًا لها الطريق وهو يقول في هدوء:
_وده مكتبك يا ستي.
فدلفت غرام للداخل بعينين تبرقان انبهارًا، ودخل في إثرها مختار الذي قال:
_أنتِ هتكوني مسؤلة من يمان، هيعلمك كل حاجة بصراحة هو افضل من زكريا ابني في الموضوع ده وباله طويل وانا..
وأتبع يقول وهو يضع كفه على كتف يمان بفخر:
_واثق فيه.
ثم دنا من غرام وقال بنبرة حنونة:
_أنا هسيبك دلوقتي وهروح مكتبي لو احتجتي أي حاجة متترديش تطلبيها من يمان أبدًا تمامًا.
اومأت غرام باسمة وهي تختلس نظرة إلى يمان الصامت الذي استرق النظر إليها ثم أشاح بوجهه بعيدًا، غادر مختار ووجدت غرام نفسها برفقة يمان فقط، وساد بينهما صمت مفاجيء، قطعه تنهيدة يمان، ثم تنحنح وقال ببسمة طافت على ثغره سريعًا ومرت كالسحاب:
_طيب أنا معاكِ وهنمشي وحدة وحدة عادي جدًا، شغلك مش هيكون صعب أنتِ بس هتحددي ليّ مواعيدي مع العملاء واوقاتي، وهتكتبي الإيميلات اللي هقولك عليها، وممكن نخرج في مقابلات عمل وهكذا و…
وسكت لبرهة وهو يزدرد لعابه وقد أرتج عليه الحديث، ثم أعاد البصر إليها كرةٌ أخرى، وتمتم متسائلًا في استدراك:
_أنتِ بتفهمي في الكمبيوتر كويس؟
هزت غرام رأسها نفيًا في حياء، وخجلت من النطق بعدم معرفتها باستخدامه جيدًا، فأكتفت بهز رأسها وفي تفهم اومأ هو بعينيه، وقال في استسلام:
_ولا يهمك مش مشكلة كله بيجي مع الشغل ومع الوقت هعلمك كل حاجه ونبدأ سوا.
ثم لاذ بالصمت لثوان وأشار إلى مكتبه القريب قائلًا:
_أنا هدخل المكتب وهسيبك ترتاحي وتاخدي على المكان وبعدين نبدأ.
وتحرك من أمامها بينما بقت هي متسمرة تشيع رحيله بشرود.
************
جالسة في شرود، تطلع إلى الفراغ، ترتكز بذقنها في راحتها ترتشف من فنجان القهوة، يتسلل إلى ذهنها صخب النادي وضحكات الأطفال من حولها، أحست غادة فجأة بمن يجلس بجانبها، ثم انبعث إلى أذنها صوت دافيء يهمس في حنان:
_عاملة أيه؟ طمنيني عليكِ؟
وازداد الهمس وهو يردف في هدوء:
_وحشتيني.
ازدادت دقات قلب غادة وهي تلتفت إليه في لهفة، فتلاقت الأعين في لقاء حنون، كان يتأملها بعينين مفعمتين بالأشتياق، أسبلت غادة جفنيها وأشاحت بوجهها بعيدًا وهي تكظم بسمة رائعة كانت تزين ثغرها كلا يفتضح أمر لهفتها لرؤيته.. وغمغمت بصوت مرتبك:
_أنت هتفضل غامض كدا عني، تظهر فجأة وتختفي فجأة.. مش هتقولي أنت مين؟
فشبك كفيه أمام وجهه، ومال إلى الأمام، واحتواها بعينيه وهو يقول بصوتٍ رخيم:
_أنا حبيب بيتنمالك كل خير.. أياكِ تخافي مني!
فالتفتت إليه وتلاقت أعينهم مرة أخرى وهي تلمع بالعاطفة، رفْرفت غادة بعينيها وأبتعدت بهما عن عيناه وهي تتمتم:
_أنت مين؟
فقال وهو ينهض:
_تيجي نتمشى ونتكلم أفضل!
فأومأت موافقة وهي تهب واقفة وتسير بجانبه في هدوء وكلاهما لائذ بالسكون، حتى قال هو في هدوء قاطعًا الصمت:
_قضيتِ وقت حلو في الصعيد؟
فأومأت له دون أن تلتفت، ثم سألته في حدة:
_أنت عرفت إزاي أني في النادي؟ أنت بترقبني؟
لكنها لم تتلقَّ ردًا، وظنت أنه لن يجيب فرفعت رأسها تنظر إليه، فرمقها بنظرة سريعة ثم قال بما جعلها تتوقف:
_يوسف.. اسمي يوسف نسيم.
وتوقف إزاءها فبرقت عينيها ولم تنبس ببنت شفة، وقرأ هو في عينيها أنها تريد معرفة المزيد عنه، فتبسم في حنان وهو يغمغم بود:
_إحنا متقابلناش قبل كدا ولا بينا سابق معرفة، ولكن شوفتك في مرة في البناية القديمة اللي كنتوا ساكنين فيها أنتِ وأخوكِ يمان من وقتها وأنتِ ليكِ مكانة عندي وتخصيني.
ازدرد يوسف لعابه، ثم تنهد وأتبع يقول:
_أنا ساكن في المنطقة هناك في بناية قريبة من البناية بتاعتكم عايش مع ابويا وامي ومليش إخوات.
وتطلع إلى عينيها في إمعان حان، ثم أردف:
_غادة أنا عارف إنك لسه متعرفنيش كويس، وهديكِ الوقت اللي تحدديه لحد ما تطمني ليّ ولكن خلينا قريبين.
وسكت لهنيهة، ثم هتف سريعًا:
_غادة تتجوزيني؟
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
وأطلت الصدمة من عينيها وهي تتقهقر خطوة مصعوقة للخلف وتطلع إليه في هلعٍ ثم رددت:
_أتجوزك؟
***********
خرج يمان من كتبه وتبسم في وجه غرام التي هبت واقفة ما أن رأته فأشار إليها بالجلوس وهو يتوجه نحوها قائلًا:
_خليكِ قاعدة، أنا طلبتلك فطار عشان عارف أنك مفطرتيش أكيد لما يوصل أبقي فطري.
ثم جلس أمام مكتبها وأدار اللاب إليه وهو يقول:
_ركزي معايا شوية هعلمك شوية حاجات مهمة والأساسيات..
وأنصتت غرام بكل حواسها، ورويدًا رويدًا كان شعورٌ بالأمان يسرى في أوصالها ويتخلل قلبها شيئًا فشيئًا، أسرتها جديته في العمل وشرحه المبسط بكل رفق وهو يعاملها في هدوء وعندما انتهى رفع بصره إليها، وأستوى في جلسته وهو يقول:
_لو في حاجه مفهمتهاش قوليلي وهعيدهالك.
فهزت رأسها سريعًا، وهي تقول:
_لا ابدًا كله تمام.. حضرتك وضحت ليّ كل حاجة.
أسترخى يمان في جلسته، وغمغم:
_بلاش حضرتك دي، وبرضو أنا معاكِ لو في حاجه حسيتها واقفة معاكِ.
كادت غرام أن تجيبه عندما أرتفع رنين هاتفها، فألتقطته وردت في لهفة تقول:
_نهلة عاملة أيه؟
لكن أتاها صوت جدتها، وهي تصيح:
_ازيك يا بت يا غرام، كدا يا بت تسافري ومتسأليش؟
ولم تمهلها فرصة للرد، بل أتبعت تقول على عجل:
_ويمان حبيبي يا بت عامل ايه كدا تاخديه مني يا بت؟! دا أنتِ حتى حتة خدامة هنا.
قهقهت غرام وقد تناست تواجد يمان الذي تطلع إليها وهي تضحك لثوانٍ ثم غض بصره، وسمعها تقول بنبرة صادقة:
_وحشتيني يا تيتا جدًا، عاملة ايه يا حبيبتي طمنيني عليكِ؟
فتنهدت الجدة وهي تقول:
_كويسة ياختي الحمد لله.. الواد يمان مفيش عندك يا بت ولا قولي له يكلمني.
فأختلست غرام نظرة حذر إلى يمان، وقالت:
_عايزة تكلمي يمان؟!
كانت تخشى أن ينزعج من الحديث مع جدتها، لكنها تفآجئت به يمد يده لها، قائلًا ببهجة أطلت من ملامحه:
_هاتيها.
وناولته الهاتف وراقبته وهو يندمج في الحديث مع جدتها بكل حنان ورفق فكان يضحك تارة وكان يصمت يستمع إليها في اهتمام ويوافقها الرأي على أي شيء.
ثم أغلق معها عندما وصل الطعام الذي طلبه لها، فاستأذن منها ليدخل إلى مكتبه لإدراكه أنها ستخجل من تواجده لكن ما أن هم بفتح باب المكتب حتى تسمرت يداه مع فتح باب مكتبها هي وصوت عمه مختار، يقول:
_يمان استنى تعال أنت وغرام عشان هعلن للموظفين خطوبة زكريا وغرام.
فتجهم وجهه وأسودت ملامحه وهو يستدير متطلعًا إلى غرام التي أطرقت في حياء ثم سارت وراء مختار الذي أشار إليها قائلًا:
_روحي مكتب زكريا اللي ورتهولك عند دخولنا وهاتيه وتعالي.
فاومأت برأسها إيجابًا وسارت شطر المكتب وهي تنوي إخباره.
وداخل المكتب كان زكريا يجلس وراء مكتبه وثمة فتاة تجلس فوق ساقيه ويفعل ما حرمه الله..
قالت الفتاة بضيق:
_يعني أنت خطبة البت الصعيدية دي وهتتجوزها!
فاومأ زكريا بعينيه إيجابًا، وقال في هدوء موضحًا:
_ايوة، ولكن إحنا هنتقابل في الشقة عادي وهنخرج ونطلع هي هتكون مجرد زوجة وبس.
كانت غرام قد اقتربت ومدت كفها إلى مقبض الباب وهمَّت بفتحه…
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
همَّت غرام بأن تدير مقبض باب المكتب، لكن باغتها صوت يمان وهو يهتف بنبرة أثارت فزعها:
_غرام استنى عندك.
فألتفتت إليه بأعين فزعة، وهالها وجهه الذي طَفَحَ بالغضب، وأفلتت المقبض من بين أصابعها، وفركت كفيها في توتر، وغمغمت بصوتٍ حائر:
_هو في أيه؟
فأستجمع يمان شتات نفسه، وكبح غضبه وأحجم عن غيظه، وأغتصب بسمة على ثغره قسرًا كي يدحر عنها الفزع الذي يطل من أعينها، كان يدرك تمامًا جُل ما يقترفه زكريا في مكتبه، ولم يكن ليسمح لها أن ترَ ما يحدث.
لقد خشى على حيائها!
همس في هدوء بدد مخاوفها:
_مفيش حاجة روحي أنتِ عند عمك مختار، وأنا هجيب زكريا وهآجي.
فأسبلت غرام جفنيها في ارتياح، وقد راق لها قراره، وأومأت له برأسها وهي تقول في إستسلام:
_حاضر.
وتحركت مبتعدة بينما أستدار هو ناظرًا إلى طيفها الراحل حتى غابت عن بصره، ففتح الباب في عنف، وأنتفضت الفتاة التي كانت تجلس فوق ساق زكريا في وضعٍ غير لائق، وهبت مذعورة وهي تكاد تموت رعبًا، ثم نقلت بصرها إلى زكريا في حيرة، فأشار إليها هذا الأخير بالخروج دون أن يبدو عليه أي شيء، فهرولت منصرفة بينما هدر يمان في غضبٍ بدا كبركان ثائر مجنون:
_أنت مش هتبطل عمايلك دي وسافلتك في الشركة؟
فتراجع زكريا في استرخاء مثير للدهشة، وردد في برود ونبرة جافة:
_وهبطل ليه؟ هي كانت شركتك وأنا مش عارف!؟
ورمقه شذرًا فأندفع يمان شطره وقبض على مقدمة قميصه وهو يصرخ:
_يعني إيه تبطل ليه؟ تبطل عشان بنت الناس اللي بقت خطبتك دلوقتي.. وعشان والدك اللي لو عرف بعمايلك هيروح فيها.
نزع زكريا أصابع يمان في عنف ودفعه للوراء ووثب واقفًا وهو يجأر:
_وأنت مالك بتدخل ليه في اللي ملكش فيه؟
ولاذ بالصمت عندما تناهى له صوت أنثوي يقول:
_أستاذ يمان الأستاذ مختار بيطلب حضرتك أنت وأستاذ زكريا.
ألتفتا الاثنيين إليها، ثم تبادلا النظر في تحدٍ وعناد، ثم تبسم زكريا في استفزاز ليمان وهو يتحرك خارجًا ويقول:
_روحي أنتِ وأنا جاي حالًا.
جز يمان على أسنانه وأراد أن ينفس عن غضبه الذي شعر به يغلي كالمرجل في صدره الفائر من الغيظ، فضرب إحدى المقاعد أثناء رحليه، ووجد مختار يضم من كلا الجانبيم زكريا ومختار وهو يعلن خطبتهما، فأختلس النظر إلى غرام المطرقة في خجل وهي تستقبل التهاني في إستحياء، ثم صر على أسنانه وتوجه داخل مكتبه وهو يصفق الباب وراءه.
******
تراجعت غادة في دهشة، وغمغمت دون تفكير:
_أنا مستحيل أوافق، أنا معرفكش وبعدين أنت انسان غريب أوي.
ثم هزت رأسها كأنها تقنع نفسها وهي تردد لنفسها:
_مش ممكن هقبل لأ.
أراد يوسف أن يقول شيئًا، أي شيء..
لكنها حدجته بنظرة سريعة ثم هرولت من أمامه مبتعدة، وألتقطت حقيبتها ثم أستدارت تلقي نحوه نظرة سريعة ثم وبخطواتٍ واسعة غادرت النادي وهي تضع نظارة شمسية فوق عينيها.
كانت حائرة.. مرتبكة لا تدرِ ماذا تفعل، وقد باغتها بعرضه الذي لم يخطر لها على بال.
أرادت أن تحادث أحد بما يجول في خاطرها، أن تجد ناصح ينصحُ لها بما ينفعها، فلم تجد إلا غرام التي غدت كـأختٍ لها، فقادة سيارتها إلى شركة خالها، وحين وصلت ركنت السيارة في مكانٍ مخصص لذلك، ثم ترجلت منها بأعين تترقرق بالدمع، كان لديها علم بأن غرام تعمل مع أخيها، لذا فقد توجهت فورًا إلى مكتبه وبالأخص إلى مكتب سكرتيرته الخاصة، لكنها آثرت فجأة أن تمر بخالها قبلًا، لذا فقد غيرت رأيها وذهبت إليه.
كانت بحاجة إلى ضمة حنون منه.
بحاجة أن تشعر بالأمان والسند.
في ذات الآن خرج يمان من مكتبه، فراعه أن ألفى غرام تنكب فوق كتابًا ما باكية، فهاله ذلك ووقف على كثبٍ منها متسائلًا في دهشة:
_غرام أنتِ كويسة؟ بتبكي ليه؟
فرفعت رأسها عن دفتيّ الكتاب وشخصت البصر فيه، كان قسيمٌ وسيمٌ وهو يرمقها بتلك النظرة المهتمة، فأسرعت بمحو دموعها وتجفيف ما علق منها على وجنتيها بمنديلٍ ورقي، ثم نهضت وهي تقول بصوتٍ متهدج من أثر البكاء:
_أبدًا مش ببكي!
فرفع حاجبًا مندهشًا من إخفاءها للأمر، وتطلع فيها حائرًا.. ثم قال موضحًا:
_لا كنتِ بتبكي أنا شوفتك؟ كل حاجة تمام؟!
فرفرفت بأهدابها وهي تتحاشى النظر إليه، وقالت موضحة بصوت مفعم بالحياء:
_كنت بقرأ وتأثرت!
فقطب جبينه مشدوهًا، وغمغم وهو يعقد ساعديه أمام صدره:
_اسمه إيه الكتاب ده؟ ولا دي رواية؟
فهزت رأسها نافية، وهي تتمتم:
_مجالس الصحابة.
فحدق فيها صامتًا، لائذًا بالسكون لحينٌ من الوقت حائر، ثم مد كفه قائلًا:
_طيب ممكن أشوفه!
ناولته غرام الكتاب في يده، وهي تقول في بساطة:
_اتفضل.
فرفع الكتاب إلى وجهه، وقرأ قائلًا بصوتٍ مسموع:
_مصعب بن عمير.. أعطر أهل مكة.
ووضع سبابته فاصلًا بين الصفحات وهو ينظر لغلاف الكتاب قارئًا:
_مجالس الصحابة لندى ممدوح.
ثم رفع بصره إليها، وسألها في اهتمام متشوق:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_ينفع أستعيره منك لبعض الوقت؟!
لكنه رمقته بنظرة مقت، كأنه قد انتزع منها نبضة من نبضات قلبها، وظهر هلعٍ في عينيها أدهشه، ثم هزت كتفيها في استسلام وقالت في اقتضاب حزين:
_طيب.. بس خلي بالك منه.
فتبسَّم بسمة كضوء الفجر حين ينبلج ليبدد دياجير الظلام، وقد تفهم ولعها في الكتاب، وقال في ثقة:
_متقلقيش عليه وهرجعولك بسرعة!
فأومأت برأسها في ارتياح، واستئذان هو عائدًا إلى مكتبه وقد تناسى ما خرج لأجله.
لم تلبث غرام إن وجدت بغتة الباب يندفع، وتبرز غادة على أسكفته وهي تقول:
_غرام.
فنهضت غادة وهي تردد ذاهلة:
_غادة.
أغلقت غادة الباب، ثم توجهت نحوها وهي تقول بصوتٍ خفيض:
_طلع اسمه يوسف نسيم.
غمغمت غرام في دهشة:
_مين ده؟
جلستا الاثنتين إزاء بعضهما أمام المكتب، وغادة توضح في هدوء:
_الشاب اللي كلمتك عنه….
وأخذت تروي لها جل ما حدث معها، وعن طلبه للزواج، فعقبت غرام:
_أحسن أنك رفضتِ، لأنك لسه متعرفيش حاجه عنه، دا مجنون ده ولا أيه؟
سكتت غادة مفكرة حينًا، ثم همهمت في شرود:
_في رأيك ممكن يحاول تاني.
هزت غرام كتفيها وهي مزمومة الفم، وبقى السؤال يستجلب الحيرة في أعماق غادة.
تُرى هل يكف عن الظهور؟!
أم أنه سيظل وراءها حتى ينال بغيته؟
********
وقف يمان في شرفة مكتبه الفاخر، ثم ابتسم ابتسامة واسعة ملأت وجهه كله، وهو يتطلع في ارتياح إلى تلك الحديقة الغناء، التي يطل عليها مكتبه، واستنشق الهواء في عمق وهو يتأمل الكتاب الذي بين يديه في حماسٍ يخامره الشغف، ثم تنهد في نشاط، استعدادًا لبدء القراءة، ويجلس على أريكة أثيرة لديه أمام واجهة المكتب المطلة على الحديقة، وشرع يقرأ بعينيه وقد اختلج قلبه بعاطفة قوية..
مصعب بن عمير
أعطر أهل مكة
رحلتنا اليوم إلى رحلة ستتعجب منها الأذهان، وستذهل لها الأرواح، وستمتلأ بها الأفئدة بهجة وحبًا.
أننا أمام شابٌ من شباب مكة المرموقين.
وحين نقول شاب فلا تدع ذهنك يأخذك إلى شباب هذا الجيل، إنهم في سن الرجال نعم، ولكنهم أبعد ما يكونون عن صفة الرجال.
فلا تنظر إليهم، بل أنظر إلى فتى مكة المترف، الذي يحيا في نعيم، ورهافة العيش.
قد لا تعرف من يكون؟!
فلا بأس، ستعلم من يكون الآن، سيأخذ مكانًا في قلبك وسيحفر هنالك!
إنه مصعب..
نعم، مصعب من عمير..
فهل عرفته؟!
ربما نعم، وربما لا..
ولكن فلتصغ القلب والجوارح، ولتتمعن في قصة هذا المغوار، إنه صنديد من صناديد الإيمان.
لقد كان سيدنا وحبيبنا مصعب من عمير عليه السلام في الجاهلية، يحيا في ترف ونعيم.
قد تحتار نعم أن يكون حديثنا عن هؤلاء المترفين، وحق لك التعجب، فإن المرء ليقف أمام هؤلاء الشباب فيعجب..
هل يكون من هؤلاء مجاهدين؟
أيمكن لهؤلاء في يوم من الأيام أن يحملوا السيوف والرماح، وأن يغبروا وجوههم برهج المعارك؟!
لذا فأعجب لذلك السيد الكريم الشريف الذي نشأ في أحضان النعيم، وكانوا يلقبونه (أعطر أهل مكة) لقد كان نضر الوجه، وضاء الجبين، مختال الثياب، ولكن كيف تحول مصعب من حياة الترف والبذخ والنعيم إلى حياة الزهد والتقشف والجهاد وتحمل شظف العيش وشدته..
هنالك رفع يمان وجهه عن الكتاب وقد عَلا وجيف قلبه، وألتقط نفسًا عميقًا أخرجه زافرًا في تمهل، كيف لمترف أن يكون مجاهد؟!
أولع بقصة مصعب ولعًا شديدًا واستوى في جلسته في اهتمام، وأخذت عيناه تجري على الحروف في لهفة طغت على ملامحه..
ألا فليتعلم العالم كله أعظم دروس التربية وترويض الأخلاق!
بل فليخر العالم كله راكعًا تحية لهذا المعلم والمربي محمد صل الله عليه وسلم.
تحية لذاك القائد العظيم الذي روض تلك الأيدي الناعمة على إمساك السيف.
ألا… كيف تحولت تلك الأيدي الناعمة إلى أيد خشنة غليظة يثبت السيف في يدها فتصول وتجول في أرض المعارك تبعث الرعب والفزع في نفوس أعدائها.
بل كيف تحول هذا الفتى المدلل ليصبح المقاتل المغوار؟! بأي يد سحرية ضرب محمد صل الله عليه وسلم على قلبه ليثبت هذا القلب الرقيق الذي يكاد يطير رقة وخفة على الإيمان.
ولا غرو! إنه الإيمان حين يخالط القلوب.
بلغ نبأ النبي محمد صل الله عليه وسلم مصعب بن عمير، فما كان منه إلا أن هَب واثبًا يسأل عن مكان النبي في شغف، ليسمع منه..
ليتعلم القرآن…
وليدخل الإسلام.
وليؤمن بالله..
فلم يكد يعرف مصعب أن الرسول في دار الأرقام بن أبي الأرقم.
نعم مدرسة الحبيب محمد صل الله عليه وسلم.
والمعهد الديني الذي كان الصحابة يتلقون فيه أعظم درس تربية على يد أعظم معلم وُجد على ظهر الأرض.
حتى ذهب من فوره واستمع إلى حديث النبي صل الله عليه وسلم وما تلاه من كتاب الله عز وجل، ولم يكد ذلك القلب الطيب الرقيق يسمع كلام الله حتى خلصت إلى شغاف فؤاده فعملت فيه عمل السحر، فانقلب في تلك اللحظة الفتى المدلل إلى أسد يزأر ليخيف اعداءه فيفرون من وجهه الغضوب.
أضمر مصعب إسلامه في نفسه، لكن مكة حينئذ لم يكن ليخفى عليها سر فذات يومٍ وبينما مصعب في دار الأرقم بن أبي الأرقام أبصره (عثمان بن طلحة) وهو يدخل خفية إلى دار الأرقم.. ثم رآه بعد ذلك وهو يصلي، فانطلق يسابق ريح مكة إلى أم مصعب يلقي عليها نبأ أبنها، حاولت خناس بنت مالك أن تردع ابنها عن الإسلام
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
لكن مصعب لم يكن ضعيف الإيمان رغم إنه جديد في الإسلام فأبى أن يسمع كلامها، وظل يواجهها بصلابة، حتى بلغ بها الأمر وحبسته في ركن من دارها، وأغلقت عليه، ولكن الحبس لم يكن ليوهن قلب مصعب فما أن تناهت له الأخبار بهجرة بعض المسلمين حتى غافل أمه وحراسه ومضى إلى الحبشة مهاجرًا في سبيل الله.
هاجر مصعب إلى الحبشة وترك امه خناس بنت مالك يتقطع كبدها عليه حسرات.
ثم عاد مصعب من هجرته الأولى إلى مكة، ليبعثه النبي محمد صل الله عليه وسلم سفيرًا له في المدينة، داعيًا إلى الله ورسوله، ليكون اول سفير في الإسلام، وحامل لواء الدعوة في المدينة.
جاء مصعب إلى المدينة يوم بعثه النبي محمد صل الله عليه وسلم وليس فيها سوى اثنى عشر مسلمًا هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة.
أقام مصعب في المدينة في ضيافة (أسعد بن زرارة) وكان أسعد دليله إلى مجالس القوم.
فأخذآ يغشيان الناس في مجالسهم وبيوتهم ونواديهم فيدعونهم إلى عبادة الله الواحد الأحد
لقد غزا مصعب أفئدة أهل المدينة بحلاوة حديثه، وعذوبته، ورقة أخلاقه، وإخلاصه وزهده، ورجاحة عقله وحكمته.
وتأمل معي موقفه العظيم مع أسيد بن حضير، حين أتى مصعبًا وسعيد مهتاجًا يشهر حربته في وجهيهما، ويقول وهو مهتاج ثائر:
_ما جاء بكما إلى حينًا تُسفهان ضعفاءنا؟! اعتزلانا، إذا كنتما تريدان الحياة.
إنه يهدد بالقتل!
أما أن يذهبا او يموتا!
ولا مناص من إحدى الأثنيين مع أسيد؟!
فالغضب قد ران على قلبه، لكنه فتى أريب عاقل.
ومصعب لم يهب مهتاجًا يبغى الثأر او الجدال، بل بكل هدوء ورجاحة عقل، علت على وجهه ابتسامة مشرقة، انبثقت في قلب اسيد كشعاعٌ من نور هَل على فؤاده بالإيمان، وتكلم بصوت كأنه الندى، قائلًا وهو ينظر إليه بكل هدوء:
_أيها السيد الجليل، ألا تتفضل فتجلس فتسمع ما نقول؟ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟
لقد دعى مصعب إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة.
يا من تدعي إلى الإسلام هلا ترفقت في حديثك؟!
استمعت وأنصت بكل رحابة صدر؟!
تحدثت بكل لين مهما بلغ غضب من أمامك؟!
فإن ديننا دين يسر وليس دين عسر؟!.
دين محبة وليس دين عداوة..
فهل لك أن تتعلم من مصعب كيف يكون الداعية، ذا صبر وحكمة وهدواءً ولطفًا
ولإن أسيد رجلٌ عاقلًا، ومصعب قد اخذه بأدبه وحكمته، فترك حربته جانبًا، وجلس وهو يجيب مصعبًا في هدوء:
_أنصفت …
ولقد انصف مصعب حقًا ولم يدع له حجة ليعارض.
أصغى أسيد إلى مصعب وهو يتلو كلام الله فتسللت إلى قلبه تتساقط كما تتساقط قطرات الماء على أرض يابسة متلهفة للسقيا.
وبزغ نور الإيمان في صدر أسيد، وأسفر بها ملامحه التي توهجت كالقمر المنير في ليلة من ليالي الدآدي، وكاد قلبه أن يطير وهو يردد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
إنهم قوم كان الإسلام يظهر على ملامحهم، وسماتهم، وافعالهم.
قوم صدقوا مع الله فأصدقهم.
ولنأتي إلى معركة أحد..
تلك المعركة التي سنودع فيها بطلنا العظيم..
وداع حزين نعهده فيها على التلاقي في الجنة..
في تلك المعركة ركزوا فيها اعداء قريش على الرسول، وتربصوا به ليقتلوه، وأدرك مصعب ذلك، كان الرماة قد خالفوا أمر الرسول، وأحدقوا أعداء الله بالنبي، وكانت الراية في يد مصعبٍ حينئذ، فقبض على سيفه في يد، والراية في يد واندفع كالسهم يدافع عن رسول الله، ويقاتل دونه، وهو يزئر زئير الأسد، كان كل هم مصعب أن يشغل الأعداء عن رسول الله، أن يلهيهم عنه، وأخذ يقاتل وكأنه جيشٌ وحده، يد تحمل الراية ويد تضرب في عفوان
إنها قوة الإيمان
ومحبة الرسول
وتكاثر الأعداء على مصعب يودون القضاء عليه، ليعبروا من فوق جثته إلى حبيبنا محمد، وبينما العزيز يدافع عن الحبيب صل الله عليه وسلم إذ هجم عليه رجل هو ابن قمئة، وقد ظنه النبي فقطع يمينه، لكن مصعب لم يستسلم وظل يدافع عن النبي ويهجم على الأعداء بجسده، حتى قطعت شماله..
وأصبح بطلنا بلى يدين..
لكن كانت روحه لا تزل في جسده..
كأنه أقسم ألا يقترب أحد من النبي حتى الرمق الأخير فيه..
وحين تعبوا الأعداء منه ذبحوه..
وسقط مصعب
وسقط اللواء
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
وقع الشهيد بعد أن اثخن فيهم الجراح
وذهب إلى ربه في جنة عرضها السموات والأرض
اللهم ارزقنا صحبته هو والنبي وجل الصحابة..
وحين انتهت المعركة، وبينما الرسول يطوف ببصره على الشهداء رأى مصعبًا ففاضت عيناه..
وكفن مصعب في بردة لم تغطي جسده كله، فكانوا إذا غطوا قدميه بدت رأسه، وإن غطوا رأسه بدت قدميه، حتى قال الرسول:
_غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر) والإذخر هو حشيش أخضر طيب الريح.
وهذه كانت حياة مصعب، لن نشبع منها أعلم، ولم نكتفي لكن تطرق الكلمات خجلًا على ذاك الفتى الهصور، الذي عاش في ترف، وأرتدى أغلى الثياب، وتعطر بأفضل ريح، فلم يجدوا عند موته إلا بردة لم تكفيه ليكفنوه فيها.
فالسلام عليك يا مصعب..
السلام على أول داعية في الإسلام..
لم نمل من حديثك أيها الطيب..
إنما خجلنا أمام عظمتك..
ولنا لقاء يا مصعب في جنة رب العالمين..
