رواية لأجلها امل نصر الفصل الخامس والاربعون 45 بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الخامس والاربعون 45 بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الخامس والاربعون 45 هى رواية من كتابة امل نصر رواية لأجلها امل نصر الفصل الخامس والاربعون 45 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية لأجلها امل نصر الفصل الخامس والاربعون 45 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية لأجلها امل نصر الفصل الخامس والاربعون 45

رواية لأجلها امل نصر بقلم امل نصر

رواية لأجلها امل نصر الفصل الخامس والاربعون 45

لماذا تحزن، وقد أصبح الحزن جزءًا منها؟
هل كانت تأمل أن ينقلب الحظ البائس، فتنعم بالسعادة التي كانت تتمنى؟
وهل كانت ستعتاد على ذلك إن صار؟ كيف؟ وقد التصق بها الحزن منذ مولدها، وتاهت السعادة عن طريقها، لتذهب إلى من يستحقها، أما هي فلا وألف لا.
ذلك هو حديث نفسها الذي لا يتوقف، وهي متكوّرة في فراشها كالجنين. حتى الدموع جفّت ولم يعد لها وطأة.
فقد أصبحت كالميتة، بجسد منهك وروح ممزقة كقطعة قماش لم تعد فيها مساحة صالحة لارتدائها، بعد تلك المقابلة التي تمت معه.
أتى لها بما يفرحها، كي يحتفل بعيد مولدها الذي لا تعترف به في قائمة الأيام المهمة أصلاً، من كثرة ما أهملته.
أتى ليحتفل معها، حاملاً لها الهدايا، وكان ردها بالعكس، أن تصدمه برفضها وتطالب بابتعاده عنها. كل كلمة وكل حرف في تلك المقابلة حُفِر في عقلها:
(ـ تمثيلية إيه؟ وكلام فارغ إيه! عايزة تفهميني إنك بتتكلمي جد؟
تهز رأسها بعلامة التأكيد، والدموع تتساقط على وجنتيها، غير قادرة على مواجهة عينيه، ليصيح بها منفعلًا:
ـ حُطي عينك في عيني، عليوة مين اللي هترجعي له؟ أنا أصلاً مش مستوعب إنك بتتكلمي صح!
فهميني لو حد هدَّدك، أو حصلت حاجة من جهة الواطي جوز أختك، ولا الكلب اللي بتجيبي سيرته؟
ـ ما فيش حد هددني، افهم بقى الله يرضى عنك.
صحتْ ردًّا عليه بانهيار، غير قادرة على الجدال من الأساس، لتزيد عليه بتصميم:
ـ أنت اللي ناسي إنك متجوز، ووراك عيال ومسؤولية وزوجة، ده كله يجرحها...
ـ بس أنا قلت لك إن هي وافقت بالضُرة.
قاطعها بها، ليأتي ردها الفاصل بقوة:
ـ كدب... ما فيش واحدة ترضى على نفسها بالضُرة، ولا أنا كمان أقبل أروح على واحدة، ويتقال عليَّ خطّافة رجالة.
ـ ما حدش يقدر يجيب سيرتك بحرف يا اعتماد، سيبك من أمر هالة، أنا كفيل بيه، خليكِ في الطلب اللي طالبه منك، أنا مش عيل صغير عشان أقول كلام في الهوا، واللي أنتِ شايفاها تمثيلية دي، أنا اعتبرته حقيقة من أول يوم.
توقف يتابع بلهجة صادقة لامست شغاف قلبها:
ـ مش فرض أمر واقع، دي فرصة جات لي من السما وأنا مسكت فيها بإيديا وسناني عشان عايزك... أنتِ محتاجاني وأنا محتاج لك، حتى لو أنكرتي وهربتي بعينك مني، زي دلوقتي، وأنا عارف ومتأكد إن في شيء عظيم هو اللي وصلك للحالة دي، والشيء ده أنا لازم أعرفه.
انتفضت ناهضة من مقعدها أمامه، لتنهي الجدال بفظاظة، كي تقطع عليه أي فرصة لاستدراجها في الحديث:
ـ فيه ولا ما فيش، أنا بلَّغتك رأيي يا خليفة، وأنت حر مع نفسك، عايز تتجوز يا سيدي اتجوز، بس أنا بقى رافضة آخد لي راجل بعيال، عن إذنك.
تحركت مغادرة، فتبعها ساخرًا:
ـ لكن قبلتي فجأة ترجعي لواحد كنتِ قرفانة حتى ما تبصي في وشه؟ هتعمليها إزاي دلوقتي بعد ما طيَّرتلك سنانه؟
التفتت إليه برأسها ترمقه بنظرة مشتتة زادت من حيرته، ثم استدارت سريعًا تغادر من أمامه، وكأن الشيطان يلحقها.