إنها كلمات تَسْتَدِرُّ الشُّئُون، وتَدُلُّ التَائِهِين على الله، وتُنَبِّه الغارِّين الغافلين، وتهزُّ الأفْئِدة، أغْلق يمان الكتاب وقد ضمه إلى صدره..
وأسبل جفنيه..
أحس لوهلة أنه قد ضم مصعب ابن عمير إلى قلبه الخافق في جنون في صدره..
وشعر بدموعٍ لا تتراءى تهطل من عينا قلبه.
وعقله أخذ يتصور ويتخيل مصعب وهو يدافع عن النبي محمد_صل الله عليه وسلم_ فقطعت يمينه وظل كما هو شامخ الهامة، عظيم القامة يدافع عن حبيبه النبي حتى قطعت شماله فلم يتزعزع ولم يتقهقر بل لقد ذادته الجراح بقوة عظيمة جعلته يقف كأسدٍ يزأر في وجوه أعدائه حتى قُتل..
ولكم حزين هذا..
كان لأول مرة يقرأ قصة من قصص الصحابة، ونوى أنها لن تكون الأخيرة أبدًا أبدًا.
قام وجلس خلف مكتبه، وضغط على زر جهاز الأتصال الداخلي، الذي يوصله بغرام، قائلًا:
_تعالي ليّ عايزك.
**********
في مطعم فاخر ضم مختار عائلته على إحدى الطاولات لتناول العشاء، فتحلق الجميع حاول المائدة العامرة بألذ الأطعمة، وقد جلست غرام وغادة يتسامرون، في مواضيعٍ شتى.
وبينما غرام تتناول طعامها، توقف الأكل في حلقها، وأخذت تسعل وهي تبعد قدميها، بعدما أحست بساق تحاول لمسها من أسفل الطاولة، فنظرت بهلع نحو زكريا ويمان الذي بدآ هادئيين يتناولان طعامهما في صمت، فاسترابت وأطلت برأسها أسفل الطاولة فلم تبصر شيء، ناولتها غادة كوبًا من الماء وهي تربت على ظهرها، قائلة في همس:
_مالك يا غرام وشك شاحب كدا ليه؟
وبدا وجه غرام شاحبًا ممتقعًا بالفعل وهي تنظر إليها في ذهول، ثم نظرت إليها كالمتغيبة وهزت رأسها وهي تعود لتناول الطعام في تؤدة شاردة خائفة.
وكان زكريا يكتم ضحكة متسلية في نفس الآن، فخرجت على هيئة بسمة كظمها سريعًا، ولم يرتدع بل مد ساقه من أسفل الطاولة لتتلمس طريقها في محاولة للمس قدم غرام، فأحمر وجهه فجأة وكتم تأوهً متألمًا عندما دعست قدم يمان على أصابع قدمه القريبة منه، فنظر إليه في حدة، فأشار له الأخير بألتزام الأدب، فحدجه شذرًا.
**************
كان صباحًا صحوًا، يبعث النشوة والبهجة في القلوب، وكانت غرام تمارس عملها في نشاط وقد ازدادت علاقتها قربًا بيمان، فتحب الحديث إليه!
وتطمئن لوجوده..
ويشعرها بالأمان..
وبينما هي في مكتبه تدون ما يمليه عليها في اهتمام، إذ فُتح الباب دون استئذان، فالتفتت نحو القادم، لتشاهد طفلة صغيرة وغادة ومعها فتاةً ما…
جميلة..
بل مليحة الوجه..
ثم تنبهت من تأمل الفتاة على إندفاع الطفلة الصغيرة، الذي يتطاير شعرها وراءها، وقد أشرق وجهها الصغير، وهي تهتف في سرور:
_بابا يمان.
وراقبت بعينين مندهشة، يمان وهو يغادر مكتبه ويتلقفها بين ذراعيه في بهجة وأخذ يدور بها في سعادة خلبت لُبها، بينما قالت الفتاة في عتاب:
_كدا برضو متجيش تشوفنا خالص يا يمان؟!
ونظرت لها غرام في غرابة..
وألح عليها سؤال مهم
هل يمان متزوج وأب أيضًا؟!
والخاطر أورثها حزنٌ هائل ظلل عينيها.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
تأملت غرام بمقلتين مرتاعتين يمان وهو يقبل الطفلة في شغفٍ، ويلثم وجهها بقبلاتٍ متفرقة.
يا له من حنون أن كان أبيها!
ويا له من رجل أن لم يكن!
يا ويح فؤادها أن خسر..
صرفت بصرها إلى الفتاة الباسمة في سعادة مشرقت الوجه وهي تراقبه كيف يدلل ابنتها، ثم قالت في نبرة عتاب واضحة:
_تسبيح كانت مصممة تيجي تشوفك عشان تقولك إن بكرة عندها حفلة وأنت لازم تحضرها، وكانت زعلانة منك بسبب غيابك الطويل عنها بس غالبًا نسيت الزعل بعد ما شافتك.
انتزع يمان عينيه كي يحولهما إلى الفتاة التي توجه له الحديث، ثم تبسم لها في هدوء وهو يقول:
_تسبيح مش بتزعل مني أبدًا.
ثم أستدرك وهو يشير إليها بالجلوس:
_اقعدي يا هند أنتِ واقفة ليه؟
فأتخدت هند مجلسًا في صمت، ثم حدقت في غرام فبادرت غادة تعرفهما على بعض:
_غرام دي هند بنت عمي، هند دي غرام خطيبة زكريا وبتكون سكرتيرة يمان.
فنهضت هند لتصافحها، بينما راقب يمان الحوار الدائر بينهن في صمت، ثم استأذنت من يمان لتنصرف فسمح لها موافقًا، خرجت من المكتب غائرة العينين.
لا تدرك سببًا لهذا الضيق الذي اجتاحها وأطاح بفؤادها في مقتل..
فؤادها الذي أحست به يبكي في صدرها دون سبب.
أمازال خافقها حيًا بداخلها..
يا له من وجع لا يحتمل..
أستيقظت من شرودها على فتح باب مكتبه، وانبعث صوته ليسرى إلى أعماقها وهو يقول:
_خلاص كدا تسبيح هتقضي اليوم معايا وهرجعالك بالليل.
ورأت الصغيرة وهي تضم رقبته بذراعيها وقد سلمت رأسها إلى كتفه وهي مغمضة العينين فجزت على أسنانها في فضول، ولم تلاحظ رحيل هند ولا صوت غادة التي تهتف:
_غرام أنتِ يا بنتي مالك بكلمك.
فرمشت بجفنيها مجفلة، ثم نظرت إليها تقول في هدوء:
_نعم، كنتِ بتقولي أيه؟
غمغمت غادة موضحة:
_يمان خلص شغل وهيمشي هنخرج أنا وهو وتسبيح تحبي تيجي معانا؟!
ثم صاحت نافية في إصرار:
_القرار مش قرارك أنتِ هتيجي معانا اصلًا.. يلا.
فأختلست غرام نظرة إلى يمان الذي رفع بصره شطرها في ذات الآن، ولمحت بسمة مرت على ثغره، ثم أردف ليزيل الحرج عنها:
_ياريت تيجي معانا فعلًا.
ولم تشعر بتلك الابتسامة الواسعة التي ملأت وجهها تلقائيًا مع قوله، وقد أحست أنها تستطير فرحًا، وما كادت أن تلملم أشياؤها حتى كانت غادة تجذبها من مرفقها وهي تقول:
_يلا بينا.
أخذهن إلى حديقة الملاهي، وهنالك نست غرام نفسها، نست الواقع الذي تحياه، كانت في منأى عن البشر أجمع، وأصبحت في محرابه.
حين يبتسم في رزانة تظن أن الشمس قد أشرقت.
وإبان تلويحت يده إلى الصغيرة تودُ لو يلوح لها.
كان صديقًا يؤنس الروح، ويألف له القلب.
وتطمئن إليه النفس.
وبين الأجوحات أخذت هي وغادة يشاركن الصغيرة تسبيح كأنما عادتا صغيرتان، وأكلن المثلاجات بينما راقبت الصغيرة وهي تطعمه من حلواها.
كم هو جميل لا يكسر بخاطر أحد.
انتهى اليوم ولم تدرك أنَّى مرت الساعات بتلك السرعة الفائقة، وقد تمنت لو تطول أو تتوقف عقارب الساعة، تناولن طعامهن برفقته ثم أعادهن إلى البيت وذهب ليسلم تسبيح إلى والدتها، وقد علمت أن تسبيح قد توفى والدها وأن يمان هو من يسبغ عليها بحنانه فكان لها أبًا ثان.. لذا فالصغيرة تناديه بـ بابا يمان.
“أنسة غادة في حد ساب لحضرتك الطرد ده”
ألتفتت غادة إلى مصدر الصوت، ورأت الخادمة تقف في احترام، وبين يديها طردًا ما، فضيقت حاجبيها وهي تقول باستفهام حائر:
_متعرفيش من مين؟
فهزت الخادمة منكبيها، وغمغمت:
_لا.
فتبادلت غادة نظرة متسائلة مع غرام، ثم أخذت الطرد وفتحته بينما غرام تقول:
_يا ترى من مين؟
_هيبان دلوقتي!
قالتها غادة وهي تفتح الطرد، ثم شهقت في انبهار وهي تخرج فستانًا جميل كان قد راق لها آنفًا في إحدى المحلات لكنها لم تؤثر إقتنائه، ووضعته على جسدها وشرعت تدور به في حبور، وهي تتمتم:
_واو كان عجبني اوي بس مكش في مناسبة عشان أجيبه.
كان بامكانها أن تجيبه، فالمال لا يسبب لها مشكلة، لكنها لم تكن من ذاك النوع المسرف، ولا تقتني ما لا ترتدي.
أخرجتها غرام من شرودها وبهجتها وهي تساءل:
_مش مكتوب مين اللي بعته.
فتوقفت عن الدوران في جمود، وقد جهمت الملامح، واكفهرت.. وأستدارت إلى غرام وقد همها الخاطر، وراحت تُفتش عن أي شيء يدلها على المرسل، حتى وجدت رسالة كان مضمونها فقط اسمًا واحدًا علمت منه مرسل الطرد والهدية..
“يوسف نسيم”
نعم كانت كلمتين فقط في الورقة، بخط يد أنيق فكورت الورقة بين أصابعها وهي تطلع إلى غرام قائلة:
_من يوسف.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
فقطبت غرام جبينها في دهشة، وسألتها:
_وهيبعت لك فستان ليه؟
لم تنبس غادة ببنتِ شفة لحينًا من الوقت، لم تكن أيضًا تعرف لما أرسل تلك الهدية، وهذا الفستان بالأخص، فتنهدت تنهدًا عميقًا وهزت كتفيها في حيرة، ولملمت الفستان لتعيده داخل علبته وهي في حيرة من أمرها.
والفستان لم يكن إلا البداية.
ففي صباح اليوم التالي أيقظها طرقٌ على باب غرفتها، تلاشى على إثره كل ذرة من سبات، وأزاحت الغطاء الخفيف عنها في حنق، ثم صاحت في ضجر:
_دقيقة وحدة.
وفتحت الباب فوجدت الخادمة تمد لها يدها بباقة ورد رائعة الجمال خلبت عينيها، فتناولتها منها وهي تردد:
_الله.. من مين دي؟
فردت الخادمة في هدوء:
_معرفش مين باعتها لحضرتك، بس وصلها حد وقال إنها للأنسة غادة.
أومأت غادة برأسها وأوصدت الباب وراءها وهي تدلف لتجلس على طرف فراشها تستنشق أريج الورد، وتضم الباقة إلى صدرها، ثم سقطت عينيها على ورقةً ما، ألتقطتها في لهفة وفتحتها بأعين مفعمة بالشغف لتجد فيها.
(إلى عزيزتي غادة أحبك)
التوقيع كان (يوسف نسيم)
وشردت عينا غادة في الفراغ بلمعة تتلألأ، وقد تسللت بسمة جميلة على ثغرها.
يا له من رومانسي!
ويبدوا أنه لن يهدأ له بال حتى ينال حبها؟
أترآه يحبها لهذا الحدّ؟
**********
وفي تلك الليلة تأنقت غرام بفستانٌ جميل أهداه لها مختار بمناسبة الحفلة التي تُقام والتي يجب عليها أن تحضرها لسببين.
إحدهما بسبب أنها خطيبة زكريا.
والسبب الآخر لأنها سكرتيرة يمان.
وأعتذرت غادة عن الحضور لإصابتها بحمى مفاجئة أرقدتها في فراش المرض بإعياء.
كانت تهبط الدرج بينما ينتظرها الثلاث رِجال ببذل ذادت من وسامتهم في صحن الدار، تجولت نظرات زكريا على جسدها في تأنٍ وشهوة كأنما يجردها من ملابسها، نظراتٍ لمحتها غرام واسترابت منها دون شك، فضمت جسدها بذراعيها، بينما رمقها يمان بنظرة خاطفة ثم غض الطرف عنها، أما قلبه فلم يغض، إنما قد أسرته بطلتها.
وفتح مختار ذراعيه وهو يقترب من الدرج، مهللًا بوجهٍ مستنير:
_أيه الجمال ده كله.
ثم ضم وجهها بين راحتيه في حنو، وقبل جبهتها بعاطفة أبوية، وهمس بصوت يقطر بالصدق:
_ربنا يحفظك يا حبيبتي.
نكست غرام رأسها في حياء كان يخلب قلب يمان، بينما يحنق زكريا.. ثم توجهوا جميعًا إلى السيارة التي قادها يمان إلى صالة الحفل المقام.
والحفل كان مختلطًا ما بين رِجالٍ ونساء، ولم تكن غرام تعرف أي أحد من الحاضرين، لم تكن قد كونت صداقات مع موظفين الشركة بسبب شخصيتها التي تجنح إلى العزلة، تجولت بعينين ضجرتين ما بين الوجوه في وجوم عابس لم يروق لها الحال، وودت لو ترحل سريعًا، وما زاد الطين بلة، هو أن يمان قد استأذن منهم وانصرف ليقف إلى بعض الرجال، هنالك أحست بالأمان يتسرب من بين يديها..
وأنها في مكانٍ مكشوف لا يوجد ما يسترها..
وضاقت بها نفسها، وقد أضناها رحيله، وفجأة وجدت رجال يأخذون عمها مختار الذي قال موصيًا:
_خلي بالك يا زكريا من غرام ومتسبهش.
والأحق فهو أراد أن يترك لهما مساحة بالحديث بمفردهما بحسن نية.
أجتاحها توتر سرى في أوصالها مع نظرات زكريا المصوبة نحوها بكل دقة وإمعان، فراحت تتلفت حولها لتشغل نفسها عنه، وتجنب عينيها رأيته المربكة، لماذا لا تشعر بالأمان في حضرته؟!
لماذا حين يكون موجودًا يملأها خوفٌ عظيم؟
كانت مقلتيها تفتشان عن يمان بين الوجوه، لماذا أختفى بغتة لا تدرِ وهذا الخاطر يجعل قلبها واجفًا راجفًا.
أن فقط رأته قريبًا كان سيكفي ليسكن رجيف قلبها.
تنبهت من شرودها على صوت زكريا الذي قال وهو يدّس كفيه في جيبيّ بنطاله:
_تحبي أجيب لك حاجة تشربيها!
فهزت رأسها نفيًا، وغمغمت:
_لا مش عاوزه أشرب حاجة.
هز زكريا رأسه دون أن يعقب، وغابت عيناه في متابعة أجساد النساء، راقبت غرام شابًا كان قريب منهما يتجرع بما بدا لها بالخمر يقترب منهما فتوجست خيفة في نفسها، وأحست بالخطر، قال الشاب الذي دنا منهم لزكريا وعينيه على غرام:
_أيه يا زكريا محدش شايفك ليه؟ مش هتعرفنا؟
ودون اكتراث غمغم زكريا في بساطة:
_دي غرام خطيبتي وغرام دا علي الحاوي.
مد الشاب يده إليها، وقال:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
فضمت غرام أصابعها وهي ترتد خطوة إلى الخلف، وزاغ بصرها بحثًا عن يمان، بينما تمتم زكريا في برود:
_مالك ما تسلمي عليه؟!
فحوَّلت بصرها إليه في حدة، ثم أعادة البصر إلى الشاب الذي قال بنبرة متسلية:
_أنتِ مش شايفة أيدي الممدودة ولا أيه؟
_معلش أصل في أيادي أوقات مبتبنش من وسخاتها.
قالها يمان وهو يقف قبالة علي في تحدٍ ونبرة تنذر بالشر، فتراخت كف علي وتهدلت بجانبه ثم زم شفتيه وقال في ضيق وقد أبتلع الإهانة بإرادته:
_تمام.
ثم أنصرف، بينما أستدار يمان إلى زكريا قائلًا:
_غالبًا معدش في نخوة عند بعض الشباب ولا أيه؟
فأشاح زكريا البصر عنه وهو يهتف بضيق:
_خليك في نخوتك أنت.
كانت غرام قد عادت لها ثقتها في نفسها عندما جاء، وهدأت نفسها وسكن وجيف قلبها المتصاعد، وأحست بالارتياح، وشعرت بطائر الطمأنينة يدخل إلى قلبها ليحلق هناك في أمان في سماء لا خوف فيها ولا هياب.
غاب زكريا بعد ذاك عنهما متابعًا فتاة سلبت لبه ثم أبتعد ليبقَّ قريبًا منها، في حين كان يمان يسأل غرام في اهتمام:
_أنتِ كويسة؟
فأومأت له بعينيها المسبلتين، وهمست بصوتٍ خفيض:
_أيوة الحمد لله.
فأشار إليها إلى مققعد عن كثبٍ منهما، وقال بنبرة آمرة:
_طب تعالي اقعدي هنا.
وأذعنت لطلبه في رضا تام، وسارت بجانبه لتجلس حيث أشار، ثم استئذن منها بعدما طمئنها أنه سيبقَّ قريبًا منها ولن يبتعد.
وظلت غرام جالسة في سكون شارد وهي تتابع حركة الحاضرين بغياب ذهن، فجأة حدقت بعينيها إلى ما أصابها بذهولٍ شديد، وقد ساورتها الشكوك.
فأمامها كان زكريا يخرج برفقة فتاة ترتدي فستانٌ ضيقٌ قصير لا يتعدى ركبتيها، ويغادر الحفل دون حتى أن يخبرها بذلك، وقضت الحفلة ذاهلة يأكل قلبها القلق، وتراودها الأفكار البشعة.
أيمكن أن يكون زكريا على علاقات ببناتٍ غيرها؟!
أتراه بتلك البشاعة!
فغرت فاه وابتلعت صرخة كادت تمزق أوتار قلبها مع الخاطر الأخير، وتداركت دموعٍ علقت في آماقي العين.
عندما عادوا إلى البيت لم تظهر لأحد ما يجول في خاطرها، لكن يمان قد شعر أنها لست بخير.
وكيف أحس بذلك لا يدرك؟!
ثمة رباطٌ ما يربطه بتلك الفتاة يحثه على حمايتها.
لم ترقأ من عينيها دمعة تلك الليلة وهي تحاول النوم، الذي أبَى أن يزور جفنيها قط، فظلت شاردة تنظر إلى سقف حجرتها وحوافر الهم تنبش في راحتها، فظلت مسهدة، حتى تناهى لها قبيل الفجر صوت مكابح سيارته، فحسمت أمرها بعد تردد دام لبرهة ثم خرجت من غرفتها وهي تناوي مقابلته والمواجهة.
نعم ستواجه؟!
ستسأله عن الفتاة التي خرج معها؟! وعن علاقته بها، وبمن تكون!
وكان زكريا يترجل من سيارته مترنحًا، وسار للداخل بقدمين تتخبطان، وفجأة فغر فاه وابتلع صرخة كادت تمزق سكون الليل عندما تعثر في شيئًا ما لا يعرف كنهه، فوضع سبابته إلى فمه بالصمت ثم أطلق قهقه عالية وهو يتدارك جسده قبل أن يسقط أرضًا، وتوازن مرة أخرى وهو يتابع السير في حذر شديد، متسللًا على أطراف أصابعه.
كان يريد أن يخفي تلك النائبة عن والده؟!
لكن الليلة قد تناسى نفسه فأسرف في الشرب.
وتذكر كيف ترصد والده حتى تأكد من أنه لا يراه،ثم خرج برفقة الفتاة التي تعرف عليها ليذهبا إلى إحدى الملاهي الليلةالصاخبة، وهناك شربا خمرًا حتى أصابهما السكر، ورقصا معًا وتناسى هو غرام.
وكل شيءٍ آخر.
عدا متعته..
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
فتحت غرام باب حجرتها وهي تنوي الخروج، فما كادت تفعل حتى تسمرت مكانها، وتجمدت قدميها، وهي تحجم عمَّا نوت وتعود أدراجها للداخل لتصفق الباب ورائها، محال أن تقابله في هذا الوقت من الليل!
والساعة قد تخطت الرابعة فجرًا، ماذا سيقول عنها من يراها؟
وفي فراشها تدثرت بالغطاء، بعدما أدت فرضها، وأوت لتنام لكنَّ النوم أبَى أن يأتيها بإصرار فظل يؤرقها، فأضجعت على ظهرها، وظلت عيناها مفتوحتين دون أن تتحركا، أو يطرِف رمشهما، حتى انْبَلج الفلق وأرخى على الكون بسُدُوله، قامت من فراشها وغادرته وهي تتثاءب في إرهاق، وبدلت ملابسها ونزلت إلى صحن الدار وهي تتمنى أن تراه قبل أي أحدٍ آخر.
لكن أول الحاضرين كان يمان، مما أورثها حنقًا شديدًا، بينما قال هو وهو يهبط الدرجات في تؤدة:
_صباح الخير يا غرام.
فأجابت تحيته بنبرة لم يزايلها الحنق:
_صباح النور يا يمان.
وران عليهما الصمت، حتى جاء مختار برفقة ابنه زكريا ذو العينين المحمرتين والناعستين، وبعدما اطمئنوا على غادة ذهبوا إلى الشركة، وهناك شرعت غرام تزرع حجرة المكتب جيئة وذهابًا بقلقٍ بنبش في فؤادها، حتى حسمت أمرها بالذهاب إلى مكتبه لحسم الأمر.
يكفي قلقًا.
يكفي خوفًا..
لن تبقَّ هكذا تترك نفسها فريسة لبراثن الشك.
وإن لم تُصب مبتغاها فما الضير من المحاولة!.
ولا مناص من المواجهة الوشيكة.
توجهت شَطْر مكتبه في تردد بدا جليًا على ملامح وجهها الوضيئة، وهنالك سمحت لها السكرتيرة بالدخول فورًا لمعرفتها بعلاقتها برب عملها، لم ترُق السكرتيرة لغرام ولا هيئتها، لكنها أسرت ذلك في نفسها ولم تبديه، وفتحت باب مكتبه فرفع بصره عن الأوراق التي كان منكبًا عليها في اهتمام، ثم اتسعت ابتسامته في استقبالها وهو يقف قائلًا في ترحيب ونبرة مهللة:
_غرام! أأقفلي الباب وتعالي أدخلي.
فضيق عينيه في حيرة وتعجب وحنق عندما وجدها تقبل نحوه وقد تركت الباب منفرجًا، ثم قالت في توتر لم يخف عليه:
_الحقيقة أنا جاية أتكلم معاك في حاجة مهمة.
فأشار لها بالجلوس وهو يعود إلى جلسته قائلًا:
_أنا تحت أمرك، اقعدي الأول اتفضلي دا مكتبك برضو.
فجلست وهي منكست الرأس مفكرة حينًا، فبادر هو قائلًا ليبدد جو التوتر السائد بينهما:
_تحبي تشربي أيه؟
فهزت رأسها وهي تقول في صوتٍ خافت:
_ولا حاجة.
فقال بضحكة بسيطة وهو يرفع سماعة الهاتف الداخلي:
_مينفعش طبعًا لازم تشربي حاجة، هطلب لك أنا عصير على ذوقي.
وأبلغ السكرتيرة بما يريد وأعاد السماعة إلى مكانها، ثم أولى اهتمامه كله إليها وهو يميل بجذعه إلى الأمام وعقد ذراعيه على المكتب، وغمغم:
_ها يا ستي اتفضلي قوليلي إللي جيتي عشانه.
وأصغى سمعه وراقب عينيها التي تجولان في أنحاء المكتب هربًا منه، ثم بدأت تقول في صوت متلجلج:
_لما كنا في الحفلة شوفتك وأنت خارج مع بنت بس معرفتش هي مين ولا مشيت معاها ليه؟ وغبت إلى الفجر.
ثم ألتفتت إليه بنظرة متقدة، وأردفت بحدة:
_أنت كنت معاها الوقت ده كله؟!
فازدرد زكريا لعابه، وتراجع إلى ظهر مكتبه، وهو يتفرس النظر فيها.
يبدو أنه كان مخطئًا في تقديرها!
فها هي ذا تسبب له المشاكل وتسأل من قبل أن تصبح زوجته!
هل ستعيق غرام حياته هي الأخرى!
تجهم المحيا لوهلة، وزم شفتيه عابسًا، ثم ابتسم في هدوء ومال إلى مكتبه مجددًا، وكان متهيًأ ليختلق كذبة ليبرأ نفسه، ثم أردف يقول:
_غرام مش كل حاجة تشوفها العين بتكون دايمًا صح، طبعًا أنا سعيد أنك جيتِ وسألتيني ودي حاجة عايزها تكون بنا فعلاً لما حد فينا يتصرف تصرف ما يورث الشك في قلب التاني يسأله بكل صراحة عن مخاوفه.
ثم تنهد وأستطرد بصوتٍ خفيض:
_أنا خرجت فعلاً مع البنت من الحفلة لأنها عميلة مهمة عندنا وكانت محتاجة حد يوقف لها عربية توصلها فأنا عملت كده فعلاً، ومحبتش أرجع الحفلة لأني مليش في جو الأحتفالات دي، فجيت الشركة كملت شغلي الناقص، وخرجت مع صحابي الشباب وسهرنا سوا فمحستش بالوقت معاهم عشان كدا رجعت متأخر.
وتراجع لظهر المقعد، وهو يغمغم في بساطة:
_بس يا ستي دي كل الحكاية.
وتنفست غرام الصعداء، وأذهب كلامه شكوكها فتبسمت في ارتياح، ثم نظرت إليه باسمة فبادلها الابتسام وقال:
_ها في حاجة تاني عايزة تستفسري عنها؟
ورفع عينيه إلى الباب الذي دق ولجت السكرتيرة لتضع كأس العصير أمام غرام، وتسأله في احترام:
_تأمر بحاجة تاني يا أ. زكريا.
فأشار إليها بالخروج وهو يتمتم:
_لا روحي أنتِ.
وحوَّل عينيه إلى غرام في اهتمام وهو يصيخ السمع ويحثها على الحديث، فقالت:
_لما كنا في الحفلة وفي شاب جه..
قاطعها زكريا قائلًا وهو مقطب الجبين:
_تقصدي علي الحاوي؟
فهزت رأسها إيجابًا، وتحاشت النظر إليه وهي تسترسل:
_لما جه يسلم عليَّ أنت ببساطة قولت ليّ سلمي وأنا مبحبش كدا ومش بسلم على حد.
فجز زكريا على أسنانه في امتعاض وحنق، لكنه أخفى ما يشعر به في داخله وتبسم في هدوء قائلًا بلا اكتراث:
_مكنتش أعرف انك مش بتسلمي اصل دي حاجه عادية هنا، بس اوعدك أنها مش هتتكرر تاني ولا أحطك في موقف زي ده تاني.. أنا بعتذر ليكِ.
فأومأت غرام بعينيها، ونهضت وهي تقول:
_طب هستأذن أنا.
فحاول إستبقاءها لرغبة في نفسه، وهو يقول:
_لا طبعًا اشربي العصير الأول.
فأوضحت في هدوء:
_معلش اصل مستأذنتش من يمان.
فنظر لها بحنق، وخبأ ضيقه وبغضه تجاه يمان، وهو يقول في برود:
_آه.. طب تمام روحي.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
وأنصرفت إلى مكتبها لتجد يمان يقف في منتصف الحجرة، بعيون تتقد نارًا، وتقدح شررًا، وكل وجهه ينطق بالغضب وكان قد رأها تخرج من مكتب زكريا، ولم يدرِ ما سر ذلك الغضب الذي أشتعل في صدره، هل هو من الخوف عليها؟!
أم هو شيئًا آخر لم يعرف كنهه بعد؟!
هال غرام منظره فتطلعت فيه ذاهلة، لكنه بخطواتٍ واسعة اقترب منها وهو يصرخ بنبرة أرجفت قلبها، وأجفلت جسدها:
_كنتِ فين؟
فأرتدت إلى الخلف، وهمست في خفوت:
_كنت عند زكريا.
وسرت قشعريرة في جسدها عندما كور أصابعه ليضرب قبضته في الجدار بجانب رأسها فأصابها الذعر وهي تنظر إليه في صدمة، مع صيحته:
_تاني مرة متسبيش المكتب بدون أذني وتخرجي.. المواضيع تستنى لحد ما ترجعي البيت، هنا أنتِ في شغل وبس.
ترقرقت عينيها بالعبرات فتلاقت أعينهم، وبرد غضبه عندما رأى دموعها، كأنما استحال إلى شخصٍ آخر، وبدا كأنه سيتفوه بشيئًا ما من إنفراجت شفتاه، ثم أطبقهم في عنف وهو يصر على أسنانه ثم أولاها ظهره ودخل مكتبه صافقًا الباب وراءه.
جلست غرام وراء مكتبها واجمة.
الدموع تلتمع في مقلتيها، وبدا أنها على وشك البكاء، فظلت ساهمة في شرود، لم تلبث أن تناهى لها صوت باب حجرته يفتح، فنظرت شطْره بطرفٍ خفي، وشاهدته وهو يرتدي جاكته لتعلم أنه سيخرج، وأغلق الباب وراءه فأطرقت برأسها كلا تصطدم عينيها فيه، ثم ازداد وجيف قلبها عندما سمعت خشخشت قدميها تقبل نحوها، وظلل عليها ظله وهو يقف أمامها صامتًا، ساكنًا دون أن ينبس ببنت شفة، كان يشعر بالذنب لأنه عاملها بتلك الطريقة.
ويؤنبه ضميره ويؤرق مضجعه.
فأنَى له من سبيل لكي يخبرها أنه يخاف عليها.
وانبعث صوته يقول في هدوء، وبنبرة رخيمة:
_تعالي عشان خارجين عندنا شغل.
ولم تعيره اهتمامًا أو ترفع حتى جفنًا إليه، بل هبت واقفة وألتقطت حقيبتها وسارت من ورائه في جمود.