تاركة له الهدايا، وتاركة كل شيء جميل خلفها، من رجل الأحلام الذي كانت تتمناه، ولكنه جاء في الوقت الخطأ كي يزيد من عذاباتها. والآن نفسها صارت تتمنى الرحيل، ربما تجد الراحة)
"حتى النهاردة كمان هتفضلي لازقة في سريرك ومش هتروحي شغلك؟"
ما كان هذا سوى صوت رغد، شقيقتها التي تموت قهراً عليها من وقت أن دلفت إليهم منذ عدة أيام تخبرهم أنها قد انفصلت عن خطيبها المزعوم، ولن تكمل الزواج المزعوم بسبب خلاف حدث بينهما، وتهديد صارم بألا أحد يتدخل. بالطبع لم تسمع لها وتواصلت في الخفاء مع خليفة الذي أكد لها أنه لم يرضَ بالانفصال ويحاول أن يتواصل معها ولكنها لا تعطيه فرصة، وقد أغلقت هاتف هديته، والهاتف الخاص بها لا تستعمله سوى للضرورة القصوى.
تنهدت رغد بأسى تعيد عليها:
ـ يا اعتماد، ناوية تروحي النهاردة ولا......
ـ رايحة.....
قاطعتها بها لتعتدل فجأة بجذعها، وتشرع في ترك الفراش مُردِفة لها:
ـ روحي إنتي اعمليلي كوباية شاي بس على ما اكون اتوضيت وصليت وجهزت نفسي.
ردت رغد التي أشرق وجهها لرؤيتها تترك تختها، الذي لازمته عدة أيام:
ـ حلو خالص، بس أنا هحضر فطار وغصب عنك هتاكلي، مش هسمحلك تكسفيني زي كل مرة.
أومأت اعتماد رأسها دون صوت في استسلام لها، وحتى تخفف عن شقيقتها التي تموت هلعاً من الخوف عليها، عكس الغير مبالية الأخرى والتي تتظاهر بالتضامن معها وهي في الحقيقة قد أصابها بعض الراحة لعدم تفوقها عليها بالزواج من رجل إصبعه فقط بعشرة من أمثال زوجها الفاسد.
ـ ​"أختك ولا بنتها حد فيهم صاحي؟"
هتفت مستفسرة من رغد التي كانت على وشك فتح الباب ومغادرة الغرفة، فردت المذكورة وهي تضع يدها على المقبض قبل فتحه والخروج، وقد فضحها بعض الحماس الذي يثير الريبة:
ـ لا اطمني خالص، هي في سابع نومة دلوقت، يعني أنا وإنتي بس اللي هنفطر مع بعض بروقان وهدوء.
​ـ روقان وهدوء!
غمغمت اعتماد في إثرها، بعد أن غادرت سريعاً من أمامها، لتضيف بسخرية:
ـ وسعادة وراحة بال كمان! يعني هو الكلام بفلوس؟!
.........................
وقفت بنصف الدرج تتابع نزول ابنها الذي دفعت به كي يوقظ زوجها الذي غفا على الأريكة الخشبية التي تتوسط مدخل المنزل. تلك الأريكة التي كانت تحتلها دائمًا في السابق مزيونة وابنتها. دارت الدائرة لتصبح مكانًا لنومه عليها.
من كان يصدق أن ينقلب الحال إلى حال مختلف على الإطلاق؟ لقد استسلمت هذه المرة تاركة أمرها للقدر يفعل كيفما يريد، فهو نفسه أصبح لا يعنيها، بعد أن قطع كل أربطة المحبة بقسوته معها.
فكانت النتيجة عكس ما توقعت وهيأت نفسها إليه. العروس التي جاءت بأقدامها إليها توعدها بليالٍ من الذل والقهر، ترد إليها ما كانت تفعله هي في ضرتها السابقة. اختفت فجأة في يوم زفافها إليه، لتتركه في حالة من الجنون لم تهدأ حتى الآن في بحثه عنها رغم مرور العديد من الأيام. لا تنكر أنها أشفقت عليه رغم اتهاماته وافترائه عليها بعد ذلك في أنها المتسببة لما حدث، بعمل سحر جعل العروس تطفش منه. جرحها وأهانها بافترائه عليها بهتانًا وزورًا، ولكنها لم تصرخ أو تتهمه بالجنون، بل لم تملك إلا الإنكار بصدق، لأن جريمتها السابقة هي من جعلتها في نظره محل شك. إذًا، عليها تحمل النتائج والصبر على جفائه كما نصحتها والدتها، ليس حبًا فيه ولكنها مضطرة من أجل الأبناء وتربيتهم.
تنبهت حواسها حين استجاب لمحاولات ابنها أخيرًا معه، لينهض جالسًا بجذعه، فتراجعت هي للخلف في زاوية تمكنها من الاختفاء بعيدًا عن إبصاره، تكتفي بالإنصات:
— عايز إيه يا وش البومة؟ بتصحيني ليه يا وَاد؟
زفر الصغير بملامح يعلوها العبوس يجيبه بتأفف هو الآخر:
— يعني هكون عايز منك إيه على الصبح؟ عايز تكمل نوم روح على قوضتك، نومتك هنا على الكنبة وفي وش الباب كمان هتجيب لنا الكلام. فَرْض حد دخل علينا، هيقول عليك إيه لما يشوفك كده؟
— يقولوا اللي يقولوه يا بن الـ... انت إيه اللي يخصك؟
قابل الصغير سَبَّه بنوع من اللامبالاة:
— يا سيدي أنت حر، نام إن شاء الله حتى في حوش البهايم، أنا مالي يا عم.
ختم ينفض يديه عنه ليستدير متجهًا إلى باب الخروج، فهتف يوقفه:
— واد يا ناصر، أمك هي اللي بعتاك صح؟
التفت إليه المذكور باستخفاف لاذع:
— أمي ولا خالتي! مش عاجبك النومة في الطَّلّ وعلى الخشب القاسي، اعمل ما بدالك يا سيدي.
أنهى وتابع مغادرًا ليغمغم في أثره عرفان بسخط وسباب:
— آه يا بن الكلب، ترد الكلمة بكلمتين، ناقص عليك بس تِشتمني، رباية ناقصة زي اللي جابتك... بتعمل نفسها زينة دلوقت، وعايزة تطمن عليَّ، بعد ما خدت الخازوق والبلد تقريبًا كلها ضحكت واتمسخرت على عِرفان بعد هروب الغجرية ليلة فرحه عليَّها.
توقف يزفر حريقًا من صدره، وقد استحضر عقله واقع ما يعيشه الآن نتيجة لذلك الأمر، ونظرات مهينة من البشر التي تواسيه نهارًا وتتحدث في ظهره ليلًا:
— ماشي يا نورا، أنا وإنتي والزمن طويل. إن ما كنت أشرب من دمك وأخلي قصتك حكاية على لسان البشر... مبقاش أنا راجل، وشنبي ده يبقى على حرمة!
.....................
داخل المنزل الكبير
الذي كانت الحركة به مختلفة عن كل الايام الهادئة، لمناسبة غير عادية, خطط لها اليوم بثقة كاملة في زوجته التي سوف تقوم بها على أكمل وجه.
ـ مزيونة، يا مزيونة 
نادى بأسمها ويده تحمل عدد من علب الحلوى والعديد من أنواع الفاكهة الطازجة.
جاء الرد من والدته التي كانت تفترش الارض وبجوارها حزمة اعواد من نبات الملوخية تقرطف أوراقها وتضعهم في إناء كبير من الالمونيوم بجوارها 
ـ مالك بمزيونة ؟ لازم لسانك ينادي عليها وفي الروحة وفي الجاية؟ 
ضحك يضع ما يحمله على الطاولة التي تتوسط الردهة، ثم اقترب منها يغازلها بمشاكسة:
ـ وماله لما انده عليها في الروحة وفي الجاية؟ بنده على حد غريب انا عشان اعمل حساب حد؟ ولا انتي عايزاني أبدل واقول حسنية، حسنية 
كان في الاخيرة قد افترش الأرض بجوارها، يضمها من كتفيها ويقبل خدها، لتصدح ضحكاتها الجميلة:
ـ والله انت بكاش وعمرك ما هتكبر بعمايلك دي، 
قبلها من جانب رأسها هذه المرة يتحدث بامتنان جدي:
ـ طول ما انتي عايشة عمري ما هكبر، هفضل ولدك الغلس، اللي ما يصدق لاقي فرصة عشان يتلزق فيكي.
بادلته حسنية قبلته بواحدة على وجنته هو الاخر قائلة برضا وقد فهمت المغزى خلف لفتته:
ـ وانا عمرك ما شوفتك غير ولدي الحنين ابو عقل صغير، اللي كان هيغير عليا حتى من أبوه
ـ وه يا حسنية انتي لسة فاكرة؟
تمتم بها بتذمر زاد من تسلية المرأة التي صدحت ضحكتها مرة أخرى وهي تواصل مناكفته:
ـ وتالت ورابع وخامس كمان، دا انا لو نسيت عمايلك وانت صغير افتكرها دلوك وانت شحط كبير وبتكررها مع ريان العيل الصغير، في غيرتك على مزيونة........
ـ هغير من ولدي امه، كلام ايه ده؟
عارضها يدعي الضيق، لتؤكد هي بتصميم:
ـ ايوة يا خوي غاير، على العموم الحلوة اللي بتغير عليها, قاعدة جوا في المطبخ واكيد مشغولة في هم العزومة ومسمعتكش.
سمع منها وهم ان ينهض ولكنها تابعت؛
لو جدع بقى ما تقومش حالا دلوك وتفر عليها زي العيل الصغير
سمع منها وتردد لحظات حتى غلبته رغبته لينهض فجأة معارضا لها: 
ـ طب افرضي عايزاها في حاجة مهمة، دا انتي عليكي حركات يا حسنية، بقيتي عفريتة والله لما كبرتي
وتحرك ذاهبا تتبعه ضحكات المرأة لا تتوقف 
وبخطوات متزنة اقترب من المطبخ الذي كانت قابعة به، ومنهمكة في إعداد مأدبة الطعام التي هم بصدد القيام بها اليوم،
كانت مُنكَبَّة بتركيز شديد على تقطيع الخضروات، ويبدو أن صوت مزاحه مع والدته لم يصلها، ليستغل فرصته ويدلف متسللاً بخفة، حتى إذا وصل إليها تمتم بجوار أذنها:
ـ الحلو اللي مدوبني...