وتفاجئت به يوقف سيارته أمام محل لألعاب الأطفال، ويقول وهو يغادر السيارة:
_لحظة وحدة وهآجي.
فأومأت دون أن تعقب بحرف.
ولم يلبث أن عاد وهو محملًا بالكثير من الحقائب، ثم تركهم في المقعد الخلفي، ورجع إلى المحل مرة أخرى ثم خرج وفي يده شيئًا آخر متغلفة بطريقة رائعة وبدت لها كهدية.
ثم أحتل مقعد القيادة، وأنطلق بالسيارة لم يلبث أن وقف جانبًا في مكانٍ لم تذهب إليه قط، فجالت ببصرها في المكان عبر نافذة السيارة، وسقط بصرها على دارٍ للأيتام بدا لها أنها وجهته، وكان يمان قد غادر السيارة وتناول الحقائب من المقعد الخلفي تاركًا الهدية، ثم مال قليلًا برأسه عبر نافذة السيارة، وطرق بسبابته عليه، وهو يقول:
_مش هتنزلي ولا أيه؟
فنفخت بضيق وهي تترجل لتسير بجواره في صمت، وما أن أطل على الأطفال حتى رأتهم جميعًا يندفعون إليه فترك الحقائب من يده، وجثى على ركبتيه ليستقبلهم ببهجة فاتحًا ذراعيه، بينما وقفت هي تتابع ما يحدث بأعين لامعة تبرق بالسرور، وقد أشرقت ملامحها كشمسٍ وهاجة، وتابعته وهو يلتقط اللعب ويوزعها عليهم ثم يخبرها في هدوء:
_مالك واقفة ساكته كدا ليه؟! تعالي ساعديني.
واتجهت نحوه في حماس وهي تحذو حذوه، كانت دائمًا تتمنى أن تزور ملجأ للأيتام وها هو ذا يحقق لها أمنيتها!
كم رائع هو محب للجميع ومحبوب.
تأملته غرام وهو يمازح الأطفال ويلهو معاهم بمقلتين تشعان حبًا وعاطفة.
لم تلبث أن أشتركت معهم في اللهو، وبدا لها أن الجميع على علاقة طيبة به في الملجأ وليس الأطفال فقط، فقد ذهب برفقتها إلى مكتب المديرة التي نهضت تستقبله بكل سرور وترحاب، وأشارت لهما بالجلوس، ثم ناولها شيكًا لم تعرف كم دون به، وانصرفا وهو يقول لها بينما يسيران في طريقهما إلى الخارج:
_أنا كل فترة بحب أأقضي اليوم هنا مع الأطفال.
وسكت لهنيهة لوح فيها بكفه إلى بعض الصغار، ثم تابع السير بجوارها، وهو يقول بوجد:
_بنسى نفسي هنا حرفيًا، بحس كأني رجعت طفل صغير، وأحيانًا كنت بجيب غادة معايا، واوقات لوحدي.
كانت تستمع إليه مشدوهة، مأخوذة كليًا به، وأستطرد هو ببسمة هادئة رزينة:
_لما الدنيا بضيق بيا أوي، وبحس بخنقة، وأن في هموم مش لاقي لها حل، وبحب أكون لوحدي بآجي على هنا على طول، بسمة الأطفال دي بتنسيني الدنيا وما فيها، وبتعرفني أن الهموم مهما طالت مسيرها إلى الزوال، لأن ربنا كبير مش بيسيب حد.
وسكت عندما فتح لها باب السيارة ليدعوها إلى الدخول وأغلقه ورائها، ثم جلس خلف عجلة القيادة وأدار محركها، وهو يقول:
_والنهاردة جيبتك معايا كأعتذار على اللي حصل مني.
فهزت رأسها في ارتياح، وقاطعته قائلة:
_تعرف أني دايما كنت بتمنى أزور دار أيتام..
فقاطعها هو قائلًا وهو ينظر إليها من مرآة السيارة:
_بجد؟!
فأومأت برأسها إيجابًا، وغمغمت:
_بجد آه وأنت حققت ليّ الأمنية دي! عمري ما فرحت كدا زي النهاردة، مش هنسى اليوم ده أبدًا.
انبلجت بسمة على ثغره مشبعة بالحنان، ثم رمقها بنظرة سريعة وهو يقول:
_تحبي تيجي معايا أدي تسبيح هديتها؟!
فهزت رأسها مرارًا في حماس، وهي تهتف في مرح:
_طبعًا.. طبعًا معاك.. دا سؤال.
وأثناء الطريق هبط من السيارة ليقتني بعض الأشياء، وتوقفت بجانبه وهو يرن جرس الباب وسمعت صوت خطوات تعدو ثم فتح الباب وأطلت الصغيرة تسبيح من ورائه، وهي تصيح:
_بابا يمان جه.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
ثم قفزت عليه لتتعلق بعنقه بينما تلقفها هو في حنان، ودعتهما هند إلى الدخول وأجلستهما في صحن الدار، بينما تقول:
_تاعب نفسك أنت على طول معانا كدا! مفيش داعي لكل الحاجات دي!
فرمقها بنظرة عتاب، وقال مغضبًا:
_عيب عليكِ الكلام ده هو أنا بجيب لمين غير لأختي.
ثم وجه حديثه إلى تسبيح الجالسة فوق قدميه، وهو يقول:
_بابا يمان جاب لتسبيح هدية حلوة.
فصاحت الصغيرة وقد استنار وجهها:
_بجد يا بابا يمان؟!
أعطاها يمان الهدية فقبلته شاكرة ثم وثبت من فوق قدميه لتدخل إلى حجرتها.
ولم يمكثا طويلًا فقد غادرا إلى البيت، بذكرياتٍ ستبقى محفورة في قلب غرام خالدة أبد الدهر.
********
توالت الهدايا على غادة من يوسف يوميًا، حتى أسرتها وباتت تكن له مشاعر إعجاب أخذ يتذايد في أعماقها، وبغتة توقفت هداياه وأورثها ذلك حزنًا وقلقًا عليه، وأخذت الأفكار تعصب بها، والحيرة تنهشها.
هل أنقطع يوسف إلى الأبد؟!
هل كف عن حبها؟!
هل نساها؟!
أما أنه قد تعرض لشيء أحال بينه وبينها؟!
هل ثمة خطرًا ما داهمه؟
لا غرو! إن أنقطاعه جعلها هزيلة، مصابة بالإعياء، كليلة البال، شاردة دائمًا، وغائبة حينًا.
لقد طالت غيبته ونالها الشوق، وابتغت لو تراه.. وحزنت حزنًا شديدًا أَمَضَّ فؤادها، وبينما هي ذات يومٍ تقف في شرفة حجرتها، وترتكز براحتيها على إطار الشرفة وتطلُ برأسها تتأمل الغائدين والرائحين، إذ أرتفع رنين هاتفها فرفعته إلى أذنيها بخمول ودون اهتمام وهي تجيب رقم مجهول، قائلة:
_السلام عليكم..
فجأها صوته ليعيث في قلبها فسادًا وهو يهمس بصوتٍ خافت حانٍ فشعرت بقلبها يقبل عليه كإقبال الظآمي إلى مورد عذب:
_طمنيني عليكِ عاملة أيه؟
فأختلج قلبها وتلاحقت أنفاسها، وهي تهمس بدورها:
_يوسف؟!
فسألها بنبرة جادة:
_أفتقديني؟
فلم تنبس غير أنه لم يهتم، وهو يقول:
_غادة أنا حاسس بالذنب إني كلمتك، أنا عمري ما عملت كدا مع أي بنت، ولكن شوقي ليكِ مقدرتش عليه ولا أني مسمعش صوتك، أديني فرصة ومش هقولك خطوبة حتى الخطوبة هتكون مبعدانا عن بعض أنا هقول نكتب الكتاب ونعرف بعض وهديكِ الفرصة اللي عايزاها ولو حبيتي بعد كدا ننفصل هننفصل بهدوء مش هعترض بس اوعدك أن ده مش هيحصل.
وسكت لهنيهة، ثم أتبع يقول:
_قُلتِ إيه؟!
لاذت غادة بالصمت طويلًا، ثم غمغمت بحسم:
_موافقة، وأتمنى مندمش في يوم على موافقتي.
فتمتم وهو يستطير فرحًا:
_أوعدك أنك مش هتندمي أبدًا.
في ذات عَشِيَّةٍ مُقْمِرَة، حضر يوسف برفقة والديه وأستقبلهم مختار مرحبًا هو والشابين، وكان يمان قد سأل عنه لكن الجميع أجمع أن ليس له أصدقاء.
وأن لا أحد يراه كثيرًا.
وأن عائلته ليست مختلطة بالناس من حولهم.
لكنه شاب هاديء، يمر كنسمة هواء ليس له صوتٍ أو حركة، ويبدو غامضًا في بعض الأحيان.
فآثر يمان ملاقاة يوسف بمفرده، وتقابلا وتحادثه وقد راق له كثيرًا.. ذكي، مثقف، يعمل في إحدى شركات المقاولات.
واتفق الرجال فيما بينهم على كل شيء تلك الليلة، ثم أتت غادة لتقدم واجب الضيافة وتجلس بجانب والدته وتشاركها في حديثٍ طويل، علمت منها أنها طيبة الشمائل، مرحت الروح، طيبة القلب، ثم جلست برفقة يوسف بمفردهما وتحدثا وحددا موعد خلال أسبوع لعقد القران.
***********
خرجت غرام من مكتب يمان وأوصدته وراءها وقد افتر ثغرها عن بسمة رائعة، واسعة ففي كل مرة تكتشف في هذا الرجل صفة تجعلها تشعر كأن الحياة قد خلت من الرجال إلا هو، ولملمت أشيائها لتستعد للذهاب معه إلى إحدى المطاعم لمقابلة عمل، حين أرتفع رنين هاتفها فرفعت الهاتف في شوقٍ جم، لترد على أبيها قائلة:
_بابا عامل أيه طمني عليك؟ وتيتا عاملة ايه؟
فجائها صوت أبيها وهو يقول:
_كويسين يا حبيبتي الحمد لله، أنتِ عاملة ايه؟
فردت بأعين دامعة:
_أنا الحمد لله، انتوا وحشتوني اوي.
فرد بلطف بنبرة مبهمة:
_هانت خلاص وهنتقابل قريب؟!
فغمغمت حائرة:
_أنت جاي!؟
لكن قبل أن تسمع رده سمعت طرقًا على الباب لا ريب أنه تناهى لها فأغلق معها، بينما سمحت غرام بالطارق بالدخول فأنفرج الباب وأطل زكريا برأسه وهو يقول بمرح:
_أدخل ولا ارجع؟
فتبسمت وهي تشير له بالدخول قائلة:
_تعالى أدخل يا زكريا أتفضل.
دلف زكريا في هدوء للداخل، وجلس أمام مكتبها وهو يفك أزرار سترته، ثم ألتفت إليها في اهتمام، وقال:
_أنتِ فاضية ولا مشغولة دلوقتي؟!
فتمتمت موضحة في هدوء:
_يعني على حسب لو هتقولي حاجه سريعة فقول عادي فاضية.
فاومأ برأسه ودمدم:
_طب حلو، اسمعي بقا يا ستي.
وحدق في عينيها، بينما أصاخت هي السمع، وقال هو بنبرة هادئة للغاية:
_الحقيقة أني فكرت كتير انا وبابا وخدنا قرار لازم تشاركينا فيه.
ففتحت كفيها وهي تسأله في دهشة:
_رأيي أنا.
فأوما لها بعينيه، وتمتم بصوتٍ خفيض:
_رأيك أهم من رأينا طبعًا!؟
فتراجعت بظهرها لظهر المقعد، وهي تقول في حيرة التهمت وجهها:
_رأيي في أيه بالضبط؟
تنهد زكريا تنهدًا عميقًا، وابتسم وقد خيم عليه الصمت لثوانٍ، ثم قال:
_ أيه رأيك نعقد قرانا مع غادة ويوسف؟! يعني أنا شايف بما أننا في مكان واحد سوا في البيت أو الشركة فهيكون من الأفضل أننا نعقد قرانا معاهم.. والرأي رأيك برضو.
ونظر إليها فوجدها واجمة، ممتقعت الوجه بشكلٍ جلي، تطلُ الصدمة من عينيها، تفاجئت غرام بطلبه، لكنها وجدت أن معه حق فما دام أنهما في مكانٍ واحد وبيتٍ واحد فلا يوجد سبب لتأخير عقد القران، فطرفت ببصرها وقد احتارت، وأحست بقبضة في قلبها، ثم غمغمت بصوت متهدج كأنما توشك على البكاء:
_أنا موافقة كدا هيكون أفضل فعلاً ولكن بابا..
فقاطعها قائلًا بتهليل:
_بابا كلم والدك وهو بصراحة كان موافق وطلبوا مني أفاتحك في الموضوع.
وفي توتر ومقلتين تفيضان دمعًا هزت رأسها إيجابًا.. وبالكاد استطاعت سماعه وهو يقول:
_يبقى لازم نستعد بقا عشان خلاص كلها أيام وتبقي مراتي.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
ماذا لو ألقى المرء نفسه في التهلكة؟
أيخرج منها سالمًا، أم تراه يخرج متهدمًا ضعيفًا محبطًا!
أن يلقي المرء نفسه من فوق جرفٍ هارٍ يدرك أنه سينهار بهِ في واديٍ سحيقٍ في دياجيرٍ من الظلام.
فرغ يمان من لقاء العمل ورحل العملاء الذين كانوا برفقته، فزفر بضجر وهو يتراجع مسترخيًا إلى ظهر المقعد وقد عقد ساعديه أمام صدره، وحدق في غرام الشاردة من بداية اللقاء في حيرة تجلت فوق قسمات وجهها، ثم تنحنح قائلًا باهتمام:
_غرام، مالك سرحانة في أيه؟ شكلك مضايق في حد ضايقك؟!
فلم يتلقَّ ردًا منها، بل ظلت على حالها ترتكز بمرفقها على الطاولة وقد سلمت ذقنها إلى راحتها، فحرك رأسه متعجبًا، وعلا صوته وهو يقول في حدة:
_غرام.. غرام أنا بكلمك.
فأنتفضت تنظر إليه بهلعٍ، وقد أجفلها صوته، ورددت:
_نعم، كنت بتقول أيه؟
فمال بجذعه على الطاولة، وهو يشبك كفيه أمام وجهه، وأردف:
_بسألك أيه إللي مضايقك؟
فهزت رأسها وهي تقول بصوتٍ شاحب:
_مفيش حاجة.
فغمغم يمان بثقة وهو يهز رأسه نافيًا ما قالت:
_لا في.. أنا متأكد.
وأتبع يقول بصوتٍ خفيضٍ هاديء:
_لو عايزة تتكلمي أنا هسمعك.
فأسبلت جفنيها لبرهة، ثم نظرت إليه وهي تبتسم، قائلة:
_شكرًا جدًا ليك بس بجد أنا بخير مفيش أي حاجة.
رمقها بنظرة مشككة، غير مصدق ما تقول، لكنها أستطردت تقول وهي مطرقة الرأس:
_أنا وزكريا هنكتب كتابنا مع غادة أختك، أكيد عرفت.
فنظر لها في جمود ممزوج بالصدمة، وتمتم:
_دا بجد، إمتى خدتوا قرار زي ده؟
فهزت منكبيها وهمست في بساطة:
_من شوية.
فحدجها شذرًا ثم سألها بنبرة صارمة:
_أنتِ عايزة تكملي بجد مع زكريا؟ مينفعش تفكري كويس! أأنتِ بجد عايزة تتجوزيه.
فظلت لردحًا من الزمن لائذة بالسكون التام دون رد، وقد عصفت بها الأفكار عصفًا.
كانت خائفة كريشة في مهب الريح، لا ريب أن تجربتها السابقة لا تزل عقبة في طريقها، يجتاحها الوجل من أن يعاد ما مرت به سابقًا! ماذا لو حصل وطلقها زكريا بعدما صارت زوجته؟ أيمكن أن يكون مثل طارق؟
كالرياح الهوجاء أخذت تمور الأفكار بين جوانحها، ثم رفعت رأسها لتقول بنبرة حاسمة.. صارمة:
_زكريا حد كويس وزوج مناسب غير أنه ابن صديق بابا ومتعرفش انا بحب عمي مختار قد أيه وواثقة في تربيته.
فزم شفتيه، ورفع حاجبًا مندهشًا، وقال ذاهلًا:
_أنتِ عشان كدا موافقة عليه؟!
وجهم المحيا وأكفهرت ملامحه، ثم أتبع:
_أنتِ محتاجة تعيدي ترتيب أمورك، لأني شايف العكس، زكريا مش مناسب ليكِ!
فتطلعت فيه بحدة، وهاجت قائلة:
_وأنت يعني عارف أيه المناسب ليَّ؟!
ثم هبت واقفة وهي تقول بعصبية:
_خلينا نمشي أنا مش عارفه إحنا قاعدين ليه بما أننا خلصنا!
فرمقها بنظرة مشتعلة، ثم نهض في هدوء وسار أمامها وهو يشعر بالغضب..
بالغضب من نفسه..
لأنه قد تدخل فيما لا يعنيه..
*********
جاء اليوم الموعد، اليوم الذي ستقترن به بحبيبٍ فعل لأجلها المحال لينالها، كانت غادة تكاد تطير فرحًا والأرض لا تسعها ومنذُ أن أشرق الصباح وهي تتجهز، عكس غرام التي كانت فاترة لا تفتأ عن الشرود الذي سلبها من الناس، وسلب منها الفرحة، مختار لم يقصر مع البنتين فقد أحضر لهما الهدايا وكل ما يحتاجانه في هذا اليوم، أنتهت غرام من وضع (المسك) على وجهها، ثم غسلته وجففته وخرجت إلى الشرفة لتحادث أبيها لتعلم إلى أين وصل، فما أن همت بأن تتصل به، حتى أعترتها فرحة هائلة، فلقد رأته وهو يترجل من السيارة ويعاون جدتها على النزول، فصرخت في ابتهاج كأن الروح قد عادت إلى جسدها المنطفيء فأنار، واندفعت تعدو خارج الحجرة وتهبط الدرج وهي تصيح في شغفٍ ولهفة:
_بابا..
والتفت إليها عبد السلام وقد هش وبشر، وقال مسرورًا:
_غرام.
رمت غرام نفسها بين ذراعيه، ثم أجهشت في البكاء، وغمغمت:
_وحشتني أوي يا بابا.
فربت عبد السلام على ظهرها برفقٍ، وقال بحنو:
_دول كلهم كام أسبوع بس، أمال لما تبقي في بيت زوجك هنعمل أيه بقا؟
فأبتعدت غرام وحدقت فيه بحزنٍ، وتمتمت:
_يبقى بلاش أتجوز أحسن.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
ثم أستدارت نحو جدتها التي تأبطت ذراع يمان وأندمجت معه في حديثٍ ما، فدنت غرام منها وهي تقول:
_تيتا عاملة ايه وحشاني؟!
فنظرت إليها الجدة وقد زوت ما بين حاجبيها، ودققت فيها البصر، وغمغمت في فتور:
_أنتِ مين يا بت أنتِ؟ وأيه تيتا دي أنا هكون ستك منين؟
فحوَّلت غرام بصرها نحو أبيها، ثم التفتت مجددًا إلى جدتها، وقالت في هدوء:
_أنا غرام بنت ابنك!
فدمدمت الجدة مفكرة وهي تبتعد عن يمان:
_هو أنا معايا عيال؟
رفعت غرام حاجبها في دهشة، وهمت بأن تجادل جدتها، لولا نهلة التي جذبتها من ذراعها وهي تقول:
_سيبك من جدتك إللي بقا عندها زهايمر دي وتعالي سلمي عليَّ يا عروسة.
فأفلتت غرام ذراعها من بين أصابع الأخرى، وقالت في جدية:
_أنا حاسة أن ستي مش بخير!
فأجابتها نهلة بوجهٍ اكتسى بالحزن:
_أبدًا بس ستك كبرت في السن وبجد بقى عندها زهايمر يعني هي مش بتهزر معاكِ زي ما كانت بتعمل.
فإزدردت غرام لعابها في ألمٍ، ثم أنصرفت برفقة نهلة وهي تأخذ الجدة معها قائلة:
_تعالي يا ستي مش أنا هتجوز النهاردة!
فصعدت الجدة درجات السلم في ثقل، وهي تقول باندهاش:
_بجد يا بت وهنعمل فرح وهنرقص.
فضحكت غرام في خفوت وهي تسندها، قائلة:
_أيوة، هتفرحي بغرام النهارده افتكرتيني.
فأومأت الجدة مرارًا، وهي تقول:
_أيوة أيوة غرام أفتكرتك أنتِ سفرتي وسبتني ليه يا بت؟!
وكان أجمل عتاب يأتي لغرام، التي أشرق وجهها وأخذت تثرثر برفقة جدتها التي لم تلبث أن همست في حيرة:
_أنتِ مين يا بت أنتِ؟ وبتعملي هنا أيه؟
*************
تم عقد القران، وفي غمضة عين وجدت غرام ذاتها زوجة لزكريا مختار، استقبلت التهاني بفتورٍ، ورحبت بالمدعوين ببسمة مجاملة، عكس غادة التي كانت بسمتها متسعة والبهجة تطلُ من عينيها، لا شيء يدوم ولا شيء يبقى على حاله، ولا أحد يعلم ما المخبأ غدًا.
جلس يوسف إلى غادة، وطَفِقَ يحدثها عن أحواله.
ويكشف لها عن سر حبه لها..
وهي تستمع إلى ما يقول في إنصات، وبغتة قرر أن يخرجا معًا وذهبت لتستأذن من شقيقها الذي سمح لها بذلك، وعادت إليه فوجدته يتحدث في الهاتف في مكانٍ منزويٍ، في أقصى ركنٍ بالحديقة، وقد امتقع وجهه، وبدا القلق جليًا يحفر على ملامحه مكانًا رحبًا، فتوجست خيفة من أن يكون ثمة أمرٍ جلل، ثم أغلق هاتفه وتقدم إليها بخطواتٍ واسعة، سريعة، كأنه يعدو، ثم قال بعجلٍ:
_غادة أنا.. أنا لازم أمشي عندي شغل ضروري؟
فغمغمت وقد تلاشت فرحتها:
_شغل في يوم زي ده؟ مش قولت ليّ هنخرج سوا؟
وترقرقت عينيها بالدموع، فتبسم في حنو، وضم كفيها بين راحتيه، وهمس:
_حقك عليَّ مكنتش أحب يحصل كدا بس دا واجبي ولازم أأديه على أكمل وجه بدون ثغره.
رن هاتفه مجددًا فنظر إلى شاشة الهاتف، وأسرع يغادر وهو يقول دون أن ينتظر أي كلمة منها:
_معلش يا غادة لازم امشي، بلغي بابا أني مشيت وهو هيفهم.
ظلت غادة متسمرة في مكانها تشيع رحيله بعينين تسحان بالعبرات.
***********
جلست غرام إلى زكريا منفردين، أعتراها الخجل فنكست رأسها في توتر، وهي تفرك أصابعها ف ارتباك، تأملها زكريا طويلًا في تمعن، بل كانت عينيه تتوغلان النظر فيها في تدقيق، ثم ابتسم بسمة واثقة، وغمغم:
_مبارك يا غرام.
فهمست بصوتٍ شاحب وهي تدير وجهها بعيدًا عنه:
_الله يبارك فيك، ومبارك ليك أنت كمان.
مد زكريا كفيه ليضم يديها بين راحتيه، فما كادت أصابعه تمس بشرتها مسًا، حتى انتفضت في ذعر وهي تهب واقفة لتبعد قائلة بوجل:
_أنت بتعمل أيه؟
ضحك زكريا في تهكم، وقال في سخرية:
_بعمل ايه؟ مراتي وبمسك أيدها أيه يعني اللي عملته؟ ولا أنتِ اول مرة تتجوزي؟!
ثم نهض وسار نحوها بخطواتٍ وئيدة حتى غدا قاب قوسين أو أدنى منها، ومال بوجهه شطر وجهها وتمتم بصوتٍ خفيض:
_ولا طارق مكنش بيمسك أيدك؟!
وشرع يقهقه، فتميزت هي غيظًا وقد دفعته بعيدًا عنها، وقالت في انفعال:
_أنت قليل الأدب على فكرة!
فصاح زكريا في تهكم:
_أنتِ لسه شوفتي قلة أدب!
فتوجست غرام خفية وهي تتقهقر بعيدًا عنه، فما أن باتت في منأى غمغمت في تلعثم:
_أنت تقصد أيه؟!
أدرك زكريا أن عليه أن يلملم الموضوع قبل أن يستفحل، ويحدث ما لا يتوقع، فأضفي إلى صوته بكل قدرٍ من جدية وحنان، وأردف:
_غرام يا حبيبتي مقصدش أي حاجة، بس أنا مش عايزك تتكسفي مني ولا تخافي أنا خلاص بقيت جوزك.
واقترب منها وأمسك كفيها في راحتيه فلم تمانع هذه المرة برغم العاصفة التي عصفت بكل كيانها.
تمتم زكريا في اهتمام:
_احكيلي عنك يا غرام.
فتمتمت في دهشة:
_عايز تعرف أيه؟
وبدآ في حديثٍ دام إلى ساعاتٍ.
أيمكن أن يتولد حبٌ من مستنقع الرزيلة؟!
**********
ظل يمان ليلته تلك مسهدًا، مما لا غرو فيه أنه قد شعر بالبهجة والراحة أنه قد سلم شقيقته لزوجٍ يستحقها، لكن ظلت غصة تُنَغَّص عليه فرحته لم يعرف كنهها قط، لماذا أحس بحزنٍ حين عقد قران غرام وزكريا؟!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
كأنه كان يختنق، بأن قلبه أخذت دقاته تخفت كأنها تتلاشى؟!
أهو الذنب؟ أم شيءٍ آخر لم يدركه بعد!
وفيما هو غارقًا في هواجسه هذه، دق الباب فتنبه من شروده ونهض لفتحه فوجد غادة أمامه وهي تقول:
_يمان، أنت صاحي؟!
فأومأ قائلًا:
_آه يا حبيبتي صاحي تعالي.
فترددت للحظة ثم هزت رأسها، وهمست وهي تفر بعينيه عن عيناه:
_أنا كنت بطمن عليك بس، ورايحة أسهر مع غرام ونهلة.
فتبسم لها قائلًا في هدوء:
_تمام يا حبيبتي.
ثم دنا بوجهه ولثم جبهتها في حنان، وأستطرد:
_تصبحي على كل خير في الدنيا.
فضمته وهي تسبل جفنيها، قائلة:
_وأنت بخير يا كل خيري في الدنيا.
وارت عنه هواجسها تجاه يوسف الذي بدأت تشعر أنه يخفي شيئًا ما، ثمة شيء مبهم لا تعرفه، طوت جوانحها على خواطرها وراحت لتتسامر مع البنات، حتى غفت نهلة وبقت هي وغرام مسهدتين، سألتها غرام بعد ما لاحظت شرودها الدائم، وهمها الجلي:
_مالك يا غادة حساكِ مهمومة؟!
فأفصحت غادة عن مخاوفها وهي تلتفت إليها بكل حزنٍ ألَم بها ونَغَّص سعادتها:
_حاسة أن يوسف في حاجات كتير مخبيها عني!
قطبت غرام جبينها في دهشة، وهمست ببسمة متوترة:
_حاجات زي أيه؟
فهزت غادة منكبيها وهي تقول في حيرة:
_معرفش يا رتني أعرف، بس هو غامض متأكدة أن في حاجه مخبيها عني.
ثم أطرقت في همٍ جثم على روحها وأضنى فؤادها.
************
مرت الأيام برتابة عاد فيها عبد السلام مع والدته وابنة شقيقته إلى بلده، وعادت غرام إلى وحدتها كان كل شيء يمر بفتورٍ عليها، كل الأيام متشابهة، من الشركة إلى البيت، أو الخروج مع يمان في لقاء عمل.
يمان الذي تغير كليًا معها، لم يعد يحادثها كالسابق أصبح الكلام بينهما بخصوص العمل فقط وبنبرة جامدة، أصبح كئيبًا أم غريبًا، أم بعيدًا لم تعرف لكن به شيءٍ قد تغير.
ذات يومٍ وقد كان يوم إجازة من العمل، وبينما غرام تتناول طعامها، قال مختار فجأة:
_أيه رأيك يا زكريا تاخد غرام معاك إلى باريس منه تغير جو وتشوف الدنيا هناك.
ثم التفت إلى يمان وقال:
_ويمان يسافر هو يخلص الشغل، وأنت خد غرام وفسحها وخليها تغير جو ولا أيه؟
وربت على كف يمان وهو يقول:
_أنت مش هتكسف خالك أكيد وهتروح تخلص الشغل.
أومأ يمان موافقًا، وقد دار بصره إلى غرام التي تشاغلت عنهم ولم تنبس، في حين قال زكريا في بساطة:
_أنا معنديش مشكلة يا بابا طبعًا.
ثم جهم المحيا واكفهرت ملامحه، فقد ضاع عليه كل شيء خطط له.
فهو كان يود لو يسافر بمفرده يقابل الفتيات، ويشرب الخمر كما يشاء دون رقيبٍ أو عتيد، لكن كل خططه ذهبت أدراج الرياح بما قاله والده.
لكنه آثر السلامة والهدوء لذا لم يعترض حتى لا يثير شكوك والده تجاهه.
في آن ذلك، رفع مختار بصره إلى غرام، وغمغم في اهتمام:
_أيه رأيك يا غرام يا بنتي؟!
لم تجبه غرام أو ترفع رمشًا إليه، كانت واجمة مما سمعت، لكنها أيضًا كانت مبتهجة فمن صغرها وهي تحلم بالسفر إلى الخارج لترى العالم، لتعلم كيف يعيشون، لم تدرك أنها النهاية.
نهاية حياتها هي في تلك البلد، التي هي حلم بالنسبة لها.
استيقظت من هواجسها على صوت مختار يقول:
_مسمعتش ردك يا غرام! لو مترددة فأنتِ مش هتسافري مع حد غريب دا جوزك وأكتر حد هيخاف عليكِ، وكمان معاكِ يمان وتخلصي معاه الشغل أنتِ بقي عندك فكرة كبيرة عنه وواثق أنكم هتخلصوا سوا كل حاجه على أكمل وجه.
فأومأت غرام برأسها إيجابًا، وأشرقت ملامح مختار، بينما نكزتها غادة بمرفقها، وغمزت لها قائلة:
_يا بختك يا ستي.
*************
جلست غادة في إحدى الكافيهات في إنتظار يوسف الذي طلب منها الحضور، وقد كانت ثائرة فمنذُ عقد القران ورحيله المفاجئ لم يتقابلا، لم يتصل بها، واختفى فجأة وهي لن تتحمل أكثر من ذلك، يجب عليها أن تعلم ما يخبئه عليها.
_أنتِ هنا من بدري ولا أيه؟
قالها يوسف وهو يسحب المقعد ليجلس إزءها، لكنها لم تعره اهتمامًا وتجاوزت عن سؤاله، وهي تتدفع قائلة بصوتٍ حاولت أن يكون خافتًا:
_أنت أيه يا يوسف؟ أنت إزاي كدا؟ أنت اتجوزتني واختفيت من حياتي فجأة بدون حتى ما ترفع سماعة التلفون تقول أي حاجة تطمني، هان عليك إزاي؟