قطع جملته مضطراً حين شهقت مُجفَلة وتناثر عدد من الخضروات على الأرض. تمتمت بِلَهْث واضعة يدها على قلبها:
ـ حرام عليك يا حمزة، كده برضه تخلعني؟
رد بتسلية وهو ينحني ليلتقط قطع الخضروات التي افترشت الأرض بسببه:
ـ خَلْعة مَطْرودة يا قلب حمزة، على العموم ممكن تبقى بفايدة برضه على حسب عوايدنا ما بتقول.
فهمت مغزى ما يقصده، لتجاريه بابتسامة مضطربة:
ـ إن شاء الله، محدش عارف عاد، لما ربنا يكون رايد بالخلفة، بيدبّر الأسباب. المهم بقى، روح شوف وراك إيه؟ أنا عايزة أخلّص اللي ورايا قبل الضيف ما ييجي.
استقام بجسده يعيد حبات الخضروات إلى مكانها قائلاً:
ـ وافرضي طب الضيف وإحنا مش طابخين حتى، هو إنتي فاكراه غريب على بيتنا؟ ده ياما كل وشرب فيه، قبل ما يقطع فجأة ويشوف مستقبله.
قطَّبت مندهشة وقد غلبها الفضول في السؤال:
ـ وإيه اللي يخليه يقطع فجأة عن صحوبيتك بالسنين دي كلها حتى لو هيشوف مستقبله؟
طالعها لحظات بصمت وكأنه يبحث عن إجابة، حتى رد أخيراً:
ـ يعني، تقدري تقولي كده خلاف حصل ما بينا، بس كان خلاف كبير شوية، أو شويتين تلاتة حتى. عادي بتحصل يعني، إحنا مش ملايكة، اسيبك تشوفي طبيخك واروح انا اطل على خليفة، يمكن ربنا يهديه ويفك من الحالة اللي هو فيها.....
......................
صعد إلى غرفة شقيقه الذي تسيطر عليه حالة من الاكتئاب الغريب هذه الأيام، ليطمئن عليه ويحاول معه، كما يفعل يوميًا هذه الأيام حتى يخرجه من ذلك الحزن، بعد أن باءت محاولاته بالفشل مع اعتماد التي تلتزم صمتًا غريبًا وابتعادًا غير مُبرَّر. لم يكن يعلم كيف تطورت الحالة من خطوبة مزيفة إلى شيء بهذا العمق، ولكن لِمَ التعجب؟ فكلاهما كانا في أشد الحاجة إلى بعضهما البعض.
كان باب الغرفة مفتوحًا، ليتمكن من الدخول بسهولة، فدلف مُلقيًا التحية:
* صباح الخير على أهل الخير.
   لم يَلقَ ردًا للتحية؛ فشقيقه لم يكن نائمًا على فراشه أو جالسًا حتى في الشرفة، فنادى هاتِفًا باسمه، ليأتيه الرد بحضوره هذه المرة خارجًا من مرحاض الغرفة:
* أنا أهو يا سيدي، خليفة بذات نفسه.
   طالعه حمزة متفاجئًا بهيئته، وقد هذَّب لحيته ليُشرق وجهه الوسيم الذي تليق عليه، وبخطواته السريعة يتجه نحو خزانة ملابسه الخشبية الضخمة، يُخرج جلبابًا مُنَشَّى (مكويًا) ليرتديه، ليُعلِّق حمزة الذي أصابته الدهشة:
* ما شاء الله عليك، شكلك مُختلف النهاردة، بس على فين العَزْم على الصُبح وبدري كده؟
رد خليفة الذي اتجه نحو المرآة لتمشيط شعره:
* مِشوار مُهم لازم أعمله.
   بفراسة ليست غريبة عنه سأله حمزة:
* المِشوار ده يخص اعتماد صح؟ واضح من الحماس اللي أنت فيه، هي فتحت تليفونها؟
نفى خليفة وهو ينحني ليلتقط الحذاء كي يرتديه:
* لا مش هي، بس أختها رغد هي اللي بلغتني، إنها طلعت أخيرًا وراحت شغلها في المدرسة. نفسي أعرف سر قَلْبِتها المُفاجِئة، مش هسكت غير لما أعرف.
أُعجِب حمزة بإصراره، ليُثني عليه بتحفيز:
* جَدَع يا خليفة متستسلمش معاها، هي راسها ناشفة ومقفلة، بس أنت أكيد هتعرف تتعامل معاها. المهم بس متتأخرش على العزومة، الراجل بقاله سنين مدخلش البيت، أكيد هيسأل عليك.
ألقى خليفة بالشال الصوفي على كتفيه، مُنهيًا اللمسة الأخيرة لتأنقه، يلتفت إلى شقيقه بابتسامة كانت غائبة عنه منذ أيام:
* لا اطْمِن إن شاء الله مش هتأخر، ما هو كان صاحبي أنا كمان، مش صاحبك أنت لوحدك... أسيبك بقى.
تابعه حمزة حتى إذا خرج من الغرفة، غمغم داعيًا له:
* ربنا معاك وييسر لك أمرك.
...................
أما في الطابق الأعلى، داخل شقة معاذ وليلى التي كانت تضحك بلا توقف في هذا الوقت مستمتعة بالحديث الذي يدور بين زوجها المجنون مع جنينها.
وقد كان مُقرِّبًا وجهه من بطنها، يسرد بجدية بعد أن انزاح عن كاهلهما همُّ المذاكرة وكابوس الامتحانات التي تحرم عليهما حتى النوم بصورة طبيعية:
* واخد بالك زين يا واد، أمك الهبلة أبوك وَقَّعها بشوية تين، ومن شجرتهم كمان! يعني حتى متعبتش في تمنهم... إيه بتقول إيه؟... أيوه يا سيدي، كان في شيكولاتة برضه والمرسال ما بينَّا كان عزوز...
* بَسسس!
   قالتها بصوت بالكاد تمتلكه من فَرْط ضحكها، حتى وضعت يدها على بطنها تطالبه بجدية:
* شوية تانية وهولِد يا معاذ، هتتحمل أنت الذنب.
   سمع منها فاستقام على الفور بجلسته مستجيبًا لتهديدها:
* لا يا ستي وعلى إيه؟ الطيب أحسن، أنا بس كنت بوصيه، يِنزل بس وأكمِّل نصايحي معاه.
* أوووعى! والنعمة لو فكرت وقلت له كلمة هزعل منك!
   قالتها تنهاه بتحذير رافعة السبابة أمام وجهه، فتناول إصبعها يُقبِّله:
* وأنا مقدرش على زعلك يا أم الغالي.
   ارتخت عن تشدُّدها، فتابع مُوضحًا بمَعْسول كلماته:
* بهزر معاكي يا مجنونة، هو أنا عبيط عشان أقولها بالطريقة دي؟ دي قصتنا هتبقى أحلى حكاية أحكيها للعِيَال عشان يعرفوا أن الحب العفيف ما فيش أعظم منه في الكون. ربنا يقدِّرني وأربيهم صح، عشان يعرفوا يُمَيِّزوا بين القشرة اللي بِرُخص التراب وبين الغالي اللي نضَّحي عشانه بروحنا، يا روح معاذ أنتِ.
عادت إلى ليلى ابتسامتها، وغمرها الانتشاء بغزله، حتى استدركت لمرور الوقت فانتفضت تبعده عنها:
* صحيح العزومة وصاحب عم حمزة، يا لهوي! زمانها داخلة على عشرة! خدتني في الحكاوي معاك ونسيتني.
افتر فاهه بدهشة يُطالعها وهي تزحف على الفراش بركبتيها حتى أنزلت قدمًا، وبعدها قدمًا أخرى، لتأخذ وقتًا حتى استقامت بجسدها، ثم تحركت بخطوات بطيئة خطوتين، ثم تذكرت فجأة قائلة:
* أدخل الحمام الأول وبعدها أنزل عشان أساعد أمي.
   خرج عن صمته وهو يُتابعها تُغيِّر مسارها:
* حلو خالص! رُبع ساعة وأنتِ بتنزلي من السرير، ثم نُص ساعة في الحمام، وبعدها نُص ساعة ثانية على ما غيَّرتِ عَبايتك ونزلنا السلم. إن شاء الله بس نلحق الغدا!
قال تساعد امها قال!
..........................
أمام المرآة، كانت جالسة بـرِدائِها الحريري. يدها تلامس شعرها المنسدل على كتفها بتمهل، وعيناها مثبتتان على صورتها في الانعكاس. يعلو ملامحها شرود يرافقه برود وثقة تامة.
​لقد وردها منذ قليل الاتصال الذي أنبأها بقرب تحقيق هدفها، بعد أيام من الانتظار مرت دون جدوى. رغم خطورة الفكرة من الأساس، إلا أنها تجد المبرر الكافي كي تريح رأسها، وقد وعدت نفسها هذه المرة بعدم تكرار خسارتها مجددًا.
​لقد نُفّذ السهم ولا عودة للوراء أبدًا. اليوم هي في تفرغ تام لتلقي كل جديد، فحتى أطفالها ليسوا معها، وقد ذهبوا إلى منزل والدهم، بناء على طلب من جدتهم.
....................
توقفت السيارة الغريبة أمام مدخل المنزل الذي وصل إليه بصعوبة، رغم معرفته الوثيقة به. هذا يعود إلى طول فترة الابتعاد والتغيرات التي طرأت على القرية التي هجرها تقريباً إثر خصامه مع حمزة.
سنوات عديدة قادرة على طمس الهوية، وليس تصفية الخصام فقط. ربما لأنه كبر وتعقَّل عن تهوره، أو ربما كان السبب آخر، وهو تعرفه على زوجة حمزة الحالية التي لم تكن أبدًا من توقعاته. لم يُكلِّف نفسه بالسؤال، مع أن بإمكانه عمل تحريات كاملة عن الأسرة لو أراد طوال سنين ابتعاده عن المحافظة بأكملها، ولكنه لا يريد حتى لا يفتح جروحًا قديمة هو في غنى عنها. ومع ذلك، الفضول يقتله، ورغبة من داخله جعلته يتقبل دعوة حمزة للحضور بترحاب شديد.
تنهد بثقل يترجل من السيارة فور أن انتبه لخروج الأخير لاستقباله أعلى درج المدخل، ومعه العزيزة والدته. يا الله، كم اشتاق إليها تلك المرأة الحنون!