فتبسم بسمة أثارت غيظها وغضبها أكثر وقال في هدوءٍ بارد مستفز:
_ممكن تهدي يا غادة!؟
فصرخت غادة في جنون وبلهجة حادة عالية جعلت كل الرؤوس تلتفت إليهما:
_اهدى إزاي؟ بكل بساطة كدا اهدي يا غادة؟ أنت اتجوزتني عشان ترميني؟
فصاح يوسف وهو يضرب راحته على الطاولة بنبرة صارمة:
_قُلت اخرسي الناس كلها بتبص علينا.
فجال بصرها على الناس التي تطلع إليها في فضول، وأطرقت في أسف، فتمتم يوسف في هدوء:
_أنا مبحبش حد يرفع صوته عليَّ يا غادة، بس أنتِ مش أي حد.
وشبك كفيه أمام وجهه متابعًا:
_كان عندي شغل وكنت مسافر والتلفون ضاع مني عشان كدا معرفتش اتواصل معاكِ.
فتشاغلت عنه، ولم تجبه، فتنهد هو في ضيق، واستطرد:
_عايزك تعرفي أن مفيش حاجه في الدنيا تبعدني عنك أبدًا، وإني لما أغيب بيكون غصب عني..
وقال بنبرة مبهمة:
_دا واجب فيه حياة يا موت.
فاسترابت وهمست بشك:
_يعني أيه؟
فأخذ كفيها بين راحتيه وقرب شفتاه ليقبلهما بكل حنان الدنيا، ونظر إلى أعينها هامسًا بصوتٍ رخيم:
_يعني عايزك تتأكدي أني لما بكون بعيد عنك بتبقى روحي مفارقاني لعندك، وبيكون قلبي مشغول بيكِ، وأني غصب عني..
فأصابتها عدوى الحنان، وانبلجت بسمة كضوء الفجر على ثغرها، وقالت:
_طب أنت مفيش حاجه مخبيها عني؟!
فهز رأسه قائلًا بكل تأكيد:
_كل حاجه في وقتها حلو.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
***********
جلست غرام في الطائرة بخوفٍ ملأ جوانحها خاصةً بعدما أقلعت، فكانت تركنُ إلى يمان فتطمئن، ويسكن ضجيج قلبها، وحين وصلوا توجهوا إلى إحدى الفنادق ذات الخمس نجوم، والتي بهرت غرام، بل الحق أنها كانت منبهرة بكل شوارع باريس وهي تجلس في السيارة التي تقلهم إلى الفندق تنظر عبر النافذة إلى الأزقة بأعين متسعة في انبهار، ذلك اليوم تناولوا عشاءهم معًا في صمت وكأنَّ على رؤوسهم الطير، ثم أووا إلى غرفهم بينما آثر يمان أن يبقَّ مع رفيقًا له هناك، مما أورث في قلب غرام فراغًا ممتلئًا بالخوف، والضياع.
في اليوم التالي أصطحبها زكريا في جولة رائعة لم تحياها يومًا إلى برج إيفل وهناك تناولا الطعام في المطعم التابع للبرج، ثم وقفا معًا يشاهدان باريس من عليائه، وقد ارتكزت غرام بساعديها المعقودين على إطار البرج وراحت تتأمل المدينة بأعين لامعة، دون أن تلاحظ زكريا الذي أخرج هاتفه وراح يصورها، وقضت اليوم برفقته هنالك دون أن يظهر يمان أو تعرف عنه شيئًا، بينما تجنب زكريا التواجد معها في مكانٍ أرتاده سابقًا كلا تتعرف عليه إحدى الفتيات التي قضى معهن علاقة.
لن تنس غرام إطلالة مدينة باريس من فوق البرج الذي صورت كل ما تستطيع فيه كي تبقَّ ذكرى لها.
وذهبا إلى قوس النصر والتقطت بعض الصور وتابعا تجوالهما في المدينة.
واصطحبها في يومٍ آخر إلى متحف اللوفر أكبر متحف في العالم، وهناك راحت تلتقط الصور لنفسها أو يصورها زكريا مع اللوحات وخاصةً لوحة الموناليزا للفنان دافينشي، ومع تمثال فينوس، وبعض المنحوتات والتماثيل.
الحق أن زكريا لم يقصر معها، ومع كل يومٍ جديد كان يأخذها في جولة جديدة إلى أماكن مختلفة، متصنعًا أنه أحسن رجل في العالم، ومتقنًا لدور الانسان المحترم، كي تتم تلك الزيجة على خير، وبعد ذلك أن علمت بأمره فلتعلم لن يخشى شيئًا.
أكثر مكان لم يرق لغرام، وجعل فؤادها ينقبض كان سراديب الموتى؛ وهي شبكة من الأنفاق المتفرعة، تحت الأرض تحوى رفات الملايين من الناس، فخرجت ممتقعت الوجه، لكن التجربة كانت تستحق فقد شعرت بأنها تخوض مغامرةٍ ما.
كانت تجلس في مطعم الفندق مع زكريا يتناولان طعامهما حين تقدَّم يمان منهما، فنظرت إليه في لهفة وقد ظهر أخيرًا قائلًا:
_مساء الخير، عاملين أيه؟
قالها وهو يسحب مقعدًا ليجلس، بينما رمقته غرام بنظرة عتاب لم يفهمها، وغمغمت:
_كنت فين كل ده؟
فتمتم في هدوء يجيبها وهو يدير عينيه بعيدًا عنها:
_كنت بخلص الشغل وقعدت عند حد من أصدقائي.
ولم يتح لها فرصة لأي كلامٍ وهو يردف:
_هقضي اليوم النهاردة في الفندق عشان نحجز على أأقرب طيارة ونرجع.
لم يعره زكريا اهتمامًا ولا حديثًا، بل ضم كف غرام الصغير في راحته وهو يقول في حنان مزيف:
_حبيبتي تحبي نخرح نتمشى شوية؟!
فاختلست غرام نظرة إلى يمان الذي كوَّر قبضته في غضبٍ ثم سحبت كفها في هدوء وهي تقول نافية:
_لا، كفاية خروج وهطلع اصلًا دلوقتي على أوضتي أنام.
ثم استأذنت منهما وغادرت، بينما نظر زكريا في حقد إلى يمان وتراجع في مقعده، وقال وهو يحرك كوبًا فارغ على الطاولة:
_غيران مش كده؟! حاسس قلبك بيولع صح؟!
ثم قهق عاليًا فحدق فيه يمان بازدراء، وهتف مغضبًا:
_أنت اتجننت غيرة أيه، أيه اللي بتقوله ده؟
فمال زكريا إلى الأمام بأقصى حد يستطيعه، وصدد بصره في أعين يمان في تمعن وهو يقول في ثقة:
_أكدب وقول أنك مش بتحبها؟!
في تهكم شديد غمغم يمان في توتر:
_وهكدب ليه؟ مفيش أي حاجة من اللي في دماغك انا مش بحب حد أبقي بص كويس أو عالج نفسك.
فزم زكريا شفتيه، ورفع حاجبه وهو يقول بغلظة:
_برضو أنا اللي اتجوزتها ومش هتكون ليك أبدًا.
بركانٍ هائل من الغضب تجمع في حدقتين يمان وهو ينهض في عصبيه قائلًا:
_أنت انسان مستفز لا تطاق بجد.
ثم مضى في سبيله إلى سيارته بخنقه، وهو يفك ربطة عنقه، ويغلق باب سيارته وراءه، وقبض على عجلة القيادة وظل جامدًا لهنيهة مشخصًا البصر إلى الفراغ، ثم انكب برأسه على ذراعه الذي انثنى أمامه، وأسبل جفنيه محاولًا دحر منظر يد زكريا وهي تضم كف غرام!
لماذا هذا المشهد لا يفارقه؟!
ما ذاك الشعور الذي احتل قلبه من الألم؟!
لماذا أراد وبشدة أن ينقض على زكريا ويقطع يده!
لماذا شعر بسهمٍ من نار رشق في وتينه وسويدائه فأحال قلبه إلى رماد لم تذره الرياح!
تأجج فؤاده بمشاعر شتى، لم يجد لها تفسيرًا غير شيئًا واحد!
هل غدا يحب غرام؟!
هل أمسى يحبها حقًا؟!
متى؟ كيف؟
أبعد أن طارت من بين يديه وأصبحت زوجة؟! لا يزل أمامه وقت ليحل كل شيء.. أيمكن؟!
أيمكن أن يحل كل شيء بتلك البساطة حقًا؟
أحين يولع بأحدهن تكون متزوجة؟ بأسًا لك أيها القلب.
رفع رأسه عن ذراعه ثم أدار محرك القيادة وأنطلق بسيارته يجوب الطرقات والأزقة وهو يشعر كأنه يتعذب في نارٍ مسعرة.. متوقدة داخل أعماقه.
جلس زكريا القرفصاء فوق فراشه وقد وضع على ساقيه الحسوب، ودقق النظر في شاشته مصبًا كل اهتمامه وجوارحه عليه وهو يتابع المقاطع المحرمة.
غافلًا عن ربه الرقيب البصير الذي يعلم ما تخفى الصدور وما تعلن.
غافلًا عن أن البصر نعمة من نعم الله عز وجل التي أنعم بها علينا وقد أمرنا بغض البصر، لم يهتم بسخط الله عليه، ولم يهتم بذنوبه التي أخذت تستفحل، لم يعلم أنه في لحظة قد يسلب الله منه نعمة البصر فهو القادر على ذلك سبحانه، لكنه الكريم يمهل ربما يتوب العبد، ربما يدرك خطؤه، ربما يؤوى إليه ويتخذه موئلًا وملاذًا.
عيناه لم تحيدان لثانية عن الشاشة، وفي يده زجاجة خمر كان يتجرع منها مرارًا.
يظن بعد الناس أن المال الكثير نعمة تغنيه عن الحاجة والفقر وهو كذلك بالفعل، لكن المال قد يصبح نقمة على صاحبه يسلب منه انسانيته وإيمانه ويجعله يغوص في وحلٍ من المعاصي والآثام.
لو لم تكن غرام هنا كان ليكون قد جلب إحدى الفتيات، نظر إلى فراشه بحنق لو أن تلك زوجته ليست معه لكانت تنام هاهنا بين أحضانه إحدهن، لكن لماذا يفعل؟! لماذا يقترب من فتاة غريبة بينما زوجته قريبة؟
والهاجس الأخير جعله يشتعل، فأغلق الحاسوب وألقاه دون أكتراث وترك قنينة الخمر جانبًا، ومد قدميه فما كاد يستوي واقفًا حتى تعثر وكاد يسقط أرضًا لكنه تدارك نفسه، وتوازن سريعًا، وتابع طريقه خارج الحجرة..
إلى حيثُ غرام..
أغلقت غرام الأتصال مع نهلة، ثم أبدلت ملابسها وأوت إلى فراشها في سبيلها إلى النوم، ثم سمعت طرقًا على باب حجرتها جعلها تضيق عينيها في تركيز، وهي تقول في قلق:
_مين؟
واعتدلت جالسة وقد احتل الخوف قسماتها، ولم يأتيها رد غير أن الدق عاد أقوى بألحاح شديد، جعلها تجذب هاتفها في لهفة وتتصل بأول شخص خطر على بالها..
نعم، يمان..
لكنه لم يجب..
فأعادت الأتصال مجددًا ولم يجب..
فنهضت مضطرة لترَى مَن الطارق وقلبها يرتجف بين ضلوعها خوفًا، ففتحت فرجة يسيرة وأطلت من ورائها لتبصر زكريا الذي دفع الباب في عنف لترتد هي إلى الخلف في فزع، وصرخت:
_زكريا مالك أنت اتجننت؟
فصفق الباب في عنف وهو يترنح يمنى ويسر، قائلًا بسكر وهو يحرك كفيه:
_تؤ تؤ مش جنون يا مراتي يا حبيبتي.
وألقى نفسه عليها فدفعته بعيدًا عنها وهي تقول باحتقار، واشمئزاز:
_أوعى كدا، أنت شارب خمرة ايه الريحة المقرفة دي؟!
فهمس وهو يقترب منها:
_طبعًا، شارب فعلاً وجاي انام في حضنك مش أنتِ مراتي برضو؟!
ومضى يحث الخطى نحوها وهي تتراجع في ارتياع، عند ذلك انحدرت من عينيها دمعتان كبيرتان، وقالت والدموع تملأ مقلتيها:
_زكريا فوق وأخرج بره.
فهز رأسه نافيًا، وهو ينظر لها بشهوة، ثم انقض عليها كما ينقض الصياد على فريسته ودفع بها فوق الفراش ورمى نفسه فوقها، رعبٍ هائل سرى في أوصالها وهي تحاول ردعه عما ينوي..
حاولت أن تفلت منه..
حاولت أن تضربه..
لامساته كانت تثير فيها شعورٌ بالموت، قوته الجسدية فاقت قوتها الهَشة، وعندما وجدها تعافر لتبعده أنهال عليها ضربًا ففقدت كل ما تملك من قوة، وغابت عن الوعي بعدما سلبها جوهرة العفاف.
واغتصبها..
زكريا اغتصب زوجته..
ذبحها بدمٍ بارد..
وسحقًا لكل زوجٍ آثم متغيب الانسانية.
الموت في بعض الأحيان رحمة من أن يظل المرء حيًا وقد وارت روحه الثرى..
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
ألقت غرام نظرة طويلة على زكريا الذي يغط في سباتٍ عميق بعدما سلبها جوهرة عفافها دون ذرة رحمة..
أو شفقة..
أو وِد..
نظرة لم تسترجعها إلا مبللة بالدمع، ثم أغلقت الباب ورائها في حذرٍ شديد كأنما تخشى أن يهب من رقاده كأسدٍ هصور وينقض عليها فيفترسها، ولا يذرها إلا وهي أشلاء.
ثم سارت وهي تستند بكفها على الحائط كانت خائرة القوى، صارت جسدًا دون روحٍ، بقلبٍ دون نبضٍ، بأوردة دون دمٍ لتحيا، سُلبت منها الحياة بغتة مِن مَن حسبته الحياة، فكانت كشبحٍ فقد كل ذرة من حياة.
خذلتها قدميها فتوقفت، وأحست أنها تنهار رويدًا رويدًا، فسلمت ظهرها إلى الجدار وأنشأت تبكي بكاءً مرًا، فأدنت وشاحها من وجهها تخبأ عبراتها التي تهطل كمطرٍ صامت دون برقٍ أو رعد.
ونشجت نشيجًا محزنًا شَطر قلب المقبل عليها وهو يعدو تجاهها بعدما قامت بالأتصال به، في لهفة اندفع يمان يقول بلهاثٍ ودقات قلبٍ متلاحقة بوجل:
_غرام، مالك حصل أيه؟ أيه الحالة دي اللي أنتِ فيها؟
لكن غرام لم تكن ترآه، صوته تلاشى من محورها كأنما أصيبت بالصم، لقد سقطت في دياجير الظلام وفي ليلة من ليالي الدآدي ضاعت فيها أحلامها، وأمانيها.. وضاعت هي؛ بل تاهت ربما دون عودة للنور.
أليس الظلام لا يلبث أن يعقبه نهار؟
بلى، لكن ليلها هي يبدو أنه لن ينتهي بعد اليوم، لن يعقبه نهار، ولا شمسٍ تشرق في عليائها.
تبًا للحياة عندما تسلب منا الروح ونحن أحياء.
كيف تخبره بفجيعها؟! أنَى لها بقدرة كي تقول: لقد أعتدى عليَّ زوجي.
والمسمى الأكثر إيضاحًا كان إغتصابًا دون حياء.
أنتفضلت غرام مرتجفة، عندما هدر يمان بقوة:
_قولي حصل أيه؟
فالتفتت إليه من وراء سحابةٌ من العبرات التي تسح من مآقيها، وهمست بصوت متهدج بئيس:
_أنا عايزة ارجع البيت، رجعني البيت يا يمان أرجوك.
وأسبلت جفنيها في ألمٍ مما عانت، فهتف يمان في لهفة وقد أوجعه رجاؤها:
_أنا حجزت وهننزل فعلاً النهاردة.
فهزت رأسها تقول بجزع:
_لا، أنا عايزة انزل الصعيد رجعني بيتي.
فأومأ يقول بسرعة:
_حاضر هرجعك متخافيش..
ثم تلفت حوله وهو يقول:
_هو زكريا مش هنا؟
وبارتياع رفعت بصرها إليه وتطلعت فيه بفزع، وهتفت بجنون وهي تتراجع:
_زكريا لأ أرجوك زكريا لأ.
وأدرك يمان ما خُفى، وكان دوره ليرتد للخلف مصعوقًا، لم يظن أن يكون زكريا بذلك السوء الذي يجعله يعتدي على زوجته، ويأخذها قسرًا، كان يعلم مساوؤه كلها وأفعاله الشنيعة والزنا الذي كان ينغمر فيه دون رقيبٍ أو عتيد، لكنه لم يحسب يومًا أنه قد وصل لذلك السوء.
تطلع فيها بوجهٍ شاحب في ارتياع، دون أن يتفوه بحرفٍ، فتمتمت غرام في رجاء:
_خلينا نمشي أرجوك أنا معرفش غيرك هنا مش هعرف ارجع لوحدي.
فهز رأسه موافقًا في وجومٍ عجيب، ثم جلس يقود السيارة بجانبها إلى المطار وهو متغيب البال، يسترق إليها النظرات المؤلمة من مرآة السيارة، توجعه دموعها بل تكوي فؤاده كيًا، كانت تسند رأسها على نافذة السيارة عينيها مغلقتين برموشٍ مبللة يتساقط منها الدمع بغزارة، الذنب ذنبه..
نعم، لقد أخطأ عندما لم يخبرها بشخصية زكريا المتوارية، لقد دفعت هي ثمن صمته..
حبيبته التي نبض القلب بالحياة لأجلها بسببه تم الاعتداء عليها.
ليته قال..
لكنه لم يريد أن يفضح عبدًا ستره الله.
أترى الله قد يغفر له صمته عن الحق؟!
أترى غرام قد تغفر له يومًا صنيعه في حقها؟!
*******
غفى زكريا إغفاءة طويلة، ثم صحى منها منتفضًا وهب مذعورًا ما أن استرجع ما فعله مع غرام أثناء سكرته، في هلعٍ تطلع في الفراش الخالي الذي خلى إلا منه وساوره القلق ونهش من قلبه وأخذ يقتات من روحه، غادر الفراش في ارتياع وهو ممتقع الوجه وفتح الخزانة لكنه وجد كل شيء في مكانه..
ملابسها لا تزل في الحجرة..
حقيبتها أيضًا موجودة..
في مقتٍ تلفت في الحجرة، وبُهت وجهه وهو يرَ دورة المياة أيضًا فارغة، فبدل ملابسه في سرعةٍ ثم خرج من الحجرة وهو يعدو وهنالك سأل عنها فعلم أنها غادرت مع يمان، وأدرك أنها لن تتركه يفلت بصنيعه.
وقد تفضحه أمام أبيه فيسلبه كل شيء.
ويحرمه مما يملك.
فصعد إلى حجرته وتلقفته الأفكار، فجلس على طرف الفراش يضم بكفيه رأسه الذي ضج بالأفكار السوداء، وفجأة ومضت عيناه بوميض الظفر، حين قفزت إحدى الخطط إلى عقله كفقاعة كانت تطيرُ في الهوء وبغتة فقعت، ورفع رأسه عاليًا وقد لاحت شبح ابتسامة رزينة واثقة على ثغره، وألتقط هاتفه وأجرى أتصال وهو يتنحنح متصنعًا الرعب، والكآبة ما أن فُتح الطرف الآخر، حتى صاح يقول بانفعال مزيف:
_شوفت اللي بنتك عملته فيَّ يا عم عبد السلام؟
هَب عبد السلام من جلسته منتفضًا، وارتجفت شفتاه وهو يقول بجذع:
_مال غرام يا زكريا يا بني؟ بنتي فيها أيه هي كويسه؟
صاح زكريا بكرهٍ بيَّن:
_تغور بنتك في داهية، أنت لو عرفت هي عملت أيه هتموتها بأيدك؟!
شحب وجه عبد السلام وأخذ يسير عشوائيًا وهو يقول بوجهٍ ممتقع:
_غرام عملت أيه يا زكريا؟!
وأصاخ السمع وتوقفت ساقاه عن السير، وازدرد لعابه في ترقبٍ، وزكريا يقول بنبرة مبهمة:
_بنتك شفتها مع يمان في وضع مش كويس، ولما عرفت هي وهو أني شفتهم مشيوا وسبوني ومعرفش هيعملوا أيه ولا هيقولوا أيه، بس أكيد هيشوفولهم كدبة يداروا بيها اعمالهم القذرة، اسمع يا عم عبد السلام.
ولاذ بالصمت لثوانٍ كاظمًا بسمة، ثم عاد يقول في فحيح:
_بنتك متلزمنيش تاني، واعرف اني مش هسكت ولا هغفر لها اللي عملته.
وأغلق الهاتف في وجهه، ثم قهقه قهقةٍ عالية كشيطان رجيم أفلح في حياد عبدٌ من عباد الله عن الصراط المستقيم.
وألقى بالهاتف دون اكتراث وقد أحس بالارتياح يغمر قلبه غمرًا، وجلس في ارسترخاء كأنه لم يودي بحياة أحدٍ توًا.
وكأنه متنصلًا من كل الذنوب والخطايا..
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
ثم لم يلبث أن غادر الفندق إلى المطار كي يستقل أول طائرة تقلع إلى حيثُ وجهته.
***********
(هتقولي أيه لأبوكِ)
ألقى يمان السؤال في اهتمام بعدما قضى على كل تفكيره، فتأبَّد قلب غرام وهي تلتفت إليه في حدة وقد أصابها الهلع، فهي لم تفكر قط فيما قد تقوله لأبيها!
ماذا قد تخبره؟ أتقول له لقد أعتدى عليَّ زوجي؟!
وأن علم ماذا سيقول؟ هل سيصدقها؟ هل سيطلب طلاقها ويؤزرها؟
أم سيجبرها على إكمال الزواج؟
وأنشأت تفكر وقد مارت المشاعر في صدرها، لكنها لم تعرف بما تجيب، بل حادت ببصرها إلى نافذة الطائرة وأخذت تتأمل السحاب بأعين غائرة بالدمع!
سبحان مغير الأحوال، فمنذُ أيام قلائل كانت تجلس نفس الجلسة ببهجة وأعين تلمع بالفرح وهي تتأمل السماء عن قُرب، اليوم فهي منطفئة، لا تشعر بأي شيء إلا باليأس والقهر.
ماذا فعلت ليتخل عنها زوجها ويطلقها قبل الزفاف بأيام؟ ثم يعتدي عليها الآخر؟!
ما ذاك الجرم الذي فعلته؟!
سلمت جفنيها إلى النوم في محاولة للهرب من واقعها الأليم وقد غاضت مدامعها.
مرت بعد ذلك الساعات في صمتٍ تام، حتى أوصلها إلى باب البيت وكان قد حل الليل وألقى على الأرض بسدوله، طرق يمان على الباب فتناهى إليه فورًا صوت عبد السلام وخيل إليه أنه كان في انتظارهما، فتح الباب وأطل عبد السلام واجمًا، واندفعت غرام إلى حضنه، ولم تقوى على تحمل عبراتها فانسابت كمطرٍ منهمرٍ، لكنه لم يبادلها الحضن، ولم يرفع ذراعيه ليطوق جسدها الضئيل، وتصور يمان أن عبد السلام سينهال عليها ضربًا بسبب نظرته السوداوية، فشعر بأشفاق من صوت نشيج غرام الذي ذاد من شعوره بالذنب، وهم بأن يقول شيئًا أي شيء؛ قد يبرد نار قلبها لكنه لم يقل فلم يجد ما يقوله.
ولم يدرك كم من الوقت وهم يقفون بتلك الطريقة الغريبة، حتى رفع عبد السلام بصره إليه في حدة وكرهٍ غير معلوم، ثم أبعد غرام وقال وهو ينظر في أعين يمان بصرامة:
_ادخلي جوه!
فأنصاعت ومضت إلى الداخل لكنها عادت مجددًا، كي تشكر يمان وتطلب منه الدخول لكن والدها سد عليها الطريق وأحال بينها وبين ذلك، فاضطرت إلى الدخول دون نظرة وداعٍ أخيرة إلى طيف الأمان الذي ضمها في أحلك أوقاتها.
حاول يمان أن يتبسم أو يقول شيئًا، لكن عبد السلام قال:
_صحيح أن مش كل الوجوه بتبين اللي في القلوب، وأنت من الناس اللي وجوهم بتبين أنهم ذو مرؤوة وكرم وشهامة لكن قلبك قلب أسود.
ضيق يمان عينيه مستريبًا ولم يفهم شيئًا وهم أن يستفسر، لكن عبد السلام دفعه للوراء على غفلة، وصفق باب بيته ورائه وانقض عليه وراح يضربه في جنون، وهو يهدر:
_أمنتك على بنتي تعمل فيها كدا ليه؟ ربنا يرد اللي بتعمله في بنات الناس في أختك.
كان يمان يستقبل ضرب عبد السلام دون أن يوقفه أو تند عنه نظرة دفاعٌ حتى، احترامًا له ولسنه، لكن عندما جاء بذكر أخته حتى أتقدت عيناه بالغضب، وقبض على ساعديّ عبد السلام وهو يهتف في تعصب:
_إلا أختي، وبعدين إيه اللي انا عملته في بنتك؟ دا بدل ما تشكرني أني رجعتهلك بعدما قضى عليها الكلب زكريا؟! أنت اتجننت ولا مالك؟ هو زكريا اتصل بيك!
فأفلت عبد السلام ذراعيه وأرتد للخلف وهو يصيح:
_أيوة أتصل بيَّ.. أتصل عشان يقول ليّ على علاقتك ببنتي؟!؟
فتبسم يمان في سخرية، وقال في تهكم:
_علاقة أيه؟ علاقتي انا ببنتك وأنت طبعًا صدقت من غير ما تدور على الحقيقة فين ولا تسال بنتك.
وتلاشت بسمته المتهكمة، وقال في جدية:
_لو أنت شايف أن الحب حرام ولا حاجه، فأعرف أني بحب بنتك.
فرفع عبد السلام ذراعه بنية لطمه وهو يجأر:
_اخرس يا كلب.. بتحب بنت متجوزة؟!
لكن يمان قبض على ذراعه وبأعين تشتعل قال:
_بنتك متستهلش شخص زي زكريا؟! ذنبها ليوم الدين في رقبتك ورقبتي.
كان لا يزل يقبض على ذراعه وهو يقول بعتاب:
_ذنبك أنك وافقت على عريس لبنتك بدون ما تسأل عنه ولا تعرف عنه اي شيء لمجرد أنه ابن صديقك بس.
وأطرق في أسى، وقال بشجن:
_وذنبي عشان سبتها توافق بدون ما اعرفها حقيقته؟!
ثم ترك ذراعه وتراجع للوراء وهو يقول بوجد:
_حق غرام لازم يرجع وأنت لازم تطلقها من زكريا!
فتبسم عبد السلام في تهكم، وغمغم وهو يصفق بكفيه:
_تصدق كنت هصدق أنك شخص كويس والناس كلها هي اللي وحشة، امشي من هنا ومتخلنيش اشوف وشك تاني لأن ده مش غلطك وحدك دا غلط بنتي أنا ولازم تدفع تمنه قبل ما توطي راسي في الأرض!
استراب يمان وأحس بالقلق ينهش قلبه مخافة أن يفعل عبد السلام شيئًا في غرام وقد بدا أنه معمي البصر والبصيرة وأن زكريا أكل بعقله حتى شبع، فتمتم:
_أياك تعمل حاجه تندم عليها.
ومضى في سبيله مغادرًا، غافلًا عن نهلة التي شهقت في ارتياع وقد سمعت جُل حديثهما ورأت ما رأت من شجارهما وكان عليها إنقاذ غرام من براثن غضب أبيها.
مضى يمان يسيرُ وسط السائرين هائمًا يجوب الطرقات والأزقة على غير هدى دون أن يهتدي إلى سبيلٍ يؤويه، لساعاتٍ وضميره يعذب فيه، وعقله لا يفكر إلا في غرام، حتى ألمته قدماه وهده التعب وأضنى فؤاده، فتوقف يتلفت ذات اليمين وذات الشمال وقد جنح إلى الراحة قليلًا، فرأى أنه على كثبٍ من كورنيش نيل (أسيوط) الساحر، بمياهه الزرقاء الهادئة، والسفن التي تبحر بمظهر يخلب الألباب، فمال بجذعه إلى الأمام وقد قبض بأصابعه على حافة السور وشردت عيناه على صفحة الماء الراكد، ضجيج الناس المارة من وراءه لم يكن له صدى في أذنيه كأنه في وادٍ آخر وهم في آخر.
ثم لم يلبث أن تراجع ليجلس وقد أولى ظهره البحر وجعل عيناه تراقبان السيارات.
**********
في همٍ جلس عبد السلام واضعًا رأسه بين راحتيه في وجعٍ وقد شعر أنه قد طُعن، ليس لديه أدنى شك فيما قاله له زكريا عن ابنته، فغرام قد فعلت ما يجعله يصدق فيها أي شيء!
ألم تحادث قبلًا شابًا من وراءه؟ ألم يسمعها بنفسه؟!
هل ستجلب له العار بعد كل هذا العمر؟!
هل ستدفن رأسه في الوحل وهو على أعتاب القبر؟!
لن يسمح لها بذلك؟! لن يقبل؟! سيدعس فؤاده تحت قدميه وسيتخلص من عارها.
نهض وهو يتوجه صوب المطبخ لولا أن تنبه لصوت الباب فأنثنى شطره ليجد نهلة وهي تهتف في توتر:
_عمي عبد السلام انا عرفت ان غرام جت عايزة اشوفها!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
اومأ عبد السلام برأسه وأشار لها بالدخول دون أن ينبس ببنت شفة، أو يسألها كيف علمت بمجيئها!
ركضت نهلة للداخل وصعدت الدرج عدوًا إلى حجرة غرام، التي كانت مستلقية على ساق جدتها بأعين لم يرقأ لها دمع، فأتجهت بأعين تفيضُ بالعبرات وجلست بجانبها في صمت، بينما كانت غرام تقول بصوتٍ شجيّ:
_هعمل ايه يا ستي دلوقتي؟
فضيقت جدتها عينيها في دهشة، وغمغمت:
_أنتِ مين يا بت؟
فضحكت غرام من بين دموعها وهي تتمتم:
_يا ستي انا غرام بنت ابنك عبد السلام!
فزوت الجدة ما بين عينيها وهي تقول في تعجب:
_هو عبد السلام أتجوز أمتى وخلف كمان؟ هو الواد ده كان متجوز من ورايا.
فابتعدت غرام عنها، وهي تقول:
_والله يا ستي أحسن حاجه انك بتنسي يارتني أنسى.
غمغمت نهلة تسألها:
_أنا سمعت حاجات كتير ما بين والدك ويمان وهما بيتخانقوا.
فاستوت غرام في صدمة في جلستها، وهمست بضيق:
_هو بابا ويمان كانوا بيتخانقوا؟
اومات نهلة في لهفة:
_ايوة وفهمت ان عمي مش هيسكت وأنه.. أنه ممكن هيعمل فيكِ حاجه دلوقتي؟! أأيه اللي حصل معاكِ يا غرام؟!
انهمرت دموع غرام بينما تقول:
_زكريا اعتدى عليَّ!
شهقت نهلة في هلع، وصاحت في ارتياع:
_إزاي يعني.. وعمي ليه قالب عليكِ؟ طيب انا مش فاهمة حاجة غير انك لازم تهربي من هنا.
فهمست غرام في انهاك:
_اهرب ايه بس وليه ومن مين؟
كانت جدتها تصغي السمع، ثم ضمتها إلى صدرها وهي تقول:
_أنا قُلت الواد ده مش كويس بس ابوكي مسمعش الكلام.. أنا مش هسكت له بعد كدا وهقف له!
ثم مسدت على رأسها في حنان، قبل أن تضيق عينيها وتغمغم:
_إلا صحيح أنا بعمل أيه هنا؟!
لكنَّ غرام تأبه بها هذه المرة، بل صبت جل اهتمامها مع نهلة التي هتفت بلوعة:
_انا قلبي مش مطمن، غرام امشي بجد!
_هتمشي تروح فين؟
قالها عبد السلام وهو يدلف إلى الحجرة، فهبت غرام من جلستها ملتاعة من النظرة السوداوية في أعين والدها، وتراجعت هي ونهلة إلى الوراء واجفتين، بينما نهضت الجدة وهي تصيح:
_أنا مش قولتلك الواد ده ميتجوزشي البت؟!
لكن عبد السلام لم يعيرها اهتمامًا بصره كان مصوبًا على غرام بطريقة آثارت الرجفة في أوصالها فأخذ جسدها يرتعد، وشرع يسير صوبها بخطواتٍ متأنية كفه اليمنى متوارية وراء ظهره وهي تقبض على مقبص سكينٍ لمع نصله بشهوة الدم، وعندما اقترب منها لمعت عيناه بالدموع، وقال بحزنٍ دفين:
_طول عمري وأنا بعمل لك كل حاجه عايزها، مخلتكيش محتاجة حاجه أبدًا، حبيتك كأب وكصديق وأخ وكنت ليكِ السند..
وتابع وهو يهز رأسه في أسى:
_ليه يا بنتي توطي راس ابوكي في الأرض؟ ليه تجيبلي العار؟
سكبت مآقي غرام الدمع أنهارًا، وهي تنفي قوله بهزة من رأسها وبنظرة ارتياع أطلت من عينيها سمعت أبيها يقول وهو يتهيأ لطعنها بالسكين:
_أنا لازم اتخلص من عاري يا بنتي، أنتِ الموت ليكِ رحمة.
ورفع نصل السكين وهوى به على بطنها..
وطعنها في حدة..
دون ذرة رحمة..
أو شفقة..
وقد دار بكل جبروت بالسكين في ضغطة حادة بمعدتها، كانت غرام تنظر إليه وقد تجمدت العبرات في مآقيها وقد فغرت فاهً من الصدمة، بينما لطمت نهلة وأخذت تصرخ، وهتفت الجدة وهي تدفعه بعيدًا:
_بتي..
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
كم مر من الوقت؟ لا أحد يدري فقد مرت الساعات وغرام داخل حجرة العمليات؛ تلك الحجرة الكئيبة التي يكاد المريض فيها يصرخ طلبًا للنجاة منها، فهي تبدُ كأنما شبح يبتلع الناس تحت الثرى.
وتم عمل محضر في عبد السلام، بينما جلست نهلة مع الجدة في صالة الأنتظار، تدعوا من كل قلبها لغرام كي تنجو، وأن تتعافى، لم تنس صراخها في عبد السلام وأتهامها له بأنه السبب، وذنبها سيبقى مطوقًا عنقه حتى يواري الجسد الثرى.
بقدمين ثقيلتين مقيدتين دخل يمان إلى بيت خاله، وهو يضع سترته على ذراعه المثني أمامه، قابله مختار جالسًا في صحن الدار وعلى وجهه غضبًا مبهم، فأدرك أن زكريا خاض في الحديث الكاذب عنه مع والده، وأن خاله قد صدق، فحاد بخطواته إليه وهو يفكر أن يفضح زكريا أمام أبيه؟!
لكنه كان يخشى الله!
يهاب أن يحاسب!
فنهض مختار ووقفا قبال بعضهما، وألتمعت أعين مختار بالدمع، والخزى.. وهو يقول بصوتٍ يقطر حزنًا:
_مكنتش متخيل أنك بالوحاشة دي؟!
وبسط راحتيه وهو يلقي جُل ما في جعبته من شجون:
_ربيتك بأيدي دي فتعضهم بأقسى ما تملك.
فجز يمان على أسنانه، ثم قال مقاطعًا خاله في صدق:
_أنا عمري ما كنت قليل الأصل عشان أعض أيدك يا خالي، ولا ازعلك أبدًا.
فألتهبت أعين مختار بالغضب، وهو يهتف:
_مش عايزك تكدب..
ثم دنا منه وهو يدفع كتفه للوراء، قائلًا في حدة:
_قول ليّ أنت بتحب غرام ولا لأ؟!
والسؤال جعل فؤاده يرتجف، هل يكذب أم يقول الصدق؟!
لكنه لم يعتاد الكذب؟! لما يكذب حبًا بات في قلبه آمنًا مستقرًا!
أحس بعينين تراقبانه في شماته، وحدسه كان في محله، فقد رأى زكريا يقف أعلى الدرج، يعقد ساعديه أمام صدره، في عينيه نظرة متسلية، وعلى وجهه تتجلى الشماته، وإمارات الظفر.
هل خلف خاله شيطانًا؟ يهوى اللعب على الناس حوله!
“رد عليَّ جاوبني، بصلي هنا”
يجأر بها مختار، وهو يدير وجه يمان إليه، المواجهة كانت مؤلمة، عسيرة على قلب يمان، أن يقف ندًا بند أمام خاله، لكنه لن ينكر؟ لم ولن يخشى إلا الله.
فالمحب أن أنكر حبه كيف يكون حبيبًا؟!
تفرس النظر في أعين خاله في تمعن، وغمغم في هدوء:
_أنا بحب غرام فعلًا.
والإجابة كانت لطمة قوية من اليد التي ربته حتى شَب، نظرة مصعوقة أطلت من أعين يمان إلى خاله الذي أرتد متقهقرًا، مصدومًا من أنه قد فعلها.
وقد أوجعته اللطمة كأنها هوت على قلبه.
لكن صدمته في يمان الذي كان يرآه ملاك حطمت ثقته في الجميع.
حولت قلبه إلى شظايا لا تصلح للإصلاح.
صك يمان على أسنانه في غضب، وأطرق برأسه لثوانٍ قبل أن يرفع عيناه إلى زكريا، ولمح بسمة متشفية تمر على ثغر هذا الأخير فتميز غيظًا، وصوب بصره إلى مختار، يقول وهو يقترب منه:
_هسيبك لحد ما تكتشف الحقيقة بنفسك، وتعرف أنك كنت مأيد شيطان..
حاد بصره مع عبارته الأخيرة إلى وجه زكريا الذي أسود وهو كظيم، وتابع قائلًا في وجوم:
_هيجي اليوم اللي تعتذر فيه مني، ولحد ما يجي اليوم ده مش هتشوف وشي تاني.
وتراجع بظهره وهو يتمتم:
_سلام يا خالي.
ولم يكد يستدير، حتى أقبلت غادة وهي تعدو باكية، تقول في لوعة:
_استنى يا يمان أنا هاجي معاك، رجلي على رجلك في أي مكان تروحه.
وأستدارت إلى خالها الذي بدا شاحبًا شحوب الأموات، لا يصدق أنه قد خسر ابنًا للتو، الصدمة أورثته فوق عمره أعمارًا، هتفت غادة تقول بلهفة:
_أنا اسفة يا خالوا بس أنا همشي مع يمان.
فهز مختار رأسه في جزع وهو يقول بخوف:
_لا متروحيش مني أنتِ كمان خليكِ معايا.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
ربت يمان على كفها الموضوع على كتفه وقال مؤيدًا خاله:
_خليكِ مع خالك يا غادة.. متسبهوش.
ونظر إلى إمتقاع وجه خاله بقلق، كان يعرف أنه إذ سلب غادة من خاله ستكون الطآمة التي ستودي بحياته، أن كان الله قد رزقه بابنٍ عاق فلن يكون هو كذلك.
صاحت غادة ترفض ما قاله بإصرار:
_أنا مش عايزة أفضل هنا عايزة ابقى معاك.
فربت على كفها مجددًا وهو يقول:
_معلش..
فصاحت وهي تعدو إلى الأعلى:
_أنا لا هفضل معاك ولا معاه اصلًا انا همشي من بيتكم من غير فرح.
انصرف يمان وجلس مختار على أقرب مقعد منهارًا.
************
ما أن أفاقت غرام حتى وجدت الضابط يأخذ أقوالها، لكنها وبدون تردد نفت أن والدها هو من طعنها، وأنما عللت بذلك بأنها قد سقطعت وهي تقطع شيئًا ما فطعنت نفسها دون قصد.
كانت نهلة تزرع الحجرة جيئة وذهابًا في غضب، حتى غادر الضابط وقد أُغلق المحضر، وتمتمت:
_ليه متهمتهوش؟! إزاي بطلعيه براءة بعد كل اللي عمله.
فهمست غرام في وهن:
_مستحيل أكون السبب في دخول بابا السجن.
قالتها منكسرة، لقد كسرها أبيها وكسر الأب لا يندمل قط.
لم يدم الكثير من الوقت وحضر مختار وابنه زكريا وغادة، كان عبد السلام يجلس خارج الحجرة، لم يقو على مواجهة ابنته، ولم يستطع رفع عينيه في صديقه وولده خزيًا، فظل منكس الرأس تلتمع الدموع العالقة في أهدابه، كتفاه متهدلان، كان كسيرًا، محبطًا، ثقيل الروح والقلب من الهموم، حط مختار كفه على كتف عبد السلام، وقال بإشفاق:
_عامل أيه يا عبد السلام.
لم يأبهْ عبد السلام بالإجابة فقد هز رأسه دون أن يعلق بشيء، ولاذ مختار بالصمت، فنهض زكريا وغمغم:
_أنا هدخل اطمن على غرام.
لم يجيبه أحد، فطرق الباب ودخل لتنظر له نهلة بأعين مشتعلة، وهدرت في عصبية:
_أنت أيه اللي جاييك هنا؟
أشاح زكريا بوجهه جهة غرام التي كانت تفر بوجهها منه في إمتعاض، وقال:
_جاي اطمن على مراتي.
فصرخت نهلة كمن أصيبت بمسٍ من الجن:
_أطلع برا!
قاطعت غرام صراخ نهلة، عندما قالت في همس:
_سيبيه يا نهلة.
التفتت نهلة إليها بانفعال، وهمت أن تصيح في وجهها لكنها أحجمت عن ذلك لحالة غرام، وآثارت السلامة، فخرجت صافقة الباب وراءها من الغيظ، بينما تقدم زكريا من فراش غرام، وسحب مقعدًا وجلس عليه في صمت، فدارت غرام وجهها لتنظر إلى الحائط، فقال زكريا شاعرًا بالندم:
_أنا أسف، مكنتش أعرف أن والدك ممكن يعمل كدا!
فضحكت غرام ساخرة، وغمغمت في تهكم:
_والله!
ثم التفتت إليه ثائرة، هائجة، وهي تهتف:
_أنت مش انسان يا زكريا، أنت شيطان شايف أنه يقدر يعمل كل حاجه وهو ضعيف جبان…
قاطعها زكريا يقول بحنق:
_تصدقي أنا غلطان أني جاي اعتذر منك وأأقولك أسف!
حدجته غرام بإشمئزاز، وقالت بإزدراء:
_أنت قُلت أيه لبابا خليته قلب عليَّ وعلى يمان كدا؟!
فتبسَّم زكريا بفحيح وهو يتراجع لظهر المقعد في استرخاء، قائلًا ببساطة:
_ولا حاجة قُلت له أنك ويمان على علاقة ببعض وأني قفشتكم في وضع مش كويس، عشان كدا أنتِ رجعتي معاه وانتوا مخططين تتهموني بتهم أنا بريء منها.
ومال بوجهه على وجهها وهو يقول:
_وصدق بكل بساطة.
ثم تراجع واضعًا قدم فوق الأخرى، بينما صاحت غرام:
_أنت مجنون إزاي تقول له حاجه زي كدا منك لله حسبي الله ونعم الوكيل.
فقست ملامحه وهو يميل نحوها، قائلًا بهمسٍ مخيف:
_هشش مسمعش صوتك، أنا هقول أن يمان هو اللي حاول يغويكِ وأنك رفضتي وقاومتيه وأن ملكيش ذنب في اللي حصل وهكمل زواجي منك.
ومال بوجهه مجددًا، قائلًا:
_وإلا لو طلاقتك مين هيرضى يتجوزك؟!
غمغمت غرام بقرف:
_أنت حقير.
نهض زكريا من مقعده، وقال:
_مش هكلمك دلوقتي على غلطك فيَّ عشان أنتِ على فراش المرض، وأياكِ تقولي حاجه غير اللي قولته دلوقتي.
هبت غرام تصرخ في جنون:
_أنا مستحيل أوافقك أأقول حاجه زي دي عن يمان حرام عليك أنت أيه؟
فقال زكريا وهو يتوجه إلى الباب:
_يبقى أبوكي هيموت بحسرته، سيبيني ألم الموضوع واتفرجي وأنتِ ساكتة.
وخرج مغلقًا الباب وراءه، بينما وارت غرام وجهها في راحتيها واندفعت في بكاءٍ مرير.
**********
ما أن أفاقت غرام حتى وجدت الضابط يأخذ أقوالها، لكنها وبدون تردد نفت أن والدها هو من طعنها، وأنما عللت بذلك بأنها قد سقطعت وهي تقطع شيئًا ما فطعنت نفسها دون قصد.
كانت نهلة تزرع الحجرة جيئة وذهابًا في غضب، حتى غادر الضابط وقد أُغلق المحضر، وتمتمت:
_ليه متهمتهوش؟! إزاي بطلعيه براءة بعد كل اللي عمله.
فهمست غرام في وهن:
_مستحيل أكون السبب في دخول بابا السجن.
قالتها منكسرة، لقد كسرها أبيها وكسر الأب لا يندمل قط.
لم يدم الكثير من الوقت وحضر مختار وابنه زكريا وغادة، كان عبد السلام يجلس خارج الحجرة، لم يقو على مواجهة ابنته، ولم يستطع رفع عينيه في صديقه وولده خزيًا، فظل منكس الرأس تلتمع الدموع العالقة في أهدابه، كتفاه متهدلان، كان كسيرًا، محبطًا، ثقيل الروح والقلب من الهموم، حط مختار كفه على كتف عبد السلام، وقال بإشفاق:
_عامل أيه يا عبد السلام.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
لم يأبهْ عبد السلام بالإجابة فقد هز رأسه دون أن يعلق بشيء، ولاذ مختار بالصمت، فنهض زكريا وغمغم:
_أنا هدخل اطمن على غرام.
لم يجيبه أحد، فطرق الباب ودخل لتنظر له نهلة بأعين مشتعلة، وهدرت في عصبية:
_أنت أيه اللي جاييك هنا؟
أشاح زكريا بوجهه جهة غرام التي كانت تفر بوجهها منه في إمتعاض، وقال:
_جاي اطمن على مراتي.
فصرخت نهلة كمن أصيبت بمسٍ من الجن:
_أطلع برا!
قاطعت غرام صراخ نهلة، عندما قالت في همس:
_سيبيه يا نهلة.
التفتت نهلة إليها بانفعال، وهمت أن تصيح في وجهها لكنها أحجمت عن ذلك لحالة غرام، وآثارت السلامة، فخرجت صافقة الباب وراءها من الغيظ، بينما تقدم زكريا من فراش غرام، وسحب مقعدًا وجلس عليه في صمت، فدارت غرام وجهها لتنظر إلى الحائط، فقال زكريا شاعرًا بالندم:
_أنا أسف، مكنتش أعرف أن والدك ممكن يعمل كدا!
فضحكت غرام ساخرة، وغمغمت في تهكم:
_والله!
ثم التفتت إليه ثائرة، هائجة، وهي تهتف:
_أنت مش انسان يا زكريا، أنت شيطان شايف أنه يقدر يعمل كل حاجه وهو ضعيف جبان…
قاطعها زكريا يقول بحنق:
_تصدقي أنا غلطان أني جاي اعتذر منك وأأقولك أسف!
حدجته غرام بإشمئزاز، وقالت بإزدراء:
_أنت قُلت أيه لبابا خليته قلب عليَّ وعلى يمان كدا؟!
فتبسَّم زكريا بفحيح وهو يتراجع لظهر المقعد في استرخاء، قائلًا ببساطة:
_ولا حاجة قُلت له أنك ويمان على علاقة ببعض وأني قفشتكم في وضع مش كويس، عشان كدا أنتِ رجعتي معاه وانتوا مخططين تتهموني بتهم أنا بريء منها.
ومال بوجهه على وجهها وهو يقول:
_وصدق بكل بساطة.
ثم تراجع واضعًا قدم فوق الأخرى، بينما صاحت غرام:
_أنت مجنون إزاي تقول له حاجه زي كدا منك لله حسبي الله ونعم الوكيل.
فقست ملامحه وهو يميل نحوها، قائلًا بهمسٍ مخيف:
_هشش مسمعش صوتك، أنا هقول أن يمان هو اللي حاول يغويكِ وأنك رفضتي وقاومتيه وأن ملكيش ذنب في اللي حصل وهكمل زواجي منك.
ومال بوجهه مجددًا، قائلًا:
_وإلا لو طلاقتك مين هيرضى يتجوزك؟!
غمغمت غرام بقرف:
_أنت حقير.
نهض زكريا من مقعده، وقال:
_مش هكلمك دلوقتي على غلطك فيَّ عشان أنتِ على فراش المرض، وأياكِ تقولي حاجه غير اللي قولته دلوقتي.
هبت غرام تصرخ في جنون:
_أنا مستحيل أوافقك أأقول حاجه زي دي عن يمان حرام عليك أنت أيه؟
فقال زكريا وهو يتوجه إلى الباب:
_يبقى أبوكي هيموت بحسرته، سيبيني ألم الموضوع واتفرجي وأنتِ ساكتة.
وخرج مغلقًا الباب وراءه، بينما وارت غرام وجهها في راحتيها واندفعت في بكاءٍ مرير.
*************
جلس زكريا بجانب عبد السلام المطرق في أسى، ولاذ بالسكون من هيبة الموقف، ثم رمق أبيه بنظرة سريعة وضم شفتاه في وجوم، ثم تنحنح وزفر ما يعتمل في صدره، وقال وهو يربط على ظهر عبد السلام:
_عمي.
فلم يجيبه عبد السلام ولو بهمسة، وظل على حاله من الإطراق، فغمغم زكريا وهو يزدرد لعابه:
_ليه عملت كدا في غرام، غرام متستهلش يحصل فيها كدا، هي ملهاش ذنب في اللي حصل، الغلط كله على يمان لكن بنتك اللي هي مراتي كويسة وأنا واثق فيها، انا لما كنت بكلمك كان دمي حامي، ويمان عرف إزاي يضحك على غرام فكان واجب علينا ننبها بس.
ثم سكت لهنيهة وتابع في إنشراح:
_إيه رأيك اول ما غرام تخف وتطلع من المستشفى نعمل الفرح على طول؟!
ورد عليه عبد السلام وهو لا يزل مطرق الرأس، جامد الجسد:
_لما تطلع خدها على البيت من غير فرح!
غمغم مختار متفاجئًا:
_بس يا عبد السلام..
قاطعه عبد السلام هائجًا دون أن يلتفت إليه:
_لو ابنك لسه عايز بنتي يبقى ياخدها على بيتها من غير فرح!
فربت مختار على كتفه قائلًا:
_طيب طيب اهدى اللي أنت عايزه، هو اللي هيحصل!
*********
لم تبق غادة إلا يومٍ اطمئنت فيه على غرام ثم عادت إلى أخيها في شقة والديهم، كانت حائرة في أن تخبره بما حصل لغرام أم لا!
لكنها آثرت أن تكتم ذلك في قلبها، دلفت إلى حجرته وعلى أسكفة بابها تسمرت والعبرات تملأ جفنيها، وهي تراه واقفًا مرتكزًا براحتيه على إطار النافذة، يشرائبُ برأسه يراقب السيارات المارة في شرودٍ تام بدا لها بهمٍ جثيم يجثم على صدره يكاد يشطره إلى نصفين ثم يحيله إلى رماد تزروه الرياح، فدفعت قدميها لتسير نحوه وتحط بيمينها على منكبه فلا يأبه بها، كأنها غير موجودة، همست غادة بصوتٍ خفيض كأنما تخشى أن تبدد شروده:
_يمان أنت كويس؟
لم تتلقَّ ردًا، ولا إلتفاتة من رأسه، ولا رفرفة من أهدابه، فمالت برأسها على كتفه، وهي تقول بثقة:
_أنا عارفه ومتأكدة وواثقة أنك مستحيل تعمل اللي زكريا قال عليه.
ثم سكتت لثوانٍ، وأتبعت تقول باهتمام شديد:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_بس أيه إللي حصل هناك معاكم، ليه أنت رجعت مع غرام؟! ليه زكريا بيقول كدا؟!
فالتفت برأسه إليها، وحدق فيها طويلًا دون أن ينبس، ثم أسبل جفنيه ودار رأسه بعيدًا عنها، وتمتم في هدوء:
_مش مهم تعرفي حاجة!
فأحست غادة أنها مهمشة في حياة شقيقها، وشعرت بغضبٍ عارم يغمر فؤادها، فأرتدت للوراء وهي تصيح بانفعال:
_يعني أيه مش مهم أعرف؟! أنت ليه دايمًا كل حاجه مخبيها عني! هو مش أنا أختك الوحيدة ليه بتعمل معايا كدا وشايف أن مش من حقي أعرف أي حاجة؟
نفخ يمان بضيق، وأشاح بكفه لها وهو يقول بعنف:
_أنا مش ناقصك.
وألتقط جاكته من فوق المشجب وهو يتحرك خارج الشقة صافقًا الباب وراءه.
يجوب الطرقات هائمًا دون سبيلٍ يهتدي إليه.
دون أن يعرف أي سبلُ السلام يسلك!
إلى أين يسعى؟
هل يبلغ في نهاية المطاف نورها؟
تميزت غادة غيظًا، وجلست وهي تحرك قدميها في غضبٍ، ثم رن هاتفها برقم يوسف، فردت عليه تقول بعصبية:
_نعم.
فرد يوسف متعجبًا:
_أيه يا بنتي مالك؟ أيه العصبية دي!
فألتقطت نفسًا عميقًا، ثم أجابته في هدوء:
_مفيش حاجة شديت بس شوية مع يمان اخويا.
فتمتم باهتمام:
_ في حاجه طيب؟!
فنفت قائلة:
_لا لا عادي، أنا وهو بنشد كدا مع بعض ومنكملش دقيقة ونتصالح عادي يعني.
فران عليهما الصمت قليلًا، ثم أردف يوسف بجدية:
_هاا قررتي هنعمل الفرح إمتى؟! ولا هنستنى غرام وزكريا؟!
غمغمت غادة باندفاع:
_زكريا وغرام مش هيعملوا فرح، وانا كمان مش عايزة اعمل فرح، وياريت تاخدني في أأقرب وقت.
فلاذ يوسف بالسكون مفاجئًا، ثم تنفس الصعداء وهو يقول:
_أنتِ مش عايزة نعمل فرح بجد؟!
_ايوة.
_ليه؟
تنهدت غادة تنهدًا عميقًا حائرة وقد أحجمت عما أردت أن تقول، ريثما تنتقي كلماتٍ مقنعة، ثم أردفت:
_عادي يعني شايفة إن إحنا بدل مصاريف الفرح نعمل بيهم حاجه تنفعنا، زي مثلًا نساعد حد عايز يتجوز، ولا نطلع بيهم عمرة.
تمتم يوسف مبتهجًا:
_أنا كنت عايز اقترح عليكِ بكدا فعلًا، ولكن خوفت ترفضي الفكرة فقولت هعملك فرح منعزل.. بس الحمد لله انا كدا ارتحت، خلاص هتصل بيمان وهحدد معاد معاه نتفق فيه.
فغمغمت غادة وهي تزدرد لعابها في توتر:
_تمام.
***********
اتفق يوسف مع يمان على تحديد يومٍ للزفاف، الذي سيقام بحفلة بسيطة على إحدى السفن التي تطوف فوق المياه الراكدة، الصافية، بضمة عائلية من جانب كلا العائلتين فقط.
وكان الاتفاق خلال أسبوع واحد، طلب يمان من شقيقته أن تحادث خالها وتخبره ليأتي لكن في ذلك اليوم لم يحضر مختار وظن يمان أنه لم يأت بسببه دون أن يدري أن تأخيره بسبب غرام وأنه ليس موجودًا،
تألقت غادة في فستانٍ أبيض مع قليلٌ من الزينة البسيطة، وتصورت بعض الصور برفقة يوسف وأخيها، ثم جلسا على طاولة فوق السفينة يتناولون طعامهم، وقضوا ساعاتٍ من السمر معًا، ثم ودعت شقيقها بحضنٍ دافيء والكثير من عبرات الفراق، لتبدأ حياة جديدة..
ورحلة جديدة..
مع شريكًا جديدًا للحياة..
بساقين ترتعشان، ترتجفان وطأت بقدميها داخل شقتها الجديدة، وحياتها الجديدة وخطت للداخل في توتر، ثم وقفت مترددة ثم دنا منها يوسف بخطواتٍ وئيدة، وأخذ كفيها بين راحتيه برِفق، وتمتم بحنو:
_مش عايزك تخافي من حاجه خالص أنا معاكِ وجنبك على طول.
ثم ابتسم وهو يقول بصوتٍ يقطر بالعاطفة:
_مبارك عليَّ أنتِ..
ثم لثم جبهتها بقبلة طويلة، وتلاقت الأعين وتبسمت الشفاة.
في صباح اليوم التالي باكرًا كانت تغط في سباتٍ عميق إثر سهر البارحة، عندما إيقظها هو بهزة بسيطة من كتفها وهمسه جوار أذنها:
_غادة غادة اصحي.
فتململت بكسل وهي تتأفف بضجر، لتستلقي على ظهرها وهي تقول:
_أيه يا يوسف بتصحيني بدري ليه!
فزم يوسف شفتاه وهو يغمغم بفكاهة:
_تصدقي انا غلطان اني محضرلك الأكل وجايبه لحد عندك، اضرب بالجزمة بصحيح.
فضحكت في رقة وهي تعتدل جالسة، لتضم كتفه في مرحٍ وهي تقول:
_خلاص يا عم متزعلش صحيت اهوو.
ثم تناولا طعام إفطارهما معًا، واستوى يوسف في جلسته ولمحت غادة على وجهه لمحة توتر، وبدا عليه الغموض وهو يبتسم قائلًا بصوتٍ بدا مبهمًا:
_محضر لك مفاجأة!
فتنبهت جم حواسها وهي تستدير إليه بكل كيانها، وتجيبه في اهتمام:
_أيه هي.
ثم ارتكزت بمرفقيها فوق الطاولة وقد ضمت براحتيها وجهها وهي تحملق فيه في انتظار إجابته، حين قال يوسف مبتسمًا في هدوء مريب:
_عايزك تجهزي لشهر العسل، عشان هنسافر النهاردة.
فضحكت ضحكة متوترة بسيطة وهي ترتد لظهر المقعد، قائلة:
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_هنسافر إزاي يعني؟ أنت مش قولت ليّ أن بسبب شغلك مش هنقدر نسافر إلا بعد فترة.
فرد عليها وهو يعقد ساعديه أمام صدره:
_ما قولت لك عشان تبقى مفاجأة.
فلاذت بالصمت لفترة؛ تحدق فيه النظر علها تستشف ما يريح هواجسها، ثم قالت في تردد:
_طب تمام انا هجهز الشنط.
فنهض وهو يسحبها من مرفقها قائلًا:
_إحنا المفروض هنسافر بعد ساعة مفيش وقت يلا.
فهتفت في دهشة وهي تسير معه بينما يقودها إلى حجرة النوم لتجهز الحقائب:
_بعد ساعة ايه بس يا يوسف، دا أنا لسه حتى مكلمتش يمان.
فتمتم في غموض:
_معلش يلا عشان مفيش وقت.
اكتفت غادة بأن اتصلت بشقيقها يمان لتخبره بأنها ستسافر، ووعدها على أن يلتقيها في صالة المطار قبيل مغادرتها، في ساعةٍ واحدة كانت قد وصلت إلى صالة المطار، ووجدت شقيقها في انتظارها في الخارج، وظل معها حتى أتخذت مقعدها هي ويوسف في الطائرة، وأقلعت بهما، فتنهد ثم زفر بضيق وقد خلت به الحياة.
فتحت غادة نافذة باب الحجرة في إحدى الفنادق في روسيا وتنفست بعمق وهي تتأمل المدينة في انبهار وبهجة عكرها يوسف حينما سحبها للداخل وأوصد النافذة وهو يقول:
_بلاش تفتحي الشبابيك هنا.
فهزت كتفيها في تعجب، قائلة في ذهول وهي تقعد ساعديها:
_دا ليه بقا!
فضحك في هدوء وهو يقودها إلى الخارج قائلًا:
_تعالي قبل ما نغير هدومنا ننزل نتعشى.
وبينما هما يمران الطرقة، سألته غادة في اهتمام:
_بس أنت مقولتليش قبل كدا أنك بتعرف تتكلم كذا لغة.
فغمز لها قائلًا في بساطة:
_واديكِ عرفتي يا ستي.
فتفرست النظر فيه وهي تغمغم في وجد:
_ولسه هكتشفك أكتر.
فأكتفى بنظرة مختلسة نحوها ولم يعقب، وجلسا في مطعم الفندق يتناولان الطعام في جوٍ هاديء وسكونٌ تام، قاطعه يوسف وهو يقول:
_النهاردة نستريح وبكرا هاخدك نتفسح براحتنا.
فتبسمت وهي تومأ إليه موافقة، ثم صعدا حجرتهما وأويا إلى فراشهما، لم يمر طويلًا وفتح يوسف جفنيه وأزاح الغطا في حذر، وتسلل خارج الفراش والحجرة حذرًا ثم مضى خارج الفندق.