أغلق باب السيارة ليتقدم نحو الاثنين بهيبته، ليُذهل المرأة التي لم تعرفه في البداية حتى همس إليها حمزة يؤكد على هويته. الأمر الذي جعلها تصدق هذه المرة باقترابه منها وابتسامة ذكرتها بالولد الذي كانت تعتبره ابنها، لتهلل في استقباله بحرارة:
ـ بسم الله تبارك الله، كمال باشا بحاله عندنا يا ولاد؟ يا حلاوة يا حلاوة.
ضحك المذكور وهو يقترب يُقبّل رأسها:
ـ زي ما أنتِ يا ست،  ما اتغيرتيش؟ دا ابنك نفسه كبر وعجز. ما شاء الله عليكي، إيه الحلاوة دي؟
جذبته حسنية إليها تُقبّل وجنته بسجيتها:
ـ دا انت اللي بدر منور يا حضرة الظابط يا قمر.
ـ يا ستي رائد والله، افهمي بقى، كام مرة هقولها؟
قالها حمزة وهو يقرب صديقه إليه لينال نصيبه من ترحيبه بعناق رجولي ومودة صادقة، وكأن كل ما مر من سنوات جفاء وخصام لم يؤثر على صداقتهما.
فعارضه. كمال :
ـ سيبها تناديني يا ولا حتى، أنت مالك يا أخي؟
انتشت حسنية تعقب على قوله وهي تسحبه من يده:
"أيوة يا حبيبي، ولدي وربنا العالم. تعالَ ادخل، تعالَ."
همَّ أن يستجيب لسحبها، ولكن استوقفه زوج من الصغيرات اللواتي كنَّ يشاهدنه بانبهار، حتى شعر نحوهنَّ بألفة غريبة وكأنه يعرفهن:
ـ بسم الله ما شاء الله، القمامير دول بناتك يا حمزة؟
لم يُجبه الأخير، وقد تكفلت والدته بالإجابة:
ـ دول بنات خليفة، مِنة وجنا. هو في مشوار وزمانه على وصول.
ـ مِنة وجنا...
ردد الأسماء، وامتدت كفّه لتصافح الصغيرتين، حتى اعتلى تعابيره شيء من الدهشة مع تركيزه في صورة الأولى التي تقارب الملامح التي يحفظها في رأسه، يشعر بشيء غير مفهوم.
شكُّه ازداد مع مجيء زوجة حمزة، تسحب في يدها ريان الصغير، والذي قدمه إليه حمزة على أنه ابنه. ينتابه شيء من التشتت، يجعله يندم بالفعل أنه لم يسأل ويُجرِ تحرياته. مَن تزوجت؟ تلك التي كانت سببًا في تغير مسار مستقبله وخصامه مع أعز أصدقائه.
................... 
يتأفف ضجرًا وكمدًا وغيظًا داخل سيارة الأجرة التي تقطع المنحدرات الصعبة في طريقها إلى تلك البلدة التي جاءها مختبئًا فيما سبق، والآن يأتي إليها مجبورا من أجل...
إنه حتى لا يحتمل التلفظ باسمها، وقد أصبح الآن بسببها متورطًا في شيء لا يعجبه على الإطلاق، قد يؤدي به إلى داهية سوداء، أو ربما هلاكه... ولكن لم يكن لديه اختيار.
زفر حريقًا من صدره، يستعيد برأسه ذكرى تلك الليلة حين جاء متأخرًا إلى منزله، بعد السهرة الطويلة التي قضاها في شرب الخمر والممنوعات مع عرفان الذي كان يحتفل بمناسبة زواجه في اليوم التالي.
برأس مُثقَل وخطوات غير متزنة ومُترنّحة، هذا ما يفعله الخمر برأسه. بعض الاضطراب البسيط لكن لا يزيد على ذلك، فهو مُعتاد على كل الممنوعات.
منزله الصغير غير المُرتب، نتيجة سُكنه وحده، لا شيء في مكانه، ولا يعنيه حتى إن كان نظيفًا أم لا. لكن اليوم به شيء غريب، شيء أصبح ينتبه له أثناء ما كان
يُدندن بإحدى الأغنيات التي كانت تتردد في هذا المساء من المُغنّي على آلة الربابة:
ـ "ويا بت جمالك هَبشني، والهبشة جت في العباية، رمان خدك دَوّشني، خلّى فِطاري عِشاي، آه يا عيني، يا عيني، يا عيني آه، ..... آه يا عيني، يا عيني، يا عيني......"
توقف عن الغناء فجأة وعيناه تتفحّصان ما تراه أمامهما، حتى أصبح يفرك كفيه على عينيه ليتأكد أنه لا يهذي، ولكن وما أن يعود ويفتحهما مجددًا، حتى يُفاجأ بنفس المشهد...... هي، وليس غيرها....
ـ أنتِ عفريت ولا خيال؟
خرجت كلماته بعفوية وبدون تفكير، فجاءه الرد منها وهي تتراقص كتفاها بدلال:
ـ لا يا حبيبي أنا جنية البحر.