استشعرت غادة خلُ الفراش بجانبها، ففتحت جفنيها ولم تجد يوسف فتوجست خيفة في نفسها، ونهضت لتراه في دورة المياه فوجدتها فارغة، وقد خلت الحجرة منه، فجلست في انتظاره وقد اعتمل الخوف قلبها، عينيها تعلقت بعقارب الساعة المعلقة على الحائط، ومرت ساعاتٍ دون أن يجيء أو يراه، ونهضت تتحرك في الحجرة بقلق، ثم أحست بالباب يفتح في بطأ فأنطلقت جهة الباب تستقبله والهلع يطل من عينيها، ثم اندفعت إلى حضنه وقد سال دمعها على خديها، وهي تقول:
_أ.. أنت سبتني وكنت فين يا يوسف؟
فربت على كتفها في حنان وهو يغلق الباب، قائلًا:
_دا أنا نزلت اتمشى عادي ومرضتش أأقلقك.
وسار بها للداخل وهو لا يزل مطوق كتفها ويضم رأسها إلى صدره فما كادا يجلسان حتى ارتفع دق شديد على الباب فالتفت يوسف بعنف وهو يدفعها إلى حجرة النوم، قائلًا بعجل:
_ادخلي جوا.
فهتفت في ارتياع:
_ادخل إزاي مش لما اعرف مين؟
فهدر وقد اسودت عيناه وهو كظيم:
_قُلت ادخلي!
فتسلل الخوف إلى قلبها، وزحف القلق في أوصالها وهي تسير شطر الحجرة برأسٍ ملتفة للوراء، وشهقت في فذعٍ وهي تراه يستل سلاحًا صغير من وراء ظهره، ويسحب زناده ليرتد بصوتٍ أجفلها، فصرخ بيها بالدخول للداخل فهرعت والهلع بلغ منها منتهاه، فراقبته من فرجة يسيرة من باب الحجرة وهو يفتح الباب ويطل برأسه منه، لم يلبث أن أعاد المسدس وراء ظهره، وقد لانت ملامحه إلى الارتياح.. ثم إلى الهلع وهو يستقبل شابًا ملابسه ملطخة بالدماء.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
أحس يمان أن وترًا كاد أن ينقطع، وأن مهجته تتسرب منه رويدًا رويدًا، وهو يعبر شركة خاله مختار، بعدما تناهى له مجيئه من محافظة أسيوط هو وابنه وزوجة ابنه، وأدرك أن عليه ألا يسكت.
يجب أن يجأر بالحق!
لماذا كتمت غرام جرم زكريا، ووافقت على أن تكمل حياتها معه؟
الويل له أن لم يبوح بما لديه ويفصح عن أفعال زكريا إلى خاله.
بخطواتٍ سريعة ووجهًا مكفهرًا كان يمر بين موظفين الشركة لأول مرة دون أن يبادل أحد التحية ولا يلتفت إليها، فتعلقت كل الأبصار فيه وهو يفتح باب حجرة مكتب خاله ويدلف إلى الداخل وقد تغلغل ألمٌ مُمِضّ في سويدائه وغشيته الغاشية، ما أن راه مختار حتى هَب واقفًا وهو يهدر في عصبية:
_أيه أنت داخل كدا وخلاص هي مغارة على بابا؟ أيه اللي جايبك هنا اصلًا؟ ليك عين تيجي!
صفقك يمان باب المكتب وأستدار بجسده كله ليواجه خاله، وهو يقول في هدوء:
_جاي عشان أأقول لك حقيقة ابنك قبل ما يدمر حياة الانسانة الوحيدة اللي بحبها.
تأجج الغضب في قلب مختار وهو يتحرك من وراء مكتبه ليتقدم إليه وهو يجأر في غيظ:
_أنت بقيت قليل أدب ومتربتش، ليك عين تيجي قدامي وتقول كدا؟!
غمغم يمان في برود مستفز:
_أنا مبقاش يهمني حد أصلًا، ولا عامل خاطر لحد زي الأول، ابنك هو اللي وصلني لكدا!
حدق فيه مختار مندهشًا، مصدومًا، وتمتم في حذر:
_ابني؟ أنت لدرجة دي بتكرهه يا يمان؟
تطلع فيه يمان بصمت، ثم بعد هنيهة قال بنبرة تقطر صدقًا:
_عمري ما كرهته…
فقاطعه مختار قائلًا في تهكم وبسمة ساخرة في برود:
_عشان كدا غيران منه، عايز تاخد منه كل حاجه حتى مراته؟!
غمغم يمان بنيرة مذهولة:
_أنا غيران منه؟ أنا؟!
ثم رفع رأسه وشد قامته وومضت عيناه وهو يقول:
_طيب بما أنك مصدق كل كلمة بيقولها ابنك زكريا يبقى لازم تعرف اللي حصل، وليه أنا رجعت مع غرام وسبنا زكريا هناك.
زوى مختار ما بين حاجبيه في ترقب، بينما ازدرد يمان لعابه وأطرف بعيناه وقال سريعًا مخافةً أن يتراجع عما أراد أن يصفح:
_ابنك اعتدى على غرام وإحنا هناك عشان كدا جبتها وجيت!
وسكت لائذًا بالسكون يحدق في مختار الذي يتفرس النظر فيه كأنما يبغي التأكد، وظن أن خاله قد صدقه عندما طال سكوته لكنه تفاجأ به يضحك مقهقًا بصوتٍ عال ثم صرخ فيه بصوتٍ أرتج داخل جدران الشركة:
_أنت ليه بتعمل كده يا بني، أنا عملت لك أيه؟ جاي تتهم ابني بحاجة زي دي عشان يسيب مراته ليه؟ هتكسب أيه من كل ده؟
ثم فتح الباب وهتف:
_اطلع برا متورنيش وشك تاني.
ونظر له يمان بخذلان، وألقى عليه نظرة سريعة وهو يغادر المكتب في حسرة، وتسمرت قدماه وهو يجد جُل موظفين الشركة قد تجمعوا على إثر صوت رب عملهم وابن شقيقته اللذان لأول مرة تتعالى أصواتهم، ويتشاجرا.
************
بين ليلة وضحاها أصبحت منبوذة؛ نبذتها الحياة كما تنبذ ريشة في مهب الريح، وكأن السعادة باتت على خصامٍ معها.
وكأنما أفتعلت خطأً جثيمًا حال بينها وبين كل شيءٍ جميل.
أليس مؤلم أن يتوجع المرء من طعنةِ شخصٍ حسبه ملاذًا وموئلًا يومًا؟
ما بين طرفة عين وجدت غرام نفسها في منزل زكريا زوجة له، خرجت من المستشفى إلى السفر في الحال.. دون وداعٍ..
وكأنها تُقاد إلى القبر وليس عروس تزف إلى منزل زوجها.
العبرات لم ترقأ من عينيها وهي تجلس في حجرة زكريا التي أمست غرفتها أيضًا، لم تخبر والدها كيف تخبر أبًا صدق ما قيل عنها دون أن يستفسر منها او يسألها؟
كيف سيكون الخذلان أن أخبرته فلم يصدقها؟!
يا لها من حسرة أن كذبها!
لذلك لم تخبره، خشت ألا يصدقها! ما دام قد صدق ما قيل عنها كيف يكون أبًا بعد ذلك؟!
لا تقول على الجرح جرحًا إذ لم يكن من أقرب ما لك!
تنبهت من شرودها وهي تجلس على أريكة جانبية في الحجرة على صوت زكريا وهو يهدر في عصبية مفرطة:
_ما كفاية عياط بقا يا ستي، دا مش جوازة دي قلبتيها جنازة يا ستي اخرسي بقا قرفتيني.
كيف! كيف تتطلع إلى وجه زكريا بثقة وقد كسرها أبيها أمامه؟! لكنها استجمعت شجاعتها ورفعت بصرها إليه، وغمغمت:
_وأنت مالك؟ أياك تتكلم وتقولي اخرسي تاني على فكرة أنت سبب الدموع دي منك لله حسبي الله ونعم الوكيل فيك فرقتني عن أهلي وكرهت ابويا فيَّ وكرهتني فيه ربنا ينتقم منك.
فجز على أسنانه واندفع شطرها في غضبٍ نما كالبركان فوق ملامحه وقبض بأصابع حادة على فكها وهو يهتف:
_ميهمنيش لا أنتِ ولا ابوكي، أنا يهمني مصلحتي بس غير كدا تغور كل حاجه في داهية، إياكِ تفكري أني وافقت عليكِ حبًا ولا من جمال عنيكِ..
وسكت هنيهة، ثم هز رأسه وأردف يقول بأعين مشتعلة:
_لا اتجوزتك بس عشان بابا يهدى عني واعمل اللي انا عاوزة أنتِ مجرد صورة بس لكن أنا برا حاجة تانية خالص واعرف بنات اكتر من عدد شعر راسك وبعمل علاقات حميمية عادي جدًا.
إلى هنا وانتفضت غرام، ووثبت واقفة بأعين جاحظة وفمٍ فاغر، وشرعت تصيح في لوعة وصدمة:
_زاني! أنت بتزني؟! أستغفر الله العظيم يا رب..
أخذت تستغفر ربها وهي تنهار في البكاء أكثر، بينما تأفف زكريا وشوح لها بكفه وصرخ:
_عياط عياط عياط أنا قرفت منك.
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
شيعت غرام رحيله بأعين تذرف العبرات، كيف آل حالها إلى هذه النقطة؟!
تزوجت من زاني يفعل كبيرة من الكبائر، أي جرمٍ هذا؟
بل أي ليلة زفاف هي تلك؟! أنها ليلة جنازة وليس زواج!
***********
ظلت غادة في حجرة النوم بقلبٍ واجف، وعقلٍ حائر! هل تزوجت قاتل أم مجرم؟
من يكون يوسف بالضبط؟
أيهم هو؟!
تناهى لها خشخشت أقدام ترحل وغلق الباب فتوجست خيفة وهمت أن تطل من وراء الباب لتستطلع المكان لكن قبل أن تفعل وجدت الباب يندفع ويبرز من وراءه يوسف بهامته المديدة، وهو يقول في هدوء، وبسمة لطيفة:
_عاملة أيه؟
فنهضت في بطء، وظلت تتأمله في تفكير شغلها عن الرد، كانت تفكر كيف تنجو منه؟
كيف تهرب؟!
فتمتمت في ترقب:
_أنا عايزة أرجع مصر و…
فحثها على الكلام وهو يسألها بهزة من رأسه:
_و..؟
فازدردت ريقها وهي تسبل جفنيها، قائلة بصوتٍ يقطر بالألم:
_و هرجع على شقة أهلي..
سكتت فأومأ لها برأسه وهو يدس كفيه في جيبيّ بنطاله في إنتظار تكملت أحاديثها، بينما أتبعت هي بعجل:
_وعايزك تطلقني وأنا هناك، مستحيل أفضل معاك مش هبقى مع مجرم.
فاتسعت ابتسامته بغرابة ادهشتها وقال في برود:
_وهو كذلك، اللي أنتِ عايزاه.
***********
تفاجئ يمان ما أن فتح الباب بشقيقته أمامه، فوقفا قبالة بعضهما لهنيهة، زوى يمان م بين حاجبيه في دهشة، ما الذي أتى بشقيقته بتلك السرعة؟ هل حدث خطبًا ما؟ أيكون شيئًا قد حدث!
انفرجتا شفتاه بسؤالٍ حائر مندهش:
_غادة، أنتوا رجعتوا بسرعة كدا؟
ثم تفرس النظر في ملامحها الممتقعة، وهتف في جزع:
_مالك أيه اللي حاصل معاكِ!
أستندت غادة على إطار الباب براحتها، ثم غمغمت وهي تغمض عينيها:
_أنا بخير يا يمان خليني ادخل الأول.
صاح يمان وهو يسندها إلى الداخل مطوقًا كتفيها إليه في وِد:
_تعالي.. تعالي.
قادها إلى الداخل وأجلسها بقلبٍ يأكله القلق وقبل أن يستفسر منها استوت في جلستها لتواجهه وقد طفحت دموعها من بين أجفانها وهي تقول:
_يوسف طلع مجرم.
حدق يمان فيها ذاهلًا غير مستوعب ما تتفوه به، ثم تمتم بضحكة خفيفة:
_مجرم أيه بس يا بنتي؟ أنتِ بتتكلمي على جوزك؟
شهقت غادة شهقة عالية وهي تقول بنشيج:
_أنا عارفه انا بقول ايه هحكيلك كل حاجه بس تطلقني منه مش هعيش مع واحد مجرم.
ضم يمان وجهها بين كفيه وأزال دموعها بسبابتيهِ، وهمس:
_طيب اهدي ولو كان زي ما بتقولي هشرب من دمه.
توحشت عيناه بغتة، وأصغى السمع بكل حواسه، وبدأت هي تقص عليه كيف تسلل من حجرة الجناح في الفندق وخرج، ولم يعد إلا قبيل الفجر، فما كاد يجلس حتى وجدا على الباب شابًا ينفزف.
همس يمان في خفوت:
_ماشي بس مش كل شخص مسك مسدس يبقى مجرم، يمكن في حاجه إحنا مش فاهمينها.
نفت غادة برأسها قائلة بحزنٍ يفطر القلب:
_لا مش كدا، لو كنت ظلمته كان وضحلي كل حاجه، مكنش سبني انزل لوحدي من بلد غريبة، يوسف مجرم يا يمان.
هتفت بها ودست رأسها في صدره باكية، وشرع هو يمسد فوق رأسها في حنان وهو منشغل الذهن، لا يصدق أن يوسف مجرم!
أما غادة لم يبرح خلدها مشهد آخر لقاء بينهما، عندما أوصلها إلى المطار دون أن ينبس ببنت شفة وظل معها حتى اقلعت الطائرة، آخر ما قاله كان:
_خلي بالك من نفسك.
وكانت هذه آخر مرة تسمع صوته، الذي بدا لها أنه يحوى حنان الدنيا كلها.
***********
أليس عجيبًا أن تتوقف الحياة من حولك؟ تمر الأيام برتابة، ليس بها جديد! أن تتحول حياتك إلى جحيم، وقلبك إلى جبٍ سحيق يبتلع كل فرح ويذر كل حزن يؤلمك؟!
أليس من المؤلم أن تتألم بمفردك؟ ألا تجد من يحتوي دموعك بحنانه؟ من يكون ملاذك عند الحزن!
في تلك الفترة كان كل هم غرام أن تلتمس بصيصًا تهتدي به إلى مخرج ينجيها من قبر هذه الظلمات المطبقة عليها من كل جانب.
أن تجد ثقب تنفذ منه إلى النور؛ ولذا ولأن نور الله لا ينطفيء أبدًا فقد جعلت ليلها كله قيامٌ لربها تناجيه حينًا وتبكي مستغفرة من كل ذنب حينًا، وتارة تقفُ بين يديه تشكوه شجونها وتبثه لوعتها فمن غير الله قد يسمعها!
وجعلت نهارها صيامًا علّ ظمأ الهواجر ينجيها من ظمأ يومِ القيامة، وفي الصيام وجدت نفسها الغائبة، كانت تشعر أنها تطيرُ فوق السحاب، وأنه يبثُ فيها رضى بكل اختبارات ربها لها، كان الصيام يربيها..
يربي روحها..
ويطهر فؤادها..
يُزهدها في الدنيا ويرغبها في الآخرة..
هي وزكريا زوجا بالاسم فقط فأمام مختار هما زوجان عاديان، بين نفسيهما فلا يدار بينهما أي حديث إلا مختصرًا كأنهما غريبان إلتقيا على محطة قطارٍ عابرة، كان يسهر ولا يعود إلا فجرًا وتكتم غصة كالحنظل وهي تعلم أنه يخونها دون أن يكون لها القدرة على أن تمنعه من ذلك.
ذات يومٍ كانت تصلي صلاة الفجر عندما جاء هو من الخارج غافلًا عن نداء الله العظيم.
متغاضيًا عن لقاءه..
مدحرًا التفكير في ربه..
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
ناسيًا أن الله قد قال في كتابه العظيم (ويلٌ للمصلين)
نعم للمصلين وليس لمن لا يصلون فثمة فرق فتارك الصلاة آثام إثمًا أكبر، وكبيرة من الكبائر، أمَّا الله فقد توعد المصلين الذين يؤخرون صلاتهم..
ربما بسبب مكالمة هاتفية..
ربما لأجل مسلسلٍ ما..
أو لعمل شيءٍ ما.
ما لك يا صاح نسيت أنك ربما في ذلك الآن الذي تقول فيه سأنتهى مما أفعل ثم أصلي تتغافل عن نداء الله (الله أكبر) فتستمر في تيهك أفك يا هذا ربما يأتيك ملك الموت بغتة، لعل الله يرزقك الموت وأنت في الصلاة فتقابل ربك بأفضل ما تكون.
كانت غرام تقرأ سورة النور التي تحفظها عن ظهر قلب، لم يأبه زكريا حتى بالنظر إليها، ولم يسترع انتباهه شيء، إلا عندما شرعت غرام تسرد بصوتٍ شجيٍ رقيق (
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
[سُورَةُ النُّورِ: ٢]
والتفت إلى غرام بجسده كله، قلبه بات واجفًا فجأة مرتعبًا، كأنما يسمع كلمة زاني لأول مرة.
ثم هز رأسه وزم شفتيه بعبوس، كانت غرام قد أنهت صلاتها فوجدته يقف متسمرًا لا يحرك ساكنًا كأن على رأسه الطير، فشعرت بأنها بحاجة أن تنور بصيرته، أن يكون لها دور في هدايته رغم أنها لا تكن له أي مشاعر إلا مشاعر البغض والازدراء.
فطوت مصليتها وهي تردد الأذكار، ثم ثنتها فوق ذراعها المثني، وتبسمت بسمة تلألأ لها وجهها نورًا، وهمست بعدما أولاها ظهره يخلع سترته:
_تعرف يا زكريا أن الزنى حرام وهو أكبر الكبائر بعد الشرك والقتل؟ مش هقول لك كلام من عندي، أنا هجيب لك آية من كلام الله لو قلبك أصغى ليها هيفوق وممكن تنقذ نفسك من عذاب النار.
بدا لها أنه متشاغلًا، لكنه كان مصغيًا لكل حرفٍ تنطق به في اهتمامٍ شديد حتى قالت (عذاب النار) فانتفض قلبه يا لها من كلمة لم تمر عليه إلا قليلًا.
واصلت غرام حديثها وهي تتلو:
_{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }
[سُورَةُ الفُرْقَانِ: ٦٨]
ثم ألتقطت نفسًا عميقًا وأردفت تقول:
_ممكن مقتنعتش؟! وممكن اقتنعت لكن هل أنت عارف حكم الزنى؟! ومش هجيب لك من عندي حاجه، دا حديث عن حبيبك النبي..
لم تلاحظ أنه على ذكر (حبيبك، النبي) فقد أسبل جفناه المبللين بالدمع وأطرق.
متى كان النبي حبيبه؟
متى صلى عليه؟!
متى ذكره؟
أضافت غرام في هدوءٍ:
_عن عبادة بن الصامت عن النبي_صل الله عليه وسلم_أنه قد قال: خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
ودلوقتي أيه رأيك؟ فالأعزب الزاني عقابه جلد مائة واغتراب سنة، والزوج عقابه الرجم حتى الموت.
بس ممكن تتوب يا زكريا، لسه قدامك وقت، لسه الموت مجاش يعني تقدر تلحق نفسك من النار، { قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
[سُورَةُ الزُّمَرِ: ٥٣]
ربنا سبحانه وتعالى بيغفر الذنوب كلها مهمًا كانت يلا مستني ايه توب بإخلاص لله، أوعده أنك هتبعد عن الذنب ده ومش هترجع له تاني، أندم على كل لحظة عصيته فيها قوله أنك مش هترجع تعمل كدا تاني، توب يا زكريا خليك من أهل الجنة، دا ربنا سبحانه وتعالى بيفرح بتوبة عبده أكتر من فرحة العبد بتوبته فتوب، بلاش تضيع نفسك.
سكتت عندما التفت إليها بوجهٍ جامد لا يعبر عما يجيش بداخله وهدر:
_خلصتي؟
أومأت غرام برأسها دون أن تنبس بينت شفة واسترابت امره، فحدجها بنظرة مبهمة، ثم جز على أسنانه وغادر تاركًا الحجرة مجددًا. وزفرت غرام بيأس.
************
لم يمر عليها يومًا إلا وهي شاردة فاقدة طعم الحياة، أبت الخروج وهو لم يسأل.
يوسف لم يأتيها، ولم يكلف نفسه بإتصال حتى!
وأنقطعت أخباره وأنقطع هو؟!
وراحت هي تعالج طول الوقت حزنًا أقسم ألا يغادر قلبها.
هي وشقيقها كلٌ في وادٍ بمفرده، لا يجتعان إلا على طاولة الطعام، يذهب يمان إلى عمله في إحدى الشركات التي وجد بها وظيفة وتظل هي حبيسة الجدران.
“أيه رأيك نخرج نتعشى برا النهاردة”
قالها يمان محاولًا إخراجها من حزنها وشرودها، محاولًا أن يهون ما بها، لكنها قالت دون أن تنظر إليه:
_لا مش عايزة أخرج!
فتنهد بضيق وهو يتوجه صوبها وجلس بجانبها وهو يقول:
_يا حبيبتي مينفعش الحبسة دي، أنا سألت عن يوسف بس أهله كل اللي يعرفوه أنك أنتِ وهو في شهر العسل محدش يعرف حاجه فمحبتش أتكلم قبل ما نعرف الحقيقة.
فضحكت ضحكة هازئة، وقالت في تهكم:
_حقيقة أيه يا يمان اللي لسه عايز تعرفها؟! حقيقة أن يوسف مجرم.
فغمغم يمان في عصبية وهو يتحاشى النظر إليها:
_لا إله إلا الله يا بنتي أنتِ يعني ملقتيش إلا كلمة مجرم دي للي حصل في مليون سبب.
وعندما وجدها غير مفتنعة نهض متوجهـا إلى دورة المياه في يأسٍ وهو يقول:
_اجهزي عشان هنخرج غصب عنك.
ما أن غاب يمان حتى ألتمع الدمع في عينيها وهي تهمس بألم:
_وحشتني يا يوسف هان عليك متسألش عليَّ كل ده؟
ثم سمعت دقًا على الباب رتيبٌ سريعٌ، فمحت دموعها التي هطلت من عينيها وذهبت لتفتح الباب، فطالعها وجه شابٌ غريب، سألها باهتمام:
_حضرتك مدام غادة زوجة يوسف إسماعيل؟!
تأملت غادة بائن الطول الواقف أمامها متوجسة خيفة من القادم، وتفرست النظر في جسده العريض في رهبة، وهمست في خفوت حذر:
_أيوة أنا!
هتف الشاب بوجهٍ جامد خال من أي تعبير:
_أنا جاي أبلغك أن يوسف بين الحياة والموت وهو دلوقتي في العناية المركزة، وللعلم هو كان في مهمة خاصة ببلده عشان كدا خبى على حضرتك حقيقة شغله و…..
وسكت عندما شحب وجهها وامتقع واتسعت عينيها على آخرهما وهي تحدق فيها وتتراحع بظهرها، قائلة:
_يعني أيه بين الحياة والموت؟!
وأصطدمت بجسد يمان الذي أمسك بكتفيها، فأستدرت له تقول بلوعة:
_يوسف يا يمان!
بينما هتف الشاب بنبرة أجشة:
_حضرتك كويسة يا مدام غادة؟!
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
شعرت غادة بقلبها يكاد يتوقف من فرط الرعب على يوسف، ثم ذهبت مع شقيقها يمان برفقة الشاب الذي أخذهما إلى المستشفى التي يُعالج بها يوسف، وهناك طال إنتظارها لتعرف عنه خبرًا يغنيها عن الدنيا وما فيها فلم تجد، كانت تغمض عينيها ويسحُّ دمعها كنهرٍ جاري، تتراءى لها نفسها تقفُ في الظلام تتلفت، تنظر على إثر يوسف وهو يغيب في الظلام راحلًا بعيدًا عنها، تاركًا لها أطيافًا من الذكريات تطوف حولها. 
هكذا كانت تجدُ نفسها كالضائعة التي تبحثُ عن مأوى، وحضن يوسف فقط ملاذها. 
كانت تحترق ألمًا وتفنى ضياعًا؛ أيمكن أن يحور قلبها للحياة!؟ قلبُها الذي تلفع بحزنٍ بدا كظلامٍ بهيم. 
وأعينها التي أسودت بهما الحياة فلا ترى اطمئنان ولا راحة، بل خوفٍ ورعبٍ ووحشة. 
أخذ يمان يغدو ويروح في الرواق بعجزٍ عن أن يفعل شيء يهدأ به شقيقته. 
ومضى الوقت بهما جالسان في الانتظار حتى خرج الطبيب لهما بالبشرى بإقاقة يوسف وتجاوزه للخطر، هنالك سجدة غادة شكرًا لله العظيم على أنه منحه فرصةً جديدة في الحياة. 
دخلت لتراه وتطمئن فؤادها المفجوع عليه، فهالها رؤيته شاحب الوجه، متهالك الجسد موصلٌ به بعض الأجهزة، فشهقت تجهشُ في البكاء وهي تكمم فمها براحة يدها، وتقترب ببطء من فراشه خيفة أن توقظه، لكن عينيها ألتقطتا رفرفت أهدابه في وهن، فجلست على طرف الفراش على كثبٍ من رأسه، واحتوت كفه بين يديها في حنوٍ، وبملامح تطفح بالحب مالت تلثم جبهته بقلبة عميقة، ثم سلمت جبهتها إلى جبهته وشرعت دموعها تقطر فوق وجهه، وتناهى لها همسه الخفيض باسمها وهو يقول بصوتٍ ضعيف: 
_غادة. 
فرفعت رأسها لتضم وجهه وهي تقول في لهفة: 
_يوسف. 
افتر ثغره عن بسمة واسعة وهو يغمغم ضاحكًا في مشاكسة: 
_دا أنتِ ولا عفريتك ولا أنا بحلم؟! 
فوكزت ذراعه بخفة وهي تقول بضحكة ممزوجة بالدمع: 
_تعرف أنك حد بارد جدًا؟! 
فتبسم وهو يقول ببساطة: 
_عارف. 
كفكفت عبراتها وهي تتأمله بنظرات امتلأت بالعتاب، ثم تمتمت بنبرة تقطر حزنًا: 
_ليه كدا يا يوسف؟ ليه خبيت عليَّ أنك بتشتغل في المخابرات؟! 
أسبل يوسف جفناه وهو يقول مفصحًا في هدوء: 
_لأن شغلي لازم يكون في سرية تامة محدش يعرف بيه؟! 
فهتفت بانفعال وهي تهب واقفة: 
_حتى مراتك يا يوسف؟! 
أردف يوسف في وضوح: 
_كنت هقولك بس مجتش فرصة. 
ضحكت غادة في تهكم وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها، وقالت في سخرية: 
_آه وعشان كدا بقا خدتني معاك في مهمتك وأنت معرفني أننا في شهر عسل. 
تنهد يوسف تنهدًا عميقًا وألتفت يتطلع إليها قائلًا:
_اقعدي يا غادة الأول وهفهمك! 
فلم تأبهْ به أو تعره اهتمامًا فجذبها من ذراعها برفق وهو يدمدم: 
_اقعدي يا بنتي هفهمك. 
جلست غادة على مضض، بينما أستطرد هو يقول مفصحًا: 
_مش عاوزك تقاطعيني لحد ما تسمعي اللي عندي، أولًا مكنش هينفع أأقولك أي حاجة عن شغلي في فترة الخطوبة لأن كان ممكن منكملش سوا، وطبيعي مش هقولك في يوم فرحنا يوم الصبحية كان نداء الوطن بيناديلي ملبيش النداء؟ ومكنش هينفع أأقولك اني مسافر من اول يوم جواز عشان كدا خدتك معايا.. على أساس أننا في شهر عسل ودا اللي كان هيكون فعلاً كنت هخلص مهمتي اللي متكفل بيها وهنقضي وقت كويس هناك. 
نظرة له غادة بعتاب وهي تقول: 
_ومخفتش يحصل ليّ حاجة؟ 
هز يوسف رأسه نافيًا وهو يقول في ثقة: 
_مستحيل كنت أسمح لأي حاجة تأذيكِ! 
ثم وضع كفه فوق كفها وقال بصوتٍ خافت: 
_حقك عليَّ يا غادة مكنتش أتمنى تشوفي اللي شوفتيه هناك بس المهمة دي كانت مهمة لأنقاذ واحد صاحبي. 
قطبت غادة جبينها، سألته في اهتمام: 
_صاحبك مين ده؟ 
شردت عينا يوسف وأشاح بوجهه بعيدًا، وانبلجت بسمة على وجهه وهو يهتف في وقار شارد: 
_الصنديد. 
تنبه من شروده على صيحة غادة: 
_مين؟ 
فزوى ما بين حاجبيه، وغمغم: 
_متخديش في بالك! 
لكن غادة هتفت في فضول: 
_صاحبك اسمه أيه يوسف؟ وايه الصنديد دي؟! 
أردف يوسف بنبرة أجشة: 
_اسمه (سلمان) والصنديد ده لقبه ويعني الفارس الشجاع. 
ثم أبتعد بعيناه وهو يقول: 
_سلمان صنديد من صناديد زمان بيضحي بروحه عشان طفلة صغيرة لا من وطنه ولا من دينه ولا يعرف عنها حاجة. 
غمغمت غادة في فضول حين لاذ بالصمت: 
_وأيه كمان؟ 
فتابع كالمتغيب: 
_الطفلة كان والدها من المافيا وفي حد من خصومه قتله هو ومراته وكان هيقتل الطفلة بس سلمان أنقذها ومن الوقت ده وهو بيحمي الطفلة. 
تمتمت غادة في دهشة: 
_هو مسيحي ولا مسلم ولا ايه نظامه.. اسمه اسم مسيحي صح؟! وبعدين هو كان بيعمل ايه مع المافيا ده وشافه وهو بيقتل الطفلة. 
ضيق يوسف عينيه في ضيق ونظر لها في حنق وهو يقول: 
_ سلمان اللي كان المفروض يقتلها.. وبعدين وهو اي حد اسمه سلمان يبقى مسيحي أنتِ معندكيش عقل يا بنتي، مقرتيش قبل كدا قصة سلمان الفارسي صاحب رسول الله صل الله عليه وسلم الباحث عن الحق. 
ثم ضحك قائلًا: 
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_دا انا حافظ قصة الصحابي ده زي اسمي من كتر ما سلمان بيحكيها لينا وهو فخور ان اسمه على اسم صاحب رسول الله. 
سلمت غادة ذقنها إلى راحة يدها وهي تتأمله بأعين تشع حبًا، مغمغمة: 
_احكيلي باقي قصة صاحبك ده؟! إزاي كان هيقتل الطفلة وبعدين انقذها. 
_ياااه دا عمل حرب وقتها عشانها. 

                       ************

جاء زكريا ليلًا يبحثُ عن غرام فلم يجدها في الغرفة، فتوجه إلى المطبخ ربما تكون هنالك، وبالفعل صدق حدسه فلم يكاد يدخل حتى راها تجلسُ على المائدة تتناول الطعام فأدرك أنها تنوي الصيام غدًا، وكان يتعجب لا غرو من صيامها، تلك الأيام التي تكون فيها متغيرة! 
نشيطة، مرحة، متسامحة، ذات وجهٍ مشرق لا تبرح سجادة الصلاة، ولا ترقأ من الدعاء ببكاء، كان كل ذلك يبهره. 
كيف يصنع الصيام كل ذلك فيها؟! 
لماذا لا يجرب؟! 
تقدم منها واستهل الحديث عندما تنبهت لوجوده: 
_مساء الخير. 
فغمغمت غرام دون أن تلتفت إليه: 
_مساء النور. 
ثم رفعت بصرها إليه وهي تردف في اهتمام: 
_راجع بدري النهارده! 
فسحب مقعدًا قبالتها وهو يقول: 
_عادي. 
ثم شرع يتناول بعض اللقيمات وهو يستطرد قائلًا: 
_أنتِ صايمة بكرا! 
فأومأت برأسها دون أن تنبس ببنتِ شفة أو ترفع نظرها إليه، فغمغم مقرًا: 
_وأنا كمان. 
فاحتلت الصدمة وجهها وهي ترفع رأسها إليه في ذهولٍ تام طغى على كل شيء، فتبسم لها وهو يقول: 
_نويت أصيم بجد. 
فأكتفت بهز رأسها مستريبة. 
لكنه قد صام ذاك اليوم رغم إصابته بحمى أرقدته طوال اليوم، وشعر أن للصيام حياة. 
يعيد النشاط، يمحو كل حقدٍ في القلب، وكأنما يزيل كل سوادٍ فيه، يتلفع بالضياء والضي والطهور، ينثر التسامح مع الجميع، يكون له لقاءٍ خاص مع الله. 
ربما في خشوع الصلاة، وربما مع خشوع الدعوات. 
الصيام يربي.. 
يعلم.. 
يهدي.. 
فمع ظمأ الهواجر تنبت التوبة.. 
ظلت غرام هذا اليوم بجانبه، تفعل له الكمدات تطمئن كل حينٍ وآخر من حرارته، تعطيه دواءً.. 
لكن بعد ذلك اليوم وتغير كل شيء، أصبح زكريا كثير المرض، كثير الهزال، كثير الحمى التي لم تعد تفارقه، وبات ينحف. 
عندئذ أهتاج مختار وهو يرى ابنه يزبل أمام عينيه وبإصرار طلب منه أن يذهب إلى طبيبًا ما ليطمئن على نفسه. 
جلست غرام حائرة لا تدري هل تذهب معه أم تتركه يذهب بمفرده، لذا فقد استهلت الحديث قائلة: 
_زكريا تحب آجي معاك! 
فالتفت إليها قائلًا بنفي: 
_لا مفيش داعي خليكِ في البيت أحسن.
فأومأت برأسها ولم تنبس كانت لا تفضل الخروج معه أبدًا وحمدت ربها أنه لم يوافق على ذهابها معه لكنها كانت تشفق عليه وهي ترَ مرضه يذداد. 
ما كاد زكريا يخرج من باب البيت حتى عاد إليها وهو يسعل بشده قائلًا بتيه: 
_غرام متعرفيش فين تلفوني؟ 
فتطلعت فيه غرام باندهاش إذ كان الهاتف بيده، فنقلت بصرها إلى وجهه وهي تقول بحذر: 
_التلفون معاك! 
فغمغم في تعجب: 
_معايا فين؟ 
فتبسمت غرام في توتر وهي تشير إلى كفه قائلة: 
_في أيدك. 
فزوى زكريا ما بين عينيه مذهولًا، لم يلبث أن شعر بالأحراج  فضحك في توتر وهو يقول: 
_معلش مخدتش بالي، بعد أذنك. 
_أتفضل. 
غمغمت بها غرام وهي تشيع رحيله بقلق شرع يلتهم قلبها قلقًا. 
سار زكريا حيثُ سيارته وهو متشاغل في هاتفه ثم توقف بغتة بجوار باب السيارة وضيق ما بين عينيه بشدة وهو يقرأ إشعار رسالة وصلته توًا فحواها: 
_زكريا لماذا لا ترد على مكالماتي، أجب أرجوك فأنا حامل بابنك! وأوشكت على الولادة! 
أجتاحه سعال حاد جعله يميل فوق السيارة مرتكزًا عليها بإنهاك، وعاد مجددًا يقرأ الرسالة وقد بُهت وجهه وامتقع، كانت فتاة من الخارج قد قضى معها وقتًا لا بأس به، وها هي ذا تخبره أنها حامل منه؟! بل والأحرى أنه سيكون أبًا قريبًا! 
صعد سيارته وانطلق بها إلى طبيبٍ للفحص لكي يطمئن على صحته. 

                           ***********

جلس زكريا أمام الطبيب المعالج بعدما قام بعمل بعض الفحوصات التي طلبها منه، وجلس وحيدًا يترقب الطبيب وهو يدقق النظر في التقارير ويقلب فيهم عدة مرات، ثم ألتقط نفسًا وهو يضعهم أمامه ويتبسَّم بسمة متوترة ويتطلع إليه في صمت لهنيهة، ثم بادر قائلًا: 
_طبعًا يا أستاذ زكريا إحنا مؤمنين بالله، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. 
سكت، وازدرد زكريا لعابه وقد شعر أن مقدمة الطبيب تعني أن القادم سيء، فألتمع الدمع في عينيه والطبيب يستطرد قائلًا في هدوء وهو يشبك كفيه أمامه: 
_حضرتك بتعاني من مرض الإيدز، أنا هكتب لك على بعض الأدوية اللي هتستمر عليها بحيثُ نوقف الفيروس عن الأنتشار في الجسم، وتقوية جهازك المناعي. 
صدمة، كانت تحتل ملامح زكريا وقد طغت على كل كيانه، ظل يستمع إلى الطبيب بذهنٍ شارد حائر متفكر، يتطلع إليه بوجهٍ باهت شديد الشحوب، هل سيقى مريضًا طوال عمره القادم؟! 
أهذه تكون نهايته؟ 
لكن هو المتسبب الوحيد في كل هذا لقد أخذ عقابه، عن كل افعاله الشنعاء. 
خرج من لدن الطبيب ثم توقف في منتصف الطريق كالتائه، وحيدًا يترقّب لعل وعسى يكون حلمًا يتستيقظ منه فيجد نفسه في فراشه. 
بمن يلوذ وقد تسبب في إبعاد الجميع عنه؟! 
عاد إلى البيت وحيدًا ضائعًا شاردًا، فاستقلبته غرام في لهفة وغدت نحوه وهي تهتف: 
_ها عملت أيه طمني الفحوصات كويسة؟! 
سؤالها لم يكن حبًا أو خوفًا، بل واجب وشفقة. 
حدق فيها زكريا طويلًا كالمتغيب، ولم يعرف بما يجيبها فتركها واقفة ورحل من أمامها صاعدًا الدرج إلى حجرته. 
شيعت غرام رحيله متعجبة، لكنها لم تلبث أن تحركت إلى المطبخ. 
جلس زكريا على طرف الفراش واضعًا رأسه بين كفيه، كأنما استحال ظهره إلى جبلٍ من الهموم، لماذا يشعر أن أجله قريبًا؟! 
وأن الموت زائر يطوف حوله في إنتظار لحظة إنقباض روحه حين يأتيه الأمر. 
لأول مرة تسيل عبراته وهو يستشعر معنى كلمة موت.. 
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
موت يعني فراق الدنيا والأهل والأحبة. 
يعني قبرٍ مظلم موحش ربما يعذب فيه! 
يعني حساب وعقاب وجنة أو نار. 
أعتصر جفناه ألمًا فنزل دمعه شآبيبٍ تترى. 
أحس بحاجته أن يقرأ عن القبر، أن يدرك ماذا سيجد هناك! أن يعلم كيف ستكون اول ليلته! 
فتناول هاتفه من جيبه، وفعل سيرش عن القبر فظهرت له بعض المقالات التي علم منها أن عذاب القبر حقيقة لا مراء فيها، وربما نعيمًا لا أحد يدرِ مصيره، وأرتجف فؤاده وهو يقرأ حديث النبي أن الميت يسمع قرع نعال الناس فإذا بملكان يأتيان له يسألانه عن ربه ودينه ورسوله فيرَ مقعده من الجنة أن أجاب وكان من الناجيين، ويرَ مقعده من النار أن كان من العاصين، وعند ضمة القبر للجسد تأمل طويلًا. 
كيف ستطبق الأرض عليه؟! 
كيف؟! 
أنَّى ينجو من ضمة القبر؟ كيف يفر منها؟ 
عندئذ أخذ يبكي بكاءٍ مرًا وعلا نشيجه، ما قرأه عن القبر قد هده وأورثه خوفًا عن خوف، وأخذ يسمع أكثر وأكثر حتى وجد مقطغ لشيخ سمير مصطفى أستمع إليه وهو يرتجف. 
هنالك قرر أن يتوب، أن ينال ضمة خفيفة حنون من القبر، أن يرَ الملائكة بيض الوجوه، ألا يفزغ؟ ألا يشعر بالوحشة في القبر. 
عليه أن يعمل لكل ذلك فقد أضاع حياته وما تبقى إلا القليل. 
هل يقبل الله توبته؟ 
أم يتوب ويترك الباقي على الله. 
نعم سيتوب سيلوذ هذه المرة بالله الرحيم عساه يكفر عن ذنوبه. 
ماذا عليه أن يفعل الآن؟! 
ذهب مشرعًا في الوضوء، شعر أن الماء يغسل جل أوساخه، كانت دموعه تهوى ممتزجة بماء الوضوء، وقف بين يدي ربه وبدأ يصلي لم يكن يحفظ أي شيء من القرآن إلا الفاتحة ربما مع بعض الأخطاء فيها من التجويد والتشكيل، لكنه صلى بها وهو ينوي أن يحفظها جيدًا، أحس أن الله قريب منه قرب الوتين من القلب، فازداد دمعه أنهارًا يشعر بالخزى والعار، وما أن لامست جبهته الأرض وسجد لله أخذ ينشج ويلهج بالأستغفار عسى الله أن يتوب عليه.. 
أن يرحمه. 
أن يعفو عنه.. 
دخلت غرام إلى الحجرة فتفآجئت به ساجدًا ينشج نشيجًا فلق قلبها شَطْرين، هل هذا الذي أمامها هو زكريا الذي تعرفه!!
فغرت فاهً وهي مشخصت النظر فيه من الصدمة. 
ما الذي غيره، وبدل حاله إلى أفضل حال؟ 
كيف؟! 
هل تاب زكريا حقًا؟! 
أيمكن للمرض أن يربى المرء، أن يطهر فؤاده؟ 
هل أقلع عما كان يفعل؟! ألن يمارس الزنى مجددًا؟! في كل مرة كان يخرج فيها كانت تبكي قهرًا، رغم أنها لم تحبه، إلا أنها كانت تشعر بالخيانة، أن بها نقصًا ما! 

                          ************

جلس يمان برفقة يوسف يتسامران وقد قربت بينهما فترة مرض يوسف كثيرًا فأصبحا صديقين يتلاقيا دائمًا ويتحدثا في كل شيء، يتشاورا، ويتناقشا! 
قص يمان على يوسف شجون قلبه وحبه إلى غرام وما فعله، وأنصت يوسف في تأني، ثم غمغم في كل حكمة: 
_أنت غلطان يا يمان، عملت أكبر غلطة في حياتك، يا ابني أنت معندكش عقل تفكر بيه؟! يعني زكريا أتهمكم بتهم مش كويسة وأنت رايح تقول لراجل أنك بتحب بنته؟! أنت بتفكر إزاي بجد!؟ وبعدين رايح توضح لخالك حقيقة ابنه فتقوله انك بتحب مرات ابنه، ما هو طبيعي طبعًا محدش يصدقك. 
حك يمان مؤخرة رأسه في خجل، لقد بدت لها نفسه وكأنها جنت جنون محب تملأه الغيظ فأودى بوقاره فما يطيق قرارا، وقد استعر قلبه، فتمتم في استحياء: 
_وقتها مكنتش بفكر وكنت بقول الصدق وبس بدون تفكير في العواقب، أنا عارف أني غلطت! 
ربت يوسف على كتفه، وقال: 
_أنتَ دلوقتي لازم تنساها لأنها بقت على ذمة راجل تاني يعني مستحيل تكون ليك، فبلاش تفكر فيها وطلعها من قلبك. 
أومأ يمان له موافقًا لكن بداخله كان ثمة حدسٍ يخبره أن غرام مائلها إليه. 
تنبه من شروده على قول يوسف وهو يقول: 
_يلا بقا تعالى نروح زمان أختك مستنياك متنساش أنك معزوم عندنا النهاردة. 
ذهب يمان إلى مع يوسف وقضى معهما وقتًا لطيفًا، حتى رن رقم هاتف غادة التي كانت داخل المطبخ تعد لهم الشاي، بينما يوسف يتحدث في الهاتف، لم يكن الرقم مسجل، لذا فقد وضع الهاتف على أذنه وما هم أن يلقي السلام حتى وصل إليه وتسلل إلى قلبه صوت غرام وهي تقول: 
_غادة معايا.. 
فسكت يستمع إلى صوتها المحبب دون همس، بينما قالت هي: 
_ألو.. 
عندما لم تجد ردًا أغلقت، فظل يمان شاردًا وهو يقبض على الهاتف حتى أقبلت غادة وهي تقول: 
_مين اللي كان بيرن يا يمان؟! 
قال يمان وهو يتهيأ للرحيل: 
_غرام. 
هتفت غادة ببهجة: 
_بجد؟!
أومأ يمان برأسه، وقال: 
_ايوة، سلام أنا همشي! 
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
فحاولت غادة أن تبقيه وهي تقول: 
_تمشي حالًا كدا؟ طب اشرب الشاي! 
لكنه أصر على الرحيل، يطوِ حبًا داخل قلبه قد دُفن. 

                          **********

غمغم مختار محدثًا زكريا وهم على طاولة العشاء: 
_أيه رأيك يا زكريا تسافر أنت وغرام تغير جو؟! 
تطلعت غرام في زكريا في ترقب وهي تتمنى أن يرفض، ولم يخيب زكريا ظنها عندما قال رافضًا في صرامة: 
_لأ. 
ثم ألتفت إلى أبيه، وأضاف: 
_مقدرش أسافر أنا وهي، خاصةً أني مسافر في أأقرب وقت واحتمال غيابي يطول! 
توجس مختار خيفة من كلمة سفر وغيابٍ طويل، فكف عن طعامه ونظر له باهتمام، وتمتم: 
_مسافر ليه يا حبيبي؟! مفيش سبب لسفرك، وهتسافر فين؟! 
نظر زكريا بعيدًا عن والده وهو يردف: 
_عندي أسبابي يا بابا أتمنى تسبني براحتي! انا مش عيل صغير. 
أومأ مختار برأسه مستريبًا، وهو يقول: 
_طيب هتغيب قد أيه؟ 
غمغم زكريا وهو يحرك كتفيه في بساطة: 
_مش عارف! 
تطلع مختار في ابنه الذي نمت لحيته لأول مرة في غرابة، كان يشعر أن ثمة من أخذ ابنه وبدله. 
غرام وحدها كانت تعرف إلى ماذا تغير زكريا! 
فلقد تغير تمامًا إلى الأحسن، لم يعد يترك فرضًا إلا وقد لبى النداء سريعًا، وهو الذي لم يقترب من صلاة قط، أصبح يصيم مثلها الأيام البيض والأثنين والخميش، أصبح كثير السمع لمحاضرات الشيخ سمير، بالأخص السيرة النبوية، ودروس القضاء والقدر، وعن القبر والآخرة. 
زكريا تغير وهذا كان شيء يطمئن قلبها. 
رغم أنها كانت تتمنى أن تتحرر منه! 

                             *********

كان زكريا يقيم الليل باكيًا يناجي ربه يطلب منه المغفرة في الثلث الأخير من الليل، استيقظت غرام من نومها على صوت بكائه، فاستوت جالسة في الفراش، تراه يصلي ببكاءً لا يرقأ، هذا الرجل يخبي شيئًا يجب أن تعرفه قبل أن يسافر، انتظرت حتى فرغ من صلاته وكفكف دمعه وهم أن يراجع على ما حفظه من صور قصار، لكنه تنبه إلى غرام التي جلست بجانبه على الأرض، ومدت كفها لأول مرة لتربت على كتفه، وهي تقول: 
_زكريا أنت كويس؟ قولي هو أنت مخبي علينا حاجة؟ 
هز زكريا رأسه قائلًا: 
_مش مخبي حاجة يعني هخبي أيه! 
وأشاح وجهه بعيدًا عنها عندما أحس بدمعه عالق في أجفانه يبغي التحرر، وهمس بصوتٍ خفيض: 
_هو لازم يكون في سبب عشان الانسان يرجع إلى ربه؟ 
ثم التفت إليها وقد سال دمعه وهو يسألها في صدق:
_هو ممكن ربنا يغفر ليّ يا غرام؟ ممكن يقبل عبد عمل كل الكبائر ويفتح له أبواب رحمته؟! هل ممكن يوم القيامة أعدي الصراط بسلام؟ ممكن النبي يسقيني من كوثره؟ ولا الملايكة هتبعدني عنه، أنا.. أنا بقيت بقرف من نفسي كل ما أفتكر اللي كنت بعمله أو لما بشوف بنت من اللي كنت.. 
سكت وأخذ يهتز من البكاء وألقى برأسه في حجرها، فراحت تمسد على رأسه في شفقة، وهي تقول بنبرة تقطر حزنًا: 
_ربنا سبحانه وتعالى غفورٌ ودودٌ رحيمٌ حشاه أن يرد عبدًا أتاه تائبًا بإخلاص، دا ربنا الكريم يا زكريا كرمه ملهوش حدود أبدًا، ومش معنى أن إحنا كنا وحشين يبقى لما نتوب نبقى كذلك، في ناس كتير كانت حشة وتابت وعملت عملًا صالحًا وأصبحوا من الصالحين. 
أدوا معًا صلاة الفجر وأمَّ بها ثم أوى إلى فراشه وغفى ورغم ذلك أستيقظ باكرًا ليعد حقيبة سفره، لكنه قبل أن يغادر الحجرة بادرته غرام قائلة: 
_زكريا أنت هترجع إمتى؟! 
فرد عليها على عجل: 
_مش عارف. 
فسألته حائرة: 
_طب أنت مسافر ليه؟ 
فأجابها وهو يدنو منها قائلًا: 
_لما هرجع هقولك. 
ثم لثم جبهتها بحنوٍ لأول مرة وهو يقول موصيًا: 
_خلي بالك من نفسك يا غرام ومن بابا. 
ثم سكت لهنيهة وأردف بحزنٍ دفين: 
_سامحيني على كل اللي عملته فيكِ أرجوكِ! 
ورحل سريعًا دون أن ينتظر منها ردًا، بينما أجهشت هي في البكاء، لا تدرِ هل تستطيع السماح حقًا؟! 
ودع زكريا أبيه وجلس في سيارة أجرة لكي تقله إلى المطار وهو يتحدث في الهاتف قائلًا: 
_ساعاتٍ وستجدينني عندك، أستقبلينني في المطار!. 
وأنتظر الرد ثم غمغم بنبرة منفعلة: 
_كيف أستطعتي أن تخبي عليَّ حملك كل هذه الشهور حتى جئتِ بطفلي؟! 
وسكت يستمع إلى الطرف الآخر، الذي تمتم صوته في رقة: 
_ظننتك لن ترحب به، لكني قُلت أن أخبرك وليحدث ما يحدث، يجب أن تتزوجني يا زكريا ونربي طفلنا معًا. 
ردد زكريا وهو يصر على أسنانه: 
_أنني قادم لأجل هذا. 
وصل زكريا إلى المطار وأنهى جميع أوراقه، وجلس مترقبًا في صالة الأنتظار حتى أُعلن عن قرب إقلاع الطائرة، فنهض واقفًا وأستدار إلى باب المطر وبأعين بها الشوق جليًا بدا أنه يودع أرضًا لن يطأها مجددًا، وأُناسٌ لن يراهم مرةً أخرى. 
أتخذ زكريا مقعده في الطائرة، وربط حزام الأمان ثم أسند رأسه إلى ظهر المقعد وأخذ يستغفر، وبعدما أقلعت الطائرة واستوت في السماء فك الحزام، وتنهد وهو يتطلع من النافذة بجواره إلى السحب البيضاء، ثم راح يتفكر في الملائكة. 
ترَ كيف هو الملك جبريل؟! 
كيف هيئته وهيئة أجنحته، شعر بالرهبة فتبسَّم وأحس أنه يشتاق إلى الله. 
إلى لذة النظر إلى رؤيته! 
يشتاق إلى النبي والصحابة! 
وعلى ذكر الصحابة ألتقط كتيب كان معه وشرع يقرأ قصة البراء بن مالك فتى الأنصار.. 
من كان شعاره الله ثم الجنة. 
وتأثر تأثرًا عظيمًا عندما خلص البراء أخيه أنس من الخطاطيف المحمية بالنار وفقد كفيه. 
لم يلبث أن فرغ من قراءة القصة بقلبٍ متلهف لرؤية البراء، ثم أرتجت الطائرة إرتجاجة عظيمة رجت الأجساد، وعلت على إثرها الصرخات، والشهقات وبكاء الصغار والنساء، هدأت الأرتجاجة وخفت الصراخ وعم الهدوء، فظهر صوت المذيعة وهي تتحدث في المكبر، قائلة: 
_السادة الركاب.. 
وتسرب صوتها في الفراغ عندما هوت الطائرة من شاهق، وصرخ زكريا مكبرًا بصوتٍ عال، ثم لهج لسانه بالتشهد، وانغمرت دموعه وهو يردد سيد الأستغفار، الصراخ والبكاء كاد يصم أذنيه لكنه شرع يكبر ويقول الشهادة وفجأة انفجرت الطائرة بحريقٍ هائل حولها إلى إشلاء وغاب كل شيء عن الوجود إلا ذاك الدخان الذي عبأ السماء ثم راح يخفت شيئًا فشيئًا. 
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
(والأخير) 

أن يموت المرء تائبًا خيرًا من أن يموت عاصيًا. 
الراحل لم يودعه أحد؛ رحيل المودع المفارق بلا عودة، بلى ودع، وداع الغائب لحينٌ من الدهر على أملٍ باللقاء، أليس مؤلم أن يموت المرء دون وداع؟ دون أن يكون الأحبة بجانبه؟ دون أن يرتوي من عيونهم ويشبع من ملامحهم؟! 
بلى، موجع والأكثر ألمًا ذلك الرحيل دون أن يكون ثمة قبرٌ نلوذ به بغائبنا حتى إذا همنا فراقه هرعنا هنالك. 
مذ أن سافر والده ومختار يشعر بقلقٍ يقتات على قلبه، ويذره مهملًا موحشًا بغصةٍ كالحنظل. 
كان في مكتبه يباشر أعماله ببعضٍ من الثبات الذي لم يقضِ عليه القلق، عندما أتته مكالمة من رقمٍ غير مسجل، قال له صاحبه ما أن أجاب: 
_حضرتك مختار العزيزي والد الأستاذ زكريا. 
فنهش الخوف من قلبه وهو يومأ برأسه قائلًا في توجس لم يكن له سببًا وأنما جاء تلقائيًا: 
_أيوة أنا، مين حضرتك؟ 
لوهلة خيم الصمت لثوانٍ قبل أن يقول الصوت في أسف: 
_البقاء لله، ابن حضرتك كان من مضمن ركاب طيارة لندن اللي انفجرت... 
عندئذ لم يستمع مختار لباقي عبارة الرجل، بل فغر فاهٍ واتسعت عيناه مصدومًا، وقاطعه قائلًا وهو ينهض: 
_يعني أيه؟ ابني مات! 
وسقط الهاتف من يده، وأمسك قلبه وهو يشعر بوخزٍ حاد في سويدائه، وأستند براحته الأخرى على سطح المكتب، وهو يقول متألمًا: 
_زكريا، ابني.. ابني مات! 
بدا أنه مذهولًا، مأخوذًا، غير مستوعب، يودُ لو يتأكد مما عرف، فإذا بعقله يرفض الفكرة تمامًا وينتشله من حيرته وألمه وصرخ متأوهًا بشدة؛ صرخة دخلت على إثرها السكرتيرة مهرولة وهتفت باسمه وهي تعدو إليه لكن الدنيا قد مادت في عيناه، وسقط فاقد الوعي. 