ما إن سمع صوتها وتأكد من هويتها حتى بَرَقَتْ عيناه مُتسعتين على آخرهما، يطالعها مُتجمدًا فاقد النطق لحظات بفم مفتوح، حتى استطاع أن يتكلم:
ـ يخرب بيت أبوكي، وأنتِ إيه اللي جابك هنا؟ ودخلتي بيتي كيف؟
راوغت كعادتها لتتقدم خطوتين من أمامه حتى جلست على الكرسي المواجه له قائلة:
ـ وِه يا سي عطوة، دي مقابلة تقابلني بيها برضو، دا المثل بيقول: "لاقيني ولا تغديني" اخص عليك......
قَطعت بشهقة عالية بدت كالصرخة حين تفاجأت به يقبض على ساعدها يُنهضها عُنوة، والشرر كاد أن يتطاير من عينيه، وشفتاه ترتجفان من فرط الغيظ المكتوم، مرددًا:
ـ أمور الاستهبال دي ما تخُشّش عليا يا بت، أنا لافف وداير:
ـ انطقي يا بت وقولي دخلتي هنا إزاي؟ لأبلّغ عنك العُمدة دلوقت يبعت الغفر يسحبوكي من قفاكي ويعملولك فضيحة، ولا أكلم خطيب الهنا أحسن، ييجي يلمّ المرة اللي هيكتب عليها بعد ساعات.
واجهته بتحدٍ غير آبهة بألم ساعدها:
ـ وماله اعملها فضيحة، وفي الحالتين أنا المستفادة، لو جبت العمدة والغفر، هقول إن أنت اللي كنت عايز تغويني، وأنا لما رفضت أصريت تاذيني في سُمعتي. أما بقى لو جبت عرفان، فدي هتبقى أحلى وأحلى، هخليه برضو يقتنع ببراءتي على حساب أخلاقك الزفت، لما أوريه صورة مرته اللي بيحلم صاحبه الخاين...
اشتدّت قبضته أضعافًا حتى شعرت بها على وشك الكسر، ومع ذلك الألم، تراقب رد فعله العنيف، وقد برزت عروق جبهته وكأنها حبال مشدودة، يتحدث ضاغطًا على أسنانه:
ـ أنا فاض بيا منك وقرفت، عايزة إيه من الآخر قولي....
صرخ بالأخيرة حتى صدر منه بعض الرذاذ على وجهها، فمسحت بإبهام يدها الحرة تجيبه بهدوء:
ـ عرفان مقفّل مداخل ومخارج البلد برجالة من طرفه، وأنا مش عايزاه، الموت عُندي أهوَن من ان أتجوّزو، لكنه واخد وصولات أمانة على أبويا، يعني فيها حَبس.
ـ وجاية لي أنا أهبب لك إيه الله يخرب بيت أبوكي؟
رققت صوتها بنعومة:
ـ تنجدني يا سي عطوة، تشوف لي أي طريقة أبعد فيها عن وشه العفش.
هذه المرأة تنوي بالفعل على قتله.
ـ أنتِ مجنونةةة!
صرخ بها شاعراً ببوادر لإصابة بجلطة دماغية أو شلل رباعي يصيبه؛
ـ يا بت أنا ما عنديش مرارة ليكي، يعني أخلّص عليكي أريح لي من شغل "حَلَق حوش" اللي بتعمليه معايا ده، هي حتة صورة وبتاعتي، فاكرة نفسك هتشتريني بيها؟!
ـ خُدها يا سيدي.
قالت جملتها، ويدها تدخل في جيب صدرها تُخرج الصورة وتضعها في يده، ليتركها على الفور شاعراً ببعض التشتت حين رآها تسقط على الكرسي، غارقة في نوبة من البكاء:
ـ حتى أبويا وأهلي قلبهم عليّ، عمالة أصرخ فيهم وأقول مش طايقاه، وهما ما فيش فايدة، كلهم ما صدّقوا، مفكرينه هيغْرَف ويدّيهم، مش هامّهم إن كنت أتحمله ولا لاء، أنا حُرمة زي باقي الحريم، نفسي  استريح وأتستّر، لكن مع واحد عرفان! تيجي إزاي دي؟
لا يُنكر أن بكاءها أثّر به، وجعله يتعاطف معها، وهو في الأساس غير مُتقبّل لزواجها من ذلك الثور المُستغل لحوائج البشر حتى ينال مُراده. بها شيء ما ذكّره بمزيونة، عُقدة حياته، والتي لو انتظرت فقط حتى تكمل السن العادي لفتيات القرية في الزواج، كانت ستكون من نصيبه حتمًا، ولكن عرفان استغل حاجة أهلها للمال كما يفعل الآن مع نورا وأهلها.
عند خاطره الأخير، انتفض فجأة، مُتخذًا القرار الذي سوف يندم عليه بعد ذلك وربما كان السبب في هلاكه في المستقبل:
ـ اسمعي يا بت، أنا هساعدك تهربي، لكن تغوري بعدها في أي مصيبة بعيد عن هنا.
وبالفعل ساعدها في الهروب سليمة من البلدة، ولكنها لم تبتعد.....
.....................
بحث عنها داخل المدرسة التي تعمل بها حتى وجدها أخيرًا في ركن مُنزوٍ هادئ خلف أحد المباني، تظلل عليها شجرة كبيرة. كانت جالسة أسفلها مكتّفة الذراعين بشرود، وفنجان القهوة الذي أعدته بجوارها ساخنًا. عيناها تنظران إلى السماء، حتى أنها لم تنتبه لحضوره سوى بعد فترة من مراقبته لها، وقد كان واقفًا بالقرب منها تمامًا يتأمل ملامحها الحزينة بصمت موجع، يريد معرفة السبب خلف ما أوصلها إلى تلك الحالة.
وقد عادت إليه الشراسة الآن لتوبخه:
ـ حضرتك مينفعش اللي أنت بتعمله ده؟ أنت إيه اللي جابك هنا أصلاً؟
زفر بحنق ليتغاضى عن جلافتها معه، وتناول كرسيًا خشبيًا يقرّبه حتى يجلس مقابلًا لها، قائلًا بتحدٍ:
ـ حضرتي أعمل اللي أنا عايزه، مدام حضرتك مش مريحاني ومطلعة عيني في اللف وراكي، أنا عايز أعرف بالظبط إيه اللي صايبك يا اعتماد؟
صمتت لحظات تطالعه بتردد امتزج بدهشتها من إصراره، حتى ردت:
ـ أنا مش فاهمة إيه لزوم السؤال من أصله؟ قولتلك إن تمثيلية الخطوبة دي خلصت خلاص، يا ريت أنت كمان تقتنع، عشان نخلص بقى من الربطة السودا والكلام والحديت.
ضايقه الوصف، ولكنه مضطر للصبر عليها ليصل إلى ما يريده:
ـ بس أنا ما عنديش استعداد أقتنع يا اعتماد عشان عايزك بالفعل، وكل عمايلك معايا بتخليني أتمسك بيكي أكتر، حتى لو أنكرتي وادَّعيتي العكس.
انتابها الارتباك تأثرًا بقوله ونظرته الدافئة، القادرة على سحق مقاومتها لطوفان المشاعر التي تغمرها بحضوره. بحثت برأسها عن مهرب من عينيه، لتجد سلوتها في الارتشاف من فنجان القهوة الذي أعدته لنفسها تدَّعي لامبالاة مكشوفة:
ـ أنا شايفة إن الأمر اتطور معاك لدرجة خلتك تتوهم إني فعلًا ميّالة لك. من رأيي يا أستاذ خليفة تحاول تطلع الفكرة دي من راسك، عشان تقطع على نفسك طريق الوهم.
ردد خليفة بتصميم:
ـ بس أنا ما عنديش نية أشيلها من راسي، لأنه أساسًا معشَّش في قلبي، للمرة المليون بقولهالك، أنا رايدك يا اعتماد، رايدك في حلال ربنا.
بماذا تفسر هذا الاضطراب الذي يكتسحها من سحر كلماته؟ جسدها بأكمله يهتز برد فعل غريب عنها، يعيد عليها مرة أخرى نيَّتَهُ زواجها منه رغم رفضه، يُشعرها بأنها امرأة ومرغوبة من رجل مثله، رجل هو المثال الحي لكل الصفات التي تحلم بها، رجل...
مهلًا ما هذا الذي يحدث معها؟
اهتز الفنجان الذي ترتشف منه بصورة مفاجئة وارتعشت يدها، تشعر بدوار خفيف، وصداع بدأ ينخر في رأسها. تضع الفنجان ببطء وبصعوبة على الأريكة بجوارها،
فتحاول أن تتصرف بصورة طبيعية، تهم بالرد عليه، ولكن فجأة اتسعت حدقة عينيها، وتجمَّد الدم في عروقها. تشعر باختناق مفاجئ، ولسانها يلتوي، تتسارع أنفاسها وهي تخرج الكلمة بصعوبة، صوتها أشبه بالهمس.
منادية باسمه:
ـ خليفة أنا...
قُطعت لعدم قدرتها على الاستكمال، لينتبه هو لحالتها ويصيبه الهلع مع رؤية وجهها الذي شحب لونه، وعيناها تجمَّدتا.
ليقترب منها يسألها بقلق بالغ:
اعتماد مالك؟
لم تُجب وكأنها فقدت القدرة على النطق، وبدأ خليفة يتقدم نحوها بخطوات سريعة، وبدأ جسدها بالارتعاش بشكل لا إرادي، فحاولت أن تقف ولكنها فقدت توازنها.
"اعتماد!" صرخ بها قبل أن تسقط بين ذراعيه، جسدها ارتخى، في استعداد للغياب عن الوعي.
وبدون تفكير حملها بوجع ارتسم عليه الرعب واليأس، وهو ما زال يردد في النداء عليها ليأتي ردها العنيد رغم تعبها الشديد تعارضه بصوت بالكاد يخرج:
ـ أنت بتعمل إيه؟ نزلني... نزلني الناس... النااااا...
تضاعف الهلع داخله، ليُهرول بأقدام عرفت طريقها نحو باب الخروج، أو نحو أول صنف بشر يقابله، يصرخ طالبًا المساعدة:
ـ حد يفتح البوابة، ولا يلحقنا بسرعة بالعربية، اعتماد بتضيع مني، بسرعةةةة!
.... يتبع 

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لقناة الواتساب اضغط هنا