                        ************

أقبلت غادة نحو غرام تعدو ما أن تناهى لها نبأ خالها في المستشفى من قِبل الموظفين، وقفت غرام تستقبلها في صالة الأنتظار، بينما هتفت غادة في لوعة وهي تلهث في انفعال: 
_غرام، خالي.. خالي مختار حصل له أيه؟ 
هزت غرام رأسها في أسفٍ، وقالت بصوتٍ بئيس: 
_معرفش والله ما اعرف اتصلوا بيا من الشركة وقالوا أنه أغمى عليه ونقلوه على طول على هنا. 
تلفتت غادة حولها وهي تقول: 
_يمان.. يمان لسه مجاش؟ انا برن عليه تفلونه مغلق. 
غمغمت غرام في حيرة: 
_لا مجاش، يمكن ميعرفش حاجة! 
"الأستاذ يمان هو اللي نقل خاله المستشفى" 
أتت العبارة من غريبٍ يقف ورائهما، فالتفتت غادة وهي تقول بلهفة: 
_يمان هو اللي نقله؟ 
أومأ الموظف قائلًا في هدوء: 
_أيوة.. وطلب مني أفضل مع الأستاذ مختار لحد ما يرجع. 
اومأت غادة برأسها وقالت في ثبات: 
_متعرفش راح فين؟ 
هز الموظف رأسه نافيًا وهو يقول: 
_معرفش يا فندم. 
تنهدت غادة تنهدًا عميقًا، ثم أردفت: 
_طب تمام أتفضل أنت على شغلك في الشركة الأمور هتمشي زي ما هي عادي. 
رحل الموظف وجلست هي وغرام في انتظار أي شيء لتطمئن على خالها وما الصدمة التي أدت به إلى ذلك! 
وبينما هن جالستان إذ أقبل يمان ممتقع الوجه، مصدوم العينين، فوقفت غرام وغادة تلقائيًا في توجس، وبادرت غادة قائلة ما أن دنى منهن: 
_يمان كنت فين؟ مال خالك؟ أيه اللي حصل؟! 
حوَّل يمان بصرٌ زائغٌ إلى غرام وتطلع فيها صامتًا وهو يزدرد لعابه، ثم ألتمع الدمع في مقلتاه، وأطرق الرأس وقال بصوتٍ بدا كأنما يأتي من مكانٍ سحيق: 
_زكريا. 
هتفت غرام في انفعال: 
_مال زكريا؟ 
رفع يمان رأسه إليها ثم أغمض عينيه واعتصر جفناه وهو يقول بنبرة تقطر حزنًا: 
_زكريا توفى الطيارة اتفجرت بيه! 
قالها فشهقت غرام وهي تضع أناملها تكتم فمها، وقد أخذ الدمع يسح من عينيها مدرارًا. 
وصرخت غادة وهي تواري وجهها بين راحتيها: 
_زكريا، مستحيل مات طب ازاي!؟ 

                         ************

مرت أيام العزاء كئيبة موحشة، كان الأكثر ألمًا هو مختار فهو لا ينفك باكيًا متألمًا، لقد نسج الحزن على وجهه أخاديدٌ سوداء، لم يستقبل أحد من المعزيين، بل لم يفارق حجرته منذ خرج من المستشفى، يؤلمه أن ابنه قد تحول لأشلاء، وأنه غادر دون وداع، قال له أنه مسافر، فلم يحسب أن السفر بغير رجوع! 
في ذلك اليوم حضر محامي العائلة، وطلب من الجميع الحضور حتى يمان، وأخذ يتطلع في الجميع في هدوء، ثم نظر إلى مختار الذي يجلس منهكًا، بعبراتٍ تجمعت بين أجفانه، وهو يلقي رأسه على ظهر المقعد في إعياء: 
_أ. مختار أنا بقدم عزائي ليك في وفاة زكريا. 
نظر له مختار وهو يضيق عيناه في ألمٍ مما ألَمّ به، فأردف المحامي يقول: 
_أنا جيت النهاردة عشان المرحوم ساب عندي أمانة كان لازم أردها في اليوم اللي سافر فيه ولكن بسبب اللي حصل أضطريت استنى! 
غمغم مختار وهو يحملق فيه مندهشًا: 
_أمانة أيه؟ 
حاد المحامي ببصره إلى غرام، وأردف يقول: 
_الأستاذ زكريا طلق حضرتك في اليوم اللي سافر فيه، قبل ما يطلع على المطار جالي المكتب. 
وأضاف وهو يمد يده لها ببعض الأوراق: 
_دي الأوراق اللي تثبت ذلك، ودي رسالة كان سايبها لحضرتك. 
تعلقت الأعين كلها في غرام وهي تتناول الأوراق، ثم نقلت بصرها إلى مختار الحائر، وقد هم أن يقول شيئًا، لولا أن تمتم المحامي: 
_وساب لحضرتك رسالة برضو أنت والأستاذ يمان! 
ثم ناولهما الرسائل ونهض وهو يستأذن منصرفًا، فأسرعت غرام إلى حجرتها، بينما غادر يمان المنزل، وقبض مختار على الرسالة بشوقٍ ولهفة، ثم فضها وأخذ يقرأ ما جاء فيها بنهمٍ وهو يتساءل: لماذا ترك له ابنه رسالة قبل سفره؟ هل كان يشعر أنه راحل! 
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
(أبي، عندما تصلك هذه الرسالة وتكون بين يديك، أكون أنا قد غادرت أرض الوطن، وأودُ أن أطمئن قلبك بأني أتٍ لا محالة قريبًا ولكن بعدما تكون قد غفرت ليّ ما اقترفته في حق نفسي وحق غرام وحق يمان وحقك أيضًا يا أبي! أعلم أن ما ستقرؤه سيكون صدمة طاحنة لك أنا ادرك ذلك، وربما قد تبغضني. 
ولكن لا ريب أنه يجب أن تعلم ظلمي للأحباب، نعم يا أبي لقد ظلمت يمان وغرام هما صادقان لم يختلقا كذبًا أني شخصًا بشع الخلق والخُلق والانسانية، لقد أعتديت على غرام عندما كنا في باريس. 
والدك قد اعتدى على زوجته، لقد.. لقد كنت أشرب الخمر وأزنى. 
تحل بالشجاعة رجاءً يا أبي لا تتزعزع مما ستقرأ، نعم أنا كنت أفعل كل ذلك، ولكنني قد تبتُ إلى الله منذُ زواجي بغرام، غرام ردت ليّ روحي الغائبة، التائهة، في ملذات الحياة، أعادتني إلى الله. 
ليّ طلبًا وحيد منك يا أبي سواء قد غفرت ليّ أو لأ، سامحتني او لأ لقد طلقت غرام، فأرجوك ما أن تنتهي عدتها حتى تزوجها إلى يمان، هو أحق بها مني، ربما يغفر هذا ما اقترفته في حقهما. 
سامحني يا أبي أرجوك أغفر ليّ خطيئتي 
زكريا العزيزي) 
أمَّا بالأعلى كانت غرام لا تصدق أنها قد تحررت من سجن زكريا، باتت حرة وحيدة، مضت على ورقة الطلاق كالغريق، ثم فضت خطاب زكريا؛ بلا شغفٍ وشرعت تقرأ: 
(كنتُ ضائعًا تائهًا في بحرٍ لُجي، أفعلُ كلُ كبيرة دون أن أهاب الله أو أذكره، منغمسًا في الملاذات دون ذرة خوفٍ من الله، لأني لم أكن أعلم من هو الله حقًا، حتى دخلتِ إلى حياتي كنتُ أتعجب بُكاءك في الثلث الأخير من الليل، لماذا تصلي في الليل؟ لماذا تبكي؟! هل يسمعك الله حقًا؟! أيسمعُ نجواكِ؟! حتى جربتُ ذلك لأول مرة ما أجمل قيام الليل والناس نيام، شعورٌ لذيذ يتوغل في الحنايا، ويسري في مهجة المرء فيورثه الراحة، بأنه مختلف عن كل البشر وأن الله قد أختصه باللقاءٍ خاصًا معه في الليل دون أن تراه الأعين. 
خطابي لكِ ربما يكون طويلًا فقرأي بصبرٍ ودون مللٍ أو كللٍ لآخر مرة يا غرام ولن تسمعي أو أطلب منكِ شيئًا آخر. 
عندما كنتِ تصيمين يا غرام كان وجهك منيرًا مشرقًا، نفسك جميلة نقية طاهرة، تعتراكِ راحة عجيبة وتسامح أعجب، فما أراكِ إلا تصلين أو تناجين الله، وهنا كانت بداية توبتي، نعم، الصيام رباني علمني أن الله سميعٌ رقيبٌ مجيب، لقد قررت أن أحذو حذوك أن أجرب الصيام فأرى ماذا يصنع في المرء! 
وما صنعه كان عجيبًا، فلقد محى غشازة عيني، وأزال السود الذي ران على قلبي، دلني إلى الهدى، علمني كيف أتوب، لقد كان لكِ الفضل يا غرام بأن أتوب، وأزيل خطايا قلبي فلكِ الشكر، حمدًا لله أنه قد أراني طريق التوبة الذي ظننته بعيدًا بعد السماء عن الأرض، سبحانك ربي تهدي من تشاء وتضل من تشاء. 
أخيرًا وقبل أن أقول وداعًا عليكِ أن تعلمي أنني منذُ أن تزوجتكِ لم أمس أمراة أخرى، طلبي الأخير هو أن تعودي إلى نفسك إلى غرام التي لا شيء يقيدها ولا يتحكم بها.. أمضي قدمًا لن يعد في حياتك زكريا لقد حررتك مني وطلقتك. 
وداعًا يا عزيزتي 
زكريا العزيزي) 
طوت غرام الخطاب والدموع تترى من مآقيها ثم أخذت تضحك في فرحة، لقد تحررت أصبحت وحيدة أخيرًا! 
نهضت من جلستها ثم جذبت حقيبة راحت تضع بها ملابسها وهي تتهيأ للرحيل من سجنها. 
مختار ليس وحيدًا ابناء شقيقته قد عادوا إليه! 
لكن أين قد تذهب؟! 

                            ***********

صف يمان سيارته في مكانٍ هادئ، وغادرها وفي يده خطاب زكريا، هل شعر بالحزن عليه؟ 
نعم حزن حزنًا شديدًا على موته
حزنًا أدمى قلبه 
تنهد وهو يقف جانبًا يفض الخطاب في لهفة، وراحت عيناه تلتهمان كلام زكريا في شوقٍ: 
(أخي، عزيز قلبي يمان، لأول مرة أقولها لك، ولأول مرة أشعر أني أحبك حبًا جمًا، أعلم أني قد أخطأت في حقك كثيرًا، لكني أعلم أن قلبك طيب ستغفر لأخيك حتمًا، لا ريب أنك تعلم أني كنت أغار منك في كل شيء، وأحقد عليك وأنك قابلت كل هذا بقلبٍ رحبٍ صبور، كنت يا يمان دائمًا بجانبي كثيرًا ما حاولت أن أبتعد عن كل ما أفعله، قدمت ليّ النصائح دائمًا حتى فاض بك وسقط من يدك ويأست، لا تثريب عليك هذا حقك أن تيأس من شخصٍ كان يأخذ نصائحك في تهكم ويلقي بها عرض الحائط، وكان دائم الاستهزاء منك. 
سامحني يا يمان عندما أتهمتك أنت وغرام أن بينكما شيئًا ما كنت حقيرًا يا أخي أتمنى أن تغفر ليّ فقد تبتُ إلى الله، وأريدك عند عودتي أن تكون أول المستقبلين ليّ في المطار هكذا سأعلم أنك سامحتني، سنبدأ صفحة جديدة، ولنكن يدًا بيد وكتفًا بكتف ولنكمل ما تبقي من حياتنا معًا. 
يا الله كم أتلهف أن نخرج معًا أنا وأنت، ونصلي سويًا في صفٍ واحد، وأن نستمع إلى الدروس الدينية جنبًا لجنب، أعدك أن لا أتأخر سأتي في الحال فكن بخير حتى أتيك. 
أخيك زكريا العزيزي) 
كور يمان الخطاب في يده، وهو يجهش في البكاء فغطي وجهه بين كفيه وارتفع نشيجه. 
آهٍ يا زكريا.. 
لقد رحلت قبل أن تفعل ما تتمنى! 
رحلت طاهر القلب من أوساخه! 
كم مؤلم رحيل من نحب دون زكريات نقتات عليها من بعده! 

                            **********

لم يأتٍ عبد السلام للعزاء، رغم أنه قد سمع بوفاة زكريا ابن صديقه وزوج ابنته، آثر البقاء في منزله كلا يرَ ابنته التي تشعره بالخزى والعار، لكنه استلم فلاشة جائته من زكريا المتوفي فحيرته! 
واستمع إليها ليعرف الطآمة الكبرى بأنه قد ظلم ابنته الوحيدة، بدل أن ينصرها ويأخذ حقها من زكريا أتهمها باطلًا، الويل له! 
عندئذ سافر هنالك ليأتي بابنته ويطلب منها السماح ويقطع علاقته بمختار، فما أن وصل لم يجد إلا يمان الذي لم ينهض لأستقباله بل رمقه بنظرة سريعة ثم أشاح البصر عنه بعيدًا، فدلف عبد السلام، وهو يهتف باسم ابنته: 
_غرام.. غرام أنتِ فين؟! 
وفي منزل العزيزي ومنذ وفاة الابن والجميع منعزلًا لا أحد يعرف شيئًا عن الآخر، لكن غادة حضرت على صياح عبد السلام وبادرت قائلة: 
_عم عبد السلام تعالى اقعد وأنا هندهلك غرام. 
فغمغم عبد السلام: 
_اديني واقف اندهيها بسرعة! 
ارتقت غادة الدرج في سرعة، وأتجهت إلى حجرة غرام التي وجدتها فارغة حتى من ملابسها، بالأسفل كان مختار يقترب بإعياء من عبد السلام الذي قال له في هجوم: 
_كدا يا مختار والدك يعمل كدا في بنتي، انا بسببه كنت هموتها! 
فدنى مختار منه وهو يقول بأسف: 
_حقك يا عبد السلام تزعل بس ابني خلاص مات... 
قاطعه عبد السلام وهو يقول في عنف: 
_مش مسامحه ليوم الدين يا مختار... 
وبُتر صوته مع صياح غادة وهي تهبط الدرج: 
_خالي مختار غرام مش موجوده ولا ملابسها حتى، غرام مشت. 

                       ************
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
جلست غرام داخل قطار يتجه إلى الأسكندرية، لم تكن تعلم أين ستأخذها قدميها، وأين تضع رحالها؟! لم يكن لها أحد إلا أبيها! 
وهي لن تعود له!
لن تعود لأبًا نبذها دون أن يعلم الحقيقة! 
لن تأسف على البقاء دونه! 
تطلعت عبر نافذة القطار إلى الليل البهيم الذي أسدل ستاره، وإلى الطرقات في هيامًا شارد. 
هبطت على محطة القطار، ووقفت ذاهلة تفتش في الوجوه عن وجهًا قد تعرفه، وظلت لردحًا من الزمن لا تعرف أين تذهب، ثم خرجت من محطة القطار، وشرعت تسير دون هدى، وعندما يأست توقفت مكانها، وأخذت تبكي في يأسٍ، وقد أحست بالخطاء الذي ارتكبته بأتينها إلى مكانٍ لا تعرف فيه أحدًا، توقفت سيارة أجرة بجانبها فصعدت بينما يسألها السائق: 
_على فين يا بنتي؟ 
فتطلعت إلى الرجل الذي لم يكن كبيرًا في السن ولم تجب، فكرر سؤاله وعندما لم يتلقَّ ردًا غمغم: 
_أنتِ محتاجة مكان تباتي فيه النهاردة؟! 
ما أن سمعت غرام جملته حتى أشرقت ملامحها، وأومأت برأسها وهي تقول: 
_لو حضرتك تعرف فندق هين هكون شاكرة ليك جدًا! 
فتنهد الرجل وهو يسألها: 
_فندق وأنتِ لوحدك يا بنتي مش أمان ليكِ خالص، أنا أعرف ست ممكن تتصرف ليكِ في أوضة كدا على قدك تقعدي فيها.. بس في منطقة شعبية. 
وافقت غرام أن يذهب بها إلى هذه المرأة، ثم توقف السائق أمام محل للحلويات في حارة شعبية تجلس أمامه امرأة يبدو الشقى على وجهها، تحرك الرجل إليها وهو يقول: 
_السلام عليكم يا ست سعاد. 
فوقفت سعاد بوجهًا بشوش وهي تهتف: 
_وعليكم السلام يا حج عطية.. عامل أيه يا حج. 
ثم لمحت غرام بطرف عينيها، فدنا منها الرجل وأسر إليها ببعض الكلمات، جذبت المرأة على إثرها كرسيًا ثم دعت غرام إلى الجلوس قائلة: 
_تعالي اتفضلي اقعدي هنا. 
فهزت غرام رأسها وهي تقول في استحياء: 
_لا لا شكرًا. 
فجذبتها سعاد من يدها وأجلستها وهي تقول: 
_تعالي ياختي اقعدي وشك أصفر زي اللمونة. 
ثم نادت على غلامٍ صغير صائحة: 
_تعال يا واد علي أنده للبت أسماء من فوق. 
ثم نظرت إلى الحج عطية وهمهمت: 
_خلاص يا حج روح أنت شوف شغلك ومتقلقش عليها هتقعد معانا لحد ما أشوف لها أوضة على قدها. 
همَّت غرام أن تقول أي شيء لولا أن أقبلت أسماء وهي تقول: 
_أيوة يا ماما. 
فربتت المرأة على كتف غرام وهي تقول لأبنتها: 
_خديها فوق معاكِ وضيفيها واهتمي بيها. 
فاومأت أسماء، قائلة: 
_حاضر. 
ثم تفرست النظر في غرام التي نهضت معها وقبل أن تخطو خطوة واحدة مادت بها الأرض وتعثرت مترنحة فأسندتها أسماء سريعًا، وهي تقول: 
_على مهلك. 
ثم سقطت غرام من بين يديها فاقدة الوعي. 

                             *********

(حمد لله على السلامة، عاملة أيه دلوقتي؟) 
هتفت بهذه العبارة أسماء وهي تجلس على طرف الفراش بجوار غرام، التي أعتدلت من رقادها لتجلس وهي تقول بوهن: 
_الله يسلمك الحمد لله أنا كويسة. 
حينئذ دخلت سعاد وهي تحمل صنية قائلة بوجهٍ بشوش: 
_حضرت لك لقمة تكليها. 
فغمغمت غرام في استحياء: 
_لا، لا شكرًا. 
فنهرتها سعاد بحدة حانية: 
_أيه شكرًا دي حتى كلي لقمة عشان العيل اللي في بطنك. 
أطل الفزع من أعين غرام، وقد حلت الصدمة على وجهها وهي تهتف بارتياع: 
_حامل!! أنا مش حامل؟ 
فغمغمت سعاد وقد توجست خيفة منها وقد ظنت بها الظنون: 
_مش حامل إزاي يعني يا بنتي؟ الدكتورة كانت هنا وقالت إن إغمائك كان بسبب الحمل. 
وضعت غرام تلقائيًا يدها على بطنها في صدمة طغت على كل كيانها، بينما تبادلت الحجة سعاد النظر مع ابنتها حائرة، في حين ازدردت غرام لعابها في خوفٍ من القادم. 
انبعث صوت سعاد وهي تقول بتريث: 
_أنتِ مكنتيش تعرفي أنك حامل؟ 
هزت غرام رأسها نافية وهي تقول بأسفٍ: 
_لا، مكنتش أعرف. 
همست سعاد بصوتٍ خفيض وهي تميل على أذن غرام مستريبة: 
_أنتِ متجوزة ولا أيه حكايتك؟! 
تطلعت فيها غرام دون أن تنبس ببنتِ شَفة، كيف تكون حامل وزكريا لم يقترب منها إلا في ذاك اليوم المشؤوم عندما اعتدى عليها؟! 
"هو أنتِ هربانة من طار ولا قتلتي قتيل، ولا فارة من أهلك بعد ما اكتشفوا عملتك" 
في حدة استدارت غرام إلى مبعث الصوت لدن الباب، فوجدت أمراة يبدو عليها القوة والصرامة وهي تضع كفيها في جنبيها، وقبل أن تفوه بحرفٍ بادرت أسماء تقول: 
_اسكتِ بالله عليكِ يا طنط منى، مالكم جايين على البنت كدا ليه؟ سيبوها تستريح ويلا اطلعوا بره! 
زمَّت منى شفتيها وهي تقول في حنق: 
_اصبري لما أعرف حكاية البنت دي أيه؟ 
فتحركت أسماء نحوها وقادتها خارج الحجرة وهي تقول: 
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
_يا ستي هنعرف بس مش دلوقتي يلا بقا اطلعي. 
ثم صاحت وهي تلتفت إلى أمها: 
_يلا يا سعاد اطلعي شوفي دنيا وعم طه. 
اندفعت سعاد خارج الحجرة وهي تحدج غرام بعنفٍ، بينما أغلقت أسماء الباب وجلست بجانب غرام وهي تقول بنبرة رقيقة: 
_متزعليش من امي دي ست طيبة جدًا وهتحبيها اوي هي بس بتخاف علينا حبتين، على فكرة أنا محامية ولو أنتِ واقعة في مشكلة أنا في ضهرك. 
ثم أستطردت وهي تقول بمرحٍ، وضحكة رقيقة: 
_يعني انا محامية صغيرة على قدي كدا بس معايا محاميين كبار ويعجبوكي. 
ثم تناولت صنية الطعام وشرعت تطعمها قسرًا. 

                           **********

ااا 
مرت أيامًا تليها أسابيع وهي تقيم مع السيدة سعاد بأجرٍ بسيط هو معاونتها لها في العمل بمحل الحلويات الذي تملكه، بعدما رفضت أن تقيم بمفردها وهي وحيدة وحامل، ووجدت في صحبتهن كل الأنس، وقد أحبتهم وأخذت تمضي الأيام معهن جميلة مرحة. 
ذات يومٍ كانت تقف تبيع لأحد الزبائن، بينما تجلس سعاد مع صديقة عمرها منى، عندما لمحت بطرف عينيها يمان وهو يقبل شَطْرها بخطواتٍ وئيدة، دون أن يحيد البصر عنها... 
وفي عينيه كل الشوق.. 
وكل اللهفة.. 
فتراجعت إلى اللوراء خطوتين وهي تزدرد لعابها وتهمس باسمه في خفوت، فدنى منها وبمقلتين تومضان بالشوق واللهفة هتف: 
_أخيرًا لقيتك؟! 
عندئذ تنبهت منى وسعاد، وهتفت منى وهي تثب واقفة في عنف: 
_أنت مين يا أخينا؟ 
وأرجعت سعاد غرام وراء ظهرها وهي تهتف بصرامة: 
_خير يا بيه!؟
ثم قبضت على ذقنه لتدير وجهه إليها، وهي تصيح: 
_بصلي أنا كدا ورد عليَّ مين أنت، وعايز أيه؟! 
همس يمان بصوت متهدج: 
_عايز اتكلم مع غرام! 
ضربت منى فوق صدره بانفعال وهي تحاول إخراجه خارج المحل، وهي تهدر: 
_والله! ببساطة كدا يا جدع أنت تقول عايز اتكلم معاها؟! امشي يلا من هنا بدل ما اعملك عاهة مستديمة...! 
فقاطعتها غرام وهي تقول بلهفة: 
_سيبيه يا طنط منى انا أعرفه! 
فالتفتت سعاد ومنى إليها، وهن تقولا بصوتٍ واحد: 
_أنتِ تعرفيه بجد؟ إوعى تكوني خايفة منه. 
فهزت رأسها وهي تقول: 
_لا، لا متقلقوش! 
غادرت سعاد ومنى المحل ليتركهما يتحدثان بحرية، دون أن تبتعدا أو تحيدان البصر بتحفز عن يمان، الذي اقترب من غرام وهو يقول بحزن: 
_ليه عملتِ كدا ومشيتي؟! 
فأستدارت توليه ظهرها وهي تهمس بألمٍ: 
_عشان مبقاش ليَّ حد هناك! 
فقال يمان وهو يتبسم في سخرية: 
_كدا بكل بساطة! 
أستدارت له غرام وهي تقول بأعين تفيض بالدمع: 
_ليه جيت يا يمان؟! ولا عرفت طريقي إزاي؟ 
تنهد يمان وهو يشيح وجهه عنها قائلًا: 
_يوسف هو اللي عرف ليَّ مكانك من نوح بالصدفة، أنا كنت ليل نهار بدور عليكِ، بلف زي المجنون في الشوارع، مبقتش بنام ولا برتاح من قلقي عليكِ؟! إزاي قدرتِ تعملي كدا؟ 
تفرست فيه غرام النظر من رأسه حتى أخمص قدميه، كان مشعث الشعر، كثيف شعر اللحية التي تغطي نصف وجهه، مبهدل الملابس، فنظرت في عيناه وهي تقول: 
_أنا معرفتش اروح فين مقدرتش أرجع لبابا بعد اللي عمله! 
فهتف يمان في انفعال حاد: 
_بس أنا كنت موجود وكنت هساعدك.
نفخت غرام بحنق، وأردفت: 
_أهو اللي حصل حصل أنا هفضل هنا وهصرف على نفسي وابني.. 
قاطعها يمان وهو يسألها في اهتمام: 
_أنتِ حامل؟ 
فهزت رأسها إيجابًا، ثم تمتمت: 
_أيوة حامل، يمان انا مش هرجع معك، ومش هسامحك لو قُلت لحد عن مكاني، أنا خلاص مبقاش ليا حد ولا حتى ابويا اللي رماني من غير ما يسمع مني. 
وأوفى يمان بكلمته ولم يخبر أحد بمكانها، وكان دائم الزيارة لها عند السيدة سعاد التي لم تكن تتركهما بمفردهما، وكانت دائمًا تقابله بشراسة لم يعرف مصدرها، إلا أنه كان مطمئنًا عليها معهن. 
ومضت شهور الحمل بخير، وحانت لحظة الولادة وكان أول من حمل الطفلة هو يمان الذي علم بولادتها من نوح زوج أسماء، وأخذ يهتم بالطفلة كأنها ابنته، وزيارته لهن كثرت مع مجيء الصغيرة، فكان يحضر لها ما تحتاح إليه وزيادة، ويحاول بكل بسالة إقناع غرام بالعودة، لكنها كانت تصر على البقاء. 
كتم يمان نبأ غرام حتى عن خاله وهو على يقين أنه قريبًا جدًا ستعود غرام وتخبره هي بنفسها أن لزكريا بنتًا، لم يحسب أن هذا اليوم القريب سيأتي باكرًا جدًا جدًا، فبينما هو في عمله إذ أتصل به خاله مختار يخبره أن عبد السلام قد أصيب بجلطة وأنه ما بين الحياة والموت، فذهب يمان فورًا ليراه، لم يكن عبد السلام ينزل إلى أسيوط إلا لمامًا بعدما غادرت غرام، كان القلق ينهش قلبه، والندم يأكل من صحته، وخوفه على ابنته جعله زاهدًا في الحياة لا يريد شيئًا إلا رؤيتها، لكن ماذا يجدي الندم بعد فوات الأوان؟ وعندما تيقن يمان أن الرجل قاب قوسين أو أدنى من الموت حتى أتصل بغرام ليخبرها وليترك لها هي القرار. 
أمَّا أن تأتي فتراه، أو ترفض فتعيش العمر كله في ندم. 
لكن غرام جاءت ومعها سعاد ومنى، وكان مجيئها كأعصارٍ رج مختار الذي وقف في انفعال وقد ومضت عيناه وهو يراها تحمل طفلة على ذراعها، فتبسمت غرام له في حنين وناولته الطفلة وهي تقول: 
_بسملة يا عم مختار بنت زكريا. 
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا
فضمها الرجل إلى صدره وراح يقبلها في شغفٍ وحنين وهو يتمتم: 
_حرام عليكِ يا غرام ليه حرمتيني منها! 
فأطرقت غرام في رأسها ولم تجيب.. 
لم تجد ما تجيب به! 
وقد عفتها غادة عن الإجابة عندما ضمتها في شوقٍ ثم راحت تعاتبها، دخلت لترى والدها بناءً على طلبه فأبى مختار أن يعطيها الطفلة قائلًا: 
_ادخلي أنتِ اطمني على أبوكِ وسيبيها معايا. 
فوافقت على مضض، واتجهت إلى حجرة العناية لترى أبيها هناك ممددًا على فراش المرض بوجهٍ شاحب أشرق وتورد ما أن سقطت عيناه عليها، فمد ذراعه إليها وهو يقول بوهن: 
_غرام أخيرًا جيتي تشوفي أبوكي قبل ما يموت؟! 
فشهقت في البكاء، وهي تعدو إلى حضنه تلومه وتعاتبه وتبث له شجونها وقهرتها منه، ويطلب منها هو السماح. 
وأخذ منها وعد بعدم الرحيل مجددًا. 
خرجت غرام من عند أبيها بعدما أخرجتها الممرضة كي يستريح وبعدما استبد به التعب والأرهاق أكثر، وأخذ منها السماح، تقدمت منها سعاد وهي تقول: 
_أيه يا غرام اطمنتي على أبوكي؟ عامل أيه هو دلوقتي؟ 
فأومأت غرام برأسها وهي تقول: 
_الحمد لله ادعي له يا ست سعاد. 
ثم دمعت عينيها وهي تقول: 
_أنا مليش غيره في الدنيا؟ 
ثم أستدركت تقول: 
_أمال عمي مختار فين؟ 
فضيقت منى عينيها، وهمست وهي تتلفت: 
_كان هنا وفجأة أختفى! 
فتبسمت غرام في توتر، وقد أنقبض قلبها بخوفٍ، وهي تقول: 
_طيب بنتي، بنتي فين؟ 
غمغم يمان يطمئنها: 
_متقلقيش أكيد مرحش بعيد أنا هروح أشوفه! 
لكن مختار لم يكن له أثر لا في المستشفى ولا في المنزل، ثم أنه قد أرسل ليمان رسالة يقول فيها (
قول لغرام متدورش على بنتها لأنها معايا ومش مرهجعها ليها تاني ولا هسمح ليها تبعد بنت ابني عني، أنا ما صدقت لقيت ريحة من ريحته أعيش عشانها ومتدوروش عليَّ مش هتعرفولي أثر) 
ومع هذه الرسالة كانت غرام تستقبل طآمة أخرى وهي وفاة والدها، فكانت المصيبة مصيبتين أردوها صريعة، تئن ألمًا وتبكي غدرًا، وتنزف دمًا على فرحةٍ لم تدُم لها، وبين ذراعي منى وسعاد سقطعت غرام أرضًا منتحبة بصوتٍ يشطر القلوب: 
_بنتي آه يا بنتي، آه يا بابا سبتني لمين؟! ليه كده يا عمي مختار، ابنك يظلمني وأنت تظلمني! 
ووقف الجميع حائر يترقب في عجزٍ كان أكثرهم ألمًا هو يمان الذي كان ينظر إليها بقلبٍ مفجوع على صغيرته التي أحبها حبًا جمًا. 
لماذا لم يترو خاله ليعرف أن غرام والطفلة سيعودان لمنزله عندما يتقدم لغرام ويتزوجها، لكنه حطم كل شيء، في كل مرة  يظن أن الأمر هين يحدث شيئًا فيجعل الأمر محال. 
هدر وهو يولي منصرفًا: 
_أنا مش هسمح لخالي يبتعد ببسملة، لازم ارجعها. 
بينما جف حلق غرام من الصراخ فألقت رأسها على صدر منى ثم أغلقت عينيها وأستسلمت للجة من الظلام الذي ابتلعها عساها تهرب من واقعها الأليم. 
هكذا هي الحياة لا فرح دائم ولا حزن دائم تارة راحة وتارة عذاب. 
هي الدنيا تعذب ساكنيها. 
ومع كل عذاب فقدان ليس له دواء.. 
تمت بحمدلله

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